67

دموع البلياتشو

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

ژانرها

فتح باب السيارة وما زالت شفتاه تهتزان بالدعوات، وتحرك الموتور بعد أن أطلق من جوفه تأوهات غاضبة كزمجرة وحش يحاول أن يخلص جسده المتألم من شرك وقع فيه، وعندما سألته أنيسة: قرأت الفاتحة؟ رد عليها وهو يعلم أنه لا يصدق ولا يكذب: الحمد لله.

شد جسده وصدره وركز بصره على الطريق بعد أن أحس بالخجل والغضب والندم كالنوافير الدامية تمور في دماغه وتنثر البقع السوداء أمام عينيه، وبدأ الكابوس يتراءى له من جديد كحوت ضخم يظهر فوق الماء وينفض الأمواج المتكسرة والأسماك الصغيرة في كل مرة يطفو فيها على السطح قبل أن يغطس مرة أخرى، وأخذ يفتح أذنيه لثرثرة أنيسة ونورة ولا يرد عليها إلا بأقل القليل من الكلمات العابرة أو هزة الرأس: تعرف أن صاحبك زاهر رجل لطيف؟ - طبعا طبعا. - رجل مسعد بصحيح. - آه. - وهو يحبك ويفتح أبواب السعد في وجوهنا. - ادخلي أنت واتركيني في حالي. - طبعا سأدخل، هل تظن أنني درست إدارة أعمال لأربي أولادك فقط؟ - هذه أيضا إدارة أعمال. - لا يا عم، لازم الواحد يفكر في نفسه. - وفي خالد ونورة أيضا. - خالد حمله خفيف، كلها أربع سنوات ويتخرج من الكلية، ونورة ...

هتفت نورة متأففة: الدنيا حر يا بابا.

قال محمود وهو يلتفت إليها: ساعتين بالكثير ونصل إن شاء الله، وأسرعت أنيسة تقول: خلي بالك أنت من السكة، نورة طول عمرها حظها في رجليها.

سألت نورة: حظي في رجلي يا ماما؟ كلام يضحك.

قالت أنيسة وهي تحتضنها: لا هو كلام ولا يضحك، عريسك طارق في انتظارك وهو ابن صاحب بابا، المهم ربنا ياخد بيدك وتشدي حيلك.

استمرت الثرثرة المريحة ولم يجد ضرورة للانتباه إليها. كان الحوت قد طفا فجأة على سطح الماء الذي سكنت فوقه الأمواج كأن لم توجد ولم تضطرب أبدا، وبدا له أبوه واقفا فوق ظهره بجسده الممتلئ ووجهه الأبيض المستدير وهو يلوح بذراعيه ويثبت فيه عينيه البراقتين كأنور سفينة بعيدة تلمع وتختفي، تعجب كيف خرج من قاع البئر تحت البيت العجوز، وكيف استطاع أن يعبر المسافات ويلاحقه، ولكنه أكد لنفسه أن الكابوس في داخله وما زالت خفافيشه ترفرف حوله وأمام عينيه وتكاد تسد عليه منافذ الأفق، لا شك أن أباه لم يقل كل شيء، ولا هو أيضا استطاع أن يفضي إليه بكل شيء، فتح أبوه فمه ولكن أنيسة قاطعته عندما حذرت محمود قائلة: خذ بالك، الترعة على شمالك، ونحن لا نعرف العوم.

وكذلك حذرته نورة التي قالت ضاحكة: ولا نريد أن نغرق مثل مدنك الغارقة.

ضحك محمود وصاح مداعبا: إلى متى أقول لك المحترقة؟!

وعاد يركز على الطريق الضيق ويطارد البقع التي تتطاير أمام بصره كأسراب الطيور المخيفة التي رآها في فيلم لا ينساه، وانساب الحوار بينه وبين أبيه الذي ثبت فوق ظهر الحوت كتمثال بحار فينيقي قديم: لم تزرع الحديقة يا محمود. - وسط الخرائب يا أبي؟ - كل الحدائق كانت خرابا، ألم يجتمع فيه شمل العائلة؟ - تفرق القطيع يا أبي، والراعي ... - الراعي أهمل يا ولدي أو غاب.

صفحه نامشخص