دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرها
الفرن
القهوة
بربارا
الأسد يموت
الديك
الشاعر
لماذا نسيتني؟
أحلام الفارس القديم في رحلة السندباد الأخيرة
جلسة عائلية في الحديقة
الوصية
صفحه نامشخص
دموع البلياتشو
أوراق صينية
الحكيم يملي دموعه المؤجلة
الفرن
القهوة
بربارا
الأسد يموت
الديك
الشاعر
لماذا نسيتني؟
صفحه نامشخص
أحلام الفارس القديم في رحلة السندباد الأخيرة
جلسة عائلية في الحديقة
الوصية
دموع البلياتشو
أوراق صينية
الحكيم يملي دموعه المؤجلة
دموع البلياتشو
دموع البلياتشو
مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
تأليف
صفحه نامشخص
عبد الغفار مكاوي
جمع
عطيات أبو السعود
مقدمة
بقلم عطيات أبو السعود
رحل عبد الغفار مكاوي يوم الاثنين الموافق 24 ديسمبر 2012م بعد أن داهمه التهاب رئوي لم يمهله سوى يومين، وكان للرحيل المفاجئ والسريع وقع الصاعقة علي، فقد كان قبل يومين فقط يواصل عمله اليومي في مكتبه ولم يسقط قلمه من يده على الإطلاق، ظننا جميعا أن إصابته بالالتهاب الرئوي هي وعكة بسيطة وسرعان ما يتعافى منها، ولكن شاءت الأقدار أن تتدهور الحالة في غضون 48 ساعة فقط لينتهي كل شيء بصورة غير متوقعة.
وجدت نفسي أنظر حولي في ذهول، وربما لأول مرة أجدني أتساءل بشكل وجودي عن معنى الحياة والموت، ووقفت أمام المفارقة الكبرى الحياة والموت، الحياة بكل ما تعنيه من حيوية ووجود ولحظات أمل، والموت بكل ما يعنيه من سلب للوجود وانطفاء للوعي ووأد كل الآمال، وقفت أتساءل:
كيف يمكن لهذا الذهن المتقد لآخر لحظة أن يتوقف؟ كيف يتحول هذا الشغف والعشق للقراءة والكتابة - حتى الرمق الأخير - إلى سكون أبدي؟
كيف يمكن لهذه الروح المسكونة بالحياة والحب والعطاء أن تسلم بهذه السرعة؟
كيف يمكن لهذا الوعي الحاد أن ينطفئ فجأة بدون مقدمات؟
صفحه نامشخص
ظللت لفترة طويلة بعد هذا الرحيل المفاجئ لا أملك الشجاعة لدخول حجرة مكتبه - أو صومعته كما كنا نطلق عليها - وظلت غرفة مكتبه مغلقة لفترة لا أتذكر مداها الآن، فلم أكن أستوعب أن أفتح الغرفة ولا أجده، وهو الذي كان يمكث بها بالساعات الطويلة، منعزلا عن كل شيء إلا كتبه وقلمه، كانت غرفة مكتبه هي المحراب الذي يفقد فيه الإحساس بالمكان والزمان محاطا بكتب المفكرين والشعراء والفلاسفة الذين عاش أفكارهم وفلسفاتهم مواقف وتجارب حياتية عاشها بكل كيانه، كابدها وعاناها.
عاش عبد الغفار مكاوي كاتبا وفنانا ومبدعا يلتمس الهدوء والسكينة، يعمل في صمت وبلا صخب ولا ضجيج إعلامي، عازفا عن الأضواء، زاهدا في شهرة أو تملق سلطة، كان يقول دائما: «إنني أومن بالعمل الصامت الصادق في الظل، وسواء جاء شيء من التقدير في حياتي أو بعد موتي أو لم يجئ على الإطلاق، فيكفي أنني تخليت وعكفت وأخلصت قدر طاقتي المحدودة.»
اضطررت في النهاية تحت إلحاح الأصدقاء أن أدخل المكتب لفحص الأوراق، والوقوف على ما كان يعكف عليه، فوجدت على المكتب آخر أوراق كان يكتبها، وهي عبارة عن مشاهد ولقطات متفرقة من فصول لمسرحية فرعونية، وبطبيعة الحال لم تكن مكتملة، ولكني عثرت على بعض القصص القصيرة ضمن أوراق مبعثرة في أدراج مختلفة من المكتب، بعضها مكتوب بخط يده، وبعضها الآخر منسوخ على الآلة الكاتبة. وهذه المجموعة القصصية هي التي بين أيديكم الآن، وقد حاولت بمساعدة بعض أصدقائه معرفة هل تم نشر هذه القصص القصيرة من قبل أم لا؟ وبعد بحث طويل تبين أنها لم تكن ضمن مجموعاته القصصية المنشورة (ابن السلطان - الست الطاهرة - الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت - أحزان عازف الكمان - يونس في بطن الحوت - بكائيات - النبع القديم - القبلة الأخيرة)، فذهب تفكيرنا أنه على الأرجح كان ينوي تجميعها ليعدها للنشر كمجموعة قصصية جديدة.
وجدت أيضا مجموعة أخرى من القصص القصيرة استبعدتها من هذه المجموعة التي بين أيديكم؛ لأننا مع البحث وبمساعدة صديق قديم له، تبين أنها نشرت في مجلات أدبية متفرقة في فترة الستينيات والسبعينيات، فآثرت أن أقدم فقط ما تبين أنه لم ينشر من قبل، وأتمنى أن يجد فيها القارئ شيئا ما أو مغزى ما يستحق عناء القراءة. لقد كان عبد الغفار مكاوي يردد دائما أن أمة «اقرأ» لا تقرأ؛ لذلك كان يقول: «لو عاشت لي قصة واحدة أو عمل واحد في ضمير قارئ واحد، فسأغمض عيني في النهاية وهي قريرة وسأقول لنفسي: لم يضع العمر هباء.»
كان عبد الغفار مكاوي يعرف تماما أن كل كائن حي فان، ولا بد أن تكون له نهاية، ولكنه عندما سئل عما هو الإنسان؟ أجاب: «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت بكل أشكاله، وهو الإنسان الذي يواجهه الموت بكل أشكاله المختلفة، وهو الإنسان الذي يؤكد مجد الحياة والعقل والحرية بما يبنيه من حضارة وما يبدعه من فن وأدب، وكأنه كائن يتحدى الموت دائما وكأنه يقول للوجود:
إذا كنت سأنتهي للعدم، ولكنني لست عدما، فسأترك ما يدل على وجودي.»
ولقد ترك عبد الغفار مكاوي ما يدل على وجوده، فغياب الجسد لا يعني الغياب المطلق؛ لأن له حضورا يخترق حواجز المكان والزمان.
الفرن
1
دفع الباب الكبير بيده المرتعشة المتثاقلة فلم ينفتح، وإنما خرج منه صوت مبهم كئيب يشبه عواء كلب مريض، وعاد فضغط عليه بكلتا يديه، ومرت كفه النحيلة الطويلة الأصابع، الباردة العروق تتحسس جداره الخشن، عن يمين وعن شمال، وتتلمسه كما تتلمس حائطا أثريا لا طاقة لها على دفعه، ثم ألقى بوجهه المهزول على الباب، وأخذ يديره على الملمس الخشن، يعلو ويهبط، وكأنه يترنح مع خواطره الدائرة في هذا الرأس المتعب، يعلو معها ويهبط، أو يتمثل صورة الثور العجوز الرابض في «دويرة» جاره الحاج عبد اللطيف حين يحك رأسه بالجدار، ويهرش لحمه بالحائط، ولكنه لم يطل لبثه هناك، بل استند بجسده كله على الباب، ودفعه بكتفيه، فأحدث عواءه المتقطع المتثائب، ثم تسلل منه كما يتسلل الطيف، صحا لتوه من مقبرة.
صفحه نامشخص
ودار محمود بعينيه الغائرتين في المكان فلم يتبين شيئا، وخطا خطوة أو خطوتين وفتح عينيه جيدا، ومال بهما إلى حيث يأتي إليه بعض شعاع ظل يدافع موج الظلام طويلا حتى أدركته عيناه.
وهناك وجد اللمبة نمرة «5» كما تركها منذ قليل، معلقة على المسمار في الركن القصي، وعلى زجاجتها هذا الهباب الأسود الثقيل الذي لا يغادرها أبدا.
كان كل شيء في هذه القاعة (التي لم يكن يكره في دنياه شيئا مثل أن يسميها بالغرفة، وكيف لا ؟ أوليست أكبر من هذه وأرحب مسافة؟) كما تركه هامدا جامدا، قد شنقته حبال الصمت. أما زوجته فها هي كما تركها وراءه منذ لحظة، والقاعة تموج بالناس، ساكتة كالسكوت، حية كالميتة، صاحية كالنائمة، وإن محمودا ليستطيع أن يجزم في نفسه بأنها لم تحرك حتى رموش عينيها، واقترب منها حتى كاد يلامسها، وظل واقفا حتى تعبت قدماه، وأراد أن يحرك يديه فيعلو بهما إلى فوق ثم يهبط بهما قليلا، لعل ذلك أن يوحي بالحزن، وأراد أن تتحرك شفتاه المقفلتان بصوت، ببحة خافتة، بصرخة تسمعها امرأته، ترفع إليه وجهها، وتقول له في صوت لا يمكنه أن يسمعه: «إنني أشكرك يا محمود»، وأراد محمود أن يتنهد بملء صدره، أن يخرج الهواء من رئتيه قويا لافحا يشبه الريح الساخنة، الزافرة، فتومئ إليه امرأته، وتهدهد رأسها وتقول له اجلس إلى جانبي، فقد أتعبتك بالحزن كثيرا، وود محمود لو يستطيع أن يلقي هذا الثقل الذي احتمله على كتفيه مسافة بعيدة، وها هو يعود بعد أن أفرغه من جسد كان فيه، أراد أن يقذف بهذا القماش الطويل العريض، المشئوم، على الأرض، فتلتفت إليه امرأته، وتصنع له شكرا.
وانكمش محمود بجسمه الطويل في بطء، وأراد أن يبرر فعلته، ويفسره لنفسه، فأقعى أمام امرأته ومد ذراعيه النحيلتين كالعصوين الجوفاوين وخفض رأسه حتى لقد كادت أن تلمس الأرض، واستند بخده على ذراعها، وأخذ يضغطه عليها ضغطا خفيفا ثقيلا، ثم تمتمت شفتاه في صعوبة «ز... ي... ن... ب» وما كاد يلفظها حتى أحس بيدها تبحث عن يده، حتى إذا وجدتها ضغطت عليها في رفق، وقنع محمود بذلك، فأخذ يهز رأسه الهزيل المعروق، ويترنح به يمنة ويسرة يريد لو يستطيع أن يخرج لسانه الذي لا يحسن كلمة واحدة أن يبل به كفيها، وكل قطعة من فستانها الأسود الكالح في السواد، ثم هب واقفا على قدميه، ودار على نفسه دورة أو دورتين، ثم ألقى بالأكفان التي أتعبت كاهله في الركن الأجوف المنور من القاعة، ومد يديه في فجوة يعرفها جيدا ويحتجزها له وحده فأخرج لباسا أزرق شديد العتمة، أخذ يعالجه حتى وضع فيه جسده، ودار على نفسه دورة أو دورتين ثم دلف إلى الباب ففتحه في عناء، وأغلقه من خلفه في عناء كذلك.
2
كانت «زينب» حين غادرها زوجها، وحين عاد إليها، جالسة على الحصيرة البالية، مستندة على حائط الفرن العتيق، وكانت عيناها قد دارتا في المكان، وتعلقتا بكل ما يحتويه، وتوقفتا عند كل شيء فيه، عند هذه الكنبة الملقاة في جانب منه، عند هذه اللمبة «5» التي ما انفك الناموس يطنطن من حولها، والهباب الأسود يحجب زجاجتها شيئا فشيئا، عند هذه الوسادة التي كانت أمها الميتة مسجاة عليها في أول النهار، عند هذا القماش الفضفاض المكوم في ركن من القاعة والذي ألقاه زوحها عن كتفيه منذ قليل. غير أن هذه الأجسام كلها لم تستطع أن تخطر ببالها فكرة واحدة، ولم ترجع بها إلى ذكرى من الماضي واحدة، ولم تربط بينها وبين أمل أو خوف، أمل واحد، أو خوف واحد. وحاولت زينب أن تجد شيئا يحمل إليها ما يميز بينها وبين هذه الأشياء جميعا. جهدت في أن تلتمس شيئا، فكرة، حركة، فعلا، يضع بينها وبين هذه الأشياء كلها سورا فارغا، ولم تقدر على أن تجد ما يقول لها، ويصرخ في أذنها: أنت زينب، وهذا الجدار الذي استند عليه جسدك منذ الصباح ليس وإياك شيئا واحدا. وأحست أنها لا بد أن تفعل شيئا، وأنها لا بد أن تجد في وعيها دفعة واحدة تنأى بها بعيدا عن هذا الفرن الذي يكاد أن يصهرها ويأكل بالنار جسدها وعظمها وفكرها، وتذكرت أنها جائعة، وأن أمعاءها قد تقلصت وتقبضت ولم يعد بد من أن تلقي إليها بلقمة أو لقمتين، فشالت ظهرها عن الحائط، وارتكزت بيديها على الأرض ثم نهضت على قدميها المخدرتين المتململتين، وخطت خطوة واحدة إلى القفة المعلقة بالحائط وأخرجت منها رغيفا كانت قد أكلت بعضه، ومرت به على جلبابها تمسح عنه السواد العالق به، وأرادت أن تعود إلى حيث كانت قابعة، وتعلقت عيناها «بمخدة» وراء الباب، وترددت كثيرا قبل أن تمد إليها يدا، وتلفتت حولها كأنها ترى عينين مفتوحتين ترقبانها في الظلام، ولكنها لم تحفل بشيء، فانتزعت المخدة المطوية، وقعدت عليها، وأسندت ظهرها إلى الفرن، وراحت تلوي في فمها لقمة خشنة فتحدث صوتا خشنا.
3
على هذه المخدة نفسها جلس أبوها حين كانت صغيرة، نعم، لقد كان ذلك منذ زمان طويل، ولقد تعلمت منه أن هذه المخدة له وحده، وأن صوته الخشن المتحشرج لا يزال يطرق أذنها قويا، منذرا، متوعدا: «زينب، حذار أن يقترب أحد غيري من المخدة.» يوصيها بذلك في أول النهار، حين يتأهب للخروج كعادته، وفي آخر النهار حين يتربع عليها ثم يتنحنح ويعطس ويخرج أصواتا غريبة تسعى إلى أذنيها دائما من النوم الذي يرنق أجفانها. هل كانت هذه المخدة حجابا من الأحجبة التي لا ينفك أبوها يحشده بالأسرار؟ هل كانت حرما مقدسا يضاف إلى المقدسات التي ملأ بها أبوها عليها هذه الحجرة ولو شاء لما ترك من العالم حيزا من المكان لم يضع فيه محرما؟
وذكرت زينب ذلك كله، ثم تحسست هذا الشيء الناعم الداني من تحتها، وتذكرت أباها.
4 - أمي، ذا هو أبي قد عاد. - كيف عرفت؟ - آخ. تف. يخرجها من فمه ومن أنفه، حين يكون على رأس شارعنا، إن أذني تتعرف عليهما في كل يوم، أليست هذه علامة كافية؟ - آه يا ابنتي، كم أحس بالجوع! ليته يعود «بالبقجة» وفيها أثر من الزاد.
صفحه نامشخص
كان الشيخ عبد الغني مقرئا من هؤلاء المشايخ الذين تكتظ بهم القرية حتى لتكاد أن تكون صناعة من لا صناعة له. صحبته زينب منذ تعلمت كيف تسير على قدميها، فقد كان رجلا ضريرا. تلك سنوات طويلة قضتها وهي تجره إلى حيث يريد لها أن تسير، غير أنها لا تذكر من ذلك كله إلا الوجه الصلب، والسحنة المتجهمة، والوقار الذي يتكلف الجد حتى يصير طبيعة لازمة، والفم المغلق الذي لا ينفتح إلا عند تلاوة القرآن، ولقد عرفت مداخل البيوت جميعا، ولكن قدميها لم تكونا تتعديانها أبدا. - بيت من هذا؟ - الشيخ منصور ناظر الوقف.
ثم يضرب أبوها الباب بعصاه مرة أو مرتين، ويمد يده إلى حبل قصير فيجذبه إليه، ويتحرك الترباس الغليظ، ثم يدلف من العتبة إلى الداخل وهو يطلق صوته القوي الواضح: يا ساتر. ويكرره مرة أو مرتين، ثم يميل على ابنته: ألا ترين أحدا؟ وحين ترد عليه بالسلب يضع جسده المتعب الثقيل على الكنبة ويتربع ثم يبدأ في قراءته، وهي تذكر الآن مجلسها هناك، عند هذا المدخل الذي لم تجتزه أبدا إلى ما وراءه، وهي تذكر أن عينيها لم تكونا تستقران، فقد كانت ترسلهما في قلب البيت تنقبان عن سر مجهول في داخله، ولكنها كانت تخرج من البيوت جميعا كما دخلتها، لم تتخط العتبات إلى ما وراءها، ولقد كان أبوها يتوقف عن قراءته ويميل عليها مستفسرا بسؤال لم يكن يتمه أبدا: ألم يأت أحد بالراتب؟ ثم لا ينتظر منها جوابا، بل يمضي في قراءته ليعود بسؤاله لها: العيش، ألا ترين دخانا يتصاعد؟ ولكنها لم تكن تجيبه أبدا، بل ترسل عينيها الباحثتين أمامها، وحين ينتهي أبوها يشد من جلبابها ويقول لها: إلى دكان الأسطى السيد.
وكان الأسطى السيد هذا سمكريا في الشارع الضيق القريب، ولقد كانت تبلغها دقات القواديم وأصوات الصفيح المطروق وتصليح البوابير وهي في طريقها إليه، وكان الشيخ لا يسألها عن مكانه أبدا، فكان يرفع صوته في جهد قائلا: «السلام عليكم ورحمة الله.» فكانت ابنته تنبه إلى أنهما لم يدركاه بعد، حتى إذا اقترب منه صاح قائلا: «السلام عليكم.» فتعود ابنته لتقول له وهي شبه غاضبة: «لسه شوية.» ويزمجر الرجل، وتتمتم شفتاه باستغفاره المألوف.
ويتخذ الشيخ عبد الغني مكانه المنزوي في داخل الدكان، ويظل يرفع في صوته ويجود في قراءته، ويدخل عليها هذا الإيقاع المنغم الذي لا يحسنه إلا قارئو المآتم، ويشق على حنجرته المتعبة لكي ينفذ صوته من خلال الطرقات الصاخبة إلى الآذان، وحين ينتهي من قراءته ويتأهب لوضع حذائه المتهالك في قدميه يصيح به الأسطى سيد مستغربا: «يا شيخ عبد الغني أفلا قرأت علينا شيئا من كتاب الله؟» - ولكن يا أسطى سيد، لقد قرأت عليك جزء عم بأكمله. - آه، إنني لم أسمع منه حرفا. - لقد كنت أصيح كلما ازدادت القواديم لجبا أن استمعوا. - إذن فمر بنا غدا. - ولكن ...
ويقاطعه الأسطى سيد ويصيح: «نحن معذورون يا شيخ عبد الغني، غدا، غدا، يا لله.»
وكانت زينب حين يدور هذا الحوار اليومي بين الرجلين تحرص على أن تكون يدها الهزيلة الخائفة ممدودة نحو السمكري، وكيف تنسى أن تفعل؟ وهل تهمل تعليم أبيها لها؟ يدك، يدك يا زينب، لا تريحها أبدا، لا أريدك أن تضعيها إلى جانبك كما يفعل بقية الناس، بل مديها إلى إمام، إن الرزق لا يهبط على الأيدي المنقبضة المقفولة.
5
وعاد أبوها يوما إلى بيته مهرولا، فكانت زينب تلتقط أنفاسها في صعوبة وهي تلهث وتجري لتلحق به، وحين دفع الباب صاح وهو يكح في عنف ويستعيذ من الشيطان: «الموت حق، الموت حق.» واندفعت نحوه امرأته قائلة: «ما لك يا شيخ عبد الغني؟» ثم مرت بكفها على جبهته وتلمست يديه ومسحت على رأسه وهي تستعيذ بالملائكة من كل شيطان، وقالت في أسى: «أنت دافئ الليلة.» وأمر الرجل بمخدته، فأخرجت من مكمنها ووضعت له، وحين استراح عليها اطمأن إلى أنه سعيد حقا، وأنه مرتفع عن الأرض كثيرا، وأنه أعلى من سواه شأنا.
هذه المخدة الطرية الناعمة تبعده عن عذابه الخشن القاسي، أولم ينس حياته البائسة حين يعود إلى بيته فيستند عليها ويتلمسها؟ ثم يهتف عاليا: «ما أكثر نعمك يا رب!» وتحسس الرجل حذاءه واطمأن إلى أنه قد وضع أمامه، ثم هتف بامرأته وابنته أن اقتربا مني، ونفخ يده كما يفعل كل مساء، وأخذ يقرأ آيات كثيرة مما ألف أن يتلو قبل نومه، ثم مر بيديه على رأسه ومسح بهما وجهه وجسده حتى قدميه.
وحين تم أوراده مد يده في حذر إلى جلبابه فرفعها، ثم غاص إلى حزام عريض من الصوف قد لفه على بطنه، ودسها فيه وقتا غير قصير، ثم اتجه إلى امرأته وهمس في أذنها: «هل أنت شجاعة يا امرأة؟» ولكنها لم تقل شيئا، فعاد يسألها: «هل أنت شجاعة يا امرأة؟» ولم تدر كيف تجيب، فلقد تعلقت عيناها باليدين القابضتين على شيء لا تدريه تمتدان إليها في حذر وإبطاء لكي تلقيه في حجرها. - ما هذا يا شيخ عبد الغني؟
صفحه نامشخص
إنها ثروة العمر، سبعة جنيهات، أجل، سبعة جنيهات قد حفظتها لألقي إليك بها الساعة. - ولكن ...
ووجدت زينب أباها يبحث عنها، فاقتربت منه خائفة، ومد الشيخ يديه إليها، ثم جذبها إليه في قوة وضمها إلى صدره، وهمس في أذنيها: سبعة جنيهات يا زينب، ستدخلين بها الفرن، سبعة جنيهات يا زينب، اشكري أباك الذي صنع لك مستقبلا، وسألته زينب عن هذا الفرن وماذا عساه أن يكون؟ ولكنه وضع يده على فمها فسكتت، وسمعته يقول: «نحن فقراء يا رب، ولكننا مذنبون، وهذا الفرن، والنار التي تتضرم فيه، فكيف بنا على احتمال نارك الحامية؟» وكان رأسه يهتز ويترنح وصوته يختلج وينساب فيه الندم، ثم يندفع في نشيج متصل لا يهدأ، ويعود كالمستيقظ من نوم متعب لكي يذكر امرأته بالنار، وبأن فرنها هذا الماثل أمامها ليس إلا شبحا للفرن الذي أعد للمذنبين، وللفقراء، وبأن دموع الندم وحدها هي التي تطفئ لهبه. والحق أن زينب لم تدرك من ذلك كله شيئا، ولم ترد أن تفهم منه حرفا، وإنما ثبتت عيناها عند الصرة الملقاة في حجر أمها، المحجوبة تحت رأسها المطرقة في خشوع، ثم التفتت إلى الوراء فوجدت الفرن كما هو، يشكو من أن ناره حامية، وأن عذابها كبير. ولقد فكرت زينب طويلا في ذلك الفرن الآخر الذي ستدخله بهذه الجنيهات السبع الملقاة في حجر أمها، وسألت نفسها إذا كان الناس يعذبون ويؤجرون بالمال أيضا، ولما لم تفهم شيئا تركت أباها في نشيجه المحزن ذلك، وأمها التي لم تزل تندب ذنوبها وأيامها التي ضيعتها في غير الاستغفار، ثم طلعت على الفرن، وسحبت اللحاف، واستسلمت لنوم هادئ لا يعكره شيء.
6
وهي تذكر أن أباها قد لبث على حاله تلك سبعة أيام متتاليات، يصحو في الصباح فيضم زينب إليه، ثم يهمس في أذنيها بأنه قد حفظ لها على مدى العمر سبعة جنيهات، وبأنها ستدخل دنيا جديدة لم ترها من قبل، وكان في أغلب حالاته يقول لها: «هيه يا زينب! إنك ستدخلين الفرن بهذه الجنيهات، فاشكري أباك.» وهي تبحث الآن في ذكرياتها عن اليوم الذي مات أبوها فيه، ولكنها لا تحفظ من ذلك أثرا، فإن مشهدا آخر يزحم كل ذكرياتها، ويتقدمها، ويمثل أمامها في صورة أمها المتشحة بالسواد تقترب منها وتنهي إليها في كلمات قصار: «سنذهب بك غدا إلى المنصورة.»
وهي لا تجد في مخيلتها من هذه الرحلة الغريبة في البلاد الغريبة إلا أنها قد صحبت أمها إلى دكان امتلأ بالذهب، وأن أمها قد جلست أمام الخواجة الذكي الثرثار منشرحة الصدر سعيدة ضاحكة كما لم تسعد أو تضحك في يوم من أيام حياتها الطويلة. كانت أمها ضعيفة البصر، نصف عمياء، فراحت تقلب بين يديها ما يعرض أمامها من الأساور والحلقان والعقود، فتتحسسه بكفيها النحيلتين، أما هي فقد كانت صامتة ساكنة، لم يكن الأمر يعنيها في شيء، لقد قضت حياتها متفرجة على الأشياء والأحياء.
وهي تذكر أن أمها، من فرط فرحتها قد تناولت من يد الخواجة أسورة ذهبية، ثم عالجتها في يدها، وأخذت تدفعها في معصمها وفي ذراعها، وتتحسسها بين الحين والحين، وتخرجها من يدها ثم تعود فتحاول أن تدفعها في ذراع كالعصا الجوفاء صنعت من القش الواهي.
ولقد كانت أمها تميل عليها وتهمس في أذنها بأنها في زمانها لم تستطع أن تشتري ذهبا ولم تدخل محل جواهرجي، بل قنعت بالزواج الخشن، من الزوج الخشن، على الفراش الخشن. ولقد ابتاعت أمها من الخواجة الذكي الثرثار قطعة أو قطعتين، ربطتهما في صرة من القماش قبضت عليها في اعتناء وحذر، كما يقبض الميت على ثروة يود لو يستطيع أن يستأثر بها وحده وأن يصحبها معه إلى قبره، لتقبض عليها يداه، في الظلام الخالد.
وحين عادت زينب مع أمها في قطار البراري كان الليل قد نشر عتمته على راكبي الدرجة الثالثة، وجلست وأمها على مقعد خشن، تنفذ إليهما الريح كألواح الثلج من نافذة متخرقة، ليلتحم الراكبون وتلتف أجسادهم، لتدفئ برد الشتاء وقسوة الليل، ثم تنطلق أفواههم بأحاديث لا ينصت لها قائلوها، وتدور أعينهم في الوجوه الجامدة المتعبة، قانعة بالتفرج لأنها لا تريد أن تؤول شيئا مما تراه، وكل ما تراه متماثل واحد لا يتغير ولا يتفاضل أبدا. ولقد احتضنتها أمها، واشتكت لها من أنها لم تعد تقوى على احتمال البرد، فانعطفت وضمتها إليها في إصرار، ومسحت خديها بكتفها ووجهها، وأرادت أن تقول شيئا ولكنها لم تجد صوتا تحرك به حنجرتها فقنعت بالصمت، ووجدت أمها تهمس في أذنها ضاحكة: «ليس لك أن تشتكي من البرد، فالدفء ينتظرك في بيتنا، أولست ستدخلين الفرن عما قريب؟» ولقد سرت في جسدها رعشة خفية، وغامت أمام عينيها سحابة من هم، وحاولت أن تفهم هذا الفرن، وراحت تستعيد ما قاله لها أبوها، ثم تهز رأسها وإن كانت في صميمها تشتاق إلى تعرف هذا الفرن، والتلظي بناره.
ولقد عادت في مساء ذلك اليوم إلى بيتها، تحمل في رأسها صورة غامضة عن الفرن الذي سيلقى بها فيه، وتحمل أمها في يدها صرة قبضت عليها في حذر. وحين أرادت أن تضع المفتاح في باب حجرتها، ألفت شبحا يتحرك في الظلام، فتراجعت، ولكنه اقترب منها، وحرك شفتيه بأصوات مرتفعة، ودت لو أنها كانت في الظلام همسا، ثم التفتت إلى أمها فوجدتها تقبل ضاحكة مستبشرة، ثم تربت على كتفه وتشير له إلى ابنتها ثم تعود إلى ضحكها، وتفتح له يدها، لتريه الصرة، ثم تفتحها أمامه، وتعرض عليه أسورتين نحيلتين من الذهب، تلقفهما في يديه، وأخذ يقلبهما مشدوها.
ولقد عرفت فيما بعد أن محمودا كان ينتظرهما قلقا متشوقا، وأنه قد لبث واقفا أو قاعدا أمام بابهما طيلة ذلك اليوم حتى انتصف ليله أو كاد، فلما أن عاد دلف معهما إلى الداخل، وأخذ يتحسس كل شيء يجده في طريقه متهللا، فرحا، ثم اقترب من الفرن الرابض في هذه الغرفة فطلع عليه، وأخذ يتمرغ عليه، ويضحك ويقهقه، ويدعو زينب وأمها، بإشارته ، إلى الضحك.
صفحه نامشخص
وفي هذه الليلة نفسها اشترك محمود في حوار مع أمها لم تشهد زينب نظيرا له من قبل، فقد عرفت أن الرجل أصم، وأنه لذلك كان يستعين برجليه وقدميه، وكل خلجة في جسده، وأنه كان يرفع صوته عاليا، فتشير لها أمها أن تحتمل، نعم أن تحتمل، وقد احتملت زينب كثيرا، ومالت عليها أمها، ثم همست في أذنها أنها لن تشاركها في نومها الليلة، وأن محمودا زوجها هو وحده الذي سيملأ عليها فراشها دفئا، وأن أمها قد ضحكت ضحكة خفية وأسرت إليها أنها لذلك ستقضي ليلتها نائمة على عتبة حجرتها، ولقد استنكرت زينب ذلك منها وقالت لها بصوت دامع بالأسى بأنها ضعيفة ومريضة، وأنها لن تحتمل برد الليل، وأنها لا تدري كيف تنام أمها على التراب في ليلة زواجها. ولقد بكت زينب كثيرا، وألحت على أمها أن تبيت معها، ولكن أمها كانت عنيدة الرأي، فما لبثت أن تركتها، وتناولت غطاء رقيقا، ثم أغلقت الباب من ورائها. وظلت أمها على هذه الحال سبع ليال متتالية، وأمس، دخلت من الباب زاحفة على ركبتيها تسعل، وتشهق وتغمغم قائلة: «إنني مريضة يا ابنتي، إن أمك قد أصبحت كالقش المحترق.» وتهرول إليها زينب، وتمسك بيديها، وتحاول أن تلومها على صنيعها، ولكن أمها تقع على الأرض كما يلقى الشيء، ساكنة، لا ينبض فيها عصب، ولا يتردد نفس.
وها هو زوجها قد دخل عليها في هذا الصباح يحمل أكفانا، ويلقيها على الأرض، ثم يلقي بنفسه أمامها، يريد لو يسكن من حزنها، ويقبض على يدها في حنان، ثم يتركها في جلستها تلك، ساكنة جامدة.
ولقد لبثت زينب تفكر في شيء غير الحزن على موت أمها، وغير التفجع على حياتها البائسة، كانت تفكر في هذا الفرن الذي مات أبوها ولم يفسر لها كنهه، وماتت أمها ولم تكشف لها عن حقيقته، وستموت وزوجها قبل أن تفهم من سره شيئا، لقد قضت مع محمود ليالي سبعا، ولقد ضمها إلى صدره كثيرا، ولثمها، وأشبعها تقبيلا، ولقد كان ينضو عنها ثيابها جميعا ويلقي بجسده على جسدها، ويظل ليله عاكفا عليها، يهمس في سمعها بسعادته تلك، ومحبته لها، هل كان ذلك هو الفرن الذي حدثتها عنه أمها، عن دفئه، وحرارته؟ وعاد إليها زوجها في آخر النهار، ثم أمسك بيدها، واقتادها إلى حيث تناهت إليها موسيقى مختلطة بالزغاريد والغناء وموكب من الرجال والنساء يزف عروسا، ولقد ضحك زوجها كثيرا، ودعاها إلى الضحك معه، ثم همس في أذنيها: «إن جارتنا الجميلة ستدخل الفرن الليلة.» وهزت زينب رأسها مستفسرة، وتنقلت عيناها بين الموكب وبين زوجها، وخرج منها صوت لم يحاول أن يتبينه لأنه لن يسمعه، وغمغمت ضاحكة، باكية، واختلج جسدها كله، وقالت في نفسها: «هل كتب على أهل قريتي أن يدخلوا الفرن كما دخلت؟ ألا يوجد فيهم من يفلت من مصير البائسين؟»
وضغط زوجها على يدها، ثم سار معها إلى غرفتها، فأغلقها من خلفه في إحكام.
الثقافة، 5 يناير 1953م
القهوة
صحوت يا ابني من النوم؟ أعمل لك شاي؟ قهوة؟ القهوة المرة إياها؟ آه يا ربي! يا ما نفسي تجربها بالسكر، ولو ملعقة واحدة، تقوي دمك وتمسك أعصابك، طيب جرب مرة واحدة، طيب أنا نفسي العجوزة المهدمة لو شربتها عند أحد أو مع الضيوف قلت لهم يضعوا فيها ملعقتين ثلاثة، لازم الواحد يرحم قلبه، بلاش؟ طيب، على كيفك، أنت الجاني على نفسك، وعلى رأي المثل: عقلك في راسك اعرف خلاصك، طيب وحياة الحبيب النبي لو أعطوني ملك قارون ما أشربها من غير سكر، إنما أنتم يا شبان تقتلوا أنفسكم، شبان؟ أنا قلت شبان؟ طيب والله ثلاثة أبوك الله يرحمه كان شكله أصغر منك، صحة وعافية ولا سبع الغابة، أبو زيد لكن اسم على مسمى، إن راح أو جاء الناس تقول شوفوا أبو زيد الهلالي! حتى وهو يطالع في الروح، نفسه شديد، عينيه عينين صقر، صدره طالع نازل ولا القفص الحديد، ولو شاف ساعتها عزرائيل كان هجم عليه وداس على رقبته لغاية ما طلع روحه، لكن الزمن تغير، والدنيا أصبحت غير الدنيا، القهوة أهيه! أصبها لك؟ لأ؟ طيب يا ابني، أنت حر، أف! الدنيا حر هنا، أفتح لك الشباك يدخل نسمة هواء؟ لا؟ طيب باب البلكونة؟ لا؟ على راحتك، أنت ومزاجك، خلي العرق يصب عليك وبعدها تبرد وترقد في السرير وتقول يا ليتني سمعت كلامها، أصب لك القهوة بعد ما تطفئ السيجارة؟ قطعت السجاير وسنينها ويوم ما اخترعوها، كان يوم أسود من الفحم، إيديكم بقيت فحم، صدركم فحم، أسنانكم فحم، يا ريت يا ابني تبطلها، أو حتى تقلل منها، أسكت؟ يعني كلامي دائما ثقيل على قلبك؟ قسمتي ونصيبي، طيب يا ابني، أروح أنا؟ أرجع على حجرتي؟ لا يلزمك شيء طيب، طيب، الله يعينك يا حبيبي، لا تسهر أكثر من اللازم، ولا تنس اللمبة قبل ما تنام، نسيت أسألك المغرب وجب يا ترى؟ لأ؟ نصف ساعة عليه؟ طيب أقعد معاك أسليك؟ تلاقي نفسك زهقت من قعدتك لوحدك، هه! الكنبة كانت فكرتها عظيمة، الواحد يقدر يريح جنبه ويركن رأسه على كيفه، أفتح الشباك؟ حاجة بسيطة. النسمة يا ابني تغير جو الدخان، يا سلام يا أولاد، أول ما الواحد يقعد يظهر عليه تعب الدنيا كلها، نسيت أحكي لك، يعني لا سألتني ولا حاجة، وتلاقيك ولا على بالك، كانت ليلة لها العجب، نعم، نعم، ليلة أول البارحة، أما فرح ولا كل الأفراح، حاجة تشرح القلب صحيح، ناس ولا الباشوات في زمانهم، صحيح الأصل له عمل، البيت يشف ويرف، منور من بعيد ولا قصر من الجنة، والميكروفون ينادي على التائهين، أعرف أنك تكره الميكروفونات، لكن الرقص والمغنى يا ابني لازم ياخد حقه، والصوان على السطوح، العين ما تعرف له آخر، والمعازيم، ستات ورجال، شيء ما يحصره العد، تقول موج البحر! تقول رمل وبدروه على الأرض! صحيح الناس كثرت يا ابني، شيء ما له وصف، وكلهم ياكلوا الشوكولاتة ويشربوا الشربات ويتعشوا ويضحكوا ويتكلموا في نفس واحد، شيء يفرح القلب صحيح، تقول لأ؟ طول عمرك تكره الزحمة، لكن يا ابني الناس لبعضها، وبني آدم منا خلقه ربنا لأجل يعيش مع البني آدمين، هي الدنيا من غير الحبايب تساوي التراب؟ القصد، أول ما سميرة هانم لمحتني جرت علي، أهلا وسهلا بالست أم سامي، يا ألف وثلاثمائة مرحبا، بالحضن يا حبيبتي. ناس من أصل صحيح، ناس أكابر يفهموا في الذوق والإنسانية، وراسها وألف سيف لازم أسلم على العروسة، هه؟ قلت حاجة؟ لا؟ طبعا، كانت قاعدة على الكوشة، وجهها ولا القمر، بدر ومنور يا حبيبي، عمري ما عيني شافت حلاوتها ولا جمالها، رحت سلمت عليها، طبعا، أخذتها بالحضن؟ لا والنبي، هي التي أخذتني بالحضن، ملت عليها بستها من الخدين، سألتني عنك، فيها الخير، قالت: يا ليت كان سامي معك، نزلت الدمعة فرت من عيني، سقطت على فستانها، قالت لي: الله؟ سامي جرى له حاجة؟ قلت لها: يا بنتي، سامي بخير والحمد لله، يسلم عليك، كذبت عليها وقلت لها عندك شغل، لولا الشغل كنت حضرت معي، وسلمت على عريسها طبعا، شاب طيب وابن حلال، أمه داعية له قبل ما تموت، بخته من السما، مال وجمال وأخلاق، والواحد يطلب أكثر من هذا؟ وهو شاب مسكين يتيم لا أم ولا أب ولا وراءه ولا قدامه، لكن البخت والنصيب، قلت في نفسي لو كنت يا سامي في مكانه! لو كنت سمعت كلامي يا حبيبي! كانت لك وأنت لها، لائقين لبعض، حتى الطول واحد والجسم واحد، وكلنا أهل بعض، سميرة هانم على كل حال قريبتنا، وزوجها الله يرحمه كان صاحب والدك، ألف رحمة تنزل عليه، وعلى كل حال ولا كانوا طلبوا منا مهر ولا حاجة، الشبكة كنا دبرناها من أي طريق، ناس تعرف ظروفنا وتعذر حالتنا، وكلنا أهالي بعض يا حبيبي، بذمتك يا سامي، فتحية كنا بها عيب؟ بنت مؤدبة وأميرة وتحبك، أي والله تحبك، لا، لا تصدق! قلت لك والله سألتني عليك، حتى وهي على الكوشة وعريسها على شمالها سألتني عليك، بنت مؤدبة وبنت ناس وتحبك، أبعد أنا عن سيرة الحب؟ تهز رأسك؟ لولا عندك كان قلبي استراح، كان بقي لك بيت وواحدة تنتظرك وتسأل عليك، وتأخذ بالها من عيالك، في أي وقت تلاقي الأكلة حاضرة والهدمة نظيفة والبيت فيه نفس، ترجع بالليل تلاقي لمبتك مسروجة وفرشتك دافئة ولقمتك جاهزة، يعني لا ترد علي، ساكت والذي في دماغك في دماغك، طيب قول كلمة واحدة، أبعد عن سيرة الزواج؟ علبة السجائر؟ يا ابني أنت شربت كثير، وصدرك بقى مثل الطاحونة، طول الليل يزيق، يعني الواحد يدخل في صدره نار؟ حرام عليك يا شيخ، طيب أبعد الدخان عن ناحيتي، يووه! والنبي ولا مدخنة الطاحونة، والأصابع، ولا الفحم المحروق، آه يا ناري لو كان أبوك شافها، كان عرف صحيح شغله معاك، تضحك؟ طول عمرك عنيد، دماغك حجر، ولا أحد يأخذ منك حق ولا باطل، نرجع للفرح، لأ؟ طيب وآخرتها معك؟ تقضي عمرك على هذا الحال؟ طول النهار قاعد قعدتك، ولا تمثال الفرعوني في زمانه، لا كلمة ولا همسة، عينيك في السقف، يا ترى شايف إيه هناك؟ ساكت ولا تتكلم ولا تكلم أحد، الكتاب في يدك أو الجرنال، الله يقطع سيرة الكتب والجرانيل، كوم فوق كوم، على الأرض، فوق المكتب، في الدولاب، جنب الحيطان، كتب كتب يعني أخذت منها حاجة غير ضياع العمر والصحة والكتابة ليل ونهار؟ الله يلعن المدارس وأصحابها، كان ما لنا وما لها، كنا عشنا في الأرياف، على الأقل تشم هواء نظيف وتسرح الغيط وتأكل زبدة ولحم، وتفرح وتتزوج ويصبح لك عيال وذرية. أبعد عن سيرة الزواج، أنا عارفة، الجرح هو هو في قلبك، الله يلعن التي كانت السبب، لو كنت أعرفها أو أراها قدامي، طبعا، كنت قطعتها بأسناني، يعني كنت شحاذ وهي بنت السلطان، كلهم بنات حوا يا ابني، والبنات مالئة الدنيا، بس اطلب أو اتكلم، والله أخطبها لك، حتى لو كانت بنت السلطان، ولا قعدتك وحدك يا ابني، لا تكلم أحدا ولا أحد يكلمك، يعني يعجبك تصبح مثل عمك سليمان، نعم جارنا عم سليمان، عجوز ومكسر وغلبان زمانه، يا ليتك تشوفه وهو طالع على السلم، البواب يسنده سلمة سلمة، لغاية ما يلفظ النفس، يأخذه من يده لغاية ما يدخل باب الشقة، وهدومه يخلعها له ، لا واحدة تسليه ولا ابن يؤنسه، والعجوز الخادمة تسرقه عيني عينك، يوم الخميس ضرب الجرس فتحت له، قال لي وهو يصرخ تصوري يا ست أم سامي، تصوري، بعد العشرة الطويلة، الولية العجوز تسرقني، تغلي علي كل حاجة، حتى علبة الكبريت تغليها علي، هل فيه أحد يصدق أن ثمنها ستة مليم؟ يا عالم! يا هوه! الرحمة ضاعت، الناس ذمتها خربت، بصيت في الساعة؟ تقول المغرب وجب، طيب يا ابني، أنا قايمة أصلي، ربنا قادر يستجيب دعوتي، قادر ينور قلبك ويهدي لك سكتك، قلت حاجة يا ابني؟ لأ؟ يعني كلامي كله في الهوا، يعني لا حس ولا خبر، طيب قم من مطرحك ساعة زمن، مشي رجليك، نزل عينيك من السقف، حكمك يا ربي! أنت حكمت علينا، أمرك يا حبيبي، هه؟ أنا بابكي، لا يا ابني، أبدا أبدا. ولا حاجة، دمعة وفرت من عيني، خلاص راحت لحالها، كان نفسي قبل ما أموت ألاقيك في وسط عيالك، أنت نسيت؟ يوم من الأيام ينتهي الأجل على كل حال، تحضر من الشغل تلاقيني، على السرير، أو يمكن على الأرض، طالع مني السر الإلهي. أبعد عن سيرة الموت؟ طيب يا حبيبي، أنا ماشية، قبل ما المغرب يفوت، لكن لو كنت تسمع كلامي، حتى ربنا وصى على الوالدين، قال في حكم كتابه وبالوالدين إحسانا، هيه! يا أم هاشم، نفسك معنا يا بنت الحبيب، تقول أعمل لك فنجال قهوة؟ طيب أعمل فنجال حلبة أو حتى ينسون؟ لأ؟ يعني لازم القهوة تكون مرة؟ هي الدنيا يا ابني ناقصة مرارة؟ طيب جرب معاها ملعقتين سكر، ولو ملعقة واحدة، لا؟ دائما لا؟ طيب قل كلمة واحدة، كلمة تجبر بها خاطري، أسكت أنا؟ طيب سكت، آخذ الصينية معي، أنت بتبكي؟ لأ؟ لكن الدمعة نازلة على خدك، ولا شيء؟ آخ يا ربي! لو كنت أعرف السبب! لو كنت تفتح لي صدرك، طيب طيب، أنا ماشية، خلاص سكت، مصيري في يوم أمشي من الدنيا كلها، هه؟ القهوة؟ حاضر يا ابني، مسافة ما الكنكة تسخن، بس لو كنت تشربها بسكر.
عبد الغفار مكاوي
بربارا
تعودت أن أراها كل يوم، فما أكاد أفرغ من محاضرات الظهيرة في الجامعة حتى أتجه إلى هذا المطعم القريب لأتناول وجبة الغذاء، وأشرب قدحا من البيرة الشهيرة، ويستقبلني الوجه الصغير وعليه ابتسامة عذبة: نهاري سعيد. - نهارك سعيد يا بربارا. - ماذا يأكل الهر اليوم؟ - ألا تحضرين قائمة الطعام؟ - لست في حاجة إليها، فأنا أحفظ ما فيها عن ظهر قلب، عندنا اليوم سجق. - كل يوم سجق يا بربارا؟! - إذن سأحضر لك بفتيك بالبطاطس أو هل تحب طبقا من الحساء بالمكرونة وذيل الحصان؟ أو ... - هاتي ما يعجبك يا بربارا، هاتي ما يعجبك!
صفحه نامشخص
وتنقلت بسرعة كأنها دمية لطيفة، وتعود بعد قليل تحمل صينية عليها أطباق الطعام، ثم تجلس أمامي وتعقد يديها على صدرها، كأنها متهم ينتظر الحكم عليه بين شفتي القاضي، وتتململ قليلا في مقعدها قبل أن تسألني: هل أعجبك؟ - لذيذ جدا!
وانتظرت أن تقولي لي «شهية طيبة» كما تعودت أن تقول لي كل يوم، ولكن صيحة ندت عنها نبهتني إلى أن زوارا جددا قد أقبلوا. - هالو هرشتاين، هالو فراوشتاين. - هالوا بربارا، كيف حالك؟
وتعود بربارا بعد قليل، وتجلس إلى جانبي وتقرب شفتيها من أذني كأنها تفضي إلي بسر خطير الهر شتاين وزوجته يحضران هنا كل أسبوع، هل تعلم أين يسكنان؟ في الغابة السوداء، هل رأيتها؟ - لا يا بربارا، لم أرها بعد. - آه! هي غابة كبيرة، كلها أشجار، أشجار، إذا سرت فيها لا ترى الشمس، لهذا سموها الغابة السوداء. - ولماذا يعيش الهر شتاين حيث لا تظهر الشمس؟! - فلاحون، ناس مساكين، يقطع الخشب ويربي الخنازير.
وفي كل يوم أحد ينزل إلى المدينة هو وزوجته، ها هي تجلس إلى جانبه يتنزهان في الشوارع، ويتفرجان على المحلات الكبيرة المنورة، ويشتريان الحاجات، يوم الأحد عندهم يوم عيد ولكنهما لا يأكلان إلا في مطعمنا، نعم، لا يأكلان إلا في مطعمنا، منذ ثلاث سنين كل يوم أحد الساعة الواحدة. ناس مساكين! - ولماذا هم مساكين؟
وتضع بربارا يدها على خدها وتسكت لحظة ثم تقول: آه! هذه حكاية طويلة، بابا حكاها لي منذ أسبوعين، ألا تلاحظ أنهما يلبسان السواد؟
والتفت لأتأكد من صحة ما تقول، كان الرجل يرتدي سترة صغيرة سوداء حشر فيها جسده النحيل، فبدا كأنه موسيقي بائس عجوز، أما المرأة فكانت تتدثر في رداء بسيط كأنه قبل أن تفصله على قدها كان راية سوداء ترفع على المباني العامة في أيام الحداد.
واستطردت بربارا تقول: بابا قال لي إنهما كان لهما ابن، ابن وحيد يسكن معهما في الغابة السوداء، كل صباح يركب الدراجة إلى الجامعة، مسافة طويلة، أليس كذلك؟ كان للهر شتاين أمنية واحدة: أن يرى ابنه «بروفسير» في الجامعة. بروفيسير عظيم، على عينيه نظارة كبيرة، وفي يده حقيبة سوداء، ورأسه كبير جدا؛ لأنه يفكر كثيرا، مثل كل البروفسيرات، وكان الهر شتاين يقاب كل إنسان ويقول له: كيف تكلمني هكذا؟! إن هي إلا أيام وسترى أنني أبو البروفسير، هنري - وكان هذا هو اسمه - سيصبح بروفسيرا في الجامعة، وسيسكن في المدينة، وسنسكن معه في المدينة، ونترك الغابة السوداء، ولكن هل تعلم ماذا حدث؟ - ماذا حدث يا بربارا؟ - آه! الحرب! الحرب الشريرة، هل عرفتم الحرب أيضا في بلادكم يا هر؟ كل شيء «كابوت»! بابا يقول دائما إنه زمن شرير. زمن شرير وحرب شريرة، هل تشرب قدحا من البيرة؟ نعم؟ فاتحة أو غامقة؟
كنت قد فرغت من طعامي، وجلست أنتظر عودة بربارا، أطالع وجوه الحاضرين، وأنقل بصري بين الصور المعلقة في الحائط، وأقبل صاحب المطعم بكرشه الضخم ووجهه الأحمر المكتنز وجسده القصير السمين فحياني تحيته المعتادة: نهارك سعيد. - نهارك سعيد. - أرجو ألا تكون بربارا قد ضايقتك. - على العكس يا سيدي. - لطيفة هذه البنت، لطيفة وعزيزة علينا.
وضحك ضحكته المجلجلة التي أعرفها منه، ثم تركني وراح يتنقل بين الموائد يحيي الزبائن: شهية طيبة، مرحبا بكم، شهية طيبة.
وأقبلت بربارا مسرعة ووضعت قدح البيرة أمامي وهي تقول: لحظة واحدة، سأعود حالا، حذار أن تذهب!
صفحه نامشخص
ثم رأيتها تقبل على رجل يجلس وحده في الركن المواجه لي، وتبينت من خلال ضحكاتها الحلوة بعض كلماتها: سجق بالبطاطس، شربة بالمكرونة وذيل الحصان!
وانقضت لحظات قبل أن تعود إلي وتجلس في مواجهتي. - هل تعلم حكاية هذا الهر؟ - وما هي حكايته يا بربارا؟
وعقدت يديها على خديها، وأغمضت عينيها الخضراوين الجميلتين، وبدت كأنها تسترسل في حلم طويل، وطال صمتها، فقلت: يا بربارا! هل نمت؟!
قالت وهي تتأملني بعينيها الحزينتين: أنا حزينة من أجل الهر فريدريش. - ولماذا يا بربارا؟
فعقدت جبهتها وقالت غاضبة: هل تعلم أنه لم يبع شيئا أمس؟
قلت: وماذا يبيع الهر فريدريش؟ خضارا أو فاكهة؟
قالت مستاءة: أوه! إنك لم تفهم، لم يبع ولا قصيدة!
قلت: إذن فهو شاعر؟
قالت في حماس: نعم، نعم، كتب في الأسبوع الماضي قصيدتين جديدتين وطاف بهما على كل الجرائد والمجلات في المدينة، آه! زمن شرير، ناس شريرون، ولا جريدة قبلت أن تنشر له بيتا واحدا، أوف فيدرزين! أوف فيدرزين هر شتاين. إلى الأحد القادم تحياتي للغابة السوداء. وكل الخنازير التي فيها. أوف فيدرزين!
كان الفلاح وزوجته قد تهيآ للانصراف، أقبل الرجل على بربارا فسلم عليها، وانحنت زوجته فطبعت قبلة على جبينها، وأحنيت رأسي لأرد على تحيتها، ثم تنقلت ببصري إلى الشاعر الذي يجلس وحده. كان يجلس إلى المائدة وظهره لي، ورأيت كيف يكون الشعر الطويل المنفوش ضرورة للفنانين والشعراء، قلت في نفسي: لا بد أن يكون له وجه نحيل مستطيل، وعينان باكيتان وقامة شامخة.
صفحه نامشخص
تنهدت بربارا وقالت: مسكين!
قلت ضاحكا: كل الناس عندك مساكين؟
قالت تشير بإصبعها كأنها تتهم العالم كله: زمن شرير، ناس شريرون.
هل تعلم كيف يعيش الهر فريدريش؟ - وكيف يعيش يا بربارا؟ - فوق السطوح، في حجرة صغيرة، تصلح أن تكون مصيدة للفيران. - وماذا يعمل إذن؟ - إنه يعمل في «الألجمينه تسايتونج» يصحح أخطاء المطبعة، تصور! شاعر عظيم مثله، يقوم بعمل كهذا، يمكن أن تقوم به بربارا! مسكين! - وهل يعيش وحده؟ - اسمع، سألته مرة: لماذا تعيش وحدك يا هر فريدريش؟ قال لي: ومع من أعيش يا بربارا؟ قلت: مثلا تتزوج امرأة. قال لي : وهل أجد امرأة تتزوجني؟ قلت: بالتأكيد، امرأة تحبك. فضحك وقال: النساء لا تحبني يا بربارا، لا تتعبي نفسك! هل تعلم ماذا فعل في اليوم التالي؟ كتب قصيدة اسمها «بربارا»، اسمي أنا! وأقبل في مثل هذا الوقت وقال لي: أحضرت إليك هدية، قلت ماذا أحضرت؟ قطعة شوكولاتة؟ قال بل قطعة شعر، وجلس في هذا الركن نفسه، على هذه المائدة نفسها، وراح يقرأ علي قصيدته.
بربارا! حولي عينيك عني
عينيك الحزينتين
لكي لا تفضحا سري
لكي لا تفضحا سري يا بربارا
وإذا رأيتني أدخل وحيدا
فلا تسأليني:
صفحه نامشخص
لم لا تتعلق امرأة بذراعك؟
لأن النساء لا تحبني،
لا تحبني يا بربارا. - حذار أن تخطئ في شعري.
ورفعت رأسي فوجدت رجلا مديد القامة يخلع قبعته ويحييني، واحمر وجه بربارا، وتلعثم لسانها وهي تقول: لا يهم، ما دمت ستصحح خطئي، أليس هذا هو عملك؟ وانحنى الرجل عليها، وأخذ يدها بين يديه وقبلها وهو يقول: آه! يا نجمتي العزيزة الوحيدة! إلى الغد، إلى الغد يا نجمتي الوحيدة! ورفع قبعته مرة ثانية، قالت بربارا: هل تعرف يا هر؟ إنني أتمنى أمنية واحدة؟ - وما هي يا بربارا؟! - أن أستيقظ من النوم فأجد نفسي امرأة طويلة وكبيرة جدا.
قلت: ولماذا تستعجلين يا بربارا؟
قالت وهي ترفع صوتها تحيي زائرا دخل لساعته: جوتن تاج! ونهضت متعجلة وهي تقول: ألا ترى أن الهر فريدريش يعيش وحيدا؟! لحظة واحدة، حذار أن تنصرف قبل أن أعود، وجرت مسرعة تحيي الزائر الجديد، وسمعتها من بعيد وهي تداعبه: أنا دائما في خير، وأنت، جوت؟ هل شهيتك مفتوحة اليوم؟ عندنا سجق بالبطاطس، وشربه بالمكرونة وذيل الحصان.
وجرت نحو أبيها الواقف خلف «البوفيه» كأنه جبل من اللحم، ثم عادت إلي مسرعة: هه؟ أنت بالطبع لا تعرف حكاية الهر أرنست؟
قلت وأنا أنظر في ساعتي: ولا أريد أن أعرف!
قالت وهي تلوي شفتيها وترمقني بنظرة يائسة: أنا غاضبة منك!
قلت: تأخرت يا بربارا، لا بد أن أنصرف الآن!
صفحه نامشخص
هتفت في حماس: لا! لا! ليس قبل أن تسمع حكاية الهر أرنست .
كانت قد نطقت الاسم بصوت مرتفع، وخشيت أن يكون قد سمعها فوضعت يدها على فمها وعضت إصبعها والتفتت وراءها، ثم قالت: الحمد لله! لم يسمع! هل تعرف أنه كان بحارا؟ طبعا لا تعرف، وهل تعرف أن سفينته غرقت بكل من فيها عند الساحل الأفريقي؟ طبعا لا تعرف! وأنه نجا هو واثنان فقط ممن كانوا معه! وأنه أخذ يسبح في الماء المالح سبعة أيام وليال، سبعة أيام في الماء المالح حتى انتزع جلده؟ طبعا لا تعرف!
قلت: الساعة الآن الثالثة يا بربارا يجب أن أذهب.
قالت غاضبة: لن أكلمك بعد اليوم!
ورن في القاعة صوت مخيف: بربارا! لا تضايقي الهر!
وأطرقت برأسها الصغير إلى الأرض ووضعت إصبعها في فمها.
قلت وأنا أرتدي معطفي: ألا تسلمين علي؟
رفعت رأسها وقالت: هل تأتي غدا؟
قلت: بالطبع، لأسمع حكاية البحار الذي غرق في الماء المالح.
قالت: لا لا! الهر أرنست لم يغرق، ها هو يأكل هناك!
صفحه نامشخص
قلت: إلى الغد إذن.
ومدت رأسها الصغير فانحنيت وقبلتها على وجنتيها. - أوف فيدرزين! - أوف فيدرزين!
12 / 1957م
الأسد يموت
دفع العمال القفص الحديدي الكبير إلى السور المحيط بالحلبة، وتقدموا منه يعالجون الأقفال الضخمة واحدا بعد الآخر، فيدوي صوتها وهي تفتح كصليل أغلال تفك عن عبيد أو أسرى حرب، وحبس الناس أنفاسهم وهم يرون الحارس العجوز النحيل بشعره الأشيب وظهره المحني وبذلته الزرقاء اللامعة الأزرار، يتجه في خطوات مهيبة نحو القفص، وقبل أن يضع يده على الباب الكبير مد ذراعه اليمنى إلى أقصاها، بحركة يعرفها المتفرجون ويصفقون لها، ثم راح يدور حول نفسه في كل اتجاه ويلاحظ مغتبطا راضيا أن التصفيق يشتعل من الأكف المتحمسة مع كل لفتة من لفتاته، إنه يعلم بخبرته الطويلة أن التصفيق لا يدل دائما على الإعجاب، بقدر ما يعبر عن رغبة مخلصة في تشجيعه، أو في العطف عليه والرثاء له.
ومن كان أولى منه في تلك الليلة بالتشجيع أو بالرثاء؟ أليس العمدة نفسه حاضرا بين المتفرجين، ومع مشايخ البلد، ومأمور المركز، ورجال الحكومة ؟ وهل تتاح له مثل هذه الفرصة لإظهار فنه واستعراض براعته إلا مرة أو مرتين في العمر كله؟ دعا الله بالستر والأولياء الصالحين بالبركة وتقدم من القفص الكبير ففتحه بيده، بينما اليد الأخرى تمسك طرف عصاه الحديدية، ونزل الأسد العجوز من القفص بعد أن تثاءب وحك رأسه الأشقر بالقضبان وتأمل طويلا وجه الحارس، لم ينزل من القفص إلى الأرض قفزا كما اعتاد في شبابه، بل ترك نفسه يسقط عليها كمن هده التعب والإعياء، ويظهر أنه تردد طويلا وأخذ يقلب عينيه الواسعتين الجميلتين بين الأرض ووجه الحارس، فلما وجد أنه لا يسنده ولا يربت على رقبته أو كتفه، بل ينظر إليه نظرة استغاثة واستجداء، تحامل على نفسه وزحف إلى الأرض زحفا كالتمساح البطيء، مد رأسه أولا، ثم دفع مقدم جسمه بجهد كبير، وأخيرا ترك مؤخرته وساقيه الخلفيتين تلحقان بهما، وقع الأسد على الأرض ولم ينهض، قال الناس لأنفسهم لا بد أنها لعبة يقوم بها أو خدعة تمرن عليها، وازداد شكهم حين رأوا الحارس يتقدم منه وينحني على أذنه ويهمس. قال الحارس: أرجوك، شد حيلك معي. هز الأسد رأسه ونفض شعره الذهبي المهيب بقوة، ثم نظر لحظة إلى الحارس في صمت وأطرق برأسه وأغلق عينيه. مال الحارس على أذنه مرة أخرى، ولم ينس في أثناء ذلك أن يمد ذراعه إلى أقصاه في الهواء، ويتلقى عاصفة من التصفيق المنبعث عن خوف حقيقي على حياته، قال: في عرضك، قم واستر عرضي، الليلة غير كل ليلة.
لم يبد على الأسد أنه سمع كلامه أو فهمه، عاد يتطلع إلى وجهه في صمت، ثم يغمض عينيه أو يقلبهما بين وجوه الحاضرين أو يتثاءب أو يدفنهما بين مخلبيه الأماميين، ألح الحارس عليه في صوت باك وقال: وحياتك لا تكسفني، العمدة هنا الليلة، العمدة بنفسه ومعه الأعيان وحضرة المأمور، حركة واحدة من حركاتك المشهورة تخزي العين، قم الله يسترك واسمع الكلام.
بدا كأن الأسد يستجيب له، حرك ذيله عدة حركات، وفتح فمه الواسع وتأوه، ومد الحارس يده ليسنده من صدره ، ولا بد أنه بذل مجهودا كبيرا جعل الأسد يقف أخيرا على أطرافه الأمامية والخلفية، كما جعل الحاضرين يحيونه بالتصفيق والهتاف، استدار الحارس نحوهم، رفع قلنسوته الزرقاء بيد وأرسل إليهم قبلة باليد الأخرى، لكنه تمتم في سره: اللهم فوت الليلة على خير.
سار في نشاط ملحوظ إلى وسط الحلبة فدفع كرسيا عاليا ذات درجات نحو الأسد، وسحب كرباجه الطويل من حزامه ودوى به في الهواء قبل أن يهتف: يا بركة أم هاشم، تصفيق يا جماعة، يالله، وانتظر أن يتحرك الأسد ويقفز قفزته المشهورة فيكون في لحظة فوق المقعد الطويل، غير أن الأسد ظل جامدا في مكانه، يقلب فيه عينيه الحزينتين اللتين لمح الحارس فيهما برغبة في البكاء، رفع كرباجه في الهواء مرة أخرى فدوى الصوت في الحلبة، وعاد يهتف: توكل على الله، يا لله، ولكن الأسد ظل جامدا في مكانه، ولم يبق هناك شك في أنه يذرف الدموع، أراد الحارس أن يداري خجله بصنعة ماهرة، فصفق بيديه وقال وهو يلتفت للحاضرين: والآن ترون اللعبة العجيبة، اللعبة المشهورة، هيا يا رجال، هاتوا الطوق، هاتوا النار، ومد إليه عامل الطوق الحديدي من وراء القضبان، وفرقع بالكرباج في يديه لحظة فصفق المتفرجون وهم يشهقون، ثم أخرج علبة كبريت من جيبه وأشعل النار فيه، وتقدم من الأسد والطوق الملتهب في يده، غير أن الأسد رفع إليه رأسه وراح يتطلع في وجهه، وبدلا من أن يقفز قفزته المشهورة وينفذ من الطوق تهاوى على الأرض في هدوء، سكتت الموسيقى النحاسية التي مهدت للعبة الخطرة، وأخذ الناس ينظرون إلى بعضهم البعض وبدا كأن الموقف قد أفلت من يد الحارس فتقدم من الأسد في محاولة جديدة، راح يربت على شعر رأسه وكتفه ويلاطفه ويداعبه، بل لقد مال برأسه عليه وراح يلثم شعره، قال له الحارس: قم يا رجل، قم لأجل خاطري.
تأوه الأسد آهة مسموعة ودفن رأسه بين مخلبيه.
صفحه نامشخص
عاد الحارس يهمس في أذنه: قم يا رجل قم، خل الليلة تفوت على خير، العمدة هنا وحضرة المأمور، ومشايخ البلد والأعيان، يرضيك الناس تشمت فينا؟
تأوه الأسد آهة طويلة، زفر زفرة تقطع القلب، تحامل على نفسه ونهض بصعوبة، فرح الحارس وعاد يقدم إليه الطوق الملتهب بكلتا يديه، لكنه بدلا من أن يقفز منه زأر زأرة مخيفة جعلت الحارس يبتعد عنه، ولما تقدم منه من جديد هبشه بمخلبه في صدره، فوقع على الأرض وكادت النار تحرق صدره وتمتد إلى ملابسه.
صاح المأمور من بعيد: اضربوه بالنار يا عساكر، صرخ الناس وقاموا يريدون الهرب، رفع الحارس ذراعه وصاح: لا، لا، حاسبوا عليه، ابني وأنا أعرفه. عاد المأمور يهتف: اضربوه بالنار قبل ما يأكله. تقدم الأسد في خطوات بطيئة من سور الحلبة، اقترب من الموضع الذي يجلس فيه العمدة والأعيان وحضرة المأمور، وقف أمامهم قليلا ثم برك على الأرض وتأوه، صاح صوت: الأسد تعبان، مريض وظاهر عليه الموت، فتح الأسد فمه مرتين وأغلقه قبل أن يزفر ويخرج صوتا يشبه الكلام: نعم يا ولدي، تعبت وظهر علي الموت.
التفت الناس لبعضهم، خيل إليهم أنهم يسمعون كلاما كالذي ألفوه، تشجع العمدة وسأل: قل يا أسد، تكلم بحريتك.
قال الأسد: الله يحفظك يا سيدي العمدة، تعبت، تعبت، تعبت.
نهض العمدة من على مقعده وأشار للناس بالسكوت، طلب من العساكر أن تبتعد ببنادقها عن القضبان، تأكد له أن الأسد يسمعه ويرد عليه، فسأل: اطلب ما تشاء يا أسد، هل تأخذ إجازة؟
قال الأسد: إجازة؟ الله يحفظك يا عمدة.
بدا للعمدة أن الأسد يتهكم عليه، أعاد سؤاله مرة أخرى: هل تحب أن نلغي اللعبة؟ هل تعود للقفص؟
قال الأسد: تعبت يا عمدة من الأقفاص.
قال العمدة: ولكن القفص ضروري يا أسد، ضروري للمحافظة على الأمن، للمحافظة على أرواح الناس.
صفحه نامشخص
قال الأسد: وروحي أنا يا عمدة؟ هل فكرتم فيها؟
قال العمدة: بالطبع يا أسد، فنحن نكرمك ونعجب بك ونرسل لك أحسن لحم في البلد ونسميك ملك الحيوانات.
تأوه الأسد: ملك الحيوانات؟ كان هذا قديما يا عمدة، أما الآن ...
قال العمدة: والآن أيضا يا أسد، الناس تهابك والوحوش والطيور تخافك ، فأنت كما يعلم الجميع ملك الحيوانات، ملك الغابة.
قاطعه الأسد قائلا: الغابة؟ لا تذكرني بما مضى يا عمدة، أين أنا الآن من الغابة؟ إنني أموت.
قال العمدة متأثرا: الموت علينا حق يا أسد، لو سمعنا أنك مريض لأرسلنا إليك الطبيب في الحال.
قال الأسد متأوها: الطبيب؟ وماذا يفعل الطبيب في مرض العصر يا عمدة؟
سأل العمدة: مرض العصر؟ هذا شيء لم نسمع به في الأرياف يا أسد، ما هو هذا المرض؟
قال الأسد: الملل يا عمدة، الممل.
سأل العمدة: من أي شيء يا أسد؟ مع أن السيرك تحت أمرك، والأهالي معجبة بك، انظر.
صفحه نامشخص
قال الأسد: مللت السيرك والناس يا عمدة.
سأل العمدة: عجيب يا أسد، وماذا تريد؟
قال الأسد: أن تهدموا السيرك، أن أرجع لعريني وزوجتي وأولادي، أن أجري وراء الغزال والحمار الوحشي وأتعارك مع الوحوش وأنعس في الشمس كما أشاء، أريد أن أعود أسدا كما كنت في ماضي الزمان.
نظر العمدة إلى المتفرجين حوله، خيل إليه أنهم يتابعون كلام الأسد ويتعجبون، شعر أنه يتحدث بلسانهم فتشجع وقال: ولكن الناس هنا معجبون بك، إنهم لم يحضروا إلى السيرك إلا ليروك.
قال الأسد: تعبت من السيرك، تعبت من الحراس والقضبان والقفز على الكراسي العالية وفوق ظهور الخيل.
ضحك العمدة وقال: ولكنك تعلم أن هذا نظام السيرك في العالم كله.
شاركه المأمور الضحك وقال: ومنذ أن وجد الإنسان وهو يقيم السيرك ويروض الأسود، وأجدادك كانوا يلعبون أمام الرومان كما تعلم ويبهجون الناس في كل مكان.
قال الأسد: سئمت الناس، وسئمت الرومان.
سأل العمدة: ألا يرضيك أن تفرح الأهالي؟ ألا يعجبك أن يصفق لك الأطفال والفلاحون كل ليلة؟ ...
قال الأسد: تعبت من التصفيق يا عمدة، تعبت من رؤية الوجوه البائسة التي تضحك علي، ألا تراهم يخرجون من السيرك فيعودون إلى حزنهم وبؤسهم من جديد؟
صفحه نامشخص
قال العمدة: ولكن هذا هو السيرك في كل الدنيا، يدخل الناس ويفرحون ساعات ثم يرجعون إلى التعب والجري على الأرزاق.
قال الأسد: وأنا أقول لك: فرح كاذب، أريد لحظة صدق واحدة، أريد أن أعيش بلا قيود ولا أقفاص ولا عربات.
قال العمدة: ولكن لا بد من النظام يا أسد، نحن البشر أيضا لا نستغني عن القيود والأقفاص.
قال الأسد: افعلوا ما تشاءون بالبشر، افرضوا عليهم القيود وضعوهم في السجون والأقفاص، سنوا لهم القوانين كما تشاءون، ولكن اتركونا في حالنا، دعونا نرجع أسودا كما كنا، دعونا نعش حياتنا.
قال العمدة: إن بقية زملائك لا يشكون، إنهم يقفزون ويلعبون ويتعلمون، وهم جميعا سعداء بوجودهم معنا وتسليتهم لنا، الكلب سعيد لأنه يتعلم القراءة في السيرك ويدخل المدرسة، والقرد سعيد لأنه يلبس البذلة والنظارة ويزف إلى عروسه آخر الليل، والحصان سعيد لأنه يرقص على الواحدة ويحمل البهلوان على ظهره، والنمر سعيد لأنه يتعلم قفزات جديدة غير التي علمتها له الطبيعة ويكتسب فنونا عويصة لم يكن ليتعلمها بنفسه، والجميع سعداء لأنهم يسلون الأهالي ويدخلون الفرح على قلوبهم، وحتى زملاؤك الأسود في الغابة يتمنون أن يعيشوا عيشك ويتمدنوا مثلك، أليست هذه من علامات الحضارة التي أدخلناها على عالم الحيوان؟
قال الأسد: الحضارة؟ ولكنني أريد أن أتركها لكم.
سأل المأمور: وهل يعقل أن يخلو السيرك من الأسد؟ هل يقبل الناس عليه إذا عرفوا أنك لست فيه؟ إن الكلب والقرد والحصان والفيل والدب تسليهم، ولكنك تبهرهم وتوقظ فيهم مشاعر الرهبة والجلال وغموض الغابة العذراء، صدقني يا أسد، زملاؤك في الغابة يحسدونك على فنك وألعابك.
قال الأسد: وأنا أحسدهم لأنهم مازالوا أسودا، أنا ملك الغابة أصبحت عبدا، أنا سيد الوحوش أصبحت قردا ومهرجا، أنا الذي كنت كونا بأسره أصبحت أخاف من لذعة السوط وعصا الحارس ومنظر القضبان، أنا الذي كان النجم في عيني والرعد في صوتي والموت في مخلبي.
قال العمدة: ما زلنا نكن لك الاحترام من قلوبنا، ما زلت مثلنا الأعلى في العظمة والمجد والشجاعة والجلال.
قال الأسد: أرجوك يا حضرة العمدة، اتركني في حالي، أطلق سراحي، أخرجني من القفص.
صفحه نامشخص
قال المأمور: محال يا أسد، ضرورات الأمن لا تسمح بهذا، أرواح الناس.
وأيده العمدة فقال: نظام السيرك ، نظام المدنية والحضارة .
تأوه الأسد ثم زأر بصوته العميق المخيف، وقف على ساقيه الخلفيتين ومد مخلبيه كأنه يستعطف القديس القديم الذي نزع منهما الشوكة، فتح فمه مرتين ليشرب الدموع المنسابة من عينيه، وأفاق الحارس العجوز في هذه اللحظة من إغمائه الطويل وجرى فرحا إلى الأسد، عانقه وغمر عرفه الذهبي بالقبلات وهو يقول: بارك الله فيك يا ولدي، كنت متأكدا أنك ستبيض وجهي أمام حضرة العمدة وتسترني أمام الأهالي والأعيان وسعادة المأمور، جزاك الله عني خيرا يا ولدي، هيا يا سبعي، هيا إلى المقعد العالي، هيا اعرض عليهم قفزتك المشهورة من الطوق الناري، هيا متعهم وفرح قلوبهم.
تخلص الأسد من الحارس بصعوبة: تأوه وزأر زأرة خفيفة، ثم شهق شهقة خيل للحاضرين أنه يلفظ معها آخر أنفاسه.
وتهاوى على جنبه وتمرغ على الأرض وعفر رأسه الذهبي بالتراب قبل أن يقول: أنا أموت، أموت.
ثم اختلجت أطرافه وانتفض جسده لحظة قبل أن يلقي الحارس العجوز نفسه عليه.
قال العمدة: الأسد مات.
هتف المأمور والمشايخ والأعيان: مات الأسد.
أما الناس فقد تعجبوا كثيرا حين قالوا لهم بعد الخروج من السيرك إن الأسد كان يتكلم، مع أن الأسود - وهذا أمر معلوم - لا تعرف اللغة العربية، كما أن هذه اللغة - وهذا أمر معروف أيضا للجميع - لغة عويصة يصعب حتى على البشر أن يتكلموا بها كلاما مفهوما.
عبد الغفار مكاوي
صفحه نامشخص