دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرها
ردد محمود كالغائب عن الوعي وهو يناجي نفسه: الحديقة صارت خرابة، والعائلة تفرق شملها يا أبي، واحد في القبر وواحد في التيه وواجد يزحف من الغربة ومعه الأرانب التي تلتهم الخضرة. - لا أفهم شيئا مما تقول، وصوتك منخفض لا يسمع، لم تقل لي من أنت؟ - قلت لك محمود يا أبي، ابنك محمود. - هل كان لي ابن بهذا الاسم؟ أين ذهب إخوتك وأخواتك؟ - عباس توفى بعدك بشهور، وحامد غائب في الملكوت، ومصطفى ... ضحك الأب وتصاعدت ضحكاته من جوف البئر كأصداء منبعثة من بوق قديم: الوحش؟! هل ما زال وحشا كما كان؟ - بل غول يا أبي، وسيحضر قريبا وعليه عباءة قارون الذهبية. - غول وقارون؟ قل لي أولا من أنت؟!
رفع رأسه عن البئر وأخذ يلوح بذراعيه ويديه في الهواء كأنه يقف أمام حشد هائل من الطلاب في أحد المدرجات الواسعة: أنا يا أبي ابنك محمود الذي سافر إلى الخارج ...
قاطعه صوت الأب الذي يبدو أنه بدأ يتذكر: سافر وعدى البحر، أليس كذلك؟ قال حامد منتشيا برجوع الذاكرة إلى أبيه وكان قد سمع من إخوته أنه فقدها قبل وفاته: نعم يا أبي، محمود الذي عدى البحر.
قال أبوه كالمعتذر عن غلطة قديمة: نعم يا ولدي، كنت قد نسيتك تماما، وعندما كان إخوتك يذكرونني بك كنت أسميك ابننا الذي عدى البحر المالح، ورجعت يا ولدي إلى البيت والحديقة ومعك الكتب والعلوم.
قال محمود معتذرا عن غلطة أكبر: رجعت ومعي حطام دول ومدن وحضارات مندثرة، رجعت وعشت في العاصمة أعلم وأتعلم.
كان من الواضح أن أباه لم يفهم شيئا ولم يحاول أن يستوضحه عن شيء؛ لذلك عاد يسأل مرة أخرى: والبيت والحديقة يا ولدي، هل رجعت إليهما؟
قال محمود محاولا أن يطمئنه: رجعت كثيرا يا أبي، في كل مناسبة هامة كنت أفتح البيت الذي آل إلي من تركتك، ثم أعود في الصباح إلى عملي وعائلتي في ... قال في غضب: وعائلتك التي هنا؟ لماذا لا ترجع إلى الأصل؟ لماذا لا تفتح البيت وتزرع الحديقة؟
سمع محمود دقات خفيفة على الباب فأسرع يقول لأبيه قبل أن تختفي صورته من عمق البئر: رجعت يا أبي، أمس رجعت إلى الأصل وفي نيتي ... انفتح الباب وواربته يد بيضاء طويلة الأصابع لحظات قبل أن يطل عليه وجه زوجته أنيسة ويصله صوتها الممدود ببحته المحبوبة: صح النوم. كانت حبال الصور والكلمات تتداعى عليه وتلتف حوله كأنها سياط عاتية تلطم وجهه وعقله وذاكرته، فأسرع يهتف بأبيه: رجعت يا أبي، لكن الناموسة لدغت ابنتي ولا بد أن أسافر اليوم، نعم، نعم، لا بد من السفر اليوم.
دخلت أنيسة عليه وعلى وجهها الأبيض المستدير أمارات القلق المعتادة. اقتربت منه وهو يتلفظ بالكلمات الأخيرة كأنه يقدم كشف الحساب لدائن مجهول. قالت باسمة: صح النوم، نسيت نفسك كالعادة، ومع ذلك تقول لا بد من السفر اليوم. سألها محمود وهو يحييها تحية الصباح ويهز رأسه ليبعد الصور التي التصقت به: هل سمعتني أقول هذا؟
قالت ضاحكة وهي تستعجله أن يرتدي ملابسه: وتقول يا أبي، يا أبي، والناموسة.
صفحه نامشخص