دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرها
ودار محمود بعينيه الغائرتين في المكان فلم يتبين شيئا، وخطا خطوة أو خطوتين وفتح عينيه جيدا، ومال بهما إلى حيث يأتي إليه بعض شعاع ظل يدافع موج الظلام طويلا حتى أدركته عيناه.
وهناك وجد اللمبة نمرة «5» كما تركها منذ قليل، معلقة على المسمار في الركن القصي، وعلى زجاجتها هذا الهباب الأسود الثقيل الذي لا يغادرها أبدا.
كان كل شيء في هذه القاعة (التي لم يكن يكره في دنياه شيئا مثل أن يسميها بالغرفة، وكيف لا ؟ أوليست أكبر من هذه وأرحب مسافة؟) كما تركه هامدا جامدا، قد شنقته حبال الصمت. أما زوجته فها هي كما تركها وراءه منذ لحظة، والقاعة تموج بالناس، ساكتة كالسكوت، حية كالميتة، صاحية كالنائمة، وإن محمودا ليستطيع أن يجزم في نفسه بأنها لم تحرك حتى رموش عينيها، واقترب منها حتى كاد يلامسها، وظل واقفا حتى تعبت قدماه، وأراد أن يحرك يديه فيعلو بهما إلى فوق ثم يهبط بهما قليلا، لعل ذلك أن يوحي بالحزن، وأراد أن تتحرك شفتاه المقفلتان بصوت، ببحة خافتة، بصرخة تسمعها امرأته، ترفع إليه وجهها، وتقول له في صوت لا يمكنه أن يسمعه: «إنني أشكرك يا محمود»، وأراد محمود أن يتنهد بملء صدره، أن يخرج الهواء من رئتيه قويا لافحا يشبه الريح الساخنة، الزافرة، فتومئ إليه امرأته، وتهدهد رأسها وتقول له اجلس إلى جانبي، فقد أتعبتك بالحزن كثيرا، وود محمود لو يستطيع أن يلقي هذا الثقل الذي احتمله على كتفيه مسافة بعيدة، وها هو يعود بعد أن أفرغه من جسد كان فيه، أراد أن يقذف بهذا القماش الطويل العريض، المشئوم، على الأرض، فتلتفت إليه امرأته، وتصنع له شكرا.
وانكمش محمود بجسمه الطويل في بطء، وأراد أن يبرر فعلته، ويفسره لنفسه، فأقعى أمام امرأته ومد ذراعيه النحيلتين كالعصوين الجوفاوين وخفض رأسه حتى لقد كادت أن تلمس الأرض، واستند بخده على ذراعها، وأخذ يضغطه عليها ضغطا خفيفا ثقيلا، ثم تمتمت شفتاه في صعوبة «ز... ي... ن... ب» وما كاد يلفظها حتى أحس بيدها تبحث عن يده، حتى إذا وجدتها ضغطت عليها في رفق، وقنع محمود بذلك، فأخذ يهز رأسه الهزيل المعروق، ويترنح به يمنة ويسرة يريد لو يستطيع أن يخرج لسانه الذي لا يحسن كلمة واحدة أن يبل به كفيها، وكل قطعة من فستانها الأسود الكالح في السواد، ثم هب واقفا على قدميه، ودار على نفسه دورة أو دورتين، ثم ألقى بالأكفان التي أتعبت كاهله في الركن الأجوف المنور من القاعة، ومد يديه في فجوة يعرفها جيدا ويحتجزها له وحده فأخرج لباسا أزرق شديد العتمة، أخذ يعالجه حتى وضع فيه جسده، ودار على نفسه دورة أو دورتين ثم دلف إلى الباب ففتحه في عناء، وأغلقه من خلفه في عناء كذلك.
2
كانت «زينب» حين غادرها زوجها، وحين عاد إليها، جالسة على الحصيرة البالية، مستندة على حائط الفرن العتيق، وكانت عيناها قد دارتا في المكان، وتعلقتا بكل ما يحتويه، وتوقفتا عند كل شيء فيه، عند هذه الكنبة الملقاة في جانب منه، عند هذه اللمبة «5» التي ما انفك الناموس يطنطن من حولها، والهباب الأسود يحجب زجاجتها شيئا فشيئا، عند هذه الوسادة التي كانت أمها الميتة مسجاة عليها في أول النهار، عند هذا القماش الفضفاض المكوم في ركن من القاعة والذي ألقاه زوحها عن كتفيه منذ قليل. غير أن هذه الأجسام كلها لم تستطع أن تخطر ببالها فكرة واحدة، ولم ترجع بها إلى ذكرى من الماضي واحدة، ولم تربط بينها وبين أمل أو خوف، أمل واحد، أو خوف واحد. وحاولت زينب أن تجد شيئا يحمل إليها ما يميز بينها وبين هذه الأشياء جميعا. جهدت في أن تلتمس شيئا، فكرة، حركة، فعلا، يضع بينها وبين هذه الأشياء كلها سورا فارغا، ولم تقدر على أن تجد ما يقول لها، ويصرخ في أذنها: أنت زينب، وهذا الجدار الذي استند عليه جسدك منذ الصباح ليس وإياك شيئا واحدا. وأحست أنها لا بد أن تفعل شيئا، وأنها لا بد أن تجد في وعيها دفعة واحدة تنأى بها بعيدا عن هذا الفرن الذي يكاد أن يصهرها ويأكل بالنار جسدها وعظمها وفكرها، وتذكرت أنها جائعة، وأن أمعاءها قد تقلصت وتقبضت ولم يعد بد من أن تلقي إليها بلقمة أو لقمتين، فشالت ظهرها عن الحائط، وارتكزت بيديها على الأرض ثم نهضت على قدميها المخدرتين المتململتين، وخطت خطوة واحدة إلى القفة المعلقة بالحائط وأخرجت منها رغيفا كانت قد أكلت بعضه، ومرت به على جلبابها تمسح عنه السواد العالق به، وأرادت أن تعود إلى حيث كانت قابعة، وتعلقت عيناها «بمخدة» وراء الباب، وترددت كثيرا قبل أن تمد إليها يدا، وتلفتت حولها كأنها ترى عينين مفتوحتين ترقبانها في الظلام، ولكنها لم تحفل بشيء، فانتزعت المخدة المطوية، وقعدت عليها، وأسندت ظهرها إلى الفرن، وراحت تلوي في فمها لقمة خشنة فتحدث صوتا خشنا.
3
على هذه المخدة نفسها جلس أبوها حين كانت صغيرة، نعم، لقد كان ذلك منذ زمان طويل، ولقد تعلمت منه أن هذه المخدة له وحده، وأن صوته الخشن المتحشرج لا يزال يطرق أذنها قويا، منذرا، متوعدا: «زينب، حذار أن يقترب أحد غيري من المخدة.» يوصيها بذلك في أول النهار، حين يتأهب للخروج كعادته، وفي آخر النهار حين يتربع عليها ثم يتنحنح ويعطس ويخرج أصواتا غريبة تسعى إلى أذنيها دائما من النوم الذي يرنق أجفانها. هل كانت هذه المخدة حجابا من الأحجبة التي لا ينفك أبوها يحشده بالأسرار؟ هل كانت حرما مقدسا يضاف إلى المقدسات التي ملأ بها أبوها عليها هذه الحجرة ولو شاء لما ترك من العالم حيزا من المكان لم يضع فيه محرما؟
وذكرت زينب ذلك كله، ثم تحسست هذا الشيء الناعم الداني من تحتها، وتذكرت أباها.
4 - أمي، ذا هو أبي قد عاد. - كيف عرفت؟ - آخ. تف. يخرجها من فمه ومن أنفه، حين يكون على رأس شارعنا، إن أذني تتعرف عليهما في كل يوم، أليست هذه علامة كافية؟ - آه يا ابنتي، كم أحس بالجوع! ليته يعود «بالبقجة» وفيها أثر من الزاد.
صفحه نامشخص