دموع البلياتشو
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
ژانرها
قال له سمير بأسف عميق: اطمئن تماما يا عمي، بحثنا كل شيء تتصوره، سألنا في الشهر العقاري واكتشفنا أن عم مصطفى لم يسجله، لا بد أنك كنت مشغولا وكلفته بذلك.
قال محمود كأنه يناجي نفسه: ومع ذلك نثق به؟
قال سمير: أنا من ناحيتي واثق تماما ومالي يدي منه، لقد تغير عم مصطفى، وهو يريد أن يرجع بزوجته وابنه نهائيا، هو أيضا يريد الرجوع للأصل، الظاهر أن الأحوال هناك ... قال محمود: طبعا طبعا، ولكن ...
وفوجئ بصادق يقترب منهما بوجه باش تعلوه ابتسامته الدائمة: لا لكن ولا يحزنون، أصبحت مؤرخ المستقبل يا بطل! وقهقه بصوت عال ثم شده من كم سترته وأسر له باهتمام: نورة حرارتها طالعة نازلة، لا تنزعج، لكن رأيي أن تسافروا غدا بالسلامة وتعملوا التحليلات اللازمة بأسرع وقت، الحالة هنا كما تعلم.
سأل محمود في قلق: هل تشك في شيء؟ تيفود مثلا؟ - لا أخفي عنك، وربما تضطر لعملية عاجلة، اللوز محتقنة جدا، لكن هذا يتوقف على التحليل ورأي الجراح، مع السلامة الآن، نراكم بخير، السفر من صبيحة ربنا! لا تتأخر، ومبروك!
ومضى مسرعا قبل أن يتمكن محمود من الكلام أو السؤال، وجاء الضيفان فطلبا الاستئذان حتى يتركا له الفرصة للراحة. ضحك سمير وهو يعانقه ويقول: ربنا يحفظك ويبارك فيك ، كانت جلسة عائلية في ضوء القمر. إن شاء الله تتكرر، نظر إليه متشككا لحظة، ولما شعر بأن يد المحامي تمتد نحوه صافحه وشد على ذراعه بعد أن رآه ينحني باحترام ويقول: وفي حديقة أبيقور الجديدة بإذن الله، سهرناكم وأتعبناكم، اطلع حضرتك الآن لتستريح، سنتصل بكم في أقرب وقت.
لم يقل شيئا، ودعهما بعيون ذاهلة طافت بالحديقة الصامتة المجدبة، ثم استقرت عند المدخل المؤدي إلى السلم، قال لنفسه وهو يتجه إليه ويضع يده على الترابزين الخشبي: من يدري إن كانت هذه آخر مرة أصعدك!
8
وقف لحظات في بئر السلم ويده على الترابزين، كان الصمت يلفه من كل ناحية إلا من نقيق ضفادع في الترعة القريبة ونباح كلب يتردد بإصرار يائس، وربما أغاظه القمر المتلألئ في السماء الصافية وكأنه يتربص به ويطارده. لم يجد في نفسه رغبة في النوم، إذ تحركت فيها رغبة أقوى في استطلاع أحوال المنطقة ومعالمها بعد غيبته الطويلة، بجانب الميل الدفين أو المرض الحميم في الانفراد بنفسه التي تفتت شظايا تحت معاول الثرثرات الطويلة والأحلام المريبة والصراعات والوعود الغامضة.
نظر إلى الحديقة فأغمض عينيه وانقبض قلبه. كانت أم عبده ترفع الأطباق والأكواب وتنحني وتقوم وتدور حول نفسها وهي تنظف المكان وتبدو كشبح يغمره ضوء علوي غريب. خرج في سكون ودار حول سور الحديقة فوجد نفسه في مواجهة البيت الذي أعطاه ظهره ووقف شامخا محني الظهر كعجوز من زمن آخر، وراح يمد بصره في أرجاء المكان وعلى امتداد الأفق، هكذا يتغير كل شيء ونحن لا نتغير ولا ندري! المنطقة دخلت - كما يقولون - في كردون البلد ولم يبق من مساحات الخضرة المترامية إلا مستطيلات ومربعات قليلة طغت عليها المباني الجديدة والإنشاءات الجارية، بيوت الفلاحين التي كانت على بعد خطوات من البيت اختفت وحلت محلها أكواخ مؤقتة لعمال البناء، وهل ينسى أنه دخل مرة أحد هذه البيوت عندما أخذته الشهامة في إحدى زياراته للبلد وحضر وفاة قريب لأبيه ومشى في جنازته وشارك في تلقي العزاء وإلقاء العبارات المحفوظة؟ وهناك مبان عديدة يحوطها سور واحد - أهي مدرسة جديدة أم معهد ديني أم مضرب أرز أم مصنع أم ...؟ وفي كل مكان حفر وأكوام رمل وقطع أخشاب وطوب محروق وفوارغ أكياس وشكائر أسمنت سيغرز في أحشاء الأرض ويقتل المزيد من الخضرة، وعلى البعد في الطرف الجنوبي الأقصى اختفت السراي بمبناها الرئيسي الصاعد إلى الأفق كبرج قلعة أو كاتدرائية عتيقة، كما اختفت الأسوار التي كانت تطوقها وعليها أبراج أصغر ذكرته كثيرا بحصون العصر الوسيط. كل شيء تغير بينما كنت تتأمل وتنظر وتنتظر!
صفحه نامشخص