52

دموع البلياتشو

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

ژانرها

تنهد حامد بارتياح: فأنت تعذرني إذا رجعت إلى الأصول، تعلم خيرا من غيرك أنني نذرت حياتي لتعلم القرآن وتعليمه، تركت السياسة لأهلها ورجعت لمن إليه المصير.

قال محمود: وأنا يا حامد سويت حالتي وقررت مثلك أن أرجع للأصل وأبدأ من جديد.

ضغط حامد على يده وهو يقول: أرأيت؟ لا فرق بيننا، فكلانا غريب.

رفع محمود يده مسددا إبهامه في وجهه كأنه يحذره: الفرق كبير يا حامد، أنا رجعت إلى هنا لأفعل شيئا لأهلي وأهل بلدي، وأنت تعيش معهم وأنت غريب عنهم. قال حامد مستنكرا: من قال لك هذا؟ إنني أستظل بشجرة القرآن، من يريدني يعرف مكاني، ومن يهده الله يفء إلى ظل شجرته. ثم فجأة كأنه يغلق بابا لا فائدة من دخول الغرباء منه: هل تعلم من الذي زارني أمس؟

قال محمود مستفسرا: من؟

قال حامد: ابن أخينا عليه رحمة الله.

اتسعت عينا محمود وفمه من الدهشة: سمير؟ زارك ليجلس تحت الشجرة؟

قال حامد مبتسما: بل ليأخذ رأيي في الحديقة. سأل محمود في قلق: الحديقة؟! قال حامد موضحا: أجل، أجل، جاء ومعه مشروع كبير، في الحقيقة أكثر من مشروع. تعلم أنني لا أفهم في هذا.

ضرب محمود كفا بكف: وأنا آخر من يعلم؟! ألست أكبركم سنا؟ أليست الحديقة ملكي بعد أن ...

سكت حامد لحظة واحتقن وجهه ، بدا على قسماته المتوترة ألم شديد يحاول كتمانه، قال في هدوء وهو يرفع عينيه ويثبتهما في وجه شقيقه: مفهوم، مفهوم، أرجوك أن تعفيني. أحس محمود بما يدور في ذهنه، قدر مدى العذاب الذي يعتصره منذ أن بدأ يتكلم عن الحديقة، ربما تراءت لخياله نفس الصورة التي تراءت لأخيه، وأثارت دوامة الذكرى البعيدة التي جاهد ليخفي وقعها العاصف في نفسه، وهل يمكن أن ينسى ذلك المساء الذي خرج فيه حامد من باب الحديقة التي اجتمع فيها شمل الأسرة ولم يعد إلا بعد الإفراج عنه ووفاة أبيه؟ هل يمكن أن يصم أذنيه عن أصداء الحمم التي قذفها أبوه على رأسه في ذلك اليوم البعيد، أو عن أصداء البكاء والعويل الذي انخرطت فيه أمه وهي تستعطفه أن يرحم ابنه ويرحم قلبها المريض؟ والأب يهدر باللعنات على رأس الابن العاصي المطرود إلى الأبد، والأختان تقفان عاجزتين عن النطق وعن إيقاف المطر المنهمر على خدودهما المصفرة، والابن الضال يرد اللعنة في لحظة طيش مجنون، وشمل الجلسة العائلية يتفرق وتكتسحه حالة من الذعر، والجميع يتسللون واحدا بعد الآخر: الأختان مع الأولاد والزوجين من باب الحديقة، والأخوان الأكبر والأوسط كل يبحث عن ركن يخفيه، ومؤرخ الماضي والمستقبل يهرب إلى الكوخ الصغير الذي رصت فيه لعبه وأوراقه وأقلامه، وتحجر الصمت بين الأخوين لحظات خيل إليه أنها امتدت دهورا، ففكر محمود طويلا في مبادرة أخيه بالكلام قبل أن تجرفه الذكرى إلى جروح أخرى، جروح يبدو أنها لم تندمل تماما، ولم يستطع بلسم التقوى والاعتكاف أن يوقف نزيفها ويمحو ندوب أهوالها التي لقيها في المكان الصحراوي البعيد الذي لا يجرؤ على مجرد التفكير في اسمه.

صفحه نامشخص