دین: بحوث ممهدة لدراسة تاریخ الادیان
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
ژانرها
وإن كان المقصود اعتماد الدين على السلطان الأدبي للمجتمع، بمعنى: أن الحياة الاجتماعية من شأنها أن تطبع الأفراد بطابع واحد، وأن تجعل منهم وحدة متجانسة التفكير، متشاكلة العوائد والعقائد، بحيث يعد الشاذ عنها مذموما منبوذا، فهذا إن صح - إلى حد ما - في الجماعات «البدائية» المحصورة في نطاق ضيق، لا يسري حكمه على سائر المجتمعات؛ فنحن نرى الأمم والشعوب في كل عصر تضم تحت أجنحتها العقائد المختلفة، والنظم المتفاوتة، ولا يحول ذلك دون تعاون الجميع في مرافق الحياة العامة، وتساندهم في الواجب الوطني المشترك.
أما إذا كان المقصود سلطان العقيدة على نفوس معتنقيها أنفسهم، فلا ريب أن هذه ميزة تستأثر بها الديانات؛ وليس للفلسفة أن تطمح إلى نيلها، وإلا لجاوزت طورها، وتناقضت في نفسها؛ لأن حقيقة الفلسفة هي «محبة الحكمة» أو «الرغبة في المعرفة»، ووظيفتها البحث عن الحقيقة بقدر الطاقة البشرية، وعرض ما تظفر به من جوانب تلك الحقيقة، والفيلسوف هو أول من يعرف قصور العقل البشري، وقصور كل ما هو إنساني، عن درجة الكمال، ولذلك كان التسامح والتواضع العلمي من أظهر خصائصه، وهذا سقراط يضرب لنا أروع الأمثال في ذلك، حين يقول: «الشيء الذي لا أزال أعلمه جيدا هو أنني لست أعلم شيئا.»
أما الفكرة الدينية فإنها - في مختلف مظاهرها ودرجاتها - تفترض أن ما تقرره في شأن من الشئون مستمد من سر الوجود، وأنه يمثل حقيقة الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر، فهي بطبيعتها ملزمة، تتقاضى من صاحبها الخضوع والتسليم ولا تقبل منه في حكمها جدالا ولا مناقضة، بل لا تبيح له في نفسها بحثا ولا ترديدا، فإن فعل ذلك في مسألة ما، كان في هذه المسألة بعينها متفلسفا غير متدين، حتى يستقر فيها على رأي معين ويدين به، فهنالك لا يقبل فيه مساومة ولا يستطيع منه تحللا؛ إذ يصبح عقيدة يخلص لها إخلاصا خارقا للعادة، حتى لا يبالي أن يضحي في سبيلها بحياته، ولا نكاد نجد هذا السلطان على النفس لفكرة أخرى: علمية، أو سياسية، أو غيرها.
فإذا أردنا البحث عن السر في هذه الظاهرة العجيبة، فإننا نجده لو أمعنا النظر في الفرق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإيمان، وفي الفرق بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة، والقوة النفسية التي تقوم بوظيفة الإيمان. فالواحد من الناس قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير محس بآلامها، وقد يفهم معنى الحب والشوق وليس من أهلهما، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره، ويقف على دقائق صنعه، ولكنه لا يتذوقه، ولا يتملك قلبه الإعجاب به. وقد يعرف لفلان فضل عقل أو حزم، أو أدب أو سياسة، أو أولئك جميعا، ولا يشعر نحوه بعاطفة ولاء، ولا رابطة مودة، بل يكاد يغص فؤاده بهذه الفضائل حقدا وحسدا، ويكاد ينكر قلبه ما تراه عيناه.
هذه كلها ضروب من العلم والمعرفة يهديها إلينا الحس، أو الفكر، أو البديهة، أو الحدس، فتلاحظها النفس وكأنها غريبة عنها، أو تمر بها عابرة فتمسها مسا جانبيا لا يبلغ إلى قراراتها، أو تختزنها وتدخرها، ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها. كل حالة نفسية تقف بالأفكار والمبادئ عند هذه المراحل ليست من الإيمان في قليل ولا كثير، الإيمان معرفة تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير، وتختلط مادتها بشغاف القلوب فلا يجد الصدر منها شيئا من الضيق والحرج، بل تحس النفس فيها ببرد وثلج.
إن الإيمان تذوق ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل إلى قرارة القلب، فيجعلها للنفس ريا وغذاء يدخل في كيانها، ويصبح عنصرا من عناصر حياتها، فإذا كان موضوع الإيمان الحقيقة الكبرى، والمثل الأعلى، فهنالك تتحول الفكرة قوة دافعة، فعالة، خلاقة، ولا يقف في سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به حتى تبلغ هدفها.
ذلك هو فصل ما بين الفلسفة والدين، غاية الفلسفة المعرفة؛ وغاية الدين الإيمان، مطلب الفلسفة فكرة جافة، ترتسم في صورة جامدة؛ ومطلب الدين روح وثابة، وقوة محركة.
لا نقول - كما يقول كثير من الناس - إن الفلسفة تخاطب العقول، وإن الدين يخاطب القلوب ويستهوي المشاعر، غير مبال بمبادئ المنطق وقواعد العلم، أو كما قال القديس أوغسطين
St. Augustin : «أومن بهذا لأنه محال
Credo quia absurdom » فذلك وصف لا ينطبق على كل الأديان، ولكنا نقول: إن الدين في كل أوضاعه لا يقنع بعمل العقل قليلا أو كثيرا حتى يضم إليه ركون القلب.
صفحه نامشخص