عرض سريع لتاريخ علم الأديان
المبحث الأول: في تحديد معنى الدين
1 - المعنى اللغوي
2 - المعنى العرفي
3 - تحليل الفكرة الدينية في نظر المتدين من الوجهتين الموضوعية والنفسية
4 - العناصر النفسية
المبحث الثاني: في علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب
1 - الدين والأخلاق
2 - الدين والفلسفة
3 - الدين وسائر العلوم
المبحث الثالث: في نزعة الدين، ومدى أصالتها في الفطرة
1 - مدى أقدمية الديانات
2 - مصير الديانات أمام التقدم العلمي
3 - ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية
4 - وظيفة الأديان في المجتمع
المبحث الرابع: في نشأة العقيدة الإلهية
1 - العوامل الأولى لإيقاظها في النفوس ودعائمها في العقل الغريزي
2 - عواملها في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد
3 - الوضع التاريخي للمسألة
4 - الوضع التعليلي للمسألة واختلاف المذاهب فيه
5 - نظرة جامعة
المراجع
عرض سريع لتاريخ علم الأديان
المبحث الأول: في تحديد معنى الدين
1 - المعنى اللغوي
2 - المعنى العرفي
3 - تحليل الفكرة الدينية في نظر المتدين من الوجهتين الموضوعية والنفسية
4 - العناصر النفسية
المبحث الثاني: في علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب
1 - الدين والأخلاق
2 - الدين والفلسفة
3 - الدين وسائر العلوم
المبحث الثالث: في نزعة الدين، ومدى أصالتها في الفطرة
1 - مدى أقدمية الديانات
2 - مصير الديانات أمام التقدم العلمي
3 - ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية
4 - وظيفة الأديان في المجتمع
المبحث الرابع: في نشأة العقيدة الإلهية
1 - العوامل الأولى لإيقاظها في النفوس ودعائمها في العقل الغريزي
2 - عواملها في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد
3 - الوضع التاريخي للمسألة
4 - الوضع التعليلي للمسألة واختلاف المذاهب فيه
5 - نظرة جامعة
المراجع
الدين
الدين
بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
تأليف
محمد عبد الله دراز
عرض سريع لتاريخ علم الأديان
(1) مقدمة
كلمة «تاريخ الأديان» كلمة معربة عن لغة الفرنجة.
والتسمية بهذا الاسم مستحدثة؛ لم تعرفها أوربا إلا عند فجر القرن التاسع عشر.
على أن الحديث عن العقائد البشرية هو في جوهره شأن قديم؛ معاصر - لاختلاف الناس في مللهم ونحلهم - تتسع مادته حينا وتضيق حينا؛ بمقدار تعارف أهل الأديان فيما بينهم، ووقوف بعضهم على مذاهب بعض. كما يختلف طابعه ووجهته، مسايرة لتشعب نزعات الباحثين وأهدافهم.
ولو أننا تتبعنا سلسلة الحديث عن الأديان من عهد الفراعنة، فاليونان، فالرومان، فالمسيحية، فالإسلام، فالنهضة الحديثة؛ لاستطعنا، أن نتبين اختلاف صوره فيما بين العصر والعصر، بل ربما بين الفترة والفترة، من فترات العصر الواحد. (2) العصر الفرعوني
لم يصل إلى أيدينا سجل جامع دون فيه قدماء المصريين دياناتهم وديانات جيرانهم، ولكن البحوث الأخيرة أثبتت إثباتا لا يخالطه وهم أن المصريين منذ ألوف السنين قبل ميلاد المسيح - عليه السلام - بدءوا يسجلون عقائدهم وعوائدهم ووقائعهم، وألوان حياتهم، أقوالا متفرقة، مسطورة في قراطيس البردي، أو منقوشة على جدران المقابر والمعابد. وأنهم تركوا إلى جانب ذلك مجموعات عظيمة من التماثيل المنحوتة، والأجساد المحنطة، لملوكهم ورؤسائهم ومقدساتهم من الطير والحيوان والأناسي، وغيرها، وكذلك صنعوا في شأن الأقاليم التي افتتحوها (كبلاد النوبة وسوريا والعراق وغيرها).
وعلى قدر سعة فتوحهم اتسعت صدورهم لمختلف العقائد، فتركوا لكل إقليم حريته في تقديس ما شاء، واتخاذ ما شاء من الرموز الموضعية.
وامتدت روح التسامح هذه إلى مدارسهم الفلسفية الدينية، فكان عمل هذه المدارس هو محاولة التوفيق بين تلك المقدسات والمعبودات، بافتراض أنها أسرة واحدة يرتبط بعضها ببعض، ارتباط الزوجية أو الولادة، بحيث يتألف منها مجموعات: «ثالوث» أو «تاسوع» أو عدد أدنى من ذلك أو أكثر.
ولم يشذ عن هذا الطابع إلا عصور قليلة كانت تنزع إلى الانتصار لبعض العقائد، والمقاومة لبعضها، ومن أمثلة ذلك ما صنعته مدرسة «عين شمس»، حين حاولت إبطال كل عبادة إلا عبادة إله الشمس، وما صنعه الملك «أمنحوتب الرابع» الملقب بأخناتون، حين ثار على كل المظاهر الوثنية، فمحا الصور وأزال التماثيل من المعابد، وأمر بعبادة إله واحد ذي مظهرين: «الشمس» في السماء و«الملك» على وجه الأرض.
غير أن هذه الثورات لم تدم آثارها طويلا، وكانت السنة الغالبة لدى الملوك والكهان، هي تأليف قلوب أتباعهم ورعاياهم، بتمكينهم من ملء المعابد بتلك الأسماء والرموز المختلفة.
1 (3) العصر الإغريقي
لم يبق الآن مجال للشك في أن القدامى من علماء اليونان وفلاسفتهم تخرجوا في مدرسة الحضارات الشرقية،
2
والحضارة المصرية بوجه أخص.
وليس معنى هذا أن الإغريق كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق ومعارفه نقلا حرفيا ، فذلك ما لا يستسيغه عقل، ولم يقم عليه دليل من صحيح النقل، ولكن المعنى أنهم لم ينشئوا هذه العلوم إنشاء على غير مثال سابق - كما ظنه بعضهم - بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيرا.
وإن قدماء اليونان أنفسهم يذهبون إلى الاعتراف بهذه التلمذة إلى القول بأن عظماءهم أمثال فيثاغورس وأفلاطون مدينون بأرقى نظرياتهم إلى المدرسة المصرية. والناقدون المحدثون وإن استبعدوا حصول نقل حرفي لهذه النظريات لم يسعهم إلا التسليم بتبعية هؤلاء الفلاسفة، في الدين والأخلاق، للنظريات المصرية.
3
أقدم الآثار الأدبية التي حفظها لنا التاريخ عن العصر الإغريقي ينتمي إلى ما حول القرن العاشر قبل الميلاد المسيحي، وأشهر هذه الآثار الديوانان المنسوبان إلى هوميروس
Homere :
4
أعني الإلياذة
، والأوديسا
،
5
وهما سلسلتان من القصص الشعري عند قدماء اليونان، نرى فيهما صورة مغامراتهم في الأسفار، وبلائهم في الحروب وتنافسهم في الغنائم والأسلاب، وما كان ينزل بهم من عجيب النوازل العامة والخاصة. غير أنه لا يكاد يخلو شأن من هذه الشئون - دقيقها وجليلها - من ذكر أسماء آلهتهم وآلهة خصومهم، ووصف القربات والضحايا والتوسلات التي كان يتوجه بها كل مظلوم أو مكروب إلى إلهه، وذكر ما يجري - في زعمهم - بين آلهة السماء حين تتشاور فيما بينها، وحين تتنازع وتنقسم آراؤها في الانتصار لهذه الفريق أو ذاك ... إلى غير ذلك.
وهكذا تتميز هذه المرحلة: (1)
بضيق رقعة البلاد والأمم التي يتناولها الوصف. (2)
وبأن شئون الأديان فيها إنما تساق عرضا في ثنايا الشئون الحيوية الأخرى. (3)
وبما تتسم به رواياتها من الطابع الأسطوري والتمثيلي الذي يستمده الكاتب من خياله وأسلوب تفكيره في تعليل الحوادث والنوازل.
يلي هذه دور الرحلات للمؤرخين الوصافين أمثال هيرودت
Herodote (المتوفى في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد)، وهذا الدور وإن كان كسابقه لم يفرد فيه للأديان تأليف مستقل، حيث كان الحديث عنها يمزج بالأوصاف الإقليمية وغيرها، إلا أن الاعتماد فيه كان على المشاهدات لا على التخيلات، كما أن نطاق البحث فيه كان أوسع؛ فقد شمل ديانات آسيا الصغرى ومصر، وبابل، وفارس وما يتاخمها، وامتاز أيضا بطابع المقارنة بين معبودات الإغريق، ومعبودات غيرهم مقارنة تميل إلى تفضيل وجهة النظر المصرية، وإلى نقد الأخطاء التي كان يقع فيها عامتهم بسبب الاشتراك اللفظي، حين يكون الاسم الواحد (مثل هيرقيل
Hercule ) علما على إله أزلي، وعلى بطل من أبطال البشر.
ولقد كانت فتوح الإسكندر المقدوني (المتوفى في الربع الأخير من القرن الرابع ق.م) سببا في انفساح مجال المعرفة لأديان أخرى؛ حيث وصلت جيوش الإسكندر إلى الهند وكتب عنها ميجاستين
Megasthenes (القرن الثالث قبل الميلاد).
إلى جانب هذه الدراسات الوصفية لمختلف الأديان المعروفة إذ ذاك، قامت دراسات نقدية فلسفية تهدف إلى تمحيص حقيقة الدين بوجه عام في ثنايا البحث عن حقائق الأشياء، وأحق الأسماء بالذكر في هذا الضرب من البحث اسم الفيلسوفين العظيمين: أفلاطون
(آخر الخامس قبل الميلاد وأول الرابع قبل الميلاد) وتلميذه أرسطو
Aristote
6 (الرابع قبل الميلاد)، وكان من مذهبهما أن السبب الأول الأزلي بإطلاق المبدأ لكل حركة وتغيير ليس هو المادة، بل روح عاقل مدبر متصرف
7
في المواد، وأن العقائد والفلسفات كانت في بدايتها نقية نبيلة ثم تطورت تطورا تنازليا،
8
وأن الفضيلة وسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
9
وإلى هذين الفيلسوفين - ومن قبل ذلك إلى معلمها سقراط
Socrate (أواخر الخامس قبل الميلاد) - يرجع الفضل في تأسيس الفلسفة التحقيقية الإيجابية - التي تعترف بوجود حقيقة ثابتة للأشياء وبإمكان العلم بها - وفي تفنيد مذاهب الجحود والعناد التي تنكر وجود أية حقيقة ثابتة، وتدعي استحالة العلم بها أو تعليمها - على فرض وجودها - تلك المذاهب التي كان يروجها السوفسطائية، وهم قوم أوتوا الجدل والمغالطة والتمويه، واتخذوا الفلسفة صناعة كلامية يؤيدون بها المتناقضين على السواء، ويهدمون بها كل العلوم حتى بداهات العقول، ملتمسين بهذا السحر البياني وهذه المهارة في قلب الأوضاع لنيل ما استطاعوا من جاه وثروة وسلطان.
ثم خلفت خلوف انتسبوا إلى أفلاطون ومدرسته
L’Academie ، التي امتد اسمها إلى القرن الأول قبل الميلاد، ولكنهم لم يكونوا جديرين بهذه التسمية؛ إذ بعدوا عن مذهب إمامهم، وكانوا إلى الشك أقرب
10
منهم إلى اليقين بوجود حقائق الأشياء.
وسرعان ما مهدوا بهذا الفتور لظهور مذهب التشكيك الصريح، المعروف باسم اللاأدرية
Sceptcisme ، وهو المذهب الذي أعلنه بيرون
في عصر الإسكندر المقدوني، وكان بيرون في أول أمره سوفسطائيا، ثم سئم الجدل والنقاش، وأخذته الحيرة في الاختيار بين الفلسفة الإيجابية التي تقرر وجود حقيقة ثابتة قطعا، والفلسفة السلبية التي تنكر جزما هذه الحقيقة، فلما تعارضت عليه الأدلة لم يجد منها مخرجا إلا بالتوقف
11
عن الحكم.
فإذا ما تركنا مذهبي الإنكار والتشكيك وعدنا لنتابع سير الفلسفة الإيجابية في اليونان؛ وجدنا أن الصفحة الناصعة فيها طويت بانقضاء عهد أرسطو وانقسام ملك الإسكندر، وأن الذي ظهر منها بعد ذلك كان في عامة الأمر مذاهب شاذة متطرفة في الناحيتين النظرية والعملية.
أما في الناحية العملية «مبادئ الأخلاق» فكان مذهب أبيقور
Epicure (من منتصف القرن الرابع إلى أوائل القرن الثالث قبل الميلاد) يمثل الطرف الأدنى؛ إذ كان يقرر أن شعور اللذة والألم - جثمانيا أو عقليا أو روحيا - هو المعيار الوحيد للخير والشر، والمقياس الفذ للفضيلة والرذيلة.
وكان مذهب زينون
Zenon
12 (القرن الثالث قبل الميلاد) مؤسس المدرسة الرواقية
Le Portibue
المشهورة باسم مدرسة أهل العزيمة والجلد
Les Stoiciens
يمثل الطرف الأقصى، وذلك بمكافحة العاطفة الإنسانية والوجدان الطبيعي، والبلوغ بهما من الجمود والتحجر إلى حد الجسارة على الانتحار، وعدم المبالاة بأكل لحم الآدمي.
وأما في الناحية النظرية «الإلهيات والطبيعيات» فإن هذه المدرسة الرواقية نفسها، وإن انتقلت من الفلسفة المادية الملحدة الخاصة إلى النظرية المقابلة لها في الطرف الآخر وهي الاعتراف بوجود روح يدبر العالم ويتعهده في أطواره، إلا أنها عادت تقرر أن هذه الروح ما هو إلا جزء من العالم يسري في مادته سريان الماء في العود، أو النار في الجمر، غير شاعر بنفسه، ولا مختار في تحريكه للمادة، بل هو بدوره خاضع لقانون طبيعي كقانون النمو النباتي، ثم انتهت إلى القول بأن العنصرين المادي والروحي في الكون ليس لأحدهما وجود مستقل في نفسه، بل يتألف منهما شيء واحد هو الوجود الحقيقي، يسمى فاعلا، منفعلا، خالقا ومخلوقا، إلها وكونا ...
هذه النظرية المصادمة للبداهة، المتناقضة في نفسها، وفي نتائجها العملية
13
هي التي تسمى عند الرواقيين «وحدة الوجود»، ولكنها على الرغم من هذه الوحدة الاسمية قد سايرت مذاهب الوثنية وتعدد الآلهة؛ إذ جعلت في كل عنصر من العناصر ساريا هو إلهه الخاص به، فإله الحياة يسمى زوس
Zeus ، وإله الأثير آتينيه
Athene ، وإله الهواء هيرا
Hera ... وهلم جرا. (4) العصر الروماني
في القرن الثاني قبل الميلاد أخضع الرومان الدولة اليونانية سياسيا، فأصبحت ولاية تابعة لهم، بعد أن كانوا هم تبعا لها.
وإن تعجب لشيء فاعجب كيف أن هذا الاختلاط بين الأمتين قرونا متوالية، من قبل ومن بعد، لم يصنع منهما أمة واحدة في اللغة والدين والفن والتشريع وسائر مقومات الحياة الجماعية، كما صنع الفتح الإسلامي في الأقطار التي دخلها؟ ... لا، بل ما لنا نطمع في هذه الوحدة المثالية! ألم يكن من المتوقع - على الأقل - أن تفيد الأوساط العلمية والأدبية في روما من هذا التراث العلمي والأدبي المكنوز في العاصمة الإغريقية؟ غير أن شيئا من ذلك لم يكن، وكان كل ما حمله الأدباء الرومانيون من أثينا بعد هذا الفتح هو بعض الآراء الرائجة إذ ذاك في جماهير الشعب، فاقتبسوها اقتباسا سطحيا من غير تعمق ولا تمحيص، كما يحاكي الناس بعضهم بعضا فترة من الزمان في الأزياء الجديدة وألوان الطعام والشراب ...
آية ذلك أن المذهب السائد في أثينا في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد كان هو المذهب الرواقي، الذي فرغنا من الحديث عنه توا، وأن هذا المذهب وحده هو الذي نقل منها إلى روما، بل إنه لم ينقل بشطريه كليهما، وإنما كان الذي انتقل منهما هو أخفهما حملا على أقلام الكاتبين، وأدناهما إرضاء لكبرياء الفاتحين، أعني: ذلك القسم العملي الذي كان يتسم بطابع الزهو والغرور، في دعوته إلى تبديل الطبيعة البشرية، ومحو معاني اللذة والألم من بين عناصرها، أما الشطر النظري فلا ترى له أثرا في مقالات المؤلفين اللاتين أمثال سينيك
Seneque
وإبيكتيت
Epiclete (القرن الأول بعد الميلاد)، ومهما يكن من شيء، فإن هذا المذهب الرواقي لم يطل أجله، وكان آخر ممثليه في روما هو مارك أوريل
Marc Aulele (القرن الثاني الميلادي ).
وكما كان الفتح الروماني لبلاد الإغريق سببا في اجتلاب بعض آرائهم الشائعة في العصر، كان هذا الفتح للبلاد الآسيوية والإفريقية سببا في نقل بعض مذاهبهما الدينية إلى روما، فاشتهرت فيها أسماء المعبودات: ميترا
Mithra ، وبعل
Baal ، وإيزيس
Isis
وغيرهن.
وكان وصف هذه الديانات الواغلة، مضافة إلى الديانات المحلية، مجالا لأقلام الكاتبين من الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، فكتب سيسيرون
Ciceron
عن الآراء الفلسفية في طبيعة الألوهية، وكتب فارون
Varron
عن الشعائر والعبادات الرومانية، لا بأسلوب النقد والموازنة والترجيح، بل بأسلوب التأويل والتوفيق - أو التلفيق - بين الآراء المختلفة. أسلوب ينم عن التردد والحيرة وعدم العناية بالبحث الجدي أكثر مما يعبر عن روح التسامح الديني الذي ينسب إلى ذلك العهد، فالتعبير بالتسامح هنا تعبير غير محرر، واستنباط غير موفق من عادة اعتادها بعضهم إذ ذاك، وهي أنهم كانوا لا يلتزمون شعائر دين معين، بل يشتركون في عبادات متنوعة من ديانات شتى، باعتبارها كلها رموزا لحقيقة واحدة، فهذا المسلك لا يدل على احترام كل متدين لديانة غيره - وهو معنى التسامح والإغضاء - بل يدل على الانحلال وعدم الركون إلى دين ما. (5) العصر المسيحي
وفي منتصف القرن الأول بعد الميلاد، دخلت الدعوة المسيحية إلى أوربا في صورة دين سماوي جديد يأبى أن ينتظم في سلك مع الأديان الوثنية السابقة، ويحاول أن يظهر عليها ويحل محلها.
وكان ما كان من احتكاك وصراع، وتفاعل وامتزاج بينه وبين تلك الديانات المحلية، ثم بينه وبين المذاهب المستحدثة في عهده مثل الديانة المانوية التي ظهرت في القرن الثالث بعد الميلاد، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة (القرن الثالث أيضا).
وكان ما كان من اضطهادات ومقاومات عميقة شنها أباطرة الرومان على دعاته وأتباعه؛ حتى جاء الإمبراطور قسطنطين (أول القرن الرابع الميلادي) فدعا في أول الأمر إلى المهادنة الدينية العامة، ثم أعلن المسيحية دينا رسميا للدولة، على الصورة التي وضعها المجمع المنعقد بأمره في نيقية
Nicee
سنة 325م.
وقد كان ألمع اسم في قائمة المدافعين عن المسيحية، المعارضين للنحل الجديدة المنافسة لها، هو اسم القديس أوغسطين
St. Augustin (من منتصف القرن الرابع إلى ثلث القرن الخامس الميلادي) وهو أسقف كان قد اعتنق المانوية قبل أن يعتنق المسيحية، وله مؤلفات أشهرها كتاب «المدينة الإلهية»
Cite de Dieu
وكتاب الاعترافات
Les Confessions
وكتاب اللطف
de La Grace
وأهمها هو السفر الأول، الذي يعد فلسفة دينية ومدنية معا.
واستمر هذا الطابع الجدلي في العقائد هجوما ودفاعا، وهدما وبناء، لا بين المسيحية وغيرها فحسب، بل بين المذاهب المسيحية أنفسها ... فلم يكن هم الكاتبين تصوير العقائد المختلفة كما هي، بل كان هدف كل كاتب التماس موطن من مواطن الضعف في عقيدة خصمه لإبطالها، وإبراز ناحية من نواحي القوة في عقيدته لنصرها ونشرها. (6) العصر الإسلامي
ثم ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، وما هي إلا أن تمكنت دعوته في سنة 622م من استنشاق نسيم الحرية خارج مكة، حتى انتشرت بسرعة البرق شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا، ولم يمض قرن واحد حتى سرت في أقطار أوروبا الغربية «إسبانيا وإيطاليا وفرنسا» حاملة معها علوم الإسلام وآدابه وتشريعاته، مضافة إلى علوم اليونان وفلسفتهم، ومضافا إليها ما اكتشفه العرب والمسلمون في رحلاتهم من علوم الشرق وآدابه، وما أفادوه هم من تجارب جديدة.
ولم يكن بدعا من الأمر أن يكون الغرب عالة على العرب في علوم الشرق، وإنما البديع والعجب العجاب أن يكون عالة عليهم في علوم أوروبا نفسها، وأن يبقى كذلك حقبة مديدة من التاريخ ... فقد مضى الفتح الروماني - كما رأينا - دون أن يفيد من الأدب اليوناني إلا ما كان رائجا في السوق يومئذ من آراء سطحية، ومذاهب زائفة؛ ومضى العصر المسيحي في شغل بالجدل الديني الداخلي والخارجي، عن التنقيب في علوم اليونان وتاريخهم وطرائق تفكيرهم المختلفة، وهكذا بقي غرب أوروبا طيلة هذه المدة في شبه عزلة أدبية عن شرقها الذي له به أوثق الصلات المادية، فلم يفتح الغربيون أعينهم على تلك الكنوز العقلية إلا وهي في أيدي العرب المسلمين الذين جاءوهم من وراء البحار في أوائل القرن الثامن، فاتحين فتوح علم وسلم، وعدالة وسماحة، لا فتوح علو وعتو، وإشباع للغرائز الجامحة، واستنزاف للدماء والثروات.
هناك هرع الناس إليهم من كل صوب ينهلون من معارفهم، وكان اليهود أول الناس انتفاعا بهذه التلمذة، فأخذوا ينقلون هذه العلوم من العربية إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية ... ولو أن روما كانت قد ورثت أثينا وراثة علمية لاستنسخت علومها من أول يوم، ولقرأها الناس يومئذ باللاتينية أو بالإغريقية مباشرة، بدل أن ينتظروا حتى يأخذوها هكذا وهي في المرحلة الرابعة من الترجمة.
ولكن الأمانة التي عجزت عن أدائها الحضارتان اليونانية والرومانية في جميع عصورهما نهضت بها حضارة الإسلام في لغته العربية، واستقلت بحملها قرونا متوالية، من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر أو يزيد، فليس في علماء أوروبا الآن من ينكر أن فلسفة أرسطو وعلومه لم يسمع بها الغرب إلا على لسان ابن رشد
Avorroes
الفيلسوف الإسلامي (القرن الثاني عشر) ولسان أتباعه أمثال موسى بن ميمون
Maimonide
الفيلسوف الإسرائيلي (القرن الثاني عشر أيضا)، وليس هناك من ينكر ما كان لهذا التعليم من أثر في فلسفة أوروبا عن طريق القديس توماس
St. Tomas d’Acquin (القرن الثالث عشر الميلادي).
أما ما أفاده الغربيون من معارف العرب أنفسهم في الأدب والشعر والتشريع، والطب والفلك والتاريخ والطبيعة والكيمياء والجبر والتقويم والترقيم، ومختلف الفنون والصناعات، فهو أوسع من أن نلم ببعضه في هذا التمهيد، ولقد كتب فيه علماء أوروبا أسفارا جمة ما بين وسيع ووجيز.
14
والذي يعنينا هنا إنما هو أثر العرب والمسلمين في علم الأديان، الذي نحن بصدده.
وإنه لأثر جليل يمتاز بطابعين جديدين لم يسبق إليهما أحد فيما نعلم:
أما أحدهما فهو أن الحديث عن الأديان بعد أن كان في العصور السابقة إما مغمورا في لجة الأحاديث عن شئون الحياة، وإما مدفوعا في تيار البحوث النفسية أو الجدلية، أو على الأقل محدودا بحدود العقائد الموضوعية وما يشارفها، أصبح من كتب العرب دراسة وصفية واقعية، منعزلة عن سائر العلوم والفنون، شاملة لكافة الأديان المعروفة في عهدهم، فكان لهم بذلك فضل السبق في تدوينها علما مستقلا، قبل أن تعرفه أوروبا الحديثة بعشرة قرون.
أما الآخر - وهو ليس أقل نفاسة من سابقه - فهو أنهم في وصفهم للأديان المختلفة لم يعتمدوا على الأخيلة والظنون، ولا على الأخبار المحتملة للصدق والكذب، ولا على الفوائد والخزعبلات الشائعة في الطبقات الجاهلة، والتي قد تنحرف قليلا أو كثيرا عن حقيقة أديانها، ولكنهم كانوا يستمدون أوصافهم لكل ديانة من مصادرها الموثوق بها، ويستقونها من منابعها الأولى، وهكذا بعد أن اختطوه علما مستقلا اتخذوا له منهجا علميا سليما.
ونحن ذاكرون هنا بعض أسماء المؤلفات العربية المشهورة في هذه المادة على ترتيبها التاريخي:
كتاب «جمل المقالات»
15
لأبي الحسن الأشعري، المتوفى سنة 330ه (القرن العاشر الميلادي).
كتاب «المقالات في أصول الديانات» للمسعودي، المتوفى في سنة 346ه (العاشر أيضا).
كتاب «الفصل في الملل والنحل» لابن حزم الظاهري، المتوفى في سنة 346ه (العاشر أيضا).
كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، المتوفى في سنة 548ه (الثاني عشر).
كتاب «اعتقادات المسلمين والمشركين» للفخر الرازي، المتوفى في سنة 606ه (الثالث عشر).
أفترى من الإنصاف بعد هذا أن يقال عن الإسلام: إنه لم يصنع شيئا في تاريخ الأديان المقارن؟
16 (7) نهضة أوروبا الحديثة
بدأت أوروبا الغربية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر تستيقظ رويدا رويدا، وتتلفت بأنظارها إلى الشرق الذي كان مبعث نورها، فجعلت تبعث إليه البعوث من رجال الدين، الفرنسيسكان والدومينيكان، حتى بلغوا في رحلاتهم بلاد الهند والصين واطلعوا على دياناتها.
وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر - وهما أول العصر المسمى بعصر «البعث» أو «النهضة» - انبعثت همتها للاطلاع بنفسها على علوم اليونان وآدابهم وفنونهم القديمة باللغة اليونانية، وكانت باكورة نشاطها في هذا الشأن تنقيبها عن الآثار الأسطورية وتفسير ما ترمز إليه من عقائد أو حوادث تاريخية.
ولم تلبث أن ظهرت حركة الإصلاح المسيحي «البروتستانتية» في منتصف القرن السادس عشر، فكانت مكملة لجانب من هذه النهضة العلمية في أوربا، بما مهدت له من دراسات في اللغة العبرية
17
واللغات السامية الأخرى، بغية التفهم لنصوص التوراة والإنجيل التي كان رجال الإصلاح يتمسكون بحرفيتها، ولكنها من جانب آخر أغرقت أوروبا في حمأة المنازعات والحروب الدينية، التي عوقت حركة اكتشاف الأقاليم ونشر المسيحية فيها؛ ولذلك بقي البروتستانت قرنين من الزمان لا يساهمون في هذه البعوث، وكان الكاثوليك - من إسبان وبرتغال وفرنسيين - هم القائمين إذ ذاك وحدهم بأعبائها.
ثم تتابع الرحالون من الفريقين وازدادت عنايتهم بالأقطار الجديدة في آسيا، والأوقيانوسية، وأمريكا، ومجاهل إفريقيا ... حتى كان آخر القرن الثامن عشر، وهو الوقت الذي نشطت فيه حركة التأليف في وصف عقائد هؤلاء الأقوام وعوائدهم، فهناك اشرأبت العقول إلى السؤال عما كانت عليه ديانة الإنسان الأول، وبذلت محاولات لتحديدها في ضوء المقايسة على ديانات هؤلاء البدائيين، كما بذلت محاولات لاستنباط الطريق الذي سارت فيه الديانات منذ نشأة الإنسان إلى اليوم، ومعرفة أسلوب تطورها، أو تولد بعضها عن بعض.
ومنذ ذلك اليوم أصبح علم الأديان ذا شعبتين اثنتين: شعبة جديدة مبتكرة، وشعبة قديمة نالها شيء من التجديد.
أما الشعبة القديمة المجددة، فهي تلك الدراسات الوصفية، التحليلية الخاصة بملة ملة، وهي التي يمكن أن تعرفنا نشأة ديانة ما، وحياة مؤسسها، ومقومات عقائدها وعباداتها، وأسباب انتشارها، وألوان تطورها، إلى غير ذلك من المعاني التي ما فتئت مجالا لحديث الناس منذ اختلفت مذاهبهم، وهذه الشعبة هي المشهورة باسم «تاريخ الأديان» ولو أنصفت التسمية لكانت «تواريخ الأديان».
والتجديد الذي لحقها في العصور الحديثة يتناول مادتها ووسائلها جميعا، فبعد أن كانت مادة البحث لا تتجاوز في الغالب حوض البحرين الأبيض والأحمر، أعني: ملتقى القارات الثلاث، اتسعت الآن رقعتها حتى انتظمت القارات الخمس؛ وبعد أن كانت محصورة أو تكاد في نطاق الأمم المتمدينة، ذات التاريخ المدون، أو الآثار الخالدة؛ تناولت الشعوب الهمجية والأمم البائدة، بل تطاولت إلى التنقيب عما وراء التاريخ المعروف.
نعم، إن إفساح الميدان هكذا أمام المؤلفين المحدثين قد بعد بهم عن المنهج السليم الذي انتهجه مؤلفو العرب؛ ولكنه على كل حال قد فتح أمام الباحثين آفاقا جديدة لم يتشرف إليها السابقون؛ ولا سيما في وسائل البحث وأدواته، التي تنوعت حتى شملت علم اللغات المقارن، وعلم طبقات الأرض، وعلم التصوير والتمثيل الرمزيين، بل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأجناس البشرية، وسائر ما يمت بسبب إلى ظاهرة الدين.
وليس من شك في أن الأداة الرئيسية في دراسة هذه الشعبة يجب أن تكون هي استقراء العقائد والعبادات وسائر التعاليم في كل نحلة، من واقع الأقوال والأفعال الدالة عليها؛ وأن تكون مهمة العلوم الإضافية قاصرة على تقديم نوع من الضمان تحاط به عملية الاستقراء للتحقق من صحة سيرها، وعدم مصادمتها لمقررات تلك العلوم، وهذا هو هدف النقد العلمي
18
الذي يقوم على مراجعة التاريخ مثلا للتثبت من صحة الوثائق والأسانيد، ومراجعة فقه اللغة واصطلاحات الفنون لتحديد مدلولات النصوص، وهكذا ...
وأما الشعبة الجديدة المبتكرة، فهي ضرب من الدراسات النظرية، والاستنباطات الكلية، التي تهدف إلى إشباع نهمة العقل في التطلع إلى أصول الأشياء ومبادئها العامة، حين تتشعب عليه جزئياتها وتفصيلاتها.
بيان ذلك - في موضوعنا - أن الذي يستقرئ الملل على كثرتها، إذا درسها دراسة مقارنة، وأخذ يعزل ما فيها من المفارقات ووجوه الاختلاف، سيجد فيها البتة وجوها من المشابهة تتلاقى عندها كل الديانات، وسيجد في نفسه إذ ذاك باعثة تصعب مقاومتها، تدفعه إلى استخلاص هذه المبادئ العامة، وجمعها في وحدة كلية يحدد بها طبيعة الدين من حيث هو، كما أنه حين يرى ظاهرة التدين حظا مشاعا في الجماعات، مشتركا بين الأمم الحاضرة والغابرة، البادية والمتحضرة، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه السؤال عن منشأ هذه الظاهرة العالمية ومصدرها: هل لها منبع في طبيعة الفرد أو المجتمع؟ أم كانت وليدة المصادفة، أو ثمرة الصنعة والابتكار؟ أم ماذا؟ وهل كان في اختلاف صورها ومظاهرها في غضون التاريخ ما ينم على وجود ضرب من التسلسل والتولد بين بعضها وبعض، أو ما يدل على الأقل على شيء من التدرج التصاعدي أو التنازلي بينها؟ أم أنها لم تسر على سنن واحدة، بل كانت تصعد تارة، وتنحدر تارة، وتقف طورا، وترجع عودا على بدء كرة أخرى ...؟
هذه الأسئلة وأشباهها يصطدم بها دارس الأديان المختلفة في خاتمة مطافه فيضعها في صيغة نيرة محدودة؛ ولكنها تتجمجم غامضة مبهمة في صدر كل شغوف بالمعرفة ولو لم يكن ذا إطلاع على غير دينه الخاص، وقد خاض فيها علماء أوروبا وأدباؤها في العصور الحديثة، وعرض كل منهم وجهة نظره في حلها، ولكنهم تناولوها أشتاتا في مناسبات متفرقة، ومنهم من أدخل مسألة أخرى في طي بحوثه الأدبية، أو نظرياته الفلسفية العامة، ومنهم من وضع مسألة ثالثة في مقدمة دراسته لدين معين، ومنهم من ألم بهذه أو تلك في مدخل تأليفه عن تاريخ الأديان العام، ومنهم من ساقها نكتة عابرة، ومنهم من أطنب في الشكل والمظهر، وكان أقل عناية بالصميم والجوهر ...
وأنت، ألست ترى معنا قبل كل شيء أن هذه المسائل ألصق بالدراسات الدينية منها بشيء آخر من الفنون والآداب؟ أولست ترى بعد ذلك أن ما فيها من تجانس الموضوع يجعلها جديرة بأن تجمع في سفر، وأن يتألف منها شعبة مستقلة غايتها دراسة الظاهرة الدينية في جملتها، دراسة تبسط وجوه النظر المختلفة في كل بحث، وتعرض وجه الفصل فيه بميزان العدل الذي لا يحابي ولا يماري؟ ثم ألست ترى أن هذا النوع من الدرس لتاريخ الديانة بإطلاق أحق بالصدارة والسبق على الدراسات المشهورة لتواريخ الأديان مفصلة، وأنه يستأهل بطبيعته التعليمية أن يكون مقدمة لتلك الدراسات؟ إذ إن مهمته هي تقرير المبادئ العامة، ووضع الأسس الكلية، التي لا بد من إرسائها قبل الشروع في تحديد ماهية كل دين على حدة.
من أجل ذلك كله وجهنا أول عنايتنا لمعالجة هذه الجانب من البحوث، ورأينا حقا علينا أن نسجل ها هنا خلاصة ما سبقت معالجته منها.
المبحث الأول
في تحديد معنى الدين
الفصل الأول
المعنى اللغوي
الوضع المنطقي السليم في ترتيب أعمالنا العقلية يقتضينا حين نطلب تفسير حقيقة معينة أن نبدأ بمعرفة عناصرها العامة، ومقوماتها الكلية، قبل أن نأخذ في البحث عن مميزاتها ومشخصاتها.
فمن أحب أن يتعرف كنه دين الإسلام، أو دين المسيحية، أو اليهودية، أو المجوسية، أو البوذية، أو الوثنية، أو غيرها من الأديان التي ظهرت في الوجود؛ يجمل به أن يوفر همته قبل كل شيء على تعرف المعنى الكلي الذي يجمعها، والقدر المشترك الذي تنطوي عليه في جملتها ؛ إذ إنه من الواضح أنه وإن تفاوتت الأديان في نفسها، أو في مصادرها، أو في أهدافها، أو في قيمها، فإنها كلها يجمعها اسم «الدين»، فلا بد أن تكون هناك وحدة معنوية تنتظمها، ويعبر عنها الاسم المشترك.
فما هي تلك الوحدة؟
ما الدين؟
هذا السؤال الأول الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا ونحن على عتبة باب البحث في تاريخ الأديان. (1) معاجمنا العربية: قلة غنائها وسوء تأليفها
وللإجابة عن هذا السؤال لا غنى لنا عن الرجوع قبل كل شيء إلى معاجم اللغة العربية، لنستأنس بما دونه اللغويون فيها من وجوه الاستعمال لهذه المادة. نقول: لنستأنس بما في هذه المعاجم، ولا نقول: لنجد فيها ضالتنا المنشودة؛ فكلنا نعرف مقدار الصعوبة التي يعانيها المزاولون لهذه المعاجم، ومبلغ إخفاقهم في استنباط المعاني المحددة من ثنايا تعريفاتها، وفرط ألمهم لهذا الحرمان.
لكنه إذا كان اليأس - كما قيل - إحدى الراحتين، فالذي يريح بالنا من ناحية هذه الكتب هو أن نبدأ بتحديد مطامحنا منها، فلا نطلب منها أكثر من طبيعتها ولا نكلفها شيئا هو وراء أهدافها، ولعله ليس أطيب لقلب الباحث في هذه المعاجم من أن يوطن نفسه بادئ ذي بدء على أنها إنما وضعت لضبط الألفاظ، لا لتحديد المعاني، وأن مهمتها هي لتقويم اللسان، لا تثقيف الجنان، فإن شاء أن يتوسع في حدود هذه المهمة شاع له أن يقول: إنها وضعت أيضا لسرد المترادفات والمتقابلات، وتقديمها لمن يفرض فيه أنه يعرف معنى كل مفرد على حدة.
حاول مثلا أن تعرف نعت طير، أو حيلة حيوان، أو وصف نبات، أو موقع بلد، وافتح المعجم في باب الاسم المطلوب، ثم انظر ماذا ترى: «طائر معروف»، «حيوان معروف»، و«نبات معروف»، «بلد معروف» ذلك هو الجواب العتيد الذي تظفر به في غالب الأمر، فهو تذكير للعارفين بالحقيقة التي يشير الاسم إليها، ومن لم يكن يعرف فلا سبيل له بذلك إلى أن يعرف.
أما إذا سمحت هذه المعاجم بأن تقدم لقرائها شيئا من التعريف والتحديد، فإنها لا تبالي - في كثير من الأحيان - أن تعرف الشيء بنفسه، أو بأنه غير ضده ... هكذا: «البلاغ» ما يتبلغ به، و«الدواء» ما يتداوى به، و«الدين» ما يدان به، أو يقال لك: إن الدين هو الملة فإذا رجعت إلى كلمة الملة في بابها قيل لك: إنها هي الدين، وكذلك يقال لك في شرح لفظ «الحلال» إنه ضد الحرام، وفي تعريف «الحرام» إنه ضد الحلال، وهكذا.
دع ما وراء ذلك من سوء الترتيب، وكثرة الخلط والإعادة، وعدم رد كل طائفة من المعاني المتشابهة إلى أصل واحد يجمعها، على أن هذه الناحية الأخيرة ربما كانت أهون وجوه النقص، وأقلها استعصاء على الإصلاح.
أقرب مثال لهذا الحشد والخلط والغثاء المتراكب تجده في المادة التي نحن بصددها، فالذي يرجع فيها إلى القاموس المحيط، أو إلى لسان العرب أو غيرهما؛ يضل في بيداء، ويخيل إليه أن هذه الكلمة الواحدة يصح أن تستعمل فيما شئت من المعاني المتباعدة، بل المتناقضة: فالدين هو الملك، وهو الخدمة، هو العز، وهو الذل، هو الإكراه، وهو الإحسان، وهو العادة، وهو العبادة، هو القهر والسلطان، وهو التذلل والخضوع، وهو الطاعة، وهو المعصية، هو الإسلام والتوحيد، وهو اسم لكل ما يعتقد، أو لكل ما يتعبد الله به ... إلخ. (2) محاولة رد أشتات المعاني إلى معنى واحد
نحن إذن بحاجة إلى التشمير عن ساعد الجد؛ للوصول إلى لب الحقيقة من وراء هذه القشرة، ولالتماس شيء من الوحدة في ثنايا هذه الكثرة.
والواقع أننا إذا نظرنا في اشتقاق هذه الكلمة ووجوه تصريفها نرى من وراء هذا الاختلاف الظاهر تقاربا شديدا، بل صلة تامة في جوهر المعنى؛ إذ نجد أن هذه المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثة معان تكاد تكون متلازمة بل نجد أن التفاوت اليسير بين هذه المعاني الثلاثة مرده في الحقيقة إلى أن الكلمة التي يراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو - بعبارة أدق - أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب.
بيانه أن كلمة «الدين» تؤخذ تارة من فعل متعد بنفسه: «دانه يدينه»، وتارة من فعل متعد باللام: «دان له» وتارة من فعل متعد بالباء: «دان به» وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة.
الفصل الثاني
المعنى العرفي
(1) نماذج من التعريفات (1)
فإذا قلنا: «دانه دينا» عنينا بذلك أنه ملكه، وحكمه وساسه، ودبره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه وكافأه، فالدين في هذا الاستعمال يدور على معنى الملك والتصرف بما هو من شأن الملوك من السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة، ومن ذلك
مالك يوم الدين
1
أي: يوم المحاسبة والجزاء، وفي الحديث: «الكيس من دان نفسه»
2
أي: حكمها وضبطها، و«الديان» الحكم القاضي. (2)
وإذا قلنا: «دان له» أردنا أنه أطاعه، وخضع له، فالدين هنا هو الخضوع والطاعة، والعبادة والورع، وكلمة «الدين لله» يصح أن منها كلا المعنيين: الحكم لله، أو الخضوع لله.
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له «دانه فدان له»؛ أي: قهره على الطاعة فخضع وأطاع. (3)
وإذا قلنا: «دان بالشيء» كان معناه أنه اتخذه دينا ومذهبا؛ أي: اعتقده أو اعتاده أو تخلق به، فالدين على هذا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريا أو عمليا، فالمذهب العملي لكل امرئ هو عادته وسيرته، كما يقال: «هذا ديني وديدني» والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه، ومن ذلك قولهم: «دينت الرجل» أي: وكلته إلى دينه ولم أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده.
ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابع أيضا للاستعمالين قبله؛ لأن العادة أو العقيدة التي يدان بها لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم باتباعها.
وجملة القول في هذه المعاني اللغوية: أن كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرا وسلطانا، وحكما وإلزاما. وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يعبر عنها.
ونستطيع الآن أن نقول: إن المادة كلها تدور على معنى لزوم الانقياد، فإن الاستعمال الأول الدين هو إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني هو التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث هو المبدأ الذي يلتزم الانقياد له.
ولا يخفى من جهة أخرى، أن معنى اللزوم هذا هو المحور الذي تدور عليه كلمة الدين بفتح الدال، والفرق بين الدين بالفتح والدين بالكسر
3
هو أن أحدهما يتضمن - في الأصل - إلزاما ماليا، والآخر يقتضي إلزاما أدبيا، ونحن نعرف من سنن اللغة العربية في تصاريفها أنها حين تريد التفرقة بين الحسيات والمعنويات من جنس واحد قد تكتفي بتغيير يسير في شكل الكلمة مع إبقاء مادتها كما هي مثل: «العوج، والعوج» و«الخلق، والخلق»، و«الرؤية، والرؤيا» و«الكبر والكبر».
وهكذا يظهر لنا جليا أن هذه المادة بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وأن ما ظنه بعض المستشرقين
4
من أنها دخيلة، معربة عن العبرية أو الفارسية في كل استعمالاتها أو في أكثرها بعيد كل البعد، ولعلها نزعة شعوبية تريد تجريد العرب من كل فضيلة، حتى فضيلة البيان التي هي أعز مفاخرهم.
ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن الذي يعنينا من كل هذه الاستعمالات هو الاستعمالان الأخيران، وعلى الأخص الاستعمال الثالث، فكلمة الدين التي تستعمل في تاريخ الأديان لها معنيان لا غير، أحدهما: هذه الحالة النفسية
etat subjectif
التي نسميها التدين
religiosite . والآخر: تلك الحقيقة الخارجية التي يمكن الرجوع إليها في العادات الخارجية
fait odjectif
أو الآثار الخالدة، أو الروايات المأثورة، ومعناها جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقادا أو
doctrine religiouse
عملا، وهذا المعنى أكثر وأغلب.
بيد أن هذه التحليلات الاشتقاقية كلها إنما تكشف لنا عن جذر المعنى وأصله في اللغة، ولا تصور لنا حقيقته واضحة وافية، كما هي في عرف الناس واصطلاحهم، بل لا تزال المسافة منفرجة بين المعنى اللغوي والمعنى العرفي؛ ذلك أنه ليس كل خضوع وانقياد يسمى في العرف تدينا، فخضوع المغلوب للغالب، وطاعة الولد لوالده، وتعظيم المرءوس لرئيسه؛ كل أولئك قد يكون من معدن آخر غير معدن الدين، كما أنه ليس كل رأي ومذهب، ولا كل سيرة وخلق يسمى دينا.
فما هي الخصائص والعناصر الجوهرية التي تميز الفكرة الدينية أو السلوك أو الشعور الديني بوجه عام عن سواها؟
لا ريب أن تحديد هذه الخصائص تحديدا حقيقيا لا يتم إلا في نهاية العلم، بعد استعراض جميع النحل ومقارنتها، واستنباط القدر المشترك بينها، ولكنه إذا تعذر علينا الآن، ونحن في فاتحة البحث، أن نعرض الديانات أنفسها لنستخرج منها الحد الأدنى المشترك بينها، ففي وسعنا أن نعرض طائفة من التعريفات التي سبقنا بها العلماء، سواء منها ما وضعه الإسلاميون لكلمة الدين، وما وضعه الغربيون للكلمة التي تقابلها، وهي كلمة
Religion ، وأن نقفي على هذا العرض بشيء من التحليل والنقد، لنعرف إلى أي حد تنطبق هذه التعريفات على الديانات المعروفة.
أما الإسلاميون فقد اشتهر عندهم تعريف الدين بأنه «وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل»، ويمكن تلخيصه بأن نقول: «وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات.»
وأما الغربيون فلهم في ذلك تعبيرات شتى،
5
وهذه نماذج منها:
يقول سيسرون، في كتابه «عن القوانين»: «الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله.»
6
ويقول كانت، في كتابه «الدين في حدود العقل»: «الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية.»
7
ويقول شلاير ماخر، في «مقالات عن الديانة»: «قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة.»
8
ويقول الأب شاتل، في كتاب «قانون الإنسانية»: «الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق: واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه.»
9
ويقول روبرت سبنسر، في خاتمة كتاب «المبادئ الأولية»: «الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية، هو العنصر الرئيسي في الدين.»
10
ويقول تايلور، في كتاب «المدنيات البدائية»: «الدين هو الإيمان بكائنات روحية.»
11
ويقول ماكس ميلر، في كتاب «نشأة الدين ونموه»: «الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، هو المتطلع إلى اللانهائي، هو حب الله.»
12
ويقول إميل برنوف، في «علم الديانات»: «الدين هو العبادة، والعبادة عمل مزدوج: فهي عمل عقلي به يعترف الإنسان بقوة سامية، وعمل قلبي أو انعطاف محبة، يتوجه به إلى رحمة تلك القوة.»
13
ويقول ريفيل، في «مقدمة تاريخ الأديان»: «الدين هو توجيه الإنسان سلوكه، وفقا لشعوره بصلة بين روحه وبين روح خفية، يعترف لها بالسلطان عليه وعلى سائر العالم، ويطيب له أن يشعر باتصاله بها.»
14
ويقول جويوه في كتاب «لا دينية المستقبل»: «الديانة هي تصور المجموعة العالمية بصورة الجماعة الإنسانية، والشعور الديني هو الشعور بتبعيتنا لمشيئات أخرى يركزها الإنسان البدائي في الكون.»
15
ويقول ميشيل مابير، في كتاب «تعاليم خلقية ودينية»: «الدين هو جملة العقائد والوصايا التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله، ومع الناس، وفي حق أنفسنا.»
16
ويقول سلفان بيريسيه، في كتاب «العلم والديانات»: «الدين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانية.»
17
ويقول سالومون رينا، في «التاريخ العام للديانات»: «الدين هو مجموعة التورعات التي تقف حاجزا أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا.»
18
ويقول إيميل دوركايم، في «الصورة الأولية للحياة الدينية»: «الدين مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة - أي: المعزولة المحرمة - اعتقادات وأعمال تضم أتباعها في وحدة معنوية تسمى الملة.»
19 (2) تصنيف التعاريف ونقدها
من هذا العرض يتبين أن حقيقة الدين لا تكفي في تحديدها فكرة الاعتقاد بإطلاق أو فكرة الخضوع من حيث هي، وأنه لا بد من إضافة قيد أو قيود تحددها بإبراز عناصرها الجوهرية، وتلك هي المحاولة التي بذلها الباحثون حين قدموا لنا مختلف التعريفات التي أوردنا الآن جانبا منها.
غير أنه ليس من العسير على من يستعرض هذه التعاريف - الإسلامي منها وغير الإسلامي - أن يلاحظ أن الجمهرة الغالبة منها قد جاوزت الحد في التحديد، حتى حصرت مسمى الدين في نطاق الأديان الصحيحة، المستندة إلى الوحي السماوي، وهي التي تتخذ معبودا واحدا، هو الخالق المهيمن على كل شيء، فالدولة الطبيعية المستندة إلى محض العقل، والديانات الخرافية التي هي وليدة الخيالات والأوهام، وكل ديانة تقوم هي أو جانب منها على عبادة التماثيل، أو عبادة الحيوان، أو النبات، أو الكواكب، أو الجن، أو الملائكة ... إلخ؛ تخرج بمقتضى هذه التعاريف عن أن تكون دينا ، مع أن القرآن قد سماها كذلك حيث يقول:
لكم دينكم ولي دين ،
20
ويقول:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا .
21
الفصل الثالث
تحليل الفكرة الدينية في نظر المتدين من الوجهتين الموضوعية والنفسية
(1) مقدمة
ولقد رأينا كيف وصل الأمر ببعض الباحثين في تحديد موضوع الدين إلى تصويره بأرقى صورة عرفتها الفلسفة، وأبعد صورة عن الخطور ببال العامة من المتدينين، أعني تلك الفكرة التي عبر عنها روبرت سبنسر بقوله: «إن العنصر الأصيل في الدين هو الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية والمكانية.» فهذه اللانهائية - إن صح أنها عقيدة كبار الفلاسفة والعلماء - لا تنطبق بحال على عقيدة المشبهين ولا المجسمين ولا القائلين بأن ربهم في السماء، ونحن هنا لا نطلب تحديد الدين الصحيح فحسب، بل الدين من حيث هو، في مختلف صوره ومظاهره.
ثم رأينا كيف أن «ماكس ميلر» كان أشد تضييقا لهذه الدائرة، حين قال: «إن الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره.» فهذه العبارة لا تنطبق في حرفيتها إلا على نوع من الأديان يفصل بين العقيدة والعقل فصلا تاما، ويفرض على معتنقيه أن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم، ولا تتصوره
1
أذهانهم.
هذا الغلو في طرف التضييق لدائرة المحدود، يقابله - كما رأينا - غلو في الطرف الآخر، يمثله فريق من علماء الاجتماع وعلماء الآثار «أمثال إيميل دوركايم، وسالمون ريناك»، فهؤلاء لا يكتفون بحذف فكرة «الإله، الخالق، اللانهائي، الذي لا يحيط به التصور» من التعريف الجامع للأديان، بل يذهبون إلى وجوب إبعاد أصل فكرة الألوهية بكل معانيها من هذا التعريف؛ محتجين بأن في الشرق أديانا، مثل البوذية، والجاينية، والكونفوشيوسية، تقوم على أساس أخلاقي بحت، خال من تأليه كائن ما، وأن الذين يؤلهون «بوذا» و«جينا» إنما هم مبتدعون، خارجون عن أصول دينهم الحقيقي القديم.
فلننظر في قيمة هذا النقل، ومغزى هذه الحجة!
هل يعني هؤلاء الباحثون أن الأديان الصينية المذكورة مجردة من كل فكرة نظرية اعتقادية؟
إن الحقيقة التي أجمع عليها مؤرخو الأديان هي أنه ليست هناك جماعة إنسانية، بل أمة كبيرة، ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكر في مبدأ الإنسان ومصيره، وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه، ودون أن تتخذ لها في هذا المسائل رأيا معينا، حقا أو باطلا، يقينا أو ظنا، تصور به القوة التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها، والمآل الذي تصير إليه الكائنات بعد تحولها، وهذه الأديان الثلاثة المشار إليها لم تشذ عن هذه القاعدة قط؛ فهي من جهة مصدر الحوادث، لا تنكر وجود الآلهة الهندية المسماة «أندرا» و«أجنى» و«ثارونا» ... إلخ، ومن جهة مصير الإنسان، لم تنس تلك النظرية الهندية القديمة في الحياة وآلامها، وفي أن التعلق بملاذها ومتعها هو السبب في عودة الحياة إلى الجسم في صورة ما بعد الموت، فلا ينتقل الإنسان بذلك من ألم إلى ألم، وأنه لا سبيل إلى الراحة التامة إلا بالزهد التام في الحياة، ليموت الإنسان بلا رجعة، فلا يعود إلى آلام الحياة كرة أخرى.
نعم، قد يشكل علينا أن مؤرخي البوذية يقولون: إن الآلهة الهندية، التي سرى الاعتقاد بها إلى البوذية القديمة، لم يكن لها في نظر البوذيين سلطان إلا على العالم المادي، الذي يريد البوذي أن يتخلص منه، فهو لذلك لا يعبدها ولا يرجو خيرها، بل يريد أن يهرب من سلطانها بالموت الأبدي، ثم هو لا يعتمد عليها في شئونه الأدبية، بل يعتمد على مجهوده العقلي والخلقي فحسب، ووجه الإشكال أننا سواء أقلنا إن البوذية القديمة لا تعرف آلهة البتة، أم قلنا إنها تعترف بآلهة لا تعبد، فالنتيجة واحدة: وهي أن تكون هناك ديانات خالية من فكرة العبادة، وذلك إما لخلوها من كل عنصر نظري اعتقادي في مصدر الكائنات، وإما لأنها مركبة تركيب ضم لا امتزاج فيه، من عنصرين متدابرين لا يلوي بعضهما على بعض، بحيث يكون شطرها النظري مثبتا لقوى عظيمة ذات سلطان على الوجود ولكنها لا شأن لها بأعمالنا، وشطرها العملي مبينا لطريق السلوك الذي يخلص النفس من آلام الحياة، من غير توجه إلى تلك القوى.
لكن المسألة إنما هي في صحة تسمية أمثال هذه المذاهب أديانا .
ونحن لا نرى مانعا من أن يصطلح مصطلح على هذه التسمية، ولكنه يكون اصطلاحا نابيا عن معهود الناس، مجافيا لذوق اللغات، ولا سيما لغتنا العربية التي لا تفهم من اسم الدين إلا اعتقادا بشيء يدين له المرء؛ أي يخضع له ويتوجه إليه بالرغبة والرهبة والتقديس، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا: إن كل مذهب يخلو من هذه الدينونة هو أحق باسم «الفلسفة الجافة» منه باسم آخر، وأكبر الظن عندنا أن الديانات المذكورة - البوذية والكونفوشيوسية ونحوهما - ما استحقت أن تدرج في جدول الأديان إلا منذ دخلتها فكرة التأليه، أو على اعتبار أنها كانت كذلك أبدا.
وبالجملة: فنحن لا نوافق على حذف مبدأ الألوهية من تعريف الأديان، بل نذهب إلى القول مع الفيلسوف الألماني «إرنست شلاير ماخر» بأن قوام حقيقة الدين هو ذلك الشعور بالحاجة والتبعية المطلقة لقوة ماهرة، فلا ريب أن هذا الشعور ركن أصيل لا بد منه في تحقيق ماهية الدين من حيث هو.
ولكنه مع ذلك لا يحتوي كل العناصر التي يتألف منها هذا المفهوم؛ إذ لو كان كل شعور بالخضوع الكلي والتبعية المطلقة لقوة قاهرة أيا كانت - وأيا كان لون الخضوع لها - يسمى دينا، لكان أحق الضرورات بهذا الاسم حاجتنا إلى التنفس والغذاء، واستسلامنا التام لقوانين النقل والجاذبية وسائر العوامل الكونية، ولا قائل بذلك.
يجب إذن أن نتابع البحث، لمعرفة الفوارق والمميزات التي تجعلنا نسمي نوعا من الخضوع دينا، ولا نسمي نوعا آخر منه بهذا الاسم.
وإن التحليل الدقيق لنفسية المتدين يكشف لنا نوعين من هذه الفوارق والمميزات:
أحدهما:
في صفات الشيء الذي يقدسه المتدين ويخضع له.
والثاني:
في طبيعة هذا الخضوع.
فهلم بنا ندرس هذين النوعين: (2) أولا: العناصر الموضوعية
أول ما يواجهنا من الفروق بين الخضوع الديني والخضوع اللاديني يتمثل في مجموعة الصفات التي يحدد بها المتدين موضوع خضوعه ومناط تقديسه الديني، ويميزه بها عن سائر الأشياء التي يعظمها ويخضع لسلطانها.
كلنا نقدس معنى الشرف، والعرض، والحرية، والكرامة، وما إلى ذلك من المعاني الإنسانية النبيلة؛ وكلنا نشعر بالخضوع والطاعة القهرية لقوانين الكون وسننه الثابتة التي لا نستطيع أن ننقضها أو نبدلها لكن الشيء الذي يقدسه المتدين ليس من جنس تلك المعاني العقلية المجردة، وليس من قبيل هذه التصورات الشائعة المبهمة؛ ذلك أن المتدين يهدف بتقديسه إلى حقيقة خارجة عن نطاق الأذهان، وإن كانت تعبر عنها الأذهان فإنها في هذا التعبير تشير إلى ذات مستقلة، قائمة بنفسها ليست مجرد عرض من الأعراض أو لقب من الألقاب، هكذا ينفصل منذ البداية موضوع العقيدة الدينية عن هذا الضرب من المعاني المقدسة، من حيث إن الصلة بين المقدس عند المتدينين هي قبل كل شيء صلة بين ذات وذات، لا بين ذات وفكرة مجردة أو تجريدية كما في الأمثلة التي أسلفناها. (2-1) الإله ذات، لا فكرة تجريدية
ثم إن هذا التقديس الديني ليس تقديسا لذات أيا كانت، وإنما هو تقديس لذات لها صفات خاصة؛ وأهم مميزاتها أنها ليست مما يقع عليه حس المتدين، ولا مما يدخل في دائرة مشاهداته، وإنما هي شيء غيبي لا يدركه إلا بعقله ووجدانه، فالفاصل الثاني الذي تتميز به العقيدة الدينية بمختلف أنواعها هو أن لها خاصة الإيمان بالغيب؛ أي بما وراء الطبيعة. (2-2) الإله ليس مادة وذو تصرف اختياري
ثم إن هذا الغيب الذي تؤمن الأديان بوجوده من وراء الطبيعة ليس من جنس هذه الطبيعة المادية المنفعلة، بل هو شيء ذو قوة فعالة مؤثرة، وله أسلوب في تصرفاته مباين للطرائق التي تؤثر بها المادة فيما حولها؛ إذ إن هذه المواد يصدر عنها أثرها دون شعور منها ولا اختيار لها في صدوره، أما القوة التي يخضع لها المتدين فإنه يفهمها على أنها قوة عاقلة تقصد ما تفعل، وتتصرف بمحض إرادتها ومشيئتها. (2-3) الإله يهيمن على شئون الناس
وأخيرا فإن هذه القوة العاقلة المدبرة في نظر المتدينين ليست قوة منطوية على نفسها، منعزلة عنه وعن العالم، بل يرى أن لها اتصالا معنويا به وبالناس. تسمع نجواهم، وتصغي لشكواهم، وتعنى بآلامهم وآمالهم، وتستطيع - إن شاءت - أن تكشف عنهم ما يدعونها إليه.
من جملة هذه المعاني يتحدد على وجه الإجمال المعنى الذي يتعلق به الاعتقاد والتقديس في جميع الديانات، ولتلخيص هذه الاعتبارات في لقب واحد نقول: إن التقديس الديني «تأليه» وعبادة، وإن موضوعه «إله معبود».
ولعلك قد يشكل عليك من مقالتنا هذه أننا جعلنا مناط الاعتقاد والتأليه في جميع الأديان ذاتا غيبية لا تراها العيون، كأن لم يكن من الأقوام من عبد الأحجار والأشجار والأنهار، والطير والحيوان والإنسان. (2-4) الوثنيات لا تعبد المادة في الحقيقة
فاعلم أن كلمات الباحثين في نفسيات المتدينين وعقلياتهم قد تطابقت على أنه ليس هناك دين - أيا كانت منزلته من الضلال والخرافة - وقف عند ظاهر الحس، واتخذ المادة المشاهدة معبودة لذاتها، وأنه ليس أحد من عباد الأصنام والأوثان كان هدف عبادته في الحقيقة هياكلها الملموسة، ولا رأى في مادتها من العظمة الذاتية ما يستوجب لها منه هذا التبجيل والتكريم.
وكل أمرهم هو أنهم كانوا يزعمون هذه الأشياء مهبطا لقوة غيبية، أو رمزا لسر غامض، يستوجب منهم هذا التقديس البليغ، فهي في نظرهم أشبه شيء بالتمائم والتعويذات التي يتفاءل أو يتبرك بها، أو يستدفع بها شيء من الحسد أو السحر، لا على أن لها خاصية ثابتة كامنة فيها كمون النار في الرماد، أو أن لها قوة طبيعية كقوة المغناطيس، بل على أن وراءها أو حولها روحا
2
عاقلا، مدبرا، مستقل الإرادة يستطيع أن يغير بمشيئته سير الأمور ومجرى العادات، فيعطي ويمنع، ويضر وينفع، من حيث لا ينتظر الناس ذلك في العادة، وأن تلك المواد المشاهدة ما هي في اعتقادهم إلا مظهر ومطلع يطل منه هذا الروح الخفي، ويبارك من يتمسح بتلك الهياكل التي اتخذها له مظهرا ومزارا.
يلزمنا إذن أن نضم عنصرا رباعيا إلى التعريف: فنقول إن القوة التي يقدسها المتدين ليست فكرة مجردة، وصورة عقلية خالصة، بل هي حقيقة خارجية، ونقول: إن هذه الحقيقة ليست مادة يقع عليها الحس، بل هي سر غيبي لا تدركه الأبصار؛ ونقول: إن هذه القوة الغيبية قوة عاقلة تتصرف بالإرادة، لا بالضرورة كالمغناطيس والكهرباء، ونقول أخيرا: إن لهذه القوة عناية مستمرة بشئون العالم الذي تدبره، وإن لها تجاوبا نفسيا مع نفوسه.
وهكذا نقرر مع العلامة «تايلور» أن الدين يتضمن دائما «الإيمان بكائنات روحية»، لكن على شريطة أن نأخذ كلمة الروح هنا بأوسع معانيها فلا نحدد طبيعتها، ولا مدى سلطانها، ولا طريقة تصرفها، بل ندعها تتسع للتصورات المختلفة في ماهية تلك القوة؛ ونكتفي بأن نقول على الجملة: إنها قوة خفية، شاعرة، مدبرة، وإن أفعالها تصدر عنها بمحض إرادتها، وإنها تستمع لمن يدعوها ولها مطلق الحرية في قبول مطالبه أو رفضها. (2-5) تمييز النظرة الدينية عن النظرتين النفسية والطبيعية
هذا العنصر الرباعي: عنصر الذات، الغيبية، الروحية، المتصلة معنويا بعابديها هو الحد الموضوعي الرئيس الذي يفصل بين وجهتي النظر الدينية واللادينية.
فبينما النظرة المنطقية أو النفسية تنحصر في حظيرة العقل أو النفس، باحثة عما فيهما من المعاني والأحوال، ولا يعنيها دراسة ما خلف هذه الحدود، والنظرة الطبيعية تبرز إلى الوجود الخارجي، ولكنها لا تعالج إلا ما يقع عليه الحس والمشاهدة بالفعل، أو ما هو من نوع
3
هذه المحسات المشاهدات، ولا تنفك عن هذه القيود، تنفذ النظرة الدينية فترمي من وراء ذلك كله إلى حقيقة أخرى لا تلمس في داخل النفس ولا في خارجها المادي، وإنما هي ذات غيبية وراء الطبيعة، بل فوق الطبيعة ... فشأن المتدين أنه يطلب وراء كل حس معنى، ويلتمس تحت كل ظاهر باطنا، ويضع في مبدأ كل فعل فاعلا، معتقدا أنه لا يقع في الكون شيء، من دقيق الحوادث وجليلها إلا وللإله - أو لبعض الآلهة - فيه قضاء وتدبير.
نعم، إن الفلسفة الروحية تشارك النظرة الدينية في هذا الإيمان بما وراء الطبيعة من قوة أو قوى فاعلة عاقلة، ولكنها تفارقها بأنها منقطعة الصلة الأدبية بهذه القوة: فليس بين الفيلسوف وبينها ارتباط بحقوق أو واجبات، وليس بينهما مناجاة تتبادل فيها المطالب والرغبات، أما المتدين فإنه يؤمن بهذه الصلة إلى حد أنه يجعلها جزءا حيويا من كيانه النفسي؛ ولذلك نراه كلما حزبته حاجاته، وتعسرت عليه رغباته تطلع إلى روح أشد قوة ، يلتمس منها تلك الحاجات والرغبات. (2-6) الفرق بين التدين وبين السحر بأنواعه
على أنه ليس كل إيمان بقوة غيبية روحية، ولا كل توجه إلى تلك القوة، يدخل صاحبه في جماعة المتدينين، فإن موقف العالم الروحاني في مناجاته للأرواح، ليس أحق باسم التدين من موقف أخيه العالم الطبيعي لدى الأشباح، وإن كان قد يشتبه الأمر بينه وبين موقف المتدين في عبادته، من حيث يتصل كل منهما بقوة خفية يستلهمها ويلتمس عونها، إلا أنه على الرغم من الاشتراك في جنس هذه الصلة، تختلف الحقيقتان اختلافا كبيرا، حتى إن طرفي النسبة في الأوضاع غير الدينية قد يبدوان منعكسين تمام الانعكاس بالنسبة لهما في الأوضاع الدينية، وذلك أن القوى السرية التي يدعوها الساحر
4
أو الكاهن أو مناجي الأرواح لا تقع صورتها في أخيلتهم على أنها شيء يعلوهم فيتطاولون إليه، بل على أنها قرن ينازلونه، أو قرين يخادنونه، وقد يرون لأنفسهم من العلو والسلطان على تلك القوى بوسائلهم الخاصة ما يستطيعون به أن يقتنصوها ويخضعوها لأوامرهم، ويسخروها لرغباتهم، كما يسخر الكيميائي عناصر الطبيعة المادية لمآربه، أما العابد فإنه يقف من معبوده موقف الخاضع المتواضع الساعي في رضى سيده، المشفق من غضبه وسخطه. (2-7) تصوير الأهداف الثلاثة
فالفاصل الأخير، الذي يتم به تصوير القوة التي يؤمن بها المتدين، أنها قوة علوية سبحانية، قاهرة غير مقهورة، يخضع هو لها، ولا تخضع له.
إن شئنا أن نضرب مثالا حسيا لهذه الأهداف المختلفة، قلنا: إن قبلة العالم المادي تحت أقدامه؛ لأن القوى التي هو منها بسبيل قوى عمياء صماء، يحس بها ولا تحس به، وإذا دعاها لا تستجيب له، وقبلة العالم الروحي هي من وجه ما في مستوى أفقه؛ لأنها وإن كانت أقدر منه على التصرف، إلا أنها قوى حية عاقلة مثله، ولكنها من وجه آخر هي دونه؛ لأنها تحت يده، متصرفة بأمره، منقادة إلى تعاويذه وطلاسمه. أما المؤمن فإنه يهدف إلى أعلى من ذلك كله؛ لأنه يتجه إلى القوة العليا بإطلاق، فالكل ينكسون أبصارهم إلى الأرض، والمؤمن يرفع رأسه إلى السماء.
الفصل الرابع
العناصر النفسية
هذه العناصر الخمسة التي يتألف منها موضوع العقيدة الدينية، ينبغي أن يضم إليها عنصر (ذاتي-نفسي) يتميز به نوع الخضوع الذي يتصف به المتدين بإزاء موضوع عقيدته.
وإليك البيان: (1) الفرق بين الخضوع الديني والخضوع الطبيعي
الناظر إلى العالم العلوي في جملته يراه مسخرا تحت سلطان القدر، في أوضاعه وأحجامه، وحركاته، وطبائعه: كل شيء فيه له قدر لا يعدوه، وطور لا يتجاوزه ... والناظر في عالمنا الأرضي كذلك يجده مقيدا بنسب معينة من البعد عن الشمس وعن الكواكب، وبمقادير معينة من الضوء والحرارة والضغط الجوي وغيرها ... (2) هل تمحى ظاهرة الموت
والناظر إلى هذه الكائنات الحية التي على ظهر الأرض يراها كلها خاضعة لقانون الشيخوخة والهرم، وأخيرا لظاهرة الموت
1 ... تلك كلها ضروب من الخضوع الطبيعي، منها ما هو آلي لا شعوري، ومنها ما هو شعوري اضطراري، كمثل الذي يتردى من نافذة علوية، فهو حين يهوي في الفضاء لا يسعه إلا الاستسلام لهذه الحركة القسرية راغما مكرها. أما المتدين فخضوعه شعوري اختياري معا، وهو حين يخشع لمعبوده ويسجد لعظمته يفعل ذلك عن طواعية لا عن كراهية؛ لأنه يقوم في ذلك بحركة نفسية من التمجيد والتقديس تأبى طبيعتها أن تؤخذ قهرا، وإنما تعطى وتمنح لمن يستحقها متى اقتنعت النفس بهذا الاستحقاق. نعم، إن هناك نوعا من الإكراه - وهو الإكراه غير المباشر، كالتهديد بالعقاب - يمكن أن يفضي إلى مظهر من مظاهر التعظيم وصورة من صوره المادية، ولكنه لا يمكن أن يتولد عنه حقيقة التعظيم ولا صورته القلبية.
فهذا وجه ينفصل به خضوع العبادة عن خضوع العبودية العامة
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها .
2
ووجه آخر: وهو أن خضوع المتدين لمعبوده وإن كان خضوعا كليا لقوة قاهرة - كما يقولون - ليس هو ذلك الخضوع الذي يخلق اليأس، ويكبت النفس، ويغل من الجهد، ويحد مجال العمل، ويسد باب الأمل، بل هو شعور يرفه عن القلب بما يفتحه أمامه من آفاق الإمكان، هو شعور يضع عن النفس الأثقال، ويحطم ما حولها من الأغلال ، وتكاد لا تعثر في لغته على كلمة «المحال»، فإذا اشتدت الأزمات، وضاقت الحلقات أمام المتدين، تراءى له من خلالها أبواب ومخارج ليس دون انفراجها إلا أن يأذن معبوده؛ ولذلك إذا رأيته في توجهه إلى هذا المعبود رأيته مقسم القلب أبدا بين الرغبة والرهبة، موزع الأمل بين الشك واليقين؛ لأن القوة التي يتوجه إليها بالعبادة هي في نظره أعز مثالا وأعظم استقلالا من أن تخضع لغير إرادتها نفسها، تلك الإرادة التي لا يعرف هو قانونها، بل يقف حائرا أمام أسرارها. (3) الإيمان جماع أمل وحذر
هذا الترقب والانتظار في مزيج من الأمل والحذر أمام دولاب الحوادث، هو إحدى الظواهر العامة التي نلاحظها في نفسية المتدين، ولا نجدها إلا في نفسية المتدين، أو المؤمن بإرادة مهيمنة على الطبيعة. (4) الإلحاد أمن غافل أو يأس قاتل
ذلك أن الطبيعيين حين يرون ترابط الأشياء وتتابعها في نظام مطرد، يقف بهم النظر في هذه النظم عند حد العادة الجارية، فيطمئنون الاطمئنان كله إلى استقرارها ودوامها، وييأسون اليأس التام من تحولها وانفصامها، فهم أبدا في أحد طرفين متباعدين: إما أمن غافل، وإما يأس قاتل، أما العقيدة الدينية - وكذلك الفلسفة الروحية - فإنها لا تخضع لسياسة الأمر الواقع، بل تنفذ إلى بواطن الأمور وأعماقها، فتقيس الوجود بمقاييس العقل، وتزنه بموازين الإمكان؛ وبذلك يتكشف لها الكون عن حقيقته، فلا ترى في نظامه الواقعي ضرورة ذاتية، ولا في تبدل هذا النظام استحالة ذاتية، بل ترى عليه طابع الصنعة الموضوعة، وأثر الترتيب المقصود، وترى أمر بقائه أو تطوره رهينا بالإرادة التي وضعت هذا النظام وحفظته؛ لأن من استطاع أن يربط السلسلة استطاع أن يفصمها، ومن أدار الدولاب ذات اليمين قدر أن يديره ذات الشمال، ومن صرف الأمور بمحض اختياره على وجه كان في وسعه أن يحدث في سيرها من العجائب والشواذ والمفاجآت ما يخرق كل حساب، فيبرئ المريض الذي عجز الطب عن علاجه، ويخلص الأسير الذي أوصدت دونه الأبواب، وينزل الغيث في القيظ، وينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة ... إلى غير ذلك. (5) الأديان تمهد لتقدم العلوم
هكذا نرى الأديان في كل صورها ومظاهرها تقف إلى جانب الأمل والإمكان والحرية والاختيار في مبدأ الأشياء، وهي بهذه النزعة - في الحقيقة - تخدم العلوم وتمهد لتقدمها؛ إذ تفسح المجال أمامها في تغيير معالم الأشياء إلى مدى أبعد مما تتصوره العلوم الواقعية، التي هي بطبيعتها جبرية إلى أقصى حدود الجبر، يئوسة إلى أبعد حدود اليأس؛ لأنها كلما كشفت قانونا وقفت عنده دهرا؛ تبني على أساسه كل فنونها وصناعاتها ... حتى إذا انتقلت إلى مرحلة أخرى، انتقلت بذلك من طوق حديدي إلى طوق أوسع منه، ولكنه في نظرها طوق حديدي - على كل حال - فهي تعيش يوما بيوم، لا تؤمن إلا بعينها، ولا ترى أكثر من طرف أنفها. (6) لا جديد في الكون إلا بفعل إرادة عاقلة
إلا أنها في هذا السير الحثيث إلى الكشف والتجديد، خاضعة في الواقع من حيث لا تشعر لدفعة خفية من الإيمان بإمكانيات لا نهاية لها في الكون، كما أنها تلمس في أثناء تجاربها اليومية أن كل جديد تحصل عليه في تبديل أوضاع الأشياء إنما هو ثمرة مجهودات إرادية عاقلة، وليس هناك مثال واحد - منذ عرف الإنسان الكون - يدل على أن الطبيعة بدلت أوضاعها، وأحدثت في نفسها نظاما جديدا من غير تدخل قوة شاعرة مستقلة عن تلك المادة، مهيمنة عليها.
أليس هذا وحده كافيا في لفت النظر إلى سائر الترتيبات السابقة، التي نراها في طبائع الأشياء أو سير الحوادث، لم تبرز هكذا من تلقاء نفسها ولا بقوة لا شعورية مثلها؟ هذا هو أساس الفكرة التي تسيطر على الدينيات والروحيات جميعا، وهي أن على رأس كل سلسلة من الأسباب قوة اختيارية، هي قوة الإنشاء والابتكار التي لا بد أن ينطوي عليها السبب الأول. (7) العلوم الواقعية تفحص الآلة ولا تفكر في مخترع الآلة
نعم، إن العلوم الواقعية حين تنظر في هذه الآلة الكونية الدقيقة لفحص أجزاءها وتعرف قانون سيرها، إنما يعنيها من وراء هذا البحث تنظيم الجهد الإنساني وتنسيقه على وفق ذلك القانون الآلي. وهي من هذه الوجهة الخاصة لا لوم عليها في إهمالها السؤال عن مخترع هذه الآلة وواضع ذلك النظام؛ لأن هذا السؤال خارج عن طبيعة المهمة الأولى التي تخصصت لها. (8) إغفال هذا التفكير هبوط إلى مستوى الحيوانية
ولكن اللوم كل اللوم على الإنسان، بما هو إنسان، حين يضع بيديه هذه القيود الحديدية لعقله، وحين يبتر هذا العنصر الجوهري في كيان نفسه، بإبعاد هذا السؤال بتاتا من بين بحوثه، قناعة باللحظة الحاضرة عن الماضي السحيق والمستقبل البعيد؛ لأنه بذلك يهبط من عرش إنسانيته إلى صف الحيوانية، ويسكت ذلك الصوت السماوي الذي يناديه من أعماق روحه، مستحثا له على استكمال فطرته، زاجرا له عن الاكتفاء بنظره في حاضر الأشياء وحاضره، عن التطلع إلى مبدئها ونهايتها، وإلى مبدئه ونهايته. (9) ضم العناصر المستخرجة من هذا التحليل
والآن نستطيع أن نضم العناصر الرئيسية التي استخرجناها في ثنايا هذا التحليل، وأن نؤلف منها الحد التام لماهية الدين، فنقول:
الدين هو «الاعتقاد بوجود ذات - أو ذوات - غيبية، علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان، اعتقادا من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد»، وبعبارة موجزة هو «الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة»، هذا إذا نظرنا إلى الدين من حيث هو حالة نفسية
etat subjeclif ، بمعنى: التدين، أما إذا نظرنا إليه من حيث هو حقيقة خارجة
fait objectif
فنقول: «هو جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها.» (10) المآخذ على تعريف المدرسة الاجتماعية «وبعد» فلن يشق على القارئ أن يعود الآن بنفسه إلى التعريفات المختلفة التي نقلناها في صدر هذا البحث، وأن يتبين في ضوء هذا البيان مقدار ما في كل واحد منها من وفاء أو زيادة أو نقص عن الحاجة، غير أننا نود أن نشير إلى مؤاخذتين مهمتين في تعريف «دوركايم» و«ريناك» وأشياعهما.
أما «الأولى» فهي أن هؤلاء الباحثين لم يعتبروا من القدسية الدينية سوى جانبها العملي «السلبي» وهو تحريمها لبعض الأشياء، والتحذير من مباشرتها والدنو منها :
Tabou ، وقد فاتهم أن المنع من لمس شيء ما ليس دائما دليل قدسيته، بل قد يكون - على الضد - دليل ما فيه من خبث ورجس. كما فاتهم أن الشعائر العملية في كل نحلة يجب أن تكون ترجمة كاملة لعقائدها، فإذا كان التقديس هو من أحد جانبيه تنزيها عن العيوب والنقائص، فهو من الجانب الآخر وصف بالجميل والكمال، هو تعظيم للقيم الكبرى والمثل العليا، فمظهره في الناحية السلبية عدم انتهاك الحرمات، وفي الناحية الإيجابية الإقبال على الفضائل اغترافا من معينها، وتذوقا لجمالها وتمثلا لجوهرها. فالتعريف إذن قاصر عن استيفاء أجزاء المعرف.
وأما المؤاخذة «الثانية» - وهي أشد خطرا وأمس بالجوهر - فهي أنهم بتجريدهم ماهية الدين من فكرتي: «الروحية» و«الإلهية» قد جردوها من أخص صفاتها، ونزعوا منها المحور الذي تدور عليه كل عناصرها، والمعيار الوحيد الذي تقاس به مظاهرها وتتميز به عما سواها. وفي الحق أن التعريف الذي يقدمونه لنا بعد حذف هاتين الخاصتين يمكن تطبيقه بأكمله على كل مظهر من مظاهر النشاط الاجتماعي، متى كانت له صبغة السنن الموروثة، التي يلتزم الجمهور مراعاتها في حياتهم الأدبية، أو الفنية، أو الاقتصادية أو غيرها، فعادة رفع الأعلام في الأعياد، والقيام عند السلام الوطني، ولبس السواد في الحداد، ووضع الخاتم في إصبع معينة للمتزوج أو غير المتزوج، وحفلات التكريم وإشارات التعظيم، والأزياء القومية أو الطائفية، وسائر العوائد الملتزمة التي تسمى ب «الإتيكيت» أو «البروتوكول» والتي يعد الخروج عنها نابيا في ذوق العرف العام أو الخاص؛ كل أولئك يسوغ لنا - بمقتضى تعريفات المدرسة الاجتماعية الفرنسية - أن نسميها أعمالا دينية وعبادات. ومثل هذا يقال في باب الآراء والمذاهب السياسة وغيرها.
ولا يكفي لإزالة اللبس هنا أن نقول: إن الفكرة الدينية تقتضي «الإيمان بأن الموجودات ليست كلها من نوع واحد، ولا في مرتبة واحدة، بل بعضها أسمى من سائر الأنواع»؛
3
لأن اعتقاد هذا التفاوت كما يتحقق في الفكرة الدينية يتحقق في غيرها، كاعتقاد أمة ما أنها أرقى عنصرا، وأنبل مولدا وأحق بالزعامة العالمية من سائر الأمم ... وهكذا ينفرط العقد ويمتد اللبس بين الحقائق الدينية وغيرها إلى أقصى مداه، وما وضعت الحدود إلا لإقامة الحدود بين المعاني المختلفة حتى لا يبغي بعضها على بعض.
المبحث الثاني
في علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب
الفصل الأول
الدين والأخلاق
(1) علاقة الدين بالأخلاق من الوجهة النظرية
ها هنا نوعان من الدراسة للصلة بين الدين والأخلاق: دراسة «نظرية، تجريدية» تنظر إلى الأشياء كما يمكن أو كما يجب أن تكون، ودراسة «واقعية، تاريخية» تنظر إليها كما كانت بالفعل. «فمن الناحية التجريدية» يمكننا بوجه من النظر أن نجعل من هذين المعنيين حقيقتين متغايرتين، وبوجه آخر أن نجعل منهما مفهومين متداخلين.
ذلك أننا إذا نظرنا إلى «الدين» من حيث هو معرفة «الحق» الأعلى وتوقيره، وإلى «الخلق» من حيث هو قوة النزوع إلى فعل «الخير» وضبط النفس عن الهوى، كان أمامنا حقيقتان مستقلتان، يمكن تصور إحداهما بدون الأخرى، فتختص أولاهما بالفضيلة النظرية، والأخرى بالفضيلة العملية.
غير أنه لما كانت الفضيلة العملية يمكن أن تتناول حياة الإنسان في نفسه، وفي مختلف علائقه مع الخلق، ومع الرب، كان القانون الأخلاقي الكامل هو الذي يرسم طريق المعاملة الإلهية، كما يرسم طريق المعاملة الإنسانية. وكذلك لما كانت الفكرة الدينية الناضجة هي التي لا تجعل من الألوهية مبدأ تدبير فعال فحسب، بل مصدر حكم وتشريع في الوقت نفسه؛ كان القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند وصف الحقائق العليا النظرية، وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة في الحياة العملية، فيضع لها المنهاج السوي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والجماعة، وهكذا يصل القانون الديني - إذا استكمل عناصره - إلى بسط جناحيه على علم الأخلاق كله، بل على سائر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد والشعوب، بحيث يجعلها جزءا متمما لحقيقته ويصبغ كل قواعدها بصبغة القدسية، فيصبح اتباع الفضائل الفردية والاجتماعية نوعا من الطاعة لأوامر الدين، وبابا من أبواب القربات والعبادات الإلهية؛ فضلا عن كونه تحقيقا لمبدأ العدالة الإنسانية، وتلبية لداعي الفطرة السليمة.
وخلاصة القول في هذه الناحية التجريدية أن الدين والأخلاق في أصلهما حقيقتان منفصلتا النزعة والموضوع، ولكنهما يلتقيان في نهايتهما، فينظر كل منهما إلى موضوع الآخر من وجهة نظره الخاصة، كمثل شجرتين متجاورتين تمتد فروعهما، وتتعانق أغصانهما، حتى تظلل إحداهما الأخرى. (2) علاقة الدين بالأخلاق من الوجهة التاريخية «أما من الوجهة الواقعية» فإننا لا نرى الصلة بين الدين والأخلاق تبلغ دائما هذا الحد من التساند والتعانق، لا في مبدأ نشأتهما في نفس الفرد، ولا في دور تكونهما وتركزهما في قوانين وقواعد مقررة في المجتمع، أما في الحياة الفردية فإن هذا الاتصال يبدو واضحا في عهد الطفولة والصبا؛ فالشعور الأخلاقي أقدم وأرسخ في نفس الطفل من الشعور الديني؛ ولذلك نراه يبدأ في سن مبكرة جدا باستحسان بعض الأفعال، واستنكار بعضها، والاستحياء من بعض آخر. ولا يشعر بالحاجة إلى تعليل ظواهر الكون وتقديس سر الوجود إلا في دور ثان يكون فيه أنمى عقلا، وأهدأ بالا، وأشد تيقظا، وأدق ملاحظة.
وأما في المجتمع فإن امتزاج القوانين الدينية والقوانين الأخلاقية نراه لا يجري على سنن واحدة في العصور والبيئات المختلفة، فكثيرا ما ظهرت في التاريخ نظم أخلاقية لا تعرض لواجب الآلهة قط، ولا تستقي تشريعها للفضائل الأخلاقية من وحي الدين، بل من قوانين العقل، أو وحي الضمير، أو سلطان المجتمع، أو حسب المصالح والمنافع، أو غير ذلك. كما ظهرت في التاريخ مذاهب دينية لا تعنى هذه العناية بالناحية العملية الاجتماعية، بل كثيرا ما تجعل المتدين ينطوي على نفسه، متخذا مثله الأعلى في العزلة والصمت والتأملات العميقة.
نعم، إن معرفة الحق وتعظيمه لا يخلوان في غالب الأمر عن مظهر يتمثلان فيه؛ ولذلك تكاد لا تخلو حقيقة التدين عن عنصر عملي يكون حلقة الاتصال بين الدين والأخلاق، ويتحقق ذلك - على الأقل - في الجانب الإلهي من الواجبات الذي نسميه عبادة، لكن هذا المظهر نفسه قد تغمض معالمه، وتتضاءل صورته، حتى يصير كلمة تعبر عن العجز والحيرة في التماس طريق التوجه إلى ذلك السر الهائل، وإن دين الحنفاء من العرب في الجاهلية لهو أوضح مثال لهذه الحقيقة، فابن هشام يروي لنا عن أحد هؤلاء الحنفاء - وهو زيد بن عمرو بن نفيل - أنه كان يقول وهو مسند ظهره إلى الكعبة: «اللهم إني لو كنت أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه.»
1 (3) معنى الدين والخلق في المحادثات العصرية
بقي علينا أن نتساءل عن المعنى الذي يقصد إليه غالبا من كلمتي «الدين» و«الخلق» في محاورتنا العصرية، وهنا أيضا نجد بين الكلمتين من المرونة في التدخل تارة، والاستقلال تارة أخرى، ما يجعلهما دائما في شبه مد وجزر، ويجعل من العسير تحديد المراد من كلتيهما بصفة حاسمة، إلا أنه يلوح لنا أن هاتين الكلمتين لا تزالان تخضعان في استعمالنا للقاعدة المعروفة في الكلمات العربية التي من أسرة واحدة، مثل «الرأفة والرحمة»، و«البر والتقوى»، و«الإيمان والإسلام» وغير ذلك، وهي أن هذه الكلمات التوائم كلما اجتمعت في العبارة افترقت في المعنى، وكلما افترقت في العبارة اجتمعت أو مالت إلى الاجتماع في المعنى بقدر الإمكان، فإذا قلنا: «فلان ذو دين وخلق»، وجب - لكي تخلو العبارة من عيب التكرار واللغو - أن تؤدي كل من الكلمتين معنى مستقلا، منعزلا عن الآخر انعزالا كليا، بحيث يختص الدين بالجانب الإلهي، والخلق بالجانب الإنساني، فيكون معنى الدين: الإيمان أو التقوى الخاصة - أعني: القيام بفرائض العبادة - ويكون معنى الخلق: التحلي بالفضائل والآداب الاجتماعية.
أما إذا اكتفينا بقولنا: «فلان ذو دين»، وكان المفروض أن الدين الذي نشير إليه من الأديان الخلقية المعروفة، فإن كلمة الدين هنا تتسع لمعنى أختها المطلوبة أيضا، وحينئذ يراد منها التقوى الشاملة الكاملة، أعني: القيام بالفروض الإلهية والإنسانية معا.
وكذلك إذا اكتفينا بقولنا: «فلان ذو خلق» وكان مفهوما أن الأخلاق المتواضع عليها جامعة للحقوق الإلهية والإنسانية، ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أنه حتى في هذه الحالة التي تأخذ فيها كلمة الخلق أوسع معانيها، لا تصبح تلك الكلمة مرادفة تماما لكلمة الدين؛ لأن هذه لا تزال تمتاز بعنصر نظري جوهري، لا يمكن سقوطه ولو ذهب غيره من الأجزاء، ذلك هو عنصر المعرفة بالإله والإيمان به، وهو عنصر لا يدخل في طبيعة مفهوم الأخلاق ؛ لأنها دائما ذات طابع عملي، وما اعتمادها - إن اعتمدت - على وازع الدين والإيمان إلا اعتماد على دعامة ووسيلة، لا على جزء متمم لحقيقتها، وفي وسعها بعد أن تستغني عن هذه الدعامة بباعث الوجدان أو غيره - كما أسلفنا - فلا يكون بينهما وبين الدين العملي إلا تشابه موضوعي، مع اختلاف البواعث والأهداف.
الفصل الثاني
الدين والفلسفة
(1) وحدة الموضوع فيهما
إذا نحن أحصينا ضروب المعرفة الإنسانية على كثرة اختلافها وفرط تنوعها؛ وجدنا من بينها ضربا يجري مع الأديان في مجال، ويكاد يعد من عصبتها أو من ذوي رحمها الأقربين، ولا نجد ضربا آخر يزاحمه أو يدانيه في هذا النسب. ذلك هو ما اصطلح العلماء على تسميته باسم «العلم الأعلى» أو «الفلسفة العامة».
أليس موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين؟ أوليست المشكلة التي تعالجها الفلسفة هي بعينها المشكلة التي انتدبت الأديان لحلها؟ فمطلب الفلسفة هو معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية في العاجل والآجل، هذان هما موضوعا الفلسفة بقسميها العلمي والعملي، وهما كذلك موضوعا الدين بمعناه الشامل للأصول والفروع. (2) الأصول العامة التي تنفصل فيها الفلسفات المادية وبعض الفلسفات الروحية عن الأديان
غير أن الاتحاد في موضوع البحث لا يعني دائما الاتفاق على نتائجه، فكما أمكن أن تختلف الأديان
1
في تعيين الحلول لهذه المسائل الكبرى؛ اختلفت مذاهب الفلسفة فيما بينها اختلافا كثيرا، بل قد يكون الاختلاف بين الفلسفة أشد تباعدا وأكثر تشعبا منه بين أهل الأديان.
وليس يعنينا هنا أن نبحث عن وجوه الاختلاف الداخلي بين أهل المعسكر الواحد من هذا الفريق أو ذاك، ولكن الذي يعنينا هو أن نعرف الوجوه التي فصلت بين هذين المعسكرين: الديني والفلسفي، حتى جعلت كل طائفة منهما ذات لقب خاص، لا يسوغ نقله إلى الطائفة المقابلة لها.
وإذ لا سبيل لنا إلى الفصل بين موضوعي الديانة والفلسفة، بعد أن تبينت وحدة هذا الموضوع؛ بقي أمامنا أن نبحث عن وجه اختلافهما في النتائج التي وصل إليها كل منهما.
غير أننا لا نستطيع أن نصدر ها هنا حكما عاما شاملا، يجمع بين الحقيقتين كلية، أو يفصل بينهما كلية؛ إذ إننا نجد كثيرا من المذاهب الفلسفية قد توصلت بمجهودها العقلي المستقل إلى تقرير المبادئ الأولية التي قررتها الأديان، بينما نجد بعضا منها قد انفصل من أول الطريق أو من وسطه عن تلك المبادئ.
وأشد هذه المذاهب انفصالا، وأكثرها بعدا، هي المذاهب المادية، التي لا تعترف بشيء في الوجود وراء الحس والمشاهدة، فتنكر بذلك مبدأ رئيسيا مشتركا، تقوم عليه جميع الأديان، وتقره سائر الفلسفات. (3) الفلسفات الروحية التي تتفق مع الأديان في الأصول العامة تختلف عنها وعن بعض الوجوه
بل إن بعض الفلسفات الروحية، التي تتلاقى مع الديانات في الاعتراف بأن للعالم صانعا قديرا، قد فهمت الصلة بين هذا الإله وبين العالم على وجه يجعلها تتخلف عن ركب الأديان في مرحلة أو أكثر؛ إذ تفقد به عنصرا آخر من عناصر الديانات، وأهمها عنصران:
العنصر الأول:
عنصر «بدء الخلق»؛ أي إحداث المادة من العدم، وهو مبدأ تعترف به جميع النحل الدينية، في حين أن بعض قدماء اليونان كان يرى أن الروح المدبر للعالم لم ينشئ هذا العالم إنشاء، بل إنه وجد أمامه المواد الكونية مبعثرة بغير نظام، فقام بتنسيقها على هذا الوجه الهندسي المتقن، فالخالق في نظرهم ليس بارئا، بل هو صانع ماهر
demiurge
2
ليس غير.
العنصر الثاني:
عنصر «الربوبية» أو «العناية المستمرة»، فإن الأديان كلها قائمة على فكرة التمجيد لقوة لها صلة بالحوادث اليومية، ولها عناية دائمة بالكائنات، لا تنفك عن إمدادها وتدبيرها، وذلك هو أصل فكرة العبادة التي لا يتحقق اسم الديانة بدونها.
أما الفلسفات التي تؤمن بالألوهية فليست كلها تؤمن بهذه الربوبية؛ إذ إن بعضها كان يرى أن صلة الإله بالعالم إنما هي صلة العلة الأولى والسبب البعيد الذي أدى عمله، وانتهت مهمته، وأن مثله كمثل المهندس البناء حين يفرغ من رسم البيت وبنائه، ويصبح لا شأن له بسياسته وتدبيره، أو - على الأقل - لا صلة له بتدبير عالمنا الأرضي.
3
والآن دع هذه الفصيلة من المذاهب الفلسفية - أعني: فصيلة المذاهب المتخلفة عن قافلة الأديان - وخذ بنا في المقارنة بين الدين وبين الفلسفات التي تلتقي مع الديانات، لا في موضوعها وحسب، بل في أصولها العامة التي أشرنا إليها، فهل ترى يصل أمر التقارب بينهما إلى حد الاتفاق في كل شيء، حتى يصبحا اسمين لمسمى واحد؟
هيهات! فقد بقيت وستبقى بينهما فروق كثيرة، يراها بعض العلماء في الوسائل والمناهج، وبعضهم في المصادر والمنابع، وبعضهم في الظروف والملابسات؛ ونراها نحن في شيء أعمق من هذا كله، في العناصر المقومة لحقيقة كل منهما.
فلنبدأ بعرض مقالات السابقين ونقدها، ثم نختم بما نراه نحن في هذه القضية: (3-1) رأي الفارابي في كنه هذا الاختلاف
يقول الفارابي نقلا عن قدماء اليونان: إن اسم الفلسفة خاص عندهم بالعلم الذي تتعقل فيه حقائق الأشياء بذاتها، لا بمثالها، ويتوسل فيه إلى إثباتها بالبراهين اليقينية، لا بمجرد الإقناع، أما الملل والأديان فطريقها في التفهيم إقناعي، وتمثيلي.
نقول: إن صحت هذه التفرقة في بعض الأديان، فإنها لا تنطبق على جميعها، فهذا دين الإسلام - مثلا - قد جمع في تعاليمه بين طريقتي اليقين والإقناع، وبين منهجي التحقيق والتمثيل، والفيلسوف ابن رشد يقرر لنا هذه الحقيقة بطريقة تطبيقية على كثير من المسائل والنصوص، في كتابه «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، فبعد أن بين أن طباع الناس متفاضلة في التصديق؛ فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان؛ إذ ليس في طبيعته أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية، قال ما نصه: «ولما كانت شريعتنا هذه ... قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث، عم التصديق بها كل إنسان، إلا من يجحدها عنادا بلسانه أو لإغفاله ذلك من نفسه، ولذلك خص - عليه الصلاة والسلام - بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني: لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى، وذلك صريح في قوله تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة »
4
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: «فإن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاثة، أعني: الطريق الموجودة لجميع الناس، والطريق المشتركة لتعليم أكثر الناس، والطريق الخاصة.»
5
ليس لنا إذن أن نقول: إن الأديان كلها تقوم على الإقناع الخطابي والتمثيلي، لا على التحقيق واليقين.
ثم ليس من الصواب أن نقول من الجهة الأخرى: إن التعليمات الفلسفية تستمد دائما من نور العقل، وتستند إلى البراهين القطعية؛ إذ لو كانت كلها كذلك ما أمكن أن يحدث بينها هذا الاختلاف والتضارب، فإن الحق لا يعارض الحق ولا يكذبه، بل يسنده ويؤيده.
فهذا التعارض دليل واضح على أنه ليس كل واحد منها يمثل الحقيقة المطلقة أو يقول فيها الكلمة الأخيرة، بل من الجائز أن يكون كل منهما يمثل جانبا من حقيقة مركبة تتألف من مجموعها، ومن الجائز أن يكون الحق واحدا منها وسائرها باطلا، أو يكون الحق وراء ذلك كله، ولا بد لمعرفة أي ذلك هو الواقع، في موضوع ما، من إعادة النظر فيه بالفحص والمقارنة بين مذهب ومذهب، ودليل ودليل.
ونحن نعرف بالاستقراء والتجربة أن أكثر هذه النظريات الفلسفية المتضاربة فروض وتقديرات، تدور كلها في ذلك الإمكان والاحتمال، وتتفاوت فيما بينها بقدر ما فيها من حسن العرض وتناسق الوضع، لا اعتمادا على العقل الخالص ومتانة البرهان، بل على جودة الخيال وبراعة البيان، فهي لا تعدو أن تكون ضربا من الشعر المنثور، يناجي العاطفة ويستهوي القلوب، من غير أن يكون في حجتها ما يشفي طالب اليقين، ولا في حكمها ما يحسم مادة النزاع بما فيه فصل الخطاب. (3-2) رأي ابن سينا ونقده
ننتقل إذن إلى فرق آخر:
يرى ابن سينا أن الدين والفلسفة، مع اشتراكهما في تعريف «الحق» و«الخير» يختلفان في مبلغ عنايتهما بهذين الأصلين، ويقول: «إن الشريعة الإلهية يستفاد منها مبادئ الحكمة العملية وحدودها على الكمال، أما الحكمة النظرية فإن الشريعة تعنى بمبادئها فقط على سبيل التنبيه، تاركة للقوة العقلية أن تحصلها بالكمال على وجه الحجة.»
6
نقول: هذا الفرق - على عكس الفرق الذي حكاه الفارابي - ينطبق بوضوح على الشريعة الإسلامية؛ فإنها نبهت على مبادئ الحكمة النظرية تنبيها رقيقا، وبينت الحكمة العملية بكمالها. ولكن هل ينطبق ذلك على سائر الشرائع الإلهية، فضلا عن الديانات الأخرى؟ كل ما يمكن أن يقال هو أن عناية الأديان في جملتها بالناحية العملية أشد منها بالناحية النظرية، ولكننا نعرف من مدارس الفلسفة أيضا ما يغلب عليها - أو يكاد يستأثر بها - هذا العنصر العملي. فلا يصلح ذلك فارقا كافيا لتمييز ماهية الدعوة الدينية عن التعاليم الفلسفية بصفة مطردة. (3-3) آراء علماء الغرب
أما علماء الغرب اليوم فيرون الفرق بين الدين والفلسفة من الوجوه الآتية: (1)
مشاكل الفلسفة يناط حلها بالأفذاذ من ذوي العقول الراجحة، بينما مسائل الدين - في زعمهم - تحلها الشعوب والجماهير، قالوا: ولذلك كانت نشأة الأديان، وحياة واضعيها، والظروف التي ألفت فيها كتبها؛ غامضة مدفونة في ظلمات التاريخ، ولا كذلك الآثار الفلسفية. (2)
الدين يرثه الشعب عن أسلافه، والفلسفة يستمدها الفيلسوف من عقله ومن ملاحظاته الشخصية، ولو خالفت العقائد الموروثة. (3)
الفلسفة متجددة، والديانة تميل إلى الثبات وعدم التطور؛ لأن الجماعات لا تقبل أن تغير عقيدتها كل يوم، أو أن تعيد النظر فيها من جديد، ولا سيما إذا كان كتاب العقيدة مفروضا فيه أنه كلام الرب المعبود. (4)
الديانة لها في المجتمع مكان الصدارة؛ لأن لها الأسبقية وتقادم العهد، الذي مكن لها من الرسوخ في القلوب؛ لأنها عقيدة الجمهور، وفي متناول عقليته. (5)
الدين لا يستغني عن مظهر اجتماعي، في حفلات يومية، أو سنوية، أو موسمية، يوثق بها الأفراد أواصرهم الطائفية، كما أن الفكرة الدينية بحاجة إلى التجسد في صور معينة، ورسوم محددة، يجدد بها المتدين عهده بعقيدته، التي هي دائما عرضة للنسيان، من جراء المشاغل الحيوية المادية، بينما الفلسفة لا حاجة بها إلى هذه المحافل؛ لأن عقيدة الفيلسوف حاضرة في نفسه في غالب الأمر، كما أنها لا يصح أن تتمثل في رسوم عبادة معينة؛ لأنه لا شيء من تلك الصور المحددة يفرضه العقل فرضا، بحيث يكون الخروج عنه شذوذا في التفكير، ولو التزم الفيلسوف شيئا من هذه الأوضاع الخاصة، وجعله شعارا لفلسفته لخرج إلى ضرب من الهزل والمجون، حري أن يسخر منه. (6)
الديانة تعيش بسلطان ونفوذ كنفوذ الدولة، والفلسفة لا تعيش إلا في جو الحرية. (3-4) مناقشة هذه الآراء
الناظر في هذه الفروق يرى أنها - في جملتها - لا تصور الديانة والفلسفة في كل الأدوار التي مرت بهما، بل تصفهما في حالتهما الحاضرة، وفي أوروبا المسيحية على وجه أخص، فهي تصور لنا الأديان الموروثة عن السلف في حالة استقرارها وثباتها، بعد أن أصبحت عقيدة للجمهور، وصارت جزءا من تاريخه، يحف بها جلال الماضي، ويحوطها سلطان الكنيسة، وقد بعد عهدها بتاريخ نشأتها الغامض، ثم تصور لنا الفلسفة بازغة في عقل الفيلسوف، مطبوعة بطابع عقله ونزعاته وأحاسيسه، طليقة من كل قيد، تستطيع أن تلبس كل يوم ثوبا جديدا.
ولا ريب أننا حين نعقد المقارنة هكذا في ملابسات متباينة، نحصل على صورتين متفاوتتين: فالديانات تبدو لنا في مظهرها الاجتماعي المستقر، والفلسفة في طابعها الفردي الحر المتجدد، وهكذا يصدق القول بأن «الديانة هي فلسفة الشعوب والجماهير»، وأن «الفلسفة هي ديانة الأفذاذ الممتازين».
أما إذا عدنا بالديانات إلى عصور نشأتها، أو عصور تجديدها وإصلاحها، فإنها تبدو لنا هي أيضا وهي تحمل أعلاما شخصية: موسى، أو بوذا، أو عيسى، أو ماني، أو محمدا، أو لوثر، أو عبد الوهاب، أو غيرهم، حتى الديانات الوثنية لم تعدم زعماء وضعوا أساسها، أو وسعوا بنيانها، إما بالتفنن والاختراع، وإما بجلب «تماثيل الآلهة» من رحلاتهم في مختلف الأقطار، كما يحدثنا التاريخ عن بعضهم.
وليس جهل الشعب بحياة مؤسس ديانته دليلا على أن هذه الديانة في نشأتها كانت من وضع الشعب في الجيل نفسه أو في جيل سابق، وكل ما في الأمر أنها ميراث جهلوا مورثه، نعم إن هذه التركة قد يكون أصابها على مر العصور شيء قليل أو كثير من التحول والتطور، حتى أصبحت في وضعها الأخير أثرا مشتركا، وثوبا مرقعا، ينتسب إلى أكثر من فرد واحد، وتقبله الشعب هكذا على علاته، ولكننا متى ارتقينا بهذا الميراث الشعبي من عصر إلى عصر، حتى نصل إلى عهد نشأته ، لا بد أن نصل إلى مبدأ لا يكون هو الشعب في جملته ولا جماعة من الشعب. وإلا فليجيئونا بمثال تاريخي واحد، اجتمع فيه شعب من الشعوب أو طائفة من رؤسائه، فتواضعوا فيما بينهم على ابتكار منظمة دينية جديدة، يخلقون عقائدها وعباداتها جملة وتفصيلا، من غير أن يكون بين أيديهم أثر يأثرونه عن سلفهم، ولا كتاب يدرسونه ويجتهدون في فهمه وتأويله، منسوب إلى فلان أو فلان.
على أن غموض تاريخ مؤسسي الديانات، وعدم تحديد العصور والملابسات التي ظهرت فيها كتبهم ليس قاعدة عامة؛ فهذا تاريخ الإسلام ونبيه وكتابه غض طري، كأنه ولد أمس، وعلماء أوروبا يعترفون بذلك ويعلنونه في إنصاف وصراحة. غير أنهم يعدونه استثناء من قاعدة الأديان، لكن الحقيقة أن القدر الذي يصح عده استثنائيا في الإسلام من هذه الناحية هو درجة الوضوح التاريخي ومتانة الأسانيد المتصلة لكتابه في جملته وتفصيله، أما الوجود التاريخي لزعماء الأديان ومجمل دعوتهم، فهذا قدر مشترك بينه وبين كثير من الملل، حتى لو سلمنا أنه استثناء، فقد أصبح الفارق الذي يزعمونه بين نشأة الدين ونشأة الفلسفة غير صحيح على عمومه.
وكما أن الديانات بعد تأسيسها تميل إلى الثبات والاستقرار بين الشعوب حتى يقوم فيها مجددون أو مصلحون، فكذلك تعاليم الفلسفة ومقررات العلوم، حتى الرياضيات والطبيعيات نفسها، مالت إلى الركود في كثير من القرون. والتجديد في كلا الميدانين يلاقي مناهضة شديدة، وكم من الاختراعات والاكتشافات الحديثة عدت جنونا من مدعيها حتى في الأوساط السياسية والعلمية.
أما حديث المظاهر الاجتماعية في شعائر العبادة، فإنه ينطبق حقيقة على الأديان العامة التي استكملت عناصرها وفروعها؛ ولكنه لا ينطبق على الأديان الفردية، التي لا تعدو أن تكون وجدانا غامضا أو عقيدة مبهمة تتجمجم في الصدر، ولا يحسن صاحبها التعبير عنها بشعار خاص، وقد رأينا مثلا من ذلك في أديان الحنفاء؛ ولا نزال نرى أمثالهم في كل أمة من ذوي الفطر السليمة، الذين لم تصل إليهم تعاليم الأديان الصحيحة، ولم يعجبهم ما في بيئتهم من العقائد الزائغة، والعوائد المنحرفة، ولكنهم في الوقت نفسه لم يصلوا إلى تحديد وضع معين يتخذونه شعارا لعقيدتهم، فهؤلاء غرباء في قومهم، لا يجد الواحد منهم في نفسه حافزا على الاجتماع بغيره - لأن كل واحد منهم أمة وحده - فضلا عن أن يتفقوا بعد ذلك على نشيد واحد وحركات واحدة يجعلونها شعارا ظاهرا لعقيدتهم، بل نقول: إن حديث الشعائر والمظاهر لا ينطبق على كل الأديان الشعبية. فهذه البوذية الأولى يقولون: إنها لم تكن تعرف إلا العزلة التامة والتفكير العميق، بعيدا عن كل الرسوم والأوضاع العملية. وعلى نقيض ذلك رأينا بعض الفلاسفة «مثل أوجست كونت»، يجهزون مذاهبهم الفلسفية بكافة النظم والشعائر المعروفة في الديانة المعاصرة لهم، وهكذا نرى التفرقة المذكورة لا تستقيم طردا ولا عكسا. (3-5) رأينا في حقيقة الفرق بين الدين والفلسفة
بقيت التفرقة بين الدين والفلسفة بأن الفلسفة لا تعيش إلا في جو الحرية، وأن الدين لا يقوم إلا على السلطان والنفوذ، فهذا قول سديد في الجملة لا على الإطلاق. وهو - إذا استفصل عن معناه - يفتح أمامنا الباب لتقرير الفروق الصحيحة بين هاتين الحقيقتين:
ذلك أنه إن كان المقصود قيام الدين دائما على سلطان الدولة ونفوذها، فهي دعوى باطلة؛ إذ إننا نعرف ديانات كثيرة عاشت ونمت في ظل الرفق والتسامح، بعيدا عن كل حكم وسيطرة، والبوذية أوضح مثال على ذلك، بل المسيحية والإسلام - في أول عهدهما على الأقل - قاما على احترام حرية الضمير، وعدم الإكراه في الدين، كما أننا نعرف عهودا تطاولت فيها الفلسفة إلى مقام الحكم، وتسلحت لمطاردة أعدائها وإخضاعهم.
وإن كان المقصود اعتماد الدين على السلطان الأدبي للمجتمع، بمعنى: أن الحياة الاجتماعية من شأنها أن تطبع الأفراد بطابع واحد، وأن تجعل منهم وحدة متجانسة التفكير، متشاكلة العوائد والعقائد، بحيث يعد الشاذ عنها مذموما منبوذا، فهذا إن صح - إلى حد ما - في الجماعات «البدائية» المحصورة في نطاق ضيق، لا يسري حكمه على سائر المجتمعات؛ فنحن نرى الأمم والشعوب في كل عصر تضم تحت أجنحتها العقائد المختلفة، والنظم المتفاوتة، ولا يحول ذلك دون تعاون الجميع في مرافق الحياة العامة، وتساندهم في الواجب الوطني المشترك.
أما إذا كان المقصود سلطان العقيدة على نفوس معتنقيها أنفسهم، فلا ريب أن هذه ميزة تستأثر بها الديانات؛ وليس للفلسفة أن تطمح إلى نيلها، وإلا لجاوزت طورها، وتناقضت في نفسها؛ لأن حقيقة الفلسفة هي «محبة الحكمة» أو «الرغبة في المعرفة»، ووظيفتها البحث عن الحقيقة بقدر الطاقة البشرية، وعرض ما تظفر به من جوانب تلك الحقيقة، والفيلسوف هو أول من يعرف قصور العقل البشري، وقصور كل ما هو إنساني، عن درجة الكمال، ولذلك كان التسامح والتواضع العلمي من أظهر خصائصه، وهذا سقراط يضرب لنا أروع الأمثال في ذلك، حين يقول: «الشيء الذي لا أزال أعلمه جيدا هو أنني لست أعلم شيئا.»
أما الفكرة الدينية فإنها - في مختلف مظاهرها ودرجاتها - تفترض أن ما تقرره في شأن من الشئون مستمد من سر الوجود، وأنه يمثل حقيقة الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر، فهي بطبيعتها ملزمة، تتقاضى من صاحبها الخضوع والتسليم ولا تقبل منه في حكمها جدالا ولا مناقضة، بل لا تبيح له في نفسها بحثا ولا ترديدا، فإن فعل ذلك في مسألة ما، كان في هذه المسألة بعينها متفلسفا غير متدين، حتى يستقر فيها على رأي معين ويدين به، فهنالك لا يقبل فيه مساومة ولا يستطيع منه تحللا؛ إذ يصبح عقيدة يخلص لها إخلاصا خارقا للعادة، حتى لا يبالي أن يضحي في سبيلها بحياته، ولا نكاد نجد هذا السلطان على النفس لفكرة أخرى: علمية، أو سياسية، أو غيرها.
فإذا أردنا البحث عن السر في هذه الظاهرة العجيبة، فإننا نجده لو أمعنا النظر في الفرق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإيمان، وفي الفرق بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة، والقوة النفسية التي تقوم بوظيفة الإيمان. فالواحد من الناس قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير محس بآلامها، وقد يفهم معنى الحب والشوق وليس من أهلهما، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره، ويقف على دقائق صنعه، ولكنه لا يتذوقه، ولا يتملك قلبه الإعجاب به. وقد يعرف لفلان فضل عقل أو حزم، أو أدب أو سياسة، أو أولئك جميعا، ولا يشعر نحوه بعاطفة ولاء، ولا رابطة مودة، بل يكاد يغص فؤاده بهذه الفضائل حقدا وحسدا، ويكاد ينكر قلبه ما تراه عيناه.
هذه كلها ضروب من العلم والمعرفة يهديها إلينا الحس، أو الفكر، أو البديهة، أو الحدس، فتلاحظها النفس وكأنها غريبة عنها، أو تمر بها عابرة فتمسها مسا جانبيا لا يبلغ إلى قراراتها، أو تختزنها وتدخرها، ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها. كل حالة نفسية تقف بالأفكار والمبادئ عند هذه المراحل ليست من الإيمان في قليل ولا كثير، الإيمان معرفة تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير، وتختلط مادتها بشغاف القلوب فلا يجد الصدر منها شيئا من الضيق والحرج، بل تحس النفس فيها ببرد وثلج.
إن الإيمان تذوق ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل إلى قرارة القلب، فيجعلها للنفس ريا وغذاء يدخل في كيانها، ويصبح عنصرا من عناصر حياتها، فإذا كان موضوع الإيمان الحقيقة الكبرى، والمثل الأعلى، فهنالك تتحول الفكرة قوة دافعة، فعالة، خلاقة، ولا يقف في سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به حتى تبلغ هدفها.
ذلك هو فصل ما بين الفلسفة والدين، غاية الفلسفة المعرفة؛ وغاية الدين الإيمان، مطلب الفلسفة فكرة جافة، ترتسم في صورة جامدة؛ ومطلب الدين روح وثابة، وقوة محركة.
لا نقول - كما يقول كثير من الناس - إن الفلسفة تخاطب العقول، وإن الدين يخاطب القلوب ويستهوي المشاعر، غير مبال بمبادئ المنطق وقواعد العلم، أو كما قال القديس أوغسطين
St. Augustin : «أومن بهذا لأنه محال
Credo quia absurdom » فذلك وصف لا ينطبق على كل الأديان، ولكنا نقول: إن الدين في كل أوضاعه لا يقنع بعمل العقل قليلا أو كثيرا حتى يضم إليه ركون القلب.
الفلسفة تعمل إذن في جانب من جوانب النفس، والدين يستحوذ عليها في جملتها. الفلسفة ملاحظة، وتحليل، وتركيب؛ فهي صناعة تقطع أوصال الحقيقة وتزهق روحها، ثم تؤلف بينها لتعرضها من جديد في نسق صناعي على مرآة الفطنة، فتنطبع على سطح النفس قشرة يابسة. أما الدين فهو حداء ونشيد يحمل الحقيقة جملة، فيعبر بها هذه القشرة السطحية، لينفذ منها إلى أعماق القلوب وأغوارها، فتعطيها النفس كليتها، وتملكها زمامها.
ومن هنا يستنبط فرق دقيق بين الفلسفة والدين:
ذلك أن غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العلمي، وغاية الدين عملية حتى في جانبه العملي، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما؟ وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي نعرفه، والخير الذي تحدده. أما الدين فيعرفنا الحق لا لنعرفه فحسب، بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويعرفنا الواجب لنؤديه ونوفيه، ونكمل نفوسنا بتحقيقه.
وأول الآثار العملية للفكرة الدينية هو لفتها شعور المتدين إلى صلة بينه وبين الحقيقة العليا التي يدين لها، وهي صلة تقوم في جوهرها على معنى الإلزام والالتزام الأدبي بينهما، على حين أن الفلسفة من حيث هي فلسفة - أعني: من حيث هي صناعة عقلية، مستقلة عن التصوف والمعاني الوجدانية - تستطيع أن تعيش من غير اعتراف بهذه الصلة، ذلك أن غاية الفيلسوف من ربطه المسببات بأسبابها هو فهمه الأشياء على وجه منطقي معقول، بحيث يأخذ كل حد منها موضعه اللائق به، فالقوة العليا التي يضعها الفيلسوف على رأس الحوادث الكونية يكفي فيها أن يكون شأنها في الكون شأن الصانع في تدبير صنعته، أو الربان في قيادة سفينته، وهي - كما ترى - صلة آلية خارجية، لا يتبادل فيها الخطاب، ولا تتناجى فيها الأرواح، ولا يتجه فيها العبد إلى الرب بالمحبة والتبجيل، والخشية والتأميل، وما إلى ذلك من المعاني التي لا يتحقق مفهوم الدين من دونها؛ إذ الدين ليس إيمانا ومعرفة فحسب، بل هو فوق ذلك التفات روحي متبادل، هو رباط من الطاعة والولاء، ومن الحدب والرعاية، بين المتدين وبين الحقيقة العلوية التي يؤمن بها.
ومن هنا تعرف السر في اتفاق مؤرخي الأديان على أن المذهب الذي اشتهر في القرن الثامن عشر باسم «الديانة الطبيعية» - والذي يتلخص في الاعتراف بثلاثة أركان: «وجود إله خالق، وخلود الروح، وسلطان الواجب الأخلاقي» - ليس في الحقيقة دينا، ولم يكن يوما ما دينا من الأديان، بل هو نوع من الفلسفة الجافة، ينقصه قيام هذه الصلة الروحية بين الخلق والخالق، ليستحق اسم الدين.
والمظهر الثاني من المظاهر العملية للفكرة الدينية هو ميلها إلى التدفق في الميدان الاجتماعي، ذلك أن طبيعة العقيدة كريمة فياضة، تنزع دائما إلى الانتشار وطلب المشاركة، وتهز صاحبها إلى تحقيق أهدافها بالنشر والدعوة. بينما الفكرة العلمية أو الفلسفة تميل - ككل ثروة إنسانية - إلى الاحتجاز والاحتكار والاستئثار، أو على الأقل لا تسعى بطبعها لهذا التوسع، ولا يعنيها أن تصبح في متناول الجمهور.
ولعلنا لا نسيء التعبير إذا قلنا: إن الاختلاف بين هاتين الطبيعتين كالاختلاف بين الديموقراطية والأرستوقراطية، فإذا رأينا فيلسوفا يدعو إلى مذهبه، ويحمل الناس على اعتناق رأيه؛ علمنا أن فكرته قد أصبحت إيمانا، وأنه قد خلع ثوب الفيلسوف ليحمل أعباء الأنبياء والمرسلين، وإذا رأينا متدينا ينطوي على نفسه، ولا يبالي بما يجري حوله من ضلال في الرأي، أو فساد في العمل؛ كان لنا أن نحكم بأن نار إيمانه قد استحالت رمادا، أو أنها قد كمنت تحت أكداس من الرماد.
هذه كلها وجوه من النظر يستبين بها حدود ما بين الفلسفة وبين الأديان بوجه عام.
فإذا انتقلنا إلى المقارنة بين الفلسفة وبين الأديان السماوية بخصوصها، فإننا نظفر - فوق ذلك كله - بعنصر جديد، به يتم الفصل بين هاتين الحقيقتين.
ذلك أن الفلسفة في كل عصورها «عمل إنساني» يتحكم فيه كل ما في طبيعة الإنسان من قيود وحدود، وتدرج بطيء في الوصول إلى المجهول، وقابلية للتغير والتحول، وتقلب بين الهدى والضلال، واقتراب أو ابتعاد عن درجة الكمال.
أما الأديان السماوية فإنها «صنعة إلهية» لها كل ما للإلهيات من ثبات الحق الذي لا تبديل لكلماته، وصرامة الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم هي فوق ذلك «منحة كريمة» تصل إلى حامليها وسفرائها عفوا بلا كدح ولا نصب، وتغمرهم بنورها في فترات خاطفة، كلمح البصر أو هو أقرب.
فإذا انفردت الفلسفة في حكم لم يؤمن عليها العثار، وإذا التقى العقل والوحي على أمر فقد اتصلت مشاعل الليل بضوء النهار،
نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
7
الفصل الثالث
الدين وسائر العلوم
(1) مراتب العلوم من حيث غاياتها المباشرة
عرفنا الآن درجة النسب بين الدين والفلسفة والأخلاق، وأنها أسرة واحدة ترتبط أعضاؤها بلحمة الأخوة، أو لحمة الأبوة والبنوة، وإذا كان المجهود الإنساني يشرف بشرف موضوعه وغايته، فأي هدف يمكن أن يتعلق به مطمح الباحث، فوق «الحق» الأبدي الذي تزول الدنيا ولا يزول، و«الخير» المطلق الذي توزن به الأشياء ولا يوزن هو بشيء؟
تلك هي القيم الكبرى، والمثل العليا، التي لا يتصور في العقل شيء يعلوها أو يدانيها، لذلك كان البحث عنها أشرف المطالب وأعلاها، وكان سائر وجوه النشاط العقلي والروحي والبدني سعيا وراء قيم نسبية، تتفاوت مراتبها تبعا لقربها أو بعدها من ذلك الهدف الأسمى. فكما أن الذي يفني عمره في فحص علف الدواب وانتخاب أجود أنواعه، يؤدي خدمة لها قيمتها في كيان المجتمع الإنساني ورفاهيته، من طريق غير مباشر؛ إذ يحفظ بذلك قوام الحيوان، الذي به قوام بدن الإنسان، الذي به قوام روحه، الذي به قوام دينه، الذي به كمال سعادته؛ كذلك تتفاضل موضوعات العلوم فيما بينها على نمط هذه النسبة، فأدناها ما يكون خادما غير مخدوم، ويليها ما يكون خادما مخدوما معا على مراتب ... حتى تنتهي إلى موضوع العلم الأعلى، الذي يكون مخدوما غير خادم. (2) مراتب العلوم من حيث مقومات موضوعاتها
ولو أننا أخذنا في تصنيف موضوعات العلوم، لا باعتبار شرف غايتها المباشرة، بل بحسب مقوماتها النوعية، وتكامل عناصرها بالازدياد التدريجي، لحصلنا منها على هذا الترتيب التصاعدي نفسه؛ إذ نرى كل واحد منها يحتوي ما قبله ويزيد عليه عنصرا جديدا. فالحياة النباتية تستلزم وجود الجسم بأجزائه، وجزئياته، وعناصره، وذراته، وطاقاته، وتزيد عليه وظائف أخرى. والحياة الحيوانية تحتوي الحياة النباتية بجميع وظائفها وتزيد عليها. والحياة الإنسانية فيها كل الحياة الحيوانية وتزيد وظائف أعلى، وهذه الوظائف نفسها طبقات بعضها فوق بعض، وأعلاها الوظيفة الروحية التي تتطلع إلى الحقيقة الكبرى. (3) لا اشتراك بين الدين والعلوم في موضوع ما
هذا البيان يرينا على وجه يمكن أن نفهم الصلة بين العلم الإلهي وسائر العلوم: «طبيعية، أو رياضية، أو فلكية، أو نفسية، أو اقتصادية، أو منطقية، أو اجتماعية، أو تاريخية، أو لغوية، أو غيرها»، وأنها ليست صلة وحدة في الموضوع، ولا اشتراك في الأهداف؛ إذ مهما تعالج هذه العلوم من مشاكل، فليس واحد منها يتصدى لعلاج المشكلة الكبرى التي انتهض الدين لحلها، إنها كلها تبحث عن الكائنات، وليس شيء منها يبحث عن مبدئها الأول وغايتها القصوى، غير أنها كلها تستطيع أن تزجي لهذا المطلب خدمة ما من قريب أو بعيد، ولن يستغني الدين عن العلوم إلا لو استغنت المقاصد عن وسائلها ومقدماتها، أو الدعاوى عن حججها وبيناتها، فكما أن المجهول لا يتوصل إليه إلا عن طريق المعلوم، والغائب لا يدرك إلا على ضرب من القياس على الشاهد؛ كذلك الحقائق العليا لا يسهل الصعود إليها إلا على سلم من حقائق الدنيا. (4) خدمة العلوم للأديان من وجهين
فإن بعدت صلة بعض العلوم بالدين، وعجزت عن أن تقدم له مددا إيجابيا ملموسا، فإنها بما تبدد من ظلمات الأوهام، وبما تبعث من النور في جوانب النفس، تقوم بوظيفة تطهير وتنقية، لا بد منها لتهيئة جو عقلي صالح لاعتناق العقائد السليمة، حتى إذا ركن القلب إلى شيء كان ركونه إليه على بصيرة وبينة، لا مدفوعا بحمية الجهل، ولا منقادا بسذاجة المحاكاة
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
1 (5) لا يمكن عقلا أن يوجد تعارض بين الأديان والعلوم نفسها
ومهما يكن من أمر، فالمعقول أنه، إن لم يكن بين العلم والدين تعاون من قريب ولا بعيد، كان بينهما - على الأقل - من التفاهم وحسن التجاوز ما بين فروع الصناعات المختلفة؛ إذ ليس يعقل أن يكون هناك تعارض وتناقض بين أمرين لا اشتراك بينهما في موضوع واحد. (6) تفسير المصادمات التي وقعت بين حملة الأديان وحملة العلوم
وهنا يحق لنا السؤال عن تفسير تلك المصادمات العنيفة، التي ظهرت في التاريخ غير مرة، بين العلوم والأديان، لا نعني ذلك الصراع الصوري الذي يستغل فيه اسم العلم أو الدين أحيانا؛ ليكون ستارا للمقاصد الخفية، والمطامح المختلفة، من الثروة، والنفوذ، والجاه، وسائر المصالح العاجلة، كما لا نعني: الصراع الحقيقي الدائم بين النزعات الروحية السامية التي تدفع إلى التضحية وضبط النفس والاعتدال، وبين النزعات المادية المضادة التي تهدف إلى الفوضى والإباحة والاستئثار، وإنما نطلب تفسير تلك المعارضة الفكرية التي تقع بحسن نية بين المعسكرين العلمي والديني، فتقف كل واحدة منهما موقف التكذيب والإنكار لما عند الآخر.
والجواب أن هذه المعارضة تحدث - فيما نعلم - على إحدى صورتين:
الصورة الأولى:
أن يقف أحد الطرفين موقف المعارضة لما عند الآخر جملة، لا بناء على حجة تدحضه، أو شبهة تضعفه، بل عفوا واعتباطا، أو لمجرد جهله به، ظنا منه أن كل ما لم يدخل في دائرة علمه في الحال فليست له حقيقة، وهذا لعمري من قصر النظر، بل من الجهل والغرور؛ فإن التكذيب لما لم يحط الإنسان بعلمه، ولم يأته تأويله خطأ لا يرتكبه الراسخون في العلم والدين، وإنما يقع فيه المغرورون من العامة أو «أنصاف المتعلمين»، وهؤلاء أشد خطرا من الجهلاء؛ لأن علمهم في الحقيقة جهل مركب، وإنما الإنصاف أن يكون كل امرئ عارفا بقدر نفسه، واقفا عند حده، بناء غير هدام، والسبيل القاصد في ذلك أن يثبت كل فريق ما وصل إليه، ولا ينكر ما لم يصل إليه.
وقد رأينا العلماء المتخصصين في فرع من العلوم الطبيعية أو العقلية يعتمدون النتائج التي وصل إليها المتخصصون في فرع آخر منها: كل في نطاق تخصصه، ولا ينتظرون أن يعيدوا كلهم ما جربه أو برهنه بعضهم، وهذا هو الوضع السليم الذي تتقدم به المعارف الإنسانية؛ إذ لو وجب أن يعيد كل عالم بحث كل مسألة بنفسه لما تقدمت العلوم خطوة واحدة، فكذلك ينبغي أن يكون الشأن بين حملة العلوم وحملة الأديان.
ألم يجمع العلماء الآن على إمكان تحطيم النواة الذرية، واستخدام طاقتها الجبارة في صنع الأعاجيب، مع أنه لم يباشر هذه التجربة منهم إلا نفر قليل؟ فماذا يمنعنا أن نؤمن بالتجارب الروحية المتكررة التي شهدها الأنبياء وأرباب البصائر النيرة في مختلف العصور، وإن لم يشهد الناس منها إلا نتائجها الخارقة؟
إنه إذا كان من واجب الأديان أن تهادن العلوم ولا تنابذها، وكان من الخير لها أن تستثمر كافة المعارف البشرية وتتسلح بنتائجها؛ فإن من الخير للعلوم كذلك أن تدع الأديان تكمل ما فيها من نقص، وتملأ ما تتركه في النفوس من فراغ، بما يملؤه من الحقائق الروحية، فإن لم تفعل فلا أقل من أن تلتزم شقة الحياد فلا تعادي الأديان ولا تنكرها جملة، فإن إنكار الدين جملة إنكار ضمني لأمور واقعية تحتويها الأديان كلها ولا يحتويها علم من العلوم، ألا وهي عناصر الإيمان بالحقيقة العليا وتقديسها وعبادتها «معان هي من مادة الحياة التي قد يفسرها العلم، ولكنه لا يخلقها، وقد ينقب عن أطوارها ويتفهم نشأتها، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل وجودها، أو يدعي لنفسه أنه يحل محلها.»
2
الصورة الثانية:
أن تكون هناك مسألة أو مسائل معينة تنطق فيها العلوم والأديان بحكمين متناقضين، وإنما يحدث ذلك حينما تتناول الأديان إلى جانب عنصرها الروحي شيئا من موضوعات العلوم وحقائق المشاهدات، وتذهب في ذلك مذهبا معينا، تفرضه على المتدينين بها فرضا. فهذا الجانب، وإن كان عرضيا في الأديان، وكان سبيله في الغالب سبيل الوسائل لا المقاصد، إلا أنه يعد معيارا لمقدار ما في كل دين من صحة أو فساد، على قدر اتفاقه مع مقررات العلم الصحيح وقضايا العقل السليم، أو اختلافه معها؛ فإنه إذا كان الدين حقا والعلم حقا وجب أن يتصادقا ويتناصرا، أما إذا تكاذبا وتخاذلا فإن أحدهما لا محالة يكون باطلا وضلالا.
المبحث الثالث
في نزعة الدين، ومدى أصالتها في الفطرة
الفصل الأول
مدى أقدمية الديانات
أسئلة تتشوق النفس إلى معرفة الجواب عنها:
متى ظهرت فكرة التدين على وجه الأرض؟
ما مصيرها أمام التطورات الفكرية في العلوم؟
ما وظيفتها النفسية؟
ما مهمتها الاجتماعية؟ (1) نظرية أدباء القرن الثامن عشر والسوفسطائية
إلى أي حد تعد ظاهرة التدين ظاهرة عريقة في القدم؟ هل سبقت الحضارات المادية؟ أم تأخرت عنها في الوجود؟ أم اقترنت بها؟
ذهب بعض كتاب القرن الثامن عشر، الذين مهدوا للثورة الفرنسية، إلى أن الديانات والقوانين ما هي إلا منظمات مستحدثة، وأعراض طارئة على البشرية حتى قال «فولتير»: «إن الإنسانية لا بد أن تكون قد عاشت قرونا متطاولة في حياة مادية خالصة، قوامها الحرث، والنحت، والبناء، والحدادة، والنجارة قبل أن تفكر في مسائل الدينيات والروحانيات.»
1
بل قال: «إن فكرة التأليه إنما اخترعها دهاة ماكرون، من الكهنة والقساوسة الذين لقوا من يصدقهم من الحمقى والسخفاء.»
2
وكذلك كان نظر «جان جاك روسو» إلى فكرة القانون، حيث ظن أنها ليس لها إلا قيمة وضعية تحكمية، وفسر ذلك بقوله: «إن الأفراد الذين سبقوا إلى وضع أيديهم على بعض مساحات من الأرض، حدا بهم جشعهم، وحرصهم على المحافظة على ملكيتهم، إلى أن يأتمروا فيما بينهم على وضع تلك النظم والقوانين، ليخدعوا بها الجمهور، ويضللوا بها الفقراء.»
3
هذه النظرة الساخرة إلى الأديان والقوانين ليست مبتكرة، وإنما هي ترديد لصدى مجون قديم، كان يتفكه به أهل السفسطة من اليونان، وكانوا يروجونه فيما روجوه من المغالطات والتشكيكات، فقديما زعم هؤلاء السوفسطائية «أن الإنسان كان في أول نشأته يعيش بغير رادع عن قانون ولا وازع من خلق، وأنه كان لا يخضع إلا إلى القوة الباطشة ... ثم كان أن وضعت القوانين، فاختفت المظاهر العلنية من هذه الفوضى البدائية، ولكن الجرائم السرية ما برحت سائدة منتشرة، فهنالك فكر بعض العباقرة في إقناع الجماهير بأن في السماء قوة أزلية أبدية ترى كل شيء، وتسمع كل شيء، وتهيمن بحكمتها على كل شيء ...»
4
وهكذا لم تكن القوانين والديانات في تصويرهم إلا ضروبا من السياسة الماهرة التي تهدف إلى علاج أمراض المجتمع بكل حيلة ووسيلة.
ولقد أعان على بعث هذه الآراء وترويجها في أوروبا الحديثة سببان: أحدهما الانحلال الخلقي عند نفر من رجال الكنيسة، والثاني ظلم القوانين الوضعية، وسوء توزيع الثروة العامة، فكان من السهل أن يظن الناس أن الدين والقانون كانا كذلك في كل زمان ومكان. (1-1) انهيار هذه النظرية في العصر نفسه
على أنه لم ينقض القرن الثامن عشر نفسه حتى ظهر خطأ هذه المزاعم؛ حيث كثرت الرحلات إلى خارج أوروبا، واكتشفت العوائد والعقائد والأساطير المختلفة، وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية، وهكذا ظهر أنها أقدم في المجتمعات من كل حضارة مادية، وأنها لم تقم على خداع الرؤساء وتضليل الدهاة، ولم ترتكز على أسباب طارئة أو ظروف خاصة، بل كانت تعبر عن نزعة أصيلة مشتركة بين الناس.
واعلم أن عموم الأديان لجميع الأمم لا يعني عمومها لكل أفرادها؛ فإنه لا تخلو أمة من وجود «ذاهلين» قد غمرتهم تكاليف الحياة وأعباؤها، إلى حد أنهم لا يجدون من هدوء البال وفراغ الوقت ما يمكنهم من رفع رءوسهم للنظر في تلك الحقائق العليا؛ كما لا تخلو أمة من «منكرين ساخرين» يحسبون الحياة لهوا ولعبا، ويتخذون الدين وهما وخرافة، لكن هؤلاء دائما هم الأقلون في كل أمة، وهم - في الغالب - من المترفين الذين لم يصادفهم من عبر الحياة وأزماتها ما يشعر نفوسهم معنى الخضوع والتواضع، وما ينبه عقولهم إلى التفكير في بدايتهم ونهايتهم، وهذا الاستثناء من القاعدة لا ينفي كمون الغريزة الدينية بصفة عامة في طبيعة النفس الإنسانية، كما أن غريزة بقاء النوع لا يمنع من عمومها أن بعض الناس لا يتزوجون ولا ينسلون. (1-2) لم توجد أمة بغير دين
ولسنا ننكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استحدثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مجاوبا مصنوعا، فذلك سائغ في العقل، بل واقع بالفعل، أما فكرة التدين في جوهرها فليس هناك دليل واحد على أنها تأخرت عن نشأة الإنسان. (1-3) شهادة العلماء
يقول معجم «لاروس» للقرن العشرين: «إن الغريزة الدينية: مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية ... وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية.»
5
ويقول: إن هذه الغريزة الدينية «لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبل، إلا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جدا من الأفراد.»
6
وكتب بارتيلمي سانت هيلير: «هذا اللغز العظيم الذي يستحث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدآ؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة، لا توجد أمة، ولا شعب، ولا مجتمع، إلا وضع لها حلولا جيدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحركة ...»
7
ويقول شاشاوان: «مهما يكن تقدمنا العجيب في العصر الحاضر ... علميا، وصناعيا، واقتصاديا، واجتماعيا، ومهما يكن اندفاعنا في هذه الحركة العظيمة للحياة العملية، وللجهاد والتنافس في سبيل معيشتنا ومعيشة ذوينا، فإن عقلنا في أوقات السكون والهدوء - عظاما كنا أو متواضعين، خيارا كنا أو أشرارا - يعود إلى التأمل في هذه المسائل الأزلية: لم وكيف كان وجودنا ووجود هذا العالم؟ وإلى التفكير في العلل الأولى أو الثانية، وفي حقوقنا وواجباتنا.»
8
ويقول هنري برجسون: «لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بغير ديانة.»
9
الفصل الثاني
مصير الديانات أمام التقدم العلمي
وجاء القرن التاسع عشر وقد تقرر هذا المعنى في النفوس، فلم يجرؤ أحد أن يشكك الناس فيه، بل ظهرت نظرية جديدة في الطرف المقابل، مضمونها أن الأديان وإن كانت عريقة في القدم، لكن تقدمها الزماني لا يكسبها صفة الثبات والخلود، بل هو بالعكس يطبعها بطابع الشيخوخة والهرم، وينذر بأن مصيرها إلى الاضمحلال والفناء. (1) أوجست كونت والأدوار الثلاثة
هذه هي نظرية «أوجست كونت»، فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى أن العقلية الإنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة:
Loi des troisages
دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريدية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور الثالث في نظره هو آخر الأطوار وأسماها، فبعد أن كان الناس يعللون الظواهر الكونية بقوة أو بقوى إرادية خارجة عنها، انتقلوا إلى تفسيرها بمعان عامة، وخصائص طبيعية كامنة فيها، كقوة النمو، والمرونة، والحيوية ... إلخ.
ثم انتهوا إلى رفض كل تفسير خارجي أو داخلي، واكتفوا بتسجيل الحوادث كما هي، ومعرفة ما بينها من ترابط وجودي بقطع النظر عن أسبابها وغاياتها. وعلى هذا يكون دور التفكير الديني يمثل الحال البدائية التي تلهت بها الإنسانية في مرحلة طفولتها؛ فلما كبرت عن الطوق خلعتها لتستبدل بها ثوبا وسطا في دور مراهقتها؛ حتى إذا بلغت أشدها، واكتمل رشدها، أخذت حلتها الأخيرة من العلوم التجريبية.
1 (1-1) مناقشة هذه النظرية
نقطة الخطأ البارزة في هذا المذهب التطوري هي أن أنصاره جعلوا منه قانونا يستوعب التاريخ كله في شرط واحد، قطعت الإنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت - أو كادت تنفض - يدها منهما إلى غير رجعة، فلن تعود إليهما إلا أن يعود الكهل إلى طفولته وشبابه.
ولو أنهم جعلوا منه سلسلة دورية، كلما ختمت شوطا رجعت عودا على بدء، لكان الخطأ في هذه النظرية أقل شناعة، ولكنها بعد ذلك تظل دعوى غير مسلمة، لا لأنها مجردة عن البرهان فحسب، بل لأنها تحرف التاريخ وتصادم العيان، فنحن ما زلنا نسمع ونرى في كل عصر تقديسا للروحانيات، وشغفا بالمعنويات والمعقولات الكلية عند فريق من الناس، إلى جانب الكلف بالحوادث والحقائق الجزئية عند فريق آخر، وليس الحد الذي يفصل بين المعسكرين هو جهل أحدهما بالتجارب الكونية وخبرة الآخر بها؛ إذ كثيرا ما نجد من بين الجهلاء جاحدين متعصبين، كما نجد من بين علماء المادة مؤمنين متحمسين، وها نحن أولاء، في القرن العشرين، وفي قلب الحضارة الأوروبية، نرى إلى جانب البحوث المادية المتشعبة، دراسات روحية واسعة، تقوم بها جماعات محترمة من كبار علماء
2
الطب والفلسفة والطبيعة، على منهاج علمي دقيق، وبأسلوب برهاني يعتمد على التحليل والنقد الصارم، الذي ينحي عن الوقائع كل ما عساه أن يعلق بها من تزوير وخداع، وكل ما يحوم حولها من وهم وتسرع في الحكم، ولا يقبل منها إلا ما يؤيده اليقين ، وما ينتهي إليه البحث الدقيق الرزين.
فالواقع أن الحالات الثلاث التي يصورها «كونت» لا تمثل أدوارا تاريخية متعاقبة، بل تصور نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب، وليست كلها دائما على درجة واحدة من الازدهار أو الخمول في شعب ما، ولكنها تتقلب بها الأقدار بين بؤسى ونعمى، ونحوس وسعود.
بل نقول: إن هذه النزعات الثلاث متعاصرة متجاورة في نفس كل فرد، وإن لها وظائف يكمل بعضها بعضا في إقامة الحياة الإنسانية على وجهها، ولكل وحدة منها مجال يوائمها، ففي الوقت الذي نفسر فيه الحوادث العادية بأسبابها المباشرة، خارجية أو داخلية، فنقول: هلك فلان بضربة سيف أو بالشيخوخة أو المرض، لا يزال كل واحد منا يفسر الحوادث الشاذة الخارقة بالقضاء والقدر، أو بسبب غيبي مجهول.
بل نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقرر أن النظرة الوقوعية تقع في مبدأ الطريق لا في نهايته، وأنها تمثل مرحلة الطفولة النفسية، لا مرحلة النضج والكمال، ذلك بأن مبعثها الحاجة العاجلة وضرورة الحياة اليومية، وبأنها وظيفة الحس لا العقل، وبأنها من معدن القابلية والانفعال، لا من معدن الفاعلية والإنشاء.
أما نظرة التعليل بالمعاني العامة فإنها تنبثق في النفس على أثر ذلك، متى استيقظت ملكتا التجريد والتعميم في التصورات والأحكام، فلا يكتفي الذهن حينئذ بجمع الحوادث المترابطة في سلسلة متعاقبة، كما تجمع الأعواد في الحزمة، بل يحاول ربطها برباط معنوي تدور في فلكه، ويكون كالسلك الداخلي الذي ينتظم حبات العقد.
ونؤكد أن المعارف الإنسانية لا تستحق اسم العلم حتى تأخذ بنصيب قليل أو كثير من هذا التجريد والتعميم، الذي يضع كل مجموعة في نطاق يضبطها، تحت لقب مشترك يسهل به استحضارها ويكون لها بمثابة قانون كلي تعلل به جزئياته، بل العلوم الواقعية تسعى الآن جاهدة للاندماج برمتها في منظمة تنسقها وتخضع جميع ظواهرها لناموس واحد، وهذا هو ما يسمى بمبدأ «وحدة الوجود» بمعناه العلمي
Monisme Scientifiqus ، وسواء أبلغت العلوم هذا الهدف قريبا أو بعيدا أم لم تبلغه أبدا، فالذي لا شك فيه هو أن هذه النزعة إلى استنباط المعاني الكلية لم تفتر بل تزداد قوة.
بقيت النظرة الروحية، أو الدينية، وواضح أنها لا تولد في النفس إلا حينما يتسع أفقها، فتتجاوز الكون بظاهره وباطنه إلى ما وراءه، فهي أوسع النظرات مجالا، وأبعدها مطلبا.
وهكذا ينقلب الترتيب الذي تخيله الفيلسوف رأسا على عقب، وتعود الحاجات النفسية الثلاثة إلى أوضاعها الطبيعية المعقولة: حاجة الحس، فحاجة العقل، فحاجة الروح، وإن شئت قلت: حاجة الحس، فحاجة العقل القانع، فحاجة العقل المتسامي. (1-2) التدين نزعة خالدة
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو الوضع التقويمي لكل واحدة من هذه النزعات، وإنما هو دخولها جميعا في كيان النفس الإنسانية، فكما أننا لا نجد أمارة واحدة تدل على قرب زوال النزعة الاستقرائية، أو النزعة التعليلية، كذلك لا نرى أمارة واحدة تشير إلى أن فكرة التدين ستزول عن الأرض قبل أن يزول الإنسان. (2) شهادة العلماء
يقول سالمون ريناك: «ليس أمام الديانات مستقبل غير محدود فحسب؛ بل لنا أن نكون على يقين من أنه سيبقى شيء منها أبدا؛ ذلك لأنه سيبقى في الكون دائما أسرار ومجاهيل، ولأن العلم لن يحقق أبدا مهمته على وجه الكمال.»
3
ويقول الدكتور «ماكس نوردوه» عن الشعور الديني: «هذا الإحساس أصيل يجده الإنسان غير المتمدين، كما يجده أعلى الناس تفكيرا، وأعظمهم حدسا، وستبقى الديانات ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائما مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة.»
4
ويقول أرنست رينان
Renan
في تاريخ الأديان: «إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي، الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية.»
ولقد أحسن الأستاذ محمد فريد وجدي حين يقول في دائرة معارفه تعليقا على هذه الكلمة، في مادة «دين»: «نعم، يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها، ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان، بل إن هذا الميل سيزداد ... ففطرة التدين ستلاحق الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه.» (3) التحليل العلمي ينتهي إلى الإيمان بالغيب في العالمين الأكبر والأصغر
ولنقف قليلا عند هذه الكلمة؛ لأنه قد يبدو من المفارقات العجيبة أن يكون ازدياد العلم ونمو المعرفة سببا في نمو غريزة التدين، المبنية على طلب الغيب المجهول، ولكننا لو تأملنا لتحققنا صحة هذه المفارقة، ولعرفنا أن تقدمنا الحثيث في العلوم يقربنا حقيقة من الاعتراف بجهالتنا، والإقرار بأن مثل ما نعلمه من الكون في جانب ما نجهله منه كمثل قطرة واحدة من محيط خضم عميق؛ ذلك أن كل باب جديد يفتحه العلم من دلائل عظمة الكون وامتداده ينفتح معه أفق أوسع للسؤال عما يتصل بهذا الميدان الجديد من المشاكل الكثيرة الغامضة.
ولنأخذ مثلا مجموعتنا الشمسية، وما فيها من الكواكب السيارة، التي لا يرى منها بالعين المجردة إلا عدد يسير، فقد اكتشف فيها من الأقمار والتوابع على عهد لابلاس
La place
ما تبلغ به اثنين وأربعين كوكبا، ثم أثبتت الأرصاد الأخيرة من أجزاء هذه المجموعة ما يجاوز الألف، ثم قامت الدلائل القوية على أن كل مجموعتنا هذه ما هي إلا واحدة من ملايين المجموعات التي لها أجزاؤها، وتوابعها، والتي تختلف أعمارها، ويتفاوت جوها، ونظام حركاتها، وتكوين سطحها وطبقاتها، وأسلوب الحياة فيها، وكل ذلك لا نعرف عنه شيئا على وجه الوضوح واليقين، ولا أمل في الوصول إليه الآن إلا على ضرب من القياس والتخمين، فضلا عما وراء ذلك من فضاء أو ملاء، حتى إننا لو عرفنا كيف تتكاثف بعض الغازات السطحية السحابية العليا فتتولد منها الشموس، لبقي علينا أن نعرف من أين تتولد تلك السحابيات نفسها.
وهكذا كان اتساع نطاق المعلومات هو بنفسه اتساعا لنطاق المجهولات؛ لأن محيط كل دائرة جديدة يماس الحدين بباطنه وظاهره، فلا يسع العقل إلا التسليم بأن وراء كل مرحلة يقطعها من عالم الشهادة مراحل أخرى من عالم الغيب، في آماد وآباد، لا يدرك الإنسان نهايتها إلا إذا انقلب المحاط محيطا، والحادث الفاني أزليا باقيا، وصدق القرآن حين يقول:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
5 (4) العبرة العلمية في التعبير القرآني عن بدء الخلق
فإذا رجعنا من العالم الأكبر إلى العالم الأصغر، واعتبرنا الأشواط التي قطعها العلم في تحليل المادة إلى أجزائها وأجزاء أجزائها؛ فإننا نحصل على نتيجة مشابهة تمام المشابهة؛ ذلك أنه بعد أن وقف التحليل دهرا طويلا عن الذرة
atome
على أنها هي الحد الأدنى الذي لا يقبل الانقسام ولا الفناء، والذي يحتفظ بكتلته وخصائصه تحت تأثير كل القوى الطبيعية، وفي أثناء جميع التفاعلات الكيميائية أصبحت اليوم هذه الذرة نفسها عالما معقدا، مركبا من نواة جامدة وغلاف يدور حولها كما تدور السيارات حول الشمس، وتبين أن هذا الغلاف الذي هو جزء من تركيبها ما هو إلا شحنة كهربائية سالبة
electron
مجردة عن كل حامل مادي، وأنه يمكن فصله عنها بقوة إشعاعية أو بتسخين هائل.
بل تلك النواة نفسها، التي كانت تعد إلى عهد قريب متماثلة الأجزاء - أعني: ذات قوة إيجابية فحسب
proton - قد ظهرت الآن مركبة بدورها من نوعين من الكهرباء: موجب وسالب، وثبت أنه من الممكن تحطيمها وفصل أجزائها،
6
وأن القوة الإشعاعية الهائلة التي تستنبط من هذا التحطيم يمكن استخدامها في إصلاح الكون وتعميره، أو في إفساده وتدميره.
هكذا تخلع الطبيعة ثوبها المستعار، وتتكشف المادة عن أصلها الأصيل، فإذا هي «طاقة» أي: قوة مجردة، يلزم البحث عن مصدرها خارج ذلك الهيكل المادي المحطم، وذلك الصنم الساقط المهدم. وهكذا يقترب عالم المادة رويدا رويدا من عالم المجردات، ويكاد يتصل عالم الشهادة بعالم الغيب من جهة حده الأدنى، كما يتصل به من جهة حده الأعلى، وهو غيب يؤمن به العلم وإن لم يره؛ لأنه يحس أثره، ويكاد يلمس خطره.
أجل، لقد أصبح العلم يؤمن اليوم بأن في الوجود قوى لا ينالها الحس المجرد، ولا الحس المجهز بأقوى المجاهر، المزود بأدق المقاييس والموازين، وبالجملة أصبح يؤمن بأن التجربة الحسية بالمباشرة ليست هي المعيار الوحيد للوجود، وهكذا وضع بيده اللبنة الأولى في القاعدة التي تقوم عليها الأديان.
على أن هذا الضرب من التجارب العلمية التي سرحنا فيها النظر مصعدين طورا ومنحدرين طورا، والتي حولت المادة في كلا طرفيها إلى هباء أو سراب، ورجعت بالعلم في كلتا مرحلتيه من الغرور والكبرياء إلى التواضع والاستسلام، هذا الضرب من التجارب لا يمثل من العلم الواقعي إلا جانبه التطبيقي، الذي هو إلى الصناعات والفنون أقرب منه إلى حقيقة العلوم؛ إذ العلم في جوهره ليس تحليلا وتركيبا عمليين، وإنما هو نظرة عقلية تربط النتائج بمقدماتها، وتستنبط القوانين من جزئياتها، وتفسر الموجودات تفسيرا تستسيغه النفس ويطمئن إليه العقل ... ترى هل في طبيعة العلوم التجريبية وطبيعة مناهجها وأدواتها ما يؤهلها للقيام بهذه المهمة على كمالها، بحيث لا تتطلع النفس من ورائها إلى تفسير آخر؟ هيهات، هيهات! (5) التعليل العلمي ينتصر لقضية الغيب في طرفي الأسباب والغايات
لا نكتفي بأن نقول: إن هذه العلوم - حتى في وضعها الحالي الذي سحر الأبصار - لم تكشف من قوانين الوجود إلا جانبا يسيرا، يمتد من خلفه عالم فسيح من الشواذ والأحوال الفردية، التي لا تضبطها قاعدة ولا قانون.
ولا نقنع بأن نقول: إننا، في تلك الحدود الضيقة نفسها، متى جاوزنا عالم المواد الأولية الساذجة إلى حيث تشتبك العناصر والعوامل، وتتعقد العلائق والمشاكل خرجت قوانين العلم عن صرامتها ودقتها، وأصبحت ضربا من التقريب المبني على حساب الاحتمالات الغالبة، والذي إن صدق في متوسطه الحسابي فإنه يدع الأطراف تتراجع في تقلب وتذبذب، بين مد وجزر، هذا إجمال له تفصيل يعرفه كل من زاول علوم الحياة والنفس والاجتماع وأشباهها.
بل نقول بلسان علوم الطبيعة نفسها: إنه لم يوجد ولن يوجد فيها قانون عام واحد يعتمد على منهج تجريبي يقيني شامل؛ ذلك أنه مهما تتكرر التجربة، وتتنوع الأمثلة، فإنها كلها أحداث معينة تقع في أزمنة معدودة، وأمكنة محدودة، ويظل بين جملتها وبين منطوق القانون الكلي، الذي لا يحده زمان ولا مكان، برزخ عريض يفصل ما بين «النهائي» و«اللانهائي»، وإنه لكي يسد العلم هذه الفجوة يلجأ دائما إلى «وسيلتين» من الرفو والترقيع، ينسج خيوطهما من مقايسة ذهنية تعتمد على محض الظن والتمني: أما في «أولاهما» فإنه يمد بين كل معلمة ومعلمة من معالم التجربة الفعلية جسورا وهمية قصيرة
Interpolation
يفترض فيها أن الحلقات المفقودة التي لم تسجلها المشاهدة تنتظم في سلك مع الحلقات التي سجلتها، وأن السلسلة المؤلفة منهما تمتد في خط متصل مستقيم، أو هو على الأقل أقرب إلى الاستقامة وأبعد عن التعرج والالتواء، وأما في «أخراهما» فإنه من وراء تلك السلسلة كلها يثب في عالم الغيب الزماني والمكاني وثبة هائلة
extrapolation
يفترض فيها أن المناطق التي لم ير منها شيئا شبيهة بالمنطقة التي رأى بعضها، وأن ما سيكون شبيه في الجملة بما كان، لا جرم أن قانونا هذا مبلغه من الارتكاز على الواقع المشاهد - وكل قوانين العلم الطبيعي كذلك - هو عالة في قانونيته نفسها على نوع من الإيمان العقلي بتلك المقدمات المفروضة التي لا تزال تضيف إلى شهادة الحس وقعا أغلظ منها غريبة عنها، حتى تبرزها في ثوب العموم والشمول.
ثم نقول بلسان العلم الأعلى - أعني: علم قوانين المعرفة والفكر - إن كل تفسير للآثار بأسبابها الطبيعية يحمل في نفسه جرثومة نقصه وعجزه، ولا يمكن أن يصل إلى حد الإقناع الشافي إلا إذا اقتلع قانون التفكير من جذوره؛ ذلك أنه لو كان صدور الأثر انبثاقا طبيعيا من سببه لوجب أن يكون وجوده مجرد امتداد لهذا السبب، ولوجب إذن أن يشبهه في كل شيء، حتى إن أدنى اختلاف بينهما في الطبيعة، أو الكم، أو الكيف، يصبح مجالا لسؤال جديد لا يحير التفسير الطبيعي له جوابا.
بل إن مجرد اختلافهما في الزمان أو المكان يجعلنا نتساءل: لم كان هذا قبل، وذاك بعد؟ أو لم كان أحدهما عن اليمين، والآخر عن الشمال؟ ... فإذا جرينا إلى نهاية الشوط، وجب أن يئول الكون أمامنا إلى وحدة لا تعدد فيها، أو إلى نقطة لا امتداد لها، وأن تمحى من أذهاننا فكرة الغيرية، ولا يبقى فيها إلا مبدأ العينية ... لكن الفكر نفسه لا حياة له إلا في التعدد والاختلاف؛ إذ هو حركة بين حدين أو جملة حدود، يصل بينها أو يفصل ... هكذا توقعنا التفسيرات الطبيعية بين نارين: فهي إما أن تقف بنا معترفة بعجزها وإفلاسها وتتركنا ظمأى لا تنقع لنا غلة؛ وإما أن تسعى إلى الوفاء والكمال حتى تفضي بنا إلى الإحالة والخلف، ألا وإنه لا مخرج للعقل من هذا الخلف والتناقض، ولا سبيل في الوقت نفسه إلى شفاء النفس من هذا العي إلا بتجاوز تلك التفسيرات الآلية الخالصة، والتماس سبب إرادي مفحم، تكون له الحرية في اختيار هذا التفاوت بين الأسباب ومسبباتها.
وهكذا تلتقي العلوم العقلية والطبيعية - العملية منها والنظرية - على الاعتراف بأنها في استقصاء البحث عن أصول الأشياء ومبادئها تنتهي دائما بالانتصار لقضية الغيب، وتفسح بيدها المجال لبقاء الأديان وخلودها.
على أن العلوم في هذا الاتجاه الذي وصفناه إنما تعمد إلى أحد طرفي المحور مستدبرة طرفه الآخر؛ وإنما تحاول إرضاء نصف حاجة العقل، مهملة نصفها الثاني؛ ذلك أن النفس الإنسانية ليس يشفيها في تفهمها للأشياء أن تصعد إلى أسبابها ومقدماتها، بل لا بد لها بعد ذلك من أن تنحدر معها إلى غايتها ونهاياتها، وتستفسر عن مقاصدها وأهدافها.
فليس يكفيك لكي تحيط بالشيء خبرا أن تعرف نشأته دون أن تعرف مصيره، ولا أن تعرف كيف كان؟ دون أن تعرف لم كان؟ أليست هذه المطالبة النفسية الحثيثة دليلا على ما هو مركوز في الجبلة من الاقتناع بأن الحوادث الكونية تسير على خطة مرسومة، وأن القوة المدبرة للأشياء تهدف منها إلى غاية معينة، أو أنها لا تسير بمحض المصادفة العمياء والاتفاق التحكمي؟
فانظر الآن موقف العلوم الحديثة من هذه الضرورة العقلية التي تلح علينا في السؤال عن غايات الأشياء ومقاصدها:
لقد أتى على هذه العلوم زمن أعلنت فيه أنها نفضت يدها من هذا البحث، وأنها أوصدت دونه بابها، مدعية أنه إنما يعنيها اكتشاف علاقة السببية بين الظواهر، ومعرفة اطرادها على نسق معين؛ وليس يعنيها، بل ليس يدخل تحت قدرتها، أن تتبين: أهذا الارتباط مقصود لغاية؟ ولا ما هي تلك الغاية؟
وهكذا شهدت هذه العلوم على نفسها بادئ ذي بدء بأنها لن تفي بحاجات العقول، ولن تؤدي رسالة المعرفة كاملة؛ إذ أزمعت أن تقف منها في منتصف الطريق، على أنها لم تكن لتدوم طويلا على هذا الموقف المحايد؛ فإن العالم الطبيعي لا يستطيع بما هو إنسان أن يهمل هذا الجانب من مطالبه العقلية، ولذلك نراه كلما وصل به العلم إلى مجموعة من الظواهر المتساندة التي يخدم بعضها بعضا والتي يقع كل منها في موضعه الذي كان لا بد منه للحصول على فائدة معينة؛ يعود قهرا عنه إلى البحث في العلل الغائبة من غير أن يسميها باسمها، فيسأل عن كل خلية في العضو، وعمل كل عضو في الجهاز، وعمل كل جهاز في الجسم ... إلخ. ويسمي هذه الأعمال بالوظائف، بدلا من اسم الغايات والمقاصد، وهو - كما ترى - برقع شفاف لا يكاد يستر ما وراءه، والمهم عندنا ليس هو الأسماء، وإنما هو تلك الحقائق التي يعترف بها اعترافا عمليا صامتا، والأهم من ذلك هو أن هذا العلم كلما جد في سيره لا يلبث أن يجاوز بضع خطوات حتى يقف عجزا واعترافا بأن أمامه ستارا كثيفا يحول دون منظر الغايات القصوى، والنهايات الأخيرة، التي لا يزال يتشوف إليها ولا يدركها. (6) الاعترافات العلمية
وبعد، فأي شيء أكبر شهادة على أن نهاية العلم البشري ليست هي إطفاء غريزة التدين، بل زيادة إشعالها، من أن مؤسس الفلسفة الواقعية وكبار أنصارها قد انتهوا إلى الاعتراف صراحة أو ضمنا بهذه الحقيقة، بناء على تجربتهم في أنفسهم، فهذا كونت
A’Comte
الذي كان يتنبأ بأن فناء الديانات سيكون هو النهاية الحتمية لتقدم العلوم، قد عاد في آخر أمره متصوفا عجيبا، وكلل حياته بوضع ديانة جديدة، طبعها على غرار النظام الكنسي للديانة الكاثوليكية: في عقائدها، وطقوسها، وأعيادها، وطبقات قساوستها ... رواية كاملة أعاد فصولها، ولم يغير إلا أشخاصها.
وهذا سبنسر
R. Spencer
ينتهي بأن يقول عن «المجهول»: إنه «تلك القوة التي لا تخضع لشيء في العقول؛ بل هي مبدأ كل معقول، هي المنبع الذي يفيض عنه كل شيء في الوجود.» أليس هذا «المجهول» هو بعينه موضوع الديانات، يجيئنا الآن باسم آخر على لسان العلم؟
وما أجمل الصفحة التي كتبها ليتريه
Littre
يصف نفسه حين كانت خاتمة مطافه في العلوم الواقعية أن رأى نفسه محوطا من كل جانب ببحر لجي من الأسرار الغامضة، وهو لا يملك سفينة يخوض بها لجته، وليس معه إبرة يتعرف بها وجهة سفره ... ترى كيف كان موقفه بإزاء هذا المحيط الرهيب؟
أتراه وقف أمامه وقفة الشاعر الهائم، أو وقفة العاشق المتدله؟ كلا، ولكن وقفة الناسك، الخاشع، المتأله.
7
الفصل الثالث
ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية
(1) نزعة التدين امتداد لقوى النفس الثلاث
ما هذه إذن تلك القوة الغلابة، التي لا تزيدها المقاومة إلا عنفا واشتعالا، والتي تقهر في النهاية أنصارها وأعداءها على السواء؟ أليست هي قوة الفطرة التي إن تورق وتثمر كلما عاودها الربيع فبلل ثراها وسقى أصولها؟ بلى! وإن هذا الربيع قد تكفي منه قطرة، وربما تبلور في نظرة، فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر، أو لحظة من يقظة الوجدان، أو أزمة من صدمات العزم ... فإذا أنت تسبح بخيالك في عالم الغيب الذي منه خرجت، أو في عالم الغيب الذي إليه تصير. (1-1) قوة الفكر في التطلع إلى الأسباب الأولى
لو كانت نزعة الإيمان بالغيب والتطلع إليه من ناحية طرفيه: الماضي والآتي، عنصرا من عناصر الفكرة الدينية وحدها، لكان الإنكار لما وراء الحس إلحادا فحسب. ولو كانت هي النتيجة الختامية لتقدم العلوم واتساع أفقها - كما رأينا - لكان هذا الإنكار نقصا في العلم وقصرا في النظر وكفى. أما وتلك النزعة بنت الغريزة والجبلة، فإن الأمر أعظم من ذلك وأخطر؛ إنه نكسة في فطرة الإنسان ترده إلى مستوى الحيوان الأعجم، ولا نقول: إلى مستوى الطفولة الغافلة؛ فإن كثيرا من الأطفال ذوي الفطر السليمة لا يقنعون بالأمر الواقع المشاهد، ولا يقفون في تعليله عند حلقة من حلقات أسبابه وغاياته القريبة، بل يصعدون دائما إلى أسبابه الأولى، ويسترسلون في تعرف نتائجه الأخيرة، فهذه صورة مصغرة من تلك النزعة الفكرية الإنسانية التي هي أبدا في حركة وتقدم يأبيان الوقوف والجمود.
إن غريزة التطلع هذه هي مبدأ العلم والإيمان معا، وإن الذي يقف بها عند حدود الواقع الحاضر في الحس ليصد الإنسانية عن سبيل الكمال، ويحرم العالم من خير كثير؛ فضلا عن أنه بذلك يقاوم طبيعة الأشياء، ويحاول تبديل الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
غير أن العقول حين تنفذ بنورها من نطاق هذا العالم الحسي، سعيا إلى الاطلاع على مبدئه ومصدره، وعلى مصيره وغايته؛ ليست على درجة واحدة في هذا السعي، «فأما» العقل القانع المتعجل فإنه يقف عند أدنى مبادئ الغيب وأقرب غاياته، مكتفيا في كل فصيلة من الظواهر الكونية المتشابهة بأن يلمح من ورائها مبدأ يدفعها وينظمها، ومن أمامها قبلة معينة تتجه نحوها؛ وقلما يعود إلى السؤال عن منشأ كل واحد من المبادئ ومآله، أو إلى السؤال عن مبدأ الكائنات جملة أو عن وجهتها الكلية من حيث هي كتلة واحدة، ذات وظائف متساندة، وهكذا تتعدد في نظره القوى المدبرة، أو الآلهة المقدرة: فللريح إله، وللخصب إله، وللحياة إله، وللموت إله، وللشعر إله ... «وأما» العقول الواعية، الطليقة، المتسامية، التي تسعى إلى هدفها على بصيرة فيما تطلب، وفيما تأخذ أو تدع، غير متعرجة في السير، ولا متناقضة في الحكم، فإنها من جهة ترى أن مطلبها أسمى من أن تحده حدود المكان، أو تقيده قيود الزمان ... حتى إنه لو أحصى لها العادون ما جمعته البشرية وما ستجمعه من علوم وفنون، ومتع بدنية وعقلية؛ لبقي أمامها في طرفي الوجود شيء لا تفسره العلوم، ولا تحققه الفنون، ولظل فيها فراغ عميق لا يملؤه الماضي ولا الحاضر، ولا المستقبل القريب ولا البعيد ... ولن يتوقف منها هذا التطلع والتسامي، ولن يستقر فيها هذا القلق والاضطراب، ولن ينحسم عنها هذا اللجاج في الطلب ... إلا بحقيقة هي اللبنة الأولى واللبنة الأخيرة لكل الحقائق، حقيقة تأبى طبيعتها الأفول في أفق الحدوث والإمكان، ولا تدع مجالا للسؤال عن قبل أو بعد في الزمان أو المكان.
ومن جهة أخرى فإن هذه العقول الفسيحة الأفق تطلب دائما تحت كل اختلاف ائتلافا، ومن وراء كل كثرة وحدة؛ ولذلك تأبى الوقوف عند المقاييس النسبية ، والتفسيرات الجزئية، ولا ترضى بآحاد القوانين حتى تسمو إلى قانون القوانين. بل إنها لتستشرف إلى اليد التي جمعت تلك القوانين ونسقتها، وجعلتها تتعاون على أداء الوظيفة المشتركة لهذا البنيان الكوني، يا سبحان الله! أليست وحدة النظام بين هذه الكتائب المختلفة الطبيعة، المتنوعة العمل، من الكائنات السماوية والأرضية، آية على وحدة القيادة العامة التي تشرف عليها، وعلى وحدة الخطة المرسومة التي يسير على هداها كل جهاز من أجهزة هذه الآلة الكبرى؟
وجملة القول: إن العقول السامية تشرئب دائما من وراء الحقائق الجزئية الحائلة الزائلة، إلى حقيقة كلية أزلية أبدية، حقيقة لا يحويها شيء من العلوم والمعارف، ولكنها تتشوف إليها كل العلوم والمعارف وتلك هي الحقيقة التي تفردها الأديان العليا بالتقديس، ولا تنكرها سائر الأديان وإن أشركت معها في هذا التقديس بعض الحقائق الجزئية الفانية.
إن هذا الشوق الغريزي إلى الأزلي الأبدي، وهذا الطلب الحثيث للكلي اللانهائي، له دلالتان عميقتان: إحداهما دلالته على مطلوبه، لا كدلالة الحركة القسرية على مصدر جاذبيتها كما يقول أرسطو، بل كدلالة الأثر على صانعه، أو الخاتم على طابعه - حسب تعبير ديكارت - وثانيهما دلالته على أن في الإنسان عنصرا نبيلا سماويا خلق للبقاء والخلود، وإن تناساه الإنسان وتلهى عنه حينا، قانعا بالدون من الحياة الجثمانية المتحطمة.
التدين إذن - ولا سيما في أديان التوحيد والخلود - عنصر ضروري لتكميل القوة النظرية في الإنسان؛ فبه وحده يجد العقل ما يشبع نهمته، ومن دونه لا يحقق مطامحه العليا. (1-2) قوة الوجدان في إشباع العواطف النبيلة
ثم هو فوق ذلك عنصر ضروري لتكميل قوة الوجدان؛ فالعواطف النبيلة من الحب، والشوق، والشكر، والتواضع، والحياء، والأمل، وغيرها، إذا لم تجد ضالتها المنشودة في الأشياء ولا في الناس، وإذا جفت ينابيعها في هذا العالم المتبدل المتبدد، وجدت في موضوع الدين مجالا لا تدرك غايته، ومنهلا لا ينفد معينه. (1-3) قوة الإرادة لتكوين البواعث والدوافع
وأخيرا هو عنصر ضروري لتكميل قوة الإرادة، يمدها بأعظم البواعث والدوافع، ويدرعها بأكبر وسائل المقاومة لعوامل اليأس والقنوط.
وهكذا نرى الفكرة الدينية تعبر عن حاجات النفس الإنسانية في مختلف ملكاتها ومظاهرها، حتى إنه كما صح أن يعرف الإنسان بأنه «حيوان مفكر»، أو بأنه «حيوان مدني بطبعه»، يسوغ لنا كذلك أن نعرفه بأنه «حيوان متدين بفطرته».
الفصل الرابع
وظيفة الأديان في المجتمع
(1) التدين أقوى كفالة لاحترام القانون
عرفنا أن الفكرة الدينية هي الغذاء الوافي لقوى النفس المختلفة، والمداد الخالد لحيويتها، ونزيد الآن بأن للأديان وراء هذه الوظائف النفسية الفردية وظائف أخرى اجتماعية، ليست بأقل من أختها خطرا.
لا حاجة بنا إلى التنبيه على أن الحياة في الجماعة لا قيام لها إلا «بالتعاون» بين أعضائها؛ وأن هذا التعاون إنما يتم «بقانون» ينظم علاقاته، ويحدد حقوقه وواجباته، وأن هذا القانون لا غنى له عن «سلطان» نازع وازع، يكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته.
تلك كلها مبادئ مقررة، والحديث فيها معاد مملول.
وإنما الشأن - كل الشأن - في هذا السلطان النازع الوازع، ما هو؟
فالذي نريد أن نثبته في هذه الحلقة من البحث هو أنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه. (2) الإنسان أسير فكرة وعقيدة لا كما يزعم كارل ماركس
السر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا عنقه، ولا يجري في دمه، ولا يسري في عضلاته وأعصابه، وإنما هو معنى إنساني روحاني، اسمه الفكرة والعقيدة، ولقد ضل قوم قلبوا هذا الوضع وحسبوا أن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية، بل يتأثران بها، هذا الرأي الماركسي هو - قبل كل شيء - نزول بالإنسان عن عرش كرامته، ورجوع به القهقرى إلى مستوى البهيمية، ثم هو تصوير مقلوب للحقائق الثابتة المشاهدة في سلوك الأفراد والجماعات في كل عصر، لكي يختار الناس أن يحيوا حياة مادية لا نصيب فيها للقلب ولا للروح، لا بد أن يقنعوا أنفسهم - بادئ ذي بدء - بأن سعادتهم هي في هذا النوع من الحياة، فالإنسان مقود أبدا بفكرة صحيحة أو فاسدة، فإذا صلحت عقيدته صلح فيه كل شيء؛ وإن فسدت فسد كل شيء.
أجل، إن الإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره، وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل؛ فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبة المالية، لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى أنه سيفلت من طائلة القانون. (3) ليس في العلوم والثقافات وحدها ضمان للسلام «العلم سلاح ذو حدين»
ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي، ذلك أن العلم سلاح ذو حدين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد.
ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان.
غير أن الإيمان على ضربين: «إيمان» بقيمة الفضيلة، وكرامة الإنسانية، وما إلى ذلك من المعاني المجردة، التي تستحي النفوس العالية من مخالفة دواعيها، ولو أعفيت من التبعات الخارجية والأجزية المادية، و«إيمان» بذات علوية، رقيبة على السرائر، يستمد القانون سلطانه الأدبي من أمرها ونهيها، وتلتهب المشاعر بالحياء منها، أو بمحبتها، أو بخشيتها، ولا ريب أن هذا الضرب هو أقوى الضربين سلطانا على النفس الإنسانية، وهو أشدهما مقاومة لأعاصير الهوى وتقلبات العواطف، وأسرعهما نفاذا في قلوب الخاصة والعامة. (3-1) حاجة المجتمع إلى الدين والأخلاق
ومن أجل ذلك كان التدين خير ضمان لقيام التعامل بين الناس على قواعد العدالة والنصفة؛ وكان لذلك ضرورة اجتماعية، كما هو فطرة إنسانية.
وأنت، فهل عسيت أن يخالجك شيء من الشك في مدى حاجة الجماعة في مختلف الأمم والشعوب إلى ازدهار هذا الروح الديني فيها؟ وهل غرك أن دولا كبيرة أسست نهضتها في عصرنا هذا على غير الدين، وقد استتب النظام فيها ومكن لها في الأرض؟ (3-2) شهادة العلماء والساسة والقواد
إننا لا نريد أن نسبق الحوادث، وأن نتنبأ بمصير هذا البنيان الذي أسس على غير تقوى من الله ورضوان، ولكننا نحب أن نقدم لك نموذجا، لا من أقوال رجال الدين، بل من أقوال أقطاب العلم، وزعماء السياسة، وقواد الحرب، وفي تلك الدول نفسها، فاستمع إلى قول روبرت ميلليكان
Robert Millqkan
العالم الطبيعي الأميريكي: «إن أهم أمر في الحياة هو الإيمان بحقيقة المعنويات وقيمة الأخلاق، ولقد كان زوال هذا الإيمان سببا للحرب العامة، وإذا لم نجتهد الآن لاكتسابه أو لتقويته فلن يبقى للعلم قيمة، بل يصير العلم نكبة على البشرية.»
1
وقول الدكتور ويلسون
Le President Wilson
الرئيس الأسبق للولايات المتحدة بأمريكا: «وخلاصة المسألة أن حضارتنا إن لم تنفذ بالمعنويات فلن تستطيع المثابرة على البقاء بماديتها؛ وأنها لا يمكن أن تنجو إلا إذا سرى الروح الديني في جميع مسامها ... ذلك هو الأمر الذي يجب أن تتنافس فيه معابدنا، ومنظماتنا السياسية، وأصحاب رءوس أموالنا، وكل فرد خائف من الله محب لبلده.»
2
وقول الماريشال بيتان
Le Marechal Philppe Petain
عاهل الدولة الفرنسية في خاتمة خطابه الذي أذاعه على أمته في يوم 25 يونيو 1940 عقب توقيع الهدنة التي التمسها من زعيم ألمانيا المنتصرة: «إنني أدعوكم أول كل شيء إلى نهوض أخلاقي.» وقول المارشال مونتجومري
Montgomery
في خطبته أمام الجيش الثامن يوم 4 مارس 1951: «إن أهم عوامل الانتصار في الحرب هو العامل الأخلاقي؛ ولا يمكن لقائد أن يدفع جنوده إلى بذل أقصى جهودهم في العمل إلا إذا كانت ضمائرهم مرتاحة إلى ما يعملونه، ويقيني أن الجيش إذا سار على غير مرضاة الله سار على غير هدى، إن خطر الانحطاط الخلقي في أفراد الجيش أعظم من خطر العدو؛ ولذلك لا نستطيع أن ننتصر في معركة إلا إذا انتصرنا على أنفسنا قبل كل شيء.» (4) الرباط الروحي وتماسك المجتمع
إن الخدمة الجليلة التي تؤديها الأديان للجماعة لا تقف عند هذا الحد، فليست كل مهمتها أنها المبعث القوي لتهذيب السلوك، وتصحيح المعاملة، وتطبيق قواعد العدل، ومقاومة الفوضى والفساد؛ بل إن لها وظيفة إيجابية أعمق أثرا في كيان الجماعة؛ ذلك أنها تربط بين قلوب معتنقيها برباط من المحبة والتراحم، لا يعدله رباط آخر من الجنس، أو اللغة، أو الجوار، أو المصالحة المشتركة.
بل إن هذه العلائق مجتمعة، مهما يكن أثرها الظاهري من كف الأذى وبذل المعروف المتبادل، تظل روابط سطحية تضم الأفراد كما تضم الأعواد في ضغث، ولا تزال تتخللها الفجوات والثغرات والحواجز النفسية ... حتى تشدها رابطة الأخوة في العقيدة، والمشاركة في المثل العليا، فهنالك تعود الكثرة وحدة، وتصبح النفوس كالمرايا المتقابلة تنعكس صور بعضها في بعض.
بل كثيرا ما تستغني هذه الوحدة الروحية عن سائر الوحدات الأخرى، فتنعقد بها أقوى الوشائج وأدومها بين أفراد اختلفت أجناسهم، وتباينت لهجاتهم، وتباعدت ديارهم، وتفاوتت مصالحهم. وكثيرا ما نرى الدول التي تقوم على قاعدة المصالح المشتركة في الوطن بين ملل مختلفة تضطر إلى الاستنجاد بما في هذه الأديان كلها من مبدأ التعاون على الخير، والتناصر على دفع عدوان المغيرين؛ ولذلك قيل بحق: إن الوطنية التي لا تعتمد على باعثة من الخلق والدين إنما هي حصن متداع يوشك أن ينهار.
وجملة القول: أن الأديان تحل من الجماعات محل القلب من الجسد، وأن الذي يؤرخ الديانات كأنما يؤرخ حياة الشعوب، وأطوار المدنيات.
المبحث الرابع
في نشأة العقيدة الإلهية
الفصل الأول
العوامل الأولى لإيقاظها في النفوس ودعائمها في العقل الغريزي
(1) قانونا السببية والغائية
أشرنا في البحث السابق إلى أن ظاهرة التدين تستند في أصلها إلى مبدأين مرتكزين في بداهة العقول، وهما قانونا «السببية والغائية»، ونبادر الآن فنكرر أن هذين القانونين متى فهما على كمالهما انتهيا إلى أسمى العقائد الدينية: عقيدتي التوحيد والخلود؛ وأن عقائد الشرك والوثنية والفناء إنما هي وليدة ضرب من الغفلة أو الكسل العقلي يقف بها في بعض الطريق.
أما قانون السببية فيقرر أن شيئا من «الممكنات»
1 «لا يحدث بنفسه من غير شيء»؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده، «ولا يستقل بإحداث شيء»؛ لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئا لا يملكه هو، كما أن الصفر لا يمكن أن يتولد عنه عدد إيجابي، فلا بد له في وجوده وفي تأثيره من سبب خارجي، وهذا السبب الخارجي إن لم يكن موجودا بنفسه احتاج إلى غيره، فلا مفر من الانتهاء إلى سبب ضروري الوجود يكون هو سبب الأسباب.
وأما قانون الغائية فمن موجبه أن كل نظام مركب متناسق مستقر لا يمكن أن يحدث عن غير قصد، وأن كل قصد لا بد أن يهدف إلى غاية، وأن هذه الغاية إذا لم تحقق إلا مطلبا جزئيا إضافيا منقطعا، تشوفت النفس من ورائها إلى غاية أخرى ... حتى تنتهي إلى غاية كلية ثابتة هي غاية الغايات.
نعم، إن طاقة البشر، وطبيعة المخلوق، أعجز من أن تحصي مراحل الأسباب والغايات مرحلة مرحلة، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة، حتى تشهد بداية العالم ونهايته؛ ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء وغاياتها الأخيرة، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة، وكان قصاراها أن تخطو خطوات معدودة إلى الأمام أو إلى الوراء، تاركة ما بعد ذلك إلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء.
ولكن هذا اليأس الإنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلا في ماضيها ومستقبلها، يقابله يقين إجمالي ينطوي كل عقل على الاعتراف به طوعا أو كرها، وهو أنه مهما طالت سلسلة الأسباب الممكنة والغايات الجزئية، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية؛ فإنه لا بد لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إثبات شيء آخر يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء، والغاية الحقيقية التي ليس بعدها شيء، وإلا لبقيت كل هذه الممكنات في طي الكتمان والعدم، - إن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل - أو لبقيت لغزا وعبثا غير معقول - إن لم تكن لها غاية تامة تنقطع بها لجاجة النفس ويستقر مضطربها.
نقول: إن وجود هذه الحقيقة الأولى والأخيرة ضرورة عقلية لا مناص من التسليم بها، ولا مجال لأحد أن يكابر فيها متى فكر قليلا في الوضع الذي يئول إليه إنكارها، اللهم إلا إذا فرضناه كائنا أخرق، لا يذعن لقواعد المنطق والحساب، ولا يبالي أن يبطل كل شيء في الأذهان.
الفصل الثاني
عواملها في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد
(1) ما الأسباب المباشرة التي أيقظتها في النفوس؟
فإذا سألنا هنا عن نشأة العقيدة الإلهية، فليس سؤالنا منشأ هذه الضرورة الكامنة في العقل الباطن، والتي هي من الأوليات التي لا يسأل عن مصدرها، وإنما السؤال عن العوامل والملابسات التي تكون قد رفعت هذه الحقيقة إلى مستوى الوعي المتيقظ، ثم لم تكتف بإبرازها أمام العقل قضية نظرية، بل حولتها إلى فكرة حية ملهبة للمشاعر، وطبعت موضوعها بطابع خاص يجعله ذاتا علوية تتوجه إليها القلوب بالرغبة والرهبة، والدعاء والخضوع.
جمهور الباحثين في هذه المسألة لا يطلبون من بحثهم الوقوف على الأسباب العامة التي تتيسر دراستها ويمكن التحقق من وجودها في كل عصر، والتي يعقل أنها هي التي أيقظت ولا تزال توقظ الحاسة الدينية في الإنسان، بل يفهمون من كلمة «نشأة الدين.» الصورة التي ظهرت فيها الأديان أول ما ظهرت في الوجود، فالأولية التي يريدون تقريرها ليس أولية في الترتيب المنطقي فحسب - كتقدم المقدمات على النتائج - وليست أولية تاريخية نسبية - أعني: بالإضافة إلى العصور المعروفة - بل هي أولية زمانية مطلقة، تقترن بظهور الإنسان على هذا الكوكب.
والمنهج الذي يسلكونه للوصول إلى هذا المطلب هو التنقيب عن أديان الأمم القديمة، أو أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، حتى إذا ما انتهى بهم السير في تلك العصور المظلمة، أو تلك الأقطار المنعزلة، إلى أقدم مظهر معروف من مظاهر التفكير الديني، اعتبروه صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول.
ولما كانت المرحلة النهائية في نظر باحث معين لا تنطبق دائما على المرحلة الأخيرة التي يصل إليها باحث آخر؛ انقسم الباحثون في الموضوع إلى شعبتين عظيمتين، تسيران في خطين متعاكسين: «ففريق منهم» يذهب إلى أن الدين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة «الإله الأحد» عقيدة جد حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس السامي.
هذه النظرية نادى بها أنصار مذهب «التطور التقدمي»، أو التصاعدي
Evolu-tionnism progressisie ou ascendent ، الذي ساد في أوروبا في القرن التاسع عشر، في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عدد من العلماء منهم سبنسر
Spencer ، وتيلور
Tylor ، وفريزر
Frazer ، ودوركايم
Durkheim ، وغيرهم. وإن اختلفت وجهات نظرهم في تحديد صورة العبادة الأولى وموضوعها. «وفريق آخر» يقرر بالطرق العلمية بطلان هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشر، مستدلا بأنها لم تنفك عنها أمة من الأمم في القديم والحديث. فتكون الوثنيات إن هي إلا أعراض طارئة، أو أمراض متطفلة، بجانب هذه العقيدة العالمية الخالدة.
وهذه هي نظرية «فطرية التوحيد وأصالته»، التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإنسان، وعلماء النفس، ومن أشهر مشاهيرهم لانج
Lang
الذي أثبت وجود عقيدة «الإله الأعلى» عند القبائل الهمجية في أوستراليا، وإفريقيا، وأمريكا. ومنهم شريدر
Sheroeder
الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة؛ وبروكلمان
Brockelman
الذي وجدها عند الساميين قبل الإسلام، ولرواه
La Roy
وكاترفاج
Quatrefages
عند أقزام أواسط إفريقيا، وشميدت
Schmidt
عند الأقزام وعند سكان أوستراليا الجنوبية الشرقية. وقد انتهى بحث شميدت هذا إلى فكرة «الإله الأعظم» توجد عند جميع الشعوب الذي يعدون من أقدم الأجناس الإنسانية.
1
غير أنه مهما تتفاوت النتائج في نظر المذهبين: «التطوري والفطري» فإنهما متفقان على موضوع البحث، وهو تحديد صورة العقيدة «البدائية» الحقيقية، وعلى منهاجه، وهو دراسة الشعوب المتأخرة والأمم الغابرة.
الفصل الثالث
الوضع التاريخي للمسألة
(1) خطأ هذا الوضع في وسائله وفي غايته
ونحن نرى أن وضع المسألة على هذا الوجه، ومحاولة حلها من هذا الطريق، ينطوي على خطأ مزدوج: خطأ في الغاية، وخطأ في الوسيلة.
أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث، وهي تحديد الأصل الأصيل للعقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة بإطلاق، فلأن هذه المنطقة «البدائية المحضة» قد اعتبرها العلم شقة حراما حظرها على نفسه، وأعلن - في صراحة كاملة - خروجها عن حدود عمله. فاقتحامها الآن باسم العلم تعامل بصك مزيف، وتستر بثوب مستعار، وكل حكم يصدر تحت هذا الاسم يكون صادرا عن قاض معزول، فاقدا للركن الأول من سلطته الشرعية، ومؤرخو الديانات - على الخصوص - معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلا تاما، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب.
وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية، فلأنه مبني على افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار القرون الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنياتها الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة، قريبة أو بعيدة، في أدوار تتعاقب على البشرية، كما تتعاقب الفصول السنوية على الطبيعة بحيث يصبح من العسير أن نحكم بصفة قاطعة بأيهما بدأت دورة الزمان، وليس تعيين أحد الأمرين للابتداء الحقيقي بأثبت تاريخيا من مقابله، فكذلك نقول في شأن العقائد الدينية، إنه من الممكن أن تكون الخرافات القديمة بداية ديانات، كما يمكن أن تكون نتيجة تحلل وتحريف لديانة صحيحة سابقة مزقت أهلها الحروب، أو أفسدتهم الآفات الاجتماعية، فقلت عنايتهم بأصول دينهم، وتلقوا بالتسليم والقبول كل ما سمعوه من أفواه الأدعياء والدجالين، وشاعت بينهم هذه الروايات وتوارثوها حتى أصبحت سننا مقدسة، ولقد أنصف العلامة هوفدنج
Hoffding
حين قال: «إنه يبعد كل البعد أن ينجح تاريخ الأديان في حل مشكلة بزوغ الدين في النوع الإنساني ... فإن التاريخ لا يصور لنا هذه البداية الأولى في موضع ما، وكل ما نجده إنما هو سلسلة من صور مختلفة الديانات متقدمة قليلا أو كثيرا ...» «حتى إن أحط القبائل الهمجية التي نعرفها قد مرت بأدوار شتى، وتطورت تطورا بعيدا.»
1
فقد بان لك مبلغ ثبات الفرض الذي بنيت عليه البحوث الحديثة كلها، وأنها أسست على جرف هار لا تطمئن عليه الأقدام. (2) نقد المذهب التطوري بشكل خاص
ويمتاز المذهب التطوري بأنه مبني على افتراض آخر لم يقم عليه دليل كذلك، وهو قياس الملكات والأحاسيس الروحية، على القوى البدنية والمكتسبات العقلية والتجريبية. فكما أن الإنسان ينتقل في نموه البدني من الضعف إلى القوة، وفي نموه العقلي من الجهالة إلى المعرفة، قد يلوح أيضا أنه بدأ حياته بالسخف والخرافة، ولم يصل إلى العقيدة السليمة إلا بعد جهد وعناء.
ونحن نسأل - قبل كل شيء - عن الأصل الذي بني عليه هذا القياس.
هل صحيح أن قوى النفس المختلفة تسير في نموها على قدم المساواة، وأن حياة الناس الروحية تمشي في كل أدوارها جنبا إلى جنب مع حياتهم المادية؟ أولسنا نرى هاتين الظاهرتين تسيران أمامنا في طريقين متعارضين؟ فإذا صح ما يقال من أن الإنسان كان في بدايته قانعا بكهف يئويه، وجلد حيوان يستر به بشرته، وشيء من الأعشاب يدفع مخمصته، ألا تكون قلة مشاغله ومطامحه المادية قد تركت في نفسه فراغا عميقا للتأملات التي ترهف حاسته الدينية، وتنمي مشاعره الروحية العليا؟ كما أن اشتغال الناس في عصور المدنيات بترف الحياة الجثمانية يؤدي إلى عكس هذه النتيجة؛ ذلك أن الغرائز المتقابلة تضعف وتتقلص بقدر ما تنمو وتقوى أضدادها، ككفتي الميزان، لا ترتفع إحداهما إلا انخفضت الأخرى.
على أن قليلا من التأمل يهدينا إلى أن قياس الأديان على الفنون والصناعات إنما هو محاولة للجمع بين أمرين لا تؤلف بينهما حقيقة نوعية مشتركة، بل تتباين طبائعهما ووسائلهما. فبينما حقائق العلوم ثروة واسعة ترحل النفس في طلبها واكتسابها، ويتطلب اقتناؤها وتنميتها علاجا ومثابرة، واستعانة بأدوات منفصلة في غالب الأمر، وحقيقة الدين توجد عناصرها قارة بين الجوانح، وتعرض دلائلها لائحة أمام الحس، حتى إن التفاتة يسيرة لتكفي للظفر بها في حدس سريع كالبرق الخاطف، وليس إدراك هذه الحقيقة الكبرى محصول إدراكات لحقائق الكون ودقائقه الجزئية، ولا هو أشق منها كما ظن،
2
بل إنه يتقدمها ويمهد لها، في نظرية كلية تلم بها جملة، قبل أن تفحص أجزاءها وتفصيلاتها؛ ولذلك يستوي العالم والجاهل في أصل هذا الإحساس، كل على فهمه يجد في الكون ما يبهره ويستولي على مشاعره.
ولقد كان مقتضى الوضع السليم، في تعرف ما كانت عليه بداية الأديان فيما قبل التاريخ، أن تسترشد في مقارنتها، لا بسير الفنون والمصنوعات، بل بسير الديانات المعروفة منذ طفولة التاريخ إلى اليوم، ألا وإننا نعرف بالاستقراء أن كل واحدة من هذه الديانات بدأت بعقيدة التوحيد النقية، ثم خالطتها الشوائب والأباطيل على طول العهد، فالأشبه أن تكون هذه سنة التطور في الديانات كلها: أن بدايتها دائما خير من نهايتها.
فإذا أبينا إلا أن نقيس تطور الدين على تطور الفن، كان من الحق علينا ألا نأخذ في هذه المقارنة بالمقاييس السطحية والتشابه اللفظي الأجوف، بل ننظر إلى جوهر الأشياء وأعماقها، وحينئذ ينقلب هذا القياس نفسه حجة في يد أنصار «الفطرية»، ذلك أن معنى «التطور» في الفنون - كما في كل كائن حي - هو أنها تبدأ في صورة ساذجة، متحدة، متجانسة، ثم تنتقل تدريجيا إلى نوع من التكثر والتركيب، تزداد به تعقيدا كلما بعدت عن العقيدة الإلهية يستوجب أنها سارت أيضا من الوحدة إلى الكثرة، ومن النقاوة والسهولة واليسر، إلى التعقد بالإضافة الأسطورية، والنزوات الخيالية، التي لا ضابط لها من العقل السليم. (3) التطور بين الأديان السماوية
أما «التطور» بمعناه الأدبي، وهو الترقي من النقص إلى الكمال، فليس قانونا علميا، ولا سنة طبيعية مطردة، ولا يمكن تطبيقه بصفة آلية على التاريخ البشري، وإنما هو إحدى القيم العليا التي تطمح إليها النفوس، وتشرئب إليها الأعناق؛ فتبلغها حينا؛ وتنحسر عنها أحيانا. نعم، إن كل مصلح لا بد أن يكون مؤمنا بإمكان تحقيق هذه الغايات السامية؛ إذ لولا الأمل في قابلية الأخلاق والعقائد للتحول والرقي، لبطل كل تشريع، ولأصبح من العبث بذل أدنى مجهود للتقدم، ولكن شتان ما بين قابلية الترقي وبين تحققه بالفعل، فهذا مطمح لا يناله إلا من أدى مهره من العزيمة الصادقة، والمجاهدة المتواصلة. وتاريخ الإنسانية لا يسير في هذا الاتجاه على خط رأسي مستقيم.
3
هكذا نرى أن التحليل النفسي، وشواهد التاريخ، والتطور الصحيح؛ لا يقف شيء منها في وصف الدفاع عن النظريات الموسومة بالتطورية، والتي تجعل الخرافة والأسطورة هي بداية الأديان؛ بل إنها بالعكس تميل إلى تأييد النظرية المقابلة، غير أن تأييدها لهذه النظرية الأخيرة لا يرفعها إلى صف الحقائق التاريخية المفروغ منها؛ لأن هذه الدلائل كلها لا تقدم لنا ضمانا من المنطق ولا من الواقع تثبت به أن الحوادث كانت تسير بالفعل دائما على وفق ما ألفناه من الأوضاع، لا على الوجه الذي كان ينبغي أن يكون.
بل هي هنا نظرية ثالثة يمكن الأخذ بها في المسألة، وتقريرها أن الرشد والضلال في الفكرة الدينية ليستا ظاهرتين متعاقبتين فقط، صعودا أو انحدارا على مدى العصور، بل هما ظاهرتان متعاصرتان، موزعتان في كل أمة وجيل، تبعا لاختلاف الأفراد في درجات استقامة الحدس العقلي، ونبل الحس الباطني، فلا يخلو جيل ما من نفوس صافية تدرك الحقيقة نقية من شوائب الخرافة، وأخرى دون ذلك. ولعل هذا الوصف هو أقرب الأوصاف تصويرا للواقع المعروف، فقد اتفق الموثوق بهم من مؤرخي الأديان - كما أسلفنا - على أن أشد الشعوب همجية ووثنية لم تنفك عن الاعتقاد بإله خالق هو رب الأرباب.
لكن بين القدر الذي عرفناه من تاريخ البشرية وبين عصر نشأتها، لا تزال الثغرة واسعة لم تسد ولن تسد؛ إذ لم يقل أحد إن الوقائع المفقودة الوثائق يمكن إثباتها على وجه قاطع بمثل هذا الضرب من التخمين، اعتمادا على مجرد حسن المقابلة وجمال التناسق بينها وبين الوقائع المعروفة، دون تثبت من تشابه الظروف والملابسات في طرفي القياس.
هكذا عجزت وسائل العلوم أن تقدم لنا بيانا شافيا يطمئن إليه القلب عن ديانة الإنسان الأول، أما من أحب أن يسترشد بنصوص الكتب السماوية، فإنه سوف يجد فيها ما شد أزر القائلين بأولية العقيدة الإلهية الصحيحة، لا في الغريزة فحسب:
فطرة الله التي فطر الناس عليها ،
4
بل في التطور الزماني كذلك، فهذه النصوص تنادي بأن الناس بدءوا حياتهم مستقيمين على الحق مؤتلفين عليه، وأن الانحراف والاختلاف إنما جاء عرضا طارئا بعد ذلك:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ،
5
وأن استمرار هذا الخلاف واتساع شقته إنما كان بتأثير الوراثة وتلقين كل جيل عقيدته للناشئين فيه: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه».
6
وإلى ذلك كله فإن الكتب السماوية متفقة على أن الجماعة الإنسانية الأولى لم تترك وشأنها تستلهم غرائزها وحدها، بغير مرشد ومذكر، بل تعهدتها السماء بنور الوحي من أول يوم، فكان أبو البشر هو أول الأفذاذ الملهمين، وأول المؤمنين الموحدين، وأول المتضرعين الأوابين.
لكن الالتجاء إلى هذه النصوص اعتراف ضمني بأن وسائل العلم البشري وحدها عاجزة عن أن تصل بنا من طريق يقيني إلى نقطة البدء الحقيقي للدين، والواقع أن الحل النهائي لهذه المسألة إنما يكون عن طريق الوحي؛ لأنها داخلة في منطقة الغيب التي هي موضوع الإيمان، وليست من شأن العلوم الاستقرائية، ولا العلوم الاستنتاجية.
وجملة القول: أن كل النظريات التي حاولت تحديد ديانة الإنسان الأول بالتطبيق على ديانات القرون الماضية، أو الأمم الهمجية، فصورتها لنا تارة سليمة، وتارة سقيمة، وتارة ملفقة؛ إنما هي افتراضات مبنية على افتراضات فهي لا تصف الحق الثابت
Le vrai ، الذي هو مطلب العلم الصحيح، وإنما تعرض احتمالات تشبه الحق قليلا أو كثيرا + ou-vraisemblables .
فإذا نحن عرضنا الآن شيئا من هذه النظريات، فليكن معلوما أننا لن نتابعها في تلك الدعوى العريضة، وهي أنها ترسم الصورة الأولى المطلقة للحياة الدينية، بل سنقنع منها بالجانب التحليلي، أو الجانب التاريخي النسبي، لا أكثر من ذلك.
الفصل الرابع
الوضع التعليلي للمسألة واختلاف المذاهب فيه
(1) المذاهب الكونية أو الطبيعية (1-1) الطبيعة العادية
يرى فريق من العلماء أن العامل الأول في إثارة الفكرة الدينية كان هو النظر في مشاهد الطبيعة، ولا سيما الأفلاك والعناصر.
ذلك أن التأمل في هذا المجال غير المتناهي يجعل الإنسان يشعر بأنه محوط من كل جانب بقوة ساحقة غلابة، قوة مستقلة عن إرادة البشر، يخضع الجميع لتأثيرها، ولا قدرة لهم على تحويل سيرها أو تعديل نظامها، فيجتمع له من ذلك شعور مؤلف من دهشة وإعجاب، يرى به الكون أشبه شيء بالمعجزة، «وفي الحق لهو أكبر المعجزات ؛ فإنه لا شيء أقل طبيعية من الطبيعة نفسها.»
أشهر مقرري هذه النظرية هو العالم الألماني ماكس ميلر
Max Muller
في كتابه عن الأساطير المقارنة
Comparative Mythology ، وهو لا يبنيها على هذا الاعتبار النفسي وحده، بل يستند فيها إلى وثائق لغوية، استمدها من دراسته المقارنة للأساطير والتماثيل القديمة، وعلى الأخص من دراسة الفيدا
les Vedas «كتب الديانة البراهمية»، حيث وجد أن أسماء الآلهة فيها هي - في الغالب - أسماء لتلك القوى الطبيعية العظيمة كالسماء والنار ونحوها، وأن هذه الأسماء بعينها تتشابه حروفها في سائر اللغات المسماة «بالهندية الأوروبية»، فخلص من ذلك إلى أنه، قبل تشعب الشعوب الإنسانية وخروجها من موطنها الأول، كانت هناك لغة واحدة، تعبر عن هذا التقديس العام لقوى الطبيعة الكبرى، فتكون إذا هي الفكرة الأولى قبل ظهور الحضارات.
غير أنه لما كانت الديانة بمعناها الحقيقي لا توجد إلا حيث يوجد اعتقاد بكائنات حية عاقلة، فعالة، يتوجه إليها بالعبادة؛ لزم السؤال عن سبب هذا التطور الفكري: من النظر في مشاهد الطبيعة، إلى التفكير في تلك الكائنات الروحية.
يجيب ماكس ميلر بأن هذه من أثر اللغات نفسها؛ لأنها في العادة تنسب لكل ظاهرة فعلا يشبه أفعال الإنسان، فنحن نقول: إن النهر «يجري»، والشمس «تطلع»، والهواء «يئن أو يزمجر»، والنار «تشهق أو تزفر» إلى غير ذلك. فهذه التعبيرات التي كانت في أصلها تعبيرات مجازية تشبيهية، طال بها الأمد حتى أخذت على حقيقتها؛ فصارت هذه العناصر نفسها تأخذ في الأذهان صورة الكائنات الحية المفكرة، ومن هنا نشأت عادة تمثيل الأفلاك والعناصر في رموز مجسمة على صورة الحيوان أو الإنسان، ولعب الخيال في ذلك دورا هاما: فكان تارة يرمز إلى الأشياء المتعددة التي يجمعها اسم مشترك باعتبارها حقيقة واحدة تتحول من نوع إلى نوع، وهكذا ...
هل نحن بحاجة إلى تذكير القارئ بأن هذه المحاولة التي قد تنجح في تعليل الأساطير والمثل، لا تصلح تفسيرا للأديان؟
لقد اعترف ميلر بأن العقلية التي تتصور العناصر بصورة الحيوان المفكر عقلية مريضة، أوقعها الوهم والخيال في حبائله حتى وصل بها إلى درجة الخبل والهذيان .
ونزيد نحن أنها في الوقت نفسه ليست عقلية دينية - كما يعلم مما أسلفناه في تحديد معنى الدين - وأنه اعتقاد في «روح» مستقلة تسيطر على الطبيعة لا في «نفس» محصورة في الطبيعة، مسايرة لها.
فالصواب في تفسير هذه النقلة الفكرية، من المادة إلى الروح، أنه انتقال من الكائن إلى المكون، وهو انتقال معنوي طبيعي من غير حاجة إلى توسط اللغات. فكما أن الناظر في جمال أثر فني لا يقدر أن يمنع نفسه من التفكير في ذوق الفنان؛ والناظر في دقة الآلة المركبة ينتقل فكره توا إلى مهارة المهندس، كذلك التأمل في عظمة البدائع الكونية ينساق بطبيعته إلى التفكر في عظمة القوة العاقلة التي تدبرها.
وإذا كانت تلك النظرة الأسطورية «التي تستنطق الجماد وتعتقد أن في جوفه روحا عاقلة» ليست عقلية ولا دينية، فهذه النظرة الاستنتاجية - على عكس ذلك - دينية منطقية معا؛ ذلك أن العقل الإنساني لا يكاد يتصور أن جمادات لا روح فيها ولا شعور يمكن أن تتحرك بنفسها وتنتقل في أوضاع منظمة، بين أجرام أخرى متحركة بحركات منظمة مباينة لها على أبعاد محددة، وبطريقة مؤدية إلى غايات معقولة، من غير أن تكون مدفوعة مباشرة أو من طريق غير مباشر، بشيء ذي إرادة وشعور، يحركها وينقلها في تلك الأوضاع، على حساب ثابت دقيق.
قدر في ذهنك بيتا منسق البنيان، فاخر الأثاث والرياش، قائما على جبل مرتفع، تكتنفه غابة كثيفة ... وقدر أن رجلا جاء إلى هذا البيت، فلم يجد فيه ولا حوله ديارا ولا نافخ نار ... فحدثته نفسه بأنه عسى أن تكون صخور الجبل قد تناثر بعضها، ثم تجمع ما تناثر منها ليأخذ شكل هذا القصر البديع، بما فيه من مخادع ومقاصير، وأبهاء ومرافق، وأن تكون أشجار الغابة قد تشققت بنفسها ألواحا، وتركبت أبوابا وسورا، ومقاعد ومناضد، ثم أخذ كل منها مكانه فيه، وأن تكون خيوط النبات، وأصواف الحيوان وأوباره، قد تحولت بنفسها أنسجة موشاة، ثم تقطعت طنافس، ووثائر، وزرابي، فانبثت في حجراته واستقرت على أرائكه، وأن المصابيح جعلت تهوي إليه بنفسها من كل مكان فنشبت في سقفه زرافات ووحدانا ... ألست تحكم بأن هذه حلم نائم، أو حديث خرافة، قد أصيب صاحبه باختلاط في عقله؟ فما ظنك بقصر ... السماء سقفه، والأرض قراره، والجبال أعمدته، والنبات زينته، والشمس والقمر والنجوم مصابيحه؟ أيكون في حكم العقل أهون شأنا من ذلك البيت الصغير؟ أولا يكون أحق بلفت النظر إلى بارئ مصور، حي قيوم، خلق فسوى، وقدر فهدى؟
وإذا كان الإعجاب بالأثر الفني البارع، يحمل الإنسان بفطرته على التساؤل عن الفنان الذي أبدعه، ويحفزه إلى التوجه بفكرته إليه، سواء أعرف شخصه أم لم يعرفه، ليعبر له عن هذا الشعور والتقدير، أليس الإعجاب ببدائع الملكوت أحق بأن يتحول إلى مناجاة مبدعه، والإفضاء إليه بعبارات التبجيل العميق والتقديس البليغ؟ وهل العبادة في جوهرها ولبها إلا ذلك؟
ألا وإنك لو أخذت تحلل هذه المناجاة الخاضعة، لوجدتها تنطوي بالضرورة على عنصرين جوهريين: فهي تفترض أولا: أن الشيء الذي تتوجه إليه أهل لأن يستقبل حديث من يناجيه. وتفترض. ثانيا: أنه أسمى مقاما وأكمل صفة من الإنسان؛ لأنه يستطيع ما لا يستطيع الإنسان، فلا يمكن - والحالة هذه - أن يكون مادة صماء عمياء، لا تحسك ولا تراك، ولا تسمع نجواك، وإلا لكان المعبود محروما من مزايا الحياة والعقل والشعور التي يتمتع بها عابده، وهو قول متناقض يهدم نفسه.
هكذا تتولد العقيدة الإلهية، والحركة العبادية، من تزاوج مبدأين نفسيين: أحدهما غريزة عقلية؛ وهي غريزة التطلع لفهم الطبيعة، والثاني حاسة وجدانية؛ وهي حاسة التذوق الفني لما في الطبيعة من جمال وجلال.
وإن مما يؤيد القول بأن فكرة التأليه وليدة هذه النظرة في الطبيعة، أن الارتباط بين هذا الإحساس الكوني، وهذا الإحساس الديني، تثبته التجارب النفسية المتكررة في كل الأمم وفي كل العصور،
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير .
1
ولذلك لا يزال هذا التفسير من أصح التفاسير وأقواها، على الرغم مما وجه إليه من اعتراضات.
الاعتراضات على هذه النظرية
استبعد بعض الناقدين أن يكون النظر في صحيفة الكون سببا في إيقاظ هذا الشعور الديني العميق؛ فقال: إن استمرارها على نسق واحد يجعلها أمرا مألوفا، لا يلفت النظر، ولا يحتاج إلى تعليل، وعلى فرض أنها تبعث الدهشة والخشوع في نفوس المفكرين، فليس لها هذا الأثر في تلك العقول الساذجة
2
التي تزعم أنها قادرة على تغيير قوانين الطبيعة، وأنها تستطيع - بوسائل خاصة - أن تستثير الرياح، وتستنزل الأمطار ... إلخ، ويضيف هذا الناقد أن العقيدة الدينية نفسها تقرر هذا المعنى في عقول أهلها، حيث تعلمهم أن «قوة الإيمان تزحزح الجبال»، وهكذا تكون العقيدة مستمدة من روح العظمة والقدرة في مواجهة الطبيعة، لا من روح الضعف والخضوع أمامها.
3
قال: ولو كان باعث العقيدة هو الضعف أمام الطبيعة، والتماس الطريق لاجتلاب خيرها، واتقاء شرها؛ لكانت الديانات كلها ضربا من الخرافة؛ لأنه ليس بالدعاء والصيام وتقديم القرابين ونحو ذلك يكون استدرار الأمطار، وإجراء الأنهار، واتقاء الحر والبرد، والجوع والعري، والفقر والمرض، وقد أثبتت التجربة فشل هذه الوسائل في غالب الأمر.
ومن جهة أخرى: لو كان مبعث العقيدة هو المشاهد الكونية، وهدف العبادة هو استرحام الطبيعة؛ لما استمر الإنسان على التدين، بعدما ظهر له أنه محاولة عابثة، وإذ إن الديانات لم تنقطع يوما ما، ولن تنقطع عن الجماعة الإنسانية، فلا بد أن يكون لها منشأ وهدف آخرين، على أننا إذا استطعنا تفسير عبادة القوى الطبيعية العليا بشعور الانبهار أمام مظاهرها، فكيف نفسر عبادة الأحجار، والأشجار، والحشرات، وتافه الأشياء التي لا توحي مثل هذا الشعور؟ وأخيرا كيف نفسر بذلك ما في الأديان من الفصل التام بين الأمور المقدسة والأمور العادية؟
هذه هي خلاصة النقد الذي وجهه دوركايم
4
إلى نظرية التدرج من الشعور الكوني إلى الشعور الديني.
الإجابة عنها
إنه لا ينكر أحد أن الإلف والعادة يقلان من حدة الشعور، وأن استمرار المحسات على نسق واحد يضعف باعثة التفكير في مصدرها، ذلك ما لا شك فيه، ولكن الظواهر الكونية - مهما تتشابه أدوارها المتقابلة - لا تفتأ كل حركة منها تعرض على حواسنا صورا متبدلة، وألوانا طريفة: فتغير وجوه القمر، واختلاف مواقع النجوم، ومطالع الشمس، ومناظر الفجر والشفق، واختلاف الليل والنهار، وتقلب الرياح والفصول والخصب والجدب؛ كل أولئك يحمل تنبيها جديدا لمن ألقى سمعه وبصره. على أنه ليس المدعى أن كل أحد لا بد له أن يسأل نفسه عن منشأ هذه الظواهر ومغزاها؟ ولكن المدعى أن كل من ألقى هذا السؤال عن نفسه وتنبه إلى هذه الآثار رأى فيها آية عجيبة، وأحس أمامها بروعة وخشوع.
والقول بأن «البدائيين» قاصرون عن هذا الإدراك - لأنهم يزعمون لأنفسهم القدرة على تسخير عناصر الطبيعة لأهوائهم - قول مناقض للواقع إذا أخذ على عمومه في كل الأفراد والأحوال؛ فجمهور العامة أضعف من أن يظنوا ذلك بأنفسهم، والأفذاذ الذين يزاولون بعض وسائل السحر أو الكيمياء إذا ظفروا بتسخير شيء من القوى الدنيا لم يمنع ذلك خضوعهم واستسلامهم للقوانين العليا التي لا تمتد إليها يد مخلوق، فالله يأتي بالشمس من المشرق، فمن يأتي بها من المغرب؟ وكل نفس ذائقة الموت، فهل يستطيع بشر أن يكتب لنفسه الخلود؟ وهل يتهيأ لأحد أن يفارق ظله، أو أن يسترجع ماضيه؟ أو أن يصنع ولده كما يشاء خلقا وخلقا؟ بل أن يخلق حشرة أو ذبابة؟
ولقد أسلفنا أن فكرة السحر مباينة تماما لفكرة التدين في طبيعتها وفي موضوعها، فالشعور بالسلطان والقوة على تسخير الطبائع يمكن أن يكون شعورا كيميائيا أو ساحرا، ولا يمكن أن يكون شعور عابد لها؛ لأن الإنسان لا يعبد شيئا مسخرا له حين يسخره، ولا يسخر شيئا يزعم أنه يعبده حين يعبده.
والقول المأثور: «إن قوة الإيمان تزحزح الجبال» لا يمكن أن يكون معناه أن الإيمان مبعثه القوة؛ فإن فرقا شاسعا بين أن يكون الإيمان باعثا للقوة، وبين أن تكون القوة هي التي تبعثه، والالتباس بين الأمرين قلب واضح للأوضاع؛ إذ يصور الآثار بصورة أسبابها ، ويضع النتائج موضع مقدماتها، وهكذا لا يلد التسرع والإكثار إلا أقوالا ينقصها التحري والدقة في التعبير.
ثم ما هذه القوة التي يبعثها الإيمان؟ أليست هي قوة الثقة والطمأنينة التي تجيء تعويضا وعلاجا لما نشعر به بادئ ذي بدء من الضعف والحيرة الأصيلين في طبيعة الإنسان، واللذين هما مبعث الإيمان؟ ثم من أين تستمد تلك القوة الجديدة المكتسبة من الإيمان؟ أليس منبعها الاعتماد على القوة الروحية العليا التي يلجأ إليها المؤمن؟ فهي إذن ليست قوته الذاتية البشرية، وأخيرا ليس لنا أن نخلط بين قوة الفهم والتأمل في الكون، وبين القدرة على تصريف الكون، فإن أقوى الناس فهما، وأوسعهم علما بحقائق الكون هم أشدهم إحساسا بضعف الإنسان وضآلته في جنب هذا الصرح العالمي، وبخضوعه وتبعيته للقوانين العليا التي لا بد له في تغييرها، وهذا الإحساس هو مبدأ الإيمان ومبعث التأليه والعبادة.
وهنا نسأل عن مغزى هذه السلسلة المتلاحقة من الحركات النفسية، التي تنتقل من النظر والتأمل، إلى الاستعظام والإكبار، إلى التوجه والمناجاة؛ هل يجب أن يكون لها هدف وراء ذلك؟ ألست إذا وقفت أمام أثر فني بارع، فملأ صدرك، واستبد بإعجابك، تجد في نفسك باعثة قوية للتعبير لصاحب هذا الأثر عن شعور الإكبار لصنعته، والاعتراف بعظمته، كأن هذا دين في عنقك تؤديه، لا تبغي منه جزاء، ولا تقضي به وطرا، غير الترجمة عن صدق شعورك وتقديرك لهذه الآية القيمة؟ فما ظنك بأعظم الآثار وأبهرها؟ ألا يستحثك على التوجه لصانعه بهذا التعظيم البليغ، تسبيحا بحمده، وتقديسا لجلاله، بغير غرض ولا عوض؟ فإذا شعرت بأنك أنت نفسك جزء من هذا الأثر العظيم، وأنك مدين بوجودك وفهمك وقوتك لهذا الصانع، الذي خلقك وصورك، وشق سمعك وبصرك، ومنحك العقل والبيان، ومكنك من الانتفاع بما في السماء والأرض، ألست تقبل عليه بقلبك وجوارحك مقيدا بقيود إحسانه إليك، معترفا بعبوديتك له؟ فهذه كلها غايات نبيلة تؤديها الأديان، ولم تفشل فيها يوما من الأيام.
ومن ذا الذي قال: إن الخشوع أمام روعة الكون، والاتجاه بالتعظيم لصانعه، وهو تلك الانبعاثة الكريمة التي تعطى ولا تطلب، يمكن أن يفسر بذلك الشعور الضارع، شعور الالتجاء لتحقيق مطلب من مطالب الحياة، أو استدفاع ضرر من أضرارها؟
لقد خلط الناقد هنا خلطا واضحا بين نظريتين منفصلتين: نظرية الإعجاب التي نحن بصددها، ونظرية الرغبة والرهبة التي سنعرضها في الشعبة الثانية من المذاهب الطبيعية، فاعترض على إحداهما بالنتائج المترتبة على الأخرى.
على أنه في الحالة التي يكون فيها الباعث على العبادة هو الشعور بتلك الحاجة، والتي يتحول فيها معنى العبادة من التسبيح والتقديس إلى التماس الحماية - نقول إنه حتى في هذه الحالة - لا يجعل العابد من عبادته وسيلة يقينية للحصول على مأربه، كأنها عملية حسابية، أو قياس منطقي، أو تجربة مفروغ منها لا بد أن تؤتي ثمرتها؛ لأن التدين ينطوي دائما على اعتقاد أن القوة المتوجه إليها لا تصدر في تصرفاتها إلا عن مشيئتها المستقلة؛ ولذلك نلاحظ في توجهاته شعورا مزدوجا، هو مزيج من الاستسلام والرضى بما يقع، ومن الأمل والرجاء فيما يتوقع.
وإذا كان اللاعب المغامر لا يعد نفسه فاشلا لمجرد تكرر خسارته، ولا ييأس من مؤاتاة الحظ له بالربح في فرصة قريبة أو بعيدة، فالمؤمن أحق بتنحية عوامل اليأس من حسابه، وإرخاء حبل الأمل لنفسه إلى آماد بعيدة في حياته أو بعد مماته، بل المؤمن الصادق حين يلتجئ إلى ربه، ويناجيه برغائبه ومخاوفه، يجد في هذه التوسلات والدعوات نفسها شفاء وراحة هو عليهما أشد حرصا منه على موضوع شكواه، وحسبه أنه في هذه الانبعاثة يعبر تعبيرا واعيا صادقا، بأقواله وأفعاله وأحواله، عن مبلغ إدراكه للحقائق، ومدى شعوره بالتفاوت بين ضعف المخلوق وقوة الخالق، وأنه بذلك الإدراك وهذا التعبير يحقق المهمة العليا للإنسان في هذه الحياة، فسواء عليه بعد ذلك أن تصادف دعوته قبولا أو ردا، فقد أصاب من قبل حاجته الكبرى بهذا الخضوع الذي هضم به كبرياء نفسه، ووضع به كل شيء في موضعه، وبهذه العبودية التي أتم بها تصفية روحه وإنضاج فطرته، وتلك هي قرة عين المؤمنين، والهدف الأسمى للمتعبدين.
بقي الاعتراض بأنه لو كان منشأ الدين هو النظر إلى جمال الطبيعة وجلالها، لكان يجب أن يوجه التقديس أول كل شيء إلى القوى الكونية العظمى: إلى الشمس، والقمر، والبحر، والجبال، والرياح، وأشباه ذلك؛ لا إلى محقرات الأمور من أنواع النبات والحيوان، والمفروض أن عبادة هذه أقدم من تلك فيما يزعم المعترض.
لقد أشرنا من قبل إلى أن البحوث التاريخية والتنقيبات الأثرية في هذه المسألة قد أدت إلى نتائج متعارضة، لا يمكن الركون إلى واحدة منها بصفة نهائية، وأن المرحلة التي ظن هذا المعترض أنها أقدم ما يمكن الوصول إليه قد جاوزها كثير من الباحثين، واكتشف وراءها ظاهرة أسبق من كلتيهما، تكون ذات صبغة دينية مختلفة عنهما. أصبح الاعتماد على التاريخ والآثار هنا اعتمادا على جرف هار، عرضة للتغيير والتبديل دائما، كلما ظهر اكتشاف جديد، كما بينا أن حجج القائلين بأسبقية العقائد السليمة وأقدمية عبادة الخالق الأكبر، وإن كانت لا تصل إلى درجة اليقين العلمي الاستقرائي إلا أنها من الوجهة النظرية أقوى من مقابلتها.
فإن كنت لا تزال على ذكر مما سبق في تحديد معنى الدين، فسوف تأخذ على صيغة الاعتراض شيئا آخر وهو إسنادها العبادة إلى الطبيعيات نفسها إسنادا فيه كثير من التجوز؛ فقد قرر مؤرخو الأديان أن الماديات والحسيات، علوية كانت أو سفلية، لم تكن يوما ما هي المقصودة بالعبادة الحقيقية، وإنما كان تقديسها بطريق التبع والمجاورة: إما لأنها تعد مهبطا ومزارا لقوى خفية علوية، وإما لأنها تعتبر رمزا لتلك القوى، أو تصويرا مجسما لصفاتها وأفعالها.
والعجب أن صاحب النقد نفسه قرر هذا المعنى في غير موضع من كتابه، فوقوف العابد أمام هذه المواد هو أشبه شيء بوقوف العشاق على ديار الأحبة أو على أطلالها ورسومها، لا شغفا بالمكان، ولكن شوقا إلى السكان، وفي وسعنا أن نقول: إن الالتفات إلى أنواع من المخلوقات الصغيرة، باعتبارها مظهرا أو رمزا لهذه القوة العلوية، يتضمن الشعور بأثر تلك القوة في الجلائل بالأحرى، بل المعقول أن الاعتبار بالدقائق لا يظهر إلا في طور عقلي متأخر عن طور الالتفات إلى العظائم الكونية التي «يحس بها كل ذي عينين»، وهو على كل حال دليل على عمق في التأمل، ودقة في الفهم لما في أجزاء الكون المختلفة من شأن عجيب وآيات باهرة «وفي كل شيء له آية».
أما التفرقة بين «المقدس» و«غير المقدس» فإنها، في هذه النظرية، ترجع إلى التفرقة بين «الإلهي» و«الإنساني»، أو بين العظيم الفائق العجيب، وبين العادي المبتذل المطروح؛ ذلك أنه ليس كل ما تقع عليه الحواس سواء في استدعاء الانتباه، واستيقاف النظر، وإيحاء العبرة، واختلاب الألباب، وليس كل الذي تراه أنت بارعا باهرا أراه أنا كذلك، فقد تمر بزهرة أو حشرة، فترى فيها ما يستوقف نظرك، ويأسر قلبك؛ بينما غيرك لا يأبه لها، ولا يستوحي منها أدنى عظة روحية.
وهكذا تنقسم الكائنات في نظر الناس - خاصتهم وعامتهم - إلى ما هو عادي لا يؤبه له، وما هو جليل يذكر بالمعاني الإلهية، ويوحي فكرة «التقديس»، أعني: أنه يبعث في النفس أبلغ معاني الخضوع وأعمق آيات التعظيم
5
لا لهذه الكائنات أنفسها، ولكن لبارئها ومصورها. (1-2) الطبيعة الشاذة العنيفة
يرى العالم الإنجليزي جيفونس
Jevons
أن النظر في مشاهد الطبيعة كان - على الجملة - هو منشأ العقيدة الإلهية، ولكنه يقرر في كتابه «المدخل إلى تاريخ الديانات»
Introduction to the History of Religion
أن الظواهر العادية لا تكفي في إيقاظ هذه الفكرة؛ لأنها لتكرر عرضها على الحواس تألفها النفس، فلا تحتاج إلى التماس تفسيرها، أما الحوادث الأرضية المفاجئة، والعوارض السماوية النادرة، التي يضطرب بها النظام العادي، كالبرق، والرعد، والعواصف، والصواعق، والخسوف، الطوفان، والزلازل، فإن تأثيرها على المشاعر كتأثير دق الجرس، في تنبيه الغافل وإيقاظ الوسنان؛ ذلك أن قد ارتكز في الغرائز البشرية - والحيوانية أيضا - استحالة أن يحدث شيء من لا شيء «حتى إن الطيور والدواب لتفزع عند سماع صوت مزعج، وتلتفت إلى جهة الصوت شعورا بأن له فاعلا»، فكان من الطبيعي أن هذه الحوادث الفجائية الرهيبة تزعج من يشهدها، وتحفزه إلى السؤال عن مصدرها، وإذ كان لا يرى لها سببا ظاهرا ، اضطر عقليا أن ينسبها إلى سبب خفي ذي قوة هائلة؛ إذ لا مخرج للعقل من هذه القسمة الثنائية.
على أن جيفونس لا يرى مانعا من أن يكون التأمل في الحوادث العادية والسنن الكونية المستمرة، باعثا أيضا لهذا الشعور؛ ولكنه يرى أن ذلك لا يكون إلا بنظرة ثانية، عند هدوء البال، ونضج الفكر، وانزياح أسباب السهو والغفلة، وعلى هذا يكون شعور الرهبة والخشية أسبق أثرا في التدين من شعور الإعجاب.
لا حاجة بنا إلى التذكير بأن أكثر الأسئلة التي أثيرت بصدد التفسير الأول والأجوبة التي قدمت لحلها، يمكن أن تسري على هذا التفسير؛ لأنهما فصيلتان من نوع واحد.
غير أن هذا التفسير - وقد تفادى من الاعتراض الأول الذي وجه إلى تفسير «ميلر» - قد تعرض لنقد وجيه، أشار إليه ساباتييه؛
6
وهو أن شعور الرهبة والخوف من القوى العلوية لا يكفي وحده لتفسير الفكرة الدينية، ولا بد له من شعور آخر يوازنه ويلطف من حدته؛ ذلك أن الخوف إذا استأثر بالنفس سحق الإرادة، وشل الحركة، وولد اليأس، ومن وقع فريسة للرعب إن لم يتصور إمكان الخلاص لم يفكر في البحث عن عون ينقذه من الخطر الذي وقع فيه، فلا بد لتحقيق الشعور الديني من مقاومة الخوف والرهبة بما يعادلهما من الأمل والرجاء، اللذين يبعثان على الدعاء والتضرع، وهذه هي حقيقة التدين. (2) المذاهب الروحية (المشهورة باسم الحيوية
Animism )
رأينا في التفسيرات السابقة كيف تتولد العقيدة الإلهية عن النظر في صحيفة الكون المادي؛ ولذلك اشتهرت تسمية هذه التفاسير بالمذهب الطبيعي، حتى نسب إليها القول بأن العبادة الأولى كانت عبادة الطبيعة.
والآن نأخذ في بيان النظرية المقابلة لها، وهي النظرية التي اشتهرت تسميتها باسم المذهب الحيوي
Animism ، ونسب إليها أن الأصل كان عبادة أرواح الموتى.
لا ريب عندنا في أن وضع المذاهب على هذا النحو من التقابل بين المادة والروح، فيه شيء كثير من اللبس بين منشأ الفكرة، وموضوع العبادة؛ فقد قلنا غير مرة: إن العبادة توجه دائما إلى مبدأ روحي غير مادي؛ وها قد رأينا آنفا رئيس المذهب الطبيعي «ماكس ميلر» يصرح بأن النظرة في عجائب الأفلاك والعناصر، لا تلبث أن تنتقل من قواها الطبيعية إلى قوى روحية ذات شخصية إرادية، وأنه لولا هذه النقلة ما كان لها أن تدخل في موضوع الأديان.
فالواقع أنه لا اختلاف في هذا القدر بين مختلف التفاسير؛ وإنما الخلاف في نقطة الابتداء وطريقة الانتقال: فبينما يرى المذهب الطبيعي أن هذه القوة أو القوى الروحية المسيطرة على العالم، إنما جاء الاعتقاد بها من طريق الحدس أو التأمل في عالم المادة - استرشادا بعظمة الصنعة ومعقوليتها، على مهارة صانعها وعاقليته، كما يستدل على وجود قوة عاقلة في الإنسان بمشاهدة آثارها المنظمة في الأقوال والأفعال، من غير أن يبصر أحد تلك القوة أو يلمسها - يرى المذهب المقابل له أن الاعتقاد في تلك الروح أو الأرواح الفعالة يستند إلى تجارب مباشرة في البيئة الإنسانية، فالنتيجة على التفسيرين واحدة، ولكن التجانس بين المقدمات والنتائح في هذا التفسير أشد منه في المذهب الطبيعي، فهناك الانتقال من مادة إلى روح، وهنا من روح إلى روح.
هذه النظرية الروحية قررها تيلور
Tylor
في كتاب «المدنية البدائية»
La Civilisation Primitive ، وتابعه عليها - مع تعديل يسير - الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر
Herbert Spenser
في كتاب «مبادئ علم الاجتماع»
Sociologie .
ولا بد لنا - قبل كل شيء - من إزالة اللبس الذي يسهل الوقوع فيه هنا من جراء الاشتراك اللفظي لهذه الكلمة، نعم، لا بد لنا من تفسير كلمة «روح» التي يرى المذهب الحيوي أن التجارب في شأنها كافية لإيقاظ الاعتقاد بروح علوية جديرة بالعبادة، كما يجمل بنا بعد ذلك أن نسلك في تقرير النظرية منهجا مستقلا ينفذ إلى لبها وجوهرها، قبل الإشارة إلى عناصرها الإضافية القابلة للمناقشة.
ليس المقصود بالروح هنا - حسبما يوحي به التعبير غير الموفق باسم المذهب الحيوي - مبدأ الحياة الحيوانية، أعني: تلك القوة التي تقوم عليها وظائف النمو، والتنفس، والحس، والحركة. بل المقصود نوع آخر أسمى من ذلك، هو مبدأ حياة التفكير، والإرادة المنظمة، والعاطفة، والضمير. وبالجملة: مبدأ الحياة العاقلة الرفيعة.
كل أحد يستطيع أن يميز بين هذين النوعين ، ويدرك أن هذه الروح، التي هي خاصة الإنسانية، ذو كيان مستقل عن تلك الروح المشتركة بين الإنسان والحيوان، فنحن نرى النائم والمغمى عليه والمصروع يتنفسون ويتغذون ويمشون؛ فهم أحياء بالحياة الحيوانية ليس غير، حتى تعود إليهم تلك القوة الخاصة فيعود إليهم شعورهم المنظم وتفكيرهم المستقيم.
هذه التجربة تجربة صحيحة؛ والفكرة التي استنبطت منها، وهي: التمييز بين القوتين، فكرة سليمة، لا يزال العلم يقررها حتى يومنا هذا.
ولكن الفكر، إذا أرسل على سجيته لا يقف عند هذا الحد في الاستنتاج، بل إنه يصعد من التفرقة العملية بين الوظيفتين، إلى التفرقة الذاتية بين القوتين؛ فيجعل منهما مبدأين منفصلين، وجوهرين مستقلين ... حتى إذا ما تقرر عنده هذا الطابع الاستقلالي انتقل به خطوة أخرى؛ ذلك أنه متى اقتنع بأن الروح العاقلة، حين تغيب عن بدنها بالنوم لم تصبح عدما محضا؛ أخذ يتساءل: لم لا يكون الأمر كذلك في انفصالها بالموت؟ نعم، إن تناوب الحياة والموت على الشخص الواحد لم يتحقق في التجارب العادية كتبادل اليقظة والنوم عليه، ولكن الحكم بعودة الروح إلى البدن بالفعل أو عدم عودتها إليه، شيء، والحكم بأنها بانفصالها قد أصبحت عدما صرفا شيء آخر لم يقم عليه دليل، بل تأباه الطباع السليمة، وتقاومه غريزة الحياة النفسية الموصولة من أحد طرفيها بماض لا تطيق تناسيه، وتحرص على استبقاء ذكرياته، ومن الطرف الآخر بمستقبل تنتظر فيه عودة الغائب وإن بعدت غيبته، ووجدان المفقود ولو طال فراقه، بل نقول: إن هذا الحكم تأباه العادة العقلية التي تستمد أحكامها من تجارب الواقع وسننه المستمرة.
فكما أنه ليس من المألوف أن شيئا يصبح لا شيء، وكل ما يتصوره العقل في فقد الأشياء إنما هو تغير صورها، وتبدل في أوضاعها الزمانية والمكانية. فالتصور الطبيعي لظاهرة الموت أنها انفصال لعنصري المادة والروح، يرجع به كل منهما إلى طبيعته وبيئته، فتعود المادة إلى عالمها، وتأخذ الروح صورة أخرى من صور الوجود الغيبي، وهكذا ينشأ الاعتقاد بوجود أرواح مستقلة عن الأبدان.
وهنا تجيء الحلقة الرابعة والأخيرة في هذه السلسلة المتصلة، بل في هذه الدوائر المتداخلة، من التفكير الطبيعي؛ ذلك أن انتقال العنصر الروحي من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ليس من شأنه حتما أن يضعف سلطانه، بل من المعقول أنه قد يزيده قوة؛ لأن الروح في عهد اتصالها بجسم معين تظل شبه أسيرة لهذا الهيكل، مشغولة بتدبيره، وليس لها سلطان مباشر على غيره من الكائنات؛ ولذلك ليس من حقها في هذه الحال أن تسمى روحا مسيطرة
esprit ، وإنما هي نفس مسخرة
ame ، فإذا ما قدر لها أن تنفصل عن ذلك الجسم بالنوم أو بالموت أو بسبب آخر، أصبحت جديرة باسم «الروح»، وأضحت أوسع مجالا، وأملك لحرية العمل في الميدان الذي تختاره: إن نفعا وإن ضرا، من حيث لا يشعر بها أحد.
ولا تحسبن هذه النقلة الأخيرة ضربا من النزوات الخيالية، أو التجريدات العقلية، المعتمدة على محض التشهي أو الفروض الممكنة؛ فالواقع أن الفكر قد يلجأ إليها إلجاء لتفسير ظواهر معينة لا يجد لها تفسيرا آخر؛ ذلك أنه كثيرا ما يحدث في ميدان النشاط الإنساني حوادث عجيبة، تخرج خروجا بينا - علوا أو انحطاطا - عن المستوى المألوف للناس، أو المألوف للشخص نفسه في مجرى حياته العادية. بل لا يكاد يخلو عصر من العصور من وجود هذه الشواذ التي لا يعرف لها سبب ظاهر، فتنسب إلى سبب من تلك الأسباب المعنوية السرية. فالعراف الماهر، والشاعر الملهم، والخطيب المفوه، والبطل الموقى، والصائد الذي لا يخطئ سهمه، والحاسب السريع الحساب، السديد الجواب، من غير استعانة بقرطاس ولا قلم، في أطول المسائل وأشدها تعقيدا، و«الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع»؛ كل أولئك ينسب نجاحهم وعبقريتهم إلى أنهم قد أمدوا بروح خيرة ذات قوة خارقة، وبعكس ذلك يقال فيمن يصاب بالصرع أو الجنون، وفيمن يولعون بالرذائل المبكرة، أو الجرائم الشاذة المنكرة: إنهم قد مستهم روح خبيثة شريرة.
أضف إلى هذا كله ضروبا من التجارب الجزئية في الرؤيا الصادقة، والفراسة السديدة، والإلهام الكاشف، والعلم بالحوادث البعيدة ساعة وقوعها، ورؤية الأشباح، وسماع الأصوات، إلى غير ذلك من الظواهر التي لا يستقيم تفسيرها بسبب من الأسباب المادية.
وليس يعنينا أن تكون كل هذه الملاحظات والتجارب والاستنباطات سليمة مستقيمة؛ ولكنها - في جملتها - يظاهر بعضها بعضا على تكوين الاعتقاد في أمرين: (1)
أن في الوجود كائنات عاقلة لا يقع عليها الحس؛ سواء أكانت في الأصل أرواحا إنسانية انتقلت عن أبدانها، أم كانت منذ بدايتها أرواحا مستقلة كالجن والملائكة، أم كانت روحا أعلى من ذلك وأسمى. (2)
أن هذه الكائنات الغيبية، المزودة بتلك القوة الخارقة، قد تتصل بعالم النفس أو عالم الحس من الحياة الإنسانية وتترك فيه أثرا من آثارها العجيبة.
7
هكذا تنشأ عقيدة التأليه من أقرب المقدمات وأيسرها:
فذلك الكائن الغيبي، الذي كانت المذاهب الكونية تستنتجه استنتاجا من مطالعة الآثار العظمى في عالم المادة، أصبحت تشتق صفاته من جنس عمله نفسه، ومن نوع التجارب التي دلت عليه، فهو لا ريب روح عظيم، ذلك الذي يصنع الأسرار والعجائب الروحية؛ وهو لا شك عقل خلاق، ذلك الذي يمد العقول بمزيد من النور أو يكف عن إمدادها.
سيقول قائل: لكن أليس تنوع هذه الآثار العجيبة آية على اختلاف مصدرها، كما أن تعدد الأنهار دليل على اختلاف منابعها؟ وإذا لم يكن في الغيب كائن فعال واحد، بل كائنات كثيرة، فهل كلها استوجب التأليه والعبادة؟
الجواب: أن ذلك يختلف باختلاف دقة الأفهام وغلظها:
فأما الأنظار القصيرة، التي لا ترى أبعد من أنفها، فإنها تحد آلهتها وتعدهم بحدود الحوادث الفردية أو النوعية وأعدادها، فروح هذا الولي أو القديس الذي استجيب عنده الدعاء، وفاضت من حوله البركات، إله، وقرين ذلك الكاهن أو العراف الذي صدقت نبوءته أو فراسته، إله، والروح الذي هبط على الشاعر المفحم فحل عقدة لسانه، إله، والملك الذي أوحى إلى صاحبه ما أوحى، إله ...
وهكذا يقف الغافلون شاخصة أبصارهم في مواجهة كل أثر روحي عجيب ثم يخرون سجدا أمام مصدره المباشر، أو روحه الخاص الموكل به، كأنما هو المنبع الحقيقي للقوة، وقلما يتحررون من ربقة هذه الأسباب القريبة المحدودة المجال، الخاضعة لعوامل الحدوث والفناء وتقلبات الظهور والاختفاء، للتفكر في الكائن الغيبي الأعظم، الأزلي الأبدي، الذي بيده مقاليد الأرواح والأشباح على السواء، فمثلهم كمثل الذي يرى تفرق منابع الأنهار في الأرض، ولا يذكر أن مردها جميعا إلى أصل واحد، هو الماء الذي أنزله الله من السماء فسلكه ينابيع.
وأما العقول النافذة في بواطن الأمور، الممتدة إلى منابتها، فإنها لا تركن لحظة واحدة إلى هذه الظلال المتقلصة، والسحب المتقشعة، ولا تلهيها حركات هذه الجنود المنتشرة في السماوات والأرض عن التوجه إلى قيادتها العليا، إلى رب الأرباب، ومسبب الأسباب، الذي لا تخلو وثنية من الوثنيات عن الاعتراف به، وإن كانوا لا يذكرونه إلا قليلا.
والآن نرسم لك بإيجاز الطريق الذي سلكه «تيلور» وأتباعه في بيان تولد العقيدة الإلهية عن التجربة الروحية:
فقد ذهبوا إلى أن هذه العقيدة تمت على مرحلتين: «الأولى» الاعتقاد في بقاء أرواح الموتى، «والثانية» الاعتقاد بوجود أرواح للأفلاك والعناصر.
واتفقوا على تفسير المرحلة الأولى بأن فكرة الروح فيها تعتمد في جوهرها على تجربة «الأحلام» وعلى التفسير البدائي لهذه التجربة، وخلاصته أن الحلم عند «البدائيين» انتقال حقيقي لروح الشخص المرئي؛ أي: لجسم شفاف على صورته، هو أشبه بظل أو مثال له، ينبثق منه ويجيء إلى الرائي في المنام فيراه رؤية حقيقية على شكل طيف، كما ترى صورة الشخص في المرآة، وإذ كانت الرؤيا المنامية تتعلق بالأموات كما تتعلق بالأحياء، بمعنى أن أرواحهم - أي مثلهم - تجيء إلى الرائي في المنام كما تجيء أرواح الأحياء، دل ذلك على بقاء أرواح الموتى، واستمرار اتصالها بالأحياء، وتمكنها من نفعهم وضرهم، فاقتضى الأمر التقرب إليها لتجنب أذاها واستدرار عطفها.
أما المرحلة الثانية، وهي عبادة أرواح الكواكب والعناصر الطبيعية، فلهم في تفسيرها مذهبان: فأما «تيلور» مؤسس النظرية فيرى أن العقلية البدائية فيها من سذاجة الطفولة ما يقصر بها عن التمييز بين الجماد والحيوان، ويجعلها تعامل كلا منهما معاملة الكائنات الحية، كما يداعب الطفل دميته ويناجيها كأن فيها روحا.
وأما «سبنسر» فإنه يرفض هذا التفسير بحجة أنه لا ينطبق على نفسية الطفل ، ولا على نفسية الحيوان، فضلا عن العقلية «البدائية»، ويرجح أن عبادة الطبيعيات ليست نتيجة التباس عقلي كما زعم تيلور، بل وليدة التباس لغوي في أسماء الأسلاف المقدسين؛ ذلك أن هؤلاء الأسلاف كانوا يسمون أحيانا بأسماء مواد طبيعية، فكان بعضهم - مثلا - يسمى «نجما»، والآخر «نمرا»، والثالث «حجرا»، فانتقل التقديس من أصحاب تلك الأسماء إلى الأشياء المسماة بتلك الأسماء نفسها، خلطا بين الاسم المنقول لمجرد التمييز، والاسم الدال على أصل معناه.
وهذا التفسير - كما ترى - ليس خيرا من سابقه، فكلاهما يجعل العبادة في هذه المرحلة مبنية على اعتقاد حيوية الأفلاك، وكلاهما يجعل هذا الاعتقاد قائما على وهم أو لبس، وكلاهما يجعل العبادة موجهة إلى النفوس المتصلة بالكواكب، لا إلى روح مفارقة مهيمنة عليها.
كما أن عبادة الأسلاف، في التفسير المتفق عليه بينهما، مبنية في جوهرها على نوع واحد من التجارب، وهو تجربة «الحلم»، وعلى تفسير خرافي لتلك التجربة. وهكذا تصبح المذاهب الروحية في تقريرهما معلقة على خيط أوهن من خيط العنكبوت.
ولقد وجه «دوركايم» كل قوته الجدلية لمهاجمة هذه النقطة الضعيفة في النظرية، مبينا أن البدائيين ليسوا في حاجة إلى تفسير ظاهرة الأحلام، وأنهم إن احتاجوا إلى تفسيرها فليس الطريق الذي وصفته النظرية متعينا ... إلخ. ونحن نحتفظ من بين هذه الوجوه بوجه واحد نحرص على تقريره وتأييده، لا لصحته وصلته بجوهر الموضوع فحسب، ولكن لأنه في الوقت نفسه يحدد فكرة «عبادة الأسلاف» تحديدا معقولا، ويبرز أسبابها الحقيقية؛ ذلك أن تجربة الحلم إن سلم أنها تكفي للاعتقاد بالروح فإنها لا تكفي بمجردها لتعليل الاعتقاد بألوهية مصدرها؛ فإن من الرؤى ما هو هذيان وأضغاث أحلام، ومنها ما هو مجرد ذكريات ماضية عادية، وليس شيء من ذلك يثير عقيدة التأليه، وإنما يثيرها نوع خاص، وهو الرؤى التي يتجلى فيها معنى الوحي والإلهام بحوادث غير متوقعة، أو بحقائق لا تدرك بنور العقل البشري العادي.
ومن جهة أخرى فإنه لا يعرف في أمة من الأمم أن احترامها للموتى أو الأسلاف وصل بها إلى عبادة جميع الموتى أو جميع الأسلاف؛ وإنما الذي كان موضعا لهذا التقديس من بينهم من كان قد عرف في حياته بقوة خارقة ممتازة تركت أثرا باقيا في الطبيعة أو في المجتمع. فليس الموت إذن شرطا ولا سببا في هذا التقديس، وإنما معيار التقديس هو تلك القوة السرية الخارقة، أو تلك الجوهرة الإلهية التي تتجلى آثارها في الحوادث الإنسانية العظيمة.
أما سائر الوجوه التي أتعب الناقد فيها نفسه، وظن أنه قد نقض بها التفسير الروحي من قواعده، فإنها مناقشات شكلية لم تمس إلا الصورة البدائية التي وصفتها النظرية وطبعتها بطابع الخرافة؛ وما زال جوهر التفسير الروحي سليما لا غبار عليه ولم تنل منه هذه المجادلات شيئا.
والواقع أن عالم العجائب الروحية ليس بأقل من عالم العجائب الطبيعية إيحاء لفكرة الألوهية؛ بل هو أمس بها رحما، وقد أسلفنا أن فكرة الروح في ذاتها ليست قاصرة على الأمم الهمجية، بل هي أوسع ميدانا، وأقدم تاريخا، وأقوى بنيانا من تلك الصورة البدائية، وقد اعترف الناقد بأنه «كما لا تخلو أمة من ديانة، كذلك لا تخلو من فكرة عن القوة الروحية.»
8 (3) المذاهب النفسية
هذه فصيلة أخرى من النظريات، تتلخص فكرتها العامة في أنه لأجل الوصول إلى العقيدة الإلهية لم يكن بالناس حاجة إلى التأمل في الطبيعة وجمالها، ولا في التقلبات الكونية وأهوالها، ولا إلى التجارب العجيبة في عالم الأرواح وأسرارها؛ بل إن تجارب الإنسان النفسية، في حياته العادية المألوفة له في كل يوم، كانت كافية لتوجيه نظره بقوة إلى تلك الحقيقة العليا. (3-1) نظرية ساباتييه
حاول «أوجيست ساباتييه»
Auguste Sabatier
في الفصل الأول من بحثه عن فلسفة الدين
Esquisse d’une philosophie de la Religion
أن يؤسس العقيدة الإلهية على بعض الملاحظات النفسية، فقال: «إن هذه العقيدة تتولد في الإنسان منذ نشأته على أثر شعوره بمناقضة جوهرية بين حساسيته وإرادته، وهما القوتان اللتان تتألف منهما حياة النفس في أيسر مظاهرها.»
وفي الحق أن حياتنا النفسية قائمة في جوهرها على حركتين متعاكستين: إحداهما تتجه من الخارج إلى الداخل (من المحيط إلى المركز)، والأخرى من الداخل إلى الخارج (من المركز إلى المحيط)، فالحركة الأولى تمثل تأثير الأشياء على النفس بواسطة الإحساس (وتلك هي حال انفعال النفس وقابليتها)، والحركة الثانية تمثل مجاوبة النفس على الأشياء بتوسط الإرادة (وهذه هي حالة تأثير النفس وفاعليتها).
بيد أن هاتين الحركتين لا تنطبقان تمام الانطباق، وليس بينهما كمال تناسق وتجاوب؛ ذلك أن الحساسية تسحق الإرادة وتكبتها، فكلما اندفعت موجة الحركة الإرادية من داخل النفس، وارتطمت على صخرة الأشياء الخارجية فانكسرت عليها، رجعت كئيبة مبتئسة، وهذه الصدمات المتوالية، وتلك المنازعات المستمرة، بين النفس وبين العالم الخارجي، هما السبب الأول لكل أنواع الآلام، ولكنها في الوقت نفسه هي منبع النور ومصدر الشعور؛ ذلك أن ارتداد الموجة إلى مركزها يولد في هذا المركز حرارة تشبه الحرارة الناشئة من حركة العجلة على محورها، ثم لا تلبث هذه الحرارة أن تبعث شرارة ضوئية تضيء جوانب الوجدان، وذلك هو الوعي وتنبه البصيرة، والذي تصبح به النفس مدركة مدركة، وحاكمة محكومة معا، كأنها كائن مزدوج، أحد شقيه هذه النفس المثالية والآخر تلك النفس المكبوتة الواقعية.
هكذا ولدت الحياة النفسية بين وخزات الألم والإخفاق، أليست كل ولادة تصحبها الآلام والدموع؟
قال: ولو أننا تابعنا هذه الملاحظة في سائر الحالات النفسية، لرأيناها كلها كما تولد من مناقضة تفنى في مناقضة أخرى؛ فرغبة العلم تنتهي بالاعتراف بالجهل؛ ورغبة الاستمتاع تنتهي بالتقزز، كأنها تحمل في نفسها جرثومة فنائها؛ والإسراف في الحرص على السعادة يذهب براحة الطمأنينة والرضى، ويزيد الألم شدة.
فأين المفر؟
إن من الخطأ أن يعتمد الناس على تقدم العلوم الطبيعية في إنقاذهم من هذا البؤس والحرمان، فإن العلم بدلا من أن يلطف من هذه المناقضة العتيدة، يزيد في حدتها، ويشحذ سلاحها الفتاك؛ ذلك أن كل اكتشاف علمي يضم حلقة جديدة إلى سلسلة الأسباب الضرورية، التي لا بد منها في نظام الأشياء واتساقها وثباتها، فيزيد بذلك قيدا في حريتنا، وغلا في أعناقنا، ولا نزال نتقدم في هذه السبيل، حتى نصل إلى المناقضة العامة بين العلم والعمل، بين التفكير والحركة، بين قوانين الطبيعة وقوانين الأخلاق، وهكذا نقيم حربا داخلية بين ملكات النفس، وننتهي إلى شعور اليأس من قيمة الحياة.
ومن هذه الأزمة الداخلية ينشأ التدين، كأن هذه الأزمة تفتح في صخرة الطبيعة شقا يتفجر منه ماء الحياة، لا على معنى أن الدين يقدم لنا حلا نظريا لهذه المشكلة؛ لأن الحل الذي يقدمه لنا التدين هو في الحقيقة عملي محض، فهو لا يفتح لنا بابا جديدا من المعرفة، بل يعود بنا عمليا إلى المبدأ الذي اقتبسنا منه وجودنا، ويمنحنا شعور الثقة والإيمان بمبدأ الحياة وبنهايتها.
إن منزلة هذه الثقة من عالم النفس كمنزلة غريزة البقاء من عالم الطبيعة المادية، ولكنها صورة أسمى من تلك؛ فإنها في عالم المادة تسير بقوة قاهرة عمياء، أما في عالم النفس فإنها تستضيء بنور الشعور والإرادة المفكرة، ومن جهة أخرى فإنها تستند إلى حقائق واقعية، وتقوم على شعور ملازم لكل فطرة إنسانية، وهو شعور التبعية المطلقة لقانون الوجود العام.
أجل! من ذا الذي يستطيع أن يبعد عن نفسه هذا الشعور؟ أليس حظنا من القدر قد رسم دون استشارتنا، فقضى علينا أن يكون وجودنا في زمان ومكان معينين، وترك لنا ميراثا من الملكات والطبائع لم يكن لنا فيه شيء من الاختيار؟ بل إننا لا نجد في أنفسنا ولا في أية مجموعة أخرى من الكائنات الفردية السبب الكافي لوجودنا، ولا غايته النهائية المعقولة؛ ولذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نبحث عن هذا السبب وهذه الغاية خارجا عنا في الوجود العام، وما التدين إلا الاعتراف بهذه التبعية في تسليم وخضوع.
هذا الشعور بالتبعية هو الأساس التجريبي للعقيدة الإلهية، ومهما تكن فكرة الألوهية في عقولنا ناقصة غير محددة، فإن موضوعها لا يفلت قط من شعورنا؛ فهو حاضر لدينا، بل يفرض نفسه علينا في هذا الشعور حتى إنه يسوغ لنا أن نضع هذه المعادلة الحسابية مطمئنين: إن شعورنا بالتبعية المطلقة هو شعورنا بحضور السر الإلهي فينا، هذا هو الينبوع العميق الذي تفيض منه الفكرة الإلهية بقوة لا تقاوم.
غير أنه يجب أن نعرف كيف يقبل العقل الإنساني هذه التبعية لمبدأ الحياة العالمية؟ هذا العقل الثائر الذي يرى نفسه من طبيعة غير طبيعة الأشياء الخارجية، ويرى أن أخص خصائصه هو أنه يفهم هذه الأشياء ويسيطر عليها ويسخرها؟ فالإنسان - كما يقول باسكال: «ليس إلا قصبة ضئيلة، ولكنها قصبة مفكرة، حتى إنه لو سحقه لكان هو أنبل من الذي يسحقه؛ لأنه يعرف أنه مسحوق، بينما الكون لا يعي من أمر نفسه شيئا.»
ومن هنا يتبين أن المبدأ العالمي الذي يخضع له الإنسان ليس هو ذلك الكون المادي، بل الروح العالمية التي تدبره؛ ذلك أن القوة العاقلة لا تخضع إلا لسلطان قوة عاقلة تسيطر عليها وعلى العالم على السواء، وهكذا نجد الحياة العقلية، التي كانت قد افتتحت بالنزاع بين الشعور الذاتي والتجربة الخارجية، تكمل وتختم بحد ثالث جامع ينتظم الحدين معا، وهو الشعور بخضوعهما جميعا لهذا السلطان الأعلى.
هذه الصفحة الرائعة التي كتبها أوجست ساباتييه لا تزال تحتفظ بجمالها ودقة تصويرها للفكرة الإلهية في الديانات العليا، ولكن هل تنطبق على سائر الديانات؟ أليست من دقة الفلسفة والمبالغة في التجريد بحيث يبعد أن تكون فكرة عالمية؟
لقد أحس الفيلسوف بهذا السؤال، فكتب يقول:
إن الذين يعترضون بذلك إنما يبرهنون على أنهم لم يروا جيدا هذه المناقضات الأصيلة في حياتنا اليومية، من مبدئها إلى نهايتها؛ فإنه لأجل أن يتحقق الإنسان من هذه المناقضات ويقاسيها ليس بحاجة إلى أن ينتظر حتى يصبح فيلسوفا.
إنها لتتجلى في كل العقول على اختلاف درجاتها من الثقافة والاستنارة؛ وإنها في نفوس الهمج الذين ترعبهم تقلبات الجو في وسط الغابات؛ ليست بأقل منها في نفوسنا حين تضطرب أفكارنا أمام اللغز العالمي وأمام ظاهرة الموت. لقد تختلف العبارة ونوع الشعور؛ ولكن الهزة الدينية التي تزلزل الإنسان هي في جوهرها شيء واحد، فكل أحد، حين يكف عن التفكير في عجزه وجهله وفنائه، وحين يجمع أمره - صابرا مستسلما - على أن يقضي الحياة كما هي، يشعر رغما عنه بزفرة يفيض بها صدره، وتكاد تنطق بها شفتاه؛ وما هي في الحقيقة إلا فاتحة دعاء ومناجاة .
9 (3-2) نظرية برجسون ونقدها
هذه النظرية تلتقي مع سابقتها في القول بأن العقيدة الإلهية تقوم على عوامل نفسية تثيرها حياة الإنسان اليومية، ولكن بينما النظرية السابقة تواجه من هذه الحياة جانبها المتصل بقوانين الطبيعة الثابتة، التي تصطدم بها الإرادة فلا يسعها إلا الخضوع والاستسلام للقوة التي فرضت هذه القوانين، وأحكمت وثاقها؛ يعتمد «هنري برجسون»
H. Bergson
في كتابه عن «ينابيع الخلق والدين
Les deux sources de la Mornle et de la Religion » على جانبين آخرين من تلك الحياة العادية: «أحدهما» يرتبط بالقوانين الأدبية التي يفرضها المجتمع وما فيه من العرف والعوائد، «والآخر» يتعلق بالحوادث المستقبلة، التي تفتح لها أبواب الإمكان، وتتسع للاحتمالات وللمصادفات، فلا يمكن التنبؤ بها بصفة قاطعة.
أما كيف تنشأ العقيدة الإلهية عن الشعور بالواجبات الاجتماعية، فبيانه أنه لما كان نظام المجتمع وتماسكه يتطلب من الفرد انخلاعه عن بعض رغباته، وتضحيته بجانب من حريته، وتحمله أعباء تقتضيها مصلحة غيره ولا يعود عليه منها نفع مباشر، وكان أليس من الهين أن يتقبل المرء عن طيب خاطر كل هذه التضحية وكل هذا الحرمان؛ إذ كانت الغريزة الاجتماعية عنده أضعف من أن تحمله على نسيان في خدمة المجموع، وأن تجعل مثله كمثل النملة أو النحلة حين تذهل عن نفسها في خدمة النمل والنحل، وكان استعمال ذكائه العادي في حساب مصلحته يدعوه بالعكس إلى الأثرة، وإلى التضحية بمصلحة الآخرين في سبيل إصلاح الفرد والجماعة، تلك القوة قد أعدتها الفطرة الإنسانية في النفوس حين أشربتها الفكرة الدينية؛ وذلك أنها صورت أمامها المحظورات الاجتماعية بصورة مخيفة تجعل من المخاطرة انتهاكها، وما زالت تبالغ في هذا التصوير حتى خيلت للنفس أن هذه المحظورات يقوم على حمايتها حارس معنوي، آمر، ناه، محاسب ينذر من ينتهكها بالبطش والعقاب، وذلك هو معنى الإله.
وهنا يضيف «برجسون» أن صورة هذا الحارس وإن لم تكن وليدة التفكير المنطقي، بل من عمل الواهمة أو المخيلة التي تشخص المعنويات، وتجسم المجردات، ولكنها ليست من قبيل تخيل الفنانين، ولهو المثالين والمصورين وأصحاب الأساطير؛ فإن آثار هؤلاء لا تعدو أن تكون نوعا من الترف الذي يمكن الاستغناء عنه، بخلاف الصورة الإلهية التي تخلقها الحاجة الاجتماعية، فإنها وإن تكن وهما إلا أنه وهم تفرضه الحياة، ومن أجله أوجدت هذه الملكة الرمزية في طبيعة الإنسان.
10
فإذا ما انتقلنا إلى ميدان الأعمال اليومية وجدنا فيه كذلك فراغا نفسيا عميقا، لا يملؤه إلا العقيدة الإلهية، فالصائد حين يسدد سهمه إلى فريسته، والتاجر في سعيه إلى الربح، والمريض في تناوله الدواء وتطلعه إلى الشفاء، والزارع في طلبه للثمرة، والمتزوج الذي ينتظر الولد، وراكب السفينة الذي يطلب النجاة، ولاعب الميسر الذي يرقب حظه بين اليأس والأمل، وكل ذي حاجة ينتظرها وهو لا يدري ما قدر له من النجاح أو الإخفاق ... كل أولئك لو استلهموا عقولهم، وقاسوا أعمالهم بمقدار نتائجها المحققة أو الغالبة؛ لقعدوا عن السعي، ولوقف بذلك دولاب الحياة.
غير أن دفعة الحياة حركة تأبى الوقوف والجمود، فكان لا بد لها من ثقل تضعه في الكفة الأخرى من الميزان النفسي، لترجح به جانب العمل، رغم كل تفكير وحساب، وما ذلك إلا الأمل تبعثه، والاعتماد على الحظ المحتمل تقدره، ولا تزال بهذا الحث والتشجيع، حتى تصور أمام النفس إرادة خفية يركن القلب إليها ويعتمد عليها، تلك هي إرادة «الإله المستعان»، كما كان ذلك السلطان سلطان «الإله الديان».
الذي نلاحظه على هذه النظرية هو أنها جعلت فكرة الألوهية في مظهريها عند العامة فكرة رمزية لا تعدو أن تكون ضربا من ذلك الأسلوب القصصي الذي يخوف به الأطفال أو يداعبون به، وهذا وصف لا يستساغ في القسم الأول منها، إلا لو صح أن كل ما يجري في المجتمع من سنن وعوائد، سواء ما كان منها ذا طابع ديني أو اقتصادي أو غيرهما، كان في جملته مبعثا لعقيدة إلهية في عقول العامة، فهنالك فقط يسوغ أن يقال: إن فكرة الإله عندهم لا تدل على حقيقتها، وإنها محض رمز لما في نفوسهم من سلطان رهيب للمجتمع، ولا شك أن الذي يعيش أسيرا لعوائد قومه ولو تحكمية، ولتصرفاتهم ولو همجية، ولقوانينهم ولو جائرة، لو بلغ به استسلامه إلى حد الظن بأن تلك الوضعيات البشرية أوضاع إلهية ، يقوم على حمايتها جنود من السماء حين تغيب عنها جنود الدولة؛ لكان أقل ما يقال فيه إنه سخيف واهم، وإنه يسمي الأشياء بغير أسمائها، أما إذا أخذنا قانون الأخلاق في جوهره الصحيح، واعتبرنا ما له من سلطان مركوز في طباع الناس على اختلافهم موحيا للعقيدة الإلهية، ودليلا على صنعة الفاطر الأول، الذي ألهم النفوس هداها، ورسم لها طريق فجورها وتقواها، فتلك فكرة سليمة ومنطق مستقيم، وسنرى الفيلسوف الألماني «عمانويل كانت» يجعل قانون الأخلاق هو المقدمة الأولى في الاستدلال على وجود الله.
وكذلك نقول: إن الاستدلال على وجود القدر الإلهي بالحوادث المستقبلة التي لا بد للبشر في تصريفها، والتي تقع تارة على وجه وتارة على وجه آخر؛ دون أن تخضع في سيرها لقانون طبيعي ثابت، نقول: إن هذا الاستدلال سديد قويم، لا يعتمد على شيء من الوهم أو التمثيل؛ لأنه ينطوي على مقدمتين: «الأولى» أن هذه الحوادث تستند إلى سبب خفي، وهذا حكم انفصالي يقيني؛ إذ إن ما لم يوجد له سبب في عالم الشهادة يجب أن يكون له سبب في عالم الغيب، ولا ثالث. «الثانية» أن هذه القوة الغيبية قوة عاقلة إرادية، مقدرة للحوادث قبل وقوعها، وهذه قضية لا يؤيدها العقل السليم فحسب، بل تشهد بها التجارب المتكررة في كل أمة، فإن هذه الحوادث التي لا يمكن التنبؤ بها من طريق النور العقلي وحده قد يكشفها الروحانيون الملهمون وينبئون بما ستكون عليه في وقتها المحدود، ثم يقع مصداق نبوءتهم، بينا، لا يخالطه شك ولا وهم، فذلك - لا شك - آية على أنها ليست وليدة المصادفة والاتفاق، ولا نتيجة آلية لدفعة الحياة العمياء كما يظن برجسون.
11
وإنما هي خاضعة لخطة مرسومة من قبل، رسمتها يد مدبرة قاصدة لما تفعل، مقدرة لكل ما يجري في مملكتها. (3-3) نظرية ديكارت
لا مناص من الاعتراف بأننا سنجاوز حدود موضوعنا قليلا حين نضم إلى هذه السلسلة من التفاسير النفسية طريقة من طرق الفيلسوف الفرنسي «ديكارت»
Descarts
في إثبات وجود الله، مع أنه لم يقدمها تفسيرا لهذه العقيدة في نشأتها ولا في نظر الجمهور، بل في نظره هو، غير أنه لما صرح بأن أساسها نفسي فطري، لم نر بأسا من نظمها في هذا السلك.
وجد هذا الفيلسوف في تأملاته
Meditations
أن عقيدة وجود الله تعتمد على تجربة نفسية، أقرب من هذه التجارب كلها، وأقل تعقيدا، حتى إن الذي يغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويقطع علاقته بالكون وبالناس، ثم ينطوي على نفسه، ويتحسس أفكاره وتصوراته؛ يجد مفتاح هذه العقيدة حاضرا فيها بين طيات نفسه، كلما شعر بالفرق بين الشك واليقين، أو بين الجهل والعلم، وبالجملة: كلما قرأ في لوحة نقصه عنوان «الكمال» الذي ليس له.
ليست فكرة «الكمال» هذه في نظر «ديكارت» فكرة مستنبطة من فكرة أخرى، وإنما هي حقيقة أولية فطرية، بل هي أسبق في العقل من فكرة النقص، فإن من لا يعرف الشيء لا يتفقده، ولا يحس بحرمانه حين يفقده؛ إذ كيف أعرف أنني ناقص لو لم تكن عندي فكرة كائن أكمل مني أجعله مقياسا أعرف به مواضع نقصي؟ فالرغبة في الكمال وحدها دليل على أسبقية وجود هدفها في التصور العقلي، ثم ليست هذه الفكرة معنى سلبيا - كالسكون: عدم الحركة، وكالظلام: عدم النور - بل هي جماع الحقائق الإيجابية، ونظام ضروب الكمالات كلها.
من أين تجيء هذه الفكرة إذا؟
لا جائز أن يكون من هاوية العدم مطلعها، فإن العدم لا يخلق الوجود، كما أن الصفر لا يلد عددا إيجابيا.
ولا جائز أن يكون من قرارة النفس منبعها، فهذه النفس هي مصدر النقص الذي أحاول التخلص منه.
ولا يقال: إن الكمال الذي لم أحرزه بالفعل هو حاصل عندي بالقوة، وأنا دائب في سبيل اكتسابه، بالترقي في مراتبه تدريجيا، وهذه النزعة إليه هي التي أنشأت فكرته في نفسي، فذلك فرض باطل من وجهين:
أولهما:
أن هذه الفكرة لا تصور في نفسي درجات الكمال التي سأنالها أو التي يمكنني نيلها فحسب، بل إن كل درجة من الكمال أتصورها في نفسي أو في غيري، أتصور دائما فوقها درجة أعلى منها.
وثانيهما:
أن فكرة الكمال الأعلى التي أجدها في نفسي تحتوي كل درجات الكمال الوجودي الفعلي، الذي لا شيء منه بالقوة الإمكانية القاصرة؛ وإلا لم يكن هو المثل الأعلى، ولما أمكن وجود شيء من الكمالات الجزئية بالفعل؛ لأن ما هو بالقوة والإمكان فحسب لا يمكن أن يحدث ما هو بالفعل في حقيقته الإيجابية الظاهرة الباهرة؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه غيره.
وأخيرا، ليست هذه الفكرة اختراعا وفرضا افترضه خيالي، بل هي ضرورة تفرض نفسها على عقلي وعلى كل العقول.
فلم يبق إلا أن تكون صورة منعكسة على مرآة النفس من حقيقة إيجابية، وذات خارجية، هي مادة الكمال المطلق ومصدره، وهي المثل الأعلى، وما وضع هذه الصورة على لوحة نفسي إلا كوضع «سمة الصانع» على صنعته، أو «توقيع الكاتب» في رأس رسالته.
هذا التفسير لم يكن «ديكارت» أسبق الناس إليه، ولكنه أجاد تفصيله، وأحسن تثميره، في التأمل الثالث من تأملاته
Meditation troisieme .
وقد أكثر الناس من الاعتراض عليه، حتى في عصر ديكارت نفسه.
وظن الفيلسوف الألماني «كانت» أنه استطاع هدم هذه الحجة، بقوله: إنه وإن تكن خصائص الماهيات العقلية يمكن استنباطها كلها من طبيعة تلك الماهيات - كما تستنبط خصائص الأشكال الهندسية من مفهوماتها - إلا أن صفة «الوجود» على الخصوص لا يمكن أخذها من تلك المفاهيم العقلية، فحقيقة المثلث وإن ثبتت لها الخواص الهندسية المعروفة، بالضرورة العقلية، إلا أنه لا يلزم من ذلك وجود مثلث في الخارج، وكل ما في الأمر أنه إن وجد مثلث كان على هذه الأوضاع، وكانت له هذه الخواص، وهكذا سائر المفاهيم العقلية، ليس وجودها في الذهن دليلا كافيا على وجودها في الخارج، بل إن منها ما هو مخترع اختراعا بحتا، كما نتصور قصرا من ماء، وإنسانا من هواء.
ولكن فات هؤلاء الناقدين ما هناك من بون شاسع
12
بين تلك الماهيات الممكنة التي يعترضون بها، والتي لا يلزم من فرض عدمها محال، بين الماهية العقلية الواجبة، التي بلغ من رسوخها في كيان العقل أن إبطالها يعد إبطالا لكل معقول ومعلوم؛ إذ لا بد في العقل من التسليم بوجودها في الخارج لتستمد منه كل الممكنات وجودها في الأعيان والأذهان. (4) المذهب الأخلاقي ونقده
ذهب الفيلسوف الألماني «عمانويل كانت»
Emmanuel Kant
في نقده للعقل العملي
Critique de la Raison
إلى أن وجود الذات الإلهية ليس موضوع علم ومعرفة، بحيث يثبت بالبرهان أو بالتجربة؛ بل هو موضوع إيمان عقلي، بمعنى أنه مقدمة مسلمة، لا مناص للعقل من أن يعتمدها لتصحيح الفكرة الأخلاقية الراسخة في النفوس، وبيان ذلك حسبما قرره «كانت»
13
ينتظم في مقدمات ثلاث: (1)
أن كل إنسان - حتى الطفل المميز - يجد في نفسه استحسانا لبعض الأفعال، واستهجانا لبعضها، ويدرك بنفسه أن بعضها يجب أن يفعل، وبعضها يجب أن يجتنب. هذا القانون الأدبي يضاهي القانون الطبيعي، في أن كلا منها ضرورة لا مفر منها، ولكنه ليس كالقانون الطبيعي في التعبير عن شيء واقع بالفعل تحققه المشاهدة والتجربة، بل عن شيء لم يقع بعد وإنما يطلب تحقيقه طلبا مؤكدا، وهو في الخارج يمكن أن يقع وألا يقع. بل قد يقال: إنه ليس في الوجود مثال واحد يشهد لوقوعه على الوجه المطلوب؛ فكل بني آدم خطاءون، وما الطهر والعصمة إلا لله وحده، حتى إن الذين يؤدون أعمالهم طبقا لقانون الواجب «حرفيا» لا سبيل إلى اليقين بأنهم يؤدونها «روحيا» كما يجب؛ أي: بقصد أداء الواجب خالصا من شائبة الهوى والغرض، ودون تلقي معاونة عليها من الميول والنزعات الفطرية الشريفة.
فالواجب هو أداء الواجب، للواجب، وبالواجب، أي: تحت سلطان «فكرة» الواجب، لا «حب» الواجب، وكل خدش في عنصر من هذه العناصر يجعل العمل هباء، فمن ذا الذي يستطيع أن يجرد نفسه هذا التجريد؟ ومع ذلك فهذا هو حكم قانون الأخلاق الذي يفرض نفسه علينا فرضا غير مكترث بمعارضة قانون الطبيعة المتسلط على حواسنا وجوارحنا وإرادتنا بصفة قاهرة، ومنه نعلم أن الإنسان ينتسب إلى عالمين: عالم العقل، وعالم الطبيعة والحس، كلاهما يطالبنا بحاجته، وما القانون الأدبي إلا ترجمان العقل الخالص، ينطق بلسانه متجاهلا ما للطبيعة من سلطان. (2)
غير أننا لما كان العقل يطالبنا بإلحاح أن نحقق هذا الخير المطلق، كان من الضروري أن تكون هناك وسيلة لتحقيقه؛ لأن وجوب الشيء بالعقل دليل إمكانه، وإلا لما كان العقل عقلا، وإذن لا سبيل إلى تحقيق هذا الخير الكامل في لحظة من لحظات حياتنا، فلم يبق إلا إمكان تحقيقه على التدريج إلى ما لا نهاية ... وهكذا يجب أن تفرض لنا حياة لا تتناهى، يتم فيها ذلك التقدم اللانهائي، الذي هو الهدف الحقيقي لإراداتنا العاقلة، فكان خلود الروح مطلبا لا بد من تسليمه ليصح في العقل وجود ذلك القانون الأخلاقي، ودعوى أن الإنسان يمكنه في هذه الدنيا أن يصل إلى القدسية والفضيلة الكاملة دعوى باطلة؛ كدعوى أن الواجب الأخلاقي يكتفي منا بأدنى مراتب الكمال. (3)
فإذا حققنا «الخير المطلق» بتحصيل الفضيلة الكاملة، فقد بقي المطلب الأخير من مطالب العقل، وهو تحقيق «الخير الأعلى»، وليس الخير الأعلى معنى مفردا، بل هو جماع عنصرين: أحدهما الفضيلة، والآخر السعادة، التي هي حصول المرء على ما يرضيه في الحياة، بحيث يجري كل شيء في الوجود على وفق ما يهواه، ألا وإننا نرى هذين العنصرين يسيران أمامنا في طريقين منفصلين قلما يلتقيان، فقلما تعيش الفضيلة العامة الكادحة، الصامتة القانعة، إلا في زوايا الخمول والنسيان، والتقتير والحرمان، بينما الرذيلة الصاخبة المتبجحة، الملقة الطامحة، لها القوة، والثروة ورغد العيش، والجاه، والنفوذ والسلطان.
لكن مقتضى الوضع العقلي السليم أن تكون الفضيلة والسعادة صنوين، والرذيلة والشقاء توأمين، وأن توزع درجات البؤس والنعيم على حسب الأعمال وبواعثها ومقاصدها، فلا بد إذن من مبدأ أعلى يحقق هذا التوازن، مبدأ تخضع الطبيعة لإرادته، ويسير هو في تصرفاته على وفق قانون عادل، وما ذلك إلا خالق الطبيعة والإنسان جميعا، وهو الله تعالى.
فكان وجود الله هو المطلب الأخير، الذي لا بد من تسليمه لتصحيح معقولية القانون الأخلاقي.
الناظر في هذا النسق الفكري قد يروقه ما فيه من نسيج بديع مبتكر، ولكن الذي يفلي سداه ولحمته سوف يجد في طياته خيوطا واهنة، وعناصر غريبة، سترتها مهارة الصنعة وحسن السبك؛ بل سيجد أن هذه المقدمات الثلاث التي يتألف منها الاستدلال ليست بالمقدمات البديهية، ولا بالمبرهنة، ولا بالتي يتوقف عليها صحة المطلوب.
أما المقدمة الأولى فلأن القانون الأخلاقي وإن كان في جملته مركوزا في أصل النفوس، ولكنه على الصورة التي يصوره بها «كانت» لا يفرض نفسه على كل العقول، بل تمجه كثير من الطباع السليمة، ليس لأنه عنيف، قاس، فحسب، أو لأنه يمحو الفروق بين الواجبات الأساسية والواجبات التكميلية، بل لأنه فوق ذلك كله يقلب الأوضاع والموازين المألوفة؛ إذ يقتضي أن الذي يمتثل الأمر عن أريحية ورضى لا يكون قد أدى واجبه، وإنما يكون ممتثلا إذا فعله وهو كاره له، متبرم به، وهكذا تبعد النفوس الخيرة عن المثل الأعلى للفضيلة، بقدر ما تقترب منه النفوس الشريرة حين تحمل نفسها على فعل الواجب حملا.
وأما المقدمة الثانية فلأن الواجب المطلوب - وهو تحقيق الخير المطلق لذاته غير مشوب بطلب منفعة، ولا معاضدا بنزعة شريفة أو غيرها - إن لم يكن ممكنا لم يكن واجبا، كما يعترف به «كانت»، وإن كان يمكن تحقيقه في مرحلة ما من مراحل الحياة المستقبلة لم يبق لفرضية أبدية الروح مستندا؛ إذ يكون القول ببقائها لحظة واحدة بعد أداء الواجب قولا بما هو أكثر من المطلوب، وإن كان ليس هناك لحظة واحدة في الحاضر ولا في المستقبل يمكن فيها إخلاص الامتثال، يكون القول بالخلود قولا بما هو دون المطلوب؛ لأنه متى فرض أن انضمام أدنى باعثة للخير إلى باعثة الامتثال المجرد يهدم الفضيلة من أساسها؛ أصبحت المسألة ليست مسألة تدرج يترقى فيها الناقص نحو الكمال، بل هي مسألة أعداد سلبية متتالية؛ وضم السلب إلى السلب لا ينتج إيجابا، ولو سار إلى غير نهاية، على أن التكمل على الوجه الذي يفهمه «كانت» يفضي بنا إلى صورة عجيبة جدا؛ إذ لا بد أن يفترض أن النزعات الشريفة في تلك الحياة الباقية تأخذ في الاضمحلال شيئا فشيئا، لتحل محلها نزعات مقاومة للخير؛ تحتاج إلى مجاهدة عنيفة تزداد عنفا على مر الزمان؛ ليكون أداء الواجب معها لمحض الواجب رغم كل مقاومة. فما أبدع هذا الفردوس الذي لا يتبوأ عرشه إلا الشياطين!
وأما المقدمة الثالثة فلأنها أدخلت باسم قانون الأخلاق عنصرا غريبا عن قانون الأخلاق، وهو مطلب السعادة بمعناها العامي - ألا وهو تحقيق الأماني وإرضاء الرغبات الحيوية - والواقع أن الفضيلة والسعادة بهذا المعنى حقيقتان متباينتان: إحداهما إلزام عقلي يجيء من عل، والأخرى نزعة مادية تلتمس وتتضرع لقضاء حاجتها. وطلب النفس الجمع بين هذين الطرفين، تشوفا إلى قانون أعلى ينتظم القانونين الأدبي والطبيعي وينسق اتجاههما؛ إنما هو تشوف إلى حلية شكلية، ووضع هندسي تكميلي، وليس تشوفا إلى ضرورة عقلية، ولا إلى مطلب أخلاقي. أما أن هذا الاتساق ليس ضرورة عقلية؛ فلأنه لا يلزم من فرض عدمه محال، ولا أدل على إمكان الانفصام بين القانونين من وقوع هذا الانفصام واستمراره بالفعل، وأما أنه ليس مطلبا أخلاقيا؛ فلأننا نعرف أن الفضلاء يغتبطون - وهم في أحضان البؤس والشقاء، يقاسون ألوان الحرمان وأنواع التضحيات - بمجرد شعورهم بإرضاء ضميرهم وأداء واجبهم، ويجدون في هذا متعة حقيقية لا تدانيها متعة في الحياة.
على أنه إذا كان لا بد للفضيلة من مقابل مادي، فلماذا نفرض هذا المقابل في حياة مستقبلة؟ لماذا لا نقدر أننا قد استوفينا هذا المقابل مقدما في أنواع النعم السابقة التي لا تحصى؟ وبذلك يكون واجب الفضيلة سدادا لدين قديم في أعناقنا لشكر تلك النعم، لا افتتاحا لمعاملة جديدة تنتظر الجزاء.
كل هذه الفجوات كان يمكن تجنبها لو أن الفيلسوف الألماني اختصر الطريق، بالانتقال مباشرة من القانون الأخلاقي المجمل إلى واضع هذا القانون وغارسه في النفوس؛ كما فعل «ديكارت» في فكرة «الكمال»، ولكن طريقة التعقيد والتحايل والدوران قد أطالت عليه الشقة، ولم تصل به في النهاية إلا إلى فرض غير محقق - في نظره - ولا قائم على أساس متماسك. (5) المذهب الاجتماعي ومناقشته
يخالف العلامة «دوركايم»
Durkheim
جميع المذاهب المتقدمة في دعواها أن التدين حالة نفسية تنبع من فطرة الفرد كلما فكر في الآفاق أو في نفسه، ويرى هو أن التدين وليد أسباب اجتماعية،
14
بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيزعم أن عناصر التفكير، وأسس المعرفة العقلية نفسها، ما هي إلا صور ولدتها حياة الجماعة، وطبعتها على غرار النظم الاجتماعية.
15
ونحن لا يعنينا هنا نقد فكرته في نظرية المعرفة، بل نريد أن نعرض رأيه في أصل التدين ثم نعقب عليه.
لقد مهد لمذهبه بتقديم جملة مقدمات، أهمها أن خير وسيلة لتفسير ظاهرة معقدة كالظاهرة الدينية أن تدرس في بداية نشأتها، قبل أن تخالطها عناصر غريبة عنها، وأن ذلك يكون بيئات الأمم «البدائية»،
16
وهي في نظره تلك الأمم التي لا تتميز فيها الأسر الخاصة بخاصية مستقلة، بل تقوم على نظام القبائل
Tridus
والفصائل
والعشائر
Clans .
ومعروف أن العشائر - وهي النواة الصغرى في تلك المجتمعات - قوامها وحدة اللقب المشترك بين أفرادها، وهو لقب يشتق في الغالب من اسم حيوان، أو نبات، وفي النادر من اسم عنصر جمادي، أو كوكب من الكواكب، وتعتقد العشيرة أنها لها بمسمى هذا الاسم صلة قديمة، حيوية أو روحية - إما على أنها تسلسلت عنه، أو أنه كان حليفا أو حارسا لجدها الأعلى، أو نحو ذلك - ولذلك تعظمه وترسم صورته على مساكنها، وأدواتها، وأسلحتها، وراياتها، بل يتخذ الأفراد منه وشما يطبعونه على أجسامهم، كأنه بطاقة شخصية لتحقيق انتساب كل منهم إلى عشيرته.
هذا النظام يسمى نظام التوتيم
Totem
17
أو اللقب الأسري، وهو نظام معروف في الشعوب القديمة: «المصرية، والإثيوبية، والعربية، واليونانية، والرومانية، والغالية» وتوجد آثار منه في الأساطير الشعبية في أوروبا الآن،
18
ولا يزال منتشرا في القبائل غير المتحضرة في أمريكا، وأستراليا، وهذه الأخيرة - فيما يعتقد «دوركايم» - هي أخصب مكان لدراسة هذه الظاهرة؛ لأن سكانها أقل تطورا وأقرب إلى الطبيعة الأولى من غيرهم؛ ولذلك استمد منها الوقائع التي بنى عليها نظريته.
وخلاصة هذه الوقائع أن تلك الأمم في تعظيمها لألقابها تعظم في الوقت نفسه مسمى تلك الألقاب، ولما كان الاسم مشتركا بين الحيوان، وبين الجد الأعلى وبين أفراد العشيرة، وكانت الصلة بين هذه المعاني الثلاثة في نظرها صلة تجانس تام ترجعها إلى جوهر واحد، شمل التعظيم ثلاثتها، لكن الحظ الأكبر من التعظيم يدخرونه لهذا الاسم المشترك، أو لتلك الصورة الجامعة وهي الوسم أو الوشم: حتى إنهم نسبوا إلى هذه الصورة خصائص عجيبة، فزعموا أن الذي يحملها ينصر في الحرب على أعدائه، ويوفق في تسديد السهم إلى رميته، وأن وضعها على القروح يسرع في التئامها، إلى غير ذلك.
إلا أن هذا التعظيم في العادة لا يصل إلى درجة العبادة، ولا يوحي فكرة التدين والتقديس والتأليه؛ ولذلك يقضون جل أوقاتهم في حياة فاترة كل يسعى لقوته، منعزلا في الجبل للاحتطاب، أو على شاطئ البركة للصيد، وليس لهم مظهر من مظاهر التدين في هذه الأحوال العادية سوى التورع عن بعض المحظورات، وإنما يأخذ التدين حقيقته ومظهره التام عندهم في مواسم خاصة، تقام فيها الحفلات المرحة الصاخبة، التي يطلقون فيها العنان لحركاتهم العنيفة، وصيحاتهم المنكرة، على إيقاع الطبول، ولحن المزامير، وقد ركزوا السارية التي تحمل علم العشيرة في سرة الحفل؛ فينتهي بهم هذا الحماس الصاخب إلى الذهول والهذيان، بل يفضي بهم إلى انتهاك سياج المحرمات الجنسية التي يحترمونها أشد الاحترام في العادة. وربما نسبوا هذا التطور العجيب إلى حضور سر الأجداد فيهم عن طريق هذا الرمز، وعبادتهم للروح التي يرمز إليها، ظنا منهم أنها هي التي أحدثت فيهم هذا التحول الروحي الغريب.
ها هنا - وها هنا فقط - تتدخل النظرية لتكشف الغشاوة عن أعينهم، وتنبههم إلى ما حدث من تحول شعورهم عن منبعه وهدفه الحقيقيين، وأنهم إذا كانوا يتوجهون بعبادتهم إلى مصدر هذا الأثر الجديد، فليعلموا أنه ليس هو النصب، ولا ما يرمز إليه النصب، وإنما هو هذا الاجتماع الثائر نفسه؛ فإن من طبيعة هذه الاجتماعات أن تنسلخ النفوس فيها عن مشخصاتها الفردية، وتنمحي كلها في شخصية واحدة هي شخصية الجماعة، وهكذا يكون الاجتماع هو مبدأ التدين وغايته، وتكون الجماعة إنما تعبد نفسها من حيث لا تشعر. •••
هذه النظرية تبدي صفحتها لضروب من النقد لا تحصى، وقبل كل شيء فإنها - ككل النظريات عن العقليات «البدائية» - تقوم على أساس مشكوك فيه، ولا بد في قبوله من تحفظ بليغ، واحتراس شديد، ألا وهو تلك المعلومات التي يدونها الرحالة والسائحون عن عقائد الهمج وعوائدهم، والتي يبدو عليها الضعف من وجوه، منها: أنه ليس كل السائحين على جانب من علوم النفس والمنطق والدين والأخلاق يكفيهم لاستبطان غور الأمور، ووضع الأسئلة الدقيقة المحددة في هذا الشأن، وليسوا في غالب الأمر مزودين بمنهاج معين ديني أو أخلاقي، بل هذا الجانب هو أقل ما يسترعي اهتمام أكثر السائحين. ومنها: أن هذه المعلومات لا تستقى من آثار مكتوبة - إذ الفرض أن هؤلاء الأقوام محرومون من العلوم والفنون المدونة - وإنما تؤخذ من أفواه قوم لم يصلوا بعد إلى تحليل أفكارهم وتحديد شعورهم في هذه المسائل، فمن الراجح أنهم يسرعون إلى الإجابة بكلمة: «نعم» أو «لا» من غير مراجعة لعقولهم وإحساساتهم العميقة، ومهما تفترض الدقة وحسن النية في السائل والمجيب، فقد بقيت عقبة هذه اللغات «البدائية» التي لم تنضج أداتها، ولم تستكمل وسائل التعبير عن تلك المعاني الدقيقة الغامضة التي يصعب أداؤها حتى في أرقى اللغات وأوسعها. أضف إلى هذا أنه ليس كل فرد هناك يمثل الفكرة العامة للعشيرة أو القبيلة؛ إذ قد تختلف التفاسير بين شخص وآخر، بل الشخص الواحد قد يجمع متناقضات من التصورات، وليس أدل على وهن المعلومات المدونة بهذه الوسيلة من أن الكتاب أنفسهم قد يتناقضون
19
في وصفهم لتلك القبائل.
ولنجاوز الآن هذه الملاحظات العامة لننظر في أسس النظرية نفسها:
يقول صاحب النظرية: إنه ينبغي أن ندرس الظاهرة الدينية في أقدم عصورها، وأقربها إلى عهد نشأتها. ويقرر أن نظام القبائل والعشائر أقدم وجودا من نظام الأسر، وأن قبائل أستراليا الوسطى تمثل أقدم الأطوار المعروفة للقبائل، فهي أحق بأن يقع عليها الاختيار للبحث والدرس.
أما المقدمة الأولى فإنها وإن كانت مبدأ سليما في الجملة، لمن يعنيه تكملة بحث المسألة من وجهتها التاريخية البحتة، إلا أن اتخاذ نتيجة البحث قاعدة عامة تعرف منها حقيقة الدين من حيث هو، يعد عملا مجافيا لقانون المنطق السليم، أفيحق لنا أن نحدد حقيقة الإنسانية من النظر في أول أطوار الجنين، أو وهو بعد في الأدوار التي تمر بها سائر الكائنات الحية، قبل أن تتميز أجهزته الخاصة، وتتعين وظائف أعضائه، وقبل أن يحيا حياة مستقلة، وقبل أن تستيقظ فيه ملكات الفهم والبيان وغيرها؟ إن تحديد الدين بذلك المعنى الغامض الذي يتلجلج في صدر الإنسان في طور طفولته - وهو بعد لا يستبين حقيقة شعوره، ولا أهداف أعماله - فساد في المنهج لا يقل عن تعريف الإنسان بالجنين.
ولقد أصاب هوفدنج إذ يقول: «إنه ليس من المستطاع دائما أن نستقي معلومات كافية عن الطبيعة الحقيقية لكائن ما، من مجرد النظر في أصل تكوينه؛ فإن التغييرات والنظم التي تحدث له في أثناء نموه، قد تبرز فيه صفات وخصائص ما كنا نرى منها أدنى أثر في بدايته، إن الطبيعة الحقيقية لكائن ما، إنما تتكون من قانون تطوره منذ نشأته الأولى إلى صورته النهائية.»
20
وأما المقدمة الثانية - وهي أن نظام القبيلة يمثل طورا تاريخيا أقدم من نظام الأسرة - فهي دعوى لا تزال يعوزها الدليل، بل تقوم بعض الأدلة الأثرية والتاريخية على عكسها؛ فالآثار الباقية من عهد القبائل الآرية والسامية يتبين منها أنها كانت قائمة على النظام الأسري، الذي تتضامن فيه أفراد الأسرة في الحقوق والواجبات، والذي يتمتع فيه الأب بأوسع السلطات على أعضاء أسرته، وإذا قرأنا الأوصاف التي ذكرها «أرسطو»
Aristote
و«هوميروس»
Homere
للشعوب المعاصرة لليونان - والتي كانت أقرب منهم إلى الفطرة والسذاجة - نرى أن المعيار الذي كانوا يميزون به هذه الشعوب عن الشعوب المتحضرة هو أنهم ليس لهم مجالس شورى، وأن كل واحد منهم يتولى الحكم على زوجه وأولاده.
21
وكذلك نقول في المقدمة الثالثة، وهي أن قبائل أستراليا الوسطى تمثل أقدم نظام معروف للقبائل؛ فهي أيضا مسألة فيها نظر، وهذا «روبرت شميت» من كبار الباحثين، الذين قاموا بدراسات شخصية دقيقة في أستراليا، يقرر أن القبائل المذكورة هي أحدث القبائل الأسترالية وأكثرها تقدما، وأن أقدم قبائل أستراليا هم سكان جنوبها الشرقي، وهؤلاء لا يعرفون نظام الألقاب الحيوانية السالفة الذكر، وفي الوقت نفسه توجد عندهم عقيدة «الإله الأعلى» بصفة واضحة، على أن اللوحة التي رسمها «دوركايم» نفسه لحياة قبائل الوسط تكفي وحدها للدلالة على أننا أمام أمة قد بعدت عن سذاجة الفطرة، وقطعت أشواطا واسعة في نظامها المدني والاقتصادي، يبدو ذلك جليا فيما عندها من قواعد الزواج، والنسب، والملكية، وتنظيم مواسم الصيد وغيرها.
بل إن نظام التسمية وحده كان يحتاج في إنشائه وتثبيته إلى عصور متطاولة للتعاقب عليه بين الأمة جيلا فجيلا، حتى وصل إلى هذا الوضع الهندسي الدقيق، الذي يلاحظ فيه دائما أن تقسيم كل قبيلة إلى فصيلتين اثنتين لا زائد عليهما، وأن يكون لقب القبيلة مشتقا من جنس عام، وألقاب الفصيلتين من نوعين متقابلين تقابل التضاد تحت هذا الجنس، ثم تتفرع من كل فصيلة عشائرها المتعددة بألقابها المختلفة كأغصان الشجرة؛ بحيث لا تشترك عشيرتان قط في لقب واحد؛ ولذلك عد علماء هذا الفن نظام ال
totem
نظاما مدنيا، قضائيا، اقتصاديا، أكثر منه نظاما دينيا،
22
بل إن البحاثتين «لانج»
Lang
و«فريزر»
Frazer
لم يريا فيه عنصرا دينيا البتة، وقررا أن فكرة الدين والألوهية تكونت في هذه القبائل بعيدا عن نظام اللقب الأسري المعروف.
23
ونحن نذهب إلى هذا المذهب الأخير، ولا نرى في هذه الألقاب والرموز عندهم إلا شعارا قوميا يعرفهم أنسابهم، وينمي فيهم شعور الوطنية، وباعثة التعاون، واحترام قانون توزيع الملكية وسائر قوانين الجماعة، فهم لا يعبدون تلك الرسوم ولا مدلولاتها، بل لهم معبود روحي يعتمدون عليه في جلائل أعمالهم ودقائقها، حتى إنهم ليستلهمونه أو يدعونه ليرشدهم إلى انتقاء أمثل الأسماء لأبنائهم، كما أنهم في تحريمهم لبعض المحرمات إنما يستندون إلى روايات دينية متوارثة عن أسلافهم، ينسبونها إلى أمر الله.
والعجيب أن رئيس المدرسة الاجتماعية الفرنسية يعترف بأن عددا من قبائل أستراليا قد وصلوا إلى فكرة «الإله الأعلى» أو «الإله الأحد»، وأنه كائن أزلي أبدي تسير الشمس والقمر والنجوم بأمره، وأنه هو الذي يثير البرق، ويرسل الصواعق، وإليه يتوجه في الاستسقاء وفي طلب الصحو، وهو الذي خلق الحيوان والنبات، وصنع الإنسان من الطين ونفخ فيه الروح، وهو الذي علم الإنسان البيان، وألهمه الصناعات، وشرع له العبادات، وهو الذي يقضي في الناس بعد الموت فيميز بين المحسن والمسيء.
24
ثم يقرر أيضا أن هذه العقائد كلها ليست مقتبسة من أوروبا كما ظن تيلور، بل إنها قديمة في هذه القبائل قبل أن يصل إليها المبشرون الأوروبيون، وأنهم يعبرون عن هذه العقائد بعبادات حقيقية، ترفع فيها الأيدي إلى السماء بالدعاء.
25
يعترف دوركايم بكل هذا، ولكنه عند استنباط نظريته في الألوهية يضرب الذكر صفحا عن هذه الصورة الدينية الحقيقية، ثم يعمد إلى ضرب من اللهو الخليع تأتيه بعض القبائل في حفلات تضم كل شيء إلا الدين والعبادة، ويترخص فيها بارتكاب أعمال شاذة تنافي قواعد الأخلاق المقررة والمتبعة بانتظام عندهم، يعمد إلى هذه الحفلات الماجنة، فيرسم لنا منها لوحة بارزة يعرضها علينا قائلا: إذا أردتم معنى الدين فها هنا منبعه ومظهره.
هكذا وصل الأمر بهذا البحاثة في تقديره لعقول قرائه إلى حد محاولة إلهائهم عن الحقائق، وتسمية الأشياء لهم بغير أسمائها، فهو يريد أن يقول لهم: إن كل حمى جنونية يثيرها مجتمع صاخب، وكل سورة إباحية تنطلق فيها الوجدانيات من عقالها بدعوى المحاكاة، أيا كان هدفها وباعثها، فهي نوع من الدين، ولو كان سيل الشهوات الجامحة فيها يجترف كل ضابط من ضوابط العقول، ويقتحم كل معقل من معاقل الآداب المحترمة في الشعب نفسه.
إننا نرى لزاما علينا أن ننبه ها هنا إلى خطأ منهجي صريح، وقع فيه صاحب المنهج نفسه:
ذلك أن الذي يريد أن يصور الحالة الطبيعية للجماعة، يجب عليه بمقتضى القانون الذي وضعه الرئيس،
26
أن يستقرئ هذه الحالة من سلوك غالب أفرادها، في غالب أزمنتها وأمكنتها.
فإذا كان من المتفق عليه أن الدين يكاد يسيطر على كل شيء في حياة الجماعات الفطرية، أفلا يكون من أشنع المخالفات القانونية أن تلتمس الظاهرة الدينية عند هذه الشعوب في تلك الحالة النادرة، وذلك المظهر الاستثنائي الذي لا يتكرر في مجرى حياتهم العامة، وأن نهمل ما وراء ذلك من معتقدات وعبادات، وأخلاق وعادات، يتألف منها هيكل الحياة الشعبية؟
لئن كان الفيلسوف قد أصاب حين طلب إلينا أن نميز بين لونين متباينين في حياة الجماعة الفطرية، لقد عكس الوضع بعد ذلك، حيث جعل الشاذ منهما قاعدة للغالب، وأساء الاختيار، حيث أخذ اللون الإباحي اللاديني، فجعل منه حقيقة الدين.
على أنه لم يكن من العسير عليه أن يجد التفسير الحقيقي لهذا اللون الشاذ الماجن لو أنه وضعه في نطاق النظم الاجتماعية والأخلاقية لهذه الشعوب، وهي نظم تقوم على الفصل التام بين الجنسين، وعدم اطلاع أحدهما على شيء من دخائل الآخر، حتى إن المرأة لا يباح لها أن ترى الدم الناشئ عن عملية الختان للصبيان، وكذلك الصبي يبقى مبعدا عن الشئون الخاصة بالرجال إلى أن يحين وقت بلوغه، فهنالك فقط ينبه إلى فكرة الصلة الجنسية، ولا سيما في وقت ختانه، حيث يحتفلون في هذه المناسبة احتفالا مرحا، كما كان يحتفل بالختان في بلادنا الشرقية إلى عهد قريب، إلا أن الأستراليين يبالغون في المرح فيقدمون فيه نموذجا تخيليا ينبهون به أذهان المراهقين إلى حياتهم المستقبلة، مذكرين إياهم بأن هذه سنة الآباء والأجداد الذين يدين لهم الشعب بوجوده.
ولو أنا تتبعنا تفاصيل ما يجري في هذه الحفلات لرأيناها كلها تدور على محور هذا اللعب والمجون، ولرأينا بعد الشق بين هذه الملهاة الموسمية، وبين جد الحياة الطبيعية وقدسيتها عندهم، إنه لمن السخرية والتهكم إذن أن يعرض علينا هذا المسرح المتهتك باسم المحراب المقدس للأديان، وإنه لمن العجيب حقا أن الفيلسوف الذي جعل معيار الأشياء المقدسة هو حرمة انتهاكها، يجعل مظهر انتهاكها أو الترخص فيها هو مظهر الدين وجوهره، قائلا: «إنه لا تكاد تلتمس الظاهرة الدينية فيما سواه.»
ونعود الآن فنسلم جدلا جميع المقدمات التي ناقشناها.
نسلم صدق روايات الرحالة والسائحين، ونسلم براءتها من التناقض والاختلاف، ونسلم استقامة تفسيرها للوقائع، ونسلم صلاحية الديانات البدائية لتعريف فكرة الدين بوجه عام، ونسلم أن نظام القبيلة يمثل النظام البدائي، ونسلم أن نظام أستراليا الوسطى هو أقدم نظام للقبائل، ونسلم أن النظام التوتمي نظام ديني، ونسلم أن هذه التجمعات والاحتفالات دينية في جوهرها وأهدافها ...
نسلم هذا كله، ولكن يبقى أن نعرف هل توصلنا هذه المقدمات مجتمعة إلى النتيجة المطلوبة، وهي أن الدين في جملته نظام اجتماعي، بمعنى أنه خلقته الجماعة ليعود إليها بالعبادة والتقديس؟
إننا نبصر ها هنا هوة سحيقة بين النتيجة ومقدماتها، ونرى أن الاستنتاج يطفر بنا من مقدمات نحيلة إلى دعوى عريضة فضفاضة، ولنسجل في هذا المعنى اعترافا قيما لأحد أعضاء المدرسة الاجتماعية نفسها، حيث يقول في مقدمة ترجمته لكتاب في تاريخ الأديان ما نصه:
إنه لا يكفي أن يقال إن الظواهر الدينية تحدث في جماعة وتختلف باختلاف الجماعات، لإثبات أنها ظواهر اجتماعية حقيقية ... فالظواهر الاجتماعية الحقيقية - كما نشاهده في القوانين والقواعد الاقتصادية - ذات وجود خارجي مستقل عن أفراد الجماعة؛ ونشاط الأفراد فيها إنما يحدده أو يعدله مجرد تجاورهم وتعاونهم من غير أن يكون لهم شعور بها أو موافقة عليها، فهل الظواهر الدينية ظواهر اجتماعية بهذا المعنى؟
لا شك أن جانبا كبيرا منها يبدو لنا كذلك، وهو جانب الأنظمة والشعائر العملية، التي حددت في قواعد ثابتة، والتي تظل مستمرة على الرغم من إرادة الأفراد وآرائهم.
ولكن هل هذه الحالات الجماعية التلقائية هي الحالات الجوهرية في الدين؟ وهل هي أعظم وأقدم وأشمل ظواهر الدين؟ إنه قد يغرينا على الجواب بالإيجاب اقتصارنا على اعتبار الديانات القديمة أو البدائية؛ لأن بعدها عنا يمحو في نظرنا فوارق الأفراد فيها، وينظمهم في الكتلة الاجتماعية للشعب، أما إذا درسنا الظواهر الدينية وهي ماثلة أمامنا، وفي ديانة يشترك فيها الأفراد بقلوبهم إلى حد ما، فإن ذلك يقودنا بالطبع إلى أن نخصص جانبا عظيما منها للابتكار الفردي.
27
هكذا استدرك أنصار النظرية على مؤسسها، بأنه ينبغي فيها التقسيم لا التعميم، وأنه إذا كان الجانب السطحي من الدين - أعني: رسومه ونظمه العملية - يعد ظاهرة اجتماعية؛ لأنه يحمل طابع الإلزام الجمعي، وليس للفرد اختيار في تكوينه، فإن القسم الرئيسي منه - وهو قسم الاعتقادات والتصورات - يأبى بطبيعته أن يكون اعتناق الفرد إياه ضربة لازب من خارج ، لا يجد فيها أدنى تجاوب مع أفكاره ووجداناته وأحاسيسه.
ذلك، ولو أمعنا النظر قليلا لرأينا عبء الإلزام الجمعي في الشعائر الظاهرية نفسها إنما يقاسيه الفرد في ديانة قد تكونت واستقرت، واعتنق هو مبادئها أو انتسب إليها من قبل، وليس هذا مجال بحثنا، ولا موضوع دراستنا. وإنما الشأن في نشأة الدين ومبدأ ظهوره.
فهل سمع أحد بديانة ناشئة تحمل تعاليم جديدة، وتدعو إلى شعائر غير مألوفة يكون موقف الجماعة منها موقف حمل الأفراد عليها، وإلزامهم بها؟ أم يكون موقفها موقف المناهضة لها، والمقاومة العنيفة لداعيها؟ حدثينا أيتها التواريخ! وتكلمي أيتها الوقائع! وانطقي أيتها التجارب! ليسمع الذين يبنون نظرياتهم - فيما زعموا - على التواريخ والوقائع والتجارب.
بل هلم إلى الأعجوبة الكبرى!
إن صاحب النظرية لا يكتفي بأن يكون الدين إلزاما أدبيا يفرضه المجتمع على الأفراد عقائد وعبادات أيا كان موضوعها وهدفها، إنه يريد أن يكون موضوع العقيدة وهدف العبادة هو الجماعة نفسها، وأن يكون الشعور الديني في نفس الفرد ما هو إلا انطباع آلي لصورة الجماعة في وعيه محوطة بهالة من التقديس، لما لها عليه من فضل في قوام حياته والدفاع عن كيانه، وأنه من أجل ذلك تختلف فكرة الإله وحدود سلطانه عند الجماعات باختلاف رقعة المجتمع ضيقا واتساعا. فإذا اختلطت العشائر واندمجت في فصيلة، ثم الفصائل في قبيلة، ثم القبائل في شعب، تطورت معها فكرة الإله تدريجيا ... حتى يصبح إله شعب برمته.
28
فليقل لنا إذا: من أين جاءت إلينا فكرة «الإله الأكبر» فاطر السماوات والأرض، وعلى غرار أي جماعة طبعت هذه الصورة؟ ثم ليقل لنا: كيف قامت الدعوات في أصغر الشعوب إلى تلك العقيدة الإلهية السامية التي ليس لها مثال تقاس عليه في مجتمعاتهم ولا في غيرها؟ إذ لا يزال بين الإنسانية كلها، بل بين العالم أجمع، وبين هذه الصورة العليا فراغ لا يمكن أن تملأه جماعة حقيقية ولا خيالية.
إننا نعود فنسجل اعترافا أخيرا من أصحاب هذه النظرية: «إن إقامة برهان شاف على الطابع الاجتماعي للدين لا تزال أمرا غير ممكن .»
29
أما بعد، فإننا لا ننكر كل أثر للجماعات في شأن الأديان.
إن الدين «كاللغة، وأسلوب التفكير، وأدوات التعامل، وغير ذلك من مقومات المجتمع» هو أحد أعصاب الحياة الجمعية وشرايينها، بل هو أقوى عناصرها، ومن ذا الذي ينكر أن الجماعة هي حارسة تلك المقومات، وأنها هي منهلها المورود للأجيال الحاضرة، وناقلتها إلى الأجيال المقبلة؟
غير أن المسألة في صيانة الأديان القائمة وتخليدها، بل في نشأة الديانات الجديدة وتكوينها.
ثم لا ننكر ما للجماعات من أثر خطير في التمهيد لهذه النشأة والتمكين لها؛ فالأمم حين تقف في مفترق الطرق بين القديم والجديد تستطيع في بعض لحظاتها التاريخية أن تغير مجرى تاريخها بقبولها للدين الجديد أو برفضها إياه، والداعي الذي لا يحسب إمكانيات أمته ومؤهلاتها إنما هو كواضع البذر في أرض سبخة لا يلبث نباتها أن يجتث من فوقها فلا يبقى له قرار، أو كالذي يعطي المريض طعاما لا تطيقه أمعاؤه فلا يلبث أن يلفظه.
إلا أنه لن يسوغ لنا - بهذا الاعتبار - أن نقول: إن العقل الجمعي هو الذي يخلق الأديان ويبرزها إلى الوجود، إلا لو ساغ لنا أن نقول: إن المعدة هي التي تخلق الطعام، وإن البصر هو الذي يحدث الضياء، وإن المريض هو الذي يبذل الدواء ... تلك كلها لا شك شروط ضرورية، ولكنها - كما يقول أهل المنطق - ليست شروطا كاملة، أو ليست أسبابا تامة؛ إذ لا بد من تعاون متبادل بين الطبيب والمريض، بين الباذل والآخذ، بين الفاعل والقابل، وإذا صح أن يقال: إن الأمم تخلق زعماءها، فمن الحق أيضا - وبالطريق الأحرى - أن الزعماء تخلق أممها. والأمة تلد زعيمها ولادة طبيعية، وتهيئ له وسائل تلك الزعامة؛ والزعيم يلدها بعد ذلك ولادة أخرى: روحية، أو سياسية، أو عسكرية، أو فنية، أو غير ذلك.
الأمة تمثل خصوبة التربة وسلامة الأداة، والزعيم يضع البذر ويسقيه، ويتعهده وينميه، والزعيم يحرك الأداة ويوجهها، ويرسم طريقها، ويقف بها عند أهدافها، بل كثيرا ما يضيء لها هو تلك الأهداف ويحددها؛ وذلك حيث تكون حاجات الأمة غامضة مشتبكة الطرق ، غير واضحة المعالم في العقل الجمعي، فتبقى متلهفة إلى رجل الساعة الموهوب الذي يتركز فيه وعيها، وتتحدد في نفسه حاجاتها، ويكون له من الحدس أو الإلهام أو الوحي ما ينشر به وسائل تحقيقها، ويملك من العزم والحزم ما يحكم به قيادتها ويبلغها إلى أهدافها، فإذا ظفرت به وألقت إليه بالمقاليد فقد أصابت رشدها، وفتحت لنفسها صفحة جديدة من القوة والمجد، أما إذا تشعبت عليها الطرق، واختلف الزعماء، ولم يستبن لها وجه الاختيار، أو أنها أساءت الاختيار فأهملت داعيها الرشيد أو أنكرته وقضت عليه بالإخفاق أو الموت - لا لأن دعوته تتنافر وطبيعتها، بل لأنها جهلت حقيقة نفسها، وطاشت أحلامها - فإنها تكون حينئذ قد سلكت طريق شقائها، وآثرت الانتحار على الحياة من حيث لا تشعر.
وهكذا يكون من المكابرة وإنكار البداهة جحد أثر الأفراد في أديان الجماعة ونظمها؛ كما يكون من المكابرة وإنكار البداهة نفي أثر الجماعات فيها.
غير أن أخشى ما نخشاه من الغلو في إبراز هذا الجانب الجمعي من تلك الحقيقة المزدوجة، أن يبعث في نفوس الأمة نزعة جبرية مثبطة، تحمل أفرادها على القعود والتواكل، انتظارا لما في الوعي الجمعي من الطاقات الكامنة والأسباب الغامضة، بدل ذلك النشيد الحماسي الذي يغري الأفذاذ بالنبوغ، ويملؤهم بالأمل في دفع الجماعة إلى الأمام. (6) المذهب التعليمي أو مذهب الوحي
تشترك المذاهب المتقدمة كلها في أن العقيدة الإلهية وصل إليها الإنسان بنفسه، عن طريق عوامل إنسانية - سواء أكانت تلك العوامل من نوع الملاحظات والتأملات الفردية، أم من نوع جنس التأثيرات والضرورات الاجتماعية اللاشعورية.
في الطرف المقابل لهذه النظريات كلها يقرر المذهب التعليمي أن الأديان لم يسر إليها الإنسان بل سارت هي إليه، وأنه لم يصعد إليها بل نزلت عليه، وأن الناس لم يعرفوا ربهم بنور العقل بل بنور الوحي.
هذه النظرية التي أخذت بها أوروبا طوال القرون الوسطى، وأيدها بعض علماء التاريخ حتى في القرن التاسع عشر، لا تزال هي المذهب السائد عند كبار رجال الدين عندهم، كما أننا نجد في الكتب السماوية مصداق الجانب الإيجابي منها.
فهذه الكتب تقرر أن الله سبحانه لما خلق أبا البشر كرمه وعلمه حقائق الأشياء، وكان فيما علمه: أنه هو خالق السماوات والأرض وما فيهما، وأنه هو خالق الناس ورازقهم، وأنه هو مولاهم الذي تجب طاعته وعبادته، وأنه سيعيدهم إليه ويحاسبهم على ما قدموا، ثم أمره أن يورث علم هذه الحقيقة لذريته؛ ففعل وكانت هذه العقيدة ميراث الإنسانية عن الإنسان الأول.
نعم، إن الناس لم يكونوا كلهم أوفياء بهذه الوصية المقدسة، بل إن أكثرهم وقع في الضلال والشرك، ولكن هذا التعليم الأعلى لم يمح أثره محوا تاما من البشرية، ولذلك ظلت فكرة الألوهية والعبادة بوجه عام مستمرة في جميع الشعوب، على أن العناية السماوية بهذا التعليم الروحي لم تقف به عند الإنسان الأول، بل ما زالت تتعهد به الأمم في فترات تقصر أو تطول، وجعلت تذكرهم به على لسان سفراء الوحي من الأنبياء والمرسلين، وإن كتب الديانات العظمى لتنتسب كلها إلى هذا المصدر السماوي.
الفصل الخامس
نظرة جامعة
والآن - وقد طوفنا بك في مسالك متشعبة من الرأي في أصل العقيدة ومنشئها - نريد أن نلقي معك نظرة شاملة، نضم بها أطراف البحث، ونحاول فيها التوفيق بين مختلف مذاهبه.
وسيكون سبيلنا في هذا التوفيق - بعد أن ننحي نظريتين اثنتين
1
من هذه النظريات - أن نحتفظ من كل نظرية بجانبها الإيجابي - أعني: إثباتها لصحة مسلكها - دون جانبها السلبي - وهو: إنكارها لسائر المناهج - وبذلك يعود الاختلاف بينها اختلاف تعاون وتكامل، لا اختلاف تعاند وتناقض.
والواقع الذي لا مرية فيه هو أن مطلب الألوهية مطلب توافرت عليه الفلسفات والنبوات، وأن دلائله البرهانية ماثلة في الأنفس وفي الآفاق، وأن بواعثه النفسية مركوزة في العقول وفي الوجدانات. غير أن الناس ليسوا على درجة سواء في سرعة الاقتناع بكل هذه الدلائل، ولا في تيقظ انتباههم بكل هذه الوسائل، فرب امرئ يغلب عليه الانطواء على نفسه فيتأثر بالإيحاء الذاتي أكثر مما يؤثر فيه الإيحاء الخارجي، وآخر على عكس ذلك. والمتأثرون بالأحداث الخارجية فيهم من يأسر لبه جمال المشاهد وجلالها ، ومن لا يهز قلبه إلا قوارعها ومروعاتها ، ورب امرئ يعنى من هذه الأحداث بجانبها النفسي الإنساني، وآخر يهتم بجانبها المادي العالمي.
والمنطوون على أنفسهم منهم من يغلب تفكيره وجدانه، ومنهم من تغلب عاطفته فكرته ... وإلى ذلك كله، فمن الناس من تلفته نظرة عابرة أو لمحة خاطفة، ومن لا يتنبه إلا بصدمة عنيفة أو أزمة شديدة، ومن لا تكون عقيدته إلا من تضافر جملة من العوامل المختلفة، ومن لا يمر على كل هذه الدلائل وهو غافل، فلا تستيقظ فيه بواعث الاعتقاد حتى تبين له الدلائل تبينا، أو يلقنها تلقينا. وهل الباحثون الذين عرضنا نظرياتهم آنفا إلا آحاد من الناس، يغلب على كل واحد منهم مزاجه الخاص في الاستنباط، وأسلوبه المختار في الاقتناع؟ فكان من الطبيعي أن يبدأ كل منهم عقيدته من الطريق الذي هو أكثر إليه تنبها، وأشد له إلفا، وأقوى به تأثرا، ثم تتلاحق عليه الدلائل الأخرى بعد ذلك.
وهكذا، كان منهم من استمد إيمانه من تأملاته في مشاهد الطبيعة، وآخر كانت عقيدته وليدة تجاربه في عالم الأرواح، وثالث استيقظ وعيه الديني من ملاحظة نفسية في حياته العادية، ورابع من تحليله لبعض المعاني العقلية، وخامس استنتاجا من القوانين الأخلاقية، وسادس لم يرفع رأسه إلى هذه الحقائق العليا إلا بعد أن تلقاها من طريق التعاليم الدينية. وهذه كلها طرق مؤدية للغاية، وإنما عرض الخطأ لهؤلاء المفكرين الذين شرحنا نظرياتهم آنفا من جهة أن كل واحد منهم حين وصف الطريق التي سلكها، نسي سائر الطرق، وجعل الأولية التي أحسها من نفسه لبعض الدلائل أولية لها عند الكافة، فاتخذ نفسه مقياسا عالميا بغير بينة، ولو أن كل باحث وقف بالنتيجة عند ما تثبته مقدماتها لقرر أن المنهج الذي سلكه إنما يصور نشأة العقيدة عنده وعند من يشاكله في مشربه، ولكنهم جعلوا هذه الحقائق النسبية حقائق مطلقة، فكان ذلك مثار النزاع والاختلاف.
ولو أننا طلبنا الحق المجرد في هذه المسألة لألفيناه ينتظم في كلمتين: (1)
أن آيات الألوهية مبثوثة في كل شيء. (2)
أن كل فئة من الناس لها طريق مسلوك في الاسترشاد ببعض تلك الآيات قبل بعض.
وهذه الحقيقة المزدوجة يقررها القرآن في أوضح بيان؛ حيث يقول في المقدمة الأولى:
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم (الجاثية: 3)
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم (الذاريات: 20)،
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم (فصلت: 53)، ويقول في المقدمة الثانية:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (المائدة: 48)،
ولكل وجهة هو موليها (البقرة: 148)،
ولكل قوم هاد (الرعد: 7).
ولا جرم أنه من أجل هذا الاختلاف في وسائل الاقتناع عند الناس، تنوعت في القرآن وسائل الدعوة إلى الله، وصرفت فيه الآيات تصريفا بليغا، حتى إن الذي يستعرض أساليب الهداية القرآنية إلى عقيدة الألوهية يجدها قد أحاطت بأطراف هذه المسالك، وأشبعت تلك النزعات جميعا، بل ربما زادت في كل منهج عناصر جديدة، لم يفطن إليها الباحثون المذكورون.
فإن شئت التحقق فإليك نماذج قرآنية من هذه المناهج على الترتيب:
اقرأ في المنهج الطبيعي، أمثال قوله تعالى:
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (ق: 7)، وقوله:
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه (الأنعام: 99)، وقوله:
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا (الأنعام: 96)، وقوله:
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (القصص: 71-72).
ويزيد القرآن في هذا الباب عنصرا جديدا، وهو عنصر الاختلاف بين المتشابهات، اختلافا لم يتهيأ للعلم البشري معرفة أسبابه، ولا التحكم في عوامله، ولا التنبؤ به قبل ظهوره؛ لأنه - كما يقول «وليم جيمس» - يرتبط بأحوال ذرية دقيقة لا تخضع لشيء من أنواع الملاحظة، ولأنه لا يتبع حالة خاصة من أحوال البيئة الطبيعية ونحوها، بل يجيء مع كل الحالات الممكنة لهذه البيئة، ومع ذلك كله تراه يسير في نظام غاية في الإحكام.
هذا الاختلاف البديع من اتحاد البيئة والعوامل الطبيعية الظاهرة، تجد التنبيه على موضع العبرة منه في قوله تعالى:
وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل (الرعد: 4)، وقوله:
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم (الروم: 22)،
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك (فاطر: 27).
وأخيرا يعنى القرآن عناية خاصة، في هذا الجانب التكويني، بظاهرة الحياة التي حيرت العلماء، فيقول:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم (البقرة: 28)، ويقول:
أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون * أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (الواقعة: 59)، ويقول:
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها (الروم: 50).
هذا كله في الشطر الأول من المنهج الطبيعي.
فإذا انتقلت إلى الشطر الثاني منه تجد أمثال قوله تعالى:
ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا (الروم: 24)، وقوله:
ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء (الرعد: 13)، ثم لا يكتفي القرآن ها هنا بالتنبيه إلى الحوادث المروعة الواقعة بالفعل، بل يضيف إليها الإنذار بالأحداث المتوقعة أو المحتملة، فيقول:
أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (الأعراف: 98)، ويقول:
أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض (سبأ: 9).
أما المنهج الروحي فترى عناصره مبثوثة أيضا في كثير من الآيات؛ فمبدأ: استقلال الروح البشري وانفصاله عن الجسم وعن الروح الحيواني في هذه الحياة، ومبدأ: بقاء هذا الروح الإنساني بعد الموت في حالة برزخية بين الدنيا والآخرة، ومبدأ: تعلق أرواح الموتى بشئون أهل الدنيا ... هذه المبادئ كلها نراها مقررة في مثل قوله تعالى:
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى (الأنعام: 60)، وقوله:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها (الزمر: 42)، وقوله:
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم (آل عمران: 170)، وقوله في شأن أهل الشقاوة وهم في قبورهم:
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا (غافر: 46).
ذلك إلى ما يقرره القرآن في غير موضع من وجود أرواح أخرى مستقلة عن العالم الإنساني، ولكنها تتصل بشئونه، ويسخرها الله في تدبير أحواله، تارة بالنصر والتأييد، وتارة بغير ذلك. اقرأ قصة الجن في السورة المسماة بهذا الاسم، وفي سورة الأنبياء، وسورة النمل، وسورة سبأ ... واقرأ أخبار الملائكة في السورة المسماة بهذا الاسم، وهي سورة فاطر، أو السور الأخرى، مثل سورة آل عمران، وسورة الأنعام، وسورة الأنفال، وغيرهن.
وكذلك المذاهب النفسية نرى منهاجها مستعملا في القرآن حين يشير إلى قصور الإرادات الإنسانية عن بلوغ أهدافها، وإلى عجز الإنسان أمام المقادير العليا وضرورة استسلامه لها، في قوله تعالى:
أم للإنسان ما تمنى * فلله الآخرة والأولى (النجم: 24)، وقوله:
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة (القصص: 68)، وقوله:
أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون * أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذلك زعيم (القلم: 40).
ويزيد القرآن في هذا المعنى عنصرا آخر عظيم الدلالة على الألوهية، وهو تحول الإرادات الإنسانية عن أهدافها، حين تنقلب كراهيتها محبة، وعداوتها ألفة، واستهجانها استحسانا، وثورتها سكونا، من غير أن يكون للأسباب الطبيعية مدخل معقول في هذا التحول، وفي ذلك يقول الله تعالى:
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم (آل عمران: 103)، ويقول:
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم (الأنفال: 63)، ويقول:
فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين (الفتح: 26)، ويجمع ذلك كله قوله سبحانه:
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه (الأنفال: 24).
حتى المذهب الأخلاقي نجد لبه وجوهره في القرآن حيث يقول الله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها (الشمس : 7، 8).
بل المذهب الاجتماعي نفسه إذا عدنا إلى أساسه الصحيح، وهو تقرير ما للبيئة والوراثة من سلطان بليغ على نفوس الأفراد، وما لها من أثر في تكوين آرائهم وعقائدهم؛ يسجله القرآن حقيقة واقعة:
بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا (البقرة: 170)،
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (الزخرف: 23) ... إلا أن القرآن حين يقرر هذا الأمر الواقع لا يذكره إلا في معرض التقريع والذم، ناعيا على العامة رضاهم بما فيه من استعباد فكري، وهبوط عن عرش الكرامة الإنسانية إلى مستوى القطعان من الماشية التي تسير وراء كل ناعق،
أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (البقرة: 170)،
فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (الزمر: 18)، وفي هذا المعنى تقول الحكمة النبوية: «لا تكونوا إمعة: تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا.»
2
أما كيف تتحرر العقول من هذا الأسر الاجتماعي القاهر، فإن القرآن يعلن أنه ليس لذلك إلا وسيلة واحدة، وهي التفكير الفردي الهادئ، المتحرر من كل القيود إلا قيود البداهة والمنطق السليم:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا (سبأ: 46).
3
وأخيرا نرى المذهب التعليمي ساريا في القرآن كله، إلى جانب ما فيه من التوجيه المستمر إلى الاعتبار بتلك الآيات الواضحة، والدلائل اللائحة، في الأنفس والآفاق. فالقرآن يقرر أن الرحمة الإلهية لم تكتف بدلائل العقل، حتى أيدتها بشواهد النقل، وأنها قطعت حجة كل غافل وكل متواكل، فأرسلت
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (النساء: 165)،
وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (الأعراف: 173)، هكذا يلتقي في محيط القرآن ما رأيناه قد تشعب عند العلماء من مسالك الاعتبار، ومذاهب البحث والنظر.
وإنه لن يسع الباحث المنصف، متى تحقق من هذه الإحاطة العلمية الشاملة، إلا أن يرى فيها آية جديدة على أن القرآن المجيد ليس صورة لنفسية فرد، ولا مرآة لعقلية شعب، ولا سجلا لتاريخ عصره، وإنما هو كتاب الإنسانية المفتوح ، ومنهلها المورود. فمهما تتباعد الأقطار والعصور، ومهما تتعدد الأجناس والألوان واللغات، ومهما تتفاوت المشارب والنزعات؛ سيجد فيه كل طالب للحق سبيلا ممهدا، يهديه إلى الله على بصيرة وبينة.
ولقد تركناها آية فهل من مدكر (القمر: 15).
وبعد فإتماما للفائدة، قد ألحقنا هذا البحث القيم الخاص بموقف الإسلام من الأديان الأخرى بهذا الكتاب، وكان قد أعده المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز لإلقائه في الندوة العالمية للأديان التي عقدت ب «لاهور» بباكستان وذلك في جمادى الآخرة سنة 1377ه/يناير سنة 1958م. (1) موقف الإسلام من الأديان الأخرى، وعلاقته بها
إذا أخذنا كلمة «الإسلام» بمعناها القرآني نجدها لا تدع مجالا لهذا السؤال عن العلاقة بين الإسلام وبين سائر الأديان السماوية، فالإسلام في لغة القرآن ليس اسما لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء وانتسب إليه كل أتباع الأنبياء، هكذا نرى نوحا يقول لقومه:
وأمرت أن أكون من المسلمين (سورة يونس، الآية: 72)، ويعقوب يوصي بنيه:
فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (سورة البقرة، الآية: 132)، وأبناء يعقوب يجيبون أباهم:
نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (سورة البقرة، الآية: 133)، وموسى يقول لقومه:
إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (سورة يونس، الآية: 84)، والحواريون يقولون لعيسى:
آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (سورة آل عمران: 52)، بل إن فريقا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن:
قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (سورة القصص: 53).
وبالجملة نرى اسم الإسلام شعارا عاما يدور في القرآن على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية، ثم نرى القرآن يجمع هذه القضايا كلها في قضية واحدة يوجهها إلى قوم محمد
صلى الله عليه وسلم ، ويبين لهم فيها أنه لم يشرع لهم دينا جديدا، وإنما هو دين الأنبياء من قبلهم:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (سورة الشورى ، الآية: 13)، ثم نراه بعد أن يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد، ويجعل منهم جميعا أمة واحدة لها إله واحد كما لها شريعة واحدة:
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (سورة الأنبياء: 92).
ما هذا الدين المشترك الذي اسمه الإسلام، والذي هو دين كل الأنبياء والمرسلين؟ إن الذي يقرأ يعرف كنه هذا الدين، إنه هو التوجه إلى الله رب العالمين في خضوع خالص لا يشوبه شرك، وفي إيمان واثق مطمئن بكل ما جاء من عنده على أي لسان وفي أي زمان أو مكان، دون تمرد على حكمه، ودون تمييز شخصي أو طائفي أو عنصري بين كتاب وكتاب من كتبه، أو بين رسول ورسول من رسله، هكذا يقول القرآن:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (سورة البينة، الآية: 5)، ويقول:
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (سورة البقرة: 136).
نقول إذن: إن الإسلام بمعناه القرآني الذي وصفناه لا يصلح أن يكون محلا للسؤال عن علاقة بينه وبين سائر الأديان السماوية؛ إذ لا يسأل عن العلاقة بين الشيء ونفسه، فها هنا وحدة لا انقسام فيها ولا اثنينية.
غير أن كلمة «الإسلام» قد أصبح لها في عرف الناس مدلول معين، هو مجموعة الشرائع والتعاليم التي جاء بها محمد
صلى الله عليه وسلم
أو التي استنبطت مما جاء به، كما أن كلمة اليهودية أو الموسوية تخص شريعة موسى وما اشتق منها، وكلمة النصرانية أو المسيحية تخص شريعة عيسى وما تفرع منها.
فالسؤال الآن إنما هو عن الإسلام بمعناه العرفي الجديد، أعني: عن العلاقة بين المحمدية وبين الموسوية والمسيحية.
وللإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نقسم البحث إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى:
في علاقة الشريعة المحمدية بالشرائع السماوية السابقة وهي في صورتها الأولى لم تبعد عن منبعها، ولم يتغير فيها شيء بفعل الزمان ولا بيد الإنسان.
المرحلة الثانية:
في علاقته بها بعد أن طال عليها الأمد، وطرأ عليها شيء من التطور.
أما في المرحلة الأولى:
فالقرآن يعلمنا أن كل رسول يرسل، وكل كتاب ينزل؛ قد جاء مصدقا ومؤكدا لما قبله؛ فالإنجيل مصدق ومؤيد للتوراة، والقرآن مصدق ومؤيد للإنجيل والتوراة ولكل ما بين يديه من الكتب:
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون * وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (سورة المائدة، الآيات: 46، 47، 48)،
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (آل عمران، الآية: 81).
غير أن ها هنا سؤالا يحق للسائل أن يسأله:
أليست قضية هذا التصادق الكلي بين الكتب السماوية أن تكون الكتب المتأخرة إنما هي تجديد للمتقدمة وتذكير بها، فلا تبدل فيها معنى، ولا تغير حكما، وإلا كيف يقال: إنها تصدق ... إلخ، بينما هي تبدل وتعدل، وإذا كان من قضية التصادق الكلي بين الكتب ألا يغير المتأخر منها شيئا من المتقدم، فهل الواقع هو ذلك؟
الجواب: ليس الواقع ذلك، فقد جاء الإنجيل بتعديل بعض أحكام التوراة؛ إذ أعلن عيسى أنه جاء ليحل لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم:
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (آل عمران، الآية: 50)، وكذلك جاء القرآن بتعديل بعض أحكام الإنجيل والتوراة؛ إذ أعلن أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
جاء ليحل للناس كل الطيبات، ويحرم عليهم كل الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم:
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (سورة الأعراف، الآية: 157).
ولكن يجب أن يفهم أن هذا وذاك لم يكن من المتأخر نقضا للمتقدم، ولا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها، وإنما كان وقوفا بها عند وقتها المناسب وأجلها المقدر ... مثل ذلك مثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته فقرر قصر غذائه على اللبن، وجاء الثاني إلى الطفل في مرحلته التالية فقرر له طعاما لبنا وطعاما نشويا خفيفا، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأذن له بغذاء قوي كامل.
لا ريب أن ها هنا اعترافا ضمنيا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقا كل التوفيق في علاج الحال التي عرضت عليه ... نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها لا تختلف باختلاف الإنسان، فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين.
هكذا الشرائع السماوية كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها، وكلها يصدق بعضها بعضا من ألفها إلى يائها، ولكن هذا التصديق على ضربين: تصديق القديم مع الإذن ببقائه واستمراره، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية؛ ذلك أن الشرائع السماوية تحتوي على نوعين من التشريعات: «تشريعات خالدة» لا تتبدل بتبدل الأصقاع والأوضاع - كالوصايا التسع
4 - ونحوها، فإذا فرض أن أهل شريعة سابقة تناسوا هذا الضرب من التشريع جاءت الشريعة اللاحقة بمثله - أي: أعادت مضمونه تذكيرا وتأكيدا له - «وتشريعات موقوتة» بآجال طويلة أو قصيرة فهذه تنتهي بانتهاء وقتها وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة ... وهذا - والله أعلم - هو تأويل قوله تعالى:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (سورة البقرة، الآية: 106).
ولولا اشتمال الشريعة السماوية على هذين النوعين ما اجتمع فيها العنصران الضروريان لسعادة المجتمع البشري: عنصر الاستمرار الذي يربط حاضر البشرية بماضيها، وعنصر الإنشاء والتجديد الذي يعد الحاضر للتطور والرقي اتجاها إلى مستقبل أفضل وأكمل.
ونحن إذا نظرنا نظرة فاحصة إلى سير التشريع السماوي من خلال الشرائع الثلاث نجد فيها هذين العنصرين واضحين كل الوضوح؛ إذ نجد كل شريعة جديدة تحافظ على الأسس الثابتة التي أرستها الشريعة السابقة، ثم تزيد عليها ما يشاء الله زيادته.
نرى شريعة التوراة مثلا قد عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك «لا تقتل» و«لا تسرق» ... إلخ. ونرى الطابع البارز فيها هو طابع تحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة بينها ... ثم نرى شريعة الإنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه المبادئ الأخلاقية وتؤكدها، ثم تترقى فتزيد عليها آدابا مكملة: «لا تراء الناس بفعل الخير، أحسن إلى من أساء إليك»، ونرى الطابع البارز فيها التسامح والرحمة والإيثار والإحسان ... وأخيرا تجيء شريعة القرآن فنراها تقرر المبدأين كليهما في نسق واحد:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان (سورة النحل، الآية: 90) مقدرة لكل منهما درجته في ميزان القيم الأدبية مميزة بين المفضول منهما والفاضل:
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله (سورة الشورى، الآية: 40)،
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (سورة النحل، الآية: 126)، ثم نراها وقد أضافت إليها فصولا جديدة صاغت فيها قانون آداب اللياقة، رسمت بها مناهج السلوك الكريم في المجتمعات الرفيعة في التحية والاستئذان، والمجالسة والمخاطبة إلى غير ذلك ... كما نراه في سورة النور والحجرات والمجادلة.
هذا مثال من أمثلة الجمع في سير التشريعات السماوية بين عنصر المحافظة على القديم الصالح، وعنصر الأخذ بالجديد الأصلح. والأمثلة كثيرة لا يتسع لها نطاق هذا البحث.
هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع، وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أنها أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ، وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء، وصدق الله وصف خاتم أنبيائه بأنه:
جاء بالحق وصدق المرسلين (سورة الصافات، الآية: 37)، وحين وصف اليوم الأخير من أيامه بأنه كان إتماما للنعمة وإكمالا للدين:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي (سورة المائدة، الآية: 3)، وصدق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» (البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين) عن أبي هريرة (رقم 3271).
إنها إذن سياسة حكيمة رسمتها يد العناية الإلهية، لتربية البشرية تربية تدريجية لا طفرة فيها ولا ثغرة، ولا توقف فيها ولا رجعة، ولا تناقض ولا تعارض، بل تضافر وتعانق، وثبات واستقرار، ثم نمو واكتمال وازدهار.
وننتقل الآن إلى المرحلة الثانية: «المرحلة الثانية» في بحث العلاقة بين الشريعة المحمدية والشرائع السماوية بعد أن طال الأمد على هذه الشرائع، فنالها شيء من التطور والتحرر.
رأينا في المرحلة السابقة كيف كان القرآن يعلن عن نفسه دائما أنه جاء «مصدقا لما بين يديه من الكتب»، ونرى الآن أن القرآن أضاف إلى هذه الصفة صفة أخرى؛ إذ أعلن أنه جاء أيضا «مهيمنا» على تلك الكتب
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (سورة المائدة، الآية: 48) أي: حارسا أمينا عليها ... ومن قضية الحراسة الأمينة على تلك الكتب ألا يكتفي الحارس بتأييد ما خلده التاريخ فيها من حق وخير، بل عليه - فوق ذلك - أن يحميها من الدخيل الذي عساه أن يضاف إليها بغير حق، وأن يبرز ما تمس إليه الحاجة من الحقائق التي عساها أن تكون قد أخفيت منها.
وهكذا كان من مهمة القرآن أن ينفي عنها الزوائد، وأن يتحدى من يدعي وجودها في تلك الكتب:
قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (سورة آل عمران، الآية: 93)، كما كان من مهمته أن يبين ما ينبغي تبينه مما كتموه منها:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب (سورة المائدة، الآية: 15).
وجملة القول أن علاقة الإسلام بالديانات السماوية في صورتها المنظورة علاقة تصديق لما بقي من أجزائها الأصلية، وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والإضافات الغريبة عنها.
هذا الطابع الذي تتسم به العقيدة الإسلامية، وهو طابع الإنصاف والتبصر الذي يتقاضى كل مسلم ألا يقبل جزافا، ولا ينكر جزافا، وأن يصدر دائما عن بصيرة وبينة في قبوله ورده، ليس خاصا بموقفها من الديانات السماوية، بل هو شأنها أمام كل رأي وعقيدة، وكل شريعة وملة، حتى الديانات الوثنية نرى القرآن يحللها ويفصلها، فيستبقي ما فيها من عناصر الخير والحق والسنة الصالحة، وينحي ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة.
أما بعد، فهذا هو موقف الإسلام من الديانات الأخرى من الوجهة النظرية، وقد بقي أن نبحث عن موقفه من الوجهة العملية.
هل يقف منها موقف السكوت عليها والإغضاء عنها اكتفاء بالأمر الواقع؟
أم هل يقف موقف المحارب المقاتل الذي لا يهدأ له بال حتى يطهر الأرض منها ومن أهلها؟
قليل من الكتاب الغربيين يجيبنا بالشق الأول، حتى قال قائل منهم - جوتييه في كتاب أخلاق المسلمين وعوائدهم: «إن المسلم أناني، وإن الإسلام يشجعه على هذه الأنانية؛ فالمسلم لا يعنيه ضل غيره أم اهتدى، سعد أم شقي، ذهب إلى الجنة أم إلى السعير.»
وأكثر الكاتبين يجيبون بالشق الثاني، فالإسلام في نظر هؤلاء يريد أن يفرض نفسه على الناس بحد السيف، والقرآن في نظرهم يأمر المسلم بأن يضرب عنق الكافر أينما لقيه ...
الواقع أن كلا الفريقين لم يصب كبد الحقيقة في تصوره لموقف الإسلام.
ليس الإسلام فاترا ولا منطويا على نفسه - كما زعم الأقلون - فالدعوة إلى الحق والخير ركن أصيل من أركان الإسلام، والنشاط في هذه الدعوة فريضة مستمرة في كل زمان ومكان؛ يأمر الله نبيه بتبليغ كلامه، وبأن يبذل جهده في هذا التبليغ:
وجاهدهم به جهادا كبيرا (سورة الفرقان: 52)، والقرآن يحرض المؤمنين على هذه الدعوة:
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله (سورة فصلت: 33)، بل يجعل الفلاح والنجاة وقفا على هؤلاء الدعاة:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (سورة آل عمران: 104)،
إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (سورة العصر، الآيتان: 2، 3).
ولكن الإسلام في الوقت نفسه ليس - كما يزعم الأكثرون - عنيفا ولا متعطشا للدماء، وليس من أهدافه أن يفرض نفسه على الناس فرضا حتى يكون هو الديانة العالمية الوحيدة، فنبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم
هو أول من يعرف أن كل محاولة لفرض ديانة عالمية وحيدة هي محاولة فاشلة، بل هي مقاومة لسنة الوجود، ومعاندة لإرادة رب الوجود:
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (سورة هود، الآية: 18)،
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (سورة يوسف، الآية: 103)،
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (سورة يونس، الآية: 99)،
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء (سورة القصص، الآية: 56).
ومن هنا نشأت القاعدة الإسلامية المحكمة المبرمة في القرآن، قاعدة حرية العقيدة:
لا إكراه في الدين (سورة البقرة: 256)، ومن هنا رسم القرآن أسلوب الدعوة ومنهاجها فجعلها دعوة بالحجة والنصيحة في رفق ولين:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (سورة النحل، الآية: 125).
على أن الإسلام لا يكتفي منها بهذا الموقف السلمي السلبي - وهو عدم إكراه الناس على الدخول فيه - بل يتقدم بنا إلى الأمام فيرسم لنا خطوات إيجابية نكرم بها الإنسانية في شخص غير المسلمين.
هل ترى أسمى وأنبل من تلك الوصية الذهبية التي يوصينا بها القرآن في معاملة الوثنية التي هي أبعد الديانات عن الإسلام، فضلا عن الديانات التي تربطنا بها أواصر الوحي السماوي؟ اقرأ في سورة التوبة:
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه (سورة التوبة: 6) ... فأنت تراه لا يكتفي منا بأن نجير هؤلاء المشركين ونؤويهم ونكفل لهم الأمن في جوارنا فحسب، ولا يكتفي منا بأن نرشدهم إلى الحق ونهديهم طريق الخير وكفى، بل يأمرنا بأن نكفل لهم كذلك الحماية والرعاية في انتقالهم حتى يصلوا إلى المكان الذي يأمنون فيه كل غائلة.
ثم هل نرى أعدل وأرحم، وأحرص على وحدة الأمة وتماسكها من تلك القاعدة الإسلامية، التي لا تكتفي بأن تكفل لغير المسلمين في بلاد الإسلام حرية عقائدهم وعوائدهم، وحماية أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم، بل تمنحهم من الحرية والحماية، ومن العدل والرحمة قدر ما تمنحه للمسلمين من حقوق العامة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، شرح سنن النسائي للسندي.
ثم هل ترى أوسع أفقا، وأرحب صدرا، وأسبق إلى الكرم، وأقرب إلى تحقيق السلام الدولي والتعايش السلمي بين الأمم، من تلك الدعوة القرآنية التي لا تكتفي في تحديد العلاقة بين الأمم الإسلامية وبين الأمم التي لا تدين بدينها، ولا تتحاكم إلى قوانينها، لا تكتفي في تحديد هذه العلاقة بأن تجعلها مبادلة سلم بسلم:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (سورة الأنفال، الآية: 61)،
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (سورة النساء، الآية: 90)، بل تندب المسلمين أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف رحمة وبر، وعدل وقسط:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (سورة الممتحنة، الآية: 8).
ليس هذا هو كل شيء في تحديد الموقف الإنساني النبيل الذي يقفه الإسلام عمليا من غير أتباعه ... ولضيق المقام نكتفي بكلمة واحدة:
إن الإسلام لا يكف لحظة واحدة عن مد يده لمصافحة أتباع كل ملة ونحلة في سبيل التعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك، ولو على شروط يبدو فيها بعض الإجحاف ... ناهيك بالمثل الرائع الذي ضربه لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في هذا المعنى حين قال في الحديبية: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم 2529).
هذا هو مبدأ التعاون العالمي على السلام، يقرره نبي الإسلام، ورسول السلام.
المراجع
(1) في المكتبة العربية
المعاجم اللغوية:
القاموس المحيط.
ولسان العرب.
والمصباح، وغيرها.
الفهارس:
الفهرس لابن النديم.
كشف الظنون لحاجي خليفة.
الموسوعات:
دائرة المعارف العربية للبستاني.
دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي بك.
المؤلفات الخاصة:
ابن رشد: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. (طبع بالجزائر سنة 1942 مع ترجمته الفرنسية لجوتييه.)
المغفور له الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرزاق: الدين والوحي والإسلام (مطبعة عيسى الحلبي).
المغفور له الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرزاق: تمهيد لدراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية (مطبعة عيسى الحلبي).
المشير أحمد عزت باشا: الدين والعلم (لجنة التأليف 1948).
الدكتور حب الله: الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية (مطبعة عيسى الحلبي).
الأستاذ عباس العقاد: «الله» كتاب في نشأة العقيدة الإلهية (دار المعارف 1947).
عبد الرحمن عزام باشا: الرسالة الخالدة.
علي بدوي بك: تاريخ القانون.
الأستاذ علي النشار: نشأة الدين (دار نشر الثقافة بالإسكندرية 1949).
وليم جيمس: إرادة الاعتقاد، ترجمة الدكتور حب الله (مطبعة عيسى الحلبي). (2) في المكتبة الأوروبية
ARISTOTE: Ethique á Nicomaque (Paris, Garnier) .
ARISTOTE: Métaphysique (Paris, Belles, Lettres) .
BASTIDE, (Roger): Eléments de Sociologie religieuse (Paris, Colin, 1947) .
B. St-HILAIRE: Devoirs Mutuels de la Philosophie et de la Religion, dans Mahomet et le Koran (Paris, Didier, 1865) .
BERGSON: Les Deux Sources de la Morale et de la religion, (Paris, Alcan, 1932) .
BOUTROUX, (Emile): Morale et religion (Paris, Flammarion, 1925) .
BOUTROUX, (Emile): Sciece et religion (Paris, Flammarion 1947) .
BURNOUF, (Emile): Sciece des religions (Paris 1880) .
CHACHOIN: Evolution des idées religieuses et des religions (Paris, 1913) .
CHACHOIN: Evolution des idées religieuses et des religions .
COMTE, (Auguste): Cours de Philosophie
.
DESCARTES: Méditations .
DURKHEIM: Forme Elémentaires de la Vie religieuse (Paris, Alcan, 1937) .
DURKHEIM: Les Régles de la Méthode Sociologique (Paris, Alcan, 1927) .
FRANCK: Dictionnaire des Sciences Philosophiques (Paris, Hachette, 1885) .
GOURD, (J. J.): Philosophie de la religion (Paris, Alcan, 1911) .
GUYAU: Irreligion de l’Avenir (Paris, 1880) .
HAUSER: Evolution Intellectuelle, et religieuse de l’Humanité (Paris, Alcan, 1920) .
HDEFFDING, (Harald): Philosophie de la religion (Paris, Alcan, 1909) .
HUBERT: Introduction á la traduction francaise du Manuel d’Histoire des Religions, par Chantepie de la Saussaye (Paris, Colin, 1904) .
JEVONS: An Introduction to the History of religion (Londres, 1896) .
KANT: La Religion dans les Limites de la raison (Koenigberg, 1794) .
KANT: Critique de la raison Protique (Paris, Presses Univ., 1943) .
LALANDE: Vocabulaire Technique et Critique de la
.
LONGUET: L’Origine Commune des religions (Paris Alcan, 1921) .
MAYER, (Michel): Instructions Morales et religieuses.(Paris,1885) .
MULLER, (Max.): Origine et Développement de la religion, Londres, 1873) .
1908) .
(Paris, Beauchesne, 1929) .
Lettres) .
REINACH, (Salomon): Orpheus (Paris, 1909) .
REAILLE: Prolégoméne á l’Histoire des religions (Paris, 1878) .
SABATIER, (Auguste): Esquisse d’une Philosophie de la religion (Paris, Fischbacher, 1897) .
SAURAT, (Denis): Histoire des religions (Paris, Denoél, 1933) .
SCHLEIRMACHER: Discours sur la religion (Berlin, 1799) .
SCHMIDT: Origine et Evolution de la religion (Paris, Grasset, 1931) .
SPENCER, (Herbert): Premiers Principes (Londres, 1863) .
SPENCER, (Herbert): Principes de Sociologie (Londres, 1879) .
TYLOR: Civilisation Primitive (Londres, 1871) .
VAN DER LEEUW: la religion dans son Essence et ses Manifestations, (Paris, Payot, 1948) .
صفحه نامشخص