دین: بحوث ممهدة لدراسة تاریخ الادیان
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
ژانرها
ثم إن هذا التقديس الديني ليس تقديسا لذات أيا كانت، وإنما هو تقديس لذات لها صفات خاصة؛ وأهم مميزاتها أنها ليست مما يقع عليه حس المتدين، ولا مما يدخل في دائرة مشاهداته، وإنما هي شيء غيبي لا يدركه إلا بعقله ووجدانه، فالفاصل الثاني الذي تتميز به العقيدة الدينية بمختلف أنواعها هو أن لها خاصة الإيمان بالغيب؛ أي بما وراء الطبيعة. (2-2) الإله ليس مادة وذو تصرف اختياري
ثم إن هذا الغيب الذي تؤمن الأديان بوجوده من وراء الطبيعة ليس من جنس هذه الطبيعة المادية المنفعلة، بل هو شيء ذو قوة فعالة مؤثرة، وله أسلوب في تصرفاته مباين للطرائق التي تؤثر بها المادة فيما حولها؛ إذ إن هذه المواد يصدر عنها أثرها دون شعور منها ولا اختيار لها في صدوره، أما القوة التي يخضع لها المتدين فإنه يفهمها على أنها قوة عاقلة تقصد ما تفعل، وتتصرف بمحض إرادتها ومشيئتها. (2-3) الإله يهيمن على شئون الناس
وأخيرا فإن هذه القوة العاقلة المدبرة في نظر المتدينين ليست قوة منطوية على نفسها، منعزلة عنه وعن العالم، بل يرى أن لها اتصالا معنويا به وبالناس. تسمع نجواهم، وتصغي لشكواهم، وتعنى بآلامهم وآمالهم، وتستطيع - إن شاءت - أن تكشف عنهم ما يدعونها إليه.
من جملة هذه المعاني يتحدد على وجه الإجمال المعنى الذي يتعلق به الاعتقاد والتقديس في جميع الديانات، ولتلخيص هذه الاعتبارات في لقب واحد نقول: إن التقديس الديني «تأليه» وعبادة، وإن موضوعه «إله معبود».
ولعلك قد يشكل عليك من مقالتنا هذه أننا جعلنا مناط الاعتقاد والتأليه في جميع الأديان ذاتا غيبية لا تراها العيون، كأن لم يكن من الأقوام من عبد الأحجار والأشجار والأنهار، والطير والحيوان والإنسان. (2-4) الوثنيات لا تعبد المادة في الحقيقة
فاعلم أن كلمات الباحثين في نفسيات المتدينين وعقلياتهم قد تطابقت على أنه ليس هناك دين - أيا كانت منزلته من الضلال والخرافة - وقف عند ظاهر الحس، واتخذ المادة المشاهدة معبودة لذاتها، وأنه ليس أحد من عباد الأصنام والأوثان كان هدف عبادته في الحقيقة هياكلها الملموسة، ولا رأى في مادتها من العظمة الذاتية ما يستوجب لها منه هذا التبجيل والتكريم.
وكل أمرهم هو أنهم كانوا يزعمون هذه الأشياء مهبطا لقوة غيبية، أو رمزا لسر غامض، يستوجب منهم هذا التقديس البليغ، فهي في نظرهم أشبه شيء بالتمائم والتعويذات التي يتفاءل أو يتبرك بها، أو يستدفع بها شيء من الحسد أو السحر، لا على أن لها خاصية ثابتة كامنة فيها كمون النار في الرماد، أو أن لها قوة طبيعية كقوة المغناطيس، بل على أن وراءها أو حولها روحا
2
عاقلا، مدبرا، مستقل الإرادة يستطيع أن يغير بمشيئته سير الأمور ومجرى العادات، فيعطي ويمنع، ويضر وينفع، من حيث لا ينتظر الناس ذلك في العادة، وأن تلك المواد المشاهدة ما هي في اعتقادهم إلا مظهر ومطلع يطل منه هذا الروح الخفي، ويبارك من يتمسح بتلك الهياكل التي اتخذها له مظهرا ومزارا.
يلزمنا إذن أن نضم عنصرا رباعيا إلى التعريف: فنقول إن القوة التي يقدسها المتدين ليست فكرة مجردة، وصورة عقلية خالصة، بل هي حقيقة خارجية، ونقول: إن هذه الحقيقة ليست مادة يقع عليها الحس، بل هي سر غيبي لا تدركه الأبصار؛ ونقول: إن هذه القوة الغيبية قوة عاقلة تتصرف بالإرادة، لا بالضرورة كالمغناطيس والكهرباء، ونقول أخيرا: إن لهذه القوة عناية مستمرة بشئون العالم الذي تدبره، وإن لها تجاوبا نفسيا مع نفوسه.
صفحه نامشخص