دین انسان
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرها
يرجع موقع ساباتينوفكا إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وهو عصر ازدهار الثقافة النيوليتية الأوروبية. وقد تم الكشف في هذا الموقع عن مقام ديني مستطيل الشكل تبلغ مساحته حوالي 57 مترا مربعا، وللبناء باب جانبي يقع على أحد الضلعين الطويلين للمستطيل، فرشت الأرض أمامه بألواح حجرية، أما الأرضية الداخلية فقد فرشت بالطين المجفف. حوالي منتصف المسافة الطولية إلى اليمين ، هناك فرن كبير وجدت عند قاعدته دمية أنثوية، يليه عدد من الأوعية بينها وعاء مليء برماد وعظام ثور محروق، وإلى يسار وأمام الفرن هناك مجمرتان ربما لغرض حرق البخور. أما في صدر البناء فهناك منصة طينية (تقوم مقام المذبح في المعابد اللاحقة) أبعادها 6 × 2,75م، عليها ست عشرة دمية أنثوية في وضعية القعود، منفذة بأسلوب نمطي رمزي موحد. فالساقان مضمومتان وممدودتان وتنتهيان معا بطرف مستدق، والعجيزة منتفخة ومضخمة، أما الصدر فضامر، والرأس غائب يحل محله طرف مدبب، وجميعها بلا ذراعين خلا واحدة فقط تضم إلى صدرها شكلا قضيبيا بالغ الطول. إلى جانب المذبح عند الزاوية هناك عرش فارغ مصنوع من الطين، تصفه التقارير الأثرية بأنه كرسي لجلوس الكاهن الذي يرعى الاحتفال الطقسي ويتقبل تقدمات الدمى.
7
يقدم لنا هذا الشاهد الأثري الهام أوضح مثال عن الطقوس النيوليتية، التي تدور حول معتقد المجال والقوة؛ فالدمى المتناثرة على المذبح هنا لم تكن موضع عبادة بذاتها، بل وسيلة لاستحضار عالم اللاهوت، ووجودها بهذا الكم الكبير يشير إلى أن المشاركين في الطقس كانوا يضعونها تقدمة على المصطبة-المذبح، مثلما كانت توضع المصابيح الزيتية في المعابد اللاحقة، أو الشموع التي توقد اليوم أمام تمثال العذراء، ولكن مع فارق هام، وهو أن تمثال السيدة هنا غائب تماما، رغم أنها حاضرة على العرش الفارغ الذي يعبر عن السلطة الشاملة.
إن الأساليب الفنية التي اتبعها الفنان النيوليتي في تشكيل هذه الهيئات الأنثوية، تدل بوضوح على أنه لم يكن يفكر في تمثيل هيئة لكائن إلهي معين ذي شخصية محددة الملامح؛ فالدمى التي نفذت بالأسلوب التبسيطي، ليست في الواقع سوى فكرة مجردة وجدت تعبيرها بطريقة تشكيلية، ومثلها تلك الدمى التي لم تحتفظ من الشكل الأنثوي إلا بانتفاخ في منطقة الردف ونهايتين مستدقتين، أو تلك المؤلفة عن عجيزة ضخمة فقط ورأس مدبب مع إشارة خفيفة إلى الثديين. وأما الدمى التي نفذت بالأسلوب الواقعي المضخم وفي وضعية القعود الأكثر شيوعا، فإن الصلة بينها وبين الهيئة الأنثوية معدومة تقريبا، وكذلك الصلة بينها وبين أية شخصية يمكن أن تتمتع بكيان محدد؛ إنها رسالة بصرية مكثفة ومفعمة بالرمز، ورداء لقوة إلهية سوف تجد منذ الآن تعبيرها في الشكل الإنساني المرمز، الذي يتحول إلى موطن خيالي مفعم بالنفسية الجمعية للعصر، وتبتعد تدريجيا عن الشكل الحيواني الذي ساد في الفترات الأسبق. وفي العصور التالية، وعندما تنبعث الآلهة من هذه القوة الغفلة غير المتمايزة في المعتقدات الأولى، سوف يقوم الإنسان باستلهام صور هذه الآلهة من مخزونه القديم لصور الشارات المقدسة، وتأخذ الأم الكبرى للفترات التاريخية الشكل العام للشارة الأنثوية للقوة السارية. فالصور المقدسة تتمتع بثبات نسبي عبر فترة طويلة من الزمن، رغم التغيرات الجذرية التي تطرأ على مضمونها. وقد يستفيد مضمون اعتقادي جديد من هيئة قديمة تمتعت بالقداسة فترة طويلة، ويحل فيها بعد تغييرات قليلة أو كثيرة عليها؛ وبذلك تستمر الصورة في أساسياتها ويتغير محتواها تدريجيا حتى يتلاشى المحتوى القديم تماما. إن الرمز الواحد لا يحمل بالضرورة مضامين ودلالات واحدة لدى تكراره في عصور مختلفة وأمكنة متباعدة، وذلك حتى في حال توارثه وتداوله بحرفيته الشكلية. فرمز الصليب الذي كان ذا دلالة أيديولوجية وطقسية منذ العصور الحجرية، لا تربطه بصليب المسيحية صلة، ورمز السواستيكا (الصليب المعقوف)، الذي توارثته الأقوام الجرمانية عن العصور الحجرية، لا يمت بصلة إلى السواستيكا البوذي أو الهندوسي، ناهيك عن صلته بالأيديولوجية الفاشية التي تبنته إبان صعود النازية في ألمانيا.
لم تتقطع التقاليد الباليوليتية للتصوير الجداري تماما خلال العصر النيوليتي؛ فلدينا من شتال حيوك، الموقع النيوليتي الهام في جنوب الأناضول، مثال على استمرار هذه التقاليد. إلا أن التصوير هنا لم ينفذ على جدران الكهوف الطبيعية، بل على جدران المقامات الدينية التي عثر على أربعين منها في الجزء المكتشف من الموقع، موزعة على عشر طبقات أثرية، وغالبا ما توضعت هذه المقامات بعضها فوق بعض عبر الطبقات الأثرية المتعاقبة ، واحتوت على العناصر الفنية ذاتها؛ الأمر الذي يشير إلى استمرار في المعتقد الديني لهذه الثقافة خلال مئات الأعوام. وفي الحقيقة، فإننا في شتال حيوك نشهد تلك النقلة من المقام الديني الصغير إلى ما يشبه المعبد، وذلك من حيث سعته وتنوع أثاثه الطقسي.
تتقلص قائمة الحيوانات التي صورها الفن الباليوليتي في الماضي، إلى بضعة حيوانات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في هذا الموقع النيوليتي، يتخذ الثور بينها مكان الصدارة؛ فهنا نجد رءوس الثيران المشكلة بالجص في بؤرة التكوين الفني على معظم جدران المعابد، وقد تستخدم القرون الطبيعية في هذه الرءوس المنحوتة، غير أن القرون المشكلة هي الحالة الغالبة لأنها تسمح بالمبالغة التي قصدها الفنان، وتعطي انطباعا أكثر تأثيرا بالقوة والعظمة التي أراد التوكيد عليها، حتى إن طول القرن الواحد قد بلغ في بعض الحالات ما يقارب المتر. وقد تغيب رءوس الثيران لتحل محلها قرون ضخمة مصطفة في رتل، وينتظمها تكوين قوي يعطي الناظر إحساسا بالرهبة والخشوع أمام قوة غير منظورة، كما يظهر ضمن هذه التشكيلات أحيانا رمز البوكرانيا، الذي يتألف من نصب قصير عليه قرنا ثور. وفي بعض الأحيان تتوزع رءوس الكباش حول المساحة التي يشغلها رأس الثور. وقد تتوضع تحت الرأس صفوف من الأثداء الأنثوية، كما تظهر رءوس الأيل منفردة أو كجزء من التكوين. وفي بعض الهياكل، صورت على الجدران المقابلة لرءوس الثيران نسور عملاقة باسطة أجنحتها، وأمامها أشكال بشرية صغيرة منفذة بأسلوب تبسيطي وبدون رأس، وعلى بعض الجدران صور حيوان الفهد بطريقة النحت النافر الملون.
وإضافة إلى هذه التشكيلات الجدارية، فقد عثر المنقبون في الهياكل على الدمى الأنثوية المصنوعة وفق التقليد النيوليتي نفسه، ولكن باستخدام الرخام والحجر إلى جانب مادة الطين، وبتقنيات تقرب هذه الدمى من فن النحت المعروف في الحضارات اللاحقة، خصوصا وأن أطوالها قد بلغت في بعض الأحيان ستة عشر سنتم. والهيئة الأنثوية هنا مصورة في وضعية القعود على عجيزة ضخمة جدا ومكتملة الأعضاء، ورغم العناية بإظهار الرأس كاملا إلا أن ملامح الوجه ممسوحة وشبه غائبة، وإلى جانب هذه الدمى التي يبدو أنها كانت تستخدم لأغراض طقسية دورية فتجلب إلى المعبد من خارجه، فإن الهيئة الأنثوية قد صورت بالأسلوب الرمزي التبسيطي، وترافقت مع رءوس الثيران في التكوينات الجدارية اعتبارا من الطبقة الآثارية السابعة. فهنا يصور الشكل الأنثوي على شكل جذع مستقيم تتفرغ منه أربعة أطراف عديمة التفاصيل تماما. ولا نكاد نتعرف على الهيئة الأنثوية في هذه الهيئات النمطية لولا وجود النهدين الصغيرين.
8
في شتال حيوك نحن أمام قمة من قمم الفن النيوليتي لن يصل إليها بعد ذلك أبدا، ولكننا في الوقت نفسه أمام المعتقدات النيوليتية في أكثر تعبيراتها وضوحا وتنظيما. لقد تحولت جماجم الثيران المأخوذة مباشرة من الطبيعة والمغروسة في مصاطب تل المريبط الطينية، إلى أعمال نحتية مصنوعة بعناية لتؤدي الرسالة البصرية نفسها، وإنما بشكل أكثر تأثيرا وأقدر على نقل إحساس الفنان بحضور تلك القوة السارية في الطبيعة. والموضوعات المصورة هنا والمنتزعة من الوسط الطبيعي، قد فقدت صلتها بروابطها في الحياة اليومية بعد أن غدت موضوعا لاختيار روحي. إنها الآن بؤر رمزية يتجلى من خلالها ذلك المستوى الآخر للوجود، ويعلن عن قوته. لقد صار الثور والكبش والأيل والنسر والفهد موضوعات لإعلاء ديني من نوع خاص، لا في عالمهم الطبيعي الذي ينتمون إليه، بل في المقام الديني الذي جعل من صورهم ظهورات لقوة ما ورائية شمولية، وحولها إلى مواطن خيال تشف عن النفسية الجمعية لثقافة ما زالت تتوسل بصور الحيوان لكي تعقد صلة مع عالم اللاهوت. أما التمثيلات النسائية فما زالت هنا تعبر عن فكرة أكثر من تعبيرها عن شخصية؛ فالتشكيلات التخطيطية للشكل الأنثوي التي تظهر مترافقة مع رءوس الثيران أو مستقلة عنها، لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون تجسيدا لشخصية إلهية، إنها مجرد شارة أنثوية بلا هيئة بلا تفاصيل بلا ملامح وجه. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتماثيل الأنثوية الصغيرة التي نفذت وفق أسلوب المبالغة والتضخيم لمواطن الخصوبة، وفي وضعية القعود، فهذه التماثيل لم تكن جزءا من التكوينات الفنية الجدارية، بل وجدت ملقاة هنا وهناك؛ الأمر الذي يشير بوضوح إلى أنها لم تدخل في الأثاث الثابت للمعبد، بل استخدمت لأغراض طقسية.
وفي الحقيقة، فإنه من الصعوبة بمكان أن نعطي تفسيرا أكثر دقة وتفصيلا لديانة شتال حيوك، وللتكوينات الفنية التي نفذت على جدران هياكلها، غير أنه من المغري حقا أن نجد في هذه التكوينات، كما وجد لوروا غورهان في رسوم الكهوف، تعبيرا عن جدلية الأنوثة والذكورة في تجلي وفعالية القوة. فهل يتخذ رأس الثور هنا قيمة رمزية ذكرية في مقابل القيمة الرمزية للشكل الأنثوي التخطيطي الذي يعلوه، أو الأثداء التي تصطف تحته؟ وهل يتخذ النسر قيمة رمزية أنثوية كما هو حاله في حضارات الكتابة اللاحقة، بينما يتخذ الفهد قيمة رمزية ذكرية؟ هذه الأسئلة، وغيرها كثير، لا نستطيع الإجابة عنها في الوضع الحالي لمعلوماتنا عن شتال حيوك والعصر النيوليتي عموما، إلا أن ما أود التوكيد عليه مجددا، وبقوة أكثر هذه المرة، هو أن التشكيلات الجدارية في شتال حيوك وتماثيلها الأنثوية المتفرقة، لا تضعنا أمام «بانثيون» للآلهة تتربع فوقه الأم الكبرى الأناضولية، وهو التفسير الذي طرحه جيمس ميلارت مكتشف الموقع، بل إننا ما زلنا هنا أمام شكل أكثر تقنينا وتنظيما للمعتقد النيوليتي. أما الآلهة، فما زال أمامها وقت طويل حتى تظهر على مسرح التاريخ الاعتقادي للإنسان، ولسوف تلبس حين تظهر لبوس القوة وتستلم شاراتها.
صفحه نامشخص