الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
الباب الأول: ما هو الدين؟
1 - أفكار استهلالية: مكانة الدين وتعريفه
2 - تبديات الظاهرة الدينية
الباب الثاني: بنية الدين
1 - المكونات الأساسية للدين
2 - المكونات الثانوية للدين
الباب الثالث: الأشكال الاجتماعية للدين ومستوياته الشمولية
1 - من العبادة إلى الدين الشمولي
2 - نماذج من الأديان الشمولية
الباب الرابع: المعتقد أو بنية الحد الأدنى للظاهرة الدينية
1 - أفكار استهلالية
2 - عتبة الدين، اللاهوت والناسوت في معتقد الباليوليت
3 - اللاهوت والناسوت في معتقد النيوليت
4 - مانا والروح الكبرى في معتقدات الشعوب البدائية
5 - بين السحر والدين
6 - أصل الآلهة
الباب الخامس: المعتقد وبنية الحد الأدنى [تابع]
1 - كامي/تاو
2 - لاو تسو والتاوية
3 - الهندوسية والبحث عن الوحدة في الوجود
4 - ما وراء اللاهوت
5 - إله المتصوفة
الباب السادس: نتيجة، ومدخل جديد
1 - نظريات في منشأ الدين: نقد وتأسيس
الباب السابع: الوعي والكون
1 - العالم الكمومي والنظرية الكوانتية
خاتمة
ثبت المراجع
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
الباب الأول: ما هو الدين؟
1 - أفكار استهلالية: مكانة الدين وتعريفه
2 - تبديات الظاهرة الدينية
الباب الثاني: بنية الدين
1 - المكونات الأساسية للدين
2 - المكونات الثانوية للدين
الباب الثالث: الأشكال الاجتماعية للدين ومستوياته الشمولية
1 - من العبادة إلى الدين الشمولي
2 - نماذج من الأديان الشمولية
الباب الرابع: المعتقد أو بنية الحد الأدنى للظاهرة الدينية
1 - أفكار استهلالية
2 - عتبة الدين، اللاهوت والناسوت في معتقد الباليوليت
3 - اللاهوت والناسوت في معتقد النيوليت
4 - مانا والروح الكبرى في معتقدات الشعوب البدائية
5 - بين السحر والدين
6 - أصل الآلهة
الباب الخامس: المعتقد وبنية الحد الأدنى [تابع]
1 - كامي/تاو
2 - لاو تسو والتاوية
3 - الهندوسية والبحث عن الوحدة في الوجود
4 - ما وراء اللاهوت
5 - إله المتصوفة
الباب السادس: نتيجة، ومدخل جديد
1 - نظريات في منشأ الدين: نقد وتأسيس
الباب السابع: الوعي والكون
1 - العالم الكمومي والنظرية الكوانتية
خاتمة
ثبت المراجع
دين الإنسان
دين الإنسان
بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970 بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971 قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون » في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
كان يوما حارا من أيام شهر حزيران، أمضيناه داخل حرم جامع سيدي خالد نحضر لامتحانات شهادة الدراسة الابتدائية، على عادة الطلبة في تلك الأيام؛ إذ يلجئون إلى برودة المساجد وفيئها وهدوئها في أيام الامتحانات. توجهت إلى رواق الجامع قبل المغيب تفاديا لزحام ساعة الصلاة، وكان آخر سؤال طرحه علي زميلي الذي يختبر معلوماتي في الفيزياء، وهو يلحق بي: لماذا تنفجر ثمرة الكستناء إذا وضعت على النار؟ فأجبته وأنا أخطو بسرعة عتبة الباب: بسبب ضغط البخار داخل القشرة. كنا نفضل الخروج من الحرم قبل كل صلاة؛ كي لا نبقى عاكفين على الكتاب والناس يؤدون صلاتهم، أو تحاشيا لسماع كلمات التقريع من أقرب المصلين إلينا. في إحدى المرات، قبضت علي ذراع شيخ مهيب، وقادني معه إلى مقدمة المصلين حيث أجبرني على الصلاة إلى جانبه.
مشيت حافيا فوق البلاط الحجري للأرضية الدافئة التي امتصت شمس النهار، ثم افترشت حصيرا من تلك التي تفرش عادة في الأروقة الخارجية للمساجد. استلقيت متحسسا خوص الحصيرة المجدول، كان دافئا وتنبعث منه تلك الرائحة الأليفة لنبات الأسل، تحمل معها على الدوام عبق اجتماع الناس وأحاديث السمار. وعندما اتصل بصري بالقبة السماوية اجتاحني تدريجيا شعور لا يمكن إعطاؤه حقه بكلمات، كانت سيالة زرقاء تملأ الكون فتشدني إلى الأعالي، أو تهبط بالأعالي إلى حصيرتي. المآذن من فوقي تتقارب وتتلاقى، ثم تغيب في الأعماق، والأعمدة والجدران تتباعد ثم تتلاشى وراء آفاق غير منظورة ... تحسست الزرقة تحت لساني وفي الأوعية الشعرية تحت الجلد، ثم تفتت قطعا زرقاء تتطاير كندف قطن لا وزن لها، لم أعد موجودا، أو لعل من الأنسب أن أقول، لم أشعر بمثل هذا الوجود الحق من قبل، ولن أشعر به إلا مرات قليلة بعد ذلك. لا أدري كم مضى علي في تلك الحالة، وعندما أخذت الأشياء تستعيد صورتها من جديد مستجمعة شتاتها من هيولى نشأتها، تجمعت إلى أجزائي، وعدت سيرتي الأولى، تلميذا تحت الرواق يقبض على كتاب الفيزياء ويحاول النهوض في ذهول عما حوله.
كانت تجربة ساحقة ومفرحة في آن معا؛ ساحقة لأنها تغمرك دون إرادة منك أو استدعاء لها، لتذهب بأناك العزيزة وتمحو حدودها في دقائق تبدو دهرا، ومفرحة لأنك إذا داهمتك فلن تشعر بالوحشة أو الوحدة بعدها أبدا.
بعد الامتحانات، التي حملت إلينا ما توقعناه من الأسئلة وما لم نتوقع، وبينها سؤال ثمرة الكستناء إياه، كنت أستعيد تجربة ذلك الأصيل تحت رواق الجامع وأتمنى لو أنها تأتي كرة أخرى. ذهبت إلى المكان، دخلت الحرم وجلست أستمع إلى شيخ يتحدث بعد صلاة العصر، مفسرا بعض سور القرآن الكريم لمجموعة تحلقت حوله، ثم خرجت إلى الرواق. استلقيت على الحصيرة ورحت أحاور السماء الزرقاء، ولكن شيئا مما حدث لي في المرة السابقة لم يحدث. وعندها، خطر لي بما يشبه اليقين أن تجربة ذلك الأصيل لم تكن إلا دعوة للصلاة. عدت إلى البيت، وأخرجت كتاب مقرر الديانة المدرسي، فراجعت مجددا قواعد الصلاة بدقة، ثم تشمرت وتوضأت ، ومددت سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح القديمة في فناء البيت، وشرعت في الصلاة، ولكن عند السجود، ظهرت أمامي صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء الطويلة، فشعرت بالخوف وأسرعت في إتمام الصلاة. ولهذه الصورة قصة سوف أرويها فيما يلي.
كان لوالدي غرفة يدعوها مكتبة. وفيما عدا إجراءات التنظيف العادية من مسح وكنس، كان محرما على أحد ترتيبها أو حتى تغيير مكان صحيفة يومية فيها. كانت أكداس المجلات والدوريات القديمة تملأ المكان، والكتب موزعة على الرفوف القليلة، ومتجمعة عند الزوايا في أكوام غير منتظمة. في الأوقات الآمنة، كنت أتسلل إلى الغرفة لتقليب صفحات كتب مصورة أحبها، ثم أنسحب عند اقتراب الخطر. وفي إحدى المرات، تسمر بصري على لوحة تملأ صفحتين متقابلتين من كتاب حاشد بالصور الملونة الأخاذة، كتب تحتها «لوحة خلق آدم». في اللوحة شيخ مهيب سابح في الفضاء يرتدي جلبابا هفهافا ينسحب من ورائه، وهو يمد يده إلى رجل عار يجلس على الأرض في وضعية من صحا لتوه من النوم. أطبقت الكتاب وخرجت، وفي ذهني أكثر من سؤال لا يجيب عليه سوى والدي، ولكن كيف أكشف عن سر دخولي إلى الغرفة المحرمة؟
لم يطل ترددي، كنت عازما على كشف سر الصورة بأي ثمن. بعد العشاء، أوى والدي إلى غرفته، فطرقت الباب وكشفت عن سري له مشيرا إلى مكان الكتاب، ثم قبعت في انتظار ما سيجري. لم يبد عليه الغضب، اتجه نحو الزاوية وأخذ الكتاب، ثم عاد إلى مكانه ففتحه على اللوحة إياها، ثم صمت برهة، وأخذ يشرح لي ببطء مضمونها وهو يتخير كلماته بدقة وحذر؛ لأن وجهي قد تحول على ما يبدو من إشارة استفهام إلى بركان دهشة لا حدود لها. وعندما انتهى من حديثه، زودني ببعض المجلات القديمة المصورة، ونبهني إلى ضرورة استئذانه في كل مرة أريد فيها دخول الغرفة. وكان علي بعد ذلك أن أهضم فكرة التصوير الديني ووجود مصورين لا يتحرجون من رسم صورة للخالق.
لوحة مايكل أنجلو هذه صارت من أعمال عصر النهضة المحببة إلي بعد ذلك . وعندما وقفت أتملاها تحت قبة السستين في الفاتيكان، بعد تلك الصدمة بعشرين عاما، تذكرت انفعالي الأول وابتسمت، كما تذكرت كيف حالت صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء بيني وبين الصلاة في تلك الفترة المبكرة.
يتميز الجيل الذي أنتمي إليه بنزعة عقلانية مفرطة؛ فهو الجيل الذي فتح عينيه على دولة حديثة الاستقلال، تحاول أن تجد لها موطئ قدم في عالم شيمته التقدم العلمي. لم نكن نسمح لأنفسنا بالنظر إلى العالم إلا من خلال المحاكمات الذهنية الباردة، وكان السلاح الذي نشهره في وجه بعضنا هو شعار «كن علميا»، كلما آنس واحدنا من زميله بادرة لطرح لا يلتزم المنطق العلمي في أضيق أشكاله، فكان من الطبيعي أن أكف عن استثارة أحوال نفسانية لا تخضع للمفاهيم العلمية الميكانيكية؛ فإلى جانب الخوف من أن تصنف في زمرة المتخلفين، كان في داخل كل منا محكمة تفتيش منعقدة على الدوام، يصرخ قاضيها في أعماقه «كن علميا»، كلما وجد في نفسه ميلا لما هو «غير علمي» بالمفهوم السائد. ومع ذلك، فقد داهمتني حالة «الوجود الحق» كما أسميتها، مرات قليلة بعد ذلك، وعلى درجات متفاوتة من الشدة.
كنا نتجول مساء في ساحة مونمارتر وأزقتها بباريس، عندما أنذر الرذاذ الخفيف بتحوله إلى وابل ثقيل، فاقترحت زوجة صديقي أن نلجأ إلى كاتدرائية مونمارتر القريبة. كان هناك قداس من نوع ما منعقد بعد الغروب. جلسنا في الصف الخلفي، وصديقي المقيم في باريس يحاول أن يقدم شرحا عن تاريخ الكاتدرائية وعمارتها، ولكن كلماته غابت تدريجيا لتحل محلها كلمات الكاهن الذي يقود القداس. كنت وكأني أسمع لأول مرة قصة الإله الذي صار إنسانا، والإنسان الذي صار إلها. ارتفعت قبة الكنيسة، توسعت حتى تلاشت في الظلام الكوني، وتباعدت الجدران والأعمدة، تحولت الأشياء إلى كلمات، لا تنطوي كل كلمة على معنى بعينه، بل تحتوي كل كلمة كل كلمة أخرى؛ معنى واحدا يتبدى بألف لون ولون، ثم رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهايات الأربع، وأنا في نقطة التقاطع.
بعد ذلك، عرفت أن حالة «الوجود الحق » يمكن استثارتها بأساليب خاصة، وكانت محكمة التفتيش في داخلي قد أخلت مكانها لهيئة محلفين من مشارب شتى، لا يمانعون في إجراء المداولات الحرة قبل إصدار القرار.
في وقت متأخر من الليل، طرق باب منزلي في دمشق جار وصديق لا يخلو من غرابة الأطوار، تعود زيارتي بين الحين والآخر. كان يحمل في يده شريط تسجيل، قال وهو يتجه نحو الزاوية التي تعودنا الجلوس فيها لسماع الموسيقى أحيانا: سأسمعك شيئا أعجبني؛ فلعله يعجبك أيضا. جلسنا أكثر من ساعة نستمع إلى فرقة معروفة بإنشاد الألحان الصوفية، حيث تعرفت لأول مرة على هذا النوع من الفن الديني. حملتني إيقاعات الدفوف إلى حلقات رقص فسيحة يدور فيها الدراويش بأذرع مرفوعة نحو الحقائق المستورة، وأرجل تلف بخفة على الأرض التي ترتفع بهم للقاء السماء. رأيت بعين خيالي كيف يتوسط الراقص بين عالمين، وكيف تمتد روحه شرارة برق تصل المنفصل وتجمع المنقطع. وفي الأمسية التالية، استمعت إلى الشريط وحيدا، وعلى إيقاع مدد، مدد. لا أدري هل درت أم دار الكون من حولي، كل الكون. اختلطت الأشياء وتمازجت ألوانها، ثم ذابت خطوطا في حلقات تتسع، حتى ضاع الشكل واللون. الإنسان في المركز، وكل المجرات حتى أبعدها عند حواف الكون تدور وتدور. صار الكون إنسانا، والإنسان صار كونا.
وبمرور الأيام، كان التساؤل القديم، الذي حملني من حصيرة رواق الجامع إلى سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح، ينمو ويتحول من تساؤل عرضي إلى سؤال أساسي: هل تجربة ما أسميته بالوجود الحق هي تجربة دينية؟ فإذا كانت دينية، فما الفرق بينها وبين ما تحققه الصلاة المعتادة؟ لماذا يلجأ البعض إلى طقس مؤسس ومتعارف عليه، والبعض الآخر إلى طقس خارج على المألوف؟ وإذا لم تكن هذه التجربة دينية، فماذا تكون؟ ثم تبين لي تدريجيا أن معالجة هذه الأسئلة ستدور في حلقة مفرغة، إذا لم نشرع قبلها في الإجابة على سؤال أكثر أساسية يتعلق ب: ما هو الدين؟ فلكي نستطيع تصنيف أمر ما في زمرة الدين، أو نصف سلوكا ما بالديني، علينا أن نكون واثقين من أننا نعرف فعلا ما نعنيه بالدين. والحال أننا مختلفون في هذا الأمر، رغم أن كلا منا يعتقد جازما بأنه يعرف ما الذي يعنيه الدين بالنسبة إليه. وليس الفلاسفة ودارسو الأديان من شتى المشارب بأفضل حالا منا، فلدينا اليوم تعريفات للدين بعدد من تصدى لدراسته، وحاول الإحاطة بهذه الظاهرة ووضع تعريفا مرضيا لها. كيف ذلك؟ كيف لهذا المحرض الإنساني الكبير أن يكون على هذه الدرجة من الغموض والزوغان عن التعريف؟ وهل من الممكن فعلا أن يختلف الدين باختلاف الأفراد وتنوع نظرتهم إلى الحياة؟ أم إن وراء هذا التنوع الظاهري وحدة صميمية، وإن التعريفات لا تقصد إلا أن تقول شيئا واحدا، وتعبر عن تجربة إنسانية واحدة؟ •••
أما بعد، فهذا كتاب في وصف الظاهرة الدينية عند نوع من الأحياء معروف باسم الإنسان العاقل (=
Homo Sapien )؛ فقد وجدنا أن الدين هو إحدى السمات الرئيسية، التي ميزت هذا النوع عن غيره، منذ اكتسابه للخصائص الإنسانية التي نحن عليها الآن قبل أكثر من مائة ألف عام من عصرنا هذا. وقد رافقته، منذ ذلك الوقت المبكر لاستقلاله التام عن بقية الأنواع الحية على هذا الكوكب، كمحرض أساسي وهام في حياة البشرية عبر عصورها. وأريد أن ألفت النظر ابتداء إلى أن المقدمة الشخصية التي ابتدأت بها لا تطرح منهجا لبقية الكتاب، وأن الفصول القادمة ليست تأملات ذاتية في مسألة الدين، بل العكس هو الصحيح تماما؛ فإذا كان لكل مشروع دافع شخصي، فإن ما يميز مشروع البحث الموضوعي عن غيره هو قدرة صاحبه على الانتقال من الشخصي إلى الموضوعي، وتعديل الأول بما يتلاءم ومعطيات الثاني.
يميز وليم جيمس، الفيلسوف والسيكولوجي الأمريكي (1842-1910م)، في كتابه:
The Varieties of Religious Experience ،
1
بين نوعين من المحاكمة في دراسة الظاهرة الدينية، يدعو الأول محاكمة وجود
Existential Judgement ، والثاني محاكمة قيمة
. في المقترب الأول، يقوم الدارس بتقصي طبيعة موضوعه؛ أي تركيبه وأصله وتاريخه، وفي المقترب الثاني يبحث في أهميته وجدواه. ويرى وليم جيمس أننا لا نستطيع اشتقاق أحد هذين المقتربين من الآخر؛ لأنهما مستقلان تمام الاستقلال، وينشأ كل منهما عن مواقف فكرية متغايرة ؛ فمحاكمة الوجود موضوعية لا تعتمد معايير موضوعة مسبقا، أما محاكمة القيمة فذاتية تعتمد معايير يقوم الدارس بتبنيها مسبقا. فدراسة كتاب التوراة مثلا، من حيث طريقة جمعه وتحريره والأشخاص الذين عكفوا على صياغته، والشروط التي أحاطت بظهور هذا الكتاب وإتمام أسفاره، هي محاكمة وجود لا علاقة لها بتاتا بالتساؤل عن قيمة الكتاب كموجه روحي، فهذه محاكمة قيمة تختلف باختلاف المعايير التي يتبناها الدارس. من هنا، فإن حكم القيمة يختلف باختلاف مشارب الباحثين ومواقفهم الفكرية المسبقة.
ولقد تبنيت في كتابي هذا المقترب الأول، ووقفت في منهجي عند الحد الفاصل تماما بين الدراسة الوصفية والحكم القيمي.
إن ما أهدف إليه هو التعرف على الظاهرة الدينية كما هي، وعلى حقيقتها، وذلك عن طريق وصفها وصفا دقيقا، وعزلها عن بقية ظواهر الثقافة الإنسانية الأخرى المتعددة، وهو أمر على قدر كبير من الصعوبة والتعقيد، على عكس ما يخطر في البال للوهلة الأولى. فعبادة الموتى لدى بعض ثقافات العصر الحجري والعديد من الثقافات البدائية، قد صنفت خارج دائرة النشاط الديني من قبل بعض الباحثين المحدثين؛ لأنها لا تتوسل إلى قوى خالقة وخارقة تقع خارج الحيز المكاني والزماني المألوف. ومثلها أيضا تلك الممارسات والمعتقدات السحرية التي تقع في بؤرة الحياة الروحية لشعوب بدائية كثيرة؛ لأنها تتوسل إلى قوى غامضة غير مشخصة تتوسط بين الأسباب ونتائجها في حركة الطبيعة، وهي قوى لا تشبه الآلهة من قريب أو بعيد. وهناك أكثر من دين واسع الانتشار لا يؤمن أهلوه بإله ما، ولا يتعبدون لشخصيات ما ورائية من أي نوع، ولا ينتظرون منها منة ولا خلاصا؛ فإلى أي حد نستطيع أن نطلق صفة الدين على هذه الطرائق الروحية المغايرة لطرائقنا؟ ومن ناحية أخرى، لدينا فلسفات كبرى كالأفلاطونية المحدثة، شاعت وانتشرت، وساهم في بنائها العديد من العقول الجبارة، جعلت من فكرة الألوهة بؤرة اهتمامها، ومن الإله الأسمى الذي تعرفت عليه قطب الرحى في بنائها الفلسفي، فكان لها من الأتباع ما لأي نحلة دينية معروفة، ولكن أحدا من مؤرخي الأديان لم ير فيها دينا ؛ فما الذي تفتقد إليه أمثال هذه الفلسفات لتغدو دينا؟
ما هو الدين؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي سنسعى معا إلى تلمس إجابات مرضية حوله، ولكن قبل الشروع في ذلك لا بد من كلمة حول منهج البحث.
لقد حاولت بشكل أساسي تجنب أمرين؛ الأول فلسفة الدين، والثاني تاريخ الأديان. فالفلسفة تبقى بعد كل شيء امتدادا لفكر صاحبها، وتعبيرا عن توجهاته ومواقفه، إنها أمر شخصي بحت، ولدينا من الفلسفات قدر ما لدينا من الفلاسفة. وبما أني راغب عن تقديم وجهة نظر شخصية في مسألة الدين، راغب في وصفه وتحديده موضوعيا، فقد ابتعدت قدر المستطاع عن فلسفة الدين وفلاسفته، وعن إقحام أي رأي شخصي، مما يمكن للباحث أن يحمله ويضطر إلى وضعه على الرف مؤقتا، فيما لو كان جادا في التعلم من بحثه في اكتناه الواقع، لا في وضع هذا الواقع ضمن إطار ذهني مرتب مسبقا. أما تاريخ الأديان، فيعتمد منهجا تاريخيا يلجأ إلى تحليل الأديان المختلفة في سياقها التاريخي؛ أي إنه يحاول الكشف عما حدث فعلا، ودون العناية بفهم عميق لما حدث، أو تقديم تركيب منظم يجمع الظواهر الدينية التي يدرسها إلى ظاهرة واحدة. في محاولتي الابتعاد عن هذين التوجهين، وجدت نفسي مع أصحاب المنهج الفينومينولوجي (= الظاهراتي).
والفينومينولوجيا، كما وضع أسسها إدموند هوسرل (1859-1938م)، هي طريقة وصفية في البحث، تبتعد عن النظريات الفلسفية، وتحاول حدس ووصف الظاهرة كما تبدو لتجربتنا المباشرة؛ أي وصف طبيعتها وطرق تبدياتها وتعبيراتها عن نفسها. ففي مقابل انشغال الفلسفة التقليدية بتحليل المفاهيم، والتركيز على العقلاني، فإن الظاهراتية تركز على كلية التبدي الظاهراتي في التجربة الإنسانية، والتوجه إلى موضوع بحثها كأمر قائم في ذاته، لا يمكن إرجاعه إلى ظاهرة أخرى تحتويه. من هنا، هاجم هوسرل الإرجاعية السيكولوجية، التي يحاول علماء النفس من خلالها إرجاع كثير من الظواهر (ومنها الظاهرة الدينية) إلى الظاهرة النفسية. هذا الموقف الرافض للإرجاعية يحرر الباحث الفينومينولوجي من المواقف المسبقة، التي لم تخضع أصلا للنقد، والتي تمنعه من الالتفات إلى الخصوصية والتنوع في الظاهرة التي يدرسها، وهذا ما يعينه على توسيع وتعميق تجربته المباشرة، ويؤمن له وصفا دقيقا لهذه التجربة، لا يختلط بالأحكام القيمية. هذا عن الفينومينولوجيا الفلسفية. أما عن الفينومينولوجيا الدينية، فإنها تطبيق لطرائق الفينومينولوجيا على دراسة تاريخ الدين؛ أي إنها تشغل مكان الوسط بين الفلسفة والتاريخ، وتطرح منهج بحث عملي، لا فلسفة بالمعنى التقليدي.
إن ما يميز الفينومينولوجيا الدينية بشكل خاص هو ميلها إلى العمومية، وتقصيها لكل ما هو مشترك وعام بين الظواهر الدينية. وهي إذ تصف وتنظم وتنمذج موضوعاتها، إنما تعمل على استقصاء البنية الجوهرية والمعنى في الظاهرة الدينية. ورغم أن الظاهراتي يتحاشى فرض أحكامه وقيمه على موضوع بحثه، إلا أنه ينطلق في الوقت ذاته من موقف متعاطف مع هذا الموضوع، وبشكل خاص مع الجانب الإنساني فيه. فهو في وصفه للكيفية التي يعي بها المؤمن إيمانه ويفهمه، فإنه يحترم القيمة المطلقة التي يعزوها هذا المؤمن لعقيدته. وهذه نقطة يتوجب علي منذ البداية أن أجعلها واضحة تماما. عن هذا الموقف المتعاطف الذي لا ينشأ عن أفكار مسبقة، يقول كارل غوستاف يونغ، منشئ علم النفس التحليلي، ما يأتي: «على الرغم من أنني كثيرا ما أدعى فيلسوفا، إلا أنني امرؤ تجريبي، وأنطلق من موقف فينومينولوجي، ظاهراتي بحت. وهو موقف يعنى بالحوادث والخبرات، وتقوم حقيقته على الوقائع لا على الأحكام؛ فحين يتحدث علم النفس التحليلي، الذي أمثله، عن الميلاد العذري مثلا، فإنه لا يعنى إلا بواقعة وجود مثل هذه الفكرة، ومن دون التطرق إلى مسألة صحة الفكرة أو خطئها. فهذه الفكرة صحيحة سيكولوجيا، من حيث إنها فكرة موجودة. والوجود السيكولوجي هو وجود ذاتي بقدر ما تخطر الفكرة على بال إنسان واحد، وهو وجود موضوعي بقدر ما يترسخ بإجماع الناس عليه. والحق، فإن أفكارا معينة تكاد توجد في كل مكان وكل زمان، وهي قادرة على أن تخلق نفسها بصورة تلقائية وفي معزل عن النقل أو التقليد. هذه الأفكار لا يصنعها الفرد بل تحدث له، حتى لتفرض نفسها على وعيه فرضا. إن ما أقوله هنا ليس فلسفة أفلاطونية، بل علم نفس تجريبي.»
2
وعلى هذا، فإن ما أضعه بين يدي القارئ، فيما يأتي من الصفحات، هو مساهمة في فينومينولوجيا الدين، تتميز، على ما آمل، بالجدة في مقترباتها ومعالجاتها ونتائجها؛ ذلك أن عملا يأتي في هذا الوقت المتأخر عن فترة ازدهار هذا النوع من البحث على المستوى العالمي، لا بد من أن يحمل معه مسوغات قوية لظهوره. وإني لأعترف بفضل اثنين من المفكرين زوداني بالإطار الفكري السليم اللازم لإنجاز هذا الكتاب، وهما: إميل دوركهايم
Emile Durkheim ، المفكر وعالم الاجتماع، الذي أعطى لدراسة الدين نكهة العلم، وفريتجوف كابرا
Fritjof Capra
الفيزيائي الذي أعطى الفيزياء الحديثة نكهة الحكمة.
الباب الأول
ما هو الدين؟
مسائل أولية في المصطلح والتعريف
الفصل الأول
أفكار استهلالية: مكانة الدين وتعريفه
(1) مكانة الدين
منذ أن قال أرسطو في الإنسان إنه حيوان ناطق، والفلسفات والعلوم تأتينا بتعريفات أخرى لهذا الكائن الذي يرغب دوما في رسم حدود فاصلة بينه وبين شركائه على هذا الكوكب. ونظرا لتعدد هذه التعريفات، فإني لا أرى حرجا من أن أضيف إليها واحدا جديدا فأقول بأن الإنسان هو كائن متدين، خصوصا وأننا الآن بصدد التمحيص في ظاهرة من أهم الظواهر المميزة للجماعات البشرية منذ بدايات تكونها، بل لعلها أهم ظاهرة ميزت تلك الجماعات الأولى بعد صناعة الأدوات. إن أول ما انفرد به الإنسان عن غيره من جماعات الرئيسيات العليا هو تشكيل الأدوات الحجرية بواسطة تقنيات الشطف. وبعد ظهور الأدوات الحجرية، ترك لنا الإنسان الأول إلى جانب أدواته شواهد على وسطه الفكري، تشير إلى بوادر دينية لا لبس فيها، وتبين ظهور الدين إلى جانب التكنولوجيا كمؤشرين أساسيين على ابتداء الحضارة الإنسانية. ولا زلت إلى يوم الناس هذا لا أرى في كل نواتج الحضارة الإنسانية إلا استمرارا لهاتين الخصيصتين الرئيسيتين للإنسان؛ فكل ارتقاء مادي تكنولوجي قد تسلسل من تلك التقنيات الحجرية الأولى، وكل ارتقاء فكري وروحي قد تسلسل من تلك البوادر الدينية الأولى وتطور عنها.
كثيرا ما يقال لنا بأن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حدا للفكر الديني والميثولوجي، وأنها بذلك قد حررت العقل من شروطه القديمة. وهذا الطرح يسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكل أدنى من أشكال النظر العقلي، والفلسفة هي شكله الأرقى والأعلى. واعتمادا على تكرار هذه المقولة التي لم تخضع للنقد، فإننا نقبل بالتقسيم المعتاد لتاريخ الفكر الإنساني إلى أربع مراحل، هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. غير أن نظرة جديدة غير متحيزة على مسار الحياة الفكرية للإنسان، تظهر لنا بوضوح أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة، ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، وتراجع الفكر الفلسفي قرونا عديدة قبل أن يبعث مجددا في العصور الحديثة، متوكئا عصا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متقد، على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها أمامه الفلسفة مع فترة مدها الأول، فقد بقي أسير التطورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي، التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين والأسطورة، وتبعه غاليلو فنيوتن، فكان لهؤلاء معا فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث.
إن التاريخ القريب جدا لنجاح العلم والفلسفة في ترسيخ أقدامهما، وما نراه من مقاومة عنيدة للفكر الديني في كل ثقافة من ثقافات العالم الحديث، يجعل من تقسيم تاريخ الفكر إلى مراحل أربع يتوجها العلم، مسألة نظرية لغرض الدراسة، لا أمرا فعليا يعكس واقع الحال. لقد امتص الفكر الديني صدمة انتصار العلم والفلسفة، وما زال يزاحم وبقوة على اقتسام هوى وعقل الناس في كل مكان. في مطلع القرن التاسع عشر، أنهى العالم الفلكي والرياضي المركيز دي لابلاس مؤلفه الموسوعي الضخم عن ميكانيك الفضاء، معتمدا على حسابات نيوتن وقوانينه، فسار بفكرة الآلة الكونية الجبارة التي ابتدعها نيوتن إلى نهاياتها القصوى. وعندما عرض مؤلفه على الإمبراطور نابليون بونابرت، قال له بونابرت: لقد قيل لي إنك قد وصفت في عملك هذا نظام الكون برمته، ولكن من غير أن تشير من قريب أو بعيد إلى خالقه! فأجابه لابلاس: مولاي، إن هذه الفرضية لا ضرورة لها في نظامي.
1
غير أن علماء اليوم يظهرون تواضعا أكثر من سابقيهم رواد النهضة العلمية، وهم لا يرون غضاضة في الإفصاح عن صلة الفكر العلمي بالفكر الديني السابق عليه. يقول الفيزيائي روبرت أوبنهايمر صاحب الباع الطويل في صنع أول قنبلة ذرية: «إن ما أدت إليه اكتشافاتنا في عالم الفيزياء من مفاهيم وأفكار حول طبيعة الأشياء، ليست جديدة تماما؛ فإضافة إلى كون هذه الأفكار ذات تاريخ في حضارتنا الغربية، فإنها تتمتع بمكانة مركزية وهامة في الفكر البوذي والهندوسي. ولعلنا نستطيع القول بأن الأفكار الجديدة عبارة عن وثيقة مصدقة عن الحكمة القديمة، ونسخة مشذبة عنها.»
2
ويقول نيلز بوهر، وهو واحد من أهم مؤسسي فيزياء الكم: «إذا شئنا العثور على مواز للدرس الذي تعطينا إياه الفيزياء النووية، فعلينا أن نلتفت إلى تلك المشكلات المعرفية التي واجهت من قبل مفكرين من أمثال البوذا ولاو تسي، والتي تتضمن من جملة ما تتضمن وضعنا كمشاهدين وممثلين في دراما الوجود الكبرى.»
3
أما فيرنر هايزنبرغ، صاحب تفسير كوبنهاجن المشهور في فيزياء الكم، فيقول: «إن الإسهام العظيم الذي قدمته اليابان مثلا في الفيزياء النظرية بعد الحرب الأخيرة، يمكن أن يعتبر دليلا على وجود قرابة بين الأفكار التقليدية في الشرق الأقصى وبين الجوهر الفلسفي لنظرية الكم. وقد يكون التكيف مع المفهوم الكمومي للواقع أيسر، عندما ينجو المرء من تأثير الأفكار المادية الساذجة التي استمرت تسيطر على أوروبا حتى العقود الأولى من القرن العشرين.»
4
ولقد عثرت شخصيا على العديد من المشكلات المعرفية المشتركة بين الفيزياء الحديثة وفكر محيي الدين بن عربي، وذلك في غمار دراستي للفيزياء الكوانتية تحضيرا للفصل ما قبل الأخير من هذا الكتاب، ونقاط التشابه من الكثرة والتنوع بحيث تستدعي من أحد المهتمين دراسة تفصيلية مطولة.
إن ما أود التوكيد عليه هنا هو أن الدين والفكر الديني ليس مرحلة منقضية من تاريخ الفكر الإنساني، بل هو سمة متأصلة في هذا الفكر، وإذا كانت هذه السمة قد أعلنت عن نفسها زمنيا قبل غيرها ، فكان الدين مصدرا بدئيا للثقافة الإنسانية، فإن كل المؤشرات تدل على أنه ما زال حيا ومؤثرا بطريقة لا يمكن تجاهلها؛ ولهذا لن يتسنى لنا أبدا فهم الحاضر الفكري الغني للإنسان، إذا نحن أبقينا على هذا المصدر البدئي والمحرض الدائم في دائرة الظل، أو تابعنا النظر إليه بمفهوم عصر التنوير الأوروبي، باعتباره لغزا أو فوضى فكرية مرتبطة بطفولة الجنس البشري. (2) تعريف الدين
غالبا ما يبدأ المؤلفون، الذين أخذوا على عاتقهم دراسة الظاهرة الدينية، بوضع تعريف للدين؛ لأنه بدون هذه الخطوة المبدئية قد يجد الباحث نفسه وهو يلاحق ظواهر بعيدة عن الدين، أو يتابع جوانب ثانوية من الدين على حساب جوانبه الرئيسية؛ إلا أن محذور هذه الطريقة يكمن في أن التعريف قد يقود في سبل مضللة، إذا لم تكتمل صياغته عقب دراسة متأنية لتجليات الظاهرة الدينية عبر التاريخ، ولدى مختلف الجماعات البشرية؛ لأنه في هذه الحالة سوف يعكس المواقف المسبقة للباحث وإسقاطاته الخاصة، أو مواقف وإسقاطات الثقافة التي ينتمي إليها ونظرتها إلى الثقافات الأخرى. فنحن هنا أمام مأزق فعلي يتعلق بالمنهج؛ ذلك أن التعريف المسبق ضروري من أجل تحديد وتوضيح مجال الدراسة، ولكننا في الوقت نفسه قد لا نستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن نقطع شوطا واسعا في دراستنا للظاهرة الدينية، ونتقدم نحو نهاياتها. من هنا يجنح بعض المؤلفين إلى وضع تعريف أولي لا يهدف إلا إلى رسم الإطار العام لدراستهم، ولا يدعي الشمول والإطلاق. يقول وليم جيمس في بداية كتابه
The Varieties of Religious Experience : «رغم أنه من غير الحكمة وضع تعريف للدين ثم المضي في الدفاع عنه في وجه كل الاعتراضات؛ فإن هذا لن يقف حائلا دون قيامي بتقديم وجهة نظر محدودة بغرض وأهداف هذا الكتاب. فمن بين المعاني المتعددة للكلمة سوف أختار معنى محددا تدور حوله هذه المحاضرات؛ فالدين الذي أعنيه هنا هو الأحاسيس والخبرات التي تعرض للأفراد في عزلتهم، وما تقود إليه من تصرفات. وتتعلق هذه الأحاسيس والخبرات بنوع من العلاقة، يشعر الفرد بقيامها بينه وبين ما يعتبره إلهيا ...»
5
ولكن بما أن مجال بحثي هنا يتجاوز المجال الذي حدده وليم جيمس لدراسته، فإنني سوف أتوقف قليلا عند بعض من أهم التعريفات المتداولة في حقل دراسة الدين، والتي طمحت في وقتها للإحاطة بالظاهرة الدينية، وذلك قبل أن أتناول الموضوع من جانبي. وقد تحاشيت، فيما يأتي، استعراض الآراء الفلسفية البحتة؛ لأن الآراء الفلسفية غالبا ما تعكس وجهة نظر شخصية نابعة من النظم الفلسفية لأصحابها، لا من دراسة شاملة للظاهرة الدينية.
تقوم فكرة «فوق الطبيعي»
Supernatural
أساسا لعدد من التعريفات. والتعبير هنا يشير إلى كل ما يتجاوز حدود المعارف الإنسانية ويقع في نطاق السر والمجهول؛ فالدين هو تفكر في كل ما يتأبى على العقل العلمي والتفكير الواضح. يقول هربرت سبنسر: «إن الأديان على قدر اختلافها في عقائدها المعلنة، تتفق ضمنيا في إيمانها بأن وجود الكون هو سر يتطلب التفسير.» ولذا فإن الدين بالنسبة إليه هو: «الاعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم.»
6
ويدور تعريف ماكس مولر (1822-1900م)، الفيلسوف ومؤرخ الأديان الألماني، حول الفكرة نفسها، فيقول في كتابه نحو علم للدين: «إن الدين هو كدح من أجل تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه؛ إنه توق إلى اللانهائي.»
7
وهناك اتجاه في التعريف يقوم على فكرة «الألوهة». يقول م. رافيل في كتابه مقدمة في تاريخ الأديان: «إن الدين هو اشتراط الحياة الإنسانية بإحساس بالاتصال بين العقل الإنساني وعقل خفي يتحكم بالكون، وما ينجم عن ذلك من شعور بالغبطة.»
8
ويقول ف. شلرماخر
F. Schleirmacher (1768-1834م)، وهو لاهوتي ودارس أديان: «إن الدين هو شعور باللانهائي واختبار له. وما نعنيه باللانهائي هنا هو وحدة وتكامل العالم المدرك. وهذه الوحدة لا تواجه الحواس كموضوع، وإنما تنبئ عن نفسها للمشاعر الداخلية. وعندما تنتقل هذه المشاعر إلى حيز التأملات، فإنها تخلف في الذهن فكرة الله. وإن الخيال الفردي هو الذي يسير بفكرة الله إما نحو المفارقة والتوحيد، أو نحو شكل غير مشخص للألوهة يتسم بوحدة الوجود.»
9
ويرى بعض الباحثين أن فكرة الألوهة إذا أخذت بمدلولها الضيق فإنها تترك كثيرا من الأديان خارج دائرة التعريف، وهي الأديان التي تضع في بؤرة معتقدها كائنات روحية من مختلف الأنواع، كأرواح الموتى والأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة المختلفة، والتي لا تنضوي تحت مفهوم الآلهة المعتاد. من هنا يرى إدوارد تيلور (1832-1917م)، وهو مؤسس الأنتروبولوجيا في بريطانيا، أن التعريف الأشمل ينبغي أن يستبدل مفهوم الآلهة بمفهوم «الكائنات الروحية» الأكثر عمومية. يقول تيلور في كتابه
: «إن المتطلب الأول في الدراسة المنهجية لأديان الشعوب البدائية، هو وضع تعريف بدائي للدين؛ ذلك أن التوكيد على الإيمان بكائن أعلى، من شأنه أن يخرج المعتقدات البدائية من دائرة الدين؛ لأن مثل هذا الإيمان هو مرحلة متطورة من الحياة الدينية. من هنا، فإن الأفضل أن نضع حدا أدنى لتعريف يقتصر على الإيمان بكائنات روحية.»
10
والمقصود بالكائنات الروحية عند تيلور، هو كائنات واعية تمتلك قوى وخصائص تفوق ما لدى البشر. ويدخل في عداد هذه الكائنات كل أنواع الأرواح والعفاريت والجن، التي تفترض الذهنية البدائية تداخل عالمها بعالم البشر، كما يدخل في عدادها أيضا الآلهة بالمعنى المعتاد للكلمة. وبما أن هذه الكائنات ليست قوى غفلة عمياء، بل تتمتع بالوعي والإرادة، فإن العلاقة معها تتميز بمحاولة التأثير عليها واستمالتها للوقوف إلى جانب الإنسان، سواء بالكلمات المناسبة أو بالذبائح والتقدمات وما إليها. وهنا يأتي جيمس فريزر (1854-1941)، الأنتروبولوجي البريطاني المعروف، ليقدم تعريفا مكملا لتعريف تيلور. يقول في كتابه الغصن الذهبي الذي صدر في طبعته المختصرة عام 1922م: «إن صياغة تعريف واحد من شأنه إرضاء كل الآراء المتصارعة حول الدين، هو أمر غير ممكن التحقيق. من هنا فإن كل ما يستطيعه الباحث هو أن يحدد بدقة ما يعنيه بكلمة الدين، ثم يعمل على استخدام هذه الكلمة عبر مؤلفه بالمعنى الذي حدده لها منذ البداية. وعليه، فإننا نفهم الدين على أنه عملية استرضاء وطلب عون قوى أعلى من الإنسان، يعتقد أنها تتحكم بالطبيعة والحياة الإنسانية. وهذه العملية تنطوي على عنصرين، واحد نظري والآخر تطبيقي عملي؛ فهناك أولا الاعتقاد بقوى عليا، يتلوه محاولات لاسترضاء هذه القوى . ولا يصح الدين بغير توفر هذين العنصرين ؛ ذلك أن الاعتقاد الذي لا تتلوه ممارسة هو مجرد لاهوت فكري، أما الممارسة المجردة عن أي اعتقاد فليست من الدين في شيء.»
11
في كتابه
The Elementary Forms of Religious Experience ، يوجه إميل دوركهايم، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (1858-1917م)، نقدا شديدا للتعريف الذي قدمه فريزر؛ لأنه يقصر الدين على الممارسات التي تتضمن توسلا لكائنات ما ورائية تسمو على الإنسان. ويرى دوركهايم أن أمثال هذا التعريف تلقى قبولا في الغرب بسبب مطابقتها من حيث الأساس لمفهوم الدين المسيحي، ولكنها لا تنطبق على أديان عدة واسعة الانتشار لا تدور معتقداتها حول أرواح أو آلهة من أي نوع، أو أن هذه الكائنات لا تلعب فيها إلا دورا ثانويا جدا؛ فالبوذية مثلا قد شقت لنفسها طريقا مستقلا عن البراهمانية في الهند، انطلاقا من رفض فكرة الإله؛ فهي نظام أخلاقي بدون مشرع، وإيمان بدون إله. إن البوذي غير معني إطلاقا بمن خلق العالم وكيف، وجل همه يتركز في الكدح من أجل التحرر وتخليص روحه من سلسلة التقمصات في عالم لا يحمل إلا الألم والشقاء. وهو في كدحه هذا لا يستعين بأي كائن ما ورائي من أي نوع، بل يعتمد على قواه الذاتية وحدها. أما الآلهة، فليست، في حال وجودها، إلا كائنات أقدر من الإنسان على التحكم في عالم المادة، ولكنها أسيرة مثله في عالم بائس عليها أن تخلص نفسها منه أيضا.
انطلاقا من هذا النقد، يرى دوركهايم أن أي تعريف للدين يجب أن ينطبق على جميع الديانات، من أكثرها بدائية إلى أكثرها تطورا وتعقيدا. ولكي نستطيع صياغة مثل هذا التعريف، ينبغي لنا أن نبحث عما هو مشترك بين الديانات المعروفة جميعا، ونسقط من حسابنا تلك الأفكار والمعتقدات التي يختص بها دين دون آخر. ولما كانت القوى الفاعلة في الطبيعة ليست وقفا على قوى الكائنات الروحية المشخصة كالآلهة وغيرها (وهذه نقطة سوف نعمل على توضيحها بكثير من التفصيل لاحقا)، فإن الدين لا يمكن تعريفه انطلاقا من علاقة الإنسان بهذه الكائنات. وبدلا من التوكيد على مفهوم الألوهة ومفهوم الكائنات الروحية، يجد دوركهايم أن كل المعتقدات الدينية، بسيطها ومركبها، تنطوي على خصيصة عامة مشتركة؛ فهي تفترض تقسيما لكل الأشياء المنظور منها والغيبي، يضعها في زمرتين؛ زمرة المقدس وزمرة الدنيوي
Sacred and Profane . وهو يرى أن هذا التقسيم إلى عالمين، يحتوي الواحد منهما على كل ما هو مقدس والآخر على كل ما هو دنيوي، هو السمة الأساسية المميزة للفكر الديني، وأن كل التمثيلات الدينية ما هي إلا وسائل تعبير عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقتها ببعضها أو علاقتها بالأشياء الدنيوية. من هنا يمكن أن نفهم لماذا تعتبر البوذية دينا رغم استبعادها للآلهة من معتقدها؛ فهي عوضا عن الإيمان بإله يتمركز حوله المعتقد والطقس، فإنها تؤمن بالحقائق النبيلة الأربع وما يتفرع عنها من ممارسات. إضافة إلى هذه السمة الأساسية للدين، فإن تعريف دوركهايم يؤكد على ناحية أخرى ضرورية، وهي الطابع المجتمعي للدين؛ فالمعتقد الديني الحقيقي هو على الدوام معتقد لجماعة معينة من الناس يقتصر عليها ويميزها عن غيرها من الجماعات. والأفراد الذين يؤلفون هذه الجماعة يشعرون بصلة بعضهم مع بعض، وبالترابط داخل وحدة اجتماعية خاصة بهم انطلاقا من واقعة امتلاكهم لمعتقد ديني خاص بهم. ويطلق دوركهايم على مثل هذه الجماعة المتحدة بالمعتقد اسم الكنيسة. وبناء على ذلك يصوغ إميل دوركهايم التعريف التالي: «الدين هو نظام متسق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى أنواع التحريم. وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة تدعى كنيسة.»
12
والموضوعات المقدسة التي يشير إليها تعريف دوركهايم لا تقتصر على المجردات والغيبيات؛ لأن مفهوم القدسي يمكن أن يشتمل على الموضوعات المادية والمعنوية في آن معا. من هنا فإنه يرى ضرورة وضع معيار للتمييز بين ما هو مقدس وما هو دنيوي في معتقدات وممارسات الجماعة، وهذا المعيار لا يعتمد على المكانة التي يشغلها المقدس في هرمية ما لنظام مؤسس للأشياء، وما تسبغه عليه هذه المكانة من قوة ونبل وما إليها، كما لا يعتمد على العلاقة الدونية التي تسم علاقة الأدنى بما هو أعلى منه؛ فهذه السمات وغيرها قد تنطبق على المقدس ولكنها لا تميزه تماما. إن ما يميز المقدس فعلا هو تغايره المطلق
Heterogeneity
عن الدنيوي، بحيث إننا لا نكاد نعثر في تاريخ الأفكار الإنسانية على زمرتين متضادتين ومتعارضتين، كحال المقدسات والدنيويات. وإلى جانب ذلك، فإن طائفة من التحريمات (= تابو) تتكاثر في طقوس الثقافات البدائية، من أجل العزل الدائم بين المقدس والدنيوي ومنع اختلاطهما، وذلك مثل التحريمات المتعلقة باللمس أو النطق أو النظر ... إلخ. ومع ذلك فإن العبور بين العالمين ممكن، ولكن من خلال نوع من الطقوس التي يدعوها الأنتروبولوجيون بطقوس التعدية (= طقوس العبور= الطقوس الإدخالية =
Initiation ).
لقد أثرت أفكار دوركهايم على كثير ممن جاء بعده من دارسي الدين. ولعل أكثر من تأثر من الباحثين المعاصرين بفكرة المقدس والدنيوي كناظم للتعرف على الظاهرة الدينية، هو مؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد، الذي أصدر عام 1956م كتابا تحت عنوان «المقدس والدنيوي»، درس من خلاله الظاهرة الدينية استنادا إلى التمييز بين زمرتي المقدسات والدنيويات؛ مما أرسى أسسه دوركهايم قبل ذلك بزمن طويل. يقول إلياد: «يتجلى القدسي دائما كحقيقة من صعيد آخر غير صعيد الحقائق الطبيعية ... ويعلم الإنسان بالقدسي لأنه يتجلى، يظهر نفسه شيئا مختلفا كل الاختلاف عن الدنيوي. ويمكننا القول إن تاريخ الأديان، من أكثرها بدائية إلى أكثرها ارتقاء، عبارة عن تراكم من تجليات الحقائق القدسية. ليس ثمة انقطاع لاستمرار الظهورات الإلهية، بدءا من تجلي القدسي في شيء ما كحجر أو شجر، وانتهاء بالتجلي الأعلى الذي يتمثل لدى المسيحي بتجلي الله في يسوع المسيح؛ إنه الفعل الخفي نفسه: تجلي شيء مختلف تماما، أي حقيقة لا تنتسب إلى عالمنا، في أشياء تشكل جزءا لا يتجزأ من عالمنا الطبيعي الدنيوي.»
13
وأخيرا، لا بد لأي حديث في تعريف الدين من أن يتوقف عند رودولف أوتو (1869-1937م)، وهو لاهوتي ألماني وباحث في تاريخ وفينومينولوجيا الدين؛ وذلك نظرا للسلطة الكبيرة التي مارسها في كتابه «فكرة المقدس» على الدراسات الدينية، منذ صدوره عام 1917م. يعالج أوتو في كتابه، وبشكل أوضح وأوسع، الفكرة التي كان قد تقدم بها شلرماخر حول وجود وعي بالقدسي مغروس في النفس الإنسانية. وهو يبدأ القول بأن القدسي قد فقد معناه الأولي وتحول إلى جملة من التشريعات الأخلاقية والتقوى السلوكية. أما الحالة الأصلية للوعي بالقدسي، فتجربة انفعالية غير عقلية هي أساس الدين. وتنطوي هذه التجربة على مجابهة مع قوة لا تنتمي إلى هذا العالم، تعطي إحساسا مزدوجا بالخوف والانجذاب في آن معا. إنها تجربة مع الآخر المختلف كليا، تأبى على الوصف بالمصطلحات والتعابير المعتادة في وصف التجارب الأخرى. وإن الانقياد إيجابيا لهذه التجربة فكرا وعملا هو الذي يكون الدين. ويطلق أوتو على الإحساس بحضور الآخر المختلف كليا تعبير الإحساس النيوميني
Numinous ، وقد نحته من الكلمة اللاتينية
Numen
التي تعني تجلي الألوهة، كما تعني قوة أو إرادة الألوهة. وهو يرى أن هذا العنصر النيوميني في التجربة الدينية هو حالة أولانية
Apriori
للوعي، وتكمن في البنية الأساسية لكل التجارب الدينية.
14
ومنهج أوتو في كتابه منهج سيكولوجي ظاهراتي؛ فلقد حاول وصف البنية الأساسية للدين، ورد الفعل الإنساني على خبرة القدسي، موضحا لا جدوى المقتربات العقلانية في دراسة الدين؛ ذلك أن الدين هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية، وموجود معها منذ البداية. وبينما تكون التعبيرات الظاهرية عن الدين عرضة للتغير والتبدل مع الزمن، فإن التكوين السيكولوجي الذي يجعل الدين ممكنا عند الإنسان ثابت لا يتغير.
أكتفي بهذا العدد من التعريفات التي اخترت تقديمها هنا، من أجل رصف مدخل سهل يضعنا في صلب الموضوع. ولعل الاستعراض السريع لما قدمته، يظهر الاختلاف الواسع في وجهات النظر إلى الدين. وهذا الاختلاف لا يرجع في رأيي إلى عدم قابلية الظاهرة الدينية للإحاطة والتعريف، بل إلى التباين في الأفضليات وزوايا النظر. وهذا الوضع لا يقتصر على مادة دراستنا هنا، بل إنه شأن معتاد كلما تعلق الأمر بظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية. فالعائلة الإنسانية مثلا تبدو لناظرها بشكل يختلف باختلاف زاوية نظره؛ فهي لعالم الاجتماع الوحدة الأساسية المكونة للمجتمع، وهي لعالم النفس التربة الخصبة للصحة أو للمرض النفسي ، وللمصلح الاجتماعي وسيلة ضبط وتنظيم جنسي وعاطفي، ولبعض أصحاب الاتجاهات السياسية الجذرية وسيلة قمع في يد الطبقات الحاكمة. وبين هذا وذاك، تبقى العائلة ظاهرة إنسانية قابلة للإحاطة والتعريف، ولكن من منطلق شمولي يهدف إلى الكشف عن ماهيتها دون معيار مسبق، ومن غير السعي إلى تقييمها وإصدار حكم أخلاقي بشأنها. وفي مجال الدين، فإني أرى أن اختلاف وجهات النظر ناجم عن عدم التفريق، غالبا، بين ثلاثة تبديات ملحوظة للظاهرة الدينية مما سأبسطه فيما يأتي.
الفصل الثاني
تبديات الظاهرة الدينية
الدين الفردي، الدين الجمعي، المؤسسة الدينية
تتبدى الظاهرة الدينية في ثلاثة أشكال يمكن وصفها، إما بالمراقبة المباشرة أو بالاستماع إلى شهادات الأفراد عن خبراتهم الشخصية. وهذه الأشكال هي: (1)
الدين الفردي، وسأطلق عليه اسم الخبرة الفردية أو الحس الديني. (2)
الدين الجمعي، وهو نتاج مرشد للخبرات الدينية الفردية. (3)
الدين المؤسساتي، وهو البنية المصطنعة التي تقوم فوق الدين الجمعي في المجتمعات ذات التكوين السياسي والاجتماعي المركب. (1) الدين الفردي
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الإنسان في أعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين؛ فإذا كان لكل بناء سامق أساس يقوم عليه، فإن بناء الدين إنما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية. وإذا أردنا الإخبار عن هذه الخبرة الأساسية، اعتمادا على الاستبطان وعلى شهادة الآخرين ممن عبروا عن تجاربهم تلك، قلنا إنها إحساس أولاني متمكن من السيكولوجيا الإنسانية، قوامه مواجهة فريدة مع قوة شمولية منبثة في هذا العالم، تبدو متصلة به قدر استقلالها عنه. إنه المقدس الكلي وقد صار ماثلا في النفس التي تختبر حضوره بكليتها وفي معزل عن أي موقف عقلاني نقدي. وكما لاحظ رودولف أوتو، بحق، فإن هذا الإحساس هو واقعة نفسانية، لا تنشأ عن أية إرادة أو تصميم مسبق، بل العكس هو الصحيح تماما؛ ذلك أن الفرد يجد نفسه تحت سلطان هذا الإحساس، دون مقدرة منه على توجيهه أو التحكم به، فهو ضحيته أكثر منه خالقا له. ونظرا لهذا الطابع الانفعالي غير العقلاني الذي تتسم به التجربة، فإن التعبير عنها بلغة الواقع المعاش ومفردات التجارب اليومية، هو أمر على غاية من الصعوبة.
إن أكثر ما أود التوكيد عليه هنا، هو أن اختبار القدسي من خلال الحالة الانفعالية التي وصفتها، هو أمر سابق على أي تصور عقلاني لإله مشخص أو كائنات روحية متفوقة واعية. فغير العقلاني في هذه التجربة يسبق العقلاني، والتعبير الرمزي عن الكلانية الحاضرة في النفس يسبق المفاهيم. من هنا فإن شارة القدسي قد سبقت تمثال الإله المشخص، أو صورته المرسومة، في تاريخ الأديان البشرية. ولسوف أوضح بالتفصيل في فصول لاحقة، ومن خلال معالجتي الخاصة لديانات العصر الحجري القديم والحديث، كيف تقدمت الرموز التشكيلية التي تشير إلى «الألوهة» تمثال الإله، وكيف تكونت صور الآلهة نتيجة للتوتر الذي يحصل بين الخبرة الأولانية بالقدسي من جهة والأفكار المرشدة من جهة أخرى.
هذا الحس الديني، أو الخبرة الدينية الفردية، ليس ظاهرة يمكن مراقبتها ووصفها من الخارج، وإنما هو أمر ذاتي يختبر فرديا، ولا يستطيع الباحث أن يعرف عنه إلا بالتنقيب في ذاكرته وسيرته الذاتية، وبالاستماع إلى شهادات الآخرين التي ما فتئت تتالى منذ بدايات التاريخ المكتوب. وهو لا يختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون أخرى، بل يتعرض له الجميع وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معه بدرجات متفاوتة أيضا من القبول والاعتراف، خصوصا في العصر الحديث حيث يباهي معظمنا بركونه إلى العقل وبعده عن كل ما لا يمت إلى العلم التجريبي بصلة، في زمن تراجعت فيه الآلهة عن مواقعها القديمة، وباتت (على حد تعبير غوستاف يونغ) سيئة السمعة إلى حد كبير. وفي حال إفساح المجال كاملا أمام هذه الخبرة الدينية المباشرة، أو اقتحام الحس الديني ساحة الشعور وتجاوزه كل مقاومة مصطنعة، فإن الفرد غالبا ما يلجأ إلى تحويل مساره ليصب في عقيدة مؤسسة ومصاغة في قالب ثابت، تنشأ حولها طقوس معروفة للجميع، تدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. وحول هذا الموضوع يقول يونغ: «لقد كان هنالك منذ فجر البشرية ميل ظاهر إلى رسم حدود للتأثير فوق الطبيعي ، العاصف والتحكمي، وذلك في صيغ وشرائع محددة. وعلى مدى الألفين من السنين الماضية، مثلا، نجد الكنيسة المسيحية قد اتخذت لنفسها دور الوساطة والوقاية بين هذه التأثيرات والإنسان.»
1
في العقيدة والطقس المؤسسين اجتماعيا، تذوب الخبرات الفردية في خبرة واحدة مشتركة، هي الدين الجمعي. أما أولئك الأفراد الذين يستسلمون للخبرة المباشرة دون التماس عون من معتقدات وطقوس جمعية، فهم غالبا من طينة المتصوفة والشامانات ومؤسسي الديانات الجديدة. فعند هؤلاء تبلغ الخبرة الدينية المباشرة درجة عالية من الشدة، تنتج ما ندعوه بحالة الوحي، وهي أقصى حالات المواجهة بين الفرد المنعزل والمقدس الكلي. وأعلى درجات الوحي هي الدرجة التي تدعو إلى الفعل، إلى تغيير المعتقد السائد بدلا من الهروب إليه؛ أي إن وطأة الخبرة الدينية تدعو إما إلى تحويلها إلى مسار العقيدة الجمعية، وإما إلى تحويل العقيدة الجمعية إليها. نقرأ عن تجربة النبي إرميا في التوراة:
كانت كلمة الرب إلي قائلا: «وقبل أن أصورك في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدستك وجعلتك نبيا للأمم ... ثم مد الرب يده ولمس فمي وقال لي: ها أنا ذا قد جعلت كلامي في فمك. انظر، إني أقمتك اليوم على الأمم وعلى الممالك لتقطع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس.»
2
وعندما تنتقل الخبرة الفردية إلى مرتبة الوحي، فإن هذا الوحي، شأنه شأن الخبرة التي مهدت له، يقتحم ساحة الشعور دون مقدرة على صده أو التحكم بشدته؛ فعندما مال النبي يونان إلى إغلاق بوابة الوحي والعزوف عن الاستجابة إليه ألقي في جوف الحوت، حيث لبث بضع ليال في ظلمة مطبقة حيث لا يشغله شيء عن الاستماع إلى نداء الوحي، وحيث عرف أنه لا مهرب من ذلك النداء المنبعث من أعماق نفسه.
3
وفي بقية كتب الأنبياء في التوراة، نلاحظ كيف تعكس عملية الوحي ذلك الاقتحام المباغت لحالة نفسية ليست من صنع صاحبها، ولا دخل له في استجلابها، فتجعل من كلماته مركبة لمعان علوية ليست من صياغته ولا من ابتكاره. نقرأ في سفر حزقيال: «فدخل في روح لما تكلم معي، وأقامني على قدمي فسمعت المتكلم معي، وقال لي يا ابن آدم، أنا مرسلك إلى أمة متمردة، هم وآباؤهم عصوا علي ...»
4
وفي أكثر من موضع نقرأ «وكانت يد الرب علي»، أو «وكانت يد الرب قوية علي»، في إشارة من النبي إلى قوة الوحي القاهرة التي لا يستطيع حيالها شيئا سوى الامتثال. وفي خضم نطقه بالنبوءة، غالبا ما تتلاشى شخصية النبي ليجري لسانه بخطاب مباشرة من القدرة الإلهية إلى الناس. وها هو إشعيا يقول: «أنا هو، أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أسست الأرض، ويميني نشرت السموات ...»
5
وفي التقاليد الإسلامية غير الرسمية، يرث الأئمة والأولياء وحي الولاية عن النبي؛ فالترمذي في خاتم الأولياء، ومحيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية، يريان في الولاية نبوة عامة لا تشريع فيها في مقابل النبوة الخاصة التي هي نبوة التشريع، وأن النبي محمدا قد جمع في شخصه النبوتين؛ فهو يورث النبوة العامة، ولكنه لا يورث النبوة الخاصة.
6
كما أن ابن عربي يوحد بين الإمامة والولاية، وهو يرى أنه في الزمن الواحد قد يأتي إمامان؛ إمام ظاهر هو الخليفة الحاكم، وإمام باطن هو «صاحب الوقت» الذي يدعى أيضا ب «القطب» و«الغوث»، وهو الخليفة الحقيقي. وهذان الإمامان في اتفاق تام لا يتنازعان؛ لأن لكل منهما مجالا وسلطانا، والإمام الباطن يمد على الدوام الإمام الظاهر ويسنده، ولولا هذا المدد لما دامت إمامة الظاهر. وتختم الإمامة بالإمام الأكبر، وهو الإمام المهدي كما يسميه ابن عربي.
7
ويسمي ابن عربي الوحي الذي يتلقاه الأئمة والأولياء بالوحي الإلهي الخاص، فهو يقول: «فإذا أراد الحق أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما، تجلى الحق في صورة ذلك الأمر لهذه العين التي هي حقيقة ذلك الولي الخاص، فيفهم من ذلك التجلي ما يريد الحق أن يعلمه به، فيجد الولي في نفسه علم ما لم يكن يعلم.»
8
ولعل أوضح مثال من التراث الصوفي الإسلامي على هذا النوع من الوحي الخاص، ما تركه لنا النفري في مواقفه ومخاطباته؛ فعندما يبتدئ النفري موقفا من مواقفه بالقول «فأوقفني في ... وقال لي ...»، أو عندما يبتدئ مخاطبته بقوله «يا عبدي ...»، فإنما يعبر عن أشد حالة من حالات الوحي التي يمكن أن يتعرض لها بشر من خلال تجربته الدينية الفردية، بعد تجارب الأنبياء، يقول: «أوقفني في الأمر وقال لي ... أنا ناظرك وأحب أن تنظر إلي، والإبداء كله يحجبك عني؛ نفسك حجاب، وعلمك حجاب، ومعرفتك حجاب، وأسماؤك حجاب، وتعرفي إليك حجاب، فأخرج من قلبك كل شيء، وأخرج من قلبك العلم بكل شيء وذكر كل شيء، وكلما أبديت لقلبك باديا فألقه إلى بدوه، وفرغ قلبك لتنظر إلي ...»
9
أما في المخاطبات فتغيب صيغة «أوقفني وقال لي ...» ليحل محلها خطاب الحق مباشرة على لسان النفري: «يا عبد اصحبني إلي تصل إلي ... يا عبد إذا رأيتني ضننت بك على الطرق إلي فلم أقمك بسواي بين يدي.»
10
وفي المجتمعات الشامانية، حيث لم يصل الدين بعد إلى درجة كافية من التقنين والتنظيم للتجربة الروحية الجمعية، تتركز الحياة الروحية للقبيلة حول شخصية واحدة فذة هي الشامان. إن ما يميز الشامان في مجتمعات الصيد هذه عن الكاهن في المجتمعات الزراعية المستقرة، هو تفرد التجربة الروحية الفردية للشامان عمن سبقه وعمن سيليه من الشامانات؛ إنه لا يسير في طريق سلكه سلفه، ولا يعبد طريقا لخلفه، بل يرتقي بقواه الخاصة ثم لا يعمل على تقنين تجربته لتكون حذوا لغيره. أما الكاهن فإنه (رغم القوى الخاصة التي يتمتع بها، والتي أهلته أصلا لأن يلعب دور الموجه الروحي) يلعب دورا مرسوما بدقة في دين الجماعة المؤسس منذ القدم على قواعد ثابتة، وما على الكاهن إلا السير على مسالك من سبقه من الكهنة. وهذا ما يفرق الشامان أيضا عن مؤسس الديانة الجديدة؛ لأن طريقة الشامان تنتهي بموته، أما طريقة مؤسس الديانة فتغدو نمطا لكل الجماعة ولكل من يجيء بعده خليفة.
يمر الشامان قبل ارتقائه لمنصبه الروحي الرفيع بتجربة وجدية فردية بالغة الغرابة والشدة، فيصعد إلى السموات العلا ويهبط إلى الدرك الأسفل من الجحيم؛ لكي يتمرس بالعوالم القدسية أبيضها وأسودها، فيصبح بعد ذلك أهلا لوظيفته، التي تقوم على التوسط بين عالم الناس وعالم الأقداس. وعندما ينهي المرشح تجربته بنجاح يرسم شامانا طيلة حياته من قبل أفراد القبيلة، ليدافع عنهم ضد الأرواح الشريرة والأمراض والسحر الأسود، وينمي بينهم الصحة والحياة السليمة والخصب. وقد جمع الأنتروبولوجيون المعاصرون عددا من الشهادات المباشرة عن تجربة الشامان الروحية، وهذه شهادة شامان من سيبيريا، حيث نعثر على الشامانية في شكلها الأنقى، يقول: «لقد دفعتني أرواح أجدادي من الشامانات في هذا الطريق دون خيار، فصرت شامانا ولم أتعد الخامسة عشرة من عمري. في البداية، اضطجعت مريضا مدة عام كامل، وكانت نوبات من الإغماء تأتيني على فترات متتابعة مصحوبة بتعرق شديد، فكنت أصرف المرض عني بالإنشاد. بعد ذلك جاء أسلافي فأنهضوني فنصبوني دريئة لسهامهم يطلقونها علي حتى غبت عن الوجود، عندها قاموا بتقطيع أوصالي ونزعوا لحمي عن عظمي. وبعد انقضاء صيف كامل أعادوني إلى سيرتي الأولى، بدون ذلك ما كان لي أن أغدو شامانا.»
11
ويصف آخر المعراج الذي تقوم به روح الشامان في فترة التهيئة، فيقول: «هنالك في العلا، شجرة معينة تتعهد أرواح الشامانات بالرعاية حتى يمتلكوا قواهم الشامانية كاملة، وعلى أغصان هذه الشجرة أعشاش لسكن تلك الأرواح، وكلما كان العش الذي تأوي إليه روح الشامان أعلى كلما اكتسبت قوى أكبر. وفيما بعد، وكلما أراد الشامان استخدام قواه، ترتقي روحه تلك الشجرة حتى تصل ذرى السماء.»
12
هذا الوصف الذي يقدمه لنا الشامان وغيره من أصحاب التجارب الوجدية الفائقة، يجب ألا يؤخذ بحرفيته وبمعناه المباشر؛ لأن صاحب التجربة إنما يحاول أن ينقل من خلال اللغة المعتادة ما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، فيلجأ إلى المجاز والرمز، ومخاطبة أقرانه بصور وكلمات من شأنها تقريب رؤيته إليهم. وإلا فكيف ننظر إلى تلك الصور الباهرة في سفر يوحنا اللاهوتي: «كنت في الروح في يوم الرب، وسمعت ورائي صوتا عظيما كصوت البوق قائلا: أنا هو الألف والياء الأول والآخر، والذي تراه، اكتب في كتاب وأرسل إلى السبع الكنائس ... فالتفت لأنظر الصوت الذي تكلم معي، ولما التفت رأيت سبعة المنابر من ذهب، وفي وسط سبعة المنابر شبه ابن إنسان متسربلا بثوب إلى الرجلين ومتمنطقا عند ثدييه بمنطقة من ذهب. وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض، كالثلج، وعيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس النقي كأنهما محميتان في أتون، وصوته كصوت مياه كثيرة، ومعه في يده اليمنى سبعة كواكب ...»
13
وفي مقابل التكلم بمثل هذه المجازات يفضل آخرون الصمت في حضرة القدسي؛ يقول النفري: «وأوقفني في الصمت وقال لي: «إن لي عبادا صامتين رأوا جلالي فلا يستطيعون أن يكلموه، ورأوا بهائي فلا يستطيعون أن يسبحوه؛ فلا يزالون صامتين حتى آتيهم فأخرجهم من مقام صمتهم إلي. فمن صمت عني فهو عبدي الصامت.» وقال لي: اصمت لي ما استطعت تكن أول من يدعى إلي إذا جئت. وقال لي: عبدي الصامت أتلقاه قبل موقفه وأشيعه إلى داره.»
14
وليست تجربة مؤسسي الديانات بكثيرة الاختلاف عن بقية التجارب الروحية الكبرى إلا من حيث نتائجها؛ فتجارب هؤلاء لا تكتمل إلا بتعميمها وهداية الآخرين إلى ما اهتدوا إليه: «هنا، وفي هذا المكان، سأجلس حتى يبلى جسدي ويجف جلدي، أو أصل إلى المعرفة.» هذا ما قاله البوذا وهو يأخذ مكانه تحت شجرة الاستنارة، والأرض اهتزت ست مرات. ولكن رئيس الأبالسة أحس بالخطر الداهم على سلطانه إذا استنارت نفس البوذا وسطعت جنباته بالحقيقة، فجاء بكل مغريات الدنيا وعرضها أمامه ليثنيه عما انتوى، إلا أن قلب البوذا بقي ساكنا كبرعم لوتس فوق مياه بحيرة صافية، راسخا كجبل عميق الأسس، ثم أطلق كبير الأبالسة عليه أصنافا مرعبة من العفاريت وتنانين هائلة أحاطت بشجرة الاستنارة، وراحت تضيق الخناق عليها، ولكنها ارتدت أخيرا خائبة مدحورة. وما إن حل المساء الموعود حتى بدا قلب البوذا يضيء بالاستنارة كزهرة كونية تتفتح. في البداية اطلع فؤاده على أحوال كل الكائنات الحية وأسباب ولاداتها الثانية، عبر الأمكنة وظلال الدهور، رأى الكائنات تحيا وتموت وتتناسخ، وتذكر هو نفسه حيواته السابقة، وفهم الصلات الحتمية بين الأسباب ونتائجها، ثم تأمل في المعاناة البشرية فاستبصر أصلها ووسائل الشفاء منها. وما إن لاح الصباح حتى حصل على الاستنارة الكاملة ... عقب ذلك انفتح أمام البوذا طريقان؛ فإما الدخول في النيرفانا عالم السكينة الأبدية، وهذا ما انطلق رئيس الأبالسة يحضه على اختياره، أو البقاء في عالم الآلام للتبشير بما اهتدى إليه، وهذا ما اجتمعت الآلهة طرا لكي تحضه على اختياره. ولما تردد برهة في الاختيار تقدم إليه الإله الكبير براهما يرجوه البقاء لنشر دعوته، فلبى البوذا النداء رافضا خلاصه الفردي، مفضلا خلاص الجنس البشري كله.»
15
وهكذا عمم الأمير سدهارتا الذي صار بوذا تجربته الفردية لتصير دينا لملايين الناس.
ويتكرر عنصر تجربة الشيطان للمستنير المقبل على تغيير وجه العالم في استنارة يسوع المسيح؛ فبعد هبوط الروح القدس على يسوع عقب اعتماده على يد يوحنا المعمدان عند الأردن، أخذه الشيطان إلى الصحراء يجربه أربعين يوما: «وقال له إبليس: إن كنت حقا ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا. فأجابه يسوع قائلا: مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أصعده إبليس إلى جبل عال، وأراه ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن (أي الممالك)؛ لأنه إلي دفع وأنا أعطيه لمن أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع. فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد ... ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين.»
16
وبعد ذلك يأتي يسوع إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ويدخل المجمع حسب عادته كل سبت ويبدأ تبشيره.
إن هروب الفرد من خبرته الدينية المنعزلة إلى الجماعة، أو جذب الجماعة إلى تجربته عوضا عن ذلك، هو الذي يخلق ما أسميته بالدين الجمعي، وهو التبدي الثاني للظاهرة الدينية. (2) الدين الجمعي
تتخذ الظاهرة الدينية سمتها الجمعية عندما يأخذ الأفراد بنقل خبراتهم المنعزلة إلى بعضهم بعضا، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة، وذلك باستخدام مجازات من واقع اللغة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات الدينية المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة، وهذا ما يقود إلى تكوين المعتقد ، وهو حجر الأساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي. فهنا تتعاون عقول الجماعة، بل وعقول أجيال متلاحقة ضمن هذه الجماعة، على وضع صيغة مرشدة لتجربتها. وعندما يوضع المعتقد الديني في صيغته الناجزة وأطره الثابتة، يجد الأفراد أنفسهم مضطرين، وبدافع الميكانيكية التي تربط الفرد بالجماعة، إلى التماثل معه، وإلى فهم وتفسير خبراتهم وفقه. ومع المعتقد الذي ترسخ الآن يظهر الطقس المنظم، وهو أقوى أشكال التعبير عن الخبرة الدينية وقد انتقلت إلى مستواها الجمعي. فمن خلال القرابين والرقص والحركات الدرامية التي تؤدى وفق سيناريو ثابت، تعمل الجماعة على دمج الاستجابات الانفعالية المتفرقة في استجابة ذات طابع مؤسس عام، ترسم موقف الجماعة الخاص من القدسي الذي تستشعر حضوره الشامل في النفس وفي الطبيعة. ومع المعتقد أيضا تظهر الأسطورة التي تعمل على توضيح الاعتقاد وتجذيره. ولسوف أتوقف فيما بعد عند هذه العناصر الثلاثة وأشرحها بالتفصيل؛ لأني أرى فيها المكونات الأساسية للدين.
ويمكن مقارنة العلاقة بين الدين الفردي والدين الجمعي بالعلاقة بين الفرد والمجتمع؛ فنحن مهما عدنا بالزمن إلى الوراء، لا نستطيع تلمس دلائل تشير إلى وقت عاش خلاله الأفراد البشريون في عزلة عن بعضهم البعض، بل إننا نواجه الإنسان على الدوام ضمن جماعة، حتى عند أسلاف «النياندرتال» من أشباه الإنسان. غير أن حقيقة اجتماعية الفرد البشري لا تنفي حقيقته الأخرى ككائن ذي وجود مستقل، بل إن هذا الوجود الفردي المستقل هو الوحدة الأساسية التي يقوم عليها بناء المجتمع، وهذا ما ينطبق أيضا على الدين الفردي والدين الجمعي. لقد حكى ابن طفيل الأندلسي في كتابه «حي بن يقظان» عن كائن بشري عاش حياته في عزلة كاملة عن الأناسي منذ أن التقطته غزالة في القفر وأرضعته، وشرح لنا الخبرة الدينية لهذا الكائن، وكيف توصل إلى اعتقاد ديني معين من خلال حركته الذهنية والنفسية ودونما إيحاء من أحد. غير أننا في الواقع لا نستطيع العثور على مثل هذا الكائن في ماضي البشرية وحاضرها، لنختبر عنده نشوء الحس الديني وتحول هذا الحس إلى معتقد ناضج. ومع ذلك فإن هذا لا ينفي، في اعتقادي، أن الدين كظاهرة اجتماعية إنما يقوم انطلاقا من ظاهرة فردية في أساسها.
ويعتقد كارل غوستاف يونغ بوجود جدلية لا غنى عنها بين الدين المؤسس اجتماعيا وبين الخبرة الدينية الفردية المباشرة. وهو يرى أن للدين وظيفة نفسية كبيرة الأهمية في المجتمع؛ لأنه يقدم للأفراد جملة من الرموز الموظفة في معتقد وطقس منظمين تنظيما مكينا، من شأنها التعويض عن الخبرة الدينية المباشرة ورد غائلتها في الأحوال الشديدة. وقد شرح حالات كثير من مرضاه النفسانيين الذين واجهوا تجربة دينية ساحقة في ظل الإصرار على رفض الخضوع لسلطان مرجع ديني، وشرح كيف رافقهم في انهياراتهم النفسية الشديدة، حتى لقد بات مقتنعا بما للعقيدة والطقس من أهمية عظيمة بما هما منبعان للصحة العقلية. يقول في كتابه «الدين في ضوء علم النفس»: «إذا جاءني مريض كاثوليكي، نصحت له بالاعتراف والمناولة لكي يدفع عن نفسه غائلة الخبرة المباشرة، أما إذا جاءني مريض بروتستانتي فما كانت النصيحة مفيدة له؛ لأن العقيدة والطقوس غدت في البروتستانتية باهتة وخافتة، حتى لقد فقدت تأثيرها إلى حد كبير. يضاف إلى ذلك أن الكاهن البروتستانتي قد خضع لتدريب علمي في معاهد لاهوتية قضت على براءة الإيمان.»
17
وهذا ما يقودنا إلى المؤسسة الدينية، وهي التبدي الثالث للظاهرة الدينية وفق تصنيفنا. (3) المؤسسة الدينية
يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية وموقفنا منها إلى درجة تبعث على التشويش، وتؤدي إلى نتائج مفجعة في بعض الأحيان. ولعل أوضح مثال على ما أسوقه هنا، هو تلك الجملة التي وردت في كتاب للفيلسوف الاجتماعي كارل ماركس (1818-1883م)، والتي تقول بأن «الدين أفيون الشعوب». فلقد تحولت هذه الجملة، بعد أن انتزعت من سياقها، إلى شعار رفعته أحزاب في موقع السلطة، وحاربت من خلاله كل أشكال الحياة الدينية، حتى ظنت أنها قادرة على اجتثاث الميل الديني من نفوس الناس طرا. والحقيقة أن ما قصده ذلك الفيلسوف ينصب في معظمه على المؤسسة الدينية لا على الدين، على تفسير المؤسسة الدينية للدين لا على تدين الناس، على تسييس الدين واستخدامه أداة ضغط وتسلط، سواء من قبل السلطة الزمنية، أم من قبل أية شريحة أو فئة تجعل من نفسها قيما على دين الناس ومرجعا أعلى لتفسيره والعمل بموجبه.
وفي الحقيقة، فإن المؤسسة الدينية هي بنية اجتماعية حديثة نسبيا في تاريخ الحضارة الإنسانية؛ فلقد عاشت الجماعات البشرية وفقا لمعتقداتها، ومارست طقوسها، وقصت أساطيرها لعشرات الألوف من السنين، دون مؤسسة دينية تشرف وتوجه وتجعل من نفسها السلطة المرجعية العليا. ربما قام أفراد متميزون، في مجتمعات العصر الحجري والمجتمعات القروية الأولى، بالإشراف على الطقوس الدينية والتوسط بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية، إلا أن هؤلاء لم يتخذوا صفة الكهان المرسومين، ولم يتمتعوا بسلطة مطلقة على الحياة الدينية لجماعاتهم. وربما تركزت الطقوس حول أماكن مقدسة كغابة ما أو بحيرة أو نبع، أو موضوعات مقدسة كشجرة ما أو صخرة، ولكن دور العبادة المكرسة لم توجد ولم تأخذ طابعها المعروف، إلا في نهايات العصور الحجرية والاقتراب من مطالع الفترات التاريخية. وتؤكد نتائج التنقيب الأثري في مواقع العصر الحجري الحديث (النيوليتي) ملاحظتنا هذه؛ ففي المستوطنات المستقرة الأولى السابقة للزراعة، لم يلحظ المنقبون بنى معمارية خاصة استخدمها الناس لأغراض العبادة، وذلك رغم عثورهم على الكثير من اللقى الأثرية ذات العلاقة بالمعتقدات والطقوس الدينية. أما في المواقع الزراعية التي تبدأ في الظهور والانتشار مع مطلع الألف الثامن قبل الميلاد، فهنالك دلائل قليلة جدا على وجود بيوت متواضعة لا تختلف عن بيوت السكن، مخصصة لأغراض دينية. ولا تأخذ هذه البيوت العادية بالتمايز عن غيرها والتحول إلى هياكل حقيقية إلا مع اقترابنا من العصور التاريخية. يضاف إلى ذلك أن الدراسة المدققة لعادات الدفن والهدايا الجنائزية المرافقة للموتى مثل السلاح والأدوات الشخصية، لم تثبت وجود شخصيات ذات طابع اجتماعي متميز مثل الملوك والقادة ورجال الدين. الأمر الذي يدل على أن هذه المناصب لم تكن مناصب دائمة، وأن شاغليها كانوا يختارون في وقت الحاجة ويستغنى عنهم كلما بطلت الحاجة إليهم، أو يستبدل غيرهم بهم دوريا. وهذا إجراء يتناسب وحالة المشاعة الأولى المترافقة مع ديمقراطية بدائية.
تأخذ ملامح المؤسسة الدينية بالتوضح خلال المرحلة الانتقالية بين المجتمعات القروية والمجتمعات المدينية الأولى.
18
وتظهر التنقيبات الأثرية في مواقع نهايات العصر النيوليتي هذا التوجه الواضح؛ ففي القرى الزراعية النيوليتية التي تحولت إلى أشباه مدن، مثل شتال حيوك في سهل قونية بجنوب الأناضول، نجد البدايات الأولى للمعابد المكرسة، وذلك على شكل هياكل صغيرة للأم الكبرى وابنها الثور الإلهي. وفي جنوب وادي الرافدين خلال عصر تل العبيد، الذي شهد النقلة الحاسمة نحو حضارة المدينة، يمكننا تتبع مسار الانتقال من مقام متواضع للإله إلى معبد كبير يرتفع قرب القصر الملكي. ففي البداية، كان بيت الإله عبارة عن كوخ مبني بالطين ومسقوف بعيدان القصب كبقية بيوت الناس، فيه ينصب رمز الإله الذي كان عبارة عن جذع شجرة أو حزمة من أعواد القصب، وإليه تلجأ الجماعة لاستطلاع مشيئة الإله والتماس عونه. ولكن مع نشوء المدن الأولى واتساعها، تحول المقام الصغير إلى معبد كبير فيه قدس الأقداس الذي تتوزع حوله أجنحة لشتى الأغراض الدينية، ثم أحاط بهذه النواة عدد من الأبنية الملحقة، فيها حجرات لمعيشة الكهان، وأخرى للدرس والتعليم، ومكاتب إدارية من مطابخ ومشاغل حرفية وما إليها، فامتلأ هذا المجمع الديني بشتى أنواع المتفرغين لخدمة المعبد. ويكفي أن نعرف أن عدد الكهنة المتفرغين ومن في عدادهم، قد بلغ 736 كاهنا في المعبد الرئيسي لمدينة لجش السومرية، حتى ندرك مدى سلطة المؤسسة الدينية وسطوتها. ولقد بلغ عدد المعابد في مدينة بابل أيام الملك نبوخذ نصر ما يقارب ال 58 معبدا. ولنا أن نتصور هنا كم يلزم من الآلاف المؤلفة من رجال الدين للقيام على خدمة هذه المعابد.
19
فإذا كان الدين ظاهرة مترافقة مع الإنسان منذ استقلاله عن المملكة الحيوانية، فإن المؤسسة الدينية هي ظاهرة جديدة ومرتبطة بحضارة المدينة، وبمدى تطور البنى والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في مجتمع المدينة، وهو المجتمع الذي تشكل لأول مرة في المشرق العربي القديم، وصار فيما بعد الشكل المميز للحضارة العالمية. ويبدو أن السبب المباشر في ظهور المؤسسة الدينية لدى الجماعات النيوليتية عند أعتاب التاريخ، هو وصول هذه الجماعات إلى مستوى اقتصادي متطور، من شأنه تحقيق فائض دائم في الإنتاج، يسمح بتفريغ عدد لا بأس به من الرجال والنساء للإشراف على المعبد وإدارة الشئون الدينية. ويبدو أن هذه النواة الأولى من رجال الدين الذين لا يعملون في الزراعة وإنتاج المواد الغذائية، كانت الوحدة الأساسية في بنية المدينة. فبعد إقامة المعبد الكبير، تركزت حوله مجموعة من النشاطات المرتبطة به، والتي أدت مع الزمن إلى تكوين المؤسسات المدنية المختلفة. ومن ناحية أخرى، فإن المعلومات التاريخية التي حصلنا عليها من مواقع المدن الأولى في سومر، تظهر الارتباط الوثيق، والتزامن، بين تطور المؤسسة الدينية وتطور المؤسسة السياسية. وليس قيام ملوك دويلات المدن السومرية بالجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، إلا مثالا على هذا الارتباط؛ فالملك السومري كان يحمل لقب «إن» الذي يتضمن معنى الملك بالمفهوم السياسي الذي نعرفه، وأيضا معنى الكاهن الأعلى.
ورغم انفصال السلطة السياسية عن السلطة الروحية فيما بعد، فإن المؤسسة الدينية حافظت بشكل أو آخر على طابعها السياسي، وغلب هذا الطابع على علاقاتها بالسلطة الزمنية؛ فطالما حافظ النظام السياسي على قوته، بقيت المؤسسة الدينية ضمن الحدود التي رسمها لها وقدمت له الخدمات المطلوبة، فإذا تضعضع النظام السياسي بغت عليه المؤسسة الدينية وجعلت منه مطية لها تحكم من ورائه. وهنا يمكن أن نذكر بالمثال الذي يعرفه الجميع عن نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى ومطلع العصور الحديثة، وعن سلطان الباباوات على ملوك أوروبا.
لن أفصل أكثر في بحث المؤسسة الدينية؛ لأن مثل هذا البحث لا يدخل في مجال تاريخ وفينومينولوجيا الدين، وهو أقرب إلى مجال العلوم الاجتماعية. ولعل ما سقته هنا يكفي للدلالة على أن المؤسسة وتطورها كان مرهونا بظروف تعقد الحياة الاجتماعية، ولم تكن في يوم من الأيام عنصرا لا غنى عنه لدين الناس.
إن التمييز الذي قمت به أعلاه بين التبديات الثلاثة للظاهرة الدينية، لذو أهمية بالغة بالنسبة لمدخل بحثي هنا؛ فإذا كنت لا أود الآن أن أصوغ تعريفا شاملا للدين نظرا للمحاذير التي بسطتها ابتداء، فلا أقل من وضع حدود للظاهرة التي ينصب جهدي على دراستها، والتي أعنيها كلما أشرت لما ندعوه جميعا بالدين. إن الدين الذي أصفه هنا هو التعبير الجمعي عن الخبرة الدينية الفردية، التي تم ترشيدها من خلال قوالب فكرية وطقسية وأدبية ثابتة، تتمتع بطاقة إيحائية عالية بالنسبة إلى الجماعة.
هذه القوالب التي ترشد الحس الديني وتجعل من الدين ظاهرة جمعية، يمكن إرجاعها إلى ثلاثة، هي: (1) المعتقد. (2) الطقس. (3) الأسطورة. وأدعوها بالمكونات الأساسية للدين.
الباب الثاني
بنية الدين
المكونات الأساسية للدين
المكونات الثانوية للدين
الفصل الأول
المكونات الأساسية للدين
إن النظرة الفاحصة إلى تاريخ وجغرافية دين الإنسان، تكشف لنا عن بنية موحدة للدين، أنى وأين التقينا به كظاهرة ثقافية رائدة. تقوم هذه البنية على عدد من العناصر أو المكونات، بعضها أساسي لا نستطيع التعرف على الظاهرة الدينية بدونه، وآخر ثانوي لا يلعب دورا حاسما في تكوين الدين، أو في تعرفنا على الظاهرة الدينية. وسنلتفت في هذا الفصل إلى المكونات الأساسية، وهي ثلاثة: المعتقد والطقس والأسطورة. (1) المعتقد
هو أول أشكال التعبيرات الجمعية عن الخبرة الدينية الفردية التي خرجت من حيز الانفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني. ويبدو أن توصل الخبرة الدينية إلى تكوين معتقد هو حاجة سيكيولوجية ماسة؛ لأن المعتقد هو الذي يعطي للخبرة الدينية شكلها المعقول، الذي يعمل على ضبط وتقنين أحوالها. فبعد تلك المواجهة الانفعالية مع القدسي في أعماق النفس، يتدخل عقل الإنسان من أجل صياغة مفاهيم من شأنها إسقاط التجربة الداخلية على العالم الخارجي، وموضعه القدسي هناك. وهنا يتم فرز موضوعات معينة، أو خلق شخصيات وقوى معنوية، تستقطب الإحساس بالمقدس وتجتذبه إلى خارج النفس؛ وبذلك تتكون الصيغ الأولية للمعتقدات، وندلف إلى ذلك الهيكل السامق الذي ندعوه بالدين.
والمعتقد الديني هو شأن جمعي بالضرورة. وكما أشرت منذ قليل، فإن عقول الجماعة تعمل على صياغته، كما تعمل الأجيال المتلاحقة على صقله وتطويره؛ فما من خبر وصلنا عن أهل الديانات القديمة يفيد بأنهم أخذوا معتقدهم جاهزا عن جهة ما أو شخص بعينه . فشعوب سومر وأكاد مثلا، وكنعان ومصر واليونان، قد تركت لنا مدونات عن معتقداتها وأساطيرها وصلواتها، دون أن تذكر شيئا عن صدور دياناتها عن كاهن أو عراف أو متنبئ من أي نوع؛ وأسفار الفيدا السنسكريتية المغرقة في القدم ما زالت تمارس تأثيرها العميق على الطوائف الهندوسية في الهند، دون أن يعرف أحد مصادرها والتواريخ الدقيقة لتدوينها؛ ومعتقدات الشعوب البدائية في أستراليا وميلانيزيا وغيرهما كانت دوما موجودة بالنسبة لأهلها، ولا يجوز البحث عن بداية لها أو مصدر لأنها تعكس الحقائق الأزلية التي لا تجوز مناقشتها. فإذا كان لا بد من تصور بداية ما للمعتقد، فإن هذه البداية توضع في الأزمنة الأسطورية السابقة لظهور الإنسان، أو الأزمنة القدسية التي رافقت ظهور الجماعات البشرية الأولى.
وهذا ما يقودنا إلى إقرار حقيقة تاريخية ثابتة، وهي أن ظاهرة مؤسسي الديانات من الأفراد هي ظاهرة حديثة نسبيا، ومعلوماتنا عنها لا تؤهلنا لمتابعتها إلى ما وراء القرن السادس قبل الميلاد. ففي النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد عاش زرادشت الإيراني، وبشر بمعتقد جديد كل الجدة على الثقافة الإيرانية. وفي النصف الثاني من القرن نفسه ظهر البوذا في الهند، ولاوتسي مؤسس التاوية في الصين. وليس من المصادفة أن يتزامن ظهور هؤلاء المفكرين الأفراد في المشرق مع ظهور نوع آخر من المفكرين الأفراد في الغرب، هم مؤسسو الفلسفات الفردية، في المناطق ذات الطابع اليوناني في غرب آسيا الصغرى، وفي أرض اليونان نفسها والجزر المتوسطية القريبة منها. ففي أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد ظهرت المدرسة الملطية في آسيا الصغرى، وفي أواسط القرن السادس ظهر فيثاغورث أول عباقرة الفلسفة المدعوة بالإغريقية، وتبعه هرقليطس وزينوفان وبارمنديس. ومع سقراط الذي ولد عام 470ق.م. تدخل الفلسفة الإغريقية مرحلة نضجها وعطاءاتها الكبيرة.
والمعتقد شأن جمعي لأكثر من سبب؛ فأولا من غير الممكن أن يقوم كل فرد من أفراد الجماعة بصياغة معتقد خاص به، بما يستدعي ذلك من سلوك وأفعال سوف تتضارب حتما مع ما يبادر به الآخرين. وثانيا أن دوام واستمرار أي معتقد يتطلب إيمان عدد كبير من الأفراد به، وإلا اندثر وفقد تأثيره حتى في نفس صاحبه. من هنا نفهم لماذا يسعى مؤسسو الأديان وأصحاب الفلسفات الكبرى إلى التبشير بأفكارهم بين الناس وحثهم على اعتناقها؛ ذلك أنهم يجدون في هذا السعي ضمانتهم الوحيدة لحياة معتقداتهم واستمرارها. ويتناسب سعي المبشر طردا مع مدى اقتناعه بأنه قد وضع يده على الحقيقة المطلقة. ولنا في سيرة «ماني» مؤسس الديانة المانوية التي انطلقت من بابل أواسط القرن الثالث الميلادي خير دليل على ذلك؛ فعندما عاود الوحي السماوي ماني (على ما يذكره أتباعه ومؤرخو سيرته) وهو في الرابعة والعشرين، هب للتبشير بمعتقده مرتحلا ما بين الهند ومصر، ولم تهدأ حركته حتى أعدمه الملك الفارسي بهرام سنة 276 ميلادية. وهنالك وصف لماني في الكتابات المسيحية من تلك الفترة تصفه في تجواله، يرتدي سروالا واسعا أصفر اللون وعباءة زرقاء وبيده عصا طويلة من الأبانوس، متأبطا تحت ذراعه على الدوام كتابا خطه بنفسه باللغة البابلية (وهي الآرامية المشرقية في ذلك الوقت).
إن آلهة المعتقدات بحاجة إلى البشر حاجة البشر إليها، وآلهة الإنسان القديم كانت تستمد حياتها من الناس الذين يحملونها في أفكارهم، كما كان الناس يستمدون منها طاقة روحية تعينهم على الاستمرار في الحياة. فما تحتاجه الآلهة من الناس حقا هو الأفكار، أفكارهم عنها، أما العبادات والطقوس فلا تقدم للآلهة شيئا يذكر إلا بمقدار ما تديم الذكر وتنعش الفكر الذي يحمل صورها.
يتألف المعتقد عادة من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان، وغالبا ما تصاغ هذه الأفكار في شكل صلوات وتراتيل؛ فضمن هذا الشكل من الأدب الديني نستطيع البحث عن المعتقدات الأصلية والمباشرة لجماعة من الجماعات. ولسوف أسوق فيما يأتي، ولغرض التوضيح العملي، صورة حية عن معتقد مصاغ في ترتيلة مشهورة تعتبر من عيون الأدب الديني القديم، وتعرف ب «الترتيلة الطويلة» للفرعون أخناتون، والمرفوعة إلى إلهه الأوحد «آتون»؛ الطاقة الكونية المتمثلة في قرص الشمس. وهذه الترتيلة هي ثانية ترتيلتين هما كل ما وصلنا من تراث الآتونية المكتوب، إضافة إلى عدد من نصوص القبور التي تركها أتباع الفرعون.
ترسم صلاة أخناتون صورة لمعتقد على درجة عالية من التجريد؛ فإله الديانة الآتونية، كما يبدو هنا، هو قوة إلهية غير مشخصة، وطاقة صافية تأبى على التشكل في هيئة إله ذي ملامح محددة وشخصية مرسومة. إنها القدرة التي صدر عنها الكون بكل أجزائه وتفاصيله وأشكال الحياة المنبثة فيه، والطاقة التي تتجلى في عالم الظواهر بقرص الشمس. تتميز ترتيلة أخناتون بغياب الإشارات الميثولوجية، وانتفاء كل ظلال أسطورية ترافق عادة الصلوات الدينية. تقول الترتيلة:
1
كم هو جميل شروقك في الآفاق، أي آتون الحي، بادئ الحياة.
عندما ترتفع في الأفق الشرقي يملأ بهاؤك كل البلدان.
تحيط أشعتك بكل ما خلقت من أصقاع، والكل أسرى لك، وأنت «رع» تطوقهم بمحبتك.
أنت عال وبعيد، ولكن نورك ضاف على الأرض.
أنت عال وبعيد، ولكن آثار خطوك تصنع النهار.
وعندما تميل وراء الأفق الغربي، تغرق الأرض في ظلام كأنه الموت،
ويأوي الكل إلى بيوتهم، فتخرج الآساد من عرينها والحيات من جحورها.
الكل يغرق في الصمت والظلام يسود؛ لأن الخالق في أفقه يستريح.
وعندما تشرق تبعثر الظلام، وتضج الأرض بالضياء.
ترسل شعاعك فتحتفل أرض مصر، يستفيق الجميع، يرفعون صلاة شكر لظهورك، يمضي كل إلى عمله.
تفترش الأنعام مروجها، وينتعش بك كل شجر ونبت.
الأطيار تحوم فوق سبخاتها، ترفع الجناح تصلي لك وتدب في الكل حياة.
السفن تمخر عباب الماء صعودا ونزولا، وكل الطرق سالكة بشروقك.
الأسماك في الماء تقفز للأعلى أمامك، وشعاعك يصل أعماق البحر الأزرق الواسع.
أنت خالق الخصوبة في المرأة، وصانع بذور الرجل.
أنت من يهب الحياة للجنين في رحم أمه، وتعطيه الأنفاس التي بها يحيا، وعند مولده تفتح فمه وتقسم له رزقه.
الصوص في بيضته يسقسق، وهناك تمده بهوائه، فإذا كبر نقر قشرته وخرج يصيح بأعلى صوته.
ما أكثر صنائعك يا رب! وحدك ووفق مشيئتك قد خلقت الأرض وما عليها من قطعان وأسراب.
قد خلقت كل ما يدب على الأرض بقدم، وكل ما يطير في السماء بجناح.
في جميع الأصقاع، سوريا والحبشة وأرض مصر، أعطيت لكل مكانه، ورسمت حياته وقسمت نصيبه وأيامه.
قد ميزت شعوبا بألسنتها وألوانها وطبائعها، فجعلتها أمما مختلفة.
فجرت النيل تحت الأرض، تجريه وفق مشيئتك لتحيي أهل مصر. أي آتون النهار، عظيم الجلال.
وجعلت نيلا آخر في السماء لحياة الأمصار البعيدة، يهطل عليهم فيجري بحرا على ذرى الجبال يسقي حقولهم وقراهم.
شعاعك ينعش كل بستان، بشروقك تحيا وبك تنمو.
أنت صانع الفصول لأجل خلقك، ففي الشتاء تنعشهم، وفي الصيف يعرفون دفأك.
صنعت السماء العالية لتشرق فيها، وتنظر كل ما قد صنعت.
أنت أحد، تشع في هيئة آتون الحي، تشرق وتتوهج، تمضي بعيدا ثم تعود. أنت أحد وملايين الأشياء صدرت عنك.
كل العيون تتملى سناك، أنت آتون النهار في ذروة السمت.
أنت في قلبي، ولا يعرفك حقا سوى ابنك أخناتون.
وقد أعطيته فهما ليدرك طرقك وجلائلك.
العالم كله بين يديك. عندما تسطع على المخلوقات تحيا، وإذا تغرب عنها تموت.
فأنت الحياة وبك الحياة.
إن ابتعاد المعتقد الآتوني عن التعبير عن نفسه من خلال الميثولوجيا واضح في هذه الترتيلة، التي لم تحتو على أية إشارة إلى أساطير تكوين وخلق وأصول، شأنها في ذلك شأن أختها المعروفة باسم «الترتيلة القصيرة». كما نستنتج خلو الآتونية من الأساطير، من قراءتنا لنصوص القبور التي تركها الأتباع المقربون للفرعون، فهذه تبتعد بدورها عن أية إشارة إلى أساطير تتعلق بالموت والعالم الآخر، مما هو معروف في غيرها من نصوص القبور المصرية. ولعلنا واجدون في الأعمال التشكيلية التي خلقتها لنا فترة حكم أخناتون برهانا إضافيا على نفور الآتونية من الميثولوجيا.
فالإله آتون لم يصور بتاتا في هيئة مشخصة، وإنما اكتفى النحات أو الرسام بإظهار رمزه التشكيلي، وهو عبارة عن قرص الشمس الملتهب وقد انبعثت أشعته في كل اتجاه، وكل شعاع ينتهي بكف توزع الخير والبركة. وفيما عدا ذلك فإن الفن التشكيلي قد خلا من المشاهد الدينية ذات الخلفية الأسطورية، واقتصر على تصوير المشاهد الدنيوية البحتة. ويبدو لعين المتفحصين لهذه الأعمال الفنية، أنها قامت بالفعل على فلسفة جمالية أقرب ما تكون إلى فلسفة الفن الإغريقي اللاحق، الذي احتفل بالجمال الأرضي وجعل من الإنسان بؤرة اهتمامه. ولعل غياب الأسطورة في الديانة الآتونية هو أمر تستدعيه طبيعة معتقدها؛ فالوظيفة الدينية للأسطورة هي توضيح صور الآلهة وتزويدها بسيرة حياة، وشجرة نسب، وتبيان دورها في عالم الإنسان، مما سوف نوضحه بعد قليل. أما إله أخناتون، فرغم مخاطبته مجازا بالإله الواحد، فإن كل طرائق التعبير عن وجوده وطبيعته وعلاقاته بعالم الناس، لتشير إلى كونه طاقة غفلة غير مشخصة، ومبدأ كامنا عند جذور عالم الظواهر. ومثل هذه الألوهة تستبعد بطبيعتها أي نظام ميثولوجي؛ لأنها لا تتطلب التشخيص والتمثيل والتشبيه. (2) الطقس
تولد الخبرة الدينية المباشرة حالة انفعالية قد تصل في شدتها حدا يستدعي القيام بسلوك ما، من أجل إعادة التوازن إلى النفس والجسد اللذين غيرت التجربة من حالتهما الاعتيادية. ولعل الإيقاع الموسيقي والرقص الحر كانا أول أشكال هذا السلوك الاندفاعي الذي تحول تدريجيا إلى طقس مقنن. ويترافق تقنين الطقس وتنظيمه في أطر محددة ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية وضبطها في معتقدات واضحة يؤمن بها الجميع، ويرون فيها تعبيرا عن تجاربهم الفردية الخاصة؛ وبذلك يتحول الطقس من أداء فردي حر إلى أداء جمعي ذي قواعد وأصول مرسومة بدقة، ويتم ربط الطقس بالمعتقد بدل ارتباطه بالخبرة الدينية المباشرة. ومع ذلك، فقد يتعايش هذان النوعان من الطقوس في الثقافة الواحدة، حيث يقوم الطقس الحر جنبا إلى جنب مع الطقس المنظم، بسبب قصور الطقوس المنظمة عن سد حاجة نوع معين من الأفراد ذوي الحساسية الشديدة للتجربة الدينية الفردية. فإذا كانت الصلاة في المعابد وإنشاد التراتيل فيها هي النموذج الأكثر شيوعا للطقس المنظم، فإن لنا في حلقات الصوفية وما يؤدى فيها من موسيقى إيقاعية ورقص وتواجد، خير مثال على الطقس الحر الذي لا يرتبط بالمعتقدات الجمعية المؤسسة، بل بالخبرة الدينية العميقة المباشرة. ومن الجدير بالذكر هنا، أن هذا النوع من الطقس الحر، رغم كونه قد نشأ أصلا عن الخبرة الدينية المباشرة، إلا أنه غالبا ما يكرر فيما بعد من أجل استعادة هذه الخبرة نفسها وإحداث أثرها في النفس بشكل إرادي؛ فمن خلال رقصات معينة وموسيقى إيقاعية خاصة وتكرار صيغ كلامية ذات أثر خاص في النفوس، يمكن للأفراد المستغرقين في الأداء الانتقال إلى مستويات غير اعتيادية للوعي، واستعادة الحالة الوجدية التي تحتل ساحة الشعور تلقائيا في التجربة المباشرة التي تحدث في الأصل دون استنهاض مصطنع.
يرسم المعتقد صورا ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم القدسية، ولكن الأفكار وحدها لا تصنع دينا بالغة ما بلغت من وضوحها واتساقها، بل قد تشكل في أفضل أحوال اتساقها فلسفة دينية. وأعود هنا للاستشهاد بمثال الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، التي اشتد عودها في المشرق العربي إبان القرن الثالث الميلادي؛ فهذه الفلسفة قد جعلت من الإلهيات بؤرة اهتمامها، وكانت أفكارها مهيأة لأن تكون أساسا مكينا لديانة كبرى في ذلك الوقت، ولكنها لم تحقق هذه الخطوة رغم طموحها الضمني لتحقيقها؛ وذلك بسبب افتقارها إلى نظام طقسي، يضع الإنسان في علاقة مع العوالم القدسية التي صاغ المعتقد صورتها الذهنية، فبقيت هذه العوالم صورا ذهنية باردة تعيش في عقول أتباع هذه الفلسفة لا في قلوبهم. إننا لا نتحول من الفلسفة إلى الدين (وأنا أفترض هنا أن كل تفكير متسق هو فلسفة) إلا عندما يدفعنا المعتقد إلى سلوك وإلى فعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، ومن التفكير في العوالم المقدسة إلى اتخاذ مواقف عملية منها؛ فنتقرب منها أو نسترضيها أو نسخر قواها لمصلحتنا أو نكف غضبها عنا ... إلخ. فإذا كان المعتقد حالة ذهنية، فإن الطقس حالة فعل من شأنها إحداث رابطة. وإذا كان المعتقد مجموعة من الأفكار المتعلقة بعالم المقدسات، فإن الطقس مجموعة من الأفعال المتعلقة بأسلوب التعامل مع ذلك العالم، إنه اقتحام على المقدس وفتح قنوات اتصال دائمة معه.
وبشكل عام يمكن القول بأن أية صورة ذهنية لا تخرج من عالم الفكر إلى عالم الفعل، هي صورة معرضة للتحجر أو التلاشي والزوال. وبما لهذا السبب يتم تذكير الجنود في ثكناتهم يوميا بفكرة الوطن، من خلال ممارسة يومية هي أقرب إلى الطقس الديني بشكلها ومضمونها. إن كل من مارس أو شاهد في القطعات العسكرية الإجراء المتعلق بتحية العلم الصباحية والمسائية، حيث يرفع العلم بحضور جميع أفراد القطعة صباحا، وينزل مساء على صوت البوق، يدرك المعاني الكبيرة التي تنمو في النفوس من جراء القيام بهذا الطقس الدنيوي اليومي. ولعلنا واجدون الشيء نفسه في موقف المجتمع من فكرة الشهادة وإجلال الشهداء؛ فنحن مهما تحدثنا عن مكانة الشهداء في قلوبنا وتقديرنا لهم، لا نستطيع أن نفي ذلك حقه كما يفيه طقس وضع أكاليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في مناسبات معينة. وأكثر من ذلك، فإن مفهوم الوطن القومي وصورته في عقول المواطنين، لا ترسخه الأفكار قدر ما ترسخه الطقوس. فنحن نستطيع أن نتحدث في كتب التعليم وعبر وسائل الإعلام عن فكرة الوطن ومفهوم المواطنية، ولكن احتفالا قوميا واحدا يلتقي فيه الناس في الشوارع فيهتفون ويزغردون ويرقصون بمصاحبة الأناشيد القومية ويلوحون بالأعلام والشعارات، من شأنه تثبيت فكرة الوطن القومي وإضرام نار الانتماء إليه أكثر من كل الكتب والتعاليم. ولقد أدرك المشرفون على وسائل الإعلام في الأنظمة القومية الفاشية هذا الميل النفسي بكل دهاء. ففي ألمانيا النازية، عمد دهاقنة الإعلام إلى تصميم عدد متنوع من الطقوس لفئات الشبيبة النازية؛ فمن الألبسة والشارات المميزة لكل فصيل، ورفع اليد بالتحية المعروفة، إلى الأناشيد الحماسية تنشد «ألمانيا فوق الجميع»، إلى موسيقى فاغنر تعزف في المناسبات وقد ألبست ثوبا قوميا عصريا، إلى احتفالات المشاعل الليلية وما إليها. وتمت الإفادة من هذه المظاهر والاحتفالات الجمعية إلى درجة يمكن القول معها بأن الأيديولوجية النازية لم تنتشر عن طريق التبشير النظري الساذج، قدر انتشارها عبر التصميم المتقن لطقوس قومية لها صفة الهوس الديني.
استنادا إلى ما تقدم يمكن القول بأن الطقس ليس فقط نظاما من الإيماءات التي تترجم إلى الخارج ما نشعر به من إيمان داخلي، بل هو أيضا مجموعة الأسباب والوسائل التي تعيد خلق الإيمان بشكل دوري؛ ذلك أن الطقس والمعتقد يتبادلان الاعتماد بعضهما على بعض؛ فرغم أن الطقس يأتي كناتج لمعتقد معين فيعمل على خدمته، إلا أن الطقس نفسه ما يلبث حتى يعود إلى التأثير على المعتقد فيزيد من قوته وتماسكه، بما له من طابع جمعي يعمل على تغيير الحالة الذهنية والنفسية للأفراد. وهذا الطابع هو الذي يجدد حماس الأفراد ويعطيهم الإحساس بوحدة إيمانهم ومعتقدهم. فالطقس، رغم قيامه على مجموعة من الإجراءات المرتبة والمنسقة مسبقا، والتي تم القيام بها مرارا وتكرارا، إلا أنه يبدو جديدا كلما أكدت الجماعة على الأداء المشترك له. لهذه الأسباب يظهر الطقس للمراقب باعتباره أكثر عناصر الظاهرة الدينية بروزا، ويقدم نفسه كأول معيار نفرق بواسطته الظاهرة الدينية عن غيرها من الظواهر؛ لأن الدين لا يبدو للوهلة الأولى نظاما من الأفكار، بل نظاما من الأفعال والسلوكات، والمؤمن ليس إنسانا قد أضاف إلى معارفه مجموعة من الأفكار الجديدة، بل هو إنسان يسلك ويعمل بتوجيه من هذه الأفكار. (3) الأسطورة
قبل أن أبحث في الدور الهام الذي يلعبه هذا المكون الثالث من مكونات الدين، سوف أتوقف مطولا عند مفهوم الأسطورة لغاية توضيحه وتحديده بدقة؛ وذلك نظرا للتشوش الكبير الذي يحيط بهذا المفهوم في أذهان كثير من المتخصصين، ناهيك عن عامة المهتمين. إن أحد الكتب التي راجت في الغرب منذ الستينيات، وعنوانه «أقنعة الله»،
2
قد صدر في أربعة مجلدات تحمل العناوين الفرعية الآتية: (1) الميثولوجيا البدائية. (2) الميثولوجيا الغربية. (3) الميثولوجيا الشرقية. (4) الميثولوجيا الخلاقة. فإن شرع القارئ في تصفح جزئه الأول، اكتشف لتوه أن مؤلفه جوزيف كامبل إنما يقدم عملا موسوعيا في تاريخ الدين لا في ميثولوجيا الشعوب، وأنه قد طابق تعسفيا بين مفهوم الدين ومفهوم الأسطورة، مستخدما الجزء للدلالة على الكل؛ الأمر الذي يزيد الأمور اختلاطا في أذهان الناس.
ليست الأسطورة من الكلمات المستحدثة في اللغة العربية، والمضامين التي استوعبتها هذه الكلمة في الاستخدامات الحديثة تستند إلى مضامينها القديمة. تفيدنا المعاجم العربية بأن كلمة أساطير قد جاءت من السطر، وهو الخط أو الكتابة، وجمعه أسطار كما هو الحال في سبب وأسباب ، وجمع الجمع أساطير. ونعثر على أول استخدام للكلمة في القرآن الكريم، حيث جاء في سورة الفرقان: 5، قوله تعالى:
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا . وهنا إشارة إلى اتهام المشركين للنبي باستلهامه قصص الأولين المكتوبة. وهذا الاشتقاق لكلمة أسطورة في العربية يقارب اشتقاقاتها في اللغة الأوروبية؛ فكلمة
Myth
في الإنكليزية والفرنسية وغيرها، مشتقة من الأصل اليوناني
Muthas ، وتعني قصة أو حكاية. وكان أفلاطون أول من استعمل تعبير
Muthologia
للدلالة على فن رواية القصص، وبشكل خاص ذلك النوع الذي ندعوه اليوم بالأساطير، ومنه جاء تعبير
Mythology
المستخدم في اللغات الأوروبية الحديثة. أما في لغات المشرق القديم، فلا نعثر على مصطلح خاص ميز به أهل تلك الحضارات الحكاية الأسطورية عن غيرها. وتظهر فهارس النقوش الكتابية التي تعود الكتبة السومريون وضعها لتصنيف محتويات مكتباتهم (وقد عثر حتى الآن على اثنين من هذه الفهارس) أن الأرشيف السومري لم يميز النصوص الأسطورية عن غيرها، ولم يدرجها في تسلسل خاص، بل تركها موزعة بين النصوص الأخرى التي تدور حول موضوعات شتى مثل الحكمة والأمثال والأدعية والوصايا وما إليها.
من هنا يمكن القول بأن القدماء لم يضعوا لأنفسهم تمييزا لغويا دقيقا لتلك المجموعة من الأعمال الأدبية التي نصنفها الآن تحت عنوان الميثولوجيا، ولا هم عنوا بتفريقها عن بقية الأجناس الأدبية، وذلك رغم توكيدهم على اختلافها وخصوصيتها. فكيف نستطيع اليوم أن نميز بين النص الأسطوري والنص العادي، وما هي المعايير التي تساعدنا على إجراء مثل هذا التمييز؟ (1)
من حيث الشكل، الأسطورة هي شكل من أشكال الأدب الرفيع، فهي قصة تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها. وفي الثقافات العليا، جرت العادة أن يصاغ النص الأسطوري في قالب شعري يساعد على ترتيله وتداوله شفاهة بين الأفراد وعبر الأجيال، ويزوده بسلطان على العواطف والقلوب. (2)
وهي قصة تقليدية، بمعنى أنها تحافظ على ثبات نسبي، وتتناقلها الأجيال بنصها عبر فترة طويلة من الزمن طالما حافظت على طاقتها الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة. فأسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل، وهي أسطورة سومرية من أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، قد استمرت في صيغتها الأكادية المطابقة تقريبا للأصل السومري حتى أواسط الألف الأول قبل الميلاد، حيث عثر على نسخة منها في مكتبة آشور بانيبال. (3)
ليس للأسطورة زمن؛ أي إنها لا تقص على حدث جرى في الماضي وانتهى، بل عن حدث ذي حضور دائم. فزمانها والحالة هذه زمن ماثل أبدا لا يتحول إلى ماض. إن الإله تموز الذي قتل ثم بعث إلى الحياة، إنما يفعل ذلك في كل عام؛ إذ يقتل في الصيف ويبعث إلى الحياة في الربيع. والإله مردوخ، الذي خلق الكون ونظمه في الأزمنة المقدسة الأولى، إنما يفعل ذلك في كل عام ومع بداية السنة الجديدة، حيث يقوم بإعادة خلق الكون وتجديده. وصراع الإله بعل مع الحية لوتان ذات الرءوس السبعة وقتله لها، هو صراع دائم بين قوى الخير والحياة، وقوى الشر والموت. وعندما لا يكون للحدث الأسطوري هذا الطابع الدوري المتكرر والواضح، فإن مضمون الأسطورة يعبر عن حقيقة أزلية متخللة في حياة البشر لا يطالها تغيير؛ فأسطورة خلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدم إله قتيل، هي تأسيس لفكرة الطبيعة المزدوجة للإنسان وتكوينه من عنصر مادي وآخر روحاني. وحتى عندما تشير الأسطورة صراحة إلى حدث مؤطر في الزمن ومحدد في التاريخ، فإن مراميها البعيدة تكمن خارج الزمن وتتخذ صفة الحضور الدائم، ونموذج هذا النوع أسطورة الطوفان الرافدية؛ فرغم أن السومريين قد اتخذوا حدث الطوفان، الذي أبلغت عنه الأسطورة، نقطة في التاريخ يؤرخون بها لما حدث قبلها في تاريخهم وما حدث بعدها، إلا أن فحوى الأسطورة لم يكن زمنيا بالنسبة إليهم، والطوفان الذي دمر الأرض من حولهم مرة هو نذير دائم بسطوة القدر، وتحذير من الغضب الإلهي البعيد عن أفهام البشر، ومن الاطمئنان إلى استمرارية الشرط الإنساني وثبات الأحوال. إن ما يميز الحدث الأسطوري عن غيره هو ذلك الحضور الدائم للحدث أو لمراميه الحقيقية. (4)
تتميز موضوعات الأسطورة بالجدية والشمولية؛ فهي تدور حول المسائل الكبرى التي ألحت دوما على عقل الإنسان، مثل الخلق والتكوين وأصول الأشياء والموت والعالم الآخر وما إلى ذلك من قضايا آلت إلى الفلسفة فيما بعد. (5)
يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة؛ فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان دوره مكملا لا رئيسيا. (6)
لا يعرف للأسطورة مؤلف معين؛ لأنها ليست نتاج خيال فردي أو حكمة شخص بعينه، بل هي ظاهرة جمعية تعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها. ولا يمنع هذا الطابع الجمعي أن يقوم الأفراد بإعادة صياغة الحكايات الأسطورية وفق صنعة أدبية تتماشى وروح عصرهم. (7)
تتمتع الأسطورة بقدسية وبسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي تمتعت بها الأسطورة في الماضي لا يدانيها سوى سطوة العلم في العصر الحديث؛ فنحن نؤمن بوجود الجراثيم وبقدرتها على تسبيب المرض، سواء رأيناها تحت المجهر أم لا؛ وذلك لأن العلم قد أثبت وجودها، كما أننا نؤمن بالطريقة نفسها بأن المادة مؤلفة من جزيئات وذرات، وأن الكون مؤلف من مليارات المجرات ... إلخ. وفي العالم القديم لم ير الشياطين أو الآلهة سوى قلة من الكهنة في أحلامهم أو في نوبات الوجد التي تعتريهم، ومع ذلك آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، وكان الكفر بمضامينها كفرا بكل القيم التي تشد الفرد إلى جماعته وثقافته، وفقدانا للتوجه السليم في الحياة. (8)
ترتبط الأسطورة بنظام ديني معين، وتتشابك مع معتقدات ذلك النظام وطقوسه المؤسسة، وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورة إذا انهار النظام الذي تنتمي إليه، وتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الشبيهة بالأسطورة، مثل الحكاية الخرافية والقصة البطولية، وقد تدخل بعض عناصرها في الحكاية الشعبية.
اعتمادا على الوصف الذي قدمته أعلاه أستطيع أن أخلص إلى ما يشبه التعريف، فأقول بأن الأسطورة هي «حكاية مقدسة مؤيدة بسلطان ذاتي». والسلطان الذاتي للأسطورة هنا لا يأتي من أية عوامل خارجة عنها، بل من أسلوب صياغتها وطريقة مخاطبتها للجوانب الانفعالية وغير العقلانية في الإنسان. وما زلنا حتى اليوم، نحن أهل دولة العقل العالمية هذه، نشعر بسلطان الأسطورة يغمرنا كلما وقفنا بين يديها دون أن ندري لذلك سببا.
تنشأ الأسطورة إذا عن المعتقد الديني، وتكون امتدادا طبيعيا له، فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتثبته في صيغة تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال، كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ويبدو أن المهمة الأساسية للأسطورة هي تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حية، خصوصا في المعتقدات التي تقوم على تعدد الآلهة؛ فالأساطير هي التي ترسم صور الآلهة، وتعطيها أسماءها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحد لها صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض. فالإله الأزلي القابع فيما وراء الزمن الجاري هو إله نظري ذو طبيعة فلسفية، وهو لا يباشر وجوده الفعلي وصلته بعالم الناس إلا عندما يعلن عن فعاليته الواضحة في الزمن ويقوم أو يشارك في خلق وتكوين العالم، وهذا ما ترويه وتفصله لنا الأساطير. فالأسطورة تقوم على مفهوم زماني لا مكاني، كما يقول الفيلسوف الألماني المعاصر أرنست كاسيرر؛
3
ولذلك فإن الأسطورة الحقة كما يراها لا تبدأ عندما نكون تلك الصور المحددة عن الآلهة، بل عندما نعزو لهذه الآلهة بداية محددة في الزمن، وعندما تباشر هذه الآلهة فعالياتها وتنبئ عن وجودها في سياق زمني؛ أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها.
4
فمن خلال هذا التاريخ الذي ترسمه الأسطورة، يعلو الإله على مظاهر الطبيعة ويتسلط عليها، ومن خلال الذاتية التي ترسم خروجه من العماء الساكن إلى الزمن المتحرك، تنتقل الألوهة من الوجود المجرد إلى الفعل الذي يظهرها في عالم الإنسان ويربطها إلى مسار حياته.
من هنا تأتي أهمية ميثولوجيا التكوين في أديان الشعوب، وعلو شأن أسطورة الخلق في النظم الميثولوجية. إن العمل الأول الذي يقوم به الإله الأكبر هو خلق العالم والخروج به من عماء اللاتمايز المكاني والزمن الراكد إلى الوضوح وعالم الحركة والفعل، عالم الزمن الدينامي. فهذا الإله إنما يبتكر نفسه بابتكاره للكون، ويبدأ تاريخه الخاص إذ يبتدر مظاهر هذا الكون. لذلك كانت أسطورة التكوين البابلية هي سيدة أساطير تلك الثقافة؛ فعندما «لم يكن هنالك سماء في الأعالي، ولم يكن هنالك أرض في الأسفل»، كما يقول مطلع الأسطورة، لم يكن هناك سوى آلهة العماء القابعة وراء الزمن، والمعارضة لأية حركة أو فعل، ثم جاء الإله الخالق مردوخ ليبتدئ سيرة حياته مع سيرة حياة الكون الذي أخرجه من لجة العماء البدئي؛ ولذلك أيضا تتصدر أسطورة التكوين التوراتية الصفحة الأولى من كتاب «العهد القديم». «ففي البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف فوق وجه المياه»، كما يقول مطلع سفر التكوين، أما ما كان قبل ذلك فلا نعرف عنه شيئا، ولا عما كان يفعله «يهوه» قبل أن يشرع في خلق السموات والأرض.
إضافة إلى العروة الوثقى التي تجمع الأسطورة إلى المعتقد، فإن الأسطورة من ناحية أخرى ترتبط بشكل وثيق بالطقس؛ فالطقس كما أوضحت هو جسر بين المتعبد وقوى قدسية معينة، وكلما كانت هذه القوى ذات شخصيات محددة وخصائص وسيرة حياة ترسمها الأساطير، كلما ازداد الطقس غنى وتعقيدا. وعلى العكس من ذلك، فإن الطقس يميل نحو البساطة كلما مال المعتقد إلى التجريد وافتقر إلى الأساطير. وهنا يمكن أن نسوق مرة أخرى مثالا مستمدا من الديانة الآتونية، التي وجدنا في معتقدها نموذجا معبرا عن المعتقد التجريدي الذي لا يستعين بالأساطير؛ فبعض الباحثين في الفرعونيات، يعلن صراحة أنه لا يعرف شيئا عن طقوس ديانة أخناتون،
5
والبعض الآخر يرى أن الطقوس كانت موجودة في تلك الديانة، ولكنها كانت غاية في البساطة، وتتألف من تقدمات من الثمار والأزهار للإله آتون، مصحوبة بأناشيد وموسيقى عذبة، مستدلين على ذلك من صور تمثل الفرعون وزوجته نفرتيتي في زيارة للمعبد ورعايتهما لمثل هذه الطقوس، ومن مقطع من الترتيلة القصيرة لأخناتون حيث يقول: «جوقات المنشدين من رجال ونساء ترفع إليك أعذب الإنشاد في المعبد الكبير وفي كل معبد ...»
6
فإذا قارنا هذا النوع من الطقوس بطقوس عبادات الخصب في ثقافات المشرق العربي القديم، ونموذجها عبادة الإله تموز الرافدي، لوضح أمامنا الفرق بين طقوس الدين الفقير بالميثولوجيا وطقوس الدين الغني بها؛ فطقوس الإله تموز التي تستند إلى ميثولوجيا كثيرة الغنى والتعقيد، كانت تقام على مدار السنة في بلاد سومر لترافق دورة حياته السنوية كما رسمتها الأسطورة. وبشكل خاص، كان عباد تموز يحتفلون بثلاثة أعياد طقسية رئيسية تؤشر لثلاثة مراحل في حياة الإله العاصفة والقصيرة؛ فهناك احتفالات الزواج المقدس حيث تقام دراما طقسية كبرى تمثل زواج تموز بالإلهة إنانا، ولكن سعادة الإله لا تدوم طويلا، ولا يلبث أن يموت في الصيف وتجره العفاريت إلى العالم الأسفل، فتقام عليه المناحات في طول البلاد وعرضها، حتى إذا جاء الربيع بعث إلى الحياة من جديد، وأقيمت الأفراح بصعوده من عالم الأموات جالبا معه كل خير عميم. وإضافة إلى هذه المناسبات الطقسية الرئيسية، كانت تقام في معابد الخصب طقوس ثانوية أخرى مثل طقوس الخصاء، حيث كان الكهنة الجدد يضحون بذكورتهم قربانا للإلهة إنانا زوجة تموز، وطقوس البغاء المقدس المعروفة في جميع أنحاء الشرق القديم.
ومن الطقوس البسيطة التي تقوم على معتقد خلو تماما من الأساطير، يمكن أن نذكر طقوس السحر. والسحر كما نراه، وكما سنوضح ذلك لاحقا، هو نوع بدائي من أنواع الدين، فطقوس السحر تقوم على معتقد تجريدي، وبسيط
7
إلى درجة لم يستطع معها معظم الباحثين تبينه وتحديده، فقالوا باستقلال السحر عن الدين. ومنهم جيمس فريزر الذي يعتبر أن السحر لا يقوم على أي معتقد، بل على جملة من المبادئ الشبيهة بمبادئ العلم الحديث؛ حيث تخضع الطبيعة لجملة من القوانين، وتتصل أحداثها من خلال نظام حتمي للسبب والنتيجة يمكن التنبؤ به بدقة، وما على الساحر هنا إلا أن يكتشف هذه العلائق، ويعمل على توجيهها لغاياته دون الاستعانة بقوى ما ورائية من أي نوع.
8
إلا أن الدراسات الأنتروبولوجية المعاصرة قد أبرزت الصلة التي تجمع السحر إلى الدين، وكشفت عن الأساس الديني للمعتقدات والممارسات السحرية.
إن دراسة أديان ومعتقدات الشعوب البدائية، قد أوصلت الباحثين إلى مفهوم أساسي من المفاهيم التي تقوم عليها المعتقدات الدينية للبدائيين، وهو مفهوم المانا
Mana ، والكلمة من مفردات اللغات المحلية في ميلانيزيا، وتشير إلى قوة غفلة تسري في الطبيعة كما تسري الحياة في أعضاء البدن، هي للعالم بمثابة الروح التي تتخلل مظاهره، من دون أن تكون حالة في كائنات ما ورائية مشخصة. وقد كان للباحثين
Mauss
و
Hubert
فضل التنبيه إلى أن السحر إنما يقوم على فكرة المانا؛ ففي كتابه «النظرية العامة في السحر
Théorie Générale De La Magic »، يجد
Mauss
أن الممارسات السحرية تعتمد على مفهوم غامض مشابه لمفهوم المانا، حيث تتبادل الأشياء التأثير ببعضها عبر وسط متصل يجمعها إلى بعضها، فيما يشبه الفكرة الرواقية عن كون حي متصل.
9
ثم قام إميل دوركهايم بدراسة مستفيضة لعلاقة السحر بالدين في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية»، مبينا أن السحر ليس إلا نوعا ابتدائيا من أنواع الدين.
10
ثم عمدت جين هاريسون إلى تطبيق أفكار دوركهايم بشكل واسع على علاقة الأشكال الأولية للدين الإغريقي بالسحر، وذلك في كتابها المعروف عن الأصول المجتمعية للدين الإغريقي الصادر عام 1912م.
11
وقد مهد هؤلاء البحاثة إلى إعادة نظر شاملة في مؤسسة السحر قديما وحديثا.
ولتبيان مدى بساطة الطقس السحري، يمكن الاستعانة بمثال كلاسيكي يتعلق بطقس إنزال المطر؛ فمن وظائف ساحر القبيلة، في الثقافات التقليدية المعاصرة، التحكم بالمطر بواسطة طقوس تقوم في بعضها على تقليد هطول المطر، وذلك برش الماء وإحداث أصوات تشبه الرعد وفق حركات معينة مدروسة وباستخدام أدوات خاصة، ومن المفترض عند ذلك أن تستجيب الطبيعة بإرسال المطر.
12
وفي أماكن متفرقة من العالم اليوم، هنالك طقس سحري للغرض نفسه يقوم على تقليد صوت المطر عن طريق هز أداة إيقاعية قوامها نبتة قرع من النوع المنتفخ الرأس والمستدق الطرف، وذلك بعد تجفيفها تحت الشمس حتى يفرغ داخلها، وتتحرك بذورها بحرية لإحداث الصوت المطلوب. ويبدو أن مثل هذه الممارسة كانت معروفة في بلاد اليونان في القرن الثامن ق.م. كما تدلنا على ذلك بعض الرسوم على الفخار.
13
فإذا قارنا مثل هذا الطقس السحري بطقوس الخصب في الديانات ذات المعتقدات والأساطير الغنية والمركبة، أدركنا مدى بساطة الفكرة الكامنة وراءه؛ فالساحر هنا لا يقرب الذبائح إلى الآلهة، ولا يصلي لها، ولا يقود دراما طقسية معقدة لإحلال الخصب، وإنما يقوم بالتأثير على مظاهر الطبيعة من خلال تلك القوة الغفلة التي تسري في كل شيء، والتي من شأنها تحويل الإجراء الطقسي الذي يجري في هذا الجانب إلى فعل حقيقي يتم في الجانب الآخر.
إن ما قدمته حتى الآن من أفكار وملاحظات حول الأثر الذي تمارسه الأسطورة على الطقس، لا يقصد إلى إعطاء أسبقية لهذه على ذاك؛ فكما تقوم الأسطورة بإغناء الطقس، فإن هذا بدوره يعمل على تثبيت الأسطورة في الأذهان والنفوس، خصوصا في الطقوس الدورية الكبرى التي تشكل المعادل الدرامي الحركي والمنظور للنص الأسطوري، ومثالها الكلاسيكي أعياد رأس السنة في بلاد الرافدين، حيث يجري تمثيل أسطورة التكوين البابلية اعتمادا على نص درامي موضوع خصوصا لهذه الغاية، وتقوم أحداثه على النص التقليدي المعروف. إلا أن فريقا من الباحثين ممن أقبل على دراسة الدين والأسطورة مع بداية هذا القرن، وفق منظور متأثر بالمعطيات الجديدة لعلم الأنتروبولوجيا الناشئ قد أسس لاتجاه أحادي النظرة يرى في الأسطورة ناتجا من نواتج الطقس. من هؤلاء البحاثة مجموعة صغيرة عرفت يومها باسم «مجموعة كابريدج»، وكانت شديدة التأثير في الحلقات الأكاديمية، وما زال فكرها يتمتع حتى اليوم ببعض المؤيدين. من بين أولئك الرواد نذكر جين هاريسون
Jane Harrison
في كتابها
Themes ، وكوك
A.B. Cook
في كتابه
Zeus ، وكونفورد
M.F. Conford
في كتابه
From
.
14
أما كيف تنشأ الأسطورة عن الطقس في رأي هذه المدرسة، فراجع إلى أن الطقوس التي تمارسها الجماعة منذ أقدم الأزمنة وتتناقلها الأجيال بحرفيتها، تفقد بمرور الوقت معناها وبواعثها الأولى، فتأتي الأسطورة لكي تقدم تبريرا لتلك الطقوس وتنسج حكاية من شأنها تزويد الطقس بمعنى وغاية؛ فأسطورة الإله آتيس، مثلا، الذي خصى نفسه تحت شجرة الصنوبر ونزف حتى الموت، ليست في تفسير هؤلاء إلا تسويغا لطقوس الخصاء التي كان كهان آتيس يمارسونها. وأسطورة قيام التيتان في التقاليد الديونيسية بتمزيق الإله ديونيسيوس حيا في هيئة الثور التي تحول إليها وهو يهرب من وجههم، ليست إلا تسويغا للطقس الذي كان يتم بموجبه في أعياد ديويسيوس تمزيق ثور حي والتهامه نيئا في ذروة الانفعال الطقسي. ولقد غدت أفكار هذه المدرسة الطقسية في تفسير الأسطورة مرفوضة اليوم، وعلى نطاق واسع.
يعتمد تطور النظام الميثولوجي لثقافة ما على تطور ونضج اللغة وأساليب التعبير اللغوية؛ ذلك أن الأسطورة في صيغتها الشكلية، كما ألمحنا منذ قليل، هي نوع من أنواع الأدب، بل ربما كانت أول أدب أبدعه الإنسان، والأدب لا تنضج أدواته ولا يشب عن الطوق إلا بتأصيل تقاليده. من هنا فإن الثقافات التي وصلت لغاتها إلى مراحل متقدمة كفيلة بالتعبير عن أدق المجردات، واغتنت وتنوعت لديها أساليب الصياغة الأدبية، تتكاثر عندها الأساطير وتتضخم إلى درجة تفوق حاجات معتقداتها الدينية، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى تحول نوع من الأساطير إلى مجرد أدب دنيوي يعيش على هامش الدين ولا يتصل به إلا أوهى اتصال. ومثالنا الأوضح على ما نذهب إليه هنا هو الميثولوجيا الإغريقية؛ ففي ذلك الحشد الكبير من الأساطير التي تركها لنا الإغريق نستطيع تمييز ثلاثة أنواع من الأساطير؛ فهنالك نوع يتصل بالديانة الإغريقية اتصالا صميميا ويشكل جزءا من بنية المعتقد الديني، وهنالك نوع ثان قد ضاعت صلاته الدينية حتى لا نكاد أن نتبينها، هنالك نوع ثالث استقل عن الدين واستمر كأدب دنيوي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالحياة الدينية، رغم امتلاء قصصه بالشخصيات الإلهية والشيطانية من كل نوع. ولا أدل على ابتعاد الأساطير الإغريقية عن منبتها الديني من عناية الأدباء والشعراء بإعادة تحريرها وصياغتها، خصوصا في العصر الروماني، بطريقة قضت على آخر لمسات القداسة التي تمتعت بها قديما. من هؤلاء نذكر الشاعر فيرجيل صاحب الإنيادة، والشاعر أوفيد في كتابه «التحولات»، وكلاهما عاش في القرن الأول قبل الميلاد. يقول أوفيد في مطلع تحولاته: «إن هدفي في هذا الكتاب أن أقص عن الكائنات التي تحولت عن أشكالها إلى أشكال أخرى مختلفة.»
15
وهو يفي بوعده حتى آخر صفحة في الكتاب الذي بقي حيا مدة ألفين من السنين وملهما للأدب القصصي في الغرب، حيث يقدم لنا حشدا من الأقاصيص التي تدور حول التحولات، أبطالها من الآلهة أو الجن أو البشر.
إن عدم التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة من الأساطير في الثقافات، التي تطور فيها الأدب حتى بغى على الأسطورة، قد قاد بعض الباحثين إلى موقف متطرف، حيث فضلوا استبعاد الأسطورة برمتها من دائرة الدين على القبول بذلك الركام من القصص الأسطوري الذي يعزو إلى الآلهة كل نقيصة في طباع البشر. من هؤلاء ماكس مولر الذي يرى في كتابه «محاضرات في علم اللغة» ضرورة التفريق بين الميثولوجيا والدين، فيضع الأساطير خارج دائرة الحياة الدينية. فالدين عنده هو المعتقدات التي تقود حياة أخلاقية سوية وتنبع عن لاهوت عقلاني، أما الأساطير فإنها نمو عشوائي على هامش الدين يجري تحت تأثير اللغة، ومن شيمتها إلصاق نفسها دوما بالمعتقدات الدينية الأساسية وإفسادها. وعليه، فإن الاعتقاد بالإله زيوس مثلا، هو اعتقاد ديني بمقدار ما يعمل هذا الاعتقاد على رفعه كإله أعلى وأب للبشرية وحام للشريعة والعدالة، أما ما عدا ذلك، وخصوصا فيما يتعلق بمغامرات زيوس العاطفية وزيجاته المتعددة واختطافه لبنات وبني الناس إلى قمة الأوليمب، فهي مجرد أقاصيص ينبغي ألا تؤخذ على محمل الجد.
16
وفي الحقيقة، فإننا لا نستطيع قبول هذا الرأي المتطرف على علاته، كما أننا لا نستطيع في الوقت ذاته أن نقبل كل الأساطير الإغريقية باعتبارها الوجه الآخر للمعتقد الديني الإغريقي. كل ما في الأمر أنه يتوجب علينا عندما نتحدث عن الأسطورة أن نقول أي نوع من الأساطير نعني. ففي الوضع المشوش الحالي لعلم الأسطورة (كما أرى هذا الوضع)، حيث يتم جمع كل الأقاصيص التي تروى عن الآلهة تحت عنوان الأساطير، علينا أن نعترف بأن النظام الميثولوجي لأية ثقافة ليس شأنا دينيا بحتا، وأن هناك زمرة من الأساطير غير الدينية تقوم إلى جانب الأساطير الدينية وتخدم غايات معرفية ومجتمعية شتى؛ بعضها قد يخرج عن النظام الميثولوجي ويشق لنفسه طريقا مستقلا، وهذه هي بدايات تشكل الحكايات الخرافية والقصص الشعبي، وما إلى ذلك من أجناس أدبية ورثت الأسطورة ونهلت من منابعها.
أخيرا، سوف أعمد فيما يأتي إلى تقديم مثال حي، يرينا بجلاء كيف يعرض المعتقد الديني نفسه من خلال الأسطورة. والنص الذي اخترته هو أسطورة من الديانة المانوية التي بشر بها «ماني»، الذي ولد في منطقة بابل لأسرة إيرانية عام 216 ميلادية. ورغم أن الأساطير المانوية تحمل الطابع الشخصي لماني وفكره، إلا أنها تقوم على تقاليد دينية فارسية قديمة ومتجذرة. تهدف هذه الأسطورة إلى شرح المعتقد الثنوي المانوي، الذي يرى في الوجود تنازع قوتين كونيتين هما قوة الخير وقوة الشر، وأن الشر قد دخل في نسيج العالم منذ البداية، ولكنه سوف يزول تدريجيا مع تقدم الزمن. وقد اعتمدت هنا النص العربي للأسطورة، كما قدمه ابن النديم في «الفهرست».
17
ويعتبر النص العربي الأكثر قربا إلى النص الذي خطه ماني؛ لأن المؤلفين العرب كانوا على اطلاع مباشر على المراجع المانوية المتوفرة بين أيديهم في ذلك الوقت، وكانت المانوية ما تزال حية خلال القرون الأولى للعصر الإسلامي، وتشكل منافسا حقيقيا للإسلام في الأقطار المفتوحة. يقول ماني: «مبدأ العالم كونان؛ أحدهما نور والآخر ظلام، كل منهما منفصل عن الآخر. فالنور هو العظيم الأول - ليس بالعدد - وهو الله ملك جنان النور، وله خمسة أعضاء هي الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وخمسة أخر روحانية هي الحب والإيمان والوقار والمروءة والحكمة. وهو بصفاته هذه أزلي، ومع شيئين أوليين هما أرض النور وجو النور، وأعضاء جو النور خمسة هي الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وأعضاء أرض النور هي النسيم والريح والنور والماء والنار. أما الكون الآخر، وهو الظلمة، فأعضاؤه خمسة، وهي الضباب والحريق والسموم والسم والظلمة.
وذلك الكون النير مجاور للكون المظلم لا حاجز بينهما، فلا نهاية للنور من فوقه ولا يمنته ولا يسرته، ولا نهاية للظلمة من سفلها ولا من يمنتها ولا من يسرتها. ومن الأرض المظلمة كان الشيطان الذي ليس أزليا بعينه رغم أن مكوناته بحد ذاتها أزلية. ورأس هذا الشيطان كرأس أسد، وبدنه كبدن تنين، وجناحه كجناح طائر، وذنبه كذنب حوت، وأرجله أربع كأرجل الدواب. فلما تكون هذا الشيطان من الظلمة تسمى إبليس القديم، ثم راح هذا الإبليس يتحرك يمنة ويسرة وإلى الأسفل يهلك كل من غالبه. ولما رام العلو رأى لمحات النور، فأعد نفسه وتسلح استعدادا للانقضاض على مملكة النور من أسفلها، فعلم به ملك جنان النور واحتال لقهره، وكان جنوده قادرين على قهر إبليس ولكنه أراد أن يتولى ذلك بنفسه، فأولد مولودا، وهو الإنسان القديم،
18
وندبه لقتال الظلمة، فتدرع الإنسان القديم بالأجناس الخمسة، وهي النسيم والريح والنور والماء والنار، واتخذها سلاحا؛ فأول ما لبس النسيم، وارتدى على النسيم العظيم بالنور المشع، وتعطف على النور بالماء ذي الهباء، واكتن بالريح الهابة، ثم أخذ بيده النار كالمجن والسنان، وانحط بسرعة نحو مكان إبليس. وعمد إبليس القديم إلى أجناسه الخمسة، وهي الدخان والحريق والظلمة والسموم والسم، فتدرعها، ولقي الإنسان القديم فاقتتلوا مدة طويلة، ولكن إبليس ظهر على الإنسان القديم، وبلغ من نوره، وأحاط به مع أجناسه وعناصره، ولكن ملك جنان النور أرسل وراءه نجدة من قوى عالم النور خلصت الإنسان القديم وأسرت من أرواح الظلمة.
وحدث لما شابك إبليس القديم بالإنسان القديم بالمحاربة، أن اختلط من أجزاء النور الخمسة بأجزاء الظلمة الخمسة؛ فخالط الدخان النسيم، فمنها هذا النسيم الممزوج؛ فما فيه من اللذة والترويح عن الأنفس وحياة الحيوان فمن النسيم، وما فيه من الهلاك والإيذاء فمن الدخان. وخالط الحريق النار، فمنها هذه النار؛ فما فيها من الإحراق والهلاك والفساد فمن الحريق، وما فيها من الإضاءة والإنارة فمن النار. وخالط النور الظلمة، فمنها هذه الأجسام الكثيفة مثل الذهب والفضة وأشباه ذلك؛ فما فيها من الصفاء والحسن والنظافة فمن النور، وما فيها من الدرن والكدر والغلظ والقساوة فمن الظلمة. وخالط السموم الريح، فمنها هذه الريح؛ فما فيها من المنفعة واللذة فمن الريح، وما فيها من الكرب والتعوير والضرر فمن السموم. وخالط الضباب الماء، فمنها هذه الماء؛ فما فيها من الصفاء والعذوبة والملاءمة للأنفس فمن الماء، وما فيها من التغريق والتخنيق والإهلاك والثقل فمن الضباب.
فلما اختلطت الأجناس الخمسة الظلمية بالأجناس النورية، نزل الإنسان القديم إلى غور العمق فقطع أصول الأجناس الظلمية لئلا تزيد، ثم انصرف إلى موضعه من الناحية الحربية، فأمر بعض الملائكة باجتذاب ذلك المزاج إلى جانب من أرض الظلمة يلي أرض النور، فعلقوهم بالعلو. وبعد ذلك أمر ملك عالم النور بعض ملائكته بخلق هذا العالم وبنائه من تلك الأجزاء الممتزجة، من أجل تخليص أجناس النور من أجناس الظلمة، فبنى عشر سموات وثماني أرضين، ووكل ملكا بحمل السموات وآخر برفع الأرضين، وجعل حول هذا العالم خندقا ليطرح فيه الظلام الذي يستصفى من النور، وجعل خلف ذلك الخندق سورا لكيلا يذهب شيء من تلك الظلمة المفردة عن النور، ثم خلق الشمس والقمر لاستصفاء ما في العالم من النور، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر وسائر النجوم تستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد. وهكذا فأجزاء النور أبدا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدا في النزول والتسفل، حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، فيبطل الامتزاج وتنحل التراكيب، ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والمعاد.
ومما يعين في التخلص والتمييز ورفع أجزاء النور، التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر؛ فترتفع بذلك الأجزاء النورية في أعمال عمود الصبح (درب التبانة، طريق المجرة المضيء) إلى فلك القمر، فلا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى النصف، فيمتلئ فيصير بدرا ثم يؤدي إلى الشمس، إلى آخر الشهر، فتدفع الشمس إلى نور فوقها في عالم التسبيح، فيسير في ذلك العالم إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا العالم. فإذا انقضى التدبير ورأت روح الظلمة خلاص النور وارتفاع الملائكة والجنود والحفظة، رامت القتال، فيزجرها الجنود من حولها، فترجع إلى قبر قد أعد لها، ثم يسد على ذلك بصخرة تكون مقدار الدنيا، فتتم حينئذ الراحة من الظلمة وأذاها.»
19
قد لا تقابل هذه الأسطورة كل المعايير التي أوردتها سابقا، ولكنها بالتأكيد مثال ناصع على ارتباط الأسطورة بالمعتقد ارتباطا يصعب معه الفصل بينهما في بعض الأحيان. •••
المعتقد والطقس والأسطورة، هذه هي المقومات المكونة للدين، والتي لا نستطيع التعرف على الظاهرة الدينية في تبديها المجتمعي، بدون التعرف عليها مجتمعة ومتعاونة. إن الحالة المثالية هي الحالة التي لا يطغى فيها أحد هذه العناصر على العناصر الأخرى، ولكن واقع الأمور لا يضعنا إلا فيما ندر أمام مثل هذه الحالة المتوازنة، ومعظم الأديان يبدي تفوقا لأحد هذه العناصر على الأخرى؛ ففي تعاليم بوذا الأصلية، والتي استمرت فيما عرف إلى اليوم ببوذية ال «هينايانا» (ومقابلها بوذية المهايانا)، لا نواجه إلا معتقدا خلوا تماما من الميتافيزيك، ومصاغا بطريقة مباشرة. وقد رفض البوذا في كل مناسبة التحدث عن الماورائيات منبها إلى أن هم الإنسان ينبغي أن يتركز على تحرير نفسه من عالم المظاهر والانطفاء في «النيرفانا» حالة السكون الأبدي، كما رفض حتى الدخول في شروح وتفصيلات حول حالة النيرفانا هذه، مفضلا الإشارة إلى طرق وسبل تحقيقها. ونظرا لغياب القوى الماورائية في المعتقدات البوذية من أي نوع، فقد حلت المجاهدات الروحية محل الطقوس، وانعدمت الأساطير بشكل كامل، فيما عدا سيرة البوذا نفسه، التي صارت إلى حال يشبه الأسطورة. أما أديان الشرق القديم فتقدم لنا مثالا مغايرا تماما؛ فهنا تسود الأسطورة الدينية وترتقي مراتب لم تبلغها في أية ثقافة أخرى، خصوصا في سومر وبابل، كما يرتفع شأن الطقوس ليغلب على الأسطورة في مصر الفرعونية. وفي الديانات المدعوة بالديانات السحرية يرتفع شأن الطقوس القائمة على معتقدات غامضة وتنعدم الأساطير، ومثال هذه عبادة «الفوندو» في أفريقيا وهاييتي.
إلى جانب هذه المكونات، التي أصفها بالأساسية، هناك مكونات ثانوية لا تلعب دورا أساسيا في تكوين الدين، وإنما تظهر كعوامل مساعدة، وضمن سياقات تاريخية واجتماعية معينة، وهي: الأخلاق والتشريع.
الفصل الثاني
المكونات الثانوية للدين
الأخلاق والشرائع
عندما نتحدث عن المكونات الثانوية للدين في مقابل مكوناته الأساسية، فإننا لا نقصد بصفة الثانوية هذه التقليل من شأنها على أي صعيد، بل إلى وصف دورها في عملية تكوين الدين ودرجة أولويتها في التعرف على الظاهرة الدينية. ففي السياقات التاريخية لأديان الإنسان وضمن ظروف اجتماعية وسياسية معينة، تأتي إلى الدين عناصر لم تكن منه ابتداء، ولم يكن لها شأن في تأصيل بداياته الأولى ، وهذه هي: الأخلاق والشرائع.
رغم التشابك المتين بين الدين والأخلاق، والعلاقة الموغلة في القدم بينهما، فإنهما من حيث المبدأ مفهومان مختلفان تمام الاختلاف، ومتمايزان كل التمايز، رغم ما يبدو من صلتهما الوطيدة؛ فالدين عبارة عن معتقدات وممارسات تنظم سلوك الإنسان تجاه عالم المقدسات وتزوده برؤيا شمولية للكون وموضع الإنسان في هذا العالم. أما الأخلاق فإنها قواعد وممارسات تنظم سلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة التي يشكلون أعضاءها، وهي تنشأ بشكل خاص لحل المشكلات الناجمة عن التنافس بين الأفراد والمجموعات، فتعمل على تسوية المنازعات التي تخلقها الحياة المشتركة. فالأخلاق والحالة هذه هي بديل عملي وناجح لأسلوب القوة والإكراه في العلاقات الاجتماعية، وتختلف عنها في أنها ترجع إلى مبادئ للسلوك متفق عليها ومقبولة من قبل الجميع. إلا أن العلاقة المعقدة بين الدين والأخلاق تبدأ عندما تتعلق المشروعية الخلقية بمؤيدات تنبع عن المعتقد الديني المشترك، بدل أن تتعلق بالفهم السليم للعلاقات الإنسانية المتبادلة.
إن علاقة الأخلاق بالدين في المجتمعات التقليدية التي لم تتعقد بناها الاجتماعية والسياسية، تقدم لنا برهانا على أن الأصل في الأخلاق استقلالها عن الدين. ففي هذه المجتمعات التي تعطينا صورة عن المراحل المبكرة من تطور الحضارات الكبرى، نجد في الأخلاق شأنا دنيويا تنظمه الأعراف السائدة دونما مؤيد من قوة قدسية ما. ففي أفريقيا السوداء على سبيل المثال،
1
تقوم الأخلاق في المجتمعات الزنجية كشأن ملحق بالتنظيم الاجتماعي دونما رابط يلحقها بالدين أو مؤيد يأتي من قبل الآلهة. والمفهوم الذي صنعه الأفريقيون لأنفسهم عن الله مختلف تماما عن المفاهيم السائدة في أكثر الحضارات الكبرى، فهم لا يرون فيه صانعا للأخلاق، ولا يعتبرونه الخير المحض في مقابل الشر؛ ولذا فإنه لا يجزي ولا يعاقب ولا يمتلك مفاتيح جنة أو نار. أما قواعد السلوك الاجتماعي فتنص عليها المواضعات الاجتماعية المؤيدة بسلطة الجدود الأموات، ممن تسهر أرواحهم على دوام تطبيق الأوامر والنواهي المتعارف عليها منذ القدم. ويتبع ذلك أن الهدف من الطقوس الدينية بالنسبة للزنجي هو تحقيق حياة أفضل في هذا العالم. وبما أن مفهوم الخطيئة باعتبارها تعديا على حرمة قانون إلهي مفروض، غير معروف لدى هذه المجتمعات ، فإن المعاصي عندهم يمكن غسلها تماما بواسطة طقوس مخصصة لهذه الغاية؛ ذلك أن الخير والشر كصفتين غير معروفة هنا، والرجل الذي اقترف إثما ليس إنسانا شريرا بالضرورة، وهو لا يستحق أي لوم ما إن يقوم بغسل ذنبه.
إلا أننا نستطيع العثور لدى المجتمعات التقليدية
2
على ما يشبه الأخلاق الدينية، وذلك في مؤسسة ال «تابو» التي يمكن أن تشكل نقطة اتصال بين الأخلاق الاجتماعية والأخلاق الدينية، ونستطيع أن نتبين فيه الأخلاق الدينية بشكلها الجنيني. يتشكل التابو في المجتمعات التقليدية من عدد من التحريمات المتصلة بالعلاقة بين العالم الدنيوي وعالم المقدسات. وهذه التحريمات لا يعرف لها مشرع أو مستن، وتجد مؤيداتها في قوة فوق طبيعانية ما، سواء كانت هذه القوة من مصدر إلهي بالمفهوم الذي نعرفه أم من مصدر سحري حيث القوى الغفلة غير المشخصة. ويأتي تأييد القوة للائحة التحريمات بتدخلها الفوري وبرد فعل أوتوماتيكي، فيطال الجزاء من اعتدى على حدود التابو، كأن يصيب الشلل العضو الذي استخدمه في الفعل المحرم، أو يداهمه مرض ما، أو يعالجه الموت السريع، وقد تتدخل الجماعة في بعض الأحيان لتسبق العقوبة التلقائية بعقوبة إجرائية، وذلك كأن تفرض على المذنب العزل أو الإبعاد أو الإعدام أحيانا، وذلك تبعا لنوع التابو وخطورة انتهاكه، ولسوف أقدم فيما يلي بعض الأمثلة.
يقوم عدد لا بأس به من لوائح التابو في الوسط الديني البدائي على فكرة الفصل بين العوالم القدسية والعوالم الدنيوية فصلا لا يتاح معه لأي نوع من الاحتكاك أو الاتصال بينهما. فلدى القبائل الأسترالية يكتسب الرجال البالغون ممن مروا عبر طقوس التعدية (=
Initiation ) جزءا من القداسة التي تتمتع بها القوة فوق الطبيعانية التي تتخلل الطبيعة؛ ولذلك يسمح لهم بالمشاركة في الطقوس الدينية واستخدام كل الأدوات المعدة لهذا الغرض. ولكن يحرم على الذكور غير البالغين ممن لم يستلموا دينهم بعد لمس الأدوات الطقسية تحت أي ظرف من الظروف. أما النساء، وهن الشريحة المستبعدة من الحياة الدينية للجماعة ، فيحرم عليهن حتى رؤية هذه الأدوات ولو عن بعد، كما يحرم عليهن سماع تراتيل طقسية معينة تحت طائلة الموت. وانطلاقا من مبدأ الفصل نفسه، تتطلب ممارسة الطقوس الدينية من المشاركين التجرد الكامل من ملابسهم وزينتهم المعتادة باعتبارها جزءا من العالم الدنيوي يتوجب تركه عند أعتاب مكان الاحتفال. أما إذا تطلبت بعض الطقوس ارتداء زينة معينة، فإن هذه الزينة تصنع خصوصا للاحتفال، ويمنع أي استخدام دنيوي لها بعد ذلك، وقد تدفن في الأرض أو تحرق ويقوم صاحبها بغسل نفسه تماما قبل العودة إلى الحياة اليومية كي لا يحمل معه أثرا من زينته الطقسية. وتقوم عادة ترك الأعمال اليومية المعتادة والراحة منها في أيام الأعياد الدينية على مبدأ الفصل بين المقدس والدنيوي؛ ذلك أن فترة الأعياد هي وقت مقدس مخصص للطقوس يتوجب خلاله الإقلاع عن أي نشاط دنيوي.
3
وفي فترات معينة تقع زمر من الأفراد تحت حيطة القوة فوق الطبيعانية، وهنا ينبغي أن يتم التعامل مع هؤلاء بكثير من الحذر ووفق قواعد معينة؛ لأنهم يكونون حينها موضوعا للتابو. فلدى قبائل أستراليا يمنع على النساء في فترة الحيض وتحت طائلة الموت لمس ما يستعمله الرجال أو المشي في درب يطرقونه. وقد سجل أحد الأنتروبولوجيين واقعة مفادها أن أحد الرجال عمد إلى قتل زوجته فور اكتشافه أنها قد تمددت على حصيرته وهي حائض، ثم ما لبث أن مات ذعرا بعد أسبوعين وهو يترقب عقاب القوى الخفية، وبالطبع فقد اعتقد أقرانه بأنه قد لاقى جزاء احتكاكه بموضوع تحريم. وتخضع النساء أيضا إلى تحريمات مشابهة خلال فترة الولادة والنفاس، فتعزل المرأة تماما حتى انتهاء فترة نفاسها، وكل ما تستعمله أثناءها يمنع لمسه أو استعماله حتى من قبلها بعد زوال التابو عنها. ولدى معظم قبائل أمريكا تعزل الفتاة حين يأتيها الحيض الأول في كوخ، ويمنع على أحد من الذكور رؤيتها خلال فترة كافية لتطهيرها، ثم تلتزم بعد ذلك تغطية وجهها لمدة محددة بعد خروجها من معتكفها. ومثل النساء في هذا النوع من التابو الواقع على الأشخاص، زمرة المحاربين؛ فهؤلاء يخضعون بعد انتهاء القتال إلى فترة عزل كافية لتخليصهم من آثار أرواح ضحاياهم، ومثلهم الصيادون الذين يخضعون إلى طقوس تطهيرية عقب رجوعهم من الصيد.
4
إن الطقوس التطهيرية التي خضع لها أفراد هذه الزمر وأمثالهم، نابعة من توهم خطر ما يصدر عن هؤلاء وخطر آخر عليهم في الوقت نفسه؛ لأنهم خلال فترة التابو يكونون مشحونين بقوة خطرة ينبغي عدم السماح لها بالانتقال إلى الآخرين.
يكفي هذا القدر اليسير من الأمثلة (وتعدادها جميعا يتطلب مجلدا بأكمله) لإظهار الأساس المشترك بين تحريمات التابو ولوائح الأخلاق الدينية؛ فكلاهما يجد تأييده في قوة خارجة عن الإنسان، وكلاهما مما ينصاع له الأفراد دون مناقشة أو محاكمة عقلية. ولكن، بينما تقتصر تحريمات التابو على قواعد تتعلق بعدم تعدي حدود قوى إلهية أو سحرية غفلة، فإن لوائح الأخلاق الدينية تتجاوز ذلك لتشمل العلاقات المتبادلة ضمن الجماعة. من هنا، أستطيع الافتراض، ببعض الثقة، بأنه عند مرحلة معينة من تطور المجتمعات القديمة، اتسعت دائرة التابو لتستوعب تدريجيا بعض القواعد الأخلاقية التي كانت حتى ذلك الوقت شأنا دنيويا تنظمه الأعراف القبلية، في الوقت الذي أخذت فيه التحريمات القديمة تفقد سطوتها مع تغير المفاهيم الدينية. ولعل مما يؤيد هذا الافتراض، أن الوصايا الأخلاقية في بعض الأديان المتطورة تختلط في النص الواحد بتحريمات تقوم على مبدأ التابو القديم، وهذا ما نراه بكل وضوح في كتاب التوراة. فمع الوصايا الأخلاقية العشر في سفر الخروج، يستلم موسى عددا من التحريمات التي لا يمكن تفسيرها إلا على ضوء مفهوم التابو البدائي، وهي تهبط من السماء باللهجة الإلزامية للوصايا العشر نفسها، وفي الجو القدسي المرعب نفسه. نقرأ في سفر الخروج 2: 18-26: «وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق، وصوت البوق والجبل يدخن ... وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الرب، فقال الرب لموسى، هكذا تقول لبني إسرائيل ... مذبحا من تراب تصنع لي ... وإن صنعت لي مذبحا من حجارة فلا تبنه منها منحوتة، إذا رفعت عليها إزميلك تدنسها، ولا تصعد بدرج إلى مذبحي كي لا تنكشف عورتك.» أما لماذا يتوجب صنع المذبح من تراب أو من حجر غير منحوت، ولماذا يتوجب عدم استعمال الإزميل الحديدي في تسوية الحجارة، فأمر لا يوضحه التحريم؛ لأنه قائم على تابو، ومثل هذا التابو معروف لدى بعض المجتمعات البدائية الحديثة وبعض الحضارات القديمة مما سأسرده فيما يأتي:
في روما القديمة كان محرما على الكهنة الحلاقة بموس من حديد، وفي غابة أرفال المقدسة قرب روما كان محرما إدخال الحديد أو أية أداة مصنوعة منه، فإذا تطلب الأمر استعمال أداة حديدية لغرض كتابة نقش ما على الحجر، كان لا بد من تقديم ذبيحة تطهيرية قوامها حمل وخنزير. وهنالك جسر قديم مقدس في المدينة قد تم بناؤه دون استخدام أداة حديدية. ولما احتاج معبد جوبيتر في فورفو للإصلاح، استصدرت السلطات المدنية قانونا يجيز استخدام الأدوات الحديدية في ذلك. وإلى وقت قريب كان أهالي جزيرة جاوا يحجمون عن استخدام المحاريث الحديدية في فلاحة أرضهم، ولدى بعض قبائل الهنود الحمر في أمريكا تستعمل السكاكين الحجرية في الطقوس الدينية من دون الأدوات الحديدية. وفي كوريا كان محرما على الحديد أن يمس لأي سبب من الأسباب جسم الملك، ويروى أن ملكا كوريا مات عام 1800م من ورم في ظهره كان من الممكن علاجه بمفصد حديدي. وفي جنوب غرب أفريقيا تجري عملية الختان بواسطة سكين صواني، فإذا تطلب الأمر إجراءها بسكين حديدية جرى التخلص من السكين بدفنها تحت الأرض.
5
ولعل من جملة الأسباب التي ساعدت على اتصال الأخلاق بالدين، وتحول لائحة التابو إلى قواعد أخلاقية، هو اجتماع السلطتين السياسية والدينية في يد واحدة هي يد الملك-الكاهن، وذلك عند أعتاب التاريخ، عندما كانت المجتمعات البشرية تتحول لأول مرة في مناطق الهلال الخصيب من نظام القرية الزراعية إلى نظام المدينة. ولدينا براهين مؤكدة من المدن السومرية الأولى، وهي أسبق المدن في الحضارة الإنسانية، على سلطة المؤسسة الدينية، وعلى الصفة المزدوجة للملك السومري كحاكم زمني وككاهن أعلى. لقد شعر هؤلاء الحكام-الكهنة الأوائل، وهم يقودون مجتمعا ودع إلى الأبد بساطة القرية وعلاقاتها الاجتماعية القبلية، وصار إلى حالة من التعقيد وتشابك العلاقات لم تماثلها حالة من قبل، شعروا بضرورة ربط المؤيدات الاجتماعية للسلوك الأخلاقية بمؤيدات تأتي من العالم الإلهي الذي يكافئ ويعاقب، ويحافظ من خلال القوانين الأخلاقية على نظام المجتمعات الإنسانية حفاظه على نظام الكون من خلال القوانين الطبيعية. ولما كان أولئك الحكام يسيطرون على أحوال الناس الدنيوية سيطرتهم على أحوالهم الدينية، فقد سهل عليهم هذا الوضع المتميز إحكام الربط بين النظام الأخلاقي والنظام الديني للجماعة. وقد زادت أواصر هذه العلاقة بمرور الزمن، حتى بدت الأخلاق والأديان وكأنها من طبيعة واحدة وأصل مشترك.
وبما أن الأخلاق لا تستكمل ارتباطها العضوي بالدين إلا عبر سياق تطوري بطيء، فإننا نستطيع متابعة هذا الالتحام التدريجي في بعض الأديان التي خضعت لعملية تطورية عبر فترة طويلة من الزمن، ولدينا عنها وثائق كتابية كافية، مثل الديانة اليهودية. فرغم أن الوصايا الأخلاقية العشر قد تصدرت سفر الخروج، وهو ثاني أسفار التوراة، فإن وصايا «التابو» البدائي والأحكام الطقسية، قد طغت على الوصايا الأخلاقية في معظم أسفار الكتاب. فقد خصص النصف الثاني من سفر الخروج، وكل سفر اللاويين الذي يليه، لبسط وتفصيل أحكام التابو التوراتي التي تتفق وكثيرا من أحكام التابو التي أطلعنا عليها علم الأنتروبولوجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر. فمعظم ما تلقاه موسى من أحكام في سفر الخروج وسفر اللاويين هو أحكام تتعلق بكيفية أداء الطقوس أمام الرب، وطرائق تقديم الذبائح والقرابين، وكيفية إقامة خيمة الاجتماع، وبناء المذبح، وقواعد التحريم الخاصة بالتعامل مع تابوت العهد. أما سفر اللاويين، فيعتبر بحق سفرا للتابو العبراني؛ فهناك تابو اللمس (3-15)، وتابو الطعام (11: 1-46)، وتابو المرأة في فترة الولادة والنفاس (12: 1-8)، وتابو البرص والقرع (13: 1-59)، وتابو السيلان (15: 1-33)، وتابو الدم (17: 1-16)، وتابو المرأة الحائض (15: 9-33)، وتابو الجنس (20: 9-21) ... إلخ، في الوقت الذي لم تنل فيه الوصايا الأخلاقية من الأحكام إلا أقلها. والخطيئة الأخلاقية يمكن غسلها، أما تعدي حدود التابو فجريمة تستجلب القصاص الفوري؛ فمن «أخطأ وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبا ... يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشا صحيحا من الغنم، ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح عنه» (اللاويين 1: 6-6). وحتى ذنوب القوم يمكن غسلها جميعا وفق الطقس المعروف بطقس تيس الخطيئة: «ويضع هارون يديه على رأس التيس الحي، ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل، وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة» (اللاويين 21: 16-22). وفي المقابل، فإن ابني هارون، وهو الكاهن الأكبر، يموتان فورا لتعديهما حدا من حدود التابو: «وأخذ ابنا هارون كل منهما مجمرته، وجعلا فيها نارا، ووضعا عليها بخورا، وقربا أمام الرب نارا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (اللاويين 10: 1-2).
وإله العبرانيين نفسه ذو طبيعة أخلاقية متناقضة وموزعة فيما بين الخير والشر، وهو يبدو في كثير من تصرفاته أبعد ما يكون عن الحس الأخلاقي في معاملة مخلوقاته، فهو يبلبل ألسنتهم ليمنعهم من الاتحاد في مواجهته، ويشتتهم في بقاع الأرض، على ما تذكره أسطورة برج بابل في سفر التكوين (11: 1-8). وهو يفني كل نفس حية بين إنسان وحيوان وحشرة في طوفان شامل، ولا يتورع عن قتل كل المواليد الأبكار في مصر لإرغام الفرعون على إطلاق بني إسرائيل. وعندما يأتي لدمار مدينتي سدوم وعمورة يقف أمامه إبراهيم ليذكره بالقواعد الأخلاقية: «حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر؛ أن تميت البار مع الأثيم ... أديان الأرض لا يصنع عدلا؟» (التكوين 18: 23-25). وهو ينقض مواثيقه بعد عقدها وحلفانه على ثباتها كما في المزمور 89: 35-44. ويبدو سلوك يهوه غير المفهوم من وجهة النظر الأخلاقية، كأوضح ما يكون في سفر أيوب؛ فهنا نرى الإله يقع في مصيدة الشيطان الذي يوغر صدره على عبده أيوب، لا لشيء إلا لكون هذا الإنسان مثالا على التقوى والخلق القويم، فنتابع في هذا السفر المخيف كيف يسلب أيوب قطعانه ويقتل عبيده ويودي الإعصار بأبنائه وبناته، وكيف ينزل به إلهه الآفات والأمراض من كل نوع. ولكي تحكم حلقات الحصار حوله، يقوم أصدقاؤه القدامى وزوجته بإطلاق التهم فيه، وينسبون إليه كل فرية، ولكن أيوب يرفض مع ذلك أن يرفع شكاته لغير إلهه رغم يأسه من الاستماع إليه، ويقف ثابتا في الدفاع عن حقه أمامه؛ وبذلك يتفوق أخلاقيا على ذلك الإله.
6
هذا التوزع بين الخير والشر يدفع إله العهد القديم لأن يتعامل بمعيارين متناقضين؛ فبينما يسمح لنفسه أن يأخذ الأبناء بذنوب آبائهم: «أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (الخروج 2: 5)، فإنه يشرع في سفر التثنية عدم أخذ الابن بجريرة أبيه: «لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل» (التثنية 24: 16). وكان على يهوه أن ينتظر في هذه الحالة الأخلاقية المنقسمة حتى وقت متأخر من تاريخ الديانة اليهودية، وها هو يصحح سلوكه السابق على لسان حزقيال الذي عاش إبان السبي البابلي: «ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست؟ حي أنا، يقول السيد الرب: لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل ... النفس التي تخطئ هي التي تخطئ، هي التي تموت ... الابن لا يحمل من إثم الأب» (حزقيال 18: 2-4، 20).
ونستطيع الافتراض بثقة أن شأن الأخلاق لم يعل على الطقوس وعلى لوائح التابو إلا خلال الأسر البابلي، ومن خلال كرازة الأنبياء المتأخرين الذين قاموا بما يشبه الانقلاب الديني حقا. يقول إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب: أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات ... البخور هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل ... رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت علي ثقلا، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. اغتسلوا تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر» (إشعيا 17-1: 11). وعند عاموس نقرأ: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا ... بغضت كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع، وليجر الحق كالمياه والبر كنهر دائم» (عاموس 5: 14، 21-24). كما يعلن هوشع على لسان الرب: «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هوشع 6: 6). إلا أن الانتصار الحقيقي للأخلاق في ديانات المشرق العربي لم يتم إلا مع مجيء المسيحية ومن بعدها الإسلام؛ فرسالة الأناجيل ليست سوى رسالة إيمان وأخلاق، وبولص الرسول، صاحب الفضل الأول في تحرير المسيحية من الفكر اليهودي، قد ركز في تعاليمه على فكرة أن الله لا يطلب بالذبائح بل بالإيمان والخلق القويم، وكل رسالته إلى العبرانيين تقريبا تحمل هذه المعاني. أما الإسلام، فقد أعلن منذ البداية صلة لا يمكن فصلها بين الدين والأخلاق؛ ولذا فغالبا ما اقترن التكليف بالوصايا، كقوله تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا (الإسراء: 23). كما شغلت الوصايا الأخلاقية الجزء الأكبر من أحاديث الرسول؛ ف «الدين المعاملة»، و«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وغير هذه الأحاديث كثير.
ولقد أثر علو شأن الأخلاق في الحياة الدينية، بشكل خاص، على مفهوم الإله عند الجماعة، وعلى ظهور شخصية إلهية مختصة بأمور الشر؛ فالإله الذي يحض على فضائل الأعمال ينبغي أن يمثل بذاته الخير المحض، ويترك شرور العالم لكي يتدبرها الشيطان. ففي الزرادشتية الإيرانية التي كانت، تاريخيا، أول من فصل بشكل مطلق بين الخير والشر في شخصية الإله، يجري تصور الكون برمته على أنه نظام أخلاقي قطباه قوتان؛ الأولى خير محض، والثانية شر محض. ومثل الزرادشتية في هذا، المانوية وريثتها الفكرية. أما اليهودية، فبسبب عدم توصلها إلى فكرة الخير المحض في شخصية الإله، فقد بقيت حتى اختتام تدوين أسفار التوراة في القرن الثاني قبل الميلاد (وهو زمن تدوين آخر الأسفار) لا توكل لشئون الشر على المستوى الكوني شخصية ما ورائية من أي نوع؛ لأن الخير والشر بقيا متلازمين في شخصية الإله. يقول يهوه على لسان إشعيا: «أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق البشر، أنا صانع كل هذه» (إشعيا، 45: 6-7). أما الشيطان فيبدو في الأسفار الأولى كشخصية باهتة، وكنوع من الجن يسكن البوادي المقفرة تحت اسم «عزازيل »، من ذلك ما نراه في سفر اللاويين (16: 8، 10، 26). ولم يرد ذكره تحت اسم الشيطان إلا مرات قليلة لا تكفي لإيضاح هويته ومجال سلطانه، ولكننا نعرف منها مقاومته لإرادة الرب، كما هو الحال في سفر أيوب (1: 6-12)، وزكريا (3: 1-2). ثم يأتي العهد الجديد ليرسم الشخصية الواضحة للشيطان، ويعطيه سلطانا على العالم يشبه سلطان أهريمان الزرادشتي؛ فهو ملاك سقط بسبب الكبرياء (رسالة بولص إلى أهالي إفسوس 6: 12)، وهو رئيس رتبة من الأرواح النجسة (متى 12: 24)، ويقود العصاة السماويين على الله (رسالة بطرس الثانية 2: 4)، ويوقع بالبشر ويصدهم عن فعل الخير (مرقس 4: 15)، وسلطته تشكل كل الجنس البشري (إفسوس 2: 1-3)، ويدعوه بولص بإله هذه الدنيا الفانية (رسالة بولص إلى أهالي كورنثه 4: 4)، ويدعوه يوحنا الإنجيلي رئيس هذا العالم (يوحنا 12: 31)، ويبقى سلطانه قائما إلى يوم الدينونة (رؤيا 20: 1-2 و10). ورغم أن الإسلام يسير على النهج نفسه، إلا أنه لا يعطي للشيطان من السلطان الشيء الكثير، ويبقى نشاطه ضمن حدود السيطرة الإلهية من جهة، وقوة الإنسان على مقاومته من جهة ثانية؛ فإبليس بعد أن يطرد من السماء لعصيانه الأمر الإلهي وتكبره على السجود لآدم، يعلن تصديه لحمل مسئولية الشر في العالم بالقدر الذي تسمح به المشيئة الإلهية:
قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (الحجر: 39-42).
ومن ناحية أخرى، فقد ارتبطت الأخلاق تقليديا بالتشريع. فالشرائع ليست إلا جزءا من الأخلاق العامة، وقد تم تأييده بالعقوبات التي تفرضها السلطة السياسية. وأول القواعد التشريعية لم تكن سوى قواعد أخلاقية بدت ذات قيمة استثنائية لنظام الجماعة، فجرى دعمها بالقوانين التي تضمن إلزام الأفراد بها. فالسرقة مثلا تبقى مسألة من مسائل الأخلاق العامة التي تجد مؤيداتها في الروادع الذاتية، إلى أن تؤيد بعقوبة تفرضها الجماعة، عندها تتحول إلى قضية تشريعية رغم استمرار انتمائها إلى المجال الخلقي. إن أخلاق حضارة بلاد الرافدين، على سبيل المثال، كانت على الدوام تحض على الأمانة وعدم الاعتداء على ممتلكات الغير، إلى أن جاءت الشرائع فجعلت من السرقة موضوعا تشريعيا. وهذه شريعة حمورابي تنص على ما يأتي: «لو سرق رجل ثورا أو حمارا أو خنزيرا أو قاربا كان من أملاك إله أو من أملاك قصر، يدفع ثلاثين مثلا، وإن كان من أملاك قروي يرد عشرة أمثاله. أما إذا لم يكن لدى اللص ما يدفعه فيقتل.» وأيضا: «لو سرق رجل ابنا لرجل آخر يقتل.» وأيضا: «إن لم يقبض على اللص، فعلى المسروق منه أن يصرح بما فقده أمام إله، وعلى المدينة أو العمدة في المنطقة التي اقترفت فيها السرقة أن يعوض له خسارته.»
7
وعندما ارتبطت الأخلاق بالدين كان لا بد بالتالي من ظهور الشريعة الدينية، خصوصا في الديانات الشمولية التي ربطت بشكل كامل بين الحياة الروحية والحياة الاجتماعية. ففي كتاب التوراة نجد نوعين من الأحكام الأخلاقية؛ واحد مؤيد بالعقوبات ويدخل في جملة الشرائع، وآخر غير مؤيد بالعقوبات ويبقى في مجال الأخلاق؛ فالفقرات 5 و8 و10 من الوصايا العشر هي قواعد أخلاقية لا يوجد لها إلزام في الشريعة، وهي: «أكرم أباك وأمك. لا تشهد على قريبك شهادة زور. لا تشته امرأة قريبك.» أما الفقرات 6 و7 و8 فتندرج في لوائح الشريعة، وهي: «لا تقتل، لا تسرق، لا تزن.» وعقوباتها مدرجة في أسفار الخروج والعدد والتثنية، من ذلك مثلا عقوبات الزنى التي تتدرج من إلزام الرجل بالزواج بمن زنى معها إلى رجم الزانيين حتى الموت (انظر التثنية، 22: 13-28). وفي القرآن أيضا نجد هذين النوعين من الوصايا الأخلاقية، فالظن الإثم والغيبة والتجسس على الآخرين أفعال منافية للأخلاق يجب اجتنابها، ولكن لا وجود لنص تشريعي يعاقب عليها:
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا (الحجرات: 12). وبالمقابل فإن اجتناب الزنى قاعدة أخلاقية، ولكنها مؤيدة بعقوبة تلحقها بالشريعة. فالقاعدة الأخلاقية منصوص عليها في سورة الإسراء (32):
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا . أما القاعدة التشريعية فمنصوص عليها في سورة النور (2):
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة .
وفي الديانات الهندوسية ، نجد في مفهوم الدهارما
Dharma
ما يشبه الشرائع الدينية في الأديان الشرق أوسطية. والكلمة تستعمل بمعنيين مختلفين؛ ففي المعنى الأول: هي كل المعتقدات الدينية التي يقوم عليها الدين. وبالمعنى الثاني: هي جملة الشرائع التي تقوم على هذه المعتقدات من أجل تنظيم علاقات الناس. وبذلك يجمع مفهوم الدهارما بين الدين والتشريع في وحدة متكاملة.
8
وقد انتقل هذا المفهوم من الهندوسية إلى البوذية، حيث تشكل الدهارما فيها مجمل الشرائع والقواعد الأخلاقية المستمدة من مواعظ البوذا، والتي جمعها وثبتها تلامذته من بعده. ويتصل بمفهوم الدهارما البوذي والهندوسي مفهوم آخر هو «الكارما»، والكلمة في الأصل تعني «الفعل»، وبالمفهوم الديني يتسع معناها الأصلي لتشمل الفعل وجزاءه ثوابا كان أم عقابا. غير أن الجزاء والعقاب لا يفرضه إله متسام مشخص يدير الكون، كما هو الحال في الأديان الشرق أوسطية، بل يأتي نتيجة لسريان مبدأ كارمي في الكون متصل بعقيدة تناسخ الروح. فالأرواح تخضع لسلسلة غير متناهية من التقمصات في أجساد بشرية أو حيوانية أو حتى إلهية، وذلك تبعا لنوع الفعل الكارمي الذي يصدر عنها في كل حياة من حيواتها المتعاقبة، بحيث يجد الفعل الذي تقوم به في حياة ما جزاءه في الحياة التي تلي، تنعما كان هذا الجزاء أم معاناة لألم. وقد تستمر هذه الدورة التناسخية إلى الأبد؛ إذ لم تفلح الروح في الوصول إلى مرتبة من النقاء تؤهلها لكسر هذه السلسلة والدخول في الأبدية. وبهذا المعنى تعمل الكارما وفق آلية ضبط ذاتي ودونما تدخل خارجي.
9
غير أن اتصال الأخلاق والشرائع بالدين ليس مسألة حتمية في تاريخ الدين، فهناك ديانات حافظت حتى النهاية على استقلالها عن الأخلاق، ومنها الديانة الإغريقية والديانة الصينية. فعند الإغريق، لم يكن كبير الآلهة زيوس يتطلب أكثر من الذبائح والقرابين، وهو لم يضع وصايا أخلاقية ولم يستن الشرائع، وصواعقه التي كان يرسلها على الأرض لعقاب البشر لم تكن معدة للفجرة بالمعنى الخلقي المعروف، بل لأولئك الذين يهددون نظام الجماعة عموما ولا يعيرون الآلهة التفاتا. وإذا كان يهوه التوراتي يأمر بالخلق الحسن ثم لا يخضع تصرفاته هو للمعايير الأخلاقية، فإن زيوس لم يأمر بمكارم الأخلاق من جهة، ولم يجعل سلوكه قدوة خلقية من جهة أخرى. ومثله في ذلك بقية الآلهة الأوليمبيين؛ فمواقف هؤلاء وتصرفاتهم كانت تصدر عن فطرية سلوكية وردود أفعال آنية، غالبا ما اتسمت بالبعد عن روح المسئولية الخلقية، وبذلك تركت المجتمعات الإغريقية لتدير شئونها الداخلية بنفسها وبمعزل عن تدخل الآلهة. وربما لهذا السبب نشأت فلسفة الأخلاق الدنيوية أول ما نشأت لدى هؤلاء الإغريق؛ ففي الوقت الذي عكف فيه فقهاء الديانات الأخلاقية على اكتناه إرادة السماء فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم، فإن الفلسفة الإغريقية منذ سقراط كانت تتساءل عن ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة، وبعيدا عن توسط قوى إلهية أو مبدأ كارمي من أي نوع.
أما في الصين، فمنذ بدايات تاريخها المكتوب يقوم القانون في استقلال عن الدين. وأكثر من ذلك، فإن هذا القانون المدني لم يكن مطبقا إلا على الشرائح الدنيا من المجتمع، أما الشرائح العليا فكانت تسللت وفق نظام معقد من الأخلاقيات الاجتماعية، وتؤمن أنها قادرة على الالتزام به دونما مؤيد خارجي.
10
من هنا فقد أكد المفكرون الصينيون على الطابع الدنيوي للأخلاق والشرائع، ونشأ في الصين فكر أخلاقي دنيوي وضع أسسه عدد من المفكرين الكبار، على رأسهم كونفوشيوس (بالصينية
KUNG FU-TZU ). ولد «المعلم»، كما يدعوه الصينيون، عام 155ق.م. وتوفي عام 478؛ أي عندما كان لسقراط الإغريقي سبع سنوات من العمر؛ فالاثنان ينتميان إلى فترة واحدة من تاريخ الحضارة الإنسانية، وكلاهما وضع أسس الأخلاق الدنيوية لثقافتين متباعدتين في كل شيء، ولا يجمعهما إلا قيامهما على الفصل بين الدين والأخلاق. لم يعن كونفوشيوس بالمسألة الدينية، وكان يرى في المسائل الميتافيزيقية واللاهوتية مضيعة للوقت؛ لأن الإنسان يجب أن يولي جل اهتمامه لكيفية سلوكه في هذا العالم. ونحن نجد في أجوبته على تساؤلات تلامذته الدينية خير مثال على مواقفه تلك؛ فقد سأله واحد منهم: «كيف نستطيع أن نخدم أرواح الأسلاف؟» فأجاب: «إنك لم تتعلم بعد أن تخدم الأحياء، فكيف تستطيع أن تخدم الأموات ؟» وسأله آخر عن الموت وطبيعته وحال الأموات، فأجاب: «إنك لم تصل إلى فهم الحياة بعد، فكيف لك أن تفهم الموت؟»
11
من هنا فقد حض كونفوشيوس على اتباع العبادات الصينية التقليدية، مثل عبادة الأسلاف وعبادة قوة السماء، وعلى إقامة الطقوس المتوارثة، ووقف نفسه على إصلاح المجتمع من خلال نظام أخلاقي بينه بشكل أساسي للحكام وأصحاب الرأي في المجتمع؛ لأنهم القدوة التي يعمل الناس على تقليدها. ويمكن القول إنه كان يحلم بصنع «الإنسان الأعلى» الذي تجتمع فيه الفضائل، ويكون بسبب حساسيته الخلقية معيارا لنفسه؛ فالنظام الأخلاقي مزروع في النفس الإنسانية، وهو انعكاس للنظام الأخلاقي الكوني، وما على الفرد إلا أن يحاول الانسجام مع هذه الأخلاقية الكونية. يقول كونفوشيوس: «إن حياة الفرد الأخلاقي تقوم على احتذاء النظام الخلقي الكوني والانسجام معه، أما حياة الأوغاد فتقوم على معاكسة ذلك النظام الكوني.» وأيضا: «إن الغاية الأسمى للإنسان هي العثور على مفتاح كيانه الأخلاقي الذي يوحده بالنظام الكوني.»
12
ونظرا لثقته المطلقة بالطبيعة الخيرة للإنسان، فقد بشر بإمكانية الجميع على تربية الخصال الحميدة في نفوسهم واكتسابها بالتعلم الذي يكشف عما في النفس من خير؛ الأمر الذي يقود إلى قمة التوازن مع الذات، فمن هو طيب حقا لن يشعر بالتعاسة أبدا. يقول «هناك خمسة واجبات شمولية يجري القيام بها وفق ثلاث خصال أخلاقية ... بعض الناس يولدون ومعهم معرفة تلك الخصال الأخلاقية، وبعضهم يتعلمها بالتربية، والبعض الآخر بالتعرض للتجارب القاسية.»
13
وبذلك يلتقي فكر كونفوشيوس الأخلاقي العملي مع فكر سقراط؛ فالإنسان بطبعه خير عند سقراط، والمعرفة هي التي تقود إلى السلوك الأخلاقي؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يرتكب الشر وهو عارف به، ويستتبع هذا أن الفضيلة يمكن اكتسابها بالتعلم ودونما توجيه خارجي أو ضغط من سلطة عليا. أما أفلاطون فيرى في الكون نظاما أخلاقيا؛ فعلى قمة هرم «المثل» الخالدة يتربع مثال «الخير»، وكل الأشياء تنزع إلى الغاية الخيرة، رغم أن طابعها الحسي يجعلها عاجزة عن بلوغ الخير. ويرى أرسطو أن غاية الحياة البشرية هي سعادة النفس العاقلة، وهذه لا تتأتى إلا عن طريق حياة عقلية نشطة، تزينها الفضيلة التي هي أساس السعادة. وبعد أرسطو، قام الاتجاهان الرئيسيان في الفلسفة اليونانية على فكر أخلاقي بالدرجة الأولى؛ فأبيقور لم يرفض فكرة وجود الآلهة، ولكنه رأى أن وجودها لا يزيد حياة الإنسان خيرا أو شرا؛ لأنها لا تكترث بمشكلات البشر ولا تفرض ثوابا أو عقابا؛ ولذا فعلى الإنسان أن يعمل ليصل حالة من التوازن الكامل عن طريق الحرص والاعتدال، وهذا التوازن هو أرفع اللذات التي يسعى الإنسان بطبيعته الفطرية إليها، وهو الخير الأسمى. أما الرواقية، فقد اهتمت بمسألة الجبر والاختيار والحرية الإنسانية، وحثت أتباعها على العيش وفق قانون أخلاقي صارم من شأنه جعل الفرد في وحدة مع العالم ومع الفاعلية الإلهية المتخللة في الكون. والقانون الأخلاقي عندهم ليس لوائح سلوك تمليها قوة عليا، بل قواعد يمكن اكتشافها بالعكوف على الذات والانصراف عن الأهواء الدنيوية والملذات الحسية.
الباب الثالث
الأشكال الاجتماعية للدين ومستوياته الشمولية
الفصل الأول
من العبادة إلى الدين الشمولي
لقد توصلنا في القسم الأول من دراستنا هذه إلى القول بأن الدين هو: «التعبير الجمعي عن الخبرة الدينية الفردية، وقد تم ترشيدها في قوالب فكرية وطقسية وأدبية ثابتة.» ثم وجدنا في القسم الثاني أن هذا التبدي الجمعي للظاهرة الدينية يتكون من معتقد وطقس وأسطورة، هي عناصره الرئيسية، ومن أخلاق وشرائع، وهي عناصر ثانوية تتصل بالدين في سياقه التاريخي دون أن تكون من صلبه. وقد فصلنا في شرح هذه المكونات بما يكفي حاجة بحثنا وأهدافه. وأما الآن، فسوف ننتقل إلى توضيح وشرح ثلاثة أشكال رئيسية للحياة الدينية في المجتمعات الإنسانية، وهي الأشكال التي تنجم عن مدى انتشار عقيدة دينية ما، وشمولها لعدد قليل أو كثير من الجماعات البشرية.
إن الدين الذي يؤمن به شعب بأكمله، بكل قبائله وعشائره، وفي جميع المناطق التي يقيم عليها هذا الشعب، أو ذلك الدين الذي تؤمن به شعوب متعددة التركيب العرقي ومناطق الانتشار الجغرافي، هو ظاهرة جديدة في تاريخ الدين والحضارة. فالأصل في الدين معتقد بسيط تتركز حوله مجموعة من الطقوس والأساطير الخاصة بجماعة معينة من الناس (عشيرة أو قبيلة، أو شريحة اجتماعية). مثل هذا الشكل المحدود للحياة الدينية يدعى عادة بالعبادة (=
Cult ). ويتطابق مفهوم الدين مع مفهوم العبادة لدى جماعة صغيرة شبه منعزلة؛ فإذا اجتمع لشعب من الشعوب عدد من العبادات المتقاربة، التي يختص كل منها بجماعة من جماعاته، أسمينا شكل الحياة الدينية هنا دينا، وأسمينا الشكل الفرعي عبادة، وسأوضح ذلك بالأمثلة فيما يلي.
كثيرا ما نسمع بمعتقدات وطقوس الخصب، ونقرأ عنها في أي عرض لأساطير وديانات المشرق العربي القديم؛ فوفقا لهذه المعتقدات هناك إله يموت في كل عام مع نهاية الصيف ويهبط إلى العالم الأسفل، ثم يبعث حيا في الربيع جالبا معه الحياة للأرض والخصب للماشية. وحول هذا المعتقد بنيت أساطير متعددة ونشأت طقوس متنوعة. ففي سومر على سبيل المثال، نستطيع تلمس عقيدة الخصب وطقوسها منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، سواء في النصوص المكتوبة أم في أعمال الفن التشكيلي، وهي تتركز حول «دوموزي» الإله الميت الحي وقرينته «إنانا»، غير أن عقيدة دوموزي وإنانا ليست كل ديانة السومريين؛ فنحن نعرف عن وجود مجمع موسع للآلهة يرأسه «آن» كبير الآلهة، ويبرز فيه الثالوث الأقدس «آن» و«إنليل» و«إنكي»، كما نعرف عن العدد الكبير لآلهة المدن المحلية؛ فالإله «شمش» كان يعبد بشكل رئيسي في مدينة «سيبار»، والإله «سن» في مدينة «أور»، والإلهة «إنانا» في مدينة «أوروك»، والإله «إنليل» في مدينة «نيبور» ... إلخ. لهذا السبب فنحن لا نستطيع أن نطلق على معتقد الخصب السومري وما يدور حوله من طقوس اسم ديانة الخصب السومرية، بل الأنسب أن نقول عبادة الخصب السومرية، وهو الاصطلاح المتداول عادة بين الباحثين؛ إذ يطلقون اصطلاح
Fertility Cult
على هذه الشيعة الدينية وأمثالها. أما الدين السومري فيتكون من مجمل العبادات المعروفة في المجتمع السومري بما فيها عبادة الخصب.
ويمكن أن نضرب مثالا آخر، ديانة العرب قبل الإسلام؛ فهنا تواجهنا أيضا عبادات متنوعة ومتعددة بتعدد القبائل العربية. فلدى قريش مثلا كانت تسود عبادة الإلهة «العزى» بشكل رئيسي إلى جانب عبادات أخرى ثانوية، ولدى الأوس والخزرج في يثرب كانت عبادة الإلهة «مناة» هي الأولى، ولدى ثقيف في الطائف كانت ترتفع «اللات» فوق الجميع. نقرأ في كتاب «الأصنام» لابن الكلبي المتوفى عام 204 للهجرة: «ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم للعزى، ثم اللات، ثم مناة. فأما العزى فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش للعزى، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين. وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم هبل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان ...»
1
أي إن القبيلة العربية الواحدة كانت تدين بما تدين به القبائل الأخرى، ولكن مع تأكيد على هذه العبادة في مقابل تأكيد الأخرى على تلك. من هنا، فنحن عندما ندرس الحياة الدينية عند العرب نستخدم مصطلح العبادة لما هو شائع ضمن القبيلة، ونترك مصطلح الدين لما هو مشترك بين الجميع. وإني أطلق على هذا الشكل من الحياة الدينية، الذي يجتمع فيه عدد من العبادات، اسم دين القوم، تمييزا له عن العبادة وعن الدين الشمولي الذي سأتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل.
أما عن علاقة الأفراد بهذين الشكلين للحياة الدينية، فيمكن القول بأن الفرد لا يشعر بانتمائه إلى دين القوم قدر شعوره بالانتماء إلى عبادة معينة تسود ضمن بيئته الاجتماعية المباشرة، ولتكن مدينة أو قرية أو عشيرة، أو شريحة اجتماعية ما من شرائح المجتمع الكبير. فالمزارعون في مملكة بابل، على سبيل المثال، لم يكونوا مهتمين بالإله مردوخ إله الإمبراطورية وخالق الكون قدر اهتمامهم بالإله تموز الذي يرعى دورة الفصول ويكثر الغلال ويجري اللبن في ضروع الأغنام. ولأسباب ليست على هذه الدرجة من الوضوح، كان عرب الطائف يعلون من شأن اللات، ويقيمون شعائرهم التي تدور حول حجر مكعب الشكل يشبه حجر مكة، ولا يهتمون إلا قليلا لكعبة قريش. وكان عرب ثقيف، على حد قول الجاحظ في كتابه «الحيوان»، ينافسون قريشا ببيت مقدس لهم: «وكان لثقيف بيت له سدنته يضاهون بذلك قريشا.»
2
فالعبادة والحالة هذه هي المناخ الديني الذي تنشط ضمنه الحياة الروحية للأفراد، والمؤسسة التي يشعرون بالانتماء المباشر إليها، أما دين القوم فيبقى رابطة عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة دون أن يكون له حضور مباشر ويومي في الحياة الدينية للناس.
وتتميز مؤسسة العبادة بالمرونة والتسامح؛ فإلى جانب الإله الرئيسي الذي اختار الفرد تعظيمه والدخول في عبادته، فإنه يقوم في الوقت نفسه بتبجيل آلهة أخرى والمشاركة أحيانا في طقوسها. وهو عندما يرحل من مكان إلى آخر فإنه يقوم بتقديم الفروض الدينية لآلهة الجماعات التي يحل بينها، وحتى لآلهة الأقوام البعيدة والغريبة عن قومه، مؤمنا بأن كل العبادات تملك من الحقيقة والمشروعية ما لعبادته وعبادات قومه. وكان إنسان الحضارات القديمة حرا في التنقل بين العبادات المختلفة، فيترك عبادة إله ما للالتحاق بعبادة إله آخر، لا يمنعه عن ذلك عرف ديني أو اجتماعي، ولربما بلغ به الأمر ترك دين قومه والالتحاق بعبادة إله قوم أجنبي، كما كان يحدث للجنود الذين يقضون زمنا طويلا في المناطق النائية ثم يعودون ومعهم آلهة الشعوب الأجنبية التي عاشوا بينها. وبهذه الطريقة تم تأسيس العبادات المشرقية في روما والعالم الهيليني اعتبارا من القرن الثاني قبل الميلاد، مثل عبادة «سيبيل» الأناضولية، و«ميترا» الفارسي، و«سيرابيس» المصري.
فالأم الأناضولية الكبرى «سيبيل» قد دخلت روما عام 204ق.م. في احتفال رسمي، عندما ذهب وفد من شيوخ روما وجلب حجرها الأسود من مقر عبادتها الرئيسية في آسيا الصغرى فوضعه في الكابيتول. كما قوبلت الإلهة «إيزيس»، القادمة من مصر مع الفرق الرومانية العائدة، بترحاب بالغ، وأقيمت لها الهياكل في كل مكان. وكان بعض الأباطرة الرومان من المتحمسين لعبادتها كالإمبراطور «كاليغولا». ورغم أن هذه العبادات الأجنبية لم تدخل في صلب دين القوم الروماني، ولم يلحق آلهتها بالبانثيون الرسمي، إلا أنها عاشت بحرية تامة كبقية العبادات الرومانية. كما كان من الإجراءات المعهودة قديما في الحروب، أن يقوم القائد الغالب بتقديم فروض الولاء لآلهة الشعوب المغلوبة في معابدها، وأخبار حملات الملوك الآشوريين مليئة بالإشارات إلى مثل هذه الطقوس ، وكذلك أخبار حملات الإسكندر. نقرأ على سبيل المثال في نص للملك الآشوري شلمنصر الثالث (858-824ق.م.) يصف حملته على مناطق غربي الفرات في سوريا: «ثم غادرت الفرات نحو حلب التي خاف أهلها وخروا عند قدمي، فتلقيت منهم الجزية فضة وذهبا، وقدمت قربانا إلى «هدد» حلب، من حلب توجهت إلى مدن «أرخوليني» ملك حماة ... إلخ.»
3
وقد بقي دين القوم بمثابة رابطة عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة، دون أن تكون له الأولوية على العبادات المحلية، إلى أن شهد تاريخ الدين ظاهرة جديدة كل الجدة هي ظاهرة الديانات الشمولية. والدين الشمولي هو في منشئه عبادة كغيرها من العبادات، ولكن هذه العبادة الجديدة الناشئة لا تقنع بوضعها المحدود ضمن الصورة العامة لدين القوم، وإنما تأخذ بفرض نفسها على بقية العبادات في حركة دائبة طموحة هدفها إحلال نفسها دينا للقوم، والاستيلاء على الحياة الدينية للثقافة التي تنتمي إليها، وإلى تعميم تجربتها الروحية على الثقافات الأخرى، متجاوزة في ذلك كل الحواجز السياسية والإقليمية والجغرافية من أي نوع. وتتسم العبادة التي تسير في الطريق إلى رتبة الديانة الشمولية بما يأتي: (1)
تحمل هذه العبادة طابع التجربة الدينية لشخص بعينه، ويكون العنصر الفاعل فيها شخصية إنسانية فذة، تحاول من خلال حركة ثورية شاملة قلب المفاهيم الدينية لعصرها. (2)
يعتقد مؤسس العبادة، التي تطمح إلى الشمول، بامتلاك الحقيقة المطلقة والنهائية من دون بقية العبادات الداني منها والنائي. (3)
ترفض هذه العبادة، سواء في حياة مؤسسها أم بعده، التعايش مع بقية العبادات؛ لأن من يمتلك الحقيقة وحده لا يساوم عليها. وقد يتخذ هذا الرفض شكل الحرب المعلنة، خصوصا إذا أفلحت العبادة في استمالة حاكم أو ملك أو كيان سياسي يتبناها ويحارب خصومها.
وهكذا فإن العبادة التي وطدت العزم على التحول إلى ديانة شمولية، تجد نفسها مجبرة على السير في أحد طريقين، فإما استيعاب بقية العبادات وفرض نفسها دينا للقوم أولا، وللأقوام الأخرى ثانيا، وإما الانقراض والزوال. وهذا الانقراض إما أن يأتي سريعا، وذلك بضربة قوية ومفاجئة من قبل العبادات الأخرى التي اضطرت إلى الدخول في معركة مصير وبقاء لم تخترها، أو أن يأتي بعد فترة من الزمن، عندما تفقد الديانة الشمولية زخمها التبشيري، ولا تفلح في اكتساب كيان سياسي مقتدر يعمل على حمايتها. لقد بقيت البوذية، مثلا، طائفة من الطوائف الهندوسية، حتى أحلها الإمبراطور أشوكا (273-232ق.م.) ديانة لجميع البلاد. وعندما تراجعت في الهند قيض لها كيان سياسي آخر في الصين عمل على نشرها، وإكمال العمل التبشيري المبكر الذي مارسته هناك منذ وفاة البوذا. كما وجدت المسيحية كيانها السياسي في بيزنطة، التي حولها الإمبراطور قسطنطين (280-338م) إلى الدين الجديد. أما الإسلام، فقد تطابق منذ بداياته الأولى مع كيان سياسي هو دولة الرسول في يثرب، ودولة الخلفاء من بعده.
ولسوف أتوقف فيما يأتي عند ظاهرة الديانات الشمولية؛ لأن معظم الناس في العصر الراهن لا يتعرفون على الظاهرة الدينية من حولهم إلا من خلال ديانة شمولية ما.
الفصل الثاني
نماذج من الأديان الشمولية
إن التفريق الذي صنعته منذ قليل بين دين القوم والدين الشمولي، سوف يساعد قارئ تاريخ الأديان على فهم ظواهر بدت له حتى الآن غامضة وعصية على التفسير. فلماذا تبدو الهندوسية، مثلا، على هذا القدر من التنوع والتعدد في الاتجاهات المذهبية، في الوقت الذي تبدو فيه بوذية الهينايانا، أو بوذية المهايانا، على هذا القدر من الاتساق والتماثل في المعتقد والطقس، وما يتبعهما من مظاهر الحياة الدينية؟ ولماذا نعثر في تاريخ الدين على إيمان يتسم بالتسامح ويقبل التعايش مع غيره، في الوقت الذي يناصب فيه إيمان آخر العداء لكل من غايره وخالفه؟ لماذا غضت السلطة في روما الإمبراطورية طرفها عن كل العبادات القادمة من الشرق من دون المسيحية التي وقع على أتباعها أول اضطهاد رسمي منظم في التاريخ الروماني؟ لماذا دمر البابليون، ومن بعدهم الرومان، هيكل أورشليم من دون بقية هياكل العبادات الفلسطينية أو السورية؟
إن الجواب على مثل هذه التساؤلات يكمن في التمييز بين دين القوم، الذي يتألف من عبادات متعايشة رغم التنوع والاختلاف، وبين الدين الشمولي الذي عمل منذ البداية على تنميط الحياة الدينية في المجتمع الذي استولى على إيمانه، ثم وطد العزم على تحويل كل إيمان آخر لكي يصب في تياره. ورغم أن الأديان الشمولية لا تبدي تماثلا تاما بينها، من حيث طريقة النشأة، وأسلوب الانتشار، والمسار الثابت الذي تتخذه بعد نجاحها، إلا أن دراسة بعض نماذجها التاريخية تفيدنا في التعرف على هذا الشكل من الحياة الدينية، سواء في تاريخ الدين أم في الصورة الحالية لأديان العالم القائمة اليوم.
ولسوف أتناول فيما يأتي ثلاث محاولات في تاريخ الفكر الديني الشمولي، اثنتان منهما عاجلهما الموت السريع، وواحدة عاشت بضعة قرون ثم عفا عليها الزمن. (1) أخناتون والآتونية
أول ديانة شمولية معروفة لنا وموثقة تاريخيا هي الآتونية، ديانة الفرعون أمنحوتب الرابع، الذي حكم مصر فيما بين 1369 و1353ق.م. وقد عاشت هذه الديانة عمرا قصيرا لم يتجاوز الفترة التي قضاها مؤسسها على عرش مصر، ثم آلت بعد ذلك إلى النسيان الكامل، حتى عرفنا عنها في العصر الحديث مع ما عرفنا عن تاريخ وحضارة مصر القديمة.
1
ولي أمنحوتب الرابع عرش مصر وهو حدث لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. ويبدو أن الفرعون الفتى قد مر بتجربة روحية خاصة قبل بلوغه سن السادسة عشرة، قادته إلى إيمان جديد يتعارض ودين القوم السائد في مصر. فقد بدأ بالإعلام عن معتقده منذ السنة السادسة لحكمه، وبنى أول معبد لإلهه آتون في العاصمة طيبة. وتظهر بقايا الكتابات التي وجدت على أحجار هذا المعبد، الذي هدمه الخصوم حتى أساساته، بعض أسماء الآلهة المصرية التقليدية، كما أنها تشير إلى الفرعون باسمه الرسمي كأمنحوتب الرابع، لا بالاسم أخناتون الذي اختاره لنفسه فيما بعد، ولا باللقب الذي لازمه بعد ذلك، وهو «الذي يعيش في الحقيقة». وهذا يعني أن الآتونية لم تكن في هذا الوقت المبكر من تأسيسها سوى عبادة تقوم إلى جانب العبادات التقليدية الأخرى في دين القوم المصري. وأغلب الظن أن هذه العبادة كانت ستعيش مدة طويلة لو أن الفرعون قد وقف عند هذا الحد في الدعوة لمعتقده والتبشير به، إلا أن الداعية الفتى قد دخل، وقبل الأوان على ما يبدو، في صراع حياة أو موت مع كل التقاليد المتجذرة في تاريخ الدين المصري.
بعد اكتمال معبد طيبة بوقت قصير، غير الفرعون اسم المدينة من طيبة إلى ألق آتون، وأتبع ذلك بإعلان إلهه آتون إلها أوحد لمصر بكاملها، كما غير اسمه إلى أخن آتون؛ أي فرح آتون، ثم قام بعدد من الإجراءات الجذرية الهادفة إلى محو ذكرى العبادات القديمة من النفوس، فأغلق معابد الإله الأعلى آمون رع، وسرح كهنته من الخدمة، كما أغلق معابد بقية الآلهة، وحطم تماثيلها، ومحا أسماءها وصورها أنى وجدت. وبلغ به الحماس حدا دفعه إلى فتح مقبرة أبيه أمنحوتب الثالث، حيث محا اسم الإله آمون رع من هناك، وأزال صوره، وغير اسم أبيه في منقوشات القبر. ولكن تآمر الكهنة عليه، وهذا ما نعرفه من رسالة بخط يده، قد دفعه إلى التفكير بترك مدينة طيبة وبناء عاصمة جديدة له، ثم اندفع إلى تنفيذ فكرته، واكتمل بناء العاصمة في مدة قصيرة، فأطلق عليها اسم أخت آتون؛ أي أفق آتون (اكتشفت المدينة في موقع تل العمارنة). وقد ترافق بناء هذه العاصمة مع حملة تبشيرية داخل مصر وخارجها؛ لأننا نعرف من وثائق تل العمارنة أن مدينتين أخريين مكرستين للإله آتون، قد تم بناؤهما في الوقت نفسه تقريبا؛ واحدة في سوريا لا نعرف مكانها على وجه التحديد، والأخرى في النوبة قرب شلال النيل الثالث.
رغم قلة المصادر المباشرة التي سلمت من حملت التدمير الشاملة، التي شنها خصوم الفرعون على كل ما له صلة بدين أخناتون من أبنية وصور ومنحوتات وكتابات، فإن هذه المصادر كافية لتكوين صورة واضحة عن حياة الفرعون الثائر ومعتقداته. فمن الوثائق الكتابية لدينا عدد لا بأس به من نصوص، إضافة إلى ترتيلتين تعتبران من عيون الأدب الديني للشرق القديم، خطهما قلم الفرعون نفسه (وقد قدمنا ترجمة كاملة لإحداهما سابقا). أما الشواهد الفنية من تلك الفترة فمتوفرة نسبيا؛ فآثار العاصمة أخت آتون تعطي فكرة واضحة عن النمط المعماري للمعابد والقصور والبيوت العادية ، وعن تنظيم المدينة بشكل عام، إضافة إلى عدد لا بأس به من المنحوتات والرسوم، وهي تشكل مدرسة متميزة في تاريخ الفن.
يقوم معتقد أخناتون على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء، وهو طاقة صافية لا تتخذ شكلا ما، ولكنها تتبدى في عالم الظواهر بقرص الشمس الذي يعطي الحياة والحركة للجميع. من هنا، فإن الشعوب والأمم جميعا تتساوى أمام آتون. يقول أخناتون في إحدى ترتيلتيه: «في جميع الأصقاع، في سوريا والحبشة وأرض مصر، أعطيت لكل مكانه.» وهذه أول مرة تذكر فيها البلدان الأجنبية قبل مصر في النصوص الفرعونية؛ الأمر الذي يشير إلى غياب الأفكار التعصبية للأمة من معتقد أخناتون، والدعوة صراحة إلى أخوة البشر، وذلك لأول مرة في التاريخ. ولقد وضع الفرعون الشاب أفكاره الإنسانية هذه موضع التطبيق العملي، عندما رفض التدخل لصالح الحكام الموالين لمصر في بلاد الشام في صراعهم مع الدويلات الأخرى المناهضة للنفوذ المصري، مفضلا خسران الإمبراطورية التي بناها أسلافه على الدخول في حرب ظالمة. والعلاقة بين آتون ومخلوقاته تقوم على الحب المتبادل، وكل المخلوقات الحية تكن الحب للأب الواحد الذي أظهرها إلى الوجود ويسر لها رزقها: «كل قلب يخفق لمرآك؛ لأنك ترتفع سيدا للجميع، كل أيدي البشر ترتفع لتسبح ظهورك.» وأيضا: «عندما تشرق عليهم يحيون ... وترتفع أبصارهم إليك.» وهذا يسري على كل الشعوب وفي كل مكان من أقطار المسكونة: «أنت آتون النهار، مبجل في كل قطر بعيد.» ويشترك في محبة آتون كل أشكال الحياة على الأرض، وكل يسبح بحمده على طريقته الخاصة: «كل مخلوق صنعته يثت إليك.» وأيضا: «كل الحيوانات تثب على قوائمها، وكل ذوات الريش تنهض من أعشاشها وتصفق أجنحتها بفرح، وتدور تسبح بحمد آتون.» ويشترك في هذا الحب والتسبيح عالم النبات أيضا: «البراعم تتفتح أزهارا، والنباتات الطالعة في الأراضي القاحلة تطلع وريقاتها لمرآك.» وبذلك توحد الآتونية بين جميع أشكال الحياة على الأرض، وتوحد بينها وبين خالقها بالحب.
إن مثل هذا المعتقد الذي يقوم على وحدة الخالق وأبوته للكون، وعلى المحبة التي تجمع بينه وبين المخلوقات، وما يستتبع ذلك من إحساس بأخوة البشر وصلتهم الحميمة ببقية أشكال الحياة على الأرض، لا يمكن له أن يبقى في إطار العبادة الإقليمية الضيقة، بل لا بد من التبشير به في كل مكان، لكي يبقى صاحبه في انسجام مع طروحاته العالمية. ولقد بدأ الفرعون بالفعل حملة تبشيرية واسعة النطاق كما أشرنا منذ قليل، إلا أن نشاطه التبشيري لم يكتب له النجاح رغم السعي المحموم الذي اتخذ شكل الهوس في بداية عهده. فخارج الأراضي المصرية، لا نعلم شيئا عن انتشار الأفكار الآتونية ضمن الأراضي الواقعة تحت النفوذ المصري، أما في الأراضي المصرية، فيبدو أن الأمر لم يكن بأحسن حالا، ولدينا عدد من الشواهد الدالة على تعثر التبشير بالدين الآتوني، وعدم فاعليته على جميع المستويات. ففي البيوت المريحة التي ابتناها أخناتون لعمال بناء العاصمة الجديدة، كشفت التنقيبات عن وجود صور الآلهة التقليدية مرسومة على الجدران؛ الأمر الذي يدل على أن بناة المدينة المقدسة، ومعظم أهلها فيما بعد، لم يهتدوا إلى دين الفرعون. ولم يكن إيمان النخبة التي قربها أخناتون إليه ورفعها إلى أعلى المناصب بأفضل من إيمان العامة؛ ففي نصوص القبور الخاصة بهؤلاء، هناك ثناء عميم على ولي نعمتهم لما أسبغه عليهم في كل مجال، ولكن دون ذكر خاص للآتونية، أو عبارات تشير إلى إيمانهم الديني، كما هو معتاد في نصوص القبور المصرية. ونستطيع أن نلمح الآثار النفسية العميقة لهذا الإخفاق في الصور التي تمثله، وقد أقبل على سن الثلاثين وهو في هيئة مكدودة متعبة، عليه سيماء من أحبط كل مسعى له في الحياة، بعد أن رأيناه في صوره الأولى، التي تمثله مع عائلته إبان السنوات الأولى لانتقاله إلى العاصمة الجديدة، وكله تفاؤل وأمل بالحياة وبالمستقبل.
لم يغفر العسكريون والأمراء للفرعون قط ضياع أراضي الإمبراطورية في الخارج، ويبدو أن هؤلاء قد تحالفوا مع الكهنة، وأخذوا يدبرون خطة لإقصاء أخناتون والقضاء على دينه، الذي كان سببا لضياع هيبة مصر وتآلب أعدائها عليها في مناطق النفوذ القديمة. وقد أفلح المتحالفون أخيرا في إحكام الطوق على أخناتون، الذي أخذ يشعر بالعزلة بعد تفرق الأتباع والمؤيدين تدريجيا؛ فعامة الناس لم تكن مهيأة لمثل هذا الانقلاب المفاجئ على دين تضرب جذوره عميقا في التاريخ المصري، أما خاصة القوم من المقربين إلى البلاط، فلم يتحولوا إلى الدين الجديد إلا طلبا للمكاسب أو حفاظا عليها، ولم يكونوا على استعداد حقيقي للتضحية من أجل الفرعون. وقد انتهى النزاع سلميا بموافقة أخناتون على التنازل عن صلاحياته السياسية لزوج ابنته الكبرى، ثم اعتكف في بيته الصيفي حيث وافته المنية سريعا، ولم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره. وبعد وفاته مباشرة، شن الخصوم حملة واسعة على كل آثار الآتونية، فدمرت العاصمة في تل العمارنة حتى أساساتها، وتم محو اسم أخناتون عن كل جدار وعمود في طول البلاد وعرضها، كما محي اسمه عن تابوته وعن الصفيحة الذهبية التي تحيط بجسده المحنط، لكي تظل روحه هائمة محرومة من الراحة الأبدية. ولكن جثمانه، فيما عدا ذلك، قد عومل بطريقة لائقة، فنقل من مقبرته في العاصمة المهدمة، وأعيد دفنه في مقابر الملوك بمدينة طيبة، حيث تم العثور عليه سليما ومحنطا وفق الأصول دون أن يتعرض لانتقام أو أذى. وهذا يدل على أن الكهنة ومن عاضدهم قد أظهروا عدالة في الانتقام، فلم يلجئوا إلى العنف أو التصفيات الجسدية لأتباع الفرعون الذي لم يعرف العنف قط في حياته.
يعلمنا إخفاق الآتونية درسين هامين بخصوص الديانة الشمولية؛ أولهما أن الإيمان لا يفرض من أعلى وبقرار سياسي، بل ينبع من الأسفل عبر القاعدة الشعبية الواسعة، وثانيهما أن الإيمان الشمولي الذي لا يفلح بعد فترة وجيزة من اكتساب هذه القاعدة الشعبية، سوف يتعرض للهجوم المعاكس السريع والحاسم من قبل الخصوم الذين تم خلقهم وتغذية روح العداء لديهم.
بعد ألف وخمسمائة سنة تقريبا من وفاة أخناتون، يسجل لنا التاريخ محاولة أخرى لرفع إله شمسي إلها أوحد للكون، وظهور عبادة محلية حاولت شق طريقها لتكون دينا شموليا للعالم المتحضر، وبالاستناد إلى أقوى سلطان زمني في عصرها، وهو سلطان روما القيصرية. (2) إيلاجابال: الشمس التي لا تقهر
في نهاية القرن الثاني الميلادي، صعد عرش القياصرة في روما ضابط من شمال أفريقيا الفينيقية اسمه سبتيموس سيفيروس، ومعه زوجته السورية جوليا دومنة، التي اقترن بها عندما كان قائدا لفرقة عسكرية ترابط قرب مدينة حمص في سوريا الوسطى، وقد عرفت الأسرة الحاكمة التي أسسها سيفيروس بالأسرة السورية. قد أنجبت هذه الأسرة بعد مؤسسها ثلاثة من الأباطرة، بينهم باسيان الفتى صاحب المحاولة الجريئة الثانية لنشر ديانة شمسية شمولية، والذي طابق الرومان بينه وبين إلهه فدعوه «إيلاجابال».
2
كانت جوليا دومنة ابنة الكاهن الأعلى لمعبد الشمس في مدينة حمص، وهو سليل أسرة عريقة من الملوك الكهنة الذين حكموا المدينة قبل الفتح الروماني، وتسلموا بالوراثة كهانة ديانة شمسية تؤمن بإله أوحد يدعى «إيلاجابال»، عبده أهل حمص منذ أن بدأت أخبار هذه المدينة تظهر في التاريخ مع نهايات الألف الأول قبل الميلاد. ويبدو أن هذا الإله كان في الوقت نفسه محل تقديس الكثيرين من خارج المدينة؛ لأن معبده كان مهوى أفئدة الحجاج من كل حدب وصوب، يؤمونه لتقديم فروض الاحترام للحجر الأسود الشهير الذي كان رمز الإله الوحيد؛ إذ لم يعرف عن هذا الإله ظهوره في منحوتة أو رسم من أي نوع. بعد المناداة بزوجها سيفيروس إمبراطورا، رحلت جوليا دومنة إلى روما ومعها ثلة من أقربائها، وعلى رأسهم أختها الكبرى «جوليا ميساء»، التي زوجت ابنتيها «سهيمة» و«ممايا» إلى ضابطين سوريين، فأنجبت الأولى «باسيان» والثانية «الكسيان». وسيتتابع هذان على عرش القيصرية بعد وفاة «كركلا»، ابن جوليا دومنة من سيفيروس. ويدعو المؤرخ الشهير جيبيون هؤلاء النسوة بالأميرات السوريات.
عاشت الأميرات السوريات في فترة تميزت بنشاط ديني كبير في الإمبراطورية الرومانية، وبتلاقح وحوار الأفكار الدينية ذات الأصول المتباعدة والمتغايرة، وقد كن نشيطات في الشئون السياسية والدينية على كل صعيد، ويدغدغ خيالهن حلم كبير بالقضاء على الفروق الدينية في الإمبراطورية، وذلك بالسعي لكي يعتنق الجميع نوعا من التوحيد مؤسسا على عقيدة الشمس الحمصية وإلهها الأوحد. ولعلنا واجدون في سيرة الإمبراطورة دومنة أفضل مصدر عن الملامح العامة لعقيدة الشمس هذه ؛ إذ لا نكاد نرصد عملا من أعمال هذه السيدة أو موقفا من مواقفها لا يعكس معتقدها الديني ذا الطابع الإنساني الشمولي. لقد استخدمت دومنة مرضعة ومربية لابنها كركلا من الجماعات المسيحية التي كانت منبوذة من قبل المجتمع الروماني، وأتبعت ذلك باستخدام عدد متزايد من هؤلاء المسيحيين رغم اعتراضات الكثيرين من حولها. ويقول مؤرخ معاصر لدومنة عن سبب عداء المجتمع الروماني للمسيحيين في ذلك الوقت (ومن دون بقية العبادات الشرقية، التي كان العالم الروماني يزخر بها): إن المسيحيين كانوا يجاهرون بعدائهم وازدرائهم لكل العبادات السائدة، الرومانية منها والوافدة، وقد وجدت منهم دومنة كل تعصب وتحجر في المعتقد؛ الأمر الذي صرفها عن المسيحية بعد أن أنفقت وقتا في دراسة أفكارها وتعاليمها.
غير أن الكتاب الذي ألفه «فلافيوس فيلوسترات» بالتعاون مع جوليا دومنة وبإلهامها، يقدم خير دليل لنا على معتقداتها وعلى معتقد إله الشمس الحمصي من ورائها. ففي الكتاب الذي أسماه مؤلفه «حياة الحكيم أبولونيوس»، والذي ظهر بعد وفاة دومنة بوقت قصير، تشيع أفكار عن عالمية الدين وشموليته، وعن احترام جميع الأديان دون تمييز، كما تشيع فيه أفكار ومواقف مستمدة من الأناجيل، التي كانت معروفة ومنتشرة في ذلك الوقت، رغم تجنبه الإشارة إلى المسيحية وإلى الدين المسيحي، وقد ذكر المؤلف في مقدمته أن الكتاب قد أنجز بالتشاور مع دومنة، وأنه قد حاز على رضاها التام في صيغته الأخيرة قبل وفاتها.
ولقد عرف عن بقية أفراد الأسرة السورية اعتناق أفكار دينية عالمية، واتخاذ مواقف تقوم على معتقد يؤمن بوحدة الأديان، ولكن من دون الإشارة مباشرة إلى العبادة الشمسية في حمص. أما الإعلان الصريح عن عقيدة الأسرة السورية والتبشير بها دينا للإمبراطورية الرومانية، فقد جاء فور اعتلاء الفتى باسيان كاهنا أعلى لعبادة الشمس في حمص. وقد انتقل إليه المنصب بالوراثة، فتسلم مهام أعلى منصب روحي، ربما في بلاد الشام طرا، وهو ابن اثنتي عشرة سنة فقط. ويبدو من مسار الأحداث اللاحقة، أن باسيان لم يقبل منصب الإمبراطور إلا لكي يكون في وضع أفضل للتبشير بعقيدة الشمس الحمصية وإلهها «إيلاجابال»، الذي شاء مؤرخو ذلك العصر إطلاق اسمه على القيصر السوري، فصار اسمه إيلاجابال في السجلات الرومانية.
في المعركة الفاصلة التي جرت قرب أنطاكيا، بين القوات التي حشدتها جوليا ميساء لدعم حفيدها المطالب بالعرش وقوات المتآمرين من قتلة كركلا، مالت الكفة لصالح المتآمرين، وبينما كانت ميساء وابنتها سهيمة تشجعان الجنود المتراجعين وتحثانهم على الصمود، استل باسيان سيفه وانطلق بحصانه إلى الأمام ليقود بنفسه الهجوم؛ الأمر الذي حسم المعركة لصالحه، ودخل أنطاكيا حيث نودي به إمبراطورا وهو في سن الرابعة عشرة فقط. وقد عكس أول أمر إمبراطوري أصدره صورة عن مسيرة حكمه المقبل القائم على مبادئ روحية سامية؛ فلقد منع الجنود من نهب أنطاكيا المدينة التي وقفت إلى جانب المتآمرين، ونهاهم عن القتل والانتقام، وتعويضا لهم عن ذلك قام بدفع مبلغ من المال ساهمت المدينة المغلوبة بتسديد قسم كبير منه. وقد أظهر بعد ذلك بوضوح أن الشجاعة التي أبداها في معركة أنطاكيا، لم تكن من قبيل حب الحروب والرغبة في تخليد الانتصارات والأمجاد الشخصية، وإنما وقوفا إلى جانب الحق؛ فعندما جاءه من أراد إقامة نصب يكرمه وينقش عليه نعوت الإمبراطور وألقابه الحربية، على سنة السابقين له، نهاه عن ذلك قائلا: لا أحتاج إلى أن أذكر بألقاب الحرب وسفك الدماء، يكفي أن تكتبوا بأني رجل يتقي الله.
تريث إيلاجابال في مغادرة سوريا انتظارا لاستتباب الأمور تماما في روما، وكان مجلس الشيوخ الذي صادق على قرار القطعات العسكرية بتنصيبه إمبراطورا يحثه على القدوم إلى العاصمة. وقبل أن يشد الرحال لاستلام مقاليد أعلى سلطة زمنية في العالم، أرسل صورة له إلى مجلس الشيوخ تمثله في الأردية الكهنوتية الحمصية، طالبا وضعها على كرسي القيصر الفارغ إلى حين وصوله؛ وبذلك كشف للمسئولين ولعامة الشعب هناك عن هوية الحاكم الجديد، ولفت انتباههم إلى أنهم في انتظار قدوم مبشر ديني وصاحب رسالة روحية لا قيصر روماني. وعندما دخل روما بعد ذلك بوقت قصير عام 192 ميلادية، أكد مجددا، ومن خلال عرض عملي، رسالته المتضمنة في صورته إلى مجلس الشيوخ، فاخترق في موكب شرقي شوارع المدينة، عليه رداء أرجواني مذهب، تحته بنطال شرقي طويل، وعلى رأسه إكليل نفيس. فإذا تخيلنا مثل هذه البهارج الكهنوتية يضعها غلام في الرابعة عشرة من عمره، عرفنا لماذا شبهه الناس حينها بالإله ديونيسيوس.
بعد استقراره في العاصمة، ترك إيلاجابال شئون الحكم والسياسة إلى جدته ميساء تصرفها كما تشاء، وتفرغ لخدمة إلهه والتبشير بديانته؛ فاستقدم الحجر الأسود من هيكل حمص وبنى له معبدين، واحدا في المدينة وآخر خارجها أمام الأسوار، على غرار المعبدين اللذين لإيلاجابال في حمص؛ فواحد لإقامته في الشتاء، وآخر له في الصيف. وكان عامة روما يرون القيصر وهو على رأس موكب ديني مهيب، مثبتا نظره على الحجر المقدس الذي تنقله عربة مذهبة تجرها جياد ستة، يرافق إلهه بين هذين المعبدين في الأوقات المعلومة. أما طقوس المعبد فكانت تجري بحضور أعضاء مجلس الشيوخ بناء على رغبة القيصر، وكان يقود الطقوس شخصيا، راقصا حول المحاريب على ألحان تنشدها جوقات مؤلفة من عذارى سوريات، وصوت الطبول والصنوج يسمع القاصي والداني. كان يريد هداية الناس إلى إلهه، ويرى أن أفضل ما يبدأ به هو عرض طقوس الديانة أمامهم. غير أن جهود القيصر الكاهن لم تتوقف عند عرض الطقوس الشرقية الغريبة على الطبع الروماني (فالعاصمة روما وغيرها من الحواضر الرومانية كانت تمتلئ بالشيع الشرقية وتشهد طقوسا أكثر غرابة)، بل كان همه يتجه بشكل أساسي إلى نشر ديانة الشمس الحمصية وإحلالها دينا عالميا لزمانه. وخلال ثلاث سنوات حافلة فيما بين 220-222 ميلادية، بذل القيصر السوري كل جهد تبشيري ممكن، إلا أن سعيه قد آل إلى الإخفاق على كل صعيد، وتخلى عنه في النهاية كل معين حتى جدته ميساء، التي نصحته بالاعتزال والتنازل عن صلاحياته تدريجيا لابن خالته الكسيان بن جوليا ممايا، وكانت الحاميات الرومانية ومجلس الشيوخ وعامة الناس قد بدأت تميل بالفعل إلى الكسيان. وفي إحدى الليالي من آذار عام 222، وبعد أن تخلى عن إيلاجابال آخر أتباعه، هاجمه الجنود وقتلوه مع أمه في عقر داره، ثم جرت الجثتان وألقيتا في نهر التيبر، ونودي بإلكسيان آخر أفراد الأسرة السورية قيصرا تحت اسم أليكسندر سيفير.
وفي الحقيقة، فإن ديانة الشمس السورية لم تكن مجهزة لأن تلعب دور ديانة شمولية، تلم أطراف الإمبراطورية الرومانية حول معتقد ديني واحد، وذلك لعدد من الأسباب؛ فقد كان القرن الثالث الميلادي عصرا يموج بالأفكار والديانات والفلسفات التي تتنازع قلوب وعقول شعوب متعلمة تثق بالكتب وتداولها، فكان كل نظام ديني وفلسفي يعبر عن نفسه بالتدوين، ويلجأ من أجل تثبيت مواقعه إلى التعبير عن تعاليمه ومعتقداته في صيغة تروق لذهنية ذلك العصر ونفسيته. ففي ذلك الوقت اكتملت الأناجيل المسيحية، وتم تداولها على نطاق واسع، وقامت الفرق الغنوصية المختلفة بتدوين أدبياتها الغزيرة وجمع شتاتها، ولنا في المكتبة الغنوصية التي اكتشفت بموقع نجع حمادي بمصر خير مثال على هذا المجهود التحريري الغنوصي. وفي الإسكندرية نشطت الهرمسية التي تنتسب إلى هرمس المثلث الحكمة، فجمعت الرسائل المنسوبة إلى هرمس مسبغة عليها طابع القدسية والوحي الإلهي. وإلى جانب هذه الاتجاهات الدينية، قامت الفلسفة بدورها التبشيري على أكمل وجه، ممثلة بالأفلاطونية المحدثة التي كانت تمارس نشاطا كبيرا في بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا، وتنشر تعاليمها بواسطة كتبها الرائجة وفلاسفتها السوريين خاصة، من أمثال لونجين وفورفويوس وكالينيكوس، الذين كانوا يرتحلون من مكان إلى آخر في سبيل دعوتهم الفلسفية.
3
يضاف إلى ذلك كله حركة إحياء التراث الروماني، التي قامت ردا على الأفكار الشرقية التي كانت تضغط دونما هوادة نحو مركز الإمبراطورية في روما.
في هذه الحقبة التي تعتبر من أغنى أحقاب التاريخ الفكري والديني، بدت ديانة الشمس الحمصية وكأنها مذهب يمت إلى الماضي أكثر مما يمت إلى المستقبل؛ لأنها لم تستطع مخاطبة ذلك العصر باللغة التي يفهمها، فماتت في المهد كعبادة لم تفلح في تحصيل مرتبة الدين الشمولي. ولكن، وقبل نهاية حكم الأسرة السورية في روما، بزغ في بابل نجم عبقري شرقي، قيض لأفكاره الدينية أن تلعب دورا كبيرا في العالم ولعدة قرون قادمة، فيما بين الصين والحدود الغربية للإمبراطورية. إنه «ماني» نبي المانوية ، الذي أعلن وهو في سن الرابعة والعشرين: «إني أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل.»
ماني والمانوية
ولد ماني لأسرة إيرانية قرب مدينة «طيسفون» العاصمة الفارسية في منطقة بابل ببلاد الرافدين عام 216 ميلادي، وتربى على ملة أبيه، وهي طائفة غنوصية تدعى بالمغتسلة نسبة لطقوس الاغتسال بالماء التي كانت تمارسها. وقد جاءه وحي من السماء (على ما رواه في كتبه) ينقل إليه تعاليم دينه وهو في سن الثانية عشرة من عمره، ثم عاوده وهو في الرابعة والعشرين، وأمره هذه المرة بنشر دعوته.
4
وعلى رواية «ابن النديم» المؤلف العربي في كتابه المعروف «الفهرست»، فإن ملاكا هبط من السماء وبلغه الرسالة: «فلما تم له اثنتا عشرة سنة أتاه الوحي، على قوله، من ملك جنان النور، وهو الله تعالى عما يقوله، وكان الملاك الذي جاءه بالوحي يسمى التوم، وهو بالنبطية،
5
ومعناه القرين، فقال له: اعتزل هذه الملة؛ فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات، ولم يئن لك أن تظهر لحداثة سنك. فلما تم له أربع وعشرون سنة أتاه التوم فقال له: عليك السلام يا ماني مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو وتبشر ببشرى الحق، وتحتمل في ذلك كل جهدك.»
6
وقد طور ماني إلهاماته التي تلقاها من الوحي السماوي، في عدد من الكتب التي بقيت لدينا نتف منها بنصوصها الأصلية، أو في اقتباسات المؤلفين المسلمين بشكل خاص، كما تم العثور على عدد لا بأس به من الأدبيات المانوية باللغة السريانية، وهي لغة ماني الأساسية، وباللغة القبطية المصرية. اعترف ماني بقيمة الديانات السابقة عليه، ولكنه اعتبرها مؤقتة وغير كاملة؛ ولذلك أعطى لنفسه لقب «خاتم الأنبياء»، وكان مشروعه الكبير يقوم على صياغة ديانة شمولية تحتوي على الأفكار الدينية القديمة، وتتجاوزها في تركيب جديد قادر على اكتساب الجميع إلى عقيدة موحدة. فلقد تأثر بشكل رئيسي بالأفكار الثنوية الإيرانية، ولكنه أخذ العديد من الأفكار المهمة عن المسيحية والمثروية والهندوسية والرافدية القديمة، إضافة إلى خلفيته الشخصية الغنوصية، فجاءت ديانته بحق مذهبا توفيقيا من الطراز الأول، يهدف في ذلك العصر القلق إلى توحيد العالم بكامله تحت راية دينية واحدة. ويصف ماني بنفسه ذلك الطابع العالمي لتعاليمه فيقول: «كما أن نهرا يرفد آخر لتكوين تيار دافق، كذلك صبت الكتب القديمة في كتاباتي فشكلت حكمة كبرى لا مثيل لها في الأجيال السابقة.» ورغم أن هذه المحاولة الطموحة تذكرنا بمحاولة القيصر السوري الفتى، والتي سبقتها بعقدين من الزمان فقط، إلا أن الفرق شاسع بين هاتين المحاولتين، سواء من حيث البدايات أو المصائر التاريخية. ويأتي الفرق من التباين الجذري بين الداعيتين، فبينما بقي إيلاجابال أسير عبادة محلية لم تستطع تطوير نفسها بما يتناسب وطبيعة العصر؛ فإن ماني قد استوعب في سن مبكرة كل ثقافة عصره، وخاطبه بأدواته، مطورا نظاما دينيا قادرا على مقارعة الأنظمة الدينية والفلسفية المتنافسة على الساحة العالمية.
اتخذ ماني الثنوية الإيرانية منطلقا له، وهذه الثنوية تنتمي إلى زرادشت الذي عاش وبشر بديانته زمنا ما، فيما بين عامي 550-650ق.م. أي خلال الفترة التي شهدت ظهور الفلسفة الإغريقية في الغرب، والبوذا ولاوتسي وكونفوشيوس في الشرق. وللزرادشتية تاريخ طويل تغير عبره معتقدها تغيرا كبيرا؛ فتعاليم زرادشت الأصلية التي نجدها في الكتاب الوحيد المعزو إليه، وهو ال
Gathas
أي الأناشيد، هي تعاليم توحيدية مستقيمة، وزرادشت يعتبر نفسه نبيا تلقى الوحي عن الإله الواحد الخالق المدعو «أهورا مزدا».
وقد جاءت الثنوية في تفكير زرادشت من توكيده على صفة الخير المطلق في شخصية الخالق؛ فإذا كان الله هو الخير، فلا بد من تقديم تفسير لوجود الشر في العالم، والتفسير الذي اقترحه زرادشت يقول بنشوء روحين متعارضتين عن الإله الأزلي الحق خالق السماء والأرض؛ فروح خيرة اختارت الخير منذ البداية وهي «سبينتا ماينيو»، وأخرى شريرة اختارت الشر منذ البداية أيضا وهي «أنجرا ماينيو»، الذي سيدعى «أهريمان» فيما بعد. وهذا الخيار البدئي هو النموذج الذي ستحتذيه خيارات البشر اللاحقة فيما بين الطريقين، وبدافع أخلاقي حر تمام الحرية. إلا أن هذه الثنوية التوحيدية قد خضعت فيما بعد إلى تحوير أساسي، فصار أهورا مزدا إله زرادشت طرفا في الصراع أمام ممثل الشر أنجرا ماينيو، وتراكمت أدبيات ميثولوجية وطقسية كثيرة حول المعتقد الزرادشتي الأصلي.
7
ولكن المانوية ترفض اعتبار الخير والشر قوتين متكافئتين، كما ترفض اعتبار ممثل الشر إلها يقف على قدم المساواة مع الله، وهذه نقطة الخلاف الجذرية والأساسية بين ماني والزرادشتية المتأخرة. يقول ماني بوجود مبدأين رئيسين؛ الأول هو الله، والثاني هو المادة؛ فمن الله يأتي كل خير، ومن المادة يأتي كل شر. وقد أنجبت المادة الشيطان أهريمان، وهذا الشيطان ليس إلها رغم سلطته على النصف المظلم من الكون، وهو يخسر حربه مع الله، كما بينت الأسطورة المانوية التي أوردناها آنفا، ويجري إلقاؤه في القيود وكف أذاه نهائيا في آخر الزمان. أما عن مكان الإنسان في هذا العالم، فإن شرطه المادي يجلب له الألم في الحياة، وهو لا يستطيع تخليص نفسه والالتحاق بالعالم النوراني إلا بالمعرفة التي تكشف له حقيقته وحقيقة العالم وتخلصه من آثار الظلمة. ولمساعدة المؤمنين على اجتياز درب خلاصهم، فقد قدم لهم ماني تصورا للعالم وللإنسان ولجميع الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية، فيما يمكن تسميته بنظام معرفي شامل. وقد كان هذا النظام المعرفي هو ما جذب شخصية متميزة مثل القديس أوغسطين الذي اعتنق المانوية قبل تحوله إلى المسيحية، وقال في كتابه «الاعترافات» إن ما جذبه إلى المانونية لأول وهلة هو إيحاؤها بالقدرة على تفسير كل ظاهرة من ظواهر الدنيا.
لم يبدأ نشاط ماني التبشيري في بابل كما هو متوقع، بل في الهند، حيث مكث فترة ثم عاد إلى طيسفون، ومن هناك بدأ بإرسال حوارييه شرقا وغربا تحت حماية الملك الفارسي «شابور»، الذي سمح له بنشر تعاليمه بحرية في كل مكان من الإمبراطورية الفارسية، وبعث إلى الولاة والحكام لتيسير أمر الدعاة الذين انتشروا من آسيا الوسطى إلى مصر. كما تولى ماني بنفسه القيام برحلات تبشيرية عديدة، مؤسسا جماعات جديدة من الأتباع أنى رحل، تاركا بين أيديهم نسخا من الكتب العديدة التي وضعها بنفسه، والتي كان يتباهى بتأليفها قائلا: إنه يضع أناجيله بنفسه على عكس سابقيه من أمثال عيسى وبوذا وزرادشت، الذين دونت أناجيلهم بعد وفاتهم وبيد خلفائهم. ولقد ساعدت هذه الظروف المواتية، وامتداد العمر بماني الذي عاش حتى سن الستين، على ترسيخ الدعوة المانوية في أرجاء الإمبراطورية الفارسية وفي خارجها، كما أن وفاته لم تؤثر على استمرار النشاط التبشيري؛ فنحو الغرب وصلت المانوية إلى فلسطين، ثم انتشرت على نطاق واسع في مصر، ومن مصر انتشرت إلى أفريقيا وإسبانيا، كما عبرت المانوية من سوريا إلى اليونان وإيطاليا حيث كانت تصطدم بالجماعات المسيحية وبالسلطات الرومانية التي كانت ترى فيها دسيسة فارسية. أما نحو الشرق فقد وصل التبشير المانوي إلى بلاط الإمبراطور الصيني على طول طريق الحرير الذي توضعت عليه جماعات مانوية قوية التأثير. وعن المانوية في بلاد العرب يروي الجغرافي ابن رسته خبرا عن وصول البعثات التبشيرية المانوية إلى بلاد العرب من الحيرة، التي دانت بالمانوية حوالي عام 300 للميلاد، في حين يروي ابن قتيبة أن بعض القرشيين كانوا مسئولين عن إحضار البدعة المانوية من الحيرة.
ولقد سار أتباع ماني على النهج الذي اتبعه في مهاجمة الأديان السابقة عليه، وقالوا ببطلانها جميعا بعد ظهور الرسالة الحقة، ودخلت المانوية في كل مكان في صراع لا هوادة فيه مع العبادات والأديان الشمولية الأخرى؛ فإلى جانب صراعها مع وثنية عصرها المتنورة ربيبة الثقافة الهيلينستية، فقد دخلت في صراع مميت مع ديانتين شموليتين؛ إحداهما شائخة هي الزرادشتية التي كانت تسعى إلى تجديد نفسها من خلال حركة إحياء شاملة، والأخرى فتية هي المسيحية التي كانت تشق لنفسها طريقا صاعدا بإصرار نحو روما والقسطنطينية. ولقد تلقت المانوية من الزرادشتية أولى ضرباتها القاسية، عندما مات مؤسسها شهيد دعوته، وأعدم إثر محاكمة صورية في بلاط الملك «بهرام» خليفة شابور، نتيجة للدسائس التي حاكها له الكهنة المجوس، ثم جاءتها الضربة الثانية باعتناق الإمبراطور الروماني «قسطنطين» المسيحية وإعلانها دينا رسميا للدولة، وما تبع ذلك من ملاحقة واضطهاد للمانويين. أما الضربة الثالثة فجاءت من الديانة الشمولية الجديدة وهي الإسلام، عندما قامت الخلافة العباسية في بغداد باستئصال شأفة المانوية من موطنها الرئيسي في إيران والمشرق العربي. ومع ذلك فقد صارعت المانوية طويلا عقب ذلك من أجل البقاء، واستمرت جيوب لها قائمة هنا وهناك حتى مطلع العصور الحديثة .
بعد هذه الوقفة المطولة عند مفهوم الدين الشمولي، والأمثلة التي اخترتها لأجل توضيحه، وهي وقفة اعتبرتها ضرورية، أريد قول كلمة أخيرة حول موضوع المستويات الشمولية للدين، وهي أن الدين الشمولي ليس بالضرورة مرحلة حتمية في تطور الظاهرة الدينية؛ فقد تراوح الظاهرة الدينية لدى ثقافة ما عند مرحلة «العبادة» التي لا تطمح إلى هداية عبادات الثقافات الأخرى إلى صراطها، أو عند مرحلة «دين القوم» الذي يتكون من عبادات متآلفة لا تتناحر ولا يعدو بعضها على بعض. ولعل أوضح مثال عن «دين القوم» قائم إلى يومنا هذا، ويصر على عدم التحول إلى دين شمولي، هو الديانة الهندوسية، التي بقيت محصورة ضمن القارة الهندية منذ أقدم العصور، بطوائفها المتعددة وعباداتها المتنوعة، التي لم تطمح واحدة منها إلى ابتلاع البقية والتحول إلى دين شمولي، لا نستثني من ذلك البوذية، التي طغت في فترة ما ثم انحسرت راجعة إلى وضعها السابق في الهند كعبادة بين بقية العبادات، واكتفت بممارسة نشاطها الشمولي في أقطار مشرقية أخرى. هذا الوضع الخاص للهندوسية هو الذي جعل أهلها فخورين بخلو دينهم من التعصب والأفكار الدوغمائية، وخلو تاريخهم من حركات الاضطهاد الديني. وقد وصف المؤلف العربي «البيروني» (أبو الريحان المتوفى عام 440 هجرية) في كتابه «تحقيق ما للهند» تسامح الطوائف الهندية تجاه بعضها، فقال بأنهم على قلة تنازعهم في شئون المذهب، فإن نزاعهم لا يتعدى الجدال الكلامي إلى الإضرار بالنفس. كما وصف عزوف الطوائف عن التبشير، والمبالغة في ذلك إلى حد عدم قبول من ليس منهم إذا رغب فيهم أو صبا إلى دينهم.
8
وهناك موقف مشهور للمهاتما غاندي في هذه المسألة، عندما جاءه مسيحي هندي يطلب التحول إلى الهندوسية، فقال له: اذهب وكن مسيحيا صالحا. ويعني بذلك طبعا أن كل الطرق إلى الله صالحة شريطة توفر صدق النية وقوة الإيمان والعزيمة. أما ما نراه اليوم من نزاعات دينية في الهند، فيرجع إلى اصطدام الطوائف الهندوسية بالأديان الشمولية التي تجاهر ببطلان العقائد الهندوسية، وتسعى بشكل دائب إلى اكتساب مزيد من الهندوس إلى صفوفها ، أو إلى تعصب أديان غريبة عن الهندوسية مثل ديانة السيخ، وهي ديانة مستحدثة ابتدرها المعلم «ناناك» أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، بتأثير الأديان الشمولية التي غزت الهند، واتخذت طابعا عسكريا في عهد خلفاء المعلم الأول.
في القسم الآتي من دراستنا، سوف ينصب الجهد على ما ندعوه، وفق المنهج الفينومينولوجي، ببنية الحد الأدنى، وهي البنية الأساسية التي يمكن اختزال الظاهرة إليها لغرض التعرف على ماهية هذه الظاهرة؛ فأنا ما زلت ملتزما بالإجابة عن السؤال الأساسي الذي طرحته في مقدمتي، وهو: ما هو الدين؟
الباب الرابع
المعتقد أو بنية الحد الأدنى للظاهرة الدينية
الفصل الأول
أفكار استهلالية
إن كل ظاهرة معقدة يمكن تقليصها إلى بنية أساسية جوهرية، بالغا ما بلغ تعقيدها، وهي بنية الحد الأدنى التي تقودنا دراستها إلى ماهية الظاهرة ومعناها. وفي مجال الدين، وهو أعقد الظواهر المرتبطة بالإنسان طرا، يمكننا أن نجد بنية الحد الأدنى في المعتقد. فالإحساس الديني، وهو كما رأينا شأن لا نستطيع وصفه من الخارج، يجد تعبيره الموضوعي الموصوف في المعتقد، والطقوس الدينية تقوم على المعتقد الذي يعطيها المعنى والدلالة، والأساطير تنسج من أجل توضيح المعتقد وترسيخه، والشرائع والأخلاقيات الدينية تصاغ انطلاقا من إيمان ما وتصورات كونية دينية معينة. فالمعتقد والحالة هذه هو مركز الظاهرة الدينية، وعنده يجب التوقف لمن يريد البحث عن ماهية الدين واكتناه أصوله وبواعثه ومعانيه.
لقد وصفنا في معرض تقصينا لبنية الدين ومكوناته كيف يتشكل المعتقد الديني، والأشكال التي يعبر من خلالها هذا المعتقد عن مضامينه، أما الآن فسوف نتفرغ لعملية تقصي محتوى المعتقد الديني وفحواه. ونقطة الانطلاق التي سأبدأ منها هنا، هي الافتراض بأن المعتقدات الدينية قديمها وحديثها، بسيطها ومركبها، يمكن إرجاعها إلى عناصر ثابتة ومشتركة بين الأديان جميعا. ففي القاع من كل إيمان ديني، لا بد من وجود عدد من الأفكار البسيطة الأولية التي تجمعه إلى كل إيمان آخر، وهذه العناصر الثابتة أو الأفكار الأولية قد لا تبدي عن نفسها للوهلة الأولى؛ وذلك بسبب تراكم الأدبيات الميثولوجية في الأديان، وتنوع أساليب التعبير الرمزي الخاص بهذه الثقافة أو تلك. وإن فرضيتنا هنا حول وحدة المعتقد الديني عند جذور الأديان جميعا، لا تقوم من حيث المبدأ على أساس تعسفي، وإنما يقود إليها قولنا بوجود ظاهرة دينية واحدة عند الإنسان العاقل، لا ظواهر دينية مستقلة من حيث المنشأ والغاية، والظاهرة الواحدة لا بد لها من أساس واحد، رغم تنوع تبدياتها عبر الزمان واختلاف البيئة والمكان. وبتعبير آخر، فإن بنية الحد الأدنى للدين التي وجدناها في المعتقد، إنما تقوم بدورها على بنية أخرى للحد الأدنى الاعتقادي، هي تصور إنساني واحد يقوم عليه الدين برمته أنى التقينا به، سواء في العصور الحجرية القديمة أم في الحضارات الكبرى الغابرة والراهنة. فهل ستسعفنا الدراسة الميدانية بما يثبت هذه الفرضية التي تقوم ابتداء على محاكمة ذهنية سليمة؟
تخضع المعتقدات الدينية في الثقافات «العليا» إلى عملية صقل تمليها طبيعة الحياة الاجتماعية، التي تسير أبدا في طريق التركيب والتعقيد. ويساعد على ذلك تداخل الظاهرة الدينية في هذه الثقافات مع ظواهر أخرى سياسية واقتصادية ومجتمعية؛ لهذا السبب فإن رحلتنا الطويلة المقبلة في البحث عن الحد الأدنى الاعتقادي، لن تبتدئ من أديان الحضارات الكبرى، بل من أديان الثقافات البدائية الأصلية، موغلين في الزمن الماضي إلى أبعد نقطة استطاع عندها علم الآثار وعلم الأنتروبولوجيا العثور على شواهد مادية لمعتقدات دينية عند الإنسان العاقل أو عند أسلافه النياندرتاليين، متلمسين تلك الأفكار البسيطة الأولى التي تشكل حجر الأساس للمعتقد الديني عند الإنسان، والتي تضعنا وجها لوجه أمام «أصول» الدين. وكلمة «أصول» التي أضعها بين أقواس هنا، ينبغي ألا تفهم من وجهة نظر «تطورية»، سواء في السياق الحالي لاستخدامي لها أم في أي سياق لاحق من هذا الكتاب. فنحن لا نهدف من توغلنا في الزمن الماضي إلى البحث عن البدايات الزمنية لتطور الأفكار الدينية، بل إلى تحديد الأشكال الأصلية للمعتقد ، وهي أشكال لم تخضع لأية عملية تطورية، وما زالت قابعة تحت البنية الاصطناعية التي تراكمت فوقها. إن ما يبدو بحثا في الزمن الماضي هو في حقيقة الأمر حفريات في البنية الفكرية المدينية الراهنة، من أجل الكشف عن ذلك الأساس الذي لم يمسه تبدل أو تغير، والذي يشكل جوهر المعتقد الديني عند الإنسان. ولكن قبل الشروع في هذه الحفريات، سوف أتوقف قليلا عند مصطلحين استخدمتهما للتو، ويكثر استخدامهما في الأنتروبولوجيا وبعض العلوم الإنسانية الناشئة الأخرى، وهما «التطورية» و«البدائية»، لأحدد موقفي من الأول وطريقة استخدامي للثاني.
التطورية (=
Evolutionism ) مصطلح يستخدم للإشارة إلى نظريات أنتروبولوجية وبيولوجية ظهرت أواسط القرن التاسع عشر، وحاولت تفسير الظواهر الاجتماعية والبيولوجية باعتبارها ارتقاء في خط مستقيم من الأدنى إلى الأعلى، بحيث يفضي الشكل الأدنى السابق إلى شكل أرقى لاحق. وقد كان للفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر أثر مباشر على ظهور المذاهب التطورية في مجال الأنتروبولوجيا بشكل خاص؛ فقبل ظهور كتاب داروين في أصل الأنواع، وإحداثه ثورة في علم البيولوجيا، قال سبنسر بالتطور على أنه المبدأ الذي يحكم التغير على كل صعيد. يقول في مقالته التطور وقوانينه: «إن التحرك قدما من البسيط إلى المركب عبر عملية متسلسلة من التمايز المتتابع، هو شأن أكيد لا يمكن ملاحظته في تطور الإنسانية، وفي تطور ما لا يحصى من النواتج الفكرية والمادية للنشاط الإنساني.»
1
وبعد أن نشر داروين نظريته في أصل الأنواع، دخل المفهوم التطوري في صلب تفكير الإنسان الحديث ونظرته الأمور، وصرنا ننظر إلى كل ما هو قديم باعتباره الأدنى في سلم التقدم، وإلى كل ما هو حديث باعتباره الأعلى في هذا السلم التطوري الصاعد. وقد ساعد على تكريس مفهومي الأدنى والأعلى تلك الرسوم البيانية النشوئية الخاصة بتطور الأنواع، والتي ابتدرها داروين، حيث ترسم الأشكال الأقدم في الجزء الأدنى من الرسم، والأشكال الأحدث في الجزء الأعلى منه. وبذلك دخل في روعنا تدريجيا أن القديم هو الأدنى، والحديث هو الأعلى. وترافق ذلك، وكما هو متوقع، مع حكم قيمي يربط الأدنى في سلم التطور بالتدني ؛ أي بما هو أسوأ، ويربط الأعلى بالسمو؛ أي بما هو أفضل. كما توسع مفهوم التدني ليشمل الانحطاط من الناحيتين العقلية والخلقية، فضلا عن الناحية الطبيعية. وانطلاقا من هذا الحكم القيمي الاعتباطي، يعتبر إنسان النياندرتال والأسترالي الأصلي، أحط من الناحيتين الثقافية والطبيعية من الإنسان الأوروبي الحديث الذي يعتلي شجرة التطور، وهي الصورة التي يرسمها عادة علماء الأنتروبولوجيا الطبيعية لشجرة نسب الإنسان التي تنبت من الأسلاف القرديين، وتتموضع عليها صعدا المجموعات المختلفة من الرئيسيات، على مخطط نشوئي يظهر الإنسان الأبيض كآخر وأعلى فروع الرسم، بينما تظهر الأجناس الأخرى وهي تتفرع من المناطق الدنيا الأكثر قدما.
وقد قادت المفاهيم التطورية إلى إحداث مصطلح «البدائي» و«البدائية»؛ فالبدائي هو الإنسان الذي عاش في «بداية» عملية النشوء والارتقاء، ومثله إنسان القبائل «البدائية»، الذي يعتبره التطوريون أقرب إلى الإنسان الأول في عصوره الحجرية، واعتبرت ثقافته بمثابة بقايا متحجرة من الثقافات الابتدائية الأصلية. وقد تم النظر إلى كل ما يمت إلى هذه الجماعات بصلة باعتباره «بدائيا» وفق الحكم القيمي التطوري، وصار الحديث عن «دين بدائي» و«أخلاق بدائية» و«مؤسسات اجتماعية بدائية» وما إلى ذلك أمرا شائعا. غير أن هذا الحكم القيمي الذي يرى في كل ما هو «بدائي» حالة متدنية، هو حكم غير دقيق في الواقع، ومسألة «البدائية» لا يمكن تقريرها بمثل هذه السهولة؛ فمما لا شك فيه أن المنكاش الحجري أكثر بدائية من المحراث الذي تجره الحيوانات، وأن هذا بدوره أكثر بدائية من الجرار الحديث. ومما لا شك فيه أيضا أن السهم الذي يطلق من أنبوبة النفخ أكثر بدائية من السهم الذي يطلق بواسطة القوس والوتر. ولكن من يستطيع القول إن الحكم الاستبدادي الذي ساد في الحضارات الكبرى أكثر تطورا من الحكم القبلي القائم على حرية وتساوي أفراد القبيلة الواحدة؟ أو إن الأديان المتأخرة التي يمتلئ تاريخها بالاضطهاد وملاحقة الهراطقة والحروب الشاملة ضد الشعوب الأخرى، هي أكثر تطورا من الأديان «البدائية» التي تتسم بالتسامح مع كل المعتقدات؟ أو إن العلاقات الإنسانية في المدينة الحديثة القائمة على التنافس المحموم، هي أكثر تطورا من العلاقات «البدائية» القائمة على التعاون والمشاركة؟ وفي الواقع فإن الشعوب البدائية قد تكون أقل تطورا في النواحي التكنولوجية وبعض النواحي الأخرى، ولكنها من بعض الوجوه أكثر تطورا من أكثر المجتمعات المتقدمة؛ فالبدوي في صحاري رماله، والإسكيمو في صحاري جليده، هو أكثر ودا وشجاعة وصدقا وإخلاصا وتعاونا من أكثر أعضاء المجتمعات المتمدنة، وإن الجماعة التي ندعوها «بدائية» هي أكثر الأشكال الاجتماعية والسياسية إتاحة لحرية الفرد وتفتيحا لإمكاناته. ولقد قادت المراجعة الشاملة للمفاهيم القديمة حول «البدائية» إلى ظهور جيل جديد من الأنتروبولوجيين في الغرب، أخذ يرى بوضوح، ونتيجة للدراسة الموضوعية لركام المعلومات التي تكدست خلال القرن العشرين، أن المجتمعات التي ندعوها «بدائية» ليست مرحلة طفولية من مراحل تطور البشرية، وليست انحرافات في مسارات مسدودة على شجرة التطور التي تتربع فوقها المجتمعات الصناعية الحديثة، بل إنها شكل تام من أشكال الحياة الإنسانية الناضجة والمكتفية بنفسها. يقول أحد الأنتروبولوجيين البارزين في هذا الاتجاه، آشلي مونتاغيو: «إن الخطأ الأساسي الذي يرتكبه من يتحدث عن الفن البدائي، هو استخلاص التعميم من إحدى النواحي غير المتطورة نسبيا في الثقافة، وذلك مثل التكنولوجيا أو الاقتصاد، وافتراض أن كل النواحي الأخرى لتلك الثقافة لا بد أن تكون غير متطورة بالمقدار نفسه. والواقع، فإننا عندما نقارن خصائص معينة في الثقافات غير الكتابية «= بدائية»، مثل اللغة والدين والأساطير ونظام القربى والحكايا والأشعار وقص الأثر وغيرها، بمثيلاتها في المجتمعات المتمدنة، فإن أعضاء الثقافات اللاكتابية لن يقفوا على قدم المساواة مع أعضاء المجتمعات المتمدنة فحسب، بل سيتفوقون عليهم في أحيان كثيرة. وعندما اكتشفت المنحوتات البرونزية النيجيرية الرائعة، قال البعض إنها لا يمكن أن تكون من صنع الزنوج؛ فقد كان أسهل على هؤلاء أن يتصوروا فنانا كبيرا ينتمي لأحد الأصول العرقية المتقدمة وقد قادته جولاته إلى نيجيريا، من أن ينسبوا لشعب «بدائي» لا يقرأ ولا يكتب، وما تزال ثقافته وتكنولوجيته «بدائية»، مثل هذه العبقرية الخلاقة والأساليب المتنوعة والخيال الرفيع، مما نجده في الفن النيجيري.»
2
ومن مجال الفن أيضا يأتينا البرهان على رقي نواح معينة من ثقافات العصر الحجري الموصوفة بالبدائية، رقيا يدفعنا إلى مقارنتها بنظائرها في حضارتنا الحديثة. يقول آشلي مونتاغيو، الذي اقتطفنا منه أعلاه، في هذا الموضوع ما يلي: «فإنسان ما قبل التاريخ في العصر الحجري القديم الأعلى، كان في بعض نواحي حياته قادرا على إنجاز أمور عجز غيره منذ ذلك الحين التفوق عليه فيها. ومن بين الأمثلة البارزة على ذلك فنون ذلك العصر التي قال فيها السير هربرت ريد: إن أفضل رسوم كهوف التاميرا ونيو ولاسكو، تكشف عن مهارة لا تقل عن مهارة فنانين كبار محدثين من أمثال بيكاسو. وكل من رأى الرسوم الأصلية، بل حتى نسخا مأخوذة عنها، سيوافق على أن هذا القول غير مبالغ فيه؛ فبالإضافة إلى المهارة الفنية التي اتصف بها الفنانون القدماء، فإن أعمالهم تظهر قدرا من الحيوية وقوة التعبير قل نظيره في أي عصر من العصور. ولا شك في أن الأفراد القادرين على استخدام مثل تلك المهارات، كانوا يتميزون بدرجة من الذكاء لا تقل عن تلك التي يمتلكها الإنسان المتمدن المعاصر. ولما كانت كلمة «بدائي» لا تؤدي إلى طمس هذه الحقيقة فحسب، بل إلى حجب قدرتنا على فهم المغزى الحقيقي للوقائع، فإن علينا التحلي بأقصى درجات الحيطة إذا أردنا استخدامها.»
3
وحول الفكرة نفسها يقول كلود روي، وهو واحد من الدارسين المهمين للفنون البدائية: «لا يمكن أن يدعى أي فن فنا متوحشا (=
Savage ) إلا بالقدر الذي نشارك فيه نحن بوهم الوحشية، ولا يمكن أن ندعو أي فن بدائيا إلا إذا نسينا صلته العميقة بكل من عبر بالرموز والصور عن مشكلاتنا الإنسانية المشتركة في الحياة والفكر. ورغم أن الأنتروبولوجيين هم أول من خطر ببالهم إطلاق اسم متحف الإنسان على متحفهم في مدينة باريس، وهو اسم جميل حقا، إلا أن الاسم نفسه ينطبق على كل متحف في العالم. ويمكننا أن نتخيل متحفا واحدا ضخما للإنسان يشتمل على التنوع اللانهائي للبشرية. في هذا المتحف لا يعتبر قناع من صنع قبيلة الدان أجمل من لوحة كورو المسماة امرأة باللون الأزرق، ولا تمثال برونزي صغير من ساردينيا صنع قبل الميلاد بألف سنة، أجمل من تمثال صنعه رودان في أيامنا. إن نوعية الحياة الإنسانية لا يمكن أن تقاس كميا بالآلات ولا بالأرقام، وما دام العمل الفني هو العمل الإنساني الذي يدوم، فإنه هو الذي يجسد لنا فن الحياة الذي خلقه لنا أناس لا نعرف عنهم شيئا بدونه.»
4
ويقول دارس مهم آخر لفنون ما قبل التاريخ، وهو أندرياس لوميل: «إن تعليل تلك النوعية العالية لفن الكهوف هو أمر يتأبى علينا، وبكل سر وسحر. ويفضل البعض عدم التفكير بهذه المسألة جملة وتفصيلا؛ لأنها تطرح على دارسي ما قبل التاريخ، وبشكل خاص على كل من يحمل أفكارا ساذجة عن التطور، أسئلة تصعب الإجابة عليها؛ فإذا كان الإنسان الأول «البدائي» قادرا على إنتاج مثل هذه الأعمال الفنية الرفيعة والبعيدة عن البساطة، بما توفر لديه من أدوات حجرية وعظمية فجة، فإنه لم يكن بدائيا بالمعنى الفني والفكري، بل لا بد أنه قد وصل في هذه المجالات ذروة لم يتم تجاوزها منذ ذلك الوقت. وهذا ما يقودنا إلى القول بأن التطور الفني والعقلي لا يتماشى بالضرورة مع التطور المادي للحضارة. ولا شك بأن قبولنا بهذا الرأي من شأنه تغيير نظرتنا السائدة إلى التطور الإنساني باعتباره خطا صاعدا في طريق مستقيم.»
5
لقد أدت هذه الرؤيا الجديدة لمسألة «البدائية» إلى إعادة النظر في المصطلح نفسه، ومحاولة استبدال مصطلح بديل به لا يوحي بفكرة التدني من الناحية التطورية، فاقترح بعض الباحثين مصطلح «الجماعات اللاكتابية» بدل «الجماعات البدائية»، واقترح آخرون «الجماعات الإثنية» أو «الجماعات الوطنية» وغيرها. ولكن مثل هذه المصطلحات الجديدة ما زالت موضع جدال بين العلماء، ولم يكتب لواحد منها حتى الآن الاستمرار والانتشار؛ ولذا فإنني سوف أحافظ هنا، ولأغراض هذا البحث، على مصطلح «البدائي» و«البدائية» بعد أن استبعدت المعاني السلبية التي ارتبطت به، وأشرت بما يكفي إلى الخصائص الإيجابية للثقافات التي تعودنا استخدام هذا المصطلح في وصفها. وقد أستخدم أيضا مصطلح «تقليدي» و«تقليدية»، وهو مصطلح انفرد به مؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد، دون أن يوافقه من الأنتروبولوجيين أحد. وملاءمة المصطلح لواقع الحال تأتي في رأيي من أن المجتمعات التي ندعوها «بدائية » هي مجتمعات محافظة إلى حد بعيد، وبطيئة النمو والتغيير إلى درجة تجعلها أشبه بالبؤرة الساكنة، مقارنة بالمجتمعات التي توضعت تاريخيا على الخط الرئيسي لاتجاه سير الحضارة، الذي انتهى بالمجتمع الصناعي الغربي الحديث. ولسوف أستخدم هذين المصطلحين حصرا للإشارة إلى هذه المجتمعات «البدائية» الحديثة والمعاصرة، والتي كانت موضوعا للدراسات الأنتربولوجية خلال القرن العشرين، أما الثقافات الأصلية لعصور ما قبل التاريخ، فسوف أطلق عليها اسم «ثقافات العصر الحجري»، وأميزها بشكل صارم عن الثقافات البدائية الحديثة، وهذا التمييز له في اعتباري كل مؤيد مشروع.
لقد اعتاد الأنتربولوجيون النظر إلى الثقافات البدائية الحديثة باعتبارها ممثلة لمجتمعات ما قبل التاريخ وأكثر شبها بها، وافترضوا أن الأنماط الثقافية البدائية القائمة اليوم (أو التي كانت قائمة إلى وقت قريب؛ لأن معظم المجتمعات البدائية قد تخطت بشكل أو آخر عتبة الحضارة الحديثة ولو من حيث الشكل فقط) تتطابق مع الأنماط الثقافية التي ميزت طفولة الجنس البشري، وأن البدائية الحديثة ليست إلا بقايا متحجرة من تلك العصور الغابرة. وبناء على هذا الافتراض أخذ الأنتروبولوجيون يعكسون معظم ما يجدونه لدى هذه الثقافات على المراحل الابتدائية للثقافة الإنسانية في عصورها الحجرية، في سعيهم للبحث عن البدايات والأصول. غير أن الدراسات المعمقة لفيض المعلومات التي تحصلت لدينا خلال القرن المنصرم، تظهر أن الثقافات البدائية ليست مستحاثات من العصر الحجري، بل هي ثقافات «تاريخية»، قد مرت بتاريخ لا يقل طولا عن تاريخ الشعوب المتمدنة، أوصلها إلى ما هي عليه الآن. ورغم بطء مسيرتها، فإن المجتمعات البدائية قد خضعت بالتأكيد إلى تغييرات جمة في اللغة والدين والعادات والتكنولوجيا، وتبادلت التأثير بشكل دائم مع بعضها ومع الثقافات «العليا»، بالغا ما بلغ من عزلتها؛ ولذا فإن مؤسساتها لا يمكن أن تعكس حقا المؤسسات الثقافية الأصلية. ولعل من دلائل التغيير الذي خضعت له المجتمعات البدائية، ذلك التعقيد الشديد الذي يميز بعض مؤسساتها، والذي لا يمكن مقارنته أحيانا بما لدى المجتمعات المتقدمة. فنظام القربى مثلا، لدى الأمريكيين من أهل المجتمع الصناعي المعقد، هو نظام شديد البساطة، ولا يقارن بنظام القربى الشديد التعقيد لدى سكان أستراليا الأصليين. وهناك أنظمة سياسية عالية التنظيم لدى بعض الشعوب الأفريقية، كما هو الحال في داهومي وأوغندا. وفيما يتعلق بالناحية الدينية، فإن تعقد الحياة الدينية لدى الثقافات البدائية لا يقارن أبدا بالحياة الدينية المسطحة لدى شعوب المجتمعات الصناعية الحديثة. يقول أحد الباحثين في الديانات الأفريقية: «إن الديانات الأفريقية التقليدية ليست أبدا ديانات بدائية؛ لأنها تجر وراءها آلاف السنين من التطور، شأنها في ذلك شأن غيرها. إنها ثمرة تفكير استمر قرونا مديدة، ونتاج تجارب أناس واجهوا قوى الطبيعة وجها لوجه. ويمكن للباحث أن يعثر في هذه الديانات على مؤثرات شرق أوسطية قديمة، منها على سبيل المثال الأسبوع ذو الأيام السبعة التي يحكم كلا منها أحد الكواكب السيارة السبعة.»
6
وفي الواقع، فلقد كان لدى رواد الأنتروبولوجيا الحديثة بعض الحق في توجههم إلى المجتمعات البدائية في معرض بحثهم عن الأصول والبدايات؛ وذلك بسبب قلة المعلومات التي كانت متوفرة حتى ذلك الوقت عن عصور ما قبل التاريخ. أما الآن، وبعد ازدياد معلوماتنا عن تلك العصور بما يكفي لأن تدرس بذاتها وبشكل مباشر، فإن الوثائق الجديدة المتوفرة لدينا هي التي يجب أن تستنطق وتستجوب أولا، في أي معرض للحديث عن طفولة الجنس الإنساني وثقافاته الأصلية، وبعد ذلك يمكن إجراء التقاطعات بين ما تعطيه هذه الوثائق من شهادات وبين معلوماتنا المباشرة عن المجتمعات البدائية. غير أن مما يؤسف له أن تزايد الوثائق المادية عن ثقافات العصر الحجري، قد رافقه أفول لنجم الأنتروبولوجيا النظرية ودراستها الطموحة ذات الطابع الشمولي، وتحول العلماء إلى الدراسات الميدانية ذات الطابع التفصيلي، والتي ينتج عنها تقارير ملأى بالمعلومات المدققة عن الحياة اليومية للجماعات المدروسة، كما غلب على هذه الدراسات توجهها إلى العلاقات والمظاهر المادية من دون الاهتمام بالوسط الفكري لتلك الجماعات. وهكذا لم تجد المعلومات المتزايدة عن ثقافات العصر الحجري الاهتمام الذي كانت ستلقاه لو أنها ظهرت قبل قرن من الآن؛ ففيما عدا الملاحظات التي يدونها علماء الآثار الذين يشعرون بضرورة وضع تفسيرات أولية للقاهم الأثرية في مواقع الإنسان القديم، وهي ملاحظات غير منتظمة في بنية شمولية، فإن الوسط الفكري للثقافات الأصلية لم يلق ما يستحقه من عناية واهتمام. ومع ذلك ينبغي أن نعترف بفضل عدد من الباحثين الذين قدموا مساهمات قيمة في محاولة فهم الحياة الروحية لثقافات العصور الحجرية، ومن أبرزهم لوروا غورهان في كتابه عن ديانات ما قبل التاريخ،
7
وجاك كوفان في كتابه ديانات العصر الحجري الحديث،
8
الذي استمد مادته من وثائق مواقع العصر النيولويني في سوريا، إضافة إلى عمل ب. م. غوف التوثيقي الهام، والذي اقتصر على منطقة وادي الرافدين، وعنوانه رموز إنسان ما قبل التاريخ في وادي الرافدين.
9
ومع التقدير الكبير لهذه الأعمال البارزة، ولغيرها مما لم أشر إليه هنا، فإنني سوف أطرح في الفصل المقبل، وبكل حذر علمي، نظرية جديدة في معتقدات العصر الحجري القديم والحديث، وذلك في أولى الخطوات لتحديد ملامح الحد الأدنى الاعتقادي لدين الإنسان العاقل، ثم أنتقل في الفصول الآتية من هذا القسم للبحث عن الحد الأدنى الاعتقادي (الذي وجدناه لدى إنسان العصر الحجري) في معتقدات الشعوب البدائية، ثم في المعتقدات الدينية للحضارات الكبرى. ومشروعية مثل هذه المقارنات تقوم على أن الدين هو ظاهرة ثقافية لا تخضع لمعايير التطور، شأنه في ذلك شأن الفن؛ فكما هو حال الإبداع الفني الذي لا يمكن وضعه على سلم تطوري يرتقي من الأدنى إلى الأعلى، بل تنتظم إبداعاته جنبا إلى جنب في متحف يتسع ليشمل العالم المسكون، كذلك هو دين الإنسان الذي لا ينقسم إلى أديان دنيا وأديان عليا، بل يطالعنا، أنى بحثنا عنه، بتنوع وغنى يعكسان تنوع وغنى الثقافات المختلفة وخصوصيتها.
الفصل الثاني
عتبة الدين، اللاهوت والناسوت في معتقد الباليوليت
إذا كان ثمة وجود لديانة بدائية صافية لم تتأثر بغيرها، بل خضعت لديناميات نموها الداخلية الخاصة بها، فإن هذه الديانة هي حصرا ديانة العصر الحجري القديم (= الباليوليتي). من هنا، فإن أية حفريات معرفية في طبقات الدين تستهدف الوصول إلى قاعه الأساسي، يجب أن تهبط أولا إلى هذا المستوى البدئي لدين الإنسان العاقل. إن سبر معتقدات إنسان عصور ما قبل التاريخ لن تكون أبدا بالمهمة السهلة، ولكنها، على أية حال، مهمة لا بد من القيام بها. والصعوبة هنا تنشأ من كون الباحث في ديانات العصر الحجري لا يمتلك الأدوات والوسائل التي تعين، في العادة، زملاءه في حقل الأنتروبولوجيا الاجتماعية أو في حقل تاريخ الأديان؛ فهو لا يستطيع القيام بزيارات ميدانية للجماعات التي يعمل على دراستها للاطلاع المباشر على موضوعات بحثه كما يفعل الأنتروبولوجي الاجتماعي، كما أنه لا يمتلك الوثائق الكتابية التي يعتمد عليها مؤرخ الأديان بشكل أساسي، بل إنه مضطر إلى الاعتماد على الشواهد المادية الصامتة، مثل الأعمال التشكيلية من منحوتات ورسوم جدارية، وبقايا الدفن، وتشكيلات يدوية لا تنبئ عن قيم استعمالية واضحة. فهو مضطر، والحالة هذه، إلى إعادة بناء الوسط الفكري لجماعات بادت منذ عشرات ألوف السنين، انطلاقا من مادة صماء، وتبدو لأول وهلة أبعد ما تكون عن الترابط وعن أداء معنى محدد وواضح. ولكن الحال في الواقع ليس على هذه الدرجة من السوء وتثبيط الهمة، فهذه المادة التي تبدو صماء للنظرة الأولى، إنما تحمل لنا رسالة على درجة لا بأس بها من الأهمية والوضوح.
يرى جاك كوفان في كتابه «المستقرات الأولى الزراعية في سوريا وفلسطين»، أن إنسان ما قبل التاريخ كان يعبر عن أعلى فعالياته الفكرية من خلال فنونه التشكيلية التي تستمد مادتها وتصوراتها من العالم المحيط به، غير أنه عندما ينسخ وفق اختيار دقيق، وينتقي من بين خيارات لا حصر لها، فالصورة والحالة هذه هي انطباع رمزي، ونسخة خيالية عن الواقع، تحمل طابعا اجتهاديا ورؤيا منقحة لهذه الوقائع. ويمكن أن نلحق أيضا بهذه الأعمال التشكيلية عمليات الترتيب المقصود لموضوعات طبيعية، مثل رءوس الثيران وعظام الحيوانات والهياكل العظمية في القبور، وذلك عندما لا يكون لهذه الترتيبات دلالات استعمالية بل تجريدية رمزية. من هنا فإن الدراسة المدققة لهذه المخلفات القليلة والهامة، إنما تزودنا بمقترب علمي يعيننا على إنشاء العالم المادي المحيط بإنسان ما قبل التاريخ، ورؤيته لذلك المحيط وبأفكاره عنه.»
1
وبمعنى آخر، فإن قلة الوثائق وتبعثرها واتساع الهوة الزمنية، وما إلى ذلك من معوقات دراسة الوسط الفكري لجماعات ما قبل التاريخ، يمكن تعويضها إلى حد ما بمنهج استقرائي صارم، يعتمد الخيال الخلاق المنضبط، ولا يخرج عن حدود الوثيقة المادية المتاحة قيد أنملة.
ولتبيان قيمة الوثيقة الفنية، خاصة في الكشف عن أفكار الإنسان القديم، ينبغي أن نلفت النظر إلى الفارق الكبير بين النشاط الفني لإنسان العصر الحجري والجماعات البدائية عامة، والنشاط الفني للإنسان الحديث، وذلك من حيث بواعث ذلك النشاط ومضامينه ونتائجه. فالفن التشكيلي لدى المجتمعات القديمة، والتقليدية الحديثة، ليس إبداعا فرديا يعبر عن رؤيا جمالية خاصة وموقف ذاتي من العالم، كما هو الحال في مجتمعاتنا الحديثة، بل هو إبداع جمعي يستلهم قيما جمالية جمعية، ويعبر عن مواقف فكرية مشتركة. والفنان البدائي عندما يعكف على تشكيل عمله الفني، لا يقصد إلى إنتاج قطعة جميلة يقتنيها شخص آخر، وإنما إلى انتقاء أشكال تعبر عن السيكولوجيا الجمعية والتوجهات الفكرية للجماعة، وغالبا ما يكون لهذه الأشكال معان تتجاوز الموضوعات المادية الممثلة؛ لتغدو رموزا تلتقي عندها القوى الدينية والسحرية والأيديولوجية الفاعلة في الوسط الجمعي المشترك. فالفن البدائي، والحالة هذه، عبارة عن لغة اجتماعية يفهمها الجميع ويتواصلون من خلالها، والأعمال الفنية تحمل على الدوام قيما دلالية تتعدى حدود صانعيها لتغدو شاهدا على حقبة وعصر؛ فما الذي تنقله شواهد العصر الحجري القديم إلينا؟ (1) الباليوليت الأدنى: القاع السحيق
تشكل حقبة العصر الحجري ما يزيد عن 99٪ من تاريخ الإنسان. ويؤلف معظم هذه الحقبة العصر الذي ندعوه بالحجري القديم أو الباليوليتي (=
). يقسم العصر الباليوليتي عادة إلى ثلاث مراحل؛ الباليوليت الأدنى، والباليوليت الأوسط، والباليوليت الأعلى. يمتد الباليوليت الأدنى من البدايات الأولى لظهور الهيئة البشرية بين الرئيسيات العليا، وإلى ما قبل مائة ألف عام من يومنا هذا؛ ففي هذا العصر الذي يمتد إلى ما وراء المليون الأول من عصور الكتابة، اتخذت الجماعات التي ندعوها بالأناسي، أو أشباه الإنسان (=
Hominids )، الملامح والخصائص العامة التي ميزت جنسنا منذ ذلك الوقت؛ فلقد غادرت الأشجار وعاشت على الأرض ، وسارت على قدمين منتصبة الجذع، وتطورت لديها قدرات عقلية وعصبية عالية، واتخذت العينان مكانا يسمح لهما بتركيز رؤية واسعة مجسمة. ونظرا لفقدانها للأنياب، التي تملكها القردة والسعادين، فقد اعتمدت على الكفين بشكل متزايد، وتطورت لديها حركة الإبهام المقابل للأصابع بشكل يسمح بإمساك الأدوات واستخدامها. وقد صنع هؤلاء الأسلاف الأولون أولى الأدوات المعروفة أركيولوجيا باسم الأدوات الأولدوفية واستخدموها بكفاءة؛ وبذلك فقد ساروا أولى الخطوات نحو تكوين ما ندعوه «ثقافة» (=
Culture ). والثقافة في أبسط تعريفاتها تعني نمط حياة يجري اكتسابه اجتماعيا لا غريزيا، ويتم نقله بين الأجيال بالتعلم. وبدءا من 500000 عام من عصرنا هذا، أخذ الأناسي باستعمال النار، وبدأت أشكالها تنحو نحو الشكل النياندرتالي، وهو أول شكل إنسي قريب منا إلى حد بعيد.
وفي الواقع، فإنه من غير المجدي التفتيش عن دلائل الحياة الدينية لبشر ذلك الزمان؛ بسبب غموض الوثائق وتبعثرها، وصعوبة الربط بينها؛ فإذا أردنا البقاء في حدود ما تسمح به الوثيقة المادية من تفسير، يتوجب علينا القول بأن إنسان الباليوليت الأدنى لم يتمتع بحياة دينية من أي نوع، وإن وسطه الفكري لم يتطور عن أسلافه من الرئيسيات العليا، رغم صناعته للأدوات واستخدامها للتحكم بوسطه المادي. غير أن البوادر الأولى لقيام الأناسي بتكوين هذا النوع من الثقافة الأولية، يغرينا بافتراض امتلاكهم نوعا من الحياة الروحية، التي لم تكن من الوضوح بحيث تعلن عن نفسها من خلال اللقى الأثرية التي اقتصرت على الأدوات، وهي فرضية لا يمكن الدفاع عنها في الوضع الحالي لمعلوماتنا عن الباليوليت الأدنى. إن كل ما أستطيع قوله هنا هو أن الحياة الروحية المتطورة نسبيا لإنسان النياندرتال اللاحق، لا يمكن أن تكون قد انبثقت فجأة ومن العدم، بل لا بد من وجود جذور لها في ذلك القاع السحيق للثقافة الإنسانية. (2) الباليوليت الأوسط وبزوغ الإنسان
تمتد فترة الباليوليت الأوسط من حوالي 100000 إلى حوالي 40000 عاما قبل عصرنا. وقد ساد خلال هذه الفترة في أوروبا وآسيا وأفريقيا الكائن البشري المعروف بالنياندرتال. يتميز النياندرتال النموذجي، الذي استوطن أوروبا بشكل خاص، بضخامة الرأس وبروز عظمي الحاجبين، وضيق الجبهة، وضمور الذقن. ويبدو أن هذا الكائن البشري هو الحلقة الأخيرة التي تسلسل منها الإنسان الذي يعمر الأرض حاليا، والذي اكتمل شكله منذ ما يقارب الأربعين ألف سنة من الآن. وعندما اكتشفت الهياكل العظمية الأولى للنياندرتال في منطقة نياندر بألمانيا قرب دوسلدورف، اعتقد الباحثون بوجود هوة كبيرة بينه وبين الإنسان العاقل الذي ورثه على الأرض، إلا أن اكتشاف المزيد من آثار النياندرتال، قد أظهر مدى ضيق الفجوة بينه وبين الإنسان العاقل، حتى لقد اعتبر نوعا متقدما من أنواعه، وتم الاصطلاح مؤخرا على تسميته بالإنسان العاقل النياندرتالي (=
Homo Sapien Niandertalenisis ).
لم يترك لنا إنسان النياندرتال شاهدا واحدا على ميله للتعبير بواسطة الفن التشكيلي عن أفكاره وإحساسه بمحيطه، وذلك باستثناء تنفيذه لبعض الحزوز على أدواته العظمية لغاية جمالية بحتة. غير أننا نستطيع البحث عن ملامح ثقافته غير المادية في مدافنه التي تم اكتشاف عدد لا بأس به منها حتى الآن. فالنياندرتال كان أول نوع بشري عني بدفن موتاه في القبور، وأظهر في ذلك حرصا كبيرا، كما أن التقاليد التي اتبعها في دفن الموتى تدل على تمتعه بحياة روحية لم يتمتع بها سابقوه، وتنبي عن وسط فكري غني بالتأمل والأفكار المجردة. وسأورد فيما يلي نماذج من أساليب الدفن التي تميزت بالتنوع لدى إنسان النياندرتالي، ثم أظهر الروابط التي تجمعها والمعاني الكامنة خلفها.
في جنوب فرنسا، عثر على كهف استخدم كمقبرة لأربعة أفراد نياندرتاليين، كان الهيكل الأول لامرأة وضعت ضمن حفرة في وضعية الجثو، حيث تلامس الركبتان البطن وتنطوي الذراعان نحو الصدر؛ والهيكل الثاني لرجل مسجى على الأرض في وضع التمدد وقد ثنيت ساقاه، وتمت حماية رأسه وكتفيه بألواح حجرية، أما الهيكلان الباقيان فلطفلين وضعا في حفرتين ضحلتين في وضعية الاستلقاء، وإلى جانب هذه القبور حفرة مليئة برماد وعظام ثور بري. وقد عثر في المنطقة نفسها على عدد آخر من قبور النياندرتال، منها قبر لفتى يافع دفن في وضع جانبي متوسدا ذراعه الأيمن، وتحت رأسه كومة من شظايا الصوان، وحوله رصفت قطع من عظام السوائم البرية، وقرب يده مقبض فأس حجرية. وفي قبر آخر دفن رجل في الخمسين من عمره ضمن حفرة طبيعية، حيث تم توجيه جثته وفق محور شرق غرب، ووجد مع الهيكل أصداف وبقايا عظام لكركدن وحصان بري وأيل وبيسون.
2
وتظهر قبور النياندرتاليين في المشرق العربي تقاليد دفن مشابهة، خصوصا فيما يتعلق بطي الجثة ضمن حفرة صغيرة، وتوجيه الجسم وفق محور شرق غرب.
تظهر الهياكل العظمية لإنسان النياندرتال المشرقي بوادر ابتعاد مورفولوجي (المورفولوجيا هو علم شكل الأحياء) عن الهيئة الكلاسيكية للنياندرتال النموذجي في أوروبا، واقترابا من هيئة الإنسان العاقل. وبشكل خاص تظهر لنا الهياكل المكتشفة في فلسطين آخر تبدل في الهيئة النياندرتالية قبل تحولها إلى شكلنا الحالي.
3
وقد مارس النياندرتاليون في فلسطين عادة الدفن في اتجاه شرق-غرب، بحيث يكون الرأس في اتجاه المشرق والعقب في اتجاه المغرب، ومعظم الهياكل المكتشفة كانت مسجاة على جانبها الأيمن، ومطوية بشدة ضمن حفر صغيرة، بطريقة تجعل الركبتين مضمومتين إلى الصدر.
4
وقد عثر على أكبر تجمع للقبور النياندرتالية الفلسطينية في مغارة السخول بجبل الكرمل، التي احتوت على عشرة هياكل عظمية تراوحت أعمار أصحابها بين الثلاثة أعوام والخمسين عاما، دفنت في حفر قليلة العمق في وضعية الانطواء ودون هدايا جنائزية مرافقة، وذلك فيما عدا أكثر المدفونين سنا الذي كان يقبض على عظم فك لخنزير بري. فإذا غادرنا فلسطين وتوغلنا شرقا، تعرفنا على عادات دفن جديدة وأكثر إثارة؛ ففي أوزبكستان يحاط جسد الميت بقرون ماعز مغروسة في الأرض، بلغ عددها في حالة طفل نياندرتالي ستة أزواج من قرون ماعز جبلي، متصلة بجزء من جمجمتها الأصلية ومغروسة حوله في انتظام.
5
وفي موقع شانيدار بالعراق، لدينا دلائل على عادة إحاطة جسد الميت بأنواع معينة من البراعم والأزهار، تبين للدارسين أنها من النوع الذي يستعمل اليوم لتحضير أنواع معينة من الأدوية والعقاقير، كما عثر في العديد من المقابر النياندرتالية المشرقية على هدايا جنائزية كالأدوات وعظام الحيوانات، ووجدت الأدوات حتى في قبور المواليد الجدد الذين لم يعرفوا بعد كيفية استخدامها.
6
ومن موقع شانيدار في العراق أيضا، لدينا اكتشاف على جانب كبير من الأهمية، يطلعنا على مدى تماسك الجماعة النياندرتالية، وتعاطف أفرادها وتعاونهم وحسهم الأخلاقي العالي؛ فقد عثر على هيكل رجل في الأربعين من عمره، تبين من الدراسة الدقيقة لعظامه أن صاحبه قد عاش طيلة حياته مشلول الجزء الأيمن من الجذع، وأنه غالبا ما استعان بأسنانه لتعويض حركة ذراعه الأيمن، ومع ذلك فقد وصل إلى هذه السن المتقدمة، بمعيار ذلك العصر، بفضل مساعدة الآخرين وحدبهم، وتم دفنه بكل عناية كما يدفن بقية الأفراد العاديين. وفي هذا ما يدل على درجة عناية الجماعة بأفرادها حتى المعوقين منهم وغير القادرين على بذل مجهود مساو في تحصيل القوت، وهي عناية قد لا تتوفر في بعض المجتمعات الحديثة والمتطورة.
7
والآن، ما هي النتائج التي يمكن أن توصلنا إليها الدراسة المتأنية لبقايا مدافن النياندرتال، والفرضيات التي يمكن صياغتها حول الحياة الروحية لذلك العصر؟ قبل المغامرة بتقديم الفرضيات، لا بد لنا من تصنيف هذه البقايا لمعرفة ما إذا كانت تبدي تكرارا يجعل منها شعيرة أو طقسا ثابتا. فأولا: في أغلب الحالات كانت الجثث مطوية بشدة ضمن حفر صغيرة وفي قبور إفرادية. وثانيا: تم توجيه الأجساد وفق محور شرق غرب في بعض الحالات لدى النياندرتال الأوروبي، وفي أغلب الحالات لدى النياندرتال المشرقي الأكثر تطورا من الناحية المورفولوجية. ثالثا: هناك العديد من الأمثلة تتم عن عناية خاصة برأس الميت، حيث تمت حمايته بأحجار كبيرة. رابعا: لدينا حالات غير شائعة عن إحاطة الجسد ببراعم وأزهار من أنواع معينة منتقاة. خامسا: هناك شواهد عديدة على قربان حيواني تم عند الدفن، وعلى دفن مواز لبقايا الحيوانات المذبوحة. سادسا: لدينا أمثلة كثيرة على هدايا جنائزية مكونة من أدوات أو عظام منتقاة، وقد وجدت الأدوات حتى في قبور الأطفال أو المواليد الجدد.
من تصنيفنا لإجراءات الدفن أعلاه، يتضح أن تكرارها عبر المناطق الواسعة التي انتشرت فيها ثقافة النياندرتال، يوحي بشعائر دفن قائمة على موقف أيديولوجي متماسك من مسألة الموت، ساد من شواطئ الأطلسي إلى أواسط آسيا، ويمكن تلمس خطوطه العامة ببعض الثقة، ووفق الاستقراء الآتي:
فأولا:
هناك معتقد واضح بأن الكائن الحي يتألف من جسد مادي وروح لطيفة، وأن هذه الروح تستقل عن جسد الميت لترحل إلى عالم آخر مواز لعالم الأحياء. ويبدو أن الروح في اعتقاد النياندرتالي كانت تكتسب عند استقلالها قوة غير عادية، تتخذ شكلا نافعا أو ضارا وفقا لموقف الأحياء منها. وهذا هو التفسير الذي يقود إليه إجراء ثني ركبتي الميت في حيزه الضيق القصير؛ لأن هذا الوضع من شأنه منع الجسد من التمدد والخروج إلى عالم الأحياء، إذا عاودته الروح التي غدت، بانفصالها، غريبة عن عالم الأحياء ومحملة بالقوى المؤذية.
ثانيا:
يتخذ الرأس أهمية خاصة في معتقد الروح المفارقة والعالم الموازي. ويدلنا على ذلك حماية الرأس بالألواح الحجرية، وكذلك توجيهه نحو الشرق الذي يرمز إلى البعث؛ لأنه بوابة ميلاد أكبر الأجرام السماوية، وهما الشمس والقمر. ونرجح أن الإنسان النياندرتالي قد اعتقد بأن الرأس هو مقر الروح، خصوصا وأن مثل هذا الاعتقاد قد وجد في العصر الحجري الحديث اللاحق.
ثالثا:
يبدو أن نثر الأزهار في قبر المتوفى
8
يؤدي معنى البعث الذي يؤديه توجيه رأس الميت نحو المشرق؛ فالأزهار رمز لانبعاث الحياة في الشجر كما هو الشرق رمز لانبعاث الجرمين العظيمين. وقد كان ظهور الأزهار الربيعية بشارة سارة للإنسان النياندرتالي؛ لأنه كان يعتمد في غذائه على جمع ما تجود به الأشجار إضافة إلى حصيلته من لحوم الطرائد.
رابعا:
يبدو أن دماء الحيوانات المذبوحة عند الدفن، كانت في اعتقادهم تطلق طاقة من نوع خاص، تعين التوءم الروحي للمتوفى على عبور البرزخ الفاصل بين العالم المادي والعالم الموازي. ولعل مما يرجح هذا الافتراض أن الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى اللاحق، كان يعتقد بوجود قوة حيوية في الدم، ويقوم بطلاء أجساد المتوفين وجدران قبورهم بمادة حمراء تشبه لون الدم، للإيحاء رمزيا بطاقة الحياة. وربما كان النياندرتاليون يقيمون وليمة جنائزية عند الدفن، يأكلون فيها لحوم حيوانات القربان، ويتركون بعضها للتوءم الذي يستعد لرحلته الطويلة.
خامسا:
استهل النياندرتال عادة الهدايا الجنائزية التي استمرت حتى العهود التاريخية المتأخرة، وقد تألفت هدايا النياندرتال من الأدوات الحجرية، وقطع معينة من عظام الحيوانات. ولما كانت الأدوات قد وجدت في قبور المواليد الجدد، فإن من المستبعد أن تكون لغاية استخدام التوءم الروحي؛ لأن هؤلاء المواليد لم يكونوا قد تعلموا بعد استخدام الأدوات؛ ولذلك نرجح أن يكون لها وظيفة سحرية ورمزية من نوع خاص، ولا نستطيع تكوين فرضية عنها الآن. أما الهدايا الجنائزية المؤلفة من العظام التي يجري توزيعها حول جسد الميت أو يقبض بيده على بعضها، فإنها مختلفة عن عظام الذبيحة، وجرى اختيارها بشكل انتقائي لتحمل قيمة رمزية تشير إلى ما وراءها، فهي على الأغلب مقر لقوة من نوع ما تتصل بالعالم الموازي الذي يرحل إليه الميت. وبشكل خاص فإن قرون الماعز التي زرعت حول هيكل طفل نياندرتالي في أوزبكستان، تردد أصداء بعيدة لطقوس ومعتقدات من العصر النيوليتي اللاحق، تدور حول قرون الماعز أو الثور، والتي اعتبرت رمزا لقوة ما ورائية عظمى ومقرا لها.
لقد استعملت منذ قليل مصطلح «قربان حيواني» لوصف الحيوانات المذبوحة عند الدفن، وهو اصطلاح ينبغي ألا يؤخذ بحرفيته عند وصف أي طقس يتعلق بذبح الحيوانات في العصر الباليوليتي. ففكرة القربان أو الأضحية هي فكرة متأخرة، وطقس الذبائح بمضمونه المعتاد، أي تقديم ذبيحة من أجل استرضاء إله ما، هو طقس متصل بديانات العصور التاريخية بشكل رئيسي، ولا أكاد ألمح له وجودا حتى المراحل المتأخرة من العصر الحجري الحديث (النيوليتي). أما إذا صادفتنا ذبائح طقسية من نوع ما لدى إنسان العصر الباليوليتي ومطالع النيوليتي، فينبغي أن تفسر ضمن السياق الداخلي للمعتقدات والممارسات القديمة، لا استنادا إلى ما نعرفه عن الأديان السائدة اليوم أو أديان العصور التاريخية السالفة. إن مفهوم القربان مرتبط بمفهوم الآلهة المشخصة، أو الكائنات الروحية المقدسة التي صارت إلى ما يشبه الآلهة، مثل أرواح الأسلاف لدى بعض الثقافات. أما عند عتبة الدين هذه، فإن فكرة الإله الذي يعلو على مظاهر الطبيعة ويتحكم فيها باعتباره كيانا روحيا مستقلا، لم تتشكل بعد، ولم يكن الأسلاف المؤلهون قد حازوا تلك المكانة العليا التي سنواجهها لدى الثقافات اللاحقة.
إن ما نواجهه عند هذه المرحلة من عتبة الدين هو قوة قدسية غفلة، تنبعث من عالم ما ورائي مجهول، مواز لعالم المظاهر الطبيعية المحسوسة المتنوعة الذي يعيشه النياندرتالي. وهذه القوة لا تتجسد في أية شخصية روحية ذات كيان معرف ومستقل. فلقد اعتقد الإنسان النياندرتالي، وكما تظهر مخلفات مدافنه، بوجود عالمين متوازيين ومتبادلين في التأثير، يشكلان وحدة متكاملة تضم الوجود بأسره؛ فعالم يراه ويعيشه بحواسه، وعالم لا يراه رغم تأثيره فيه وفعاليته في عالمه. وهو يرحل بين هذين العالمين عبر برزخ الموت، الذي يعبره وفق طقوس خاصة، وجدناها متماثلة إلى حد كبير في كل مكان وجدت فيه آثار النياندرتال. ولسوف أطلق على هذين العالمين، منذ الآن، اسم عالم اللاهوت وعالم الناسوت، وذلك بصرف النظر عن المدلول الدقيق لهذين المصطلحين في الأدبيات الإسلامية. وفي دراستنا المقبلة للمعتقدات الدينية الإنسانية، سوف نرى أنها تنطلق جميعا من التعرف على عالم اللاهوت المفارق من جهة، والمنبث عبر عالم الناسوت من جهة أخرى، وأن النشاط الديني على تعدد أشكاله عبر العصور واختلاف الثقافات ليس إلا إقامة تواصل بين هذين العالمين.
وهكذا نستطيع الحديث عن «دين نياندرتالي» دون أن نتعب أنفسنا في البحث عن «آلهة نياندرتالية». ولسوف نتعود منذ الآن على التعامل مع ديانات صغرى أو كبرى لا وجود للآلهة فيها. ولكن يتوجب علينا منذ الآن أيضا أن نتخلى عن أطر تفكيرنا الحالية، والطريقة التي ننظر بها إلى الدين من خلال ثقافتنا الخاصة، لنكون أقدر على فهم واستيعاب ثقافات بعيدة ومغايرة، دون أن نسقط ما نعرفه على كثير مما لا نعرف، وهي آفة يتصف بها الفكر الحديث إجمالا. لقد كان أول سؤال يطرحه الأنتروبولوجيون على أنفسهم وهم يشرعون في دراسة دين شعب بدائي ما، هو: ما هي الآلهة التي يعبدونها؟ فإن لم يجدوا آلهة بالمعنى الذي يفهمونه، ابتكروا لهم آلهة تتفق مع مفاهيمهم الخاصة عن الدين والآلهة. من ذلك مثلا ما وجده الدارسون الأوائل لدين الهنود الحمر في أمريكا الشمالية من مفاهيم غريبة عليهم، مثل مفهوم الواكوندا، وهي قوة كونية كبرى لا تتمثل في شخصية إلهية من أي نوع، بل تنبث في الكون وتفعل من داخله، فأطلقوا عليها مصطلح «الروح الكبرى»، واعتبروها بمثابة كبير الآلهة. وما زال المصطلح مستعملا في حقل تاريخ الأديان رغم ضلاله، وتقصيره عن إيصال المضامين الحقيقية لمفهوم الواكوندا.
ولكن، هل عبر الإنسان النياندرتالي عن اعتقاده بعالم ما ورائي، بغير ما رأيناه من بقايا مقابره، وكيف عمل على إقامة صلة بينه وبين ذلك العالم؟ لقد ألمحنا سابقا إلى أن النياندرتاليين لم ينتجوا أي نوع من أنواع الفن التشكيلي، الذي يمكن لنا من خلاله النفاذ إلى عالمهم الفكري، إلا أن أية عملية ترتيب مقصود لعناصر منتقاة من الوسط الطبيعي لا يتضح هدفها النفعي أو الاستعمالي، يمكن أن تزودنا بمفاتيح مهمة لفك مغاليق الوسط الفكري لأولئك الناس. فلقد وجدنا على سبيل المثال أن غرس قرون الماعز الجبلي حول جسد الميت بطريقة خاصة، هو إجراء يخفي وراءه اعتقادا باحتواء هذه القرون على قوة من نوع ما. ولكن اكتشافات مثيرة أخرى قد ساعدت على إلقاء ضوء أكثر سطوعا على المعتقد النياندرتالي.
في جبال الألب، تم اكتشاف ثلاثة كهوف تتوضع على ارتفاعات تتراوح بين السبعة آلاف والثمانية آلاف قدم، وترجع إلى أواخر الباليوليت الأوسط، احتوى كل منها على جماجم عظام دببة مغاور، تم ترتيبها بشكل اصطناعي مقصود، أطلق عليها بعض الباحثين اسم «مقامات الدب»، ورأوا فيها دليلا على عبادة منظمة تدور حول الدب، خصوصا وأن طقوسا مشابهة ما زالت قائمة لدى بعض الشعوب البدائية في الدائرة القطبية الشمالية. في الكهف الأول والثاني من كهوف الألب، وعلى عمق لا بأس به من المدخل، هناك حائط حجري بارتفاع 23 إنشا يرسم ما يشبه الصندوق المفتوح، حفظت في داخله عدة جماجم لدببة المغاور ورتبت بطريقة خاصة؛ فبعضها قد أحيط بحجارة صغيرة وآخر قد وضع على ألواح حجرية، وهنالك جمجمة ارتكزت مقدمتها على عظم الساعد وأخرى قد اخترق عظما الساعد محاجر العينين فيها. أما في الكهف الثالث فقد وجدت خمس جماجم مع عظام الساعد محفوظة فيما يشبه الخزانة الحائطية. وقد رصفت أجزاء من هذه الكهوف بأحجار مسطحة، وقامت في بعض جوانبها مناضد حجرية استخدمت لشطف الصوان، ووجدت حولها أدوات صوانية من الطراز ما قبل الموستيري.
9
وهناك كهف من الباليوليت الأعلى يظهر استمرارية لطقوس الدب في الباليوليت الأوسط، ويلقي ضوءا عليها، رغم انتماء هذا الكهف إلى فترة الإنسان العاقل؛ فقرب منتسبان بفرنسا، اكتشف كهف يحتوي على قاعة تقع في نهاية ممر طويل، وجدت فيها دمية طينية كبيرة لدب في وضعية الربوض، وقد باعد ما بين قائمتيه الأماميتين، وبينهما جمجمة لدب ملقاة على الأرض، والدمية منفذة بطريقة فجة ودون عناية بالتفاصيل. لقد لفت نظر المكتشفين عدم وجود رأس للدمية في الأصل؛ فالرقبة منفذة بطريقة لا تشير إلى أنها قد اتصلت برأس مفقود، إضافة إلى وجود ثقب عند سطحها الأعلى، يدل على أن عصا كانت تغرس فيه لحمل ثقل ما يرتكز على الرقبة. وهذا ما قاد إلى نتيجة منطقية واحدة، وهي أن رأسا لدب مذبوح (أو جمجمة له) كان ينصب فوق رقبة الدمية، التي لم تكن في الواقع سوى حامل أو قاعدة للرأس الطبيعي، وأن هذه القاعدة العميقة في الكهف لم تكن إلا مقاما مقدسا تقام عنده طقوس ذات علاقة بعبادة الدب.
10
لقد اعترض بعض الباحثين في عصور ما قبل التاريخ على وجود ترتيب متعمد لجماجم وعظام الدب في كهوف جبال الألب المذكورة أعلاه،
11
ولكني أقف إلى جانب الرأي المخالف الذي يرى في التكوينات التي اشتملت على العظام ترتيبا مقصودا بدقة، وإن كانت الدلالات الحرفية لهذه التكوينات غير ممكنة التفسير في الوقت الحاضر. وكل ما أستطيع استنتاجه عند هذه المرحلة من معلوماتنا عن الثقافة النياندرتالية، هو أن لتلك التكوينات وظيفة رمزية تتصل بالمعتقد الديني، وأنها تتعلق بالنشاط الهادف إلى إقامة علاقة مع المستوى القدسي للوجود، الذي أحس النياندرتالي حضوره في النفس وفي الطبيعة. ومما يدعم رأينا في الوظيفة الرمزية لتكوينات كهوف الدب، أن الترتيب المقصود لرءوس الحيوانات في أماكن مخصصة ذات طابع ديني، قد استمر إلى العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، حيث نجد مقامات مشابهة في مستقرات المزارعين الأوائل في سوريا وجنوب الأناضول، وقد رتبت فيها رءوس الثيران وقرونها بطريقة خاصة ذات دلالة أيديولوجية دينية، بشكل بدا وكأن الثور قد صار هدفا لاختيار روحي، على حد تعبير جاك كوفان، الذي درس بعناية مقامات الثور في تل المريبط بسوريا. ومن ناحية أخرى، فإن كهف منتسبان الذي وجدت فيه دمية الدب الطينية، والذي يعتبر حالة متأخرة لاستمرار طقوس الدب النياندرتالية، لا يمكن تفسير محتوياته إلا باعتبارها أدوات لطقوس تدور حول الدب؛ فهنا كان الصيادون يضعون رأس الطريدة المذبوحة حديثا على المحور المغروس في رقبة الدمية، ويمارسون حولها طقوسا خاصة. غير أن ما أختلف فيه عن بقية القائلين بالتفسير الديني لكهوف الدب، هو أن تلك الطقوس لم تكن قائمة على معتقد يؤله هذا الحيوان ويرفعه إلى مستوى المعبود الأعلى، بل إنها تخفي معتقدات من نوع آخر، هي المعتقدات التي قامت عند عتبة الدين قبل ظهور مفهوم الإله، وقبل تشكل عالم الآلهة.
كان الأنتروبولوجي المعروف ليو فوربينيوس أول من صاغ مصطلح «سيد الحيوانات» (=
Animal Lord - Animal Master )، وذلك في معرض وصفه لطقوس بعض قبائل الصيادين في الصحراء الأفريقية. وسيد الحيوانات هذا، كما وجده فوربينيوس لدى قبيلة «المحاليبي» التي انقرضت الآن، هو الذي يمكن أفراد القبيلة من صيد الطرائد ويسوقها إليهم. وهو يظهر لهم في هيئة حيوانية لا بشرية، وعلى الألب في هيئة الجاموس البري الذي يصطادونه أكثر من غيره؛ ولذا فإنهم يدعونه أيضا بالأب الجاموس، وهم يعبدونه ويرفعون إليه الصلاة. وقد وهبهم هذا المعبود قرن جاموس يعينهم في السيطرة على طرائد الصيد، وهم يستخدمونه على الشكل التالي: فقبل شروق الشمس، يقوم المحاليبي برسم صورة على الرمل للطرائد المنوي صيدها، وعند بزوغ الشمس تماما ترش الصور بدم يراق من قرن الجاموس الطقسي؛ وبذلك يسيطر الصيادون على موضوعات صيدهم وينجحون في الإيقاع بها.
12
وقد سيطر هذا التفسير فيما بعد على دراسة معتقدات ما قبل التاريخ ، وصار مصطلح «سيد الحيوانات» مفتاحا لتفسير المعتقدات الدينية البدائية منها والأصلية، والتي تتوسل بصور الحيوان من أجل إيصال مضامينها الرمزية. فسيد الحيوان لدى الصيادين، هو الحيوان المؤله الذي ينتمي إلى النوع الذي تصطاده القبيلة أكثر من غيره، ويلعب الدور الأساسي في استراتيجيتها الغذائية.
إن تفسير الوثيقة الأقدم والأكثر غموضا، اعتمادا على الوثيقة المشابهة الأحدث منها والأكثر وضوحا، هو إحدى مشكلات دراسات ما قبل التاريخ؛ فهنا يميل الباحثون إلى إعطاء معنى للوثائق ذات الطابع الديني، عن طريق مقارنتها بما يشبهها في الثقافات الكتابية اللاحقة، أو في الثقافات البدائية الحديثة. وهكذا تمت مثلا مقارنة رءوس الثيران التي كانت موضع تقديس في بعض مواقع العصر الحجري الحديث، كالمريبط وشتال حيوك، بنظائرها في الحضارة الكنعانية اللاحقة أو الكريتية، وأسقط مفهوم «سيد الحيوانات» المستمد من ثقافات بدائية حديثة، على التشكيلات ذات الطابع الرمزي في الباليوليت الأوسط، أو الوثائق الفنية للباليوليت الأعلى. يضاف إلى ذلك أن مثل هذه المقارنات، رغم ابتعادها عن تقريبنا من الحقيقة لأسباب شرحناها سابقا، فإنها تجري انطلاقا من مفاهيمنا الحديثة التي نعتبرها المعيار الأصح والأمثل. إن مثل هذه المحاكمات والمقارنات هي التي تقود إلى ابتكار مفاهيم مثل «سيد الحيوانات»، والبحث عن «آلهة» الإنسان الأول في تلك الأشكال الحيوانية التي كانت مركزا لطقوسه.
ولكن ماذا يعني أن يعبد إنسان ما دبا أو ثورا أو كبشا، أو غير ذلك من شركائنا النبلاء على هذا الكوكب؟ إن الدب أو أي حيوان آخر بالغا ما بلغ من القوة والجبروت، كان بالنسبة لحضارات الصيد طريدة سهلة أو صعبة للإنسان؛ فالنياندرتالي الذي قيل عنه إنه يعبد الدب كان في الواقع صيادا للدب، والإنسان العاقل من أهل الباليوليت الأعلى الذي قيل إنه يعبد الثور كان صيادا للثور، وهكذا إلى نهاية هذه السلسلة من العابدين والمعبودين المفترضين. فكيف يؤله الإنسان طريدة من طرائده ويتوجه إليها بالعبادة؟ وحتى لو سلمنا جدلا بأن ثقافة ما قد عبدت الدب مثلا، فأي دب عبدت؟ إن الدببة متشابهة، وهي لا تظهر كثيرا من الفروق الفردية كما هو شأن بني الإنسان، فكيف تم اختيار الدب المعبود من بين هذا الحشد المتشابهة ألوانه وأشكاله؟ أم هل إن الفصيلة كلها كانت موضع عبادة، وإن أي دب يوضع في المقام المقدس يمكن أن ينوب مناب أي دب آخر؟ حول هذه النقطة الأخيرة يورد أحد الباحثين المدافعين عن مفهوم «سيد الحيوانات» النقاش الآتي: «إن الثور العظيم الذي يلعب دورا بارزا في التصورات الميثولوجية للصيادين، هو سيد الحيوانات والنموذج الأعلى البدئي لها (=
Archetype ). وهنا يمكن لنا استخدام تعبير فلسفي ليس بعيدا جدا عن التفكير البدائي كما نتصور، وهو المثال الأفلاطوني. فالثور العظيم هنا يمثل الفكرة الأفلاطونية للنوع، إنه يمتلك بعدا لا يملكه بقية أفراد القطيع؛ فهو لا زمني، خالد كفكرة، ولا يمكن القضاء عليه. أما البقية فمجرد ظلال خاضعة لمقولات الزمان والمكان، وبينما يسقط هؤلاء في الشراك ويقتلون فإنه في منجاة عن الأذى؛ لأنه تعبير عن الجوهر الذي تخلق منه بقية أفراد نوعه.»
13
إن مثل هذه الالتفافة البارعة على المشكلة، تظهر نوع الصعوبات التي تعترض القائلين بتأليه الحيوان وعبادة «سيد الحيوانات». ولرب قائل يقول بعد ذلك بأن «سيد الحيوانات» ليس إلا صورة للإله وليس الإله المعبود نفسه، وأن الثقافات الأصلية قد تصورت آلهتها في هيئة حيوانية كما بقي المصريون يفعلون حتى الأزمنة التاريخية المتأخرة. وهنا يطرح التساؤل البدهي نفسه، وهو: لماذا فضل الإله أن يظهر في صورة الحيوان حصرا من دون صورة الإنسان، رغم إحساس الإنسان بمكانته المتميزة في مملكة الطبيعة؟ ولماذا لم تظهر صورة الإنسان كاملة في التصوير الديني لعصور ما قبل التاريخ حتى أعتاب الفترات التاريخية؟
14
أما عن التقاليد الدينية المصرية التي حافظت على بعض الملامح الحيوانية لبعض من آلهتها، فهذا أمر سوف نتعرض له في حينه، ولا يشكل موضوع مقارنة مشروعة هنا.
إلى ماذا تشير ترتيبات رءوس الدب في مقامات الباليوليت الأوسط إذن؟ في تفسيرنا لشتات بقايا قبور النياندرتال، قلنا إن ذلك الإنسان كان أول من دفن موتاه بعناية خاصة وفق طقوس ثابتة متكررة، وصاغ لنفسه، ولنا من بعده ، أولى التصورات الدينية. واستنتجنا أن تصوراته تلك كانت تدور حول مستوى لا مرئي، أو مجال قدسي، ترحل إليه أرواح الموتى بعد مغادرتها للمستوى المرئي المعاين والمعاش، وأسمينا المجالين أو المستويين للوجود بعالم اللاهوت وعالم الناسوت. وإضافة إلى ذلك فإن كل الظواهر الطبيعية الغامضة وغير المفسرة، المواتية منها لحياة الإنسان أو المهددة لها، قد فسرت على أنها أعراض صادرة عن المستوى الموازي القدسي؛ فالزلازل والبراكين والأعاصير وتتابع الفصول وحركة الأجرام السماوية، ليست إلا ظواهر ناجمة عن فعل قوة غفلة وغير مشخصة تنشأ عن عالم اللاهوت لتؤثر في عالم الناسوت، وتعود إلى مصدرها في دورة دائبة، قوة منبثة في العالم المرئي وليست منه في الآن نفسه. من هنا فقد شعر النياندرتالي بالحاجة إلى إقامة صلة مع ذلك العالم، فعمد إلى إفراد بقع مقدسة يتنزل فيها اللاهوت في عالم الناسوت، أو يرتفع منها الناسوت إلى عالم اللاهوت، وكانت تلك المقامات الأولى في أعماق المغاور، بمثابة مقرات للتمارين الدينية الأولى التي مارسها الإنسان. ولكن الإنسان لا يستطيع أن يركن إلى ملاذ عميق في ظلمة الأرض، متأملا في ذلك العالم غير المرئي، محاولا النفاذ إليه أو استجلاب قوته، دونما وساطة أو شفاعة، بل كان لا بد له من التفكير في اللامرئي من خلال موضوع مرئي يرمز إليه ويشير، ويتخذ دور الوسيط بين السماء والأرض، وهذا الموضوع المرئي هو شارة قدسية تجعل الغائب حاضرا أو المجرد ملموسا. وبالنسبة إلى الإنسان النياندرتالي كانت هذه الشارة القدسية هي رأس الدب الذي يرمز إلى القوة الكونية التي تربط عالم اللاهوت بعالم الناسوت. وقد تم اختيار رأس الدب تحديدا؛ لأن النياندرتالي قد رأى في الدب نموذجا أعلى للقوة في المسرح الطبيعي الذي يعيشه، وهو أصلح ما يكون لتمثيل القوة الشمولية الغفلة السارية في الكون.
ولتقريب مفهوم الشارة القدسية إلى الأذهان، أقول بأن أكثر أشكال التأمل الديني سموا وتجريدا في ديانات الشرق الأقصى، تبدأ مستعينة عادة بشارة قدسية ما، برمز من هذا العالم يشير إلى ما وراءه في المستوى الآخر، الذي يحاول المتأمل إقامة صلة معه. من هذه الشارات القدسية، التكوين التشكيلي المعروف باسم المندالا. والمندالا هي دائرة ترتسم في داخلها أشكال تنتظم حول المركز في ترتيب ذي دلالة، فيقوم المتأمل بتركيز بصره عليها، ناظرا من خلالها إلى أعماق نفسه صعودا نحو العوالم القدسية. فإذا كان طالب الاستنارة في الديانات الشرقية، وهو أقدر الناس طرا على تلمس العوالم التجريدية، راغبا في شارة من هذا العالم تعينه على عقد صلة مع لاهوته، فإن الإنسان الأول كان أكثر منه حاجة إلى مثل هذه الشارة. وإذا كانت المندالا شكلا فنيا معدا بعناية فائقة، ويحمل وراءه تاريخا طويلا من التجربة الفكرية والروحية، فإن شارة الإنسان الأول كانت هيئة طبيعية غير مصقولة من عالمه ومن أكثر مجالات الطبيعة قربا إليه.
إن الشكل الحيواني الذي تم تشخيصه في تكوينات الباليوليت الأوسط، ومن بعده في فنون الباليوليت الأعلى وصولا إلى العصر الحجري الحديث، قد تم استخدامه في وظيفة رمزية بحتة، ولم يكن بأية حال صورة لإله معبود؛ إنه رداء لقوة ما ورائية يتم استحضارها من خلاله وعقد صلة معها. أما لماذا قامت ثقافة ما باختيار حيوان معين أو أكثر، من بين عشرات الخيارات المتاحة، فأمر يحتمل أكثر من تفسير، ولسوف أتقدم بما يبدو أكثرها إقناعا عند هذه المرحلة من البحث؛ فالإنسان الأول الذي كان يشعر بوحدة عضوية تجمعه إلى كل مظاهر الحياة على الأرض، كان يعقد صلة روحية مع فصيلة معينة من الحيوان، هي غالبا موضوع صيده الرئيسي ومصدر غذائه. وكان لهذا السبب يحس معها بنوع من المشاركة، وقيام نوع من «العهد» بينهما لا تنفصم عراه، وهو عهد ملزم لكلا الطرفين بالدرجة والقوة نفسها. لهذا لم يكن صيده لها وتحويلها إلى غذاء بمثابة فعل عادي دنيوي، بل كان طقسا له من القدسية ما لطقوس الصلوات والعبادة. من هنا، فإن الشارة القدسية سوف تستمد من أقرب العوالم إلى الصياد؛ من فصيلة حيوانه المفضل أو رفيقه الروحي؛ فهنا تتحول كل الهيئات المتماثلة لأفراد لا حصر لهم من الطرائد لتندمج في هيئة مثالية واحدة، هي في الآن نفسه تجسيد أسمى للفصيلة وشارة قدسية لعالم اللاهوت.
إن الارتباك الحاصل في مجال البحث عن الحياة الروحية لإنسان العصور الحجرية، ينبع من كوننا نبحث في ديانة أي جماعة بشرية عن إله وعن صورة إله، وتغيب عنا حقيقة أن فكرة الإله لم تكن سوى ناتج متأخر نسبيا من نواتج الحياة الروحية للإنسان؛ فقبل الإله المشخص الذي يحمل معه تاريخا وسيرة حياة ومعالم شخصية واضحة ومستقلة، أحس الإنسان بحضور مجال قدسي، بعالم ألوهي لا تحكمه شخصية معينة فاعلة، بل تفيض منه قوة شمولية تتخلل عالم الناسوت، كل زاوية وركن، كل هيئة حية وجامدة. ولم يكن هنالك في الحقيقة أنسب من الصورة الحيوانية لاستخدامها في الرمز إلى تلك القوة الغفلة؛ فالحيوان لا شخصية له، ولا يتمتع بفردية ظاهرة كشأن الإنسان، والدب المفرد هو دب وحسب، بلا اسم وبلا هوية ولا سيرة ذاتية، أما الهيئة الإنسانية فما إن تصب في قالب تشكيلي حتى يتم التساؤل عن هويتها وأصلها وفصلها وعلائقها. من هنا يمكن القول بأن ابتداء تشكل الآلهة خروجا من عالم اللاهوت غير المتمايز، قد ترافق مع حلول الشكل الإنساني محل الشكل الحيواني في التصوير الديني. وقد تمت هذه العملية ببطء شديد وعبر عشرات الألوف من السنين، ولم تكن الأشكال الإنسانية الأولى التي عبرت عن عوالم الألوهة سوى أشكال مفرطة في الرمزية، ولا تحمل ملامح شخصية محددة؛ الأمر الذي جعل وظيفتها أقرب إلى الوظيفة الرمزية للشكل الحيواني.
سوف نتعرض في الفصل المقبل لبداية ظهور الشكل الإنساني مع ظهور التكوينات النحتية العشتارية التي يدعوها الأوروبيون بفينوسات العصر الحجري، ولكن بعد وقفة مطولة مع أولى كاتدرائيات الإنسان العاقل، وأعني بها كهوف الرسوم الجدارية. (3) الباليوليت الأعلى وكاتدرائيات الأعماق
إن النياندرتال الكلاسيكي الذي عرفته أوروبا خلال الباليوليت الأوسط، هو غصن منقطع من شجرة التاريخ الطبيعي للإنسان، وقد انقرض بعد أن بدأت طلائع الإنسان العاقل تفد من مناطق المشرق العربي، وهي طلائع تطورت عن النياندرتال المشرقي. فهياكل النياندرتال التي تم اكتشافها في فلسطين بشكل خاص، تظهر مرحلة وسطى من التطور نحو هيئة الإنسان العاقل، وحالة انسلاخ كان يقوم بها النياندرتالي هنا، عن الهيئة النموذجية المعروفة في أوروبا. إن عظام أطراف الهياكل التي اكتشفت في مغارة السخول، على سبيل المثال، تبدي شبها كبيرا جدا بعظام أطراف الإنسان العاقل، وكذلك عظم الفك الأسفل والجزء الخلفي من الجمجمة. ويبلغ الشبه درجة يعتقد علماء الأنتروبولوجيا معها بأن هذه القطع لو اكتشفت مستقلة عن بقية هياكلها، لكان من الصعب التعرف عليها كأجزاء من هياكل نياندرتالية. وهكذا يبدو ظهور الإنسان العاقل في الشرق الأدنى كنتيجة واضحة لتطور محلي، أما في أوروبا فقد ظهر الإنسان العاقل دفعة واحدة، مع أدواته الجديدة التي كانت شائعة في الشرق الأدنى منذ زمن بعيد؛ الأمر الذي يدل على وصوله مع ثقافته المكتملة من المشرق، عن طريق البلقان فأوروبا الوسطى، حيث عثر على دلائل تشير إلى مثل هذا الارتحال.
15
ورغم ذلك فإن ثقافة الباليوليت الأعلى التي ابتدرها الإنسان العاقل المشرقي لم تزدهر في مواطنه الأصلية، بل في مواطنه الأوروبية التي ارتحل إليها، بحيث وصلت قمة أوجها وأتمت دورتها كاملة في أوروبا. تتميز هذه الثقافة، التي ابتدأت في وقت ما بين 35000 و40000 قبل عصرنا هذا، عن سابقتها بميزتين رئيسيتين؛ الأولى تسارع التقدم التكنولوجي، والثانية ولادة الحس الجمالي عند الإنسان. وتتجلى النهضة الجمالية للباليوليت الأعلى بشكل خاص في التصوير الجداري، الذي اكتشفت آياته البديعة في كهوف تقع في أعماق بعيدة عن سطح الأرض، أفردها إنسان ذلك العصر لهذه الغاية.
نظرت حضارتنا الحديثة إلى فن التصوير على أنه من الفنون العليا المرتبطة بالمدنيات الكبرى؛ لذلك فقد كان من الصعب على جمهرة المهتمين، وحتى الاختصاصين، أن يقتنعوا بأن ذلك الإنسان المجهز بفأس حجري، كان قادرا على إنجاز تلك الروائع في فن التصوير، والتي يمكن وضعها جنبا إلى جنب مع روائع الحضارات العليا ، بما فيه الحضارة الغربية الحديثة. وقد ساعد على خلق هذه الشكوك في بداية الأمر، أن اكتشاف كهوف الرسوم الجدارية قد تم قبل أن يكون الرأي العام والدوائر المعنية في حالة تهيؤ لقبولها؛ ولذا فقد بقيت فترة طويلة في حالة شك وتجاهل لقيمتها التاريخية. ففي عام 1875م، على سبيل المثال، اكتشف كهف التاميرا في إسبانيا، رحالة ودارس آثار هاو، وتردد عليه مرات كثيرة حتى تعرف على معظم قاعاته وأروقته. وعندما أعلن هذا الباحث الرائد عن اكتشافه، وعن رأيه بخصوص علاقة رسوم هذا الكهف بإنسان ما قبل التاريخ، قوبل بعاصفة قوية من الاستغراب، وحتى السخرية أحيانا، ولم يتم الاعتراف بانتساب هذا الكهف إلى العصور الحجرية القديمة حتى عام 1902م، وبعد فترة لا بأس بها من موت مكتشفه. ورغم أن الوسائل الحديثة في تاريخ اللقى الأثرية، قد كشفت تدريجيا عن أصالة جميع رسوم الكهوف المعروفة وأحقية الإنسان القديم بها، فإن ظلال الشك لم تنقشع عن بعضها إلى ما بعد فترة الخمسينيات من القرن العشرين.
16
إضافة إلى فن الكهوف الذي يمثل قمة النهضة الجمالية لعصور ما قبل التاريخ طرا، فقد تمثل الحس الجمالي لذلك العصر أيضا بصناعة الحلى وقطع الزينة، مثل الأطواق المصنوعة من أسنان الغزال المزخرفة بالأشكال المحزوزة والأساور وشبكات الشعر المصنوعة من الخرز، والأقراط التي تتدلى منها أقراص من حجر أو طين مشوي أو من عاج محفور. وقد اكتشفت قطع الزينة هذه في مقابر بالباليوليت الأعلى؛ فقد كان موتى ذلك العصر من النساء والرجال يدفنون بكامل لباسهم وزينتهم التي كانت لهم في الحياة، ويظهر لنا من بقايا المقابر أن استخدام قطع الزينة كان شأنا مشتركا بين الجنسين، حتى إن الرجال فاقوا النساء أحيانا زينة وتبرجا. وكان الدفن يتم في قبور إفرادية وتحت أرضيات كهوف المعيشة، أو في مواقع المعسكرات المقامة في السهول المكشوفة. وتميزت هذه القبور عن سابقتها النياندرتالية، إضافة إلى الزينة المصطحبة، بأن أجساد الموتى كانت تطلى باللون الأحمر المصنوع من المغرة الحمراء، إشارة إلى القوة الحيوية الكامنة في الدم، وتمنيا وإيحاء ببعث قريب. وهذا ما يقودنا إلى متابعة استكشاف العالم الروحي لإنسان العصر الحجري القديم في آخر حلقاته التي استمرت حتى 12000 عام من عصرنا هذا، معتمدين على شواهد أوضح ووثائق أكثر غزارة ودلالة، وسنبتدئ برسوم الكهوف.
17
فن الكهوف
تشكل المنطقة الفرانكو-كانتربيرية (Franco-Canterbrian) ، الممتدة بين جنوب فرنسا وشمال إسبانيا، المنطقة التقليدية لكهوف الرسوم الجدارية؛ فهي أغزر المناطق بهذه الكهوف، كما أن الرسوم تشكل مجموعة متجانسة في روحها وأسلوبها العام، إضافة إلى قدمها واحتوائها على أعرق نماذج فنون الإنسان العاقل. وقد تم حتى الآن الكشف عن مائة كهف أو يزيد، سواء في المنطقة ذاتها أم في امتداداتها داخل إسبانيا وفرنسا وجنوب إيطاليا. إن أول ما يلفت النظر في الكهوف الكانتربيرية هو تشابه تكوينها الطبيعي وهيئاتها الداخلية، وطريقة توزيع الرسوم في ردهاتها وأروقتها؛ فهذه الكهوف جميعها يمتد إلى أعماق موغلة في باطن الأرض، قد تصل إلى الميل في بعض الأحيان أو تزيد. أما الأماكن التي اختيرت كمساحات للرسم فبعيدة عن المداخل، ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر ممرات طويلة مظلمة ومتعرجة، تعترضها وهدات خطرة، وقد تضيق الممرات في بعض أقسامها إلى درجة لا يمكن معها متابعة التقدم فيها إلا حبوا أو زحفا. وعندما تنفتح هذه الممرات الخطرة أخيرا على القاعة الرئيسية، وتظهر الصور بكل جلالها على أضواء مصابيح اليد الكهربائية، أو فيما مضى على ضوء المصباح الزيتي المتراقص، يكون المسافر إلى هذه البقع النائية الغامضة، قد غادر الجو العلوي بواقعيته وإيقاعه الزمني، وولج إلى بؤرة مكان سحري ينتمي إلى مستوى آخر للوجود وزمن آخر. فما الذي تنطوي عليه هذه المقامات السفلى؟
في كهف لاسكو المتعدد الردهات والقاعات، والذي يدعوه البعض بقية سستين العصر الباليوليتي، تيمنا بقبة سستين الفاتيكان التي نفذ صورها مايكل أنجلو، تمتلئ الجدران بأشكال لا حصر لها من الثيران والبيسون والخيول البرية والوعول. ومثله أيضا كهف الإخوة الثلاثة وغيرهما؛ مئات من صور الحيوانات المفردة تتوضع بعضها قرب بعض، أو يتعدى حيز بعضها على الحيز المجاور، فتتداخل حدود الأشكال وتتراكب. في هذه المساحات المزدحمة بالصور، يصعب على الفاحص تبين مشهد أو تكوين يجمع بين حيوانين أو أكثر، فكل صورة لحيوان منفذة في معزل عن الصورة الأخرى وفي تجاهل تام لوجودها القريب. وقد قام القس آبي برويل
A.H. Breuil ، وهو أهم دارس لرسوم الكهوف الكانتربيرية، باكتشاف المستويات الزمنية المتتابعة التي نفذت فيها رسوم الكهوف، والتي تبدو لأول وهلة وكأنها رسمت عبر فترة زمنية واحدة. وقد وجد برويل أن أقدم الصور مرسوم باللون الأسود، يليها زمنيا اللون الأحمر؛ فالرسوم من الألوان الثلاثة، وهي الأحمر والأسود والأصفر. كما لاحظ أن بعض الصور قد خضع للترميم والتجديد، على مدى عشرات القرون المتوالية التي بقيت خلالها هذه الكهوف مهوى أفئدة إنسان الباليوليت الأعلى. أما عن الأشكال المتداخلة أو المتراكبة، فيرى بعض الدارسين أن أجزاء من المساحات الأقدم قد طليت من قبل الفنانين في الحقبة الأحدث بأرضية لونية قابلة للتأكسد، ورسمت فوق الأرضية الجديدة أشكال أخرى، وعندما زالت الأرضية بفعل التأكسد ظهرت المستويات الأسبق إلى جانب المستويات الأحدث.
18
انقسم الدارسون الأوائل لرسوم الكهوف إلى فريقين؛ فريق يرى بأن هذا الفن قد أنجز لغايات فنية جمالية بحتة، وفريق آخر يرى فيه سعيا لغايات نفعية لا جمالية، وأن الرسوم الجدارية ليست سوى أدوات سحرية استخدمت في طقوس تستهدف السيطرة على الطرائد والإيقاع بها، وذلك استنادا إلى مبدأ السحر التعاطفي، حيث الشبيه ينتج الشبيه، وحيث السيطرة الرمزية على صورة الحيوان تؤدي إلى السيطرة الفعلية عليه في حقول الصيد. وقد تراجع الاتجاه القائل بالفن لأجل الفن بسرعة أمام الاتجاه القائل بالسحر، والذي تحول إلى مدرسة رسخت أقدامها واستمالت إليها جمهرة الباحثين. ولعل مما ساعد أهل المدرسة السحرية على تطوير تفسيراتهم والسير بها إلى نتائجها القصوى، ذلك الفيض من المعلومات التي قدمتها الإثنولوجيا عن عادات السحر التعاطفي الشائعة بين المجتمعات البدائية المعاصرة، وخصوصا الممارسات المتعلقة برسم الحيوان الجريح على الأرض قبل الانطلاق لصيده، فعقدوا المقارنات بينها وبين قيام فنان الكهوف برسم حيوانات جريحة تخترقها السهام، أو تسيل الدماء من جروحها المفتوحة، ورسمه أيضا لإناث الحيوانات في حالة الحمل، أو تصويره لأوضاع المعاشرة الجنسية. والنتيجة التي توصلوا إليها هي أن رسوم الكهوف طرا ليست إلا تقنيات سحرية تعتمد المبدأ التعاطفي؛ فالحيوان الجريح على جدار الكهف، إنما يمارس تأثيرا على حيوان البرية عبر وسط تعاطفي يربطه به، وكذلك الفرس الحامل والثيران التي تشب على البقرات، فإنها توحي للقطعان الطليقة بالتكاثر.
19
لقد ساعدت الدراسات المبكرة التي نشرها آبي برويل، وهو أول دارس جدي لرسوم الكهوف وأشهر الاختصاصيين فيها، على الترويج لأفكار المدرسة السحرية منذ عام 1902م، عندما انكب منذ الثانية والعشرين من عمره على دراسة واستنساخ المئات من رسوم الكهوف، ووضع فيها مؤلفا مشهورا تحت عنوان «أربعمائة قرن من فن الكهوف».
20
ومع أن برويل قد تخلى عن تفسيراته الأولى، إلا أن مدرسة السحر استمرت بفعل دفعاتها الأولى القوية، وصارت لأكثر من نصف قرن النظرية الوحيدة التي تدعي تفسيرا شاملا لفن الكهوف، وبلغ من سيطرتها أن معظم الباحثين في ثقافات ما قبل التاريخ، وفي تاريخ الأديان خاصة، كانوا يسوقون التفسير السحري وكأنه بدهية لا تتطلب تمحيصا أو مناقشة. نقرأ في كتاب معروف لأحد مؤرخي الديانات، جوزيف كامبل، ما يلي: «يبدو عدد من الحيوانات وقد غرست سهام في جنباته، وآخر قد ظهرت على جسده جروح مفتوحة من أثر الحراب. وهنا لا يسع المرء إلا أن يقارن مع ممارسات السحر الأسود الذي يستعين بصورة من الشمع للشخص المطلوب إيذاؤه، فيكتب على الصورة اسمه، ثم توخز الصورة بالإبر أو تترك لتذوب على النار.»
21
وفي كتاب معروف في تاريخ الفن، سواء في أصله الألماني أم في ترجمته الإنكليزية والعربية، يصل يقين المؤلف بالتفسير السحري حد العجب، وتثير الرثاء أحكامه الدوغمائية التي يطلقها حول افتقار إنسان الباليوليت الأعلى إلى الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح. يقول أرنولد هاوزر مؤلف الكتاب، مقتفيا إثر رائد الأنتروبولوجية البريطانية تيلور: «فماذا كان السبب والغرض الكامن من وراء هذا الفن؟ هل كان تعبيرا عن استمتاع بالحياة يلح على أن يسجل ويردد، أم إرضاء لغريزة التمتع بالتزيين ، أم كان له غرض عملي محدد؟ ... إن من الواضح أن كل شيء في عصر الحياة العملية الخالصة تلك، إنما يدور حول كسب العيش وحده، وليس هناك ما يسوغ القول بأن الفن كان يخدم غرضا آخر سوى أن يكون وسيلة للحصول على الغذاء. والواقع أن الدلائل جميعها تشير إلى أنه كان أداة لأسلوب سحري، وكانت له بهذا الوصف وظيفة عملية بحتة، تستهدف أغراضا اقتصادية مباشرة فحسب. ويبدو أنه لم يكن هناك أي عنصر مشترك بين هذا الفن وما نسميه اليوم بالدين، فلم يكن الإنسان وقت ذلك يعرف الصلوات، ولم يكن يعبد قوى مقدسة، ولم يكن هناك أي نوع من الإيمان يربطه بموجودات روحية تنتمي إلى عالم آخر؛ وبالتالي فقد كان يفتقر إلى ما يوصف بأنه الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح ... إن الصورة كانت هي التصوير والشيء المصور في آن واحد، وكانت هي الرغبة وتحقيق الرغبة في الوقت نفسه، ولقد كان صياد العصر الحجري يعتقد أنه قد استحوذ على الشيء ذاته في الصورة، ويظن أنه قد سيطر على الموضوع عندما يصور الموضوع.»
22
يمثل هذا المقطع لباب الفكرة الأساسية التي يدور حولها التفسير السحري لرسوم الكهوف. ورغم أننا نواجه في العديد من المؤلفات الحديثة بآراء تعتمد التفسير السحري، إلا أن الموقف الدوغمائي الذي طالعنا أعلاه قد قل مثيله؛ فلقد فضل المؤلف الاقتباس الحرفي عن تيلور، الذي غدت أفكاره مجرد تاريخ، بدل الاستنارة بالوقائع الجديدة حول رسوم الكهوف، وما يمكن أن تقوله بخصوص المعتقدات الدينية لإنسان الباليوليت الأعلى. إن المعلومات الإحصائية الناتجة عن دراسة مائة كهف أو تزيد، في المنطقة الكانتربيرية وبعض امتداداتها، تفيد بأن عدد الرسوم التي تمثل حيوانات جريحة أو مطعونة، لا يزيد عن 15٪ من مجموع الرسوم التي تعد بالآلاف.
23
ولا أدري كيف استطاعت هذه النسبة الضئيلة أن تأسر انتباه الباحثين، وحتى المعاصرين منهم، وتوجههم إلى صياغة نظرية في تفسير رسوم الكهوف على أساس سحري.
ومن ناحية أخرى، إذا كان فن الباليوليت الأعلى يقوم على السحر التعاطفي، وعلى فكرة ارتباط الأشياء بعلائق ثابتة يمكن معرفتها، وتعلم كيفية التأثير فيها دون واسطة من قوى غير منظورة، فلماذا وضعت هذه الرسوم على حافة الصمت في أعماق معتمة لا يصل إليها إلا كل راغب وقادر؟ ولماذا أحيطت بهذا الجو الذي يوحي بكل ما هو فوق طبيعاني، طالما أن «السحر التعاطفي يفترض أن الأحداث في الطبيعة يتلو بعضها بعضا بشكل حتمي ودون تدخل من قوى خارجية، وأن الساحر يتوقع امتثال النتائج المرجوة، بالضرورة، للإجراءات الطقسية التي يقوم بها طالما اتبع الوصفة السحرية الصحيحة»، على حد تعبير جيمس فريزر؟
24
رغم أن المدرسة السحرية قد أخفقت في تقديم نظرية شاملة، وتعرضت مؤخرا إلى كثير من النقد، إلا أن مساهمتها الكبيرة تكمن في لفت النظر إلى الطابع غير الاعتيادي لرسوم الكهوف، وإلى وظيفتها التي تتجاوز الشكل الفني الجمالي؛ الأمر الذي ترك الباب مفتوحا أمام البحث عما وراء الشكل الظاهري لفنون تلك الثقافة المنقطعة الأسباب. وبما أن نقدة المدرسة السحرية لم يستبدلوا النظرية بأخرى، فقد وقف البحث مدة طويلة أمام طريق مسدود قبل أن تطلع الباحثة الفرنسية أمبريير لامنغ بأطروحتها المعروفة حول معنى الفن الباليوليتي.
25
لقد وضعت لامنغ أسس اتجاه جديد في التفسير، ينظر إلى الهيئات الحيوانية في رسوم الكهوف، لا في مؤداها الخارجي كحيوانات تنتمي إلى فصائل بعينها، بل في مؤداها الرمزي كمفردات في لغة تشكيلية من نوع خاص. ثم تابع البروفيسور أندريه لوروا غورهان أبحاثه في الاتجاه نفسه، معتمدا منهجا معلوماتيا يستعين بالحاسوب، بعد أن صارت كل المعلومات التي رتبها وصنفها الباحث الرائد آبي برويل جاهزة لمثل هذه القفزة، وقدم نظريته الثورية في كتابه المشهور عن فنون ما قبل التاريخ.
26
ينظر لوروا غورهان إلى رسوم الكهوف الكانتربيرية باعتبارها وحدة متكاملة، لا نستطيع دراسة أو تفسير رسم مفرد منها دون بقية الرسوم، وفي علاقته معها، سواء في الكهف الواحد أم في بقية الكهوف مجتمعة. ففي السابق، كانت وحدة الدراسة التي يبني عليها الباحث استنتاجه هي رسم مفرد، أو عدة رسوم متقاربة في مساحة واحدة قد تصل أحيانا إلى جدار كامل في إحدى القاعات. أما عند لوروا غورهان، فقد اتسع حيز الدراسة ليشمل 68 كهفا كانت بمثابة الوحدة الأساسية للدراسة، بما تحتويه من عدد هائل من الرسوم بلغ تعداده 2188 رسما. كانت نقطة الانطلاق في بحث غورهان، هي تحديد نوع الحيوانات التي تتوضع في منطقة المركز من كل جدار، وعددها، وكذلك نوع وعدد الحيوانات التي تتوضع على الأطراف، أو تحتل الممرات والمداخل والزوايا البعيدة. وبعد معالجة الكم الكبير من المعلومات بواسطة الحاسوب، تبينت له حقيقة على غاية من الإثارة، وهي أن المناطق المركزية يشغلها على الدوام ثلاثة أنواع؛ هي الثور والبيسون والحصان، بينما تحتل بقية الأنواع الحيوانية الأطراف والمناطق الثانوية الأخرى. كما تبين له من دراسة الحالات القليلة التي ترافقت فيها الأشكال الإنسانية مع الأشكال الحيوانية، أن الثور يتخذ قيمة رمزية أنثوية، ومثله البيسون، أما الحصان فيتخذ قيمة رمزية ذكرية. ووجد أيضا أن القيم الرمزية الذكرية تعادل القيم الرمزية الأنثوية، حيث بلغ عدد المرات التي صور فيها الثور 46 مرة، والبيسون 148 مرة، أما الحصان فقد صور 819 مرة؛ أي ما يساوي عدد مرات تصوير الثور والبيسون مجتمعين. وبينما يغادر الحصان مكانه في مركز الجدار ليظهر في أماكن أخرى ثانوية، فإن الثور والبيسون قد بقيا على الدوام في مكانهما المركزي لا يغادرانه. ومن هذا المنظور الجديد أيضا، تتخذ الحيوانات الجريحة والسهام والحراب الموجهة إليها، دلالات جديدة في هذه المنظومة الرمزية؛ فالجروح ذات قيمة رمزية أنثوية، أما السهام والحراب فذات قيمة رمزية ذكرية. والنتيجة الإحصائية لكل ذلك، أن الرمز الأنثوي يتوضع على الدوام في المركز، أما الرمز الذكري فيتوزع بشكل متساو حول هذا المركز وعلى الأطراف القريبة والبعيدة. أما الاستنتاج الذي يبنيه لورا غورهان على هذه النتائج الإحصائية، فهو قيام أيديولوجيا دينية لدى الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى، تعتمد جدلية المبدأين الذكري والأنثوي في تعارضهما وتكافؤهما.
27
تكمن أهمية هذا التفسير الجديد في أنه قد أخرج دراسة فن الكهوف من الحلقة المفرغة التي تدور فيها النقاشات بين أصحاب المدرسة السحرية وخصومها، وبالدرجة الأولى في كشفه عن المضامين الدينية لفن الكهوف، والوظيفة الروحية لتلك المقامات المقدسة الأولى. ولكن رغم قيام لامنغ ولوروا غورهان برسم خطوط واضحة للطريق الذي ينبغي أن تسير عليه الدراسات المقبلة لرسوم الباليوليت الأعلى، فإن بعض الباحثين قد آثر عدم الوقوف إلى جانب أي من النظريات، وذلك في انتظار معلومات قد لا تظهر أبدا. فالباحثة ب. م. غراند، وهي من تلامذة آبي برويل اللامعين، تؤكد على وجود رسالة ما متضمنة في الرسوم التي تركها لنا إنسان الباليوليت الأعلى، قد تكون مفتاحا لفكر الإنسان الباليوليتي، ولكنها تأسف لعدم استطاعتنا معرفتها. تقول غراند: «إن الصور الجدارية تضعنا في حالة مشحونة بعاطفة فائقة، تجعلنا ننظر إليها بعين القداسة ... وبعيدا عن كهف لاسكو الذي يوليه البعض أهمية خاصة، فإن كل كهوف الصور الجدارية تشارك بدرجات متفاوتة في هذا الجو الجليل الذي يغمر المكان، كما أن رسومها تشكل كلا منسجما يخضع للقوانين الداخلية نفسها، ويبين عن مصدر إلهام واحد. إن التكرار الذي يتبدى في الرسوم والخصائص المميزة لها، ينطوي على هم أساسي تحاول الرسوم التعبير عنه بإلحاح، وتتخذ هذه المحاولة في التعبير، في كل كهف، حالة هاجس مسيطر. وهكذا فإن الصور الجدارية تضعنا أمام أحاسيس متضاربة؛ فهناك إحساس عنيف يغمرنا بوجود قيم كبيرة تحاول هذه الرسوم نقله إلينا، وفي الوقت نفسه هناك اعتراف ضمني بعجزنا عن فهم ما تود نقله ... قد تكون رسوم الكهوف جزءا من ميثولوجيا كبرى تحتل أقوى الحيوانات العاشبة فيها مركز الصدارة، إلا أن مفاتيحنا إلى حقبة الصيد العظيمة تلك قد ضاعت. إن كل ما لدينا من تلك الحقبة هو صور وشارات، قد تعيننا على صياغة فرضيات لا بد من صياغتها، غير أن الوقت لم يحن بعد لتحديد العلائق الميتافيزيقية المتضمنة فيها.»
28
إن كل ما سقته حتى الآن ينفي أمرين نفيا قاطعا، وهما أن يكون فن الكهوف قد هدف إلى إنتاج آيات فنية بدافع الحس الجمالي وحده ولغرض إمتاع الحواس، وأن يكون ذلك الفن مدفوعا بالهاجس الغذائي ومتوسلا بالتقنيات السحرية إلى الإيقاع بحيوانات الصيد؛ فرغم أن رسوم الكهوف قد نفذت بتقنيات جمالية شارفت حد الكمال، فإن التمتع بالجمال لم يكن واحدا من أهدافها، ناهيك عن كونه الهدف الأساسي أو الوحيد، وإلا لما وضعت في أعماق يصعب اكتشافها كما يصعب الوصول إليها في حال اكتشاف بواباتها؛ فهل كان إنسان ذلك العصر مضطرا لقطع تلك الأنفاق المعتمة في ظلمة دامسة وبيده مصباح زيتي، منحنيا معظم المسافة أو زاحفا على أربع، ومعرضا نفسه للوقوع في المطبات المؤذية، ليصل إلى قاعات الرسوم فيقف أمامها معجبا مستمتعا؟ أما عن الهاجس الغذائي والتقنيات السحرية، فإن الوقائع الإحصائية لا تؤيدها، ولم يعد من الوارد الحديث عنها. وبالمقابل، فإن كل الدلائل تشير إلى أن هذه الرسوم تحتوي على قيم كبيرة تحاول التعبير عنها، وأن هذه القيم هي قيم روحية دينية تتصل بمعتقدات ذلك العصر. قد يكون من الصعب في الفترة الراهنة رسم صورة كاملة عن ديانة العصر الحجري القديم الأعلى، اعتمادا على ما وصلنا من رسوم كهوفه؛ لأن ذلك سيكون أشبه بمحاولة يقوم بها علماء من الكواكب الأخرى لدراسة ديانة أوروبا في القرن العشرين اعتمادا على بقايا الكاتدرائيات، أو ديانة الشرق الأوسط اعتمادا على البنى المعمارية للمساجد الكبرى. ولكن الأمر الذي نراه ممكنا هو التعرف على المعتقد الديني في خطوطه العريضة، وذلك من خلال ألف باء اللغة الرمزية المشتركة التي استخدمت في الكهوف كلها. فهنا يتابع الفنان بحثه من خلال أسلوب متماثل ووحدات تشكيلية متكررة وهاجس جمالي وروحي واحد. إن كل شيء يشير إلى محاولة محمومة للتعبير عن قلق ديني وقيم روحية، فما هي؟
تشكل الهيئة الحيوانية الموضوع الأول والأخير لرسوم الكهوف، أما الهيئة الإنسانية فلم تصور إلا مرات قليلة جدا، وتمت معالجتها بسرعة ولامبالاة، وبأسلوب الخطوط السريعة غير المدروسة، حيث تركت في وضع مبهم غير مكتمل. نستثني من ذلك الهيئات المختلطة التي جمعت بين الإنسان والحيوان في مخلوق واحد، وهي أيضا قليلة جدا؛ فهنا صور الشكل الإنساني وقد استعار أعضاء لحيوانات أخرى، كما هو الحال في الرسم المدعو ب «ساحر كهف الإخوة»؛ فهذا المخلوق الهجين يقف في انحناءة خفيفة على ساقين إنسانيتين، غير أن له وجه البومة وقرني وعل وذيل حصان وكف دب، ومن خلف عجيزته تبرز أعضاؤه التناسلية كما الأسد . ونظرا إلى أن هذا الشكل لم يتكرر أبدا في أي كهف آخر، فإن أي تفسير له سيكون من باب التخرصات التي لا تقوم على أساس، رغم أن أصحاب المدرسة السحرية قد وجدوا فيه كنزا ثمينا، وشبهوه بسحرة القبائل البدائية المتنكرين في زي حيواني. وعلى العكس من الشكل الإنساني، فإن الحيوان قد رسم بعناية بالغة، وبأسلوب حركي حيوي استنفد كل ما تستطيعه تقنيات التصوير من تعبير عن طاقة الحياة في قمة تدفقها وتفجرها، وذلك في أشكال الحيوانات المنطلقة، أو أقصى حالات احتباسها وهي على وشك الانطلاق، وذلك في أشكال الحيوانات الواقفة الساكنة. ورغم أن الأسلوب يتسم بالطبيعية والبعد عن التنميط والخطوط الهندسية، إلا أنه تعبيري في صميمه، ويلجأ إلى التحوير المقصود من أجل إظهار مضامين انتقائية؛ فالقيمة الرمزية هنا أمر مؤكد، وهاجس الصيد لا يشغل بال فنان الباليوليت أكثر مما شغل بال رسام الأيقونات البيزنطية هاجس الولادة والتكاثر وهو يرسم العذراء الحبلى أو العذراء والطفل الإلهي؛ ففي الحالتين نحن أمام تكوين رمزي يشير إلى ما وراءه، والشكل الحيواني هنا ليس إلا وعاء لقوة ما ورائية، وجدت تعبيرها الأمثل في طاقة الحيوان المحسوسة على المستوى الطبيعي.
وهناك أمر ملفت للنظر في اللوحات الجدارية، وهو خلو المشهد الحيواني من أية خلفية طبيعية، أو عنصر آخر يمت إلى عالم الطبيعة بصلة. فلا وجود لشمس أو قمر، ولا لصخرة أو شجرة أو نهر، ولا لأرض تخطو عليها هذه الهيئات الحيوانية، أو أفق يحدد موقعها، ورغم ذلك فإنها لا تبدو كمن يسبح في الفراغ، بل متمكنة من نفسها ومتوازنة على خلفية غير مرئية. ومع أن الفنان قد عني عناية فائقة في تظليل الكتل المرسومة، وإبراز معالمها من خلال تداخل النور والظل، إلا أن هذه الكتل ذاتها لا تلقي ظلا على الأرض، وكأنها تتحرك في حيز لا مكان فيه للنور والظلام بمفهومهما المتعارف عليه. كل ذلك يعطينا الانطباع بأننا لسنا أمام مشهد من مشاهد الطبيعة التي نعرفها، وأن الحيوان المصور ليس جزءا من الحياة البرية لإنسان ذلك العصر، ولكنه جزء من مجال آخر وعالم مواز آخر. إن جو الجلال والروعة الذي يحيط بهذه الثيران والأفراس المندفعة بقوة لا تنتمي إلى هذا العالم، أو التي تتكتل على نفسها منطوية على قدرة جبارة توشك على الانفلات، لترتفع بها أمام أنظارنا اليوم إلى مستوى القداسة التي تشع من الأيقونات البوذية أو المسيحية. أما الجو المحيط بها فيعطينا إحساسا شبيها بإحساسنا عندما ندلف لأول مرة إلى كاتدرائية قوطية. من هنا فإن الحديث عن دين خاص بالباليوليت الأعلى، لا ينبع من أي تخيل أو إسقاط، وإنما ينبع من هذه الأماكن نفسها، ومما توحيه للإنسان العاقل اليوم، الذي لا يختلف في أساسيات بنيته النفسية والفكرية عن الإنسان العاقل الباليوليتي.
لقد كان إنسان الباليوليت الأعلى في هذه البقع القصية المظلمة، يبحث عن تواصل مع المجال الآخر، مع عالم اللاهوت، من خلال شارات قدسية تربط بين العالمين. وكما فعل إنسان الباليوليت الأوسط، فقد اختار إنسان الباليوليت الأعلى شارته المقدسة من العالم الحيواني، لا ليعبدها بذاتها، بل ليستحضر من خلالها قوة العالم الموازي. وتحولت كهوف الدب المتواضعة، التي اتخذها النياندرتال مقامات مقدسة، إلى كاتدرائيات نحتتها الطبيعة في الأعماق على حدود أوقيانوس المظلمة، وأقام فيها الإنسان العاقل نقاط تواصل مع المجال الآخر، من خلال هيئات حيوانية تلخصت بشكل رئيسي في الثور والبيسون والحصان. إن الجو فوق الطبيعاني الذي يملأ كهوف الرسوم الجدارية، والذي ما زلنا إلى اليوم نستشعر حضوره، قد خلقه إحساس الإنسان الباليوليتي الصافي بعالم اللاهوت؛ بذلك المجال القدسي الذي ينبث في الطبيعة الناسوتية، مثلما تنطلق هذه الحيوانات الحرة معبرة عن قدرة طاغية لا حدود لها.
ومما يؤكد الأغراض غير النفعية للكهوف، أن كل ما فيها يشير إلى أنها لم تستخدم قط لأي غرض دنيوي؛ فهنا لا وجود لعظام الطرائد التي يعثر عليها الآثاريون عادة في الكهوف السكنية، ولا أثر لنار المواقد، ولا دلالة على بقايا دفن. كل ما أمكن العثور عليه هو بقايا من أدوات الرسم مثل أقلام المغرة الحمراء، وبعض المصابيح الزيتية التي كان الفنان يرسم على ضوء فتيلها الباهت المتراقص. أما عن الطقوس التي كان يمارسها هنا، فأمر لن يمكننا معرفته أبدا. ربما كان يتأمل الشارة القدسية التي تكشف أمام عينيه القوة السارية، أو يقوم بحركات درامية من شأنها استمالة هذه القوة والتأثير عليها لتحقيق أغراضه، أو يأتي إليها بالجيل الجديد من الفتيان البالغين لتلقينهم أسرار الحياة الروحية للجماعة، وهم محاطون بأنسب جو لمثل هذه العملية. فإلى جانب الرسوم الجدارية المشبعة بالجلال والمشعة بالروعة، فإن الكهف في حد ذاته هو مكان موح بكل المشاعر والأحاسيس غير الدنيوية، والرحيل إلى تلك الأعماق التي تكاد أن تلامس رحم الأرض، يصحبه سفر روحي يودع معه المتعمق داخل الأنفاق صخب الحياة، ويقترب من بؤرة اتصال بعوالم سرانية غير منظورة. لقد كان إنسان الحضارات العليا بما اكتسبه من تقنيات معمارية قادرا على تصور وبناء هياكل كبرى، تستقطب أجواؤها التي يصطنعها معماريا انفعالاته الدينية وتعكس إحساسه بالمجال القدسي. أما إنسان العصور الحجرية، فقد كان يبحث عن هياكله الطبيعية في الأماكن التي تشع منها رهبة لا تصطنعها قباب أو سلاسل عقود عالية. ولعله كان يرتاد مثل هذه الأماكن بشكل عرضي وغير منتظم عندما فرضت عليه أجواؤها فكرة الرسوم الجدارية، وتحولت تدريجيا إلى مقامات مقدسة.
ولعلنا واجدون في القيمة الروحية لمواقع الكهوف في الحضارات اللاحقة، ما يلقي ضوءا على المعاني التي أوحت بها تلك الكهوف العميقة لإنسان العصر الحجري؛ ففي ميثولوجيات العديد من الثقافات التاريخية، يقوم الكهف رمزا للخلق والولادة؛ فهو المكان الذي صدرت منه الأجرام السماوية والجماعات البشرية الأولى، وبقعة مقدسة تشكل معبرا بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية. ولدينا بعض الأمثلة التي تدل على استمرار تقديس بعض الكهوف القديمة التي تعود إلى عصر ما قبل التاريخ، عبر الفترات التاريخية اللاحقة، وبقاء مواقعها بمثابة نقاط لاتصال السماء بالأرض. فهرم الشمس الأكبر بموقع
Teotihucan
القديم بالمكسيك، وهو أضخم بنية معمارية في أمريكا الوسطى القديمة، قد تبين أنه بني فوق مقام ديني بدائي، وأن هذا المقام بدوره قد بني فوق كهف قديم ذي وظيفة دينية يتخذ شكل تويج رباعي، ويقع تحت مسقط رأس الهرم الأكبر تماما. ومن دلائل استمرارية التاريخ الروحي بين الكهف القديم والهرم الذي ورثه، هو شيوع عنصر التويج الرباعي في الزخارف المنقوشة على الهرم، وهو الهيئة الطبيعية التي كانت للكهف، والتي بقيت في ذاكرة المعماري. ومن الممكن جدا أن أساطير شعب الآزتيك التي تروي عن صدور الشمس والقمر من أحد الكهوف، إنما تشير إلى هذا الكهف بالذات.
29
إن أول الأفكار الدينية قد تولدت عند الإنسان الأول من إحساسه بحضور بعد آخر للوجود يتخلل عالمنا ويفارقه في الآن نفسه. ويعبر هذا البعد فوق الطبيعاني عن نفسه في الطبيعة، من خلال فيض قوة مقدسة تصدر عنه وتنبث في كل مظهر طبيعاني، وهذه القوة هي أقرب إلى السيالية الطاقية التي تتجلى آثارها بشكل مادي وتتبدى تحت العديد من الأقنعة، وفيها نجد تفسير كل حركة في الكون وكل طاقة ظاهرة آثارها. وهكذا فنحن هنا أمام مفهوم ديني ذي شقين؛ فهناك أولا البعد القدسي للوجود، عالم اللاهوت الموازي لعالم الناسوت، وهناك قوة عالم اللاهوت التي تجمع وتوحد بين العالمين. فإذا أخذنا اكتشاف لوروا غورهان عن جدلية الرموز الأنثوية والذكرية بعين الاعتبار، قلنا إن القوة السارية في العالم الفيزيائي هي ذات طبيعتين؛ طبيعة مؤنثة وطبيعة مذكرة، وإن الجدل بين هاتين الطبيعتين هو الذي يعطي القوة السارية فعاليتها. وهذا ما يضعنا أمام النموذج الأصلي لتصورات القوة في بعض الحضارات الكبرى اللاحقة، وخصوصا الحضارة الصينية. لقد وجد الفكر الصيني أن في الكون محركا أولا قوامه قوتان متعارضتان ومتعاونتان في آن معا، هي قوة ال «يانغ» الموجبة، وقوة ال «ين» السالبة، ورأى أن كل مظهر مادي ليس إلا تفاعلا بين كميات محددة بدقة من هاتين القوتين. وهذه الفكرة في الحضارة الصينية متجذرة في تاريخها البعيد، وعبرت عن نفسها في الفكر الديني والدنيوي منذ مطالع التاريخ الصيني المعروف.
ولكن، هل عقلن الإنسان الأول ما ننسبه إليه من نظرات وأفكار؟ وهل قام بتداولها بالطريقة التي نصوغها هنا؟ والجواب على ذلك هو أن هذه الخبرات الدينية الأولية سابقة لكل تفكر وتدبر في العالم، والمواجهة بين الإنسان وعالم اللاهوت لا تنجم عن تجربة عقلية؛ لأنها في الأساس خبرة وجودية تفرض نفسها عليه بسبب استعداد فطري لتلقي الأثر الدينامي للمجال الآخر، بعيدا عن المفاهيم والصياغات العقلية. من هنا، فإن ناتج المواجهة يتحول إلى اختبار نفساني لوحدة وتكامل الوجود المدرك وغير المدرك، وهي وحدة لا تنبي عن نفسها للتأمل الذهني بل للعواطف والمشاعر. أما التعبير عن هذا الاختبار النفسي، فإنه قد تم ولا شك من خلال صياغات شتى؛ فلقد استخدم الإنسان الأول كما رأينا إمكانات الفن إلى أقصى مدى، وبطريقة قلما عرفت لاحقا، من أجل توصيل ذلك الإحساس بالمجال القدسي. أما الطقوس التي كانت تجري في كاتدرائيات الأعمال تلك، وأما الصياغة التواصلية للمعتقدات، فأمور لا يمكن حتى التفكير بإعادة بنائها.
الدمى العشتارية والقوة المؤنثة
لم تكن رسوم الكهوف هي الشواهد الوحيدة على التصورات الدينية للباليوليت الأعلى؛ فإلى جانب هذه الأعمال الفنية التي حفظت في حرز حريز، فقد عمد الإنسان الأول إلى إنتاج أعمال فنية من نوع آخر، عثر عليها في مواقع عمله وسكنه تمثلت في الدمى الحيوانية، وفي الدمى الأخرى الأنثوية ذات الشكل البشري، وفي منحوتات بارزة على الصخر تحت سقوف صخرية مضاءة بنور الشمس.
في منطقة لوسيل
Laussel
بجنوب فرنسا وتحت سقف صخري، يطالعنا حرم مقدس من نوع جديد. في الوسط من الحائط الصخري الرئيسي نحت بارز يمثل هيئة أنثوية ترفع بيدها اليمنى وعلى مستوى الكتف قرنا لثور البيسون، أما اليد اليسرى فترتكز بكفها على البطن الممتلئ، وعلى النحت بقايا من مغرة حمراء كانت تلونه منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة. وهذه الهيئة الأنثوية لا تشبه من قريب أو بعيد الهيئة التي نعرفها لإنسان الباليوليت الأعلى من بقايا هياكله العظيمة؛ فمنطقة الحوض والبطن منتفخة بشكل غير اعتيادي، وكذلك الفخدان، والرأس يتخذ شكل كتلة مكورة لم تصور عليها أية ملامح، أما الأطراف فدقيقة بشكل غير متناسب مع كتلة الجسم. بالقرب من هذا الشكل المركزي على الحائط الرئيسي ، عثر على عدد من الهيئات الأنثوية الأخرى منقوشة على قطع متكسرة ومتناثرة من الصخر، اثنتان منها تشبهان الهيئة المركزية وترفعان باليد شيئا لم يمكن التعرف عليه، وثالثة في وضع الولادة، وأخرى لرجل في وضع رامي الرمح، وشذرتان لضبع وحصان، إضافة إلى ألواح صخرية حزت عليها أشكال للعضو الجنسي الأنثوي.
30
فهل نحن هنا، وفي هذا الحرم المقدس المختلف، نقف أمام تعبيرات عن معتقدات مغايرة لما وجدناه في المقامات السفلية المظلمة؟ قبل معالجة هذا التساؤل، دعونا نتتبع التعبيرات الفنية المشابهة، والتي انتشرت في ذلك العصر على رقعة واسعة من أوروبا.
إذا كان فن الكهوف قد ازدهر بشكل رئيسي في المنطقة الفرانكو-كانتربيرية، واستطالاتها على طول محور عمودي يخترق أفريقيا، فإن الأشكال النحتية الأنثوية قد انتشرت على محور أفقي من جنوب روسيا إلى أوروبا الوسطى فأطراف جبال البيرنيه. حتى الآن وفيما عدا النحت البارز لعشتار لوسيل الآنف الذكر، والذي لا ينتمي إلى فن الدمى العشتارية بل إلى ما يشبهه، فإن المنطقة الفرانكو-كانتربيرية قد خلت من الدمى العشتارية بشكل ملفت للنظر، وبطريقة تجعلنا نعتقد بأن فن الرسوم الجدارية قد استنفد كل الطاقة الإبداعية لإنسان تلك المنطقة. أما منطقة الدمى العشتارية، فلم يعثر فيها إلا على كهف واحد في جنوب روسيا مماثل للكهوف المعروفة، وزاخر مثلها برسوم جدارية على النمط نفسه.
31
الأمر الذي يدل على أننا أمام ثقافة باليوليتية واحدة ركزت في كل منطقة على أسلوب في التعبير دون أن تهمل تماما الأسلوب الآخر.
فيما عدا دمية واحدة منفذة بسرعة ودون اعتناء تمثل شكلا ذكريا، عثر عليها بين هدايا جنائزية في أحد القبور، فإن بقية الدمى التي تم العثور عليها على المحور الأفقي الذي يعبر أوروبا من شرقها إلى غربها، فيما بين ضفاف الدون والسفوح الشرقية لجبال البيرنيه، هي تماثيل أنثوية صنعت من مواد طبيعية متنوعة، بينها عاج الماموت والحجر الكلسي والكالسيت والطين المشوي.
32
ورغم آلاف الكيلومترات التي تفصل بين مواقع الباليوليت الأعلى التي وجدت فيها هذه الدمى العشتارية، فإنها تبدو وكأنها نتاج موقع واحد، وعدد من الفنانين الذين أتقنوا أسلوبا واحدا متماثلا. فكتلة الجسد تتخذ شكلا مغزليا مستدق الطرفين عند الرأس والقدمين، منتفخ الوسط عند منطقة البطن والورك، ويتخذ الرأس شكل كتلة غير متمايزة، وبدون وجه أو ملامح، مع الإشارة إلى الشعر أحيانا بواسطة حزوز، وقد تنكمش كتلة الرأس هذه لتغدو انتفاخا يشبه رأس الحية. أما عن الأطراف، فإن الساقين تستدقان تدريجيا بعد الركبة حتى تنتهيا معا إلى طرف مدبب، مع غياب كامل للقدمين، بينما تهمل الذراعان إلى درجة لا نكاد معها تبينهما في بعض هذه الدمى، فإذا عرفنا أن أصغر هذه التمثيلات لا يتجاوز الإنشين في ارتفاعه، وأكبرها لا يتجاوز القدم الواحدة، عرفنا لماذا دعيت بالدمى لا بالتماثيل. كل هذه السمات تشير بوضوح إلى أن الفنان لم يكن يصور جسدا أنثويا مما يراه في عالم الطبيعة الإنسانية، وإنما كان يستدعي رموزا أنثوية يستعين بها من أجل التعبير عن حقيقة تتجاوز الجسد الأنثوي إلى ما وراءه. وإني أرى أن الفنان هنا كان يجسد القوة السارية في شارة قدسية، تعادل من حيث الجوهر الشارة القدسية الحيوانية، وأنه كان يتوسل بالسمات الأنثوية المحورة والمرمزة، من أجل إنتاج هيئة تمثل التركيز الأقصى للقوة السارية في الطبيعة، والتي تبدو هنا متجمعة في مناطق الخصب الأنثوية حتى لتكاد تفيض بما فيها، تماما كما رأيناها متجمعة في تلك الأشكال الحيوانية الساكنة، التي نشعر بها على وشك الانفلات من عقالها.
إن ما حاول فن الدمى العشتارية أن يستحضره أمام عين المشاهد، شبيه بما حاول استحضاره فن الكهوف في رسومه الحيوانية؛ فهو ينقل إحساس إنسان الباليوليت بعالم اللاهوت وقوته السارية في عالم الناسوت، رغم حلول الشكل الشبيه بالإنساني محل الشكل الحيواني. إن الشكل الشبيه بالإنساني هنا يحقق الغاية نفسها التي للشكل الحيواني؛ فالأنثى المرموزة الغائبة الشخصية، المحرومة من الملامح التي تدل على هيئة صاحبها، ليست شخصا بعينه؛ إلها ما أو كائنا روحانيا ما ورائيا، بقدر ما هي شارة مجردة. وبكلمة أخرى، إننا أمام تعبير عن الألوهة لا أمام رسم لصورة إله . لقد كان الفنان الباليوليتي، بقدراته الفنية التي أثبتها في رسم الحيوان، قادرا بلا شك على تصوير ملامح الوجه الإنساني على أكمل وجه، ولكنه لم يفعل، بل لقد آثر أحيانا إلغاء الرأس برمته ليكون عمله أقدر على صرف عين الناظر وقلبه عن تصور أية شخصية محددة، والتركيز على الفكرة المجردة للألوهة غير المشخصة، من خلال رسالة بصرية ذات شيفرة خاصة بذلك العصر.
إن تعثرنا في فهم الرسائل البصرية للعصور القديمة، نابع من كون حضارتنا هي حضارة لغة متطورة وكتابة متطورة. فنحن لكي نفهم أمرا ما، يجب أن نكون قادرين على شرحه بالكلمات وعلى تلقيه بالكلمات، وبأكبر قدر من الوضوح والتفصيل. وهذا من شأنه أن يقيم حاجزا بيننا وبين أنماط التعبير التصويرية التي تركتها لنا ثقافات ما قبل الكتابة، عندما لم تكن اللغة قد بلغت شأوا من التطور يجعلها قادرة على التعبير عن لطائف المجردات. على أن إدراك الفرق بين الأسلوبين التوصيليين من شأنه تقديم عون كبير لنا على التواصل مع الماضي السحيق؛ فالرسالة البصرية ليست مطردة؛ أي إنها لا تكشف عن محتواها بشكل متتابع وإنما دفعة واحدة، أما الرسالة الكلامية فتكشف عن محتواها بشكل تفصيلي مترابط الحلقات خطوة فخطوة. من هنا، فإن فهم الرسالة الكلامية (= اللغوية) يأتي تباعا، أما فهم الرسالة البصرية فيتم بإدراك الكل دفعة واحدة؛ أي إنه لا يتأتى عقليا بل شعوريا.
رغم وحدة الرسالة المتضمنة في الرسوم الجدارية للكهوف السفلى، وفي الدمى العشتارية، إلا أن الوظيفة الدينية لكل شارة من هاتين الشارتين مختلفة تماما عن الأخرى؛ فرسوم الكهوف النائية لم تكن بمتناول الأفراد في كل وقت وحين، وأغلب الظن أنها كانت مركزا لطقوس دورية سنوية، أو لمناسبات طقسية متباعدة ذات طابع تكراري، مثل طقوس العبور والتلقين. أما الدمى الأنثوية الصغيرة والخفيفة الحمل، فلا بد أنها كانت جزءا من أدوات طقسية تستخدم في شعائر ذات طبيعة مختلفة تماما عن شعائر الكهوف، وربما تعلقت بمفاهيم الخصب بشكل أساسي، خصوصا وأن شكلها المغزلي يدل على أنها كانت تغرس في الأرض بوضع عمودي، ضمن سياق طقسي، يستهدف إحلال الخصب في الأرض التي تفيض بثمارها على ذلك الإنسان اللاقط وبعشبها على حيوانات صيده، أو تستخدم في طقوس أخرى تستهدف التأثير في القوة السارية لتحصيل منافع أخرى منها، أو لاستبعاد أذاها؛ ذلك أن القوة وفق فهم الإنسان الأول لها ليست كائنا ذا إرادة وتدبير، بل سيالة غفلة تسري في الطبيعة، وتفعل فيها دونما حس أخلاقي بالخير والشر بمفهومهما الإنساني المعتاد.
ولكن، هل تصورت ثقافة الدمى العشتارية القوة على أنها قوة أنثوية صرفة، في مقابل ثقافة الكهوف التي رأت في القوة جدلية أنثوية ذكرية؟ قد يصعب البت في هذا الرأي الآن، ولكنه مرجح نظرا إلى طغيان الدمى الأنثوية على غيرها من الدمى الحيوانية أو الذكرية، التي لم يتم تنفيذها بنفس العناية والإتقان. يضاف إلى ذلك أننا في الوضع الحالي للوثائق لا نملك معلومات إحصائية مؤكدة حول العدد النسبي لدمى كل نوع حيواني، ولا دراسة تماثل دراسة لوروا غورهان حول قيمها الرمزية مقابلة بالقيمة الرمزية للشكل الأنثوي؛ إلا أن بعض المقارنات مع الثقافات العليا اللاحقة، التي رأت في القوة جوهرا أنثويا صرفا، مثل الثقافة الهندية، قد يلقي ضوءا على هذه المسألة؛ فالديانة الهندوسية التي تمتلئ معتقداتها بالآلهة والإلهات من كل نوع، يمكن في النهاية تلخيص معتقدها الأساسي إلى الإيمان بقاع قدسي للوجود، هو المطلق الكلي المدعو شيفا، وبقوة أنثوية تصدر عنه تدعى شاكتي، وهذه القوة هي مصدر كل نشاط وفعالية على المستوى الطبيعي. ولسوف يكون لنا وقفة مطولة مع هذا المعتقد لاحقا.
عند هذه المرحلة من دراستنا، أعتقد أن تفريقنا الأساسي بين الإله وبين الألوهة أو المجال القدسي قد غدا واضحا في ذهن القارئ؛ فالإله كائن فوق طبيعاني، يتمتع بشخصية ذات ملامح واضحة، ووعي وإدراك مستقلين، وإرادة حرة، ورغبات وأهواء خاصة به، وله سيرة حياة ، وربما تاريخ ميلاد أيضا، وقد يموت كما يموت البشر. ورغم أن الآلهة تنتمي إلى بعد آخر للوجود، إلا أن حياتها متداخلة مع حياة الناس بشكل لا تنفصم عراه، حتى إن معاشها يعتمد على ما يقدمه إليها البشر من قرابين، وغالبا ما تسكن في مكان قريب إليهم مثل قمم الجبال العالية. من هنا، فإن علاقة البشر بالآلهة هي علاقة استمالة واسترضاء من قبل البشر، وعطف ومنة من قبل الآلهة؛ فالبشر يقيمون لها المعابد، ويرفعون الصلوات، ويتضرعون إليها، ويتضعون أمامهم، وقبل كل شيء يقربون إليها القرابين من أفضل حيواناتهم أو محاصيلهم، بل ربما عمدوا أيضا إلى الأضاحي البشرية، وبالمقابل فإن الآلهة تلبي لهم مطالبهم وتمن عليهم على قدر تقربهم. أما المستوى القدسي، فهو البعد غير المرئي للوجود المادي، والقاع الماورائي الذي يستند إليه عالم الظواهر المرئية الذي يعيش فيه الإنسان؛ إنه مجال لا شخصي، ولا يمكن لأية شخصية بالغا ما بلغ تنزيهها أن تعبر عنه. والإنسان لا يدخل مع هذا المجال في علاقة أنا-أنت كما يفعل مع الآلهة، بل في علاقة أنا-هو؛ ذلك أنه ال «هو» المجهول، والحضور الشامل الغامر رغم غيابه الظاهر، إنه تلك الوحدة اللامتمايزة التي يصدر عنها كل متمايز ويذوب، في الآن نفسه. و«هو» فقط يكون بلا إرادة موجهة، بلا رغبات، بلا عواطف وأهواء، بلا روابط، بلا تاريخ وسيرة حياة، يعلن عن حضوره في قلب الإنسان بلا وسيط أو شفيع، ويعلن عن فعاليته في الطبيعة من خلال قوته السارية فيها. وقوة المجال القدسي المنبثة في المادة الدنيوية، هي طاقة حيادية لا تلتزم المعيار الخلقي، بمعنى أنها تفعل الخير كما تفعل الشر، تماما كالتيار الكهربائي الذي يشعل المصباح، وفي نفس الوقت يحدث صاعقة مدمرة وحريقا. من هنا فإن علاقة الإنسان بهذه القوة السارية، لم تكن علاقة استمالة واسترضاء لإرادة واعية، بل علاقة مؤثر بمتأثر. والمؤثر هنا هو الإنسان، أما المتأثر فهو القوة الغفلة التي لا تتمتع بإرادة واعية، وإنما تخضع للتوجيه في مسارات تتحكم بها تقنيات طقسية معينة، يمكن أن تحولها لصالح الإنسان أو تدفع أذاها عنه. أما عن تقنيات التأثير هذه، فرغم أننا لا نعرف عن أشكالها الأولى شيئا، إلا أننا نستطيع تقريبها من تقنيات السحر الذي يقوم على مبدأ مشابه؛ أي على وسط أو قوة غفلة تربط بين الأشياء وتساعد على نقل الفعل والتأثير المتبادل فيما بينها. وفي الحقيقة، فإن الدراسات الحديثة لتقنيات السحر ومبادئه تجعلني أعتقد بأن السحر إنما يقوم على المعتقد الباليوليتي نفسه، ولكنه قد ضاع عن أصله، ولم يبق منه سوى طقوس لا نستطيع تبين معتقدها إلا بصعوبة بالغة.
في الممارسات السحرية كما عرفناها عبر التاريخ المكتوب، وكما هي شائعة لدى القبائل البدائية، لدينا جملتان فيزيائيتان تتبادلان التأثير في بعضهما عن بعد، ولكن من خلال وسط غامض يربط بينهما. أما الجملة الأولى فمصطنعة؛ أي أنها مؤلفة من بضعة أفعال أو أحداث نقوم بها بشكل قصدي، لغاية التأثير في الجملة الثانية التي تؤلفها أحداث طبيعية مترابطة. ولنأخذ مثالا على ذلك صناعة المطر، وهو مصطلح أنتروبولوجي حديث يشير إلى الطقوس التي يقوم بها ساحر القبيلة لجلب الأمطار في مواسم الجفاف. إن سقوط المطر في معتقدات الأديان التي تؤمن بالآلهة المشخصة، هو جملة فيزيائية مؤلفة من أحداث يمسك بزمامها إله موكل بالمطر، حيث يخرج هذا الإله من مسكنه في قمم الجبال العالية، فيركب الغيوم التي تكلل مقره، ثم يوجهها حيث يشاء ليسقي بها أرضا دون أخرى. أما في المعتقدات الدينية الخلوة من الآلهة، فإن التأثير في الجملة الفيزيائية التي تنتهي بسقوط المطر يتم باصطناع حركات وأصوات وإيقاعات معينة بينها تقليد لصوت هطول المطر، فتتصل هذه الأفعال المصطنعة بالجملة الأخرى عبر وسط واصل بينها ويهطل المطر. وهذا الوسط الواصل بين الجملتين هو القوة السارية التي توجهت الطقوس إليها بالدرجة الأولى وحفزتها على إتيان الفعل. وهذا ما ندعوه اليوم بالطقس السحري.
لقد درست أمثال هذه الطقوس السحرية على أوسع نطاق من قبل علماء الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا، وصنفت في زمر رئيسية وزمر ثانوية؛ من سحر تعاطفي إلى سحر تشاكلي ، إلى آخر ما هنالك من تصنيفات. ولكن هؤلاء الباحثين لم يعنوا بالتفتيش عن المعتقد الذي تقوم عليه هذه الممارسات، بل ساروا مع جيمس فريزر الذي قال بأن الفكر السحري يرى في الطبيعة اطرادا في الأحداث لا يحتاج إلى وساطة الآلهة. والحقيقة أن مؤسسة السحر بكاملها تقوم على مفهوم القوة السارية، معتقد الإنسان الباليوليتي، الذي راكم الزمان فوقه غبار النسيان، ولم يبق منه سوى طقوس معلقة في الفراغ.
الفصل الثالث
اللاهوت والناسوت في معتقد النيوليت
مع نهاية عصر الباليوليت الأعلى، تتوقف معظم أنواع الفنون التشكيلية في أوروبا فيما يبدو، وكأنه عصر انحطاط شامل لتلك الثقافة. وذلك في الوقت الذي أخذ فيه مركز الثقل الحضاري يتجه نحو مناطق شرقي المتوسط، التي كانت تتأهب للدخول في عصر حاسم من عصور البشرية هو العصر الحجري الحديث، أو النيوليتي (Neolithic) .
لقد شهد العصر النيوليتي، الذي ابتدأ مع أوائل الألف الثامن قبل الميلاد، جملة من التحولات الجذرية العميقة الأثر في مجرى التاريخ الإنساني؛ فخلال هذا العصر استقر الإنسان الصياد في الأرض وبنى أولى القرى في تاريخ البشرية، وأخذ بإنتاج الغذاء بدلا من جمعه معتمدا على الزراعة وتأهيل الحيوان، مبتدئا بذلك حضارتنا الحديثة. وقد قدمت لثقافة العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، ثقافة ازدهرت قبلها في فلسطين وأواسط سوريا، ابتداء من الفرات الأوسط وحتى وادي العربة، عرفت بالثقافة النطوفية، نسبة إلى وادي نطوف بفلسطين، أول مواقعها المكتشفة، واستمرت خلال الألفين العاشر والتاسع قبل الميلاد. لقد قدمت لنا الثقافة النطوفية أول الدلائل على الاستقرار في الأرض وسكن المواقع الثابتة في العراء بدل الكهوف. وكان الدافع الأول للاستقرار هو الاستراتيجية الغذائية التي اتبعها هؤلاء النطوفيون، والتي اعتمدت على الجمع المكثف للحبوب البرية التي كانت تنمو بكثرة في مناطقهم، وذلك إضافة إلى صيد الحيوانات.
لم تنتج الثقافة النطوفية فنا تشكيليا راقيا، يمكن مقارنته على أي صعيد بفن الباليوليت الأعلى، وذلك إضافة إلى قلة الأعمال التشكيلية التي تم العثور عليها، والتي كانت المقابر مصدرها الأساسي. ومع ذلك، فإن هذا القليل يكفي لمتابعة استقصائنا للأيديولوجية الدينية للعصور الحجرية في منعطفها الجديد. إن جرد الأعمال الفنية النطوفية التي عثر عليها حتى الآن، يظهر استمرارا للتقليد الباليوليتي في تصوير الأشكال الحيوانية، إلا أن الرسوم الجدارية غائبة تماما، وكل ما لدينا عبارة عن دمى حيوانية بصورة رئيسية. ويبدو أن الحيوانات المصورة هنا كانت موضوعا لاختيار أيديولوجي كما هو الحال في الباليوليت الأعلى؛ لأن ما صوره النطوفي من الأنواع الحيوانية أقل بكثير من الحيوانات التي حفلت بها بيئته الطبيعية، ومن تلك التي اعتمد عليها في صيده واستراتيجية غذائه. فلقد أهمل النطوفي تماما الثور والخنزير البري، وأكد بشكل رئيسي على الغزال والأيل الأسمر. وإذا كان الغزال من الطرائد المفضلة عند النطوفيين ومتوفرا بكثرة في مناطقهم، فإن الأيل الأسمر كان من الحيوانات النادرة، ومع ذلك فقد صور إلى جانب الغزال وإن بنسبة أقل. هذا ويظهر الدور المتميز للغزال في الوسط الفكري للثقافة النطوفية من خلال التقاليد الجنائزية، ومن خلال اقتران صورته بالنشاطات الغذائية المتعلقة بجمع الحبوب البرية؛ فقد تكرر ترافق عراقيب الغزلان مع الهياكل العظمية في عدد لا بأس به من القبور، وربما قام الحصان مقام الغزال في هذا الطقس الجنائزي الملفت للنظر، وذلك رغم عدم عثورنا على صور للحصان من العصر النطوفي. أما عن اقتران الغزال بنشاط جمع الحبوب البرية، فقد تم العثور على العديد من المناجل الصوانية التي زينت قبضاتها بصور مجسمة للغزال، وهذا ما ينشئ علاقة رمزية بين الصيد وبين الحصاد من خلال هيئة الغزال التي ربما رمزت إلى قوة الخصوبة إجمالا.
1
أما عن التمثيلات الإنسانية فنادرة جدا، إضافة إلى كونها منفذة بأسلوب اختزالي يجعل من الصعب تحديد جنسها، على عكس الدمى العشتارية للعصر الباليوليتي السابق. غير أن ما يلفت نظرنا هو زيادة عدد الدمى الإنسانية في موقع واحد هو عين الملاحة بفلسطين. ولما كان هذا الموقع هو أكثر المواقع النطوفية قربا إلى القرى المستقرة، فإن استنتاج ترابط الدمى الإنسانية في هذا العصر مع درجة الاستقرار له ما يسوغه.
2
خصوصا وأن ظاهرة زيادة المساحة المخصصة للهيئة الإنسانية في الفن التشكيلي، كلما تقدمنا في العصر النيوليتي، هي ظاهرة مؤكدة.
إنه لمن المغري حقا لمن يحاول تفسير الصور المقدسة لعصر ما، أن يبحث في الإطار الطبيعي الذي انتزعت منه موضوعات هذه الصور، وعن موقعها في اقتصادياته واستراتيجياته الغذائية. ولكن العلاقة بين الإنسان وموضوعات تصويره ليست دائما على هذه الدرجة من البساطة؛ فقد يعكس التركيز على الغزال مثلا في العصر النطوفي وضعا اقتصاديا يعتمد على صيد الغزال، وهو ما تؤكده الكميات الكبيرة من عظامه في المواقع المكتشفة، غير أن قيام الإنسان النطوفي بتصوير حيوانات أخرى لا تدخل في نظامه الغذائي، يدل على أن الوسط الطبيعي والعلاقة النفعية مع الحيوان لا يقدمان إلا مدخلا من عدة مداخل محتملة، وأن الخيار الأخير للحيوان الذي تتحول هيئته الخارجية إلى شارة قدسية هو خيار فكري بالدرجة الأولى، وعلينا أن نبحث عنه في المجال الاعتقادي لا في المجال الطبيعي. ولا أدل على ذلك من علاقة الإنسان بالثور البري منذ مطلع العصر النيوليتي.
فمنذ بدايات العصر النيوليتي في تل المريبط على الفرات الأوسط بسوريا، وهو من المواقع الرائدة للثقافة النيوليتية، لدينا دلائل واضحة على تقديس الثور البري، وذلك في وسط قروي مستقر يتهيأ للاعتماد على الزراعة في اقتصاده. ففي بعض البيوت التي تتميز ببنية معمارية خاصة (تشير إلى إفرادها كمقامات مقدسة)، أقيمت مصاطب طينية عرض في وسطها وبشكل مقصود عدد من جماجم الثيران البرية، بهيئتها الطبيعية ودون إضافات فنية تزيينية، وتشكل هذه الجماجم مع ألواح كتف مغروزة بشكل أفقي تكوينا متماسكا معروضا للناظرين دفعة واحدة. وفي إحدى الحالات كان رأس الثور مفككا إلى قطع معروضة في صفوف، إضافة إلى القرنين الكبيرين اللذين تم عرضهما على التوازي. إن هذه الترتيبات المقصودة التي لا تنبئ عن قيمة استعمالية معينة، والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل العظمي الحيواني، تعكس ولا شك مدلولات أيديولوجية معينة، سوف نتلمس استمرارها في مواقع نيوليتية أخرى.
3
إن رأس الثور هنا قد صار مركزا لإجماع روحي واختيار أيديولوجي يتخطى شكله الطبيعي؛ ليغدو رمزا للقوة السارية في الطبيعة ، كما أن هذا الاختيار الأيديولوجي لم يكن مدفوعا بضغط من الوسط الطبيعي قدر ما كان مدفوعا بضغط فكري من نوع خاص، والدليل على ذلك الضغط الفكري الحاضر في بقية الوثائق المتوفرة لدينا.
إن علم البقايا الحيوانية التي تم الاستعانة برأي خبرائه في موقع تل المريبط، يؤكد أن الفصيلة البقرية كانت نادرة جدا في تلك المنطقة خلال السوية الأثرية موضع البحث (أواخر الألف التاسع)، وأن الفصيلة المهيمنة عدديا كانت فصيلة الغزال الذي اصطاده إنسان المريبط أكثر من غيره إبان تلك المرحلة، أما البقر البري فلم تبدأ أعداده بالتزايد إلا بعد خمسمائة عام على الأقل من قيام إنسان المريبط بتقديس رءوسها؛ الأمر الذي يدل بوضوح على أن الثور قد لعب دورا أساسيا في أيديولوجيا المريبط قبل فترة طويلة جدا من هيمنة دوره الغذائي، وهذه واقعة على درجة كبيرة من الأهمية؛ لأنها تظهر أن الدين ليس مرآة تعكس الأوضاع المادية والعلاقات الاقتصادية. وبناء على هذه الواقعة، يمكن الاستنتاج مع بعض التحفظ أن الموقف الفكري من حيوان ما ربما كان الدافع إلى الدخول معه في علاقة نفعية، وأن تقديس ذلك الحيوان ليس نتيجة لكونه الأكثر تكرارا في لائحة الصيد، بل قد يكون العكس هو الصحيح؛ أي أن يساعد التقديس على خلق شروط نفسية تشجع على صيد الحيوان؛ ومن ثم العمل على تأهيله مستقبلا.
4
إضافة إلى رءوس الثيران التي ساعدتنا على تلمس الوسط الفكري لهذا الموقع الرائد في الثقافة النيوليتية، فإن تل المريبط قد أنتج لنا الأمثلة الأولى على فن الدمى العشتارية في العصر النيوليتي، وذلك منذ بدايات الألف الثامن قبل الميلاد؛ أي بعد انقطاع كامل لهذا النوع من الفن يقارب خمسة الآلاف عام، سواء في أوروبا أم في المشرق العربي الذي لم يعرف فن الدمى من قبل. وقد اتبع الفنان هنا الأسلوبين اللذين عرفناهما في الباليوليت الأعلى؛ وهما الأسلوب التبسيطي المغرق في الرمزية الذي يكتفي بالإشارة إلى الهيئة الأنثوية دون التوكيد على تفاصيلها، والأسلوب الثاني الواقعي الذي يعتمد تضخيم مواطن الخصوبة بشكل مبالغ فيه . ورغم أن بعض الدمى قد نفذ في وضعية الوقوف إلا أن معظمها كان يتخذ وضعية القعود على عجيزة ضخمة، بحيث تتخذ الخطوط العامة للهيئة الأنثوية شكل المخروط المستقر، وهو التقليد الذي ساد فيما بعد في جميع مواقع الثقافة النيوليتية.
5
ويبدو أن الفارق بين الشكل المغزلي الباليوليتي والشكل الهرمي النيوليتي للدمية العشتارية، يعكس اختلافا في الوظيفة الطقسية. فلقد استنتجنا سابقا أن الدمية المغزلية المستدقة الطرفين للعصر الباليوليتي، كانت تغرس في الأرض في سياق طقوس قد تكون ذات علاقة بالخصب. أما الدمية المخروطية المستقرة على عجيزتها، فيبدو أنها كانت معدة لأن توضع فوق المحاريب أو المذابح في المقامات المكرسة للطقوس الدينية؛ لأن معظم هذه الدمى النيوليتية قد وجدت قرب هذه المقامات. بشكل خاص، فقد أعطتنا المواقع النيوليتية الفلسطينية عددا من هذه المقامات ذات الوظيفة الدينية الواضحة، خصوصا في موقعي أريحا والمنحطة. إن أحد المقامين اللذين كشفت عنهما المنقبة كاثلين كينيون في أريحا، يكشف عن تصميم رائد للمقامات الأخرى المكتشفة في العصور التاريخية، ويتميز بوجود تجويف طولاني على هيئة محراب في وسط الجدار الشمالي، في أسفله قاعدة من حجر بركاني، وجد قربها عمود من الحجر نفسه يبدو أنه كان منتصبا عليها. وقد شبهت المنقبة هذا العمود الحجري بالعمود الذي أقامه الكنعانيون في معابدهم في المناطق نفسها بعد بضعة آلاف تالية من السنين، والمعروف باسم المازيبوث
Masseboth .
6
ولعل المقارنة مع المقامات الدينية التي اكتشفت في أوروبا النيوليتية، تعطينا فهما أفضل لطبيعة الوظيفة الطقسية للدمى الأنثوية المخروطية، علما أن العصر النيوليتي الأوروبي قد جاء متأخرا عن النيوليت المشرقي بحوالي 1500 عام. وفائدة المقارنة تأتي بالدرجة الأولى من كون الهياكل النيوليتية الأوروبية قد اكتشفت في حالة أسلم من سابقاتها في بلاد الشام، واحتفظت بمعظم أثاثها الثابت الداخلي. وسأتعرض فيما يأتي باختصار لواحد منها يفي بغرض المقارنة، وهو من موقع ساباتينوفكا بمنطقة مولدافيا.
يرجع موقع ساباتينوفكا إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وهو عصر ازدهار الثقافة النيوليتية الأوروبية. وقد تم الكشف في هذا الموقع عن مقام ديني مستطيل الشكل تبلغ مساحته حوالي 57 مترا مربعا، وللبناء باب جانبي يقع على أحد الضلعين الطويلين للمستطيل، فرشت الأرض أمامه بألواح حجرية، أما الأرضية الداخلية فقد فرشت بالطين المجفف. حوالي منتصف المسافة الطولية إلى اليمين ، هناك فرن كبير وجدت عند قاعدته دمية أنثوية، يليه عدد من الأوعية بينها وعاء مليء برماد وعظام ثور محروق، وإلى يسار وأمام الفرن هناك مجمرتان ربما لغرض حرق البخور. أما في صدر البناء فهناك منصة طينية (تقوم مقام المذبح في المعابد اللاحقة) أبعادها 6 × 2,75م، عليها ست عشرة دمية أنثوية في وضعية القعود، منفذة بأسلوب نمطي رمزي موحد. فالساقان مضمومتان وممدودتان وتنتهيان معا بطرف مستدق، والعجيزة منتفخة ومضخمة، أما الصدر فضامر، والرأس غائب يحل محله طرف مدبب، وجميعها بلا ذراعين خلا واحدة فقط تضم إلى صدرها شكلا قضيبيا بالغ الطول. إلى جانب المذبح عند الزاوية هناك عرش فارغ مصنوع من الطين، تصفه التقارير الأثرية بأنه كرسي لجلوس الكاهن الذي يرعى الاحتفال الطقسي ويتقبل تقدمات الدمى.
7
يقدم لنا هذا الشاهد الأثري الهام أوضح مثال عن الطقوس النيوليتية، التي تدور حول معتقد المجال والقوة؛ فالدمى المتناثرة على المذبح هنا لم تكن موضع عبادة بذاتها، بل وسيلة لاستحضار عالم اللاهوت، ووجودها بهذا الكم الكبير يشير إلى أن المشاركين في الطقس كانوا يضعونها تقدمة على المصطبة-المذبح، مثلما كانت توضع المصابيح الزيتية في المعابد اللاحقة، أو الشموع التي توقد اليوم أمام تمثال العذراء، ولكن مع فارق هام، وهو أن تمثال السيدة هنا غائب تماما، رغم أنها حاضرة على العرش الفارغ الذي يعبر عن السلطة الشاملة.
إن الأساليب الفنية التي اتبعها الفنان النيوليتي في تشكيل هذه الهيئات الأنثوية، تدل بوضوح على أنه لم يكن يفكر في تمثيل هيئة لكائن إلهي معين ذي شخصية محددة الملامح؛ فالدمى التي نفذت بالأسلوب التبسيطي، ليست في الواقع سوى فكرة مجردة وجدت تعبيرها بطريقة تشكيلية، ومثلها تلك الدمى التي لم تحتفظ من الشكل الأنثوي إلا بانتفاخ في منطقة الردف ونهايتين مستدقتين، أو تلك المؤلفة عن عجيزة ضخمة فقط ورأس مدبب مع إشارة خفيفة إلى الثديين. وأما الدمى التي نفذت بالأسلوب الواقعي المضخم وفي وضعية القعود الأكثر شيوعا، فإن الصلة بينها وبين الهيئة الأنثوية معدومة تقريبا، وكذلك الصلة بينها وبين أية شخصية يمكن أن تتمتع بكيان محدد؛ إنها رسالة بصرية مكثفة ومفعمة بالرمز، ورداء لقوة إلهية سوف تجد منذ الآن تعبيرها في الشكل الإنساني المرمز، الذي يتحول إلى موطن خيالي مفعم بالنفسية الجمعية للعصر، وتبتعد تدريجيا عن الشكل الحيواني الذي ساد في الفترات الأسبق. وفي العصور التالية، وعندما تنبعث الآلهة من هذه القوة الغفلة غير المتمايزة في المعتقدات الأولى، سوف يقوم الإنسان باستلهام صور هذه الآلهة من مخزونه القديم لصور الشارات المقدسة، وتأخذ الأم الكبرى للفترات التاريخية الشكل العام للشارة الأنثوية للقوة السارية. فالصور المقدسة تتمتع بثبات نسبي عبر فترة طويلة من الزمن، رغم التغيرات الجذرية التي تطرأ على مضمونها. وقد يستفيد مضمون اعتقادي جديد من هيئة قديمة تمتعت بالقداسة فترة طويلة، ويحل فيها بعد تغييرات قليلة أو كثيرة عليها؛ وبذلك تستمر الصورة في أساسياتها ويتغير محتواها تدريجيا حتى يتلاشى المحتوى القديم تماما. إن الرمز الواحد لا يحمل بالضرورة مضامين ودلالات واحدة لدى تكراره في عصور مختلفة وأمكنة متباعدة، وذلك حتى في حال توارثه وتداوله بحرفيته الشكلية. فرمز الصليب الذي كان ذا دلالة أيديولوجية وطقسية منذ العصور الحجرية، لا تربطه بصليب المسيحية صلة، ورمز السواستيكا (الصليب المعقوف)، الذي توارثته الأقوام الجرمانية عن العصور الحجرية، لا يمت بصلة إلى السواستيكا البوذي أو الهندوسي، ناهيك عن صلته بالأيديولوجية الفاشية التي تبنته إبان صعود النازية في ألمانيا.
لم تتقطع التقاليد الباليوليتية للتصوير الجداري تماما خلال العصر النيوليتي؛ فلدينا من شتال حيوك، الموقع النيوليتي الهام في جنوب الأناضول، مثال على استمرار هذه التقاليد. إلا أن التصوير هنا لم ينفذ على جدران الكهوف الطبيعية، بل على جدران المقامات الدينية التي عثر على أربعين منها في الجزء المكتشف من الموقع، موزعة على عشر طبقات أثرية، وغالبا ما توضعت هذه المقامات بعضها فوق بعض عبر الطبقات الأثرية المتعاقبة ، واحتوت على العناصر الفنية ذاتها؛ الأمر الذي يشير إلى استمرار في المعتقد الديني لهذه الثقافة خلال مئات الأعوام. وفي الحقيقة، فإننا في شتال حيوك نشهد تلك النقلة من المقام الديني الصغير إلى ما يشبه المعبد، وذلك من حيث سعته وتنوع أثاثه الطقسي.
تتقلص قائمة الحيوانات التي صورها الفن الباليوليتي في الماضي، إلى بضعة حيوانات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في هذا الموقع النيوليتي، يتخذ الثور بينها مكان الصدارة؛ فهنا نجد رءوس الثيران المشكلة بالجص في بؤرة التكوين الفني على معظم جدران المعابد، وقد تستخدم القرون الطبيعية في هذه الرءوس المنحوتة، غير أن القرون المشكلة هي الحالة الغالبة لأنها تسمح بالمبالغة التي قصدها الفنان، وتعطي انطباعا أكثر تأثيرا بالقوة والعظمة التي أراد التوكيد عليها، حتى إن طول القرن الواحد قد بلغ في بعض الحالات ما يقارب المتر. وقد تغيب رءوس الثيران لتحل محلها قرون ضخمة مصطفة في رتل، وينتظمها تكوين قوي يعطي الناظر إحساسا بالرهبة والخشوع أمام قوة غير منظورة، كما يظهر ضمن هذه التشكيلات أحيانا رمز البوكرانيا، الذي يتألف من نصب قصير عليه قرنا ثور. وفي بعض الأحيان تتوزع رءوس الكباش حول المساحة التي يشغلها رأس الثور. وقد تتوضع تحت الرأس صفوف من الأثداء الأنثوية، كما تظهر رءوس الأيل منفردة أو كجزء من التكوين. وفي بعض الهياكل، صورت على الجدران المقابلة لرءوس الثيران نسور عملاقة باسطة أجنحتها، وأمامها أشكال بشرية صغيرة منفذة بأسلوب تبسيطي وبدون رأس، وعلى بعض الجدران صور حيوان الفهد بطريقة النحت النافر الملون.
وإضافة إلى هذه التشكيلات الجدارية، فقد عثر المنقبون في الهياكل على الدمى الأنثوية المصنوعة وفق التقليد النيوليتي نفسه، ولكن باستخدام الرخام والحجر إلى جانب مادة الطين، وبتقنيات تقرب هذه الدمى من فن النحت المعروف في الحضارات اللاحقة، خصوصا وأن أطوالها قد بلغت في بعض الأحيان ستة عشر سنتم. والهيئة الأنثوية هنا مصورة في وضعية القعود على عجيزة ضخمة جدا ومكتملة الأعضاء، ورغم العناية بإظهار الرأس كاملا إلا أن ملامح الوجه ممسوحة وشبه غائبة، وإلى جانب هذه الدمى التي يبدو أنها كانت تستخدم لأغراض طقسية دورية فتجلب إلى المعبد من خارجه، فإن الهيئة الأنثوية قد صورت بالأسلوب الرمزي التبسيطي، وترافقت مع رءوس الثيران في التكوينات الجدارية اعتبارا من الطبقة الآثارية السابعة. فهنا يصور الشكل الأنثوي على شكل جذع مستقيم تتفرغ منه أربعة أطراف عديمة التفاصيل تماما. ولا نكاد نتعرف على الهيئة الأنثوية في هذه الهيئات النمطية لولا وجود النهدين الصغيرين.
8
في شتال حيوك نحن أمام قمة من قمم الفن النيوليتي لن يصل إليها بعد ذلك أبدا، ولكننا في الوقت نفسه أمام المعتقدات النيوليتية في أكثر تعبيراتها وضوحا وتنظيما. لقد تحولت جماجم الثيران المأخوذة مباشرة من الطبيعة والمغروسة في مصاطب تل المريبط الطينية، إلى أعمال نحتية مصنوعة بعناية لتؤدي الرسالة البصرية نفسها، وإنما بشكل أكثر تأثيرا وأقدر على نقل إحساس الفنان بحضور تلك القوة السارية في الطبيعة. والموضوعات المصورة هنا والمنتزعة من الوسط الطبيعي، قد فقدت صلتها بروابطها في الحياة اليومية بعد أن غدت موضوعا لاختيار روحي. إنها الآن بؤر رمزية يتجلى من خلالها ذلك المستوى الآخر للوجود، ويعلن عن قوته. لقد صار الثور والكبش والأيل والنسر والفهد موضوعات لإعلاء ديني من نوع خاص، لا في عالمهم الطبيعي الذي ينتمون إليه، بل في المقام الديني الذي جعل من صورهم ظهورات لقوة ما ورائية شمولية، وحولها إلى مواطن خيال تشف عن النفسية الجمعية لثقافة ما زالت تتوسل بصور الحيوان لكي تعقد صلة مع عالم اللاهوت. أما التمثيلات النسائية فما زالت هنا تعبر عن فكرة أكثر من تعبيرها عن شخصية؛ فالتشكيلات التخطيطية للشكل الأنثوي التي تظهر مترافقة مع رءوس الثيران أو مستقلة عنها، لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون تجسيدا لشخصية إلهية، إنها مجرد شارة أنثوية بلا هيئة بلا تفاصيل بلا ملامح وجه. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتماثيل الأنثوية الصغيرة التي نفذت وفق أسلوب المبالغة والتضخيم لمواطن الخصوبة، وفي وضعية القعود، فهذه التماثيل لم تكن جزءا من التكوينات الفنية الجدارية، بل وجدت ملقاة هنا وهناك؛ الأمر الذي يشير بوضوح إلى أنها لم تدخل في الأثاث الثابت للمعبد، بل استخدمت لأغراض طقسية.
وفي الحقيقة، فإنه من الصعوبة بمكان أن نعطي تفسيرا أكثر دقة وتفصيلا لديانة شتال حيوك، وللتكوينات الفنية التي نفذت على جدران هياكلها، غير أنه من المغري حقا أن نجد في هذه التكوينات، كما وجد لوروا غورهان في رسوم الكهوف، تعبيرا عن جدلية الأنوثة والذكورة في تجلي وفعالية القوة. فهل يتخذ رأس الثور هنا قيمة رمزية ذكرية في مقابل القيمة الرمزية للشكل الأنثوي التخطيطي الذي يعلوه، أو الأثداء التي تصطف تحته؟ وهل يتخذ النسر قيمة رمزية أنثوية كما هو حاله في حضارات الكتابة اللاحقة، بينما يتخذ الفهد قيمة رمزية ذكرية؟ هذه الأسئلة، وغيرها كثير، لا نستطيع الإجابة عنها في الوضع الحالي لمعلوماتنا عن شتال حيوك والعصر النيوليتي عموما، إلا أن ما أود التوكيد عليه مجددا، وبقوة أكثر هذه المرة، هو أن التشكيلات الجدارية في شتال حيوك وتماثيلها الأنثوية المتفرقة، لا تضعنا أمام «بانثيون» للآلهة تتربع فوقه الأم الكبرى الأناضولية، وهو التفسير الذي طرحه جيمس ميلارت مكتشف الموقع، بل إننا ما زلنا هنا أمام شكل أكثر تقنينا وتنظيما للمعتقد النيوليتي. أما الآلهة، فما زال أمامها وقت طويل حتى تظهر على مسرح التاريخ الاعتقادي للإنسان، ولسوف تلبس حين تظهر لبوس القوة وتستلم شاراتها.
مما لا شك فيه أن المعتقد النيوليتي قد تميز عن المعتقد الباليوليتي باستيعابه لأفكار جديدة تدور حول خصوبة الأرض الزراعية، وأن مفهوم الخصوبة العام والغائم جدا قد غدا الآن أكثر تركيزا وتخصيصا، وأخذت الفعالية الإخصابية للقوة تأخذ حيزا أوسع من تفكير الإنسان ومن طقوسه. غير أننا يجب ألا نسير بعيدا وراء التصورات التقليدية عن الأساس النفعي للمعتقدات الدينية الأولى، وعن الدور الحاسم لأفكار الخصوبة في تكوينها؛ ذلك أن المضامين الجديدة المتعلقة بخصوبة الأرض المزروعة والقطعان المؤهلة، قد تكونت على أرضية أقدم لمعتقدات أكثر تجذرا في البنية النفسية للإنسان. ومن ناحية أخرى يمكن القول بأن البحث عن الغذاء لم يكن ذلك الهاجس المسيطر عند الإنسان، سواء في عصوره الباليوليتية أم النيوليتية؛ فلقد أثبت بعض الباحثين مثل م. سالهينز
9
أن اقتصاد الجماعات البشرية التي تعيش على الصيد والالتقاط في مناطق طبيعية غنية، لا يتطلب إلا مقدارا قليلا من العمل، وذلك خلافا للأحكام الرومانسية المسبقة التي جعلت من الإنسان الصياد إنسانا بائسا همه الركض وراء الغذاء. كما بين الباحث هارلان بالتجربة العملية
10
أن جامع الحبوب البرية لم يكن بحاجة إلا إلى ثلاثة أسابيع عمل تكفي حصيلتها لإعالته على مدار السنة. ففي إحدى مناطق جنوب تركيا، حيث تنمو بعض أنواع الحبوب البرية إلى الآن، تزود هارلان بمنجل صواني من النوع الذي استخدمه جامعو الحبوب عند أعتاب العصر النيوليتي، وقام بنفسه بعمل الحصاد على الطريقة القديمة، فاستطاع جمع ما مقداره 2,45كغ من السنابل في ساعة واحدة، وهذه الكمية تعطي كيلوغراما واحدا من الحبوب الجاهزة للطحن، وهذا يعني أن أسرة من الجامعين لن تحتاج إلا إلى بضعة أسابيع عمل في السنة، لتحصل على مئونة سنوية كافية من الخبز. أما مزارعو القرى النيوليتية الأولى، فلم يكونوا في وضع يختلف كثيرا عن وضع جامعي الحبوب؛ ذلك أن بضعة أسابيع أخرى كانت تلزمهم في السنة لبذر الحبوب، وما عليهم بعد ذلك سوى انتظار المطر؛ وبذلك وجد الإنسان القديم أمامه متسعا من الوقت للتفكير في أمور لا تمت إلى سعيه المعاشي بصلة مباشرة. لقد ربط ذلك الإنسان ولا شك بين هاجسه الغذائي وهاجسه الديني، ووجد في القوة الإخصابية الكونية شرطا لنمو النبات وتكاثر الحيوان. إلا أن ما أود التوكيد عليه هنا، هو أن الأيديولوجيا الدينية للجماعات الأولى، صيادة كانت أم مستقرة، لم تكن مشروطة باستراتيجياتها الغذائية، وأن الأفكار حول الخصوبة وعلاقة القوة السارية بالإخصاب قد نمت في وسط فكري مجهز مسبقا لنمو مثل هذه الأفكار، وأن هذا الوسط الفكري هو حصيلة عوامل نفسية بالدرجة الأولى. إن عالما من الصور الذهنية الدينية التي تنمو من خلال مواجهة نفسانية كلانية مع العالم، هو أسبق من أية صلة عملية له مع ظواهر معينة من مجال الطبيعة.
لقد بينا سابقا أن تركيز الجماعة على صيد نوع معين من الحيوان أكثر من غيره، ينجم عن خيار فكري لا عن عوامل طبيعية قاهرة. ويبدو لنا الآن أن الخيارات الفكرية إنما تسبق ضغوطات البيئة في توجيه سلوك الإنسان في مجالات هامة أخرى تتعلق بحياته. فالزراعة، التي أحدثت انقلابا ثقافيا لا يعادله انقلاب في تاريخ البشر، إنما نشأت عن خيار فكري بالدرجة الأولى، والجماعات النيوليتية الرائدة في المشرق العربي، لم تعدل استراتيجياتها الغذائية نحو الاعتماد المتزايد على الزراعة من أجل تلاؤم الجماعة مع وسطها الطبيعي، بل من أجل تلاؤمها مع نفسها.
والأدلة الأثرية في تلك المواقع الزراعية الرائدة، مثل أريحا في فلسطين والمريبط في سوريا، تقدم برهانا ساطعا على ذلك؛ فقد تبين للبروفيسور جاك كوفان، الذي نقب في موقع المريبط وفي غيره، وبالتعاون الوثيق مع علماء نباتات ما قبل التاريخ وعلماء تحليل غبار الطلع، أن المواقع الزراعية الرائدة كانت غنية بالحبوب البرية التي يمكن جنيها والاعتماد عليها في اقتصاديات الجماعة، دون اللجوء إلى مجهود الزراعة المنظمة، وهذا يعني أن تعديل الاستراتيجية الغذائية للإنسان هنا لم يكن مدفوعا بشح البيئة الطبيعية وتراجع حقول الحبوب البرية التي أمدته سابقا باحتياجاته. وقد ترافق هذا الخيار الزراعي مع خيارات أخرى تتعلق بأنواع الحيوانات التي اصطفاها من وسطه الغني لتكون موضوعا لصيده الجديد دون غيرها (وفي حالة تل المريبط كان الحمار الوحشي والثيران)، ومع تغيير جذري في نمطه المعماري الذي تحول من البيت المستدير إلى البيت المستقيم الزوايا (مربع أو مستطيل)؛ الأمر الذي يدل على نضوج أفكار معينة قادت عملية تغيير اجتماعي واقتصادي شامل. وهذه الحقائق إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الظاهرة الفكرية لم تسبق التغييرات على الصعيد المادي فقط، وإنما كانت المحرض على حدوث هذه التغييرات.
11
إن السير في مناقشة هذه المسألة إلى أبعد من ذلك سوف يخرج بحثنا عن خطه المرسوم، وكل ما يهمني هنا هو التوكيد على أن المعتقد الديني باعتباره ظاهرة فكرية، يتمتع باستقلالية كافية عن ضغوط البيئة الطبيعية، وأن الظاهرة الدينية في أصولها هي ظاهرة مستقلة عن الظاهرة الاقتصادية ومتقاطعة معها. أما التأثيرات المتبادلة لهاتين الظاهرتين، والتي يمكن متابعتها عبر تاريخ الحضارة، فليست دليلا على تبعية إحداهما للأخرى بقدر ما هي دليل على قوة واستقلال كل منهما عن الأخرى. وأنا هنا أقف على الطرف النقيض من كارل ماركس وماديته التاريخية. •••
لقد زودتنا حتى الآن دراستنا لمعتقدات العصر الحجري بشقيه القديم والحديث بعدد من الأفكار والمفاهيم الدينية الأساسية، التي تميز المعتقد الديني للإنسان العاقل في أصوله وجذوره التحتية. ولما كان الدين، كما بينا، هو ظاهرة فكرية ونفسانية لا تخضع لتطور ولا تسري عليها قوانين الارتقاء، فإننا يجب أن نعثر على هذه الأفكار والمفاهيم في صلب وأساس كل المعتقدات الدينية للإنسان، بصرف النظر عن الزمان والبيئة والمكان. وبشكل خاص، لا بد من العثور عليها بشكل أكثر وضوحا في معتقدات الثقافات البدائية التي عاشت على هامش الخط الرئيسي لتطور الحضارة العالمية، وحافظت على أحوال معاشية وأنماط فكرية أقرب إلى أحوال وأنماط ثقافات العصر الحجري، وهذا ما سنتعرض له في الفصل القادم، وبعد أن أقدم فيما يأتي ملخصا لما توصلنا إليه حتى الآن في القسم الحالي من دراستنا.
لقد اخترنا في البداية أن نستكشف عالم الديانات البدائية البسيطة (والبساطة هنا ليست صفة سلبية بل إيجابية) بحثا عن المعتقد الأصلي الذي يكمن في أساس كل الديانات، ووجدنا أنه إذا كان هنالك فعلا ديانة بدائية في حالتها الصافية التي لم تهل الحضارة فوقها ركاما فكريا مصطنعا، فإن هذه الديانة هي ديانة العصر الحجري، ثم توصلنا من خلال تحليلنا للشواهد التشكيلية وبقايا المغاور والمدافن، إلى إعادة بناء المعتقدات والطقوس الدينية للإنسان الأول. فمنذ بزوغ عصر النياندرتال، أحس الإنسان في أعماق نفسه وفي آفاق العالم الطبيعي بحضور إلهي كلي ينبي عن نفسه للمشاعر والأحاسيس قبل العقل. وكما يهز هذا الحضور الإلهي أركان النفس بقوة لا نستطيع لها دفعا، كذلك يعبر عن نفسه في شتى مظاهر الطبيعة من خلال قوة تصدر عنه وتنتج كل حركة وحياة في الكون. ولقد صاغ الإنسان هذا الإحساس في معتقد يقسم الوجود إلى مستويين؛ مستوى طبيعاني معاين، ومستوى قدسي فوق طبيعاني لا مرئي يتخلل بقوته المستوى الأول ويجمعه إليه.
والمستوى القدسي لا يتلخص في شخصية إلهية تسكن السماء أو أية جهة من جهات الكون. إنه عالم مواز أو مجال غير معين، وقوته هي أيضا قوة غفلة غير مشخصة أقرب إلى السيالة الطاقية بالمفهوم العلمي الحديث. ولما وجد الإنسان في الطقوس الدينية وسيلة تضعه في تناغم مع عالم اللاهوت، وتعمق إحساسه بوحدة مستويي الوجود، فقد كان لا بد له من شارة مقدسة ترمز إلى الألوهة وتجعلها حاضرة في عالمه، يتوسل من خلالها إلى الحقيقة الكبرى التي لا تؤطرها هيئة مادية، فاختار شاراته المقدسة من وسطه الطبيعي، ومن فصيلة الحيوان التي عقد معها نوعا من القرابة الروحية. وقد أوضحنا أن ما يدعى ب «عبادة الحيوان» هو أمر من ابتكار مخيلة بعض مؤرخي الأديان، ونفينا أن يكون الإنسان قد تعبد للحيوان في أي عصر من عصوره الغابرة، كما أنه لم يتعبد لأية ظاهرة طبيعية إلا بمقدار ما تشف هذه الظاهرة عن القوى الكبرى.
الفصل الرابع
مانا والروح الكبرى في معتقدات الشعوب البدائية
إن أول خطوة منطقية في دراسة معتقدات الشعوب البدائية، هي أن نبدأ بتفحص معتقدات أكثر هذه الشعوب بدائية وبساطة. ولما كان الإجماع قائما بين الباحثين على اعتبار سكان أستراليا الأصليين أكثر الشعوب المعروفة لنا بدائية وبساطة في التنظيم الاجتماعي، فإن دين هؤلاء سيكون محطتنا الأولى بعد أن تخطينا العصر الحجري الحديث. (1) المبدأ الطوطمي
يقوم التنظيم الاجتماعي للقبائل الأسترالية على وحدة مكونة أساسية هي العشيرة (=
clan )، ويتميز هذا النوع من التنظيم عن غيره من التنظيمات التي تبدو مشابهة لأول وهلة، بأن أفراد العشيرة يعتبرون أنفسهم أعضاء في عائلة واحدة تجمعهم قرابة من نوع خاص، تنشأ عن حملهم جميعا لاسم واحد اختاروه لأنفسهم، هو في الوقت نفسه اسم لفصيلة من الحيوان في أغلب الأحيان، أو لفصيلة من النبات في بعضها. وهذا الاسم المختار هو وقف عليهم فقط لا تشاركهم فيه مجموعة أخرى قريبة أو بعيدة، إنه طوطم العشيرة، والاسم الذي يتكنى به كل فرد من أفرادها. وعندما نقول إن الطوطم هو اسم لفصيلة، فهذا يعني أن الطوطم ليس حيوانا بعينه، كأن يكون هذا الكنغر أو ذاك، بل إنه هذه الفصيلة أو تلك بمجملها وبكامل أفرادها. وبما أن الفصيلة الحيوانية تبقى قائمة بصرف النظر عن موت عناصر منها وحلول أخرى بالولادة، كذلك الأمر في العائلة الطوطمية الإنسانية التي تضم جميع الأفراد الأحياء منهم والأموات، وصولا إلى الجدود الأول المؤسسين.
1
ليس التنظيم الطوطمي بالشأن الأسترالي حصرا، بل تشارك فيه مجتمعات الهنود الحمر في أمريكا الشمالية. وفي الواقع، فلقد تم التعرف على ملامح هذا التنظيم الاجتماعي لأول مرة في أمريكا لا في أستراليا، ومصطلح الطوطم بالذات هو مصطلح مأخوذ من إحدى لغات الهنود الحمر، وجرى فيما بعد تعميمه واستخدامه على نطاق واسع في أمريكا وأستراليا على حد سواء. ومع أن المجتمعات الهندية في أمريكا قد قطعت شوطا واسعا في مضمار التقدم عن الجماعات الأسترالية الأقرب إلى مرحلة النياندرتال، فإنها قد بقيت ضمن الخطوط الأساسية للتنظيم الطوطمي، وهذا ما يدفعنا إلى اعتبار الثقافتين بمثابة مرحلتين متتابعتين في سياق تطوري واحد للمجتمعات الطوطمية، ويضفي مشروعية على بعض المقارنات الضرورية أحيانا بين الجماعات الأسترالية والجماعية الهندية في أمريكا الشمالية.
لا يشكل الطوطم بالنسبة للجماعة اسما فحسب، بل هو شارة أو شعار يشبه ما كانت أسر النبلاء في أوروبا العصور الوسطى ترسمه على الدروع والأعلام؛ فزعماء الهنود الحمر كانوا يمهرون معاهداتهم مع البيض بختم عليه صورة الطوطم، وبعض الجماعات منهم ترفع طوطمها بيرقا أثناء القتال، وأخرى ترسمه على التروس والخيام، ولدى الجماعات المستقرة يرسم الطوطم على الجدران الداخلية للبيوت. أما في أستراليا فإن مثل هذه التمثيلات الطوطمية الواضحة ليست على نفس الدرجة من الشيوع؛ لأن الأستراليين لم يبلغوا درجة من المهارة في التصوير والحفر تمكنهم من تنفيذ رسوم دقيقة لطوطمهم، فصورة الطوطم عندهم لم تكن أكثر من هيئة اصطلاحية تحتوي على عدد من الخطوط، ويفهمها الجميع على أنها صورة طوطمهم. وفي الحالات القليلة التي يعمد فيها الأسترالي إلى رسم طوطمه، فإنه يحفر صورته على الأدوات الطقسية، وهي الحالة الأكثر شيوعا لظهور هيئة الطوطم الاصطلاحية. يضاف إلى ذلك حالات أخرى لوحظت لدى بعض الجماعات، حيث ترسم صورة الطوطم على التربة قرب قبر المتوفى بعد دفنه، أو تحفر على أقرب شجرة إلى القبر، ولدى البعض الآخر يحفر الطوطم على جذع الشجرة المجوف الذي يحتوي رفات الميت. وفي بعض المناسبات الطقسية وخصوصا طقوس التعدية (=
initiation )، التي تنقل الشباب البالغين من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة وتلقنهم أسرار دينهم، يرسم الطوطم على أجساد الشباب المشاركين في الطقس. إن مثل هذه الاستخدامات لصورة الطوطم تبين لنا أن الطوطم بالنسبة للعشيرة ليس مجرد اسم أو شعار، بل هو في الوقت نفسه شارة ذات بعد روحي وديني. وكما سنرى بعد قليل، فإن هيئة الطوطم إنما تشير إلى جوهر العالم القدسي عند الأستراليين.
تستخدم قبائل وسط أستراليا في أداء طقوسها أدوات خاصة يدعونها ب «التشورينغا»، وهي عبارة عن قطع من الخشب أو الحجر المصقول يغلب عليها الشكل البيضوي أو المستطيل. ولكل جماعة عدد من هذه الأدوات قل أو كثر، تحفر عليها صورة طوطمها وتنظر إليها بعين القداسة، فإذا أتمت طقوسها الدينية حفظت هذه الأدوات في حرز حريز، قد يكون كهفا في جبل أو وهدة في مكان مهجور، ويختم عليها بطريقة لا تسمح لعابر أن يتبين ما تحت الغطاء من كنز ثمين. ويشع هذا المكان الذي حفظت فيه التشورينغا هالة من القداسة على ما حوله من الهيئات الطبيعية إلى مسافة كبيرة، وتشكل الدائرة المحيطة به مكانا حراما لا يجوز في الاقتتال أو الصيد، ومن دخله صار آمنا من أعدائه، أما النساء وغير البالغين من الفتيان فيحظر عليهم الاقتراب من المكان، كما يحظر عليهم حتى النظر إلى الأدوات الطقسية عندما يتم إخراجها لإقامة الطقوس. ويعزو الأسترالي للتشورينغا خصائص فوق طبيعانية متعددة؛ فهي تشفي الأمراض عن طريق التماس، وتهب قوة خاصة للجماعة الطوطمية، فتشد من عزيمة أفرادها بينما تفت من عضد أعدائهم. والأهم من ذلك كله أن مصير الجماعة معلق على هذه الأدوات، فإن ضاعت لسبب من الأسباب تعرضت العشيرة للمصائب والفواجع.
لا تعدو التشورينغا أن تكون قطعا مادية من الخشب أو الحجر مما هو متوفر في المحيط الطبيعي، إلا أن ما يميزها عن بقية الموضوعات الدنيوية المادية هو شارة الطوطم المحفورة أو المرسومة عليها، والتي تعطيها صفة القداسة. أما الطريقة التي يرسم بها الأسترالي شارة طوطمه على الأدوات الطقسية أو غيرها، فتتميز بالاختزال الشديد، حيث يكتفي المصور بتنفيذ شكل مكون من خطوط هندسية فجة لا تربطها بالهيئة الطبيعية لموضوعه إلا أوهى الروابط؛ أي إن ما يتم تنفيذه فعلا عن التشورينغا أو الصخور وجذوع الأشجار والجسد الإنساني، لا يعدو أن يكون هيئة اصطلاحية لا يعرف معناها سوى أصحاب الطوطم والمعنيين بالأمر منهم، وأن الأسترالي لا يرسم طوطمه لغرض الحصول على صورة دقيقة تمثله، بل لتجسيد شارة تبقي الفكرة التي يمثلها الطوطم حاضرة أبدا؛ فصورة الحيوان هنا ليست مقصودة لذاتها، بل لما وراءها من أفكار تنتمي إلى مستوى آخر غير منظور، والطوطم الممثل في هيئة مادية ليس إلا رداء لقوة غير مادية.
إلا أن تقديس الشارة الطوطمية لا يتجاوز صورة الحيوان إلى الحيوان نفسه، والحيوان الذي اعتمدت صورته طوطما لا يدخل في الطقوس الدينية للعشيرة، رغم تمتعه بمكانة خاصة تميزه عن بقية الحيوانات. فالحيوان الطوطمي يتمتع بكثير من الاحترام والتبجيل، ولكن الأمر لا يصل بالجماعة إلى حد تأليهه كما هو الحال في صورته المقدسة. ورغم أن صيده وأكل لحمه محرم إلا في مناسبات طقسية معينة، إلا أن هذا التحريم لا ينسحب على أفراد الجماعات الأخرى التي تجد نفسها حرة في صيده وأكله، كما أن صيد الحيوان ممكن لجماعته في حال التعرض للمجاعة، أو في حال الدفاع عن النفس إذا كان من الكواسر. ومن علائم التمييز بين الحيوان الطوطمي وشارته المقدسة، أن الحيوان يمكن لمسه ورؤيته من قبل النساء وغير البالغين من الذكور، على عكس الشارة الطوطمية التي تحاط بشتى أنواع تابو اللمس والنظر وحتى الاقتراب، وهو يعيش في العالم الدنيوي الذي يعيش فيه الناس، على عكس صورته المحفورة على الأدوات الطقسية التي تخفى بعيدا عن جو العالم الدنيوي. والأسترالي يجتمع مع أفراد عشيرته أمام شارة الطوطم في المناسبات الدينية فيرقص حولها ويتعبد لها، ولكنه لا يستبدلها قط بالحيوان الطوطمي نفسه. وعندما يقوم بتعدية الفتيان البالغين إلى طور الرجولة وتلقينهم أسرار حياتهم الدينية، فإنه يفعل ذلك في الحرم المقدس حيث تحفظ صور الطوطم، لا حيث تسرح جماعات الحيوان الطوطمي. من هنا، فإن الاعتقاد الساذج بأن الطوطمية هي نوع من عبادة الحيوان، هو اعتقاد بعيد عن واقع الأمور، وقد جاء نتيجة الكتابات المتعجلة التي قدمت إلى الجمهور لتعريفه بالطوطمية خلال الفترات المبكرة لاكتشافها.
ولكن إلى ماذا تشير صورة الحيوان الطوطمي؟ وما الذي يعبده الأسترالي من وراء هذه الشارة المقدسة؟ إن تحليل المعلومات التي تم جمعها عن حياة المجتمعات الأسترالية ومعتقداتها وطقوسها الدينية منذ أواسط القرن التاسع عشر، يشير إلى أن ما يقدسه الأسترالي بالدرجة الأولى هو قوة غفلة غير مشخصة، بلا اسم وبلا شخصية وبلا تاريخ حياة، تسري في مظاهر الكون المادي جميعا، لا في هذا المظهر أو ذاك، ولا في هذه الفصيلة الحيوانية أو تلك. وقد عمد الأسترالي إلى تجسيد هذه القوة الغفلة، من خلال موضوع مرئي مأخوذ من عالم النبات أو الحيوان، وهذا هو الطوطم الذي يعبر من خلال شكله المادي عن الجوهر غير المادي، عن تلك الطاقة المنبثة في كل شيء والجديرة وحدها بالعبادة والتقديس. ولكن الأسترالي لا ينظر بالدرجة الأولى إلى هذه القوة باعتبارها قوة غيبية مفارقة، بل يراها كقوة فعلية تعبر عن نفسها بقوة ووضوح من خلال سيالتها في الموضوعات المادية، وهو يخشى بالفعل من التعامل معها بطريقة مخالفة للأصول؛ كي لا تصيبه بنوع من الصدمة التي تشبه ما نعرفه عن الصدمات الكهربائية. وبالإضافة إلى دور هذه القوى على المستوى الطبيعاني، فإنها تلعب دورا على المستوى الاجتماعي؛ لأن الطوطم هو في الوقت نفسه مصدر الحياة الأخلاقية للجماعة؛ ذلك أن كل أعضاء العشيرة المشتركين بالطوطم الواحد يشعرون برابطة أخلاقية تجمعهم وتنظم حياتهم.
2
غير أن المجتمعات الطوطمية في طورها المتقدم الذي نواجهه في أمريكا الشمالية، قد سارت بمفهوم المبدأ الطوطمي، الذي تتركز حوله المعتقدات الدينية للأستراليين، نحو شكل أكثر شمولية ونقاء. فلدى القبائل الهندية التي تنتمي إلى فخذ السيواكس
Sioxs (ومنهم الوماها والبونكا وكنساس وداكوتا) عدد من الكائنات الإلهية التي تتركز حولها الطقوس الدينية، إلا أنه فوق هذه الكائنات هناك قوة شمولية غير مشخصة تستمد منها هذه الكائنات الإلهية وجودها وفعاليتها، وتسمى واكان
Wakan . وقد ترجم هذا الاسم خطأ من قبل المبشرين الأوائل والرحالة ب «الروح الكبرى». ووجه الخطأ هنا أن مفهوم الروح مرتبط دوما بالتشخيص الغريب كل الغرابة عن مفهوم الواكان؛ فالواكان هو السر المحرك للكون، وليست مظاهر الطبيعة كالأرض والرياح الأربعة والشمس والقمر والنجوم إلا تمظهرات لهذه القوة المحركة الشمولية المتخللة في كل شيء، والتي تشبه أحيانا بنسمة الهواء التي تتمفصل مع الكون عند الجهات الأربع وتتسبب في تحريك كل متحرك. إن خصائص الواكان لا تتبدى في مقدرته على إتيان هذا الفعل أو ذاك، ولكنه القوة بالإطلاق، والمبدأ الذي به يقوم كل شيء، الطاقة التي تغذي كل قدرة متبدية في هذا العالم؛ ففي الأساس من كل ظاهرة، هناك مقادير من هذه الطاقة غير متكافئة، وليس الاستقرار الكوني إلا نتاج تقابل هذه القوى غير المتكافئة وتحييدها لبعضها بعضا.
3
ونجد الاعتقاد نفسه لدى جماعات الهنود الحمر الأخرى مع اختلاف التسميات. فلدى هنود ميامي وأوتاوا وإلينوي، يقوم المعتقد الديني على الإيمان بقوة شمولية كلية السلطان وكلية الحضور يدعونها مانيتو، يتجلى حضور هذه القوة من خلال دورة الأيام والفصول وخصب الأرض وطاقة الحركة في الأحياء وأفعال الأرواح غير المرئية، وهو حضور لا يمكن حصر آثاره لأنه أساس كل التحولات الجارية في العالم. وإضافة إلى هذا التجلي للمانيتو على المستوى الطبيعي، فإن له تجليا آخر على المستوى الاجتماعي؛ فعن طريق الأحلام يتلقى القادة عون القوة على اتخاذ القرارات، ومنها يتم استلهام أغان ورقصات جديدة، وما إلى ذلك من فنون وطقوس تعيد شحن الحياة الثقافية للجماعة؛ فهي مصدر الوحي والحياة الفكرية والروحية والجمالية للإنسان. وهم يطلقون التسمية مانيتو بصيغة المفرد للدلالة على القوة الموحدة والجامعة للأجزاء، وأيضا بصيغة الجمع للدلالة على جملة الأرواح الكائنة في هذه القوة الموحدة.
4
ويطلق هنود الأراضي السهلية على القوة تسميات معادلة للمانيتو، منها زوبي
Xube
وواكان
Wakan
وبوها
. ورغم أن هذه الكلمات قد ترجمت إلى «الروح الكبرى» أو «السر الأعظم»، وبما يتفق مع مفاهيم الرجل الأبيض، إلا أن الدراسات الحديثة تفيد الآن بضرورة استخدام تعابير أكثر دقة؛ فكلمة واكان مثلا ينبغي أن تترجم إلى «كلي القداسة»، وهي ترمز أحيانا إلى ست عشرة شخصية إلهية.
5
وفي الحقيقة، فإن تأثير الثقافة الأوروبية قد أدى إلى إدخال تحويرات عميقة على المعتقدات الدينية للهنود الحمر، ومنها إلى ظهور مفهوم الشخصيات الإلهية الخالقة، وهو مفهوم لم يكن له وجود، أو أنه قد وجد بشكل جنيني غير واضح في بعض الأحيان. فلدى هنود كاليفورنيا الذين وجدت لديهم ميثولوجيات متأخرة تدور حول شخصيات إلهية مكتملة، كان المعتقد الأصلي يتركز حول مفهوم للقوة الكونية غير المشخصة تتخلل الكون، فهي أقرب ما تكون إلى ساح دينامي ينطوي على كل الممكنات وينتج كل الأشياء، وذي طبيعة حيادية بعيدة عن المعايير الأخلاقية.
6
أما لدى هنود الجنوب الغربي، فيسود الاعتقاد بقوة هي أقرب إلى السيالة الروحية التي تتبدى تحت العديد من الأقنعة، وتتمثل في موجودات العالم الطبيعي وفوق الطبيعي؛ أي إنها قوة غير محددة الملامح، ولكنها تتحول إلى مظاهر مادية مثل النباتات والحيوانات والأجرام السماوية، وإلى مظاهر غير مادية أيضا مثل الشخصيات الإلهية.
7
استنادا إلى ما تقدم، يمكن القول بأن الطوطمية الأسترالية قد رأت الألوهة في قوتها السارية فقط، ولم تتأمل في المجال القدسي الذي صدرت عنه هذه القوة. أما الطوطمية في أمريكا الشمالية فقد رأت فيما دعوناه تجاوزا بالروح الكبرى مجالا قدسيا وقوة سارية في الآن نفسه.
لا يقتصر هذا الشكل من المعتقد الديني البدائي على المجتمعات الطوطمية، البسيط منها والمتطور، وإنما يتجاوزها إلى معظم المجتمعات البدائية التي عاشت على هامش الخط الرئيسي لتطور الحضارة العالمية. وبشكل خاص فإننا نواجه مفهوم القوة في أساس معتقدات ثقافات المحيط الهادي البولينيزية منها والميلانيزية؛ فمن ميلانيزيا جاءنا مصطلح المانا الذي تم استخدامه منذ التعرف عليه للدلالة على معتقد القوة أينما وجد لدى بقية الثقافات البدائية. وقد قدم مصطلح المانا لأول مرة إلى الحلقات الأنتروبولوجية المبشر كوردينغتون
Cordington
في كتابه عن جزر ميلانيزيا وثقافاتها، والصادر عام 1891م تحت عنوان
The Melanesians ، يقول كوردينغتون: «هناك اعتقاد لدى الميلانيزيين بوجود قوة حيادية أخلاقيا وغير مادية يطلقون عليها اسم مانا. ورغم أن هذه القوة غير مادية وفوق طبيعانية، إلا أنها تتبدى بشكل مادي وتحدث آثارا مادية، وهي لا تتركز في موضوعات معينة، بل تتخلل كل شيء. وتدور ديانة ميلانيزيا حول طريقة التعامل مع هذه القوة وتوجيهها من أجل الإفادة من آثارها. غير أننا يجب أن نحذر من النظر إلى المانا باعتبارها شخصية إلهية عليا؛ لأن فكرة الإله الأعلى هي فكرة غريبة عن العقل الميلانيزي.»
8
انطلاقا من ملاحظات كوردينغتون عن الديانة الميلانيزية، توسع باحثون آخرون في دراسة مفهوم المانا في ديانات جزر المحيط الهادي، وأهم هؤلاء الفيلسوف والأنتروبولوجي البريطاني ماريت
R. Marett . يرى ماريت في كتابه
The Threshold of Religion ، الصادر في لندن عام 1909م، أن الميلانيزي يحس بحضور عالم فوق طبيعاني يتجلى كشيء خارق وغير مفهوم، يستثير الإحساس بالروع، ويجد الإنسان نفسه معه في علاقة غير اختيارية ولا يمكن دفعها. وهو يميز بين حالين للمواجهة مع العالم فوق الطبيعاني؛ حال إيجابي وحال سلبي، فيدعو الأول بالمانا، وهو الإحساس بفعالية ذلك العالم وآثاره في الإنسان ومظاهر الطبيعة، ويدعو الثاني بالتابو، وهو الإحساس بالجوانب الخطرة لتلك الفعالية واحتمالات الأذى الكامن فيها، وضرورة مراقبتها بحذر.
9
فإذا انتقلنا من جزر المحيط الهادي إلى أفريقيا السوداء، وجدنا أن الديانات الأفريقية رغم احتكاكها المبكر بديانات الحضارات الكبرى منذ عهد الفراعنة، وتلقيها لمؤثرات غريبة كثيرة، فقد حافظت على الملامح الأساسية للمعتقد الديني البدائي. ونحن نستطيع بالفعل أن نعثر في أساس كل الديانات الأفريقية على معتقد جوهري تقوم عليه بنية الدين الأفريقي المعقدة والمتشابكة الفروع والأغصان، وهذا المعتقد يتماشى ومصطلحينا اللذين اعتمدناهما حتى الآن؛ أي المجال القدسي والقوة السارية.
في جميع الديانات الأفريقية التقليدية، هناك اعتقاد بوجود عنصر غير مادي يسكن في الأشياء والكائنات المرئية كانت أم غير المرئية، هو نوع من القوة الحيوية التي تتوزع بهذا المقدار أو ذاك على كل عنصر من عناصر العالم. وهذه المقادير من القوى هي أجزاء متفرقة من قوة كونية عظمى تنبث فيما لا يحصى من الموضوعات. إن هذا الإيمان يجعل الأفريقي ينظر إلى الكون بمستوييه المنظور والغائب باعتباره كلا مترابطا ترابطا محكما من خلال نسيج القوى الذي يشده كشبكة مترابطة متماسكة؛ فلا شيء في هذا العالم يتحرك دون أن يؤثر بحركته على القوى الكامنة في الأشياء الأخرى، والقوى في توزعها غير المتساوي في الأشياء هي في حالة تعارض وتناقض دائم فيما بينها، إلا أن هذا التعارض لا يقود إلى اختلال النظام في العالم، بل إلى نوع من التوازن الدينامي الذي يقوم على الفعل المتبادل بين القوى المنبثة في العالم المادي-الروحاني. ولكن التوازن يضطرب أحيانا، خصوصا على يد الإنسان عندما يرتكب خطيئة أو رجسا طقسيا، وهنا يمكن إصلاح الخلل عن طريق التحكم الطقسي بمقادير الطاقة المتوزعة، وذلك بالأضاحي الدموية التي تحرر القوى الحيوية من الأضحية.
10
إن كل عنصر في العالم هو متلق ومخزن ومرسل للقوة. ويمتلك السحرة بشكل خاص مقدارا عاليا من هذه القوة؛ وذلك بسبب إمكانياتهم الفطرية أو المكتسبة على اجتذاب القوة واستخدامها في سبيل الخير أو الشر. ومثل السحرة أيضا الملوك والزعماء وبعض الشخصيات الاستثنائية، فهؤلاء يمتلكون مقدارا أكبر من القوة يجعلهم في وضع متميز. هذه الفكرة الأفريقية عن هرمية القوى في الكون وتوازنها الناجم عن دينامية داخلية، تعارض المفهوم المتعارف عليه في الحضارات الكبرى عن عالم مستقر تم تنظيمه على يد خالق ضليع في عمليات الحساب، وهي تقترب كثيرا من المفاهيم الحديثة عن المادة باعتبارها تجمعا لقوى عرفنا كيف نحررها ولم نتعلم بعد السيطرة عليها.
في الكونغو، تسمي شعوب منعطف النهر هذه القوة إيليما، وهم يعتقدون أنها موجودة في كل مكان، ولكنها توجد بشكل خاص في بعض الأماكن المقدسة، كما أنها تتوضع في أماكن معينة من جسم الإنسان مثل الشعر والعين والكبد، وبصورة خاصة في الدم. كما تتركز القوة في الاسم، ومن هنا تلك الهالة السحرية التي تحيط بالاسم عند الأفريقي؛ فقد بلغ الأمر لدى بعض القبائل حد إبقاء الاسم الحقيقي لكل فرد طي الكتمان حتى لا يطاله ساحر شرير بالأذى. وتطلق شعوب البامبا والدوغون على القوة اسم نياما، وهم يعتقدون أنها تكمن في الأضحية. وترى شعوب الديولا إلى العالم على أنه هرم من القوى يأتي الإله الأكبر في قمته بينما يحتل البشر قاعدته، ويلعب حشد الجن دور الوسيط حيث ينظمون سريان القوة بين العالمين، وهذا يعني أن الديانات الأفريقية لا تستبعد الآلهة المشخصة أو الكائنات الروحية الأخرى؛ وذلك بسبب احتكاكها المبكر بالحضارات الكبرى التي تلعب الكائنات الإلهية فيها دورا واضحا، غير أن الآلهة الأفريقية بقيت أقرب إلى القوى غير المشخصة، فهي حيادية من الناحية الأخلاقية، ويمكن للطقوس التي يمارسها الاختصاصيون أن تجبرها على تحقيق الغرض الذي من أجله أقيم الطقس، لا نستثني من ذلك الإله الأكبر نفسه، الذي يبدو كقوة عمياء لا كأب عادل منصف؛ فالخير والشر والعدالة ليست من اختصاص الآلهة، والديانات الأفريقية لا تتصل بالأخلاق. •••
إن ما أوردناه أعلاه من أمثلة عن معتقدات شعوب بدائية تنتمي إلى أربع قارات، كاف لإظهار أوجه التقارب والتشابه بين المعتقد البدائي الحديث ومعتقد العصر الحجري. لقد اعتقد الباحثون طويلا أن إنسان ما قبل التاريخ (ومثله إنسان الثقافات البدائية) كان محكوما بحواسه، وأن علاقته مع العالم لم تكن تخرج عن حدود مجابهته الحسية المباشرة مع ظواهره، وبنوا على هذا أن تصور الإنسان لعالم الإلهيات قد ابتدأ مع خلق ألوهات مشخصة أو كائنات روحية متفوقة. ولكننا استطعنا، حتى الآن، أن نثبت أن الدين لا يبتدئ مع الآلهة، وأن المعتقدات الأولى التي كونها الإنسان نتيجة إحساسه بالعوالم القدسية غير المنظورة ، إنما تدور حول مفاهيم عالية التجريد، وشديدة الاتصال بالواقع في الوقت نفسه. يقول أحد حكماء قبائل الداكوتا في معرض شرحه لمعتقد الواكان، للباحثة فليتشر، ما يلي: «إن كل متحرك لا بد له من التوقف هنا أو هناك؛ فالطائر في طيرانه يتوقف ليصنع له عشا، والإنسان عندما يمشي يتوقف أينما أراد، وكذلك الواكان كان له توقفات؛ الشمس البهية المضيئة نجمت عن مكان توقف عنده الواكان، وكذلك الأشياء الأخرى من حيوانات وأشجار وما إليها، كلها نجمت عن مكان توقف عنده الواكان. وإن الهندي عندما يرسل صلاته يفكر في هذه الأمكنة التي توقف عندها الواكان من أجل الحصول على العون والبركة.»
11
وبكلمات أخرى، فإن القوة السارية تتحرك في العالم جيئة وذهابا لتصنع المكان، وليست الموجودات جميعا إلا مظاهر لتكشف هذه الطاقة التي تجمع عالم اللاهوت وعالم الناسوت إلى وحدة تضمهما معا رغم التمايز الوهمي بينهما.
ستكون الخطوة الرئيسية التالية أن نعمد إلى دراسة معتقدات الحضارات الكبرى؛ لكي نختبر صحة استنتاجاتنا حول الحد الأدنى الاعتقادي، أو المعتقد الجوهري الذي تقوم عليه الظاهرة الدينية عند الإنسان. فهل ستظهر لنا معتقدات الحضارات الكبرى ما وجدناه في معتقدات الإنسان الأول والبدائي؟
قبل الشروع في هذه الخطوة الجديدة من دراستنا، سوف نتقدم باستطرادين لا بد منهما عند هذه المرحلة التي وصلنا إليها؛ الاستطراد الأول حول علاقة السحر بالدين؛ والثاني، وهو الأهم، حول ظهور الآلهة المشخصة في تاريخ الدين، وعلاقة معتقد الآلهة المشخصة بمعتقد المجال القدسي وقوته السارية.
الفصل الخامس
بين السحر والدين
انطلاقا من فرضية الفيلسوف هيجل، التي تقول بأن عصرا ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية، قام رائد الأنتروبولوجيا النظرية في بريطانيا السير جيمس فريزر بصياغة نظريته المعروفة حول أصل الدين وعلاقته بالسحر. في البداية، يفترض فريزر أنه قد مر على الإنسان عهد ظن فيه أن بمقدوره التحكم في سير عمليات الطبيعة بواسطة تعاويذه وطقوسه السحرية. وعندما اكتشف بعد فترة طويلة قصور هذه الوسائل عن تحقيق غايتها، تصور أن الطبيعة التي تأبت على الانصياع له، واقعة تحت سلطان شخصيات روحانية فائقة القدرة، فتحول إلى عبادة هذه الشخصيات واستعطافها، واسترضائها بالأضاحي والقرابين، لتقف في صفه وتلبي له حاجاته؛ وبذلك ظهر الدين وتحول الإنسان عن السحر، وحل كاهن المعبد محل ساحر القبيلة. يقول في كتابه الغصن الذهبي:
في شكله الصافي، يفترض السحر التعاطفي أن الأحداث في الطبيعة يتلو بعضها بعضا، بشكل اطرادي دون تدخل من شخصيات روحانية ما ورائية. من هنا، فإن المفهوم الأساسي للسحر يتشابه مع المفهوم الأساسي للعلم الحديث، حيث يسود الإيمان التام بالانتظام والتماثل في الطبيعة. فالساحر لا ينتابه شك في أن الأسباب الواحدة سوف تنتج بالضرورة النتائج نفسها، وفي أن إتيان الطقوس المناسبة المصحوبة بالتعاويذ المناسبة سوف تتلوها النتائج المرغوبة، إلا إذا تدخلت قوة ساحر أقدر منه للحيلولة دون ذلك. والساحر في عمله هذا، لا يلتمس عون أية قوة عليا، ولا يسعى لاستمالة كائن روحاني ما، متقلب المزاج أو عصي على الإرضاء. إنه يؤمن بقدرته غير المحدودة طالما استطاع استخدام تقنياته على الوجه الصحيح.
ولكن، إذا كان السحر هو أقرب الأقرباء إلى العلم من حيث افتراضاته الأساسية، فما هي صلته بالدين؟ قبل الشروع في الإجابة على هذا التساؤل، ينبغي علينا أن نوضح ما الذي نعنيه بالدين؛ لأن الإجابة سوف تتلون وفق ما نراه من شأن الدين وطبيعته. إن الدين، كما أراه، هو تلك الأفعال الهادفة إلى استعطاف أو استمالة قوى متفوقة، يعتقد الإنسان بقدرتها على التحكم بمسار الطبيعة والحياة الإنسانية؛ أي إن هنالك عنصرين مكونين للدين؛ واحد نظري يتعلق بالإيمان بالقوى المتفوقة، وآخر عملي يتعلق بالعمل على استرضاء هذه القوى.
فإذا كان الدين اعتقادا بكائنات خارقة تحكم العالم، والقيام بما من شأنه التأثير على هذه الكائنات، فإن الإنسان المتدين يفترض أن سير العمليات في الطبيعة هو عرضة للتبدل والتغير في أي وقت، إذا تدخلت الكائنات المقدسة التي تتحكم في الطبيعة من أجل ذلك، فإننا نستطيع إقناع هذه الكائنات بإحداث مثل هذه التغيير لصالحنا. وهذا يعني أن الطبيعة في الفكر الديني ذات خصائص مرنة، على عكس ما يتصورها الفكر السحري الذي يفترض فيها الصلابة والثبات، وعدم خروج عملياتها عن مسارها نتيجة التوسط لدى القوة الإلهية المتحكمة بها. وهكذا، فبمقدار ما ينظر الدين إلى العالم كجملة محكومة من قبل كائنات عليا عاقلة، يمكن التدخل لديها وإقناعها من أجل تعديل سلوكها، بمقدار ما يقف على طرف نقيض مع السحر ومع العلم أيضا؛ ذلك أن السحر والعلم يؤمنان بأن العالم لا تحكمه أهواء كائنات عليا مشخصة، بل عدد هائل من القوانين التي تفعل فعلها بشكل آلي. قد يتعامل السحر مع كائنات روحانية تشبه ما لدى الدين، إلا أنه يتعامل معها بطريقته الخاصة التي تختلف عن الدين؛ ففي الطقوس السحرية لا يتوسل الساحر إلى هذه الكائنات، بل إنه يجبرها على تنفيذ مشيئته ... وهنا نجد امتزاجا بين السحر والدين ضمن نظام مختلط ... إلا أن هذا التمازج ليس أصليا بل طارئ؛ فلقد مر على البشرية وقت اعتمدت فيه على السحر وحده ... ولعل في المثال الأسترالي ما يعزز استنتاجاتنا. ففي أستراليا، حيث نواجه أكثر المجتمعات الموثقة لدينا بدائية، نجد الجميع يلجأ إلى السحر، بينما نلاحظ غياب الدين بالمعنى الذي أوضحناه؛ أي التقرب إلى قوى عليا واسترضائها. فكل فرد هنا يتخيل أنه يستطيع التأثير في أقرانه أو في الطبيعة من خلال السحر التعاطفي، ولا يفكر أبدا باسترضاء إله ما بالصلوات أو القرابين. «ولكن إذا كان عصر السحر قد سبق في كل مكان عصر الدين، كما غامرنا بالحدس والافتراض، فإن من الطبيعي أن نتساءل عن الأسباب التي حدت بالجماعات الإنسانية، أو ببعضها، إلى نبذ السحر كعقيدة وممارسة، واللجوء إلى الدين. وفي الحقيقة، فإن الوضع الراهن لمعلوماتنا عن هذه المسألة لا يساعد على تقديم حل مرض وواف لها، ولكننا نستطيع المخاطرة بتقديم افتراض يتمتع بقدر لا بأس به من المعقولية، وبكل الحذر اللازم؛ فبعد أن اكتشف الإنسان متأخرا زيف وعقم السحر، حاول تكوين نظرية أكثر صدقا لتفسير الطبيعة وتسيير عملياتها لصالحه ... فإذا كان هذا العالم الواسع يسير في سبله غير آبه بالإنسان وطقوسه السحرية، فإن ذلك راجع ولا شك على أنه مسير من قبل كائنات غير منظورة، واعية مثل الإنسان ولكنها أكثر قدرة بما لا يقاس، وهي التي تقوم على تدبير شئون الظواهر التي اعتقد لفترة طويلة باعتمادها على طقوسه السحرية. وهكذا ابتدأ الإنسان تدريجيا بالتوجه إلى هذه الكائنات المبجلة معترفا بعجزه أمامها، واعتماده على قواها غير المنظورة من أجل حياته ومعاشه.»
1
لقد كان من الضروري أن نتوقف هذه الوقفة الطويلة نسبيا عند أفكار فريزر كما بسطها في غصنه الذهبي؛ لما كان لآرائه من تأثر كبير في حقل دراسة الدين وأصوله. ورغم أن كتاب فريزر، الذي اكتملت أجزاؤه الاثنا عشر في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لم يؤثر كثيرا على علم الأنتروبولوجيا، إلا أنه يعتبر أعظم آثار المدرسة التطورية طرا، وكان له سلطان على الدراسات الكلاسيكية وعلى الآداب والفنون في الثقافة الغربية المعاصرة. وقد كان للغصن الذهبي تأثير مباشر على مدرسة التحليل النفسي، وبشكل خاص فقد أثر كتابه الآخر
Totem and Exogamy (1910م) على كتاب فرويد الشهير
Totem and Taboo (1913م)، الذي يعتبر إلى جانب كتابيه الآخرين
The Future of an Illusion
و
Civilization and its Discontent
بمثابة مساهمة فرويد الخاصة في المدرسة التطورية، وربما آخر إنجازاتها الكبيرة.
إن التمييز الحاد الذي وضعه فريزر بين السحر والدين، يأتي نتيجة لفهمه الخاص للدين ولما هو ديني؛ فلقد أوضح منذ البداية أنه لا يرى دينا إلا عندما يرى طقوسا تتوسل إلى كائنات روحية فوق طبيعانية تتحكم في مظاهر الطبيعة، وأن الدين لم يبتدئ في تاريخ الإنسان إلا مع ظهور الآلهة المشخصة. وقد قاده ذلك، كما هو متوقع، إلى اعتبار كل معتقد وطقس سابق على ذلك، بمثابة معتقد سحري وطقس سحري لا يمت إلى الدين بصلة. ولكن استقصاءنا عبر الفصول السابقة، قد قادنا إلى رؤية مختلفة تماما لعلاقة الدين بالسحر، فكما أشرت باقتضاب وفي أكثر من موضع، فإن الدين لم ينشأ عن السحر؛ لأنه لا فرق بين السحر والدين عند منابت وجذور الثقافة الإنسانية، وليس الذي يدعوه فريزر سحرا إلا شكلا أصليا وأوليا من أشكال الدين، سابقا على ظهور الشخصيات الإلهية في المعتقدات الدينية للإنسان؛ فالساحر الذي يتوسط بين الأسباب ونتائجها، لا يعتمد مبدأ ميكانيكية الطبيعة وخضوع عملياتها لقوانين ثابتة، كما يرى فريزر ومن يردد مثل أفكاره إلى الآن، بل على مبدأ القوة السارية الذي يربط عالم الظواهر، ويكمن خلف تسلسل الأحداث في الطبيعة. والقوى التي يعتمد عليها الساحر هي قوى دينية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
إن أي مخلوق منتصب على قائمتين، وذي دماغ يعادل وزنه ما للغوريلا والشيمبانزي، لن يمكنه التصديق، اعتمادا على تجربته المباشرة مع الطبيعة، بأن تقليد حادث ما يمكن أن يؤدي إلى وقوعه. ومع ذلك، فقد رأينا أن الإنسان الأول كان يقلد في حركات طقسية سقوط الطرائد صرعى حرابه قبل التوجه إلى حقل الصيد، ورأينا أن الإنسان البدائي يقلد صوت سقوط المطر بأدوات طقسية متنوعة استجلابا للمطر، فكيف توصل الإنسان إلى ابتكار هذه الممارسات التي تتعارض من حيث الظاهر مع كل تجاربه العملية؟ في الحقيقة، لقد طور الإنسان منذ عصور وعيه المبكرة مفهوم السببية تدريجيا، من خلال مراقبته للعمليات الجارية من حوله؛ فالحرارة تسبب الحريق، والماء يطفئ النار، والسحاب ينزل المطر ... إلخ، إلا أن ما يميز مفهوم السببية عند الإنسان القديم عن مفهومه عند الإنسان الحديث، هو أن الإنسان الحديث يعزو الأثر الذي ينتقل بين السبب والنتيجة إلى خصائص كامنة في طبيعة الأشياء، أما الإنسان القديم فيرى أن العنصر الفاعل وراء السببية هو قوة تنقل الأثر من السبب إلى النتيجة، وتتوسط بين طرفي الحادث. من هنا فإن طقس المحاكاة الديني أو السحري، هو إجراء يهدف إلى التأثير في القوة من أجل دفعها إلى إحداث النتيجة المطلوبة، وهو يشبه فعل الصلاة أو تقريب القرابين في الأديان التي تجزأت فيها القوة الأصلية إلى عدد من القوى الإلهية المشخصة. وفي الواقع، فإن ظهور الآلهة المشخصة في تاريخ الدين هو الذي أدى إلى استقلال السحر عن الدين، حيث توجهت طقوس الدين إلى الآلهة، وبقيت طقوس السحر تدور حول المفهوم القديم للقوة السارية، بعد أن ابتعد هذا المفهوم عن بؤرة الحياة الدينية، وتحول إلى إحساس بقوى غامضة مؤثرة في الطبيعة.
غير أن التحول من طقوس التأثير في القوة وما تقوم عليه من معتقدات، إلى طقوس التضرع والصلوات وتقريب القرابين إلى الآلهة، لم يتم إلا ببطء شديد، وبقيت طقوس التأثير في القوة التي ندعوها سحرية قائمة بقوة في قلب الديانات التي تقوم على الإيمان بالآلهة المشخصة، ويمكن في هذا المجال إيراد الكثير من الأمثلة.
ففي سفر الخروج التوراتي (9-10)، يقوم موسى وهارون بعدد من الممارسات التي لا تخفي طابعها السحري؛ فلكي يعمل موسى على إصابة المصريين بالبثور والدمامل، يلجأ إلى القيام بفعل يقلد انتشارها، حيث ينثر في الهواء ذرات من رماد الآتون: «فأخذ موسى وهارون رماد الآتون ووقفا أمام فرعون، وذراه موسى نحو السماء فصار دمامل في الناس وفي البهائم.» وبعد ذلك تقوم عصا هارون بالدور المعروف لعصا الساحر: «ومد هارون يده بعصاه وضرب تراب الأرض، فصار البعوض على الناس وعلى البهائم» ... و«ضرب الماء الذي في النهر أمام عيني فرعون وأمام عيون عبيده، فتحول كل الماء في النهر دما ومات السمك» ... «طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانا، فدعا فرعون أيضا الحكماء والسحرة، ففعل عرافو مصر بسحرهم كذلك، طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين، ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم.»
وفي الواقع، لو أننا قرأنا عن عجائب موسى وهارون في ملحمة شعبية لا تستند إلى خلفية دينية، لقلنا ساحران عظيمان، أما هنا فهما من رجال الدين الصالحين؛ لأن القوة التي تنقل الأثر من حركة اليد أو العصا إلى النتيجة المرجوة، هي قوة منسوبة إلى قدرة إله مشخص ومسمى يتمتع بصفات وطبائع وتاريخ، أما وراء عصي حكماء وسحرة فرعون فهناك القوة الغفلة التي كانت في بؤرة الدين وصارت في بؤرة السحر. فإذا تابعنا المعجزات التي يجترحها موسى وهارون وصولا إلى قيام موسى بشق البحر بعصاه، لوجدنا أن هذا العمل الأشهر لموسى ليس إلا نسخة عن عمل سحري مشابه ورد في بردية مصرية تعود إلى حوالي عام 1550ق.م.
2
تحكي البردية ما ملخصه أن الفرعون سنيفرو شعر في أحد الأيام باكتئاب لم تنفع في إزالته كل ضروب اللهو المتوفرة في القصر الملكي، فدعا إليه كاهنا حكيما معروفا بقدراته السحرية واستشاره فيما يزيل عنه اكتئابه، فأشار الكاهن برحلة نهرية في القارب الملكي تتخللها ضروب اللهو والتسلية، ثم أشرف بنفسه على ترتيب الرحلة. وكان من جملة ما أعده الكاهن لهذه النزهة عشرون فتاة في ريعان الصبا، لبسن أبهى حلة، وتزين بأحلى زينة، ورحن يجذفن المركب الملكي وينشدن أعذب الألحان، فطرب الفرعون وزال عن قلبه الغم. ولكن إحدى الفتيات أسقطت إلى الماء سهوا مشبك شعرها التركوازي العزيز عليها، فحزنت وتوقفت عن التجذيف والغناء، وتوقفت معها أيضا صويحباتها. وهنا توجه الفرعون إلى الكاهن ليجد حلا للمسألة ويعيد الفرح إلى قلوب الفتيات، فوقف الكاهن عند حافة القارب وتلفظ ببعض أسماء القوة، فانشق الماء وانزاح نصفه متراكبا فوق النصف الآخر، فظهرت الحلية التي تم التقاطها وإعادتها إلى الفتاة، ثم نطق ثانية بأسماء القوة فعاد الماء سيرته الأولى.
ومن مصر القديمة بالذات تأتينا أغزر الوثائق عن العروة الوثقى التي تربط بين الدين والسحر في الحضارات الكبرى القديمة. يقول السير واليس بدج، وهو أهم دارس للديانة المصرية القديمة، عن علاقة الدين بالسحر في مصر القديمة: «إن الإيمان بالسحر هو أقدم في مصر من الإيمان بالإله. وإنه لمن المؤكد أن عددا كبيرا من الطقوس الدينية التي كانت تؤدى في الأزمنة اللاحقة، كجزء من العبادة الروحية السامية، تضرب أصولها في المعتقدات والممارسات الخرافية، التي تعود إلى عصر لم يكن الإله فيه قد تصور في عقل المصريين بأية صورة أو بأي اسم. ومن المحتمل أن رمز الفأس الذي يستخدم في الكتابة الهيروغليفية للدلالة على كلمة الله أو الإله، هو استمرار لنوع من الطقوس السحر-دينية التي كانت تتمركز حول الفأس نفسها في عصور ما قبل الأسرات، والتي رأت في هذه الأداة رمزا لحضور قوة عليا ... لقد تطور الدين والسحر جنبا إلى جنب في مصر القديمة عبر تاريخها، وإلى درجة تجعل البحث في أحدهما بالضرورة بحثا في الآخر.»
3
إن وصف واليس بدج للطورين اللذين مر بهما المعتقد المصري، وهما طور السحر وطور الدين، ليستقيم تماما إذا نحن استبدلنا تعبير الإيمان بالسحر بتعبير معتقد القوة السارية؛ لأن الطور الأقدم الذي تلمسه بدج عند جذور المعتقدات المصرية، هو دين العصر الحجري الذي استمر في أشكاله التي أوضحناها آنفا حتى بواكير عصر الأسرات. وقد نفذ هذا الباحث ببصيرته الثاقبة إلى المعنى الحقيقي لرمز الفأس، فرأى فيه شارة الألوهة التي تعادل، في تفسيرنا، رأس الثور عند إنسان العصر الحجري، وبقية تلك الشارات المستمدة من الوسط الطبيعي، والتي ترمز إلى حضور القوة في مقامات الإنسان الأول. كما تستقيم في ذهننا أيضا الفكرة التي يؤكد عليها واليس بدج دائما، حول امتزاج الدين بالسحر عبر تاريخ الديانة المصرية؛ لأن الذي مازج المعتقدات والممارسات الدينية في مصر إبان عصورها التاريخية هو في الواقع تلك المعتقدات والطقوس الخاصة بالأشكال الأصلية للدين، وقد تحورت بما يلائم ظهور الآلهة المشخصة في تاريخ الدين. يقول بدج: «إن دراسة ما وصل إلينا من الأدبيات الدينية لمصر القديمة يظهر أن الاعتقاد بالسحر؛ أي بفعالية الكلمات السحرية والتعاويذ والتمائم وما إليها، وأداء الطقوس المصحوبة بترديد أسماء القوة لتحقيق النتائج المرجوة، يشغل حيزا واسعا من الديانة المصرية. وإنه لمن المؤكد أنه بصرف النظر عن المساهمة الكبيرة والمستمرة التي أدتها مصر إلى الحضارة، وعن المستوى الراقي الذي وصل إليه فكر المصريين، فإن الاعتقاد بالسحر قد مارس تأثيره على عقولهم وصبغه بصبغته منذ بداية تاريخهم وحتى أواخره. وهذا ما يصعب علينا فهمه في هذه المرحلة من تاريخ الحضارة التي نعيشها الآن. إنه لمن الصعب علينا أن نفهم تلك العناية الفائقة التي مارسوا بها طقوسهم الدينية التي لا حصر لها، وحافظوا على تلك القواعد الموضوعة الخاصة بعبادة القوة أو القوى القدسية، وذلك الإخلاص التام للممارسات السحرية.»
4
وإنني لأتساءل في الواقع، أمام استغراب هذا الباحث اللامع، عن الفرق بين الإيحاء لقوة قدسية شمولية غير مشخصة بإحداث النتائج التي يرجوها الإنسان، وبين استجداء كائن إلهي مشخص ذي إرادة وأهواء ورغبات من أجل النتائج نفسها! ولماذا يكون الاعتقاد بقوة غفلة سارية في الكون اعتقادا بالخرافات والترهات، ويكون الاعتقاد بالآلهة التي ليست إلا صورة متفوقة عن البشر اعتقادا حضاريا راقيا؟
ومما يدل على أسبقية القوة السارية في الفكر الديني المصري على الآلهة المشخصة، أن الكاهن المتمرس بفنون السحر كان قادرا على التحكم حتى في الآلهة من أجل إجبارها على التدخل لصالح الناس؛ ذلك أن القوى التي يمتلكها كانت بلا حدود، فإذا نطق الكاهن بأسماء القوة بالطريقة المناسبة، استطاع شفاء المرض، وطرد الأرواح الشريرة من الأجسام، وتحويل الناس إلى حيوانات من شتى الأصناف وحتى على إحياء الموتى. كما كانت أسماء القوة قادرة على التحكم بالأمطار والرياح والعواصف وغيرها من الديناميات الطبيعية. ومن امتلكها انكشفت له حجب الماضي والمستقبل وعرف أقدار البشر أجمعين، لا يقف أمام قدرته حاجز المسافة أو الزمن، أو حتى قدرة الآلهة. لقد كان موقف المصري من آلهته مزدوجا؛ فهو يعبدها ويقدم لها القرابين ويستعطفها لتأمين معاشه وتخليص روحه، ولكنه من جهة أخرى كان يحاول التأثير عليها وقسرها على الوقوف في صفه، حتى وإن لم تكن راغبة في ذلك. ويبدو أن أسماء القوة التي كان الكهنة يمتلكونها، كانت قادرة أيضا على عون الآلهة ومساعدتهم على أداء مهامهم، لا نستثني من ذلك كبير الآلهة رع، الذي لم يكن يستطيع إنقاذ قرصه الشمسي من انقضاض التنين «أبيب» عليه عند الشروق، إلا بواسطة طقوس سحرية معينة وتعاويذ تتلى من قبل كهنة طيبة في أوقات معينة من الليل والنهار، من شأنها إظهار الإله الأعلى على خصمه الأبدي.
5
وفي الميثولوجيا المصرية، يلعب السحر دوره في عالم الآلهة كما في عالم البشر. ولعل في قصة حصول الإلهة إيزيس على قواها السحرية الخارقة عن طريق خداعها للإله رع، خير مثال على ذلك؛ فلقد شاخ الإله الأكبر ووهنت قواه، ولكنه استطاع البقاء سيدا للسموات والأرض بقوة اسمه السري الذي لا يعرفه أحد. وكانت إيزيس متمرسة بفنون السحر، وتمتلك من أسماء القوة ما لا يعرفه أحد غيرها، إلا أن طموحها الذي لا يقف عند حد دفعها إلى محاولة امتلاك الاسم السري لرع، حتى تسيطر بواسطته على الأرض كما يسيطر رع على السماء والأرض، فأعدت لذلك خطة محكمة. قامت إيزيس بصنع حية من تراب الأرض الذي يسيل عليه لعاب العجوز رع، فتلت عليها تعويذتها وأرسلتها تسعى في طريق الإله الذي يسلكه كل يوم، فعضته في ساقه ودفعت سمها في شرايين دمه. سرى السم في جسد كبير الآلهة واشتد ألمه، فدعا كل آلهة الأرض والسماء لشفائه دون أن يفلح منهم أحد، وهنا تطوعت إيزيس للمهمة ومثلت أمامه قائلة: ما الذي حل بك أيها الأب المقدس؟ هل عضتك حية؟ وهل تجرأ كائن من خلقك على رفع رأسه إليك؟ سأقهر هذه الحية بأسماء القوة التي عندي، ولن تزحف بعد اليوم تحت أشعة شمسك، ولكن قل أولا عن اسمك القدسي؛ لأن من عرفه وجد الحياة. فأجابها متهربا: في الصباح اسمي خيبيرا، وفي الظهيرة اسمي رع، وفي المساء اسمي توم. ولكن إيزيس تجيبه بأن أيا من هذه ليس اسمه السري، وتمتنع عن علاجه، ثم تعود إلى تكرار السؤال لتسمع منه الجواب نفسه. ولكن آلام الإله تصل بعد مدة إلى حد لا يطاق، فيرضخ لمشيئة إيزيس ويلقي باسمه السري في قلبها من دون أن ينطق به، فتقوم بشفائه وتنتقل إليها قوى الاسم الأعظم.
6
وفي الحقيقة، فإن ديانة مصر القديمة برمتها إنما تقوم على مفهومي المجال والقوة، رغم أن وادي النيل كان يعج بالآلهة والكائنات الروحية من كل نوع، وربما أكثر من أي مكان آخر في المشرق الأدنى القديم. فالمصري القديم رغم اعتقاده بالآلهة المشخصة وقيامه بتقديم فروض العبادة لها، فإنه آمن دوما بألوهة منزهة هي القاع الكلي للوجود، عنها صدرت المادة والآلهة والحياة بكل أشكالها. يقول واليس بدج في كتابه المعروف عن الديانة المصرية:
7 «حين يدرس القارئ نصوص الديانة المصرية، تحصل لديه القناعة بأن المصريين قوم كانوا يؤمنون بإله واحد، موجود بذاته، خالد، غير مرئي، أبدي، قدير، لا يحيط به عقل ، خالق السموات والأرض والعالم الأسفل، خالق الرجال والنساء والحيوان والطير والسمك والزواحف والشجر والزرع، والكائنات الروحانية الذين كانوا رسله ينفذون مشيئته ويحققون كلمته ... وأننا مهما أوغلنا في الزمن رجوعا، فربما لن نقترب أبدا من زمان كان فيه المصري بدون هذا الإيمان الرائع.»
إن ما يصفه بدج هنا بكلمات وتعابير مستمدة من مخزونه المعرفي التقليدي، ليس في واقع الأمر إلها مشخصا، بل ألوهة غير مشخصة أو مجال قدسي أو قوة سارية. ويظهر ذلك بكل جلاء من التحليلات التي تابعها المؤلف؛ فهذه الألوهة التي استمر الإيمان بها من العصور الحجرية إلى نهاية التاريخ المصري، لم يكن لها في العصور التاريخية معابد أو هياكل، ولم تصور في أية هيئة شخصية أبدا، وإنما بقيت في أذهان المصريين وقلوبهم كقدرة كونية لا يحدها وصف أو قول. وكما يقول بدج: «فإن الاسم الذي أطلقه المصريون على هذه الألوهة هو نتر
Neter ، وكان يرمز إليها بفأس ذي رأس حجري ومقبض خشبي، وتحيط بالرأس أربطة جلدية أو قماشية لتثبيتها على المقبض الخشبي؛ لأن الحجر كان عرضة للتشقق بالاستعمال الطويل. وعندما حل الرأس المعدني محل الرأس الحجري، غابت الأربطة الجلدية عن رأس الفأس الذي لم يعد بحاجة إلى تدعيم. ونستطيع متابعة هذا التطور في رسم الفأس من صورته في الكتابة الهيروغليفية الدالة على الألوهة.» ويبدو أن اختيار الإنسان الحجري لرمز الفأس للدلالة على الألوهة هو التوكيد على جانب القوة المتبدية فيها، ويدعم هذا الرأي أن كلمة نتر بالذات يمكن أن تعني القوة أو الشدة، من جملة ما يمكن أن تعني. وهنا يمكن أن نقارن مع الكلمة المشابهة في اللغة السورية المحكية «نتر»، والتي تعني ممارسة القوة في إتيان الفعل، فنقول: «نتر» بمعنى انتزع بقوة. وهناك من علماء الهيروغليفية من يرى رأيا مخالفا، ولكنه يدعم أيضا ما ذهبنا إليه؛ فالعالم الفرنسي دي روجيه يرى أن في الكلمة ما يدل على التجدد أو التجديد، وكأنما الفكرة الأساسية عن الألوهة هي تجديد نفسها بنفسها، أو بكلمة أخرى: الوجود بالذات. أما ه. بروكش، فقد قبل هذا الرأي جزئيا حين عرف الاسم بأنه القوة الفاعلة التي تنتج الأشياء وتخلقها وفق أدوار منتظمة؛ مما يمنحها حياة جديدة ويشحنها بالحيوية والشباب.
وإلى جانب كلمة نتر، لدينا كلمة نترو، وتعني الكائنات التي تشترك على نحو ما في طبيعة نتر أو في شخصيته، وتسمى في العادة آلهة. وقد كانت الأقوام الأولى التي كان لها صلات بالمصريين كثيرا ما تسيء فهم طبيعة هذه الكائنات، لكننا حين ندرس هذه الآلهة عن كثب نجد أنها ليست إلا صورا أو تجليات أو مظاهر لإله واحد هو الإله رع، إله الشمس الذي هو النموذج أو الرمز لنتر. وها هو الإله حابي إله النيل، في تواحده بالإله رع، يشف عن كل ما يسبغه المصري على الألوهة المنزهة؛ فحابي المتواحد مع رع، كما تصفه إحدى التراتيل: لا يصور ولا يرى في صور منحوتة، لا قرابين تقرب إليه، ولا أعمال تؤدى إليه، لا يطلع من مكانه الخفي، ومكان سكناه غير معروف؛ إذ لا مكان يمكن أن يحتويه، وأنت لا تستطيع أن تتصور هيئته في قلبك.
وتعطينا البردية المعروفة باسم بردية نيزي أمسو، أكثر النصوص المصرية تعبيرا عن الجدلية القائمة في المعتقد المصري بين المجال القدسي والآلهة المشخصة؛ فالنص يشبه المجال القدسي بالروح الإلهية الهاجعة في الهاوية المائية، والتي لم يكن لها أثر أو فعل قبل صدور القوة السارية عنها، وهي القوة التي أنتجت الكون والآلهة. تقول البردية: «لقد أنشأت نشوء الناشئات، لقد أنشأت نفسي على هيئة أطوار الإله خيبيرا، الذي كان تطوره في بداية الأزمان. لقد نشأت بنشوء الناشئات؛ أي إنني أنشأت نفسي من المادة. اسمي أوزارس؛ جرثومة المادة البدئية. لقد جعلت إرادتي كلها في هذه الأرض؛ بسطتها إلى الخارج وملأتها وشددت أزرها بيدي. كنت وحيدا إذ لم يكن ثمة شيء مخلوق، في ذلك الوقت ما كنت أصدرت عن نفسي شو ولا طفنوت، نطقت باسمي، باعتباره كلمة القوة، من فمي، وأنشأت نفسي من المادة البدئية التي أنشأت عددا لا حصر له من النشوءات منذ بداية الأزمان. ما من شيء كان على الأرض حينئذ، وأنا صنعت كل شيء. لقد خلقت الخلق بواسطة الروح الإلهي الذي ظل عاطلا في الهاوية المائية لا يفعل شيئا. ما وجدت مكانا أقف عليه، ولكني كنت قويا في قلبي، فصنعت قاعدة لنفسي وصنعت كل ما قد صنع. كنت وحيدا، عملت أساسا لقلبي (أو لإرادتي)، وخلقت حشودا من الأشياء التي تطورت بأطوار الإله خيبيرا، وجاءت ذرياتها من أطوار ولاداتها. أصدرت عني الإلهين شو وطفنوت، ومن كوني واحدا صرت ثلاثة، لقد انبثقا مني وجاءا إلى الوجود على هذه الأرض، ومن شو وطفنوت انبثق سب ونوت وإيزيس وطفنيس في ولادة واحدة.»
إن الآلهة المذكورة في هذا النص لا تشتمل إلا على أولئك المرتبطين بدورة حياة وموت الإله أوزوريس، أما الآلهة الأخرى المعروفة لنا، فهناك روايات ميثولوجية أخرى تقدمها لنا من خلال تنويعات نشوء-كونية أخرى، تتخذ فيها كل مجموعة من الآلهة الأدوار الرئيسية التي لحظناها في نصنا أعلاه. فاللاهوت المصري كان لاهوتا ديناميا لا يبقى على حال، وكلما دعت الظروف إلى إقامة نظام جديد من الآلهة، وجد المصريون أنفسهم مضطرين إلى أخذ الآلهة المحلية القديمة في اعتبارهم، وإيجاد مكان لها في النظام الجديد. وكانوا يفعلون ذلك بأن يجعلوا الآلهة أعضاء في ثواليث أو في تاسوعات؛ فكان لديهم التاسوعة العظمى والتاسوعة الصغرى والتاسوعة الدنيا. ومع ذلك فإن الآلهة المألوفة أسماؤها في الميثولوجيا الرسمية وطقوسها ليست كل الآلهة؛ فقد كان لكل ولاية إلهها، ولكل مدينة إلهها، ولكل قرية إلهها، بل ولكل عائلة إقطاعية كبيرة إلهها أيضا. وكانت هذه الآلهة جميعا في حالة حركية دائبة؛ فقد يتفق لبلدة أو قرية أن تترك إله الأمس لتتبنى إلها جديدا من مناطق مجاورة، وقد يغدو إله محلي مغمور إلها في الغد لمدينة كبيرة، وقد نجد إلها تقرب إليه القرابين الكثيرة في شهر ليغمره الإهمال ويغدو إلها ميتا في شهر آخر. كل ذلك يدفعنا إلى الاستنتاج الأساسي الذي أود التوكيد عليه هنا، وهو أن المصري القديم (والإنسان القديم عامة) لم يكن يأخذ مسألة الآلهة المشخصة على محمل الجد، وأن هذه الكائنات لم تكن في ذهنه سوى أردية متبدلة تعكس تداخلات المطلق في ظواهر النسبي.
لقد كان المصريون أكثر شعوب العالم القديم تدينا، غير أن تدين المصري لم يتركز في حقيقته حول الكائنات الإلهية إلا بمقدار ما تقوده الصلة مع هذه الكائنات إلى المستوى الأعمق للصلة مع المستوى القدسي للوجود، وكان يدرك بعقله ووجدانه أن كل هذه الكائنات، التي تتدرج من سوية الأولياء والقديسين إلى سوية الآلهة السماوية العظمى، ليست إلا تجليات للإله الأسمى رع، وأن هذا بدوره وفي وجوهره ليس إلا الشعار المنظور للألوهة غير المنظورة نتر. نقرأ في ترتيلة مرفوعة إلى رع وجدت منقوشة على جدار في قبر الفرعون سيتي الأولى، كيف يمثل أبو الآلهة رع كل إله، وكيف يمثل كل إله جانبا من جوانب رع: «الثناء يا رع، أنت القدرة المجيدة التي تسري في مساكن أمنت، هو ذا جسدك فهو طيمو. الثناء لك يا رع، أنت القدرة المجيدة التي تسري في مخبأ أنوبيس، هو ذا جسدك فهو خيبيرا. الثناء لك يا رع، أنت القدرة المجيدة، الذي تدوم حياته أكثر من كل الكائنات الخفية، هو ذا جسدك فهو شو. الثناء لك يا رع، أنت القدرة المجيدة، هو ذا جسدك فهو طفنوت. الثناء لك يا رع، أنت القدرة المجيدة التي تطلع الخضرة في مواسمها. هو ذا جسدك فهو سيب ... إلخ.»
8
ولدينا ترتيلة أخرى مرفوعة إلى رع أيضا تحت اسمه الأحدث آمون رع، وهي ذات مضمون مشابه: «آمون رع، الروح القدس الذي جاء إلى الوجود في البدء، الإله العظيم الذي يحيا في الحق والحقيقة، التاسوع الأول الذي أنجب التاسوعين الآخرين، الكائن الذي يوجد فيه كل إله، واحد أحد، خالق الأشياء التي جاءت إلى الوجود في البدء، ولاداته خفية، وصوره لا حصر لها، ونشأته لا تعرف، رب المكان الواحد القدير في صورة خيبيرا، الذي جاء إلى الوجود في هيئة خيبيرا ... عندما أنشأ هذا الإله القدوس نفسه خلقت السموات والأرض بقلبه ... من عينيه الإلهيتين ينبعث الرجال والنساء ، ومن فمه تطلع الآلهة ... هو رب الزمان، يتخلل الأبدية، هو القديم الذي يجدد شبابه ... هو الكائن الذي لا يعرف، وهو أخفى من جميع الآلهة.»
هذا المثال المصري عن العلاقة الجدلية بين المستوى القدسي والآلهة المشخصة، حيث يتجزأ مفهوم الألوهة إلى آلهة متعددة، وتقود هذه الآلهة المتعددة بدورها إلى الألوهة، يضعنا أمام سؤال مهم أعتقد أن الوقت قد حان لمعالجته، وهو: متى نشأت فكرة الآلهة في تاريخ الدين؟ وكيف نشأت؟ ولماذا؟
الفصل السادس
أصل الآلهة
ليس البحث عن أصل فكرة الآلهة في تاريخ الدين بالأمر الجديد، بل هو أقدم بكثير مما يتصوره البعض. ولعل أول مفكر دون لنا رأيه حول هذا الموضوع، هو الإغريقي يوهيميروس
Euhemeros
الذي أشار في كتابه: التاريخ المقدس، إلى أن الآلهة كانوا في الماضي البعيد رجالا بارزين بين الناس، وكانت لهم مكانة ممتازة في حياتهم، ثم قدسهم الناس بعد مماتهم.
1
وهذه أول إشارة في تاريخ الفكر إلى نشوء الآلهة عن عبادة الأسلاف. وبعد يوهيميروس ببضعة قرون قام المفكر السوري فيلو الجبيلي، في أواخر القرن الأول الميلادي، بوضع مؤلف عن تاريخ الفينيقيين لم يبق منه سوى شذرات أوردها مؤلفون آخرون، ومنها بعض مقاطع حول المعتقدات الدينية للفينيقيين، تعقب فيها فيلو الأصل الكنعاني للآلهة الإغريقية، مستشهدا بكتابات كاهن كنعاني قديم اسمه سانخونياتن، عاش قبل عصر فيلو بألف عام. ويبدو أن هذا الكاهن كان شخصية من اختلاق فيلو نفسه؛ لأننا لا نعثر له على ذكر في المراجع الأقدم. يبدأ فيلو بسرد نظرية التكوين الكنعانية وفق سانخونياتن، فنجد أن النشأة الأولى قد تمت ابتداء من حركة عناصر مادية أصلية، دون تدخل من قدرة إلهية خارقة، فيقول: «في البدء، لم يكن هناك سوى هواء عاصف وخواء مظلم، ثم إن هذا الهواء قد وقع في حب مبادئه الخاصة وتمازج؛ ذلك التمازج دعي الرغبة، وهي مبدأ خلق جميع الأشياء، ولم يكن للهواء معرفة بما فعل. وقد نتج عن تمازج الهواء «مت» الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وهو بذرة الخلق وأصل الأشياء جميعا، ثم استضاء الهواء بالتهاب اليابسة والبحر، وسيرت الرياح والغيوم، وهطل المطر على الأرض مدرارا. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتتصادم في الجو، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت ذوات الحياة مذعورة، وراحت تنتقل على اليابسة وفي البحر ذكورا وإناثا.»
2
تعطينا مقدمة فيلو الجبيلي في التكوين هذه، أول محاولة حدس علمي لكيفية خلق الكون انطلاقا من حركة مادته الأولية، دونما إرادة خالقة فاعلة. وهي تشبه إلى حد بعيد النظريات الكونية الحديثة. لنقرأ على سبيل المثال ما يقوله عالم الفيزياء الكونية واينبرغ في كتابه: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون: «في البدء، حدث انفجار ملأ الفضاء كله، وهرب كل جسيم عن كل ما عداه. بعد حوالي جزء من مائة من الثانية، وهي أقدم لحظة يمكن أن نتحدث عنها بشيء من الاطمئنان والثقة، ارتفعت درجة حرارة الكون إلى ما يقرب من مائة مليار درجة مئوية، وكانت المادة المضطربة أثناء هذا الانفجار مكونة من مختلف أشكال الجسيمات الأولية، والكون مفعما بالضياء.»
3
بعد ذلك، ينتقل فيلو إلى سرد تاريخ البشرية ابتداء من الجيل الأول الذي قدس أشجار الأرض وأقام لها الطقوس، فالأجيال اللاحقة التي كان لكل جيل منها فضل اكتشاف هام في تاريخ الحضارة؛ مثل النار وتربية الماشية والزراعة والتعدين وما إليها. ثم يشرح فيلو بالتفصيل كيف بجل الناس أصحاب تلك الاكتشافات من الأفراد المتفوقين في حياتهم، وكيف قدسوهم بعد وفاتهم ورفعوهم تدريجيا آلهة معبودة.
مما لا شك فيه، أن أفكار كل من يوهيميروس وفيلو الجبيلي قد قامت على تأملات ذهنية مجردة، وحدس معرفي متفوق لم يبن على الاستقراء والدراسة الميدانية لتبديات الظاهرة الدينية عبر التاريخ ولدى جماعات مختلفة من البشر، وهو ما لا نستطيع أن نطالب به مفكري تلك الحقب البعيدة. ولكن المدهش مع ذلك، أن دارس الظاهرة الدينية في العصر الحديث، المتزود بفيض المعلومات الإثنية والتاريخ-دينية، سوف يجد أن بحثه في أصل فكرة الآلهة إنما يسير بكل منطقية ويسر إلى النتيجة نفسها، وأن عبادة الأسلاف هي المرحلة الوسيطة في تاريخ الدين، التي قادت الفكر الديني من معتقد القوة السارية إلى معتقد الآلهة المشخصة. ولسوف أتقدم فيما يأتي بوجهة نظري حول هذه المسألة، ولكن بعد أن أستعرض أهم الآراء الحديثة حولها.
في عام 1851م، نشر الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر مقالته الشهيرة حول دور معتقد الأرواح في تكوين الدين، وهي المقالة التي أسست لنظرية المانيزم
Manism
في تفسير الدين. لاحظ سبنسر أن الثقافات البدائية تعتقد بأن لأرواح الموتى دورا هاما في حياة أسرها السابقة، ومحيطها الذي عاشت فيه إبان حياتها الأولى، كما تعتقد بأن تحرر الأرواح من أجسادها يعطيها نوعا من القوة لا يمتلكها الأحياء، وهي قوة يمكن توجيهها للنفع أو للضر، تبعا للطريقة التي تعامل بها أرواح الموتى، والطقوس المناسبة التي تقام لها. وتتسع دائرة تأثير الروح وفق اتساع المحيط الذي كان حاملها ينشط ويتحرك ضمنه؛ فروح الفرد العادي يمكن أن تؤثر بعد الموت في دائرة الأهل والأقارب المباشرين، أما أرواح السحرة والزعماء فيشمل مجال تأثيرها الجماعة كلها. وقد قادته دراسة دور هؤلاء السحرة والزعماء في المجتمعات البدائية، في الحياة وبعد الممات، إلى الاستنتاج بأن الآلهة الأولى التي عبدها الإنسان لم تكن في حقيقة الأمر إلا زعماء أو سحرة متميزين، استمرت قواهم فعالة في محيط الجماعة بعد موتهم، وجرى تأليههم بعد أجيال من موتهم، وأقيمت لهم فروض العبادة.
4
وفي عام 1862م نشر سبنسر كتابه المعروف بالمبادئ الأولى، وفيه أعاد صياغة الفكرة نفسها على الوجه الآتي، فيقول: «كما تثبت السجلات والتقاليد القديمة، فإن الحكام والزعماء الأوائل قد اعتبروا شخصيات إلهية، كما اعتبرت أوامرهم ونواهيهم والأعراف التي استنوها في حياتهم بمثابة شرائع مقدسة فرضها على الناس خلفاؤهم، الذين رفعوا أيضا على المرتبة نفسها، وعبدوا إلى جانب سابقيهم؛ وبذلك تم تشكيل مجمع الآلهة الأولى، بحيث أخذ الزعيم الأقدم دور الإله الأكبر، ومن تلاه دور الآلهة الأدنى.»
5
إن هربرت سبنسر هنا لا يقدم أفكاره حول نشوء الآلهة عن الأسلاف المؤلهين لغرض الإشارة إلى مرحلة في سياق تطور الأفكار الدينية، بل لكي يؤسس لنظريته الأشمل في أصول الدين. وهذه النظرية ترى بأن الدين عند الإنسان قد ابتدأ مع ظهور الآلهة، وأن البشرية قد مرت فعلا بمرحلة مبكرة لم تعرف الدين خلالها أبدا، ثم أخذت الأفكار الدينية تتشكل تدريجيا مع تحول الأسلاف إلى آلهة، فتشكل مجمع الآلهة برئاسة كبيرهم، وتطور مفهوم هذا الإله الأكبر نحو مفهوم الوحدانية في النهاية.
من خلال هذا المفهوم التطوري نفسه، يقوم رائد الأنتروبولوجيا النظرية تيلور بصياغة نظريته في أصل الدين، والمعروفة بالأنيميزم
Animism ؛ أي الأرواحية، نسبة إلى الأرواح، والتي أثرت على أجيال عديدة من الباحثين قبل أن يضعف تأثيرها بعد منقلب القرن العشرين. وقد وصف تيلور نظريته بأنها نظرية الحد الأدنى في تعريف الدين، وشرحها مفصلا في كتابه الشهير: المجتمع البدائي
الصادر عام 1871م.
6
يفترض تيلور بأن أقدم شكل للدين يقوم على الإيمان بوجود الأرواح والأشباح؛ فلقد رفض الإنسان الأول فكرة الموت باعتباره نهاية مطاف الحياة الفردية، واعتقد بأن هذه الحياة سوف تستمر بعد الممات عن طريق استمرار الروح في مستوى آخر للوجود. وقد تكونت لدى الإنسان فكرة انقسام الكائن إلى جسد وروح من خلال مراقبته لظاهرة الأحلام؛ ففي الأحلام يرى النائم أقارب له وأصدقاء قد ماتوا منذ زمن بعيد، وها هي خيالاتهم حية تتحرك وتتحدث إليه، كما أنه يرحل هو أيضا أثناء المنام ليزور مناطق نائية أو يتصل بأشخاص غادروه منذ زمن.
ولقد أوصله تأمله في هذه الأمور إلى الاعتقاد بأنه اثنان في واحد؛ فبينما يستلقي جسده المادي بلا حراك في مضجعه، فإن توءمه الأثيري يرحل بحرية تامة عبر المسافات ليلتقي بالتوائم الأثيرية الأخرى. فإذا زاره صديق حي في المنام، فلأن روح ذلك الصديق قد تركته مؤقتا وقامت بالزيارة؛ وإذا رأى نفسه يزور قريبا مرتحلا في مكان بعيد، فلأن روحه قد غادرت جسده وقامت بتلك الرحلة؛ وإذا اجتمع بالراحلين من الأموات، فلأن أرواحهم التي انفصلت عن أجسامها نهائيا قد أحبت لقاءه. وكانت هذه الخصائص الحركية للروح في اعتقاده ناتجة عن طبيعتها اللطيفة وطاقتها الكبيرة في آن معا ؛ فهي تنسل من فتحة الفم وتتحرك دون قيد في أي اتجاه، وتصل بسرعات خيالية إلى أقصى الأماكن.
تزداد قوة الروح وتكتسب قدرات وطاقات إضافية عند استقلالها عن الجسد والتحاقها نهائيا بعالم الأرواح عقب موت الجسد، وهي إذ تستطيع في حالتها الجديدة أن تسكن في أي موضوع من موضوعات العالم الطبيعي أو الحيوي، فإن سكنها هذا هو فعل اختياري تقوم به بمحض إرادتها، وتستطيع في أي وقت أن تغير مكان سكنها، أو أن تبقى هائمة دون مقر. فإذا اختارت الاستقرار في جسد إنسان حي، فإنها تسبب له شتى أنواع الاضطراب النفسي والعقلي، ولا بد من إقناعها بالخروج منه ليستقيم حال المريض. وبشكل عام، تبقى الأرواح المتحررة متصلة بشكل ما بعالم الأحياء، تقدم لهم العون أو تسبب الأذى، وذلك تبعا لنوع علاقاتها السابقة معهم، أو لكيفية تعاملهم معها بعد الموت، وإلى هذه الأرواح يعزو البدائي، في رأي تيلور، كل خير وكل شر. من هنا نشأت عبادة الأرواح؛ لأن الإنسان قد وجد نفسه تدريجيا في حال اعتماد مطلق عليها وعلى عالمها الذي صاغه بخياله الخصب. فإذا كانت الأرواح سببا للمرض أو الصحة، للحظ العاثر أم للحظ الباهر، للنجاح أو للإخفاق، وما إلى ذلك مما يسير في صالح الأحياء أم في غير صالحهم، فإن من الحكمة استرضاءها وتهدئة خواطرها. من هنا أخذ الإنسان بتقريب القرابين وتقديم الذبائح لأرواح الموتى، ويتوجه إليها بالابتهالات، فظهرت الممارسات التي ندعوها اليوم بالدينية. وبما أن أرواح الأسلاف المتميزين من زعماء وقادة وسحرة، هي أقوى الأرواح وأشدها أثرا، فإن الطقوس قد تركزت حول هذه الأرواح أكثر من غيرها.
ثم ينتقل تيلور إلى زمرة أخرى من الأرواح غير الإنسانية. فإذا كانت أرواح الموتى من البشر تمارس تأثيرها في المجتمع الإنساني، فإن هناك أرواحا من نوع آخر تفعل في مظاهر الطبيعة الأخرى، وتتسبب فيما يبدو لنا من دينامية وحركية وتأثير في هذه المظاهر. فالبدائي، كما يرى تيلور، لا يستطيع التفريق بين المواضيع الحية وغير الحية، شأنه في ذلك كشأن الطفل الذي ينظر إلى كل ما حوله نظرته إلى كائن حي؛ لأن خبرته الأولى قد تشكلت عن مواجهته مع الكائنات الحية؛ فهو يعزو إلى الجمادات روحا كروح البشر ويسقط عليها تلك الثنائية التي تصورها في الإنسان. من هنا فإنه يجد في الروح الحالة في الجمادات السبب الكامن وراء سلوكها؛ فإذا تحرك الهواء فلأن به روحا تحركه، وكذلك مجرى الماء ونمو النبات وشروق الشمس وحركة الأجرام العلوية؛ وبذلك وسع البدائي نظرته الأرواحية لتشمل العالم من حوله، فصار كونا حيا تسكنه الأرواح من كل نوع وتحركه وفق مشيئتها، واقترنت ديانة الأرواح مع ديانة الطبيعة في أصولها ومنابتها.
لقد واجهت الأرواحية كثيرا من النقد منذ بداياتها الأولى. ولسوف أركز فيما يلي على النقد الذي وجهه إليها إميل دوركهايم؛ لأنني سوف أتبنى جانبا مهما من نقده هذا، وأكمله استنادا إلى المعلومات الجديدة التي زودتنا بها علوم ما قبل التاريخ حول معتقدات العصر الحجري الحديث، التي عثرت فيها على البدايات التاريخية الأولى لعبادات الأسلاف؛ وذلك لغرض استكمال وجهة نظري المتعلقة بعبادة الأسلاف وأصل الآلهة.
يرى دوركهايم
7
أن الأرواحية قد أدت خدمة جلى إلى علم الدين وإلى تاريخ الأفكار بشكل عام؛ لأنها أخضعت فكرة الروح إلى التحليل التاريخي، واستقصت مصادر هذه الفكرة في حركة فكر الإنسان وخبرته المباشرة، بعد أن كانت بدهية من بدهيات الوعي لدى الفلاسفة. ولكنه يرى استنادا إلى دراسة معمقة للأديان البدائية، وخصوصا ديانة الأستراليين، أن فكرة الروح تأتي كناتج من نواتج الدين، وليست بأي حال من الأحوال المصدر الأصلي لنشوء الدين كما يقول تيلور. ويرتكز نقد دوركهايم للدور الذي تعزوه النظرية الأرواحية للأحلام في تكوين فكرة الروح، على عدد من النقاط المنطقية؛ فإذا كان التعليل الأصلي للأحلام قد جاء فعلا على الصورة التي بينتها الأرواحية، فإن هذا التعليل ينبغي أن يبدو وكأنه الوحيد الممكن بالنسبة للإنسان القديم، أو على الأقل أن يكون الأسهل والأقرب إلى آلية تفكير ذلك الإنسان، الذي لم يكن يلجأ إلى إعمال الذهن إلا مضطرا. ولكن الأمر لم يكن كذلك أبدا؛ فلقد كان من الأهون على العقلية البدائية والأقرب إلى منطقها، أن تفترض في النائم مقدرة على الاستبصار، فيرى أماكن نائية وأشخاصا غائبين، دون أن يكون مضطرا إلى ابتكار مفهوم معقد حول انقسام الإنسان إلى صنوين، ينتزع أحدهما نفسه من قرينه عند النوم لكي يهيم في الأجواء. فإذا فرضنا جدلا أن الإنسان القديم قد لجأ فعلا إلى هذا الحل المعقد، الذي لا يطرح نفسه بسهولة على الذهن، فكيف استطاع بالتالي أن يعلل الأحلام التي يرى فيها مجددا أحداثا ماضيات، فيتكرر أمامه أمر حصل في الأمس أو في العام الفائت أو ربما في أيام الطفولة؟ وهل تتحرك الروح في الزمان جيئة وذهابا كما تفعل في المكان؟ وإذا كانت رؤيته للأصدقاء والأقارب الأحياء في النوم تأتي بفعل لقاء روحه الهائمة بأرواحهم، كما يعتقد، فهل لم يسأل واحدهم في الصباح صديقا رآه في منامه، ليكتشف أن هذا الصديق لم يشاركه الحلم ذاته، وأن روحه كانت تجوس في أمكنة بعيدة عنه؟ إن ما تقود إليه هذه التساؤلات هو أن البدائي الذي عزا إليه تيلور هذه المقدرة التحليلية أمام ظاهرة الحلم، لا يمكن أن نعزو إليه في الوقت نفسه هذه البلادة التي تمنعه من الافتراض بأن الأحلام ليست سوى هلوسات وخداع حواس. والنتيجة الأولى التي يتوصل إليها دوركهايم، هي أن فرضية الروح لم تكن الحل الأمثل بالنسبة للبدائي، ولا بد أن يكون الإنسان قد توصل إليها عن طريق آخر.
استنادا إلى المعلومات الموثقة عن الميلانيزيين والأستراليين، يرى دوركهايم أن فكرة انتقال الروح أثناء الحلم موجودة لدى الشعوب البدائية، إلا أن هؤلاء الناس يميزون بين الأنواع العديدة لأحلامهم، وهم لا يفسرونها دوما بالطريقة نفسها؛ فالميلانيزي يعزو نوعا معينا من أحلامه فقط إلى تجوال الروح خارج الجسد، وهو النوع الذي يلهب الخيال بقوة وعنف، أما بقية الأحلام فله فيها تفسيرات أخرى. والأسترالي يفرق بين الأحلام العادية التي يعتبرها من تهيؤات الخيال، وتلك التي يعرض له خلالها شبح صديق ميت، ويعتبرها نتاج تدخل من قوة غير مرئية، ويعتقد فعلا أن روح الميت قد غادرت واقتحمت عالم الأحياء. غير أن هذا التعليل الذي يقول به البدائي ليس الأساس الذي قامت عليه فكرة الروح عنده، بل العكس هو الصحيح؛ إذن لا بد من وجود أفكار سابقة وراسخة عن الروح وعن عالم الأموات ليستند إليها في تفسيره لهذا النوع من الأحلام، ولا بد أنه قد توصل إلى معتقد الأرواح عن طريق خبرات عاطفية وتأملات ذهنية مختلفة تماما عن خبرة الأحلام.
ثم ينتقل دوركهايم بعد ذلك إلى بحث حجر الزاوية في النظرية الأرواحية، وهو قدسية عالم الأرواح، ويتساءل عن مصدر القداسة التي أسبغت على الروح وعلى عالم الأرواح. إن مفهوم الروح الفردية التي عاشت في جسد ما ثم استقلت عنه عند الموت، لا يكفي في حد ذاته لتأسيس عبادة الأسلاف، فمن أين اكتسبت الروح هذه القدسية التي تسبغها عليها المعتقدات الأرواحية؟ ومن أين جاءتها هذه القوة الخارقة للمعتاد؟ يقول أتباع النظرية الأرواحية بأن الموت هو سبب التحولات العميقة التي طرأت على الروح المتحررة. ولكن بأية قدرة يستطيع الموت إحداث هذا التغيير الجذري في طبيعة الروح، فينقلها من شبح حيوي يتجول على هواه أثناء النوم، إلى شيء ذي طبيعة قدسية، ومركز لإثارة عواطف دينية قوية؟ إن الروح، وقد حررها الموت من جسد معين، سوف تنشط بالطريقة التي كانت تنشط بها ليلا عندما كانت قرينة جسد مادي، مع بعض الحرية التي اكتسبتها بالاستقلال، وسوف تبقى خصائصها وأفعالها من نوع وطبيعة خصائصها وأفعالها السابقة؛ لأن واقعة الموت لم تدخل في الحقيقة أي تعديل جوهري عليها، فلماذا اعتبر الأحياء تلك الأشباح التي سكنت أجساد رفاقهم السابقين، كائنات فوق مستواهم والمستوى الطبيعي عامة؟
ويوجه دوركهايم النقد ذاته لمفهوم حيوية الطبيعة والأرواح الحالة في موضوعاتها، وما يتبع ذلك من تفسير عبادة قوى الطبيعة، باعتبارها إسقاطا لفكرة الروح (التي تم تأسيسها في المجال الإنساني) على المجال الطبيعي؛ فهذا النبع أو ذاك النهر أو تلك الشعلة، هي بطريقة ما صنو للإنسان، طالما أنها مؤلفة مثله من جسد وروح، فما الذي دفعه إلى إعلاء بعضها واعتبار البعض الآخر كائنات فوق طبيعانية؟ ثم ينتهي دوركهايم إلى النتيجة المنطقية لنقده، وهي أن القداسة التي تمتعت بها الروح لدى البدائي قد جاءت من مصدر آخر خارج عنها، والجماعات الإنسانية الأولى لا بد وأنها كونت لنفسها مفهوما واضحا عن القداسة وعن العوالم القدسية، قبل أن تنتقل إلى تقديس الروح؛ أي إن العوالم الدينية قد سبقت معتقد الأرواح، وهي التي أعطت هذا المعتقد صفته الدينية.
عند هذه النقطة من تفكير دوركهايم الصائب وبصيرته الثاقبة، وهي النقطة التي أتفق حولها معه تماما، فإني أفترق عنه في تفسيره المجتمعي لفكرة المقدس،
8
ومع الآخرين من أصحاب النظريات التي اعتمدت دراسة الثقافات البدائية الحديثة، وأتابع اختبار أطروحة نشوء فكرة الآلهة عن عبادة الأسلاف، اعتمادا على المعلومات الموثقة عن ثقافة العصر الحجري، وهي الثقافة الوحيدة التي تستحق صفة الثقافة البدائية الأصلية. •••
لقد لفتنا النظر في حينه إلى طقوس الدفن عند الإنسان النياندرتالي إبان الباليوليت الأوسط، ورأينا كيف أشارت هذه الطقوس إلى اعتقاد بوجود الروح، وبانقسام الأحياء إلى جسد مادي وشبح أثيري يعبر من القبر إلى مستوى آخر الوجود. كما وجدنا في بعض ترتيبات الدفن النياندرتالية تعبيرا عن الخوف من عودة الروح إلى جسد المتوفى؛ لأن الروح قد تزودت بقوة تفوق قوى الأحياء بعد عبورها إلى المستوى الآخر؛ ولذا فإن عودتها إلى جسد صاحبها سوف تخل، بشكل أو آخر، بالنظام الطبيعي وبالعلاقات ضمن الجماعة. كما لاحظنا أيضا استمرار طقوس الدفن هذه وتنوعها خلال الباليوليت الأعلى؛ عصر الإنسان العاقل، وأكدنا على أهمية استخدام مادة المغرة الحمراء بالنسبة لمعتقد استمرار الحياة فيما وراء القبر، فهذه المادة التي طليت بها أجساد الموتى وبعض الأثاث الجنائزي داخل القبر، ترمز إلى الدم الذي هو شعار الحياة، وتزود الروح بقوة تساعدها على عبور البرزخ بين العالمين إلى الحياة الخالدة. ولعل ما يؤكد هذه القيمة الرمزية للمغرة الحمراء، استمرارها إلى اليوم لدى الشعوب البدائية؛ فسكان أستراليا الأصليون ما زالوا إلى اليوم يعقدون صلة بين هذه المادة وطاقة الحياة في الإنسان. وقد نال الرأس عناية خاصة في شعائر الدفن، سواء لدى النياندرتال أو الإنسان العاقل؛ فقد نجده متوسدا كومة من الأصداف والقواقع، أو محميا بحجر كبير ملاصق، أو موضوعا ضمن صندوق مؤلف من لوحين حجريين جانبيين ولوح أفقي فوقهما، أو محاطا بدائرة من الأحجار التي تمنع إيذاء الجمجمة في حال سقوط ثقل ما فوقها. وهناك حالات نادرة تدل على اللجوء أحيانا إلى الاحتفاظ بجمجمة الميت، وعرضها في مكان بارز في كهف السكن.
يضع كثير من علماء العصر الحجري ومؤرخي الأديان هذه الشعائر الجنائزية تحت عنوان عبادة الأموات، ويستنتجون أن نوعا ما من عبادة الأموات كان معروفا خلال الباليوليت الأعلى. ولكن المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن لا تدعم هذا الاستنتاج؛ فلكي يكون لدينا عبادة (=
Cult ) بالمفهوم الديني لهذه الكلمة، يجب أن تتوفر في الطقوس الممارسة خاصية التكرار الدوري عبر فترات منتظمة، وذلك بغرض توكيد وتدعيم صلة الجماعة مع القوى أو الكائنات القدسية التي تؤمن بها وتعتمد عليها، أما ما نراه من طقوس متفرقة تمارس كلما دعت الحاجة إليها، فلا تشكل عبادة بالمعنى الاصطلاحي الدقيق. من هنا فإن الطقوس المرتبطة بدفن الموتى لا يمكن أن ترقى إلى مرتبة العبادة إلا إذا استمرت إلى ما بعد الدفن، وجرت ممارساتها بشكل منتظم وكجزء من عملية شاملة لتقديس المتوفى والإبقاء على ذكراه، وصارت بذلك جزءا من الحياة الروحية لسلالة المتوفى. ونحن لن نلاحظ البدايات المنتظمة الأولى لمثل هذه العبادة إلا إبان العصر النيوليتي في سوريا، حيث بدأنا نلاحظ طقوسا حقيقية تتعلق بجماجم الموتى؛ فمع أوائل الألف الثامن قبل الميلاد، نستطيع التحدث بكثير من الثقة عن ظهور البدايات الأولى لتقديس الموتى وعبادة الأسلاف.
منذ العصر النطوفي الذي مهد للثورة النيوليتية في سوريا القديمة، نلاحظ عادة دفن جماجم الموتى في استقلال عن هياكلها العظمية. ففي موقع عرق الأحمر بفلسطين، لم يعثر المنقبون إلا على هيكل عظمي كامل واحد، بينما احتوت بقية القبور على جماجم مدفونة بشكل جماعي، وكل جمجمة بجانبها سن حصان. أما في المواقع النطوفية التي وجدت في مقابرها هياكل عظمية كاملة، فقد لاحظ المنقبون استمرار عادات الدفن القديمة التي سادت في الباليوليت الأعلى والأوسط، فالهياكل مثنية بقوة في حفر صغيرة، والرأس يستند على وسادة حجرية، بينما وضعت على المفاصل أحجار ثقيلة، وهناك آثار لطلاء أحمر.
9
وسوف تتوضح أمامنا بالتدريج ، كلما تقدمنا نحو العصر النيوليتي، الأهمية الخاصة للرأس في شعائر الدفن التي تدور حول معتقد يرى في الرأس مستودعا لقوة قدسية.
في مستوى النيوليت ما قبل الفخار في موقع أريحا بفلسطين (مطلع الألف الثامن) عثر على عدد من القبور يحتوي كل منها على جماجم مرتبة في مجموعات، تضم كل مجموعة خمس أو ثلاث جماجم مرصوفة على شكل دائرة وجوهها تتجه نحو المركز، وفي حالة خاصة عثر على هيكل لطفل تصحبه مجموعة من جماجم الأطفال.
10
وهناك دلائل تشير إلى أن بعض الأسر كانت تدفن جمجمة أحد أسلافها تحت المنزل الجديد، كنوع من حجر التأسيس للبناء، فتوضع في الزاوية عند التقاء جدارين. ويبدو أن الهدف من هذه العادة هو الاحتفاظ بالقوة الروحية لذلك السلف في البيت.
11
أما من موقع تل المريبط على الفرات الأوسط، فإن عبادة الجماجم تعلن عن نفسها لأول مرة بكل قوة ووضوح؛ فأجسام الموتى كانت مدفونة تحت أرضيات المساكن، بينما فصلت جماجمها ووزعت ضمن المسكن على امتداد الجدران، وكل جمجمة ترتكز على قاعدة طينية خاصة بها، وذلك كنوع من الأثاث الجنائزي المعروض باستمرار أمام الأنظار.
12
جماجم مشكلة الملامح من تل الرماد.
وفي مستويات النيوليت الفخاري بأريحا، لم يكتف الإنسان النيوليتي هنا بعرض جماجم الموتى بشكلها الخام الطبيعي، بل لقد عمد إلى إعادة تشكيل ملامح أصحابها، بحيث تغدو الجمجمة المعروضة وكأنها صورة شخصية (بورتريه) للسلف المبجل، واستخدم في عملية التشكيل عجينة من كلس وطين، وملئت محاجر العيون بأصداف تعطي شكل البؤبؤ، ثم طلي الوجه بلون يماثل لون البشرة الإنسانية، وتم حشو الجمجمة من الداخل بالطين المدكوك لأجل تقويتها. وينبي تشكيل الملامح عن حرفة فنية عالية ورهافة لا يتوقعها الكثيرون من إنسان ذلك العصر. وقد وجدت هذه الجماجم معروضة ضمن البيوت في مجموعات مؤلفة من خمس أو اثنتين وأحيانا واحدة. تستمر شعيرة الجماجم هذه في موقع أريحا خلال عصورها اللاحقة، إلا أن الصنعة الفنية تميل تدريجيا نحو التنميط، وتبتعد عن رصد الملامح الفردية المتنوعة، كما يتم تشكيل الجمجمة باعتبارها جزءا من تمثال نصفي أو ربما بالحجم الطبيعي؛ لأن ما تم تجميعه من كسرات هذه التماثيل لم يكف لإعادة بناء هيئة كاملة.
13
جماجم مشكلة الملامح من أريحا.
ويقدم لنا موقع تل الرماد قرب دمشق، في سوية الألف السابع، دلائل على شعائر مشابهة لشعائر أريحا، إلا أن تقنيات تشكيل الجماجم هنا لم تصل إلى المستوى الرفيع لتقنيات أريحا. وقد وجدت الجماجم المشكلة الوجوه باللدائن نفسها في مجموعات ضمن البيوت، وإلى جانبها قواعد طينية بارتفاع عشرين سنتم على هيئة جذع، كانت تستخدم كقواعد لعرض الجماجم. كما وجدت في الفترة نفسها في شتال حيوك بجنوب الأناضول جماجم على أرضيات أو مصاطب الهياكل (انظر التشكيلات الجدارية في الفصل الثالث). ورغم أن هذه الجماجم لم تكن مشكلة الملامح مثل جماجم تل الرماد، إلا أنها كانت جزءا من أثاث جنائزي معروض باستمرار. وهناك أمثلة أخرى متفرقة على شعائر الجماجم من مواقع أخرى في سوريا وفلسطين، إلا أن ما يلفت النظر في بعض الحالات هو العثور على مقابر تضم هياكل بلا رءوس، وعدم العثور على رءوسها في أي مكان من الموقع؛ الأمر الذي يدل على أن السكان ربما حملوا جماجم أسلافهم عندما هجروا المكان.
14
وهكذا تثبت المعلومات الأكيدة المستمدة من علم آثار ما قبل التاريخ، أن عبادة الأسلاف لم تنشأ عند جذور الدين كما قال سبنسر وأتباع المدرسة الأرواحية، بل بعد مائة أو مائتي ألف عام من ظهور الشواهد على حياة دينية منظمة لدى الإنسان الأول؛ ذلك أن عقيدة الجماجم، وهي المؤشر الأول في تاريخ الدين على عبادة الموتى، لا تظهر وتأخذ أبعادها كاملة إلا في وسط قروي مستقر يتمتع بحياة دينية منظمة، تحمل وراءها عشرات ألوف السنين من التفاعل ضمن البيئة الاجتماعية. فهذه العقيدة التي تقوم على الإيمان بقوة الأرواح وقداستها لم تنشأ في فراغ ديني، بل انبثقت عن معتقدات أقدم منها متوارثة عن الباليوليت الأعلى، وتعايشت معها دون أن تحل محلها. ففي تل المريبط نجد الجماجم المنصوبة على حواملها، قائمة في بيوت الناس الذين تعبدوا للقوة السارية من خلال رءوس الثيران المعروضة على المناصب الطينية. وفي شتال حيوك توضع الجماجم بشكل ظاهر في الهياكل التي أقيمت أصلا لرءوس الثيران وتمثيلات الألوهة المؤنثة. وفي أريحا ترصف مجموعات الجماجم المشكلة الملامح في البيوت السكنية للناس الذين بنوا هياكل دينية أقاموا فيها الطقوس للتواصل مع القوة الكونية الوحيدة التي عرفها الإنسان في ذلك العصر؛ قوة المجال القدسي.
جمجمة مشكلة الملامح من أريحا/مع قاعدة.
أي إن قدسية الأرواح، وبشكل خاص قدسية الأسلاف المبجلين، إنما تستمد من مفهوم سابق، مؤسس وراسخ، للقداسة، ومن أفكار دينية ناضجة عن المقدس وعن الدنيوي. وإنسان العصر النيوليتي في إعلائه لأرواح السلف، قد نظر إلى جماجمهم باعتبارها مستودعا لقوة قدسية غير محدودة تصدر عن منبع كوني خفي. فإذا كانت أرواح الموتى تكتسب قوة فوق طبيعانية بعد مغادرتها أجسادها، فلأنها انضمت إلى المستوى القدسي للوجود الذي صدرت عنه أصلا، واستمدت من قوته السارية، وهذه القوة تتكثف بشكل خاص في أرواح الأفراد المتميزين ممن لعبوا دورا هاما خلال حياتهم، ويبقون بعد مماتهم صلة وصل مع المستوى القدسي، كما تبقى جماجمهم بين الأحياء شارة للقداسة، يتعبد الناس إليها زلفى.
وشيئا فشيئا تحل الشارة الإنسانية محل الشارة الحيوانية رمزا لعالم اللاهوت، وتأخذ القوة تدريجيا باتخاذ الملامح الإنسانية بعد أن احتجبت طويلا وراء الهيئة الحيوانية. ويترافق هذا التحول مع إدراك الجنس البشري لتميزه ولدوره على مسرح الكون.
إن الجماجم المشكلة الملامح في المواقع النيوليتية السورية والفلسطينية، هي أول محاولة في تاريخ الدين والفن لتصوير الملامح الإنسانية. وقبل الألف الثامن قبل الميلاد، لا نعثر في أي مكان ولدى أية ثقافة على محاولة جدية ومقصودة في هذا المجال؛ فتشخيص الإنسان كان نادرا جدا بشكل عام في الباليوليت الأعلى، فإذا ظهر في الرسم فبشكل عام وغامض، وباستخدام خطوط تظهر هيئته الجسدية من دون وجهه. أما الدمى العشتارية فكانت تشكل بدون رأس، أو برأس يشبه الكرة الملساء دون ملامح وجه على الإطلاق. وفي الحالات التي تم فيها تنفيذ تكوين واقعي للرأس، كما هو الأمر في منحوتات الآلهة الأناضولية، بقيت ملامح الوجه غامضة ومتلاشية بطريقة لا توحي بسيماء فردية محددة. وقد قلنا في حينه إن إنسان العصر الحجري قد تعمد تجاهل الرأس وإغفال الملامح، لإحساسه بأنه يصنع صورة رمزية تعبر عن ألوهة غير مشخصة، ويرسم شارة وشعارا لا هيئة حقيقية موجودة. ولكن منذ أن بدأ الإنسان بتشكيل ملامح وجه إنساني يمثل شخصا بعينه، ثم عزا إلى هذه الهيئة قوى غير طبيعية، أو جعلها مستقرا لهذه القوة، دخل الفكر الديني مرحلة التشخيص؛ تشخيص القوة غير المشخصة (سواء عن طريق تشكيل الجماجم أو تشكيل الحجر والصلصال فيما بعد)، وأخذ الإنسان ينظر إلى القوة من خلال تمثيلات مشخصة. وشيئا فشيئا تحولت القوة إلى شخصيات ذات قوة، وتكسر مبدأ القوة السارية إلى عدد من القوى، وظهرت الآلهة.
مما لا شك فيه، أن التغيرات الجذرية في أنماط الإنتاج داخل التجمعات الزراعية النيوليتية، وتبدل البنى السياسية والاجتماعية في المستوطنات القروية الأولى، التي كانت تسير بخطى حثيثة نحو تكوين المدن الأولى في تاريخ البشرية، قد ساعد على إحداث التغيرات في المفاهيم الدينية، وشجع على ترسيخ مفهوم الشخصية الإلهية في مقابل الألوهة غير المشخصة. وبشكل خاص، فإننا نعزو إلى التحولات النوعية الطارئة على مفهوم السلطة، وعلى أساليب ممارستها ضمن الجماعة، الأثر الأكبر في تكوين مفهوم جديد للسلطة على مستوى الكون؛ فجماعات الصيادين في الباليوليت الأعلى، كانت تعيش مشاعية اقتصادية في ظل نظام سياسي بسيط يقوم على اختيار رئيس غير متفرغ لمهام هذه الرئاسة، يرعى تطبيق الأعراف المتوارثة، ويعمل على تسوية المنازعات البسيطة التي قد تنشأ بين الأفراد. وباستطاعتنا الافتراض اعتمادا على المعلومات المستمدة من أركيولوجيا المواقع النيوليتية الأولى، أن بدايات العصر الحجري الحديث لم تحمل معها تغييرات مباشرة ومهمة في البنى الاجتماعية والسياسية ، وذلك رغم التغيرات الاقتصادية الجذرية التي كانت تعمل على تغيير وجه الحضارة الإنسانية. ولكننا مع الاقتراب نحو فجر المدنية في الشرق الأدنى القديم، ومع تحول القرى الزراعية إلى أشباه مدن، نأخذ بملاحظة حلول تغييرات في جميع البنى الاجتماعية والسياسية للمواقع النيوليتية ، التي دخلت الآن العصر النحاسي (الخالكوليتي) الذي مهد للاستخدامات الواسعة للمعادن عوضا عن الحجارة. لقد تحول المقام أو الحرم الديني البسيط إلى معبد كبير، وتحول الشامان، رجل الدين البدائي، إلى كاهن كبير يخدمه عدد من الكهان الأدنى مرتبة، وبني قصر واسع للرئيس الذي تحول إلى ملك متفرغ لشئون الحكم، يفرض سلطته بعد أن كان يستمدها من الجماعة، وظهر التملك الخاص للأرض ولوسائل الإنتاج، وتنوعت الحرف والاختصاصات. كل هذه التغيرات انعكست على البنية الدينية وعلى المفاهيم الدينية والكونية. ففي الماضي، لم يكن الفرد يشعر بالسلطة تمارس عليه من قبل أية جهة إنسانية كانت أم طبيعانية، أما إحساسه بالروع أمام القوة الغفلة في الطبيعة، فكان يتلاشى بشكل تلقائي كلما عمد إلى إقامة الطقوس التي كانت تجعله في انسجام مع الطبيعة وقواها المنظورة والخفية. أما الآن، وبعد تأسيس مفهوم اجتماعي وسياسي للسلطة، فقد بدأ الكون يظهر وكأنه محكوم أيضا ومسير بالسلطة، وتحولت القوة التلقائية التي كانت تفيض من عالم اللاهوت إلى سلطة وإلى نظام سلطوي متدرج. فكما تتوزع السلطة ضمن الجماعة في هرمية متسلسلة من الأعلى إلى الأسفل، كذلك توزعت القوة الإلهية إلى مجموعة قوى متجزئة، وظهرت هرمية السلطة على مستوى الكون. وهكذا وجدت عملية تشخيص الألوهة التي كانت جارية ضمن مؤسسة عبادة الأسلاف تأييدا لها من القوة الاجتماعية الجديدة الصاعدة.
فيما يلي من موضوعات هذا الكتاب، سوف أعرض للمزيد من الإثباتات التي تؤيد ما بسطته آنفا بشأن أصل الآلهة في السياق العام لتاريخ المعتقدات الدينية. ولسوف ألتفت الآن إلى اختبار صحة النظرية ومدى مطابقتها للوقائع المستمدة من تاريخ الدين ومعتقدات البدائيين؛ وذلك باللجوء إلى مناقشة أهم النظريات الأخرى وأكثرها تعارضا معنا، والتي لا تكتفي بافتراض أسبقية الآلهة المشخصة وقيامها عند أصول الدين، بل تتعدى ذلك إلى القول بنوع من التوحيد البدئي كان موجودا على الدوام في صلب الاعتقاد الديني. إن أكثر هذه النظريات شهرة هي نظرية أندرو لانغ، ونظرية وليم شميدت المكملة لها.
انطلق أندرو لانغ
Andrew Lang (1844-1912م) في تشكيل نظريته من نقده لنظرية تيلور الأرواحية، وذلك في كتابه
Myth, Ritual and Religion
الصادر عام 1887م، فهو يرى أن فكرة الإله الأعلى موجودة لدى أكثر الشعوب بدائية، وهم الأستراليون، كما نجدها أيضا في أفريقيا والأمريكيتين، وهذا ما يضع، بداية، الأطروحة الرئيسية للنظرية الأرواحية موضع شك. ومع أن لانغ لا يحيد في منهجه عن المخطط التطوري، إلا أنه ينتقد التبسيط الشديد الذي يلجأ إليه معظم التطوريين، ويعتقد بأن فكرة الكائنات الإلهية العليا قد قامت في استقلال تام عن معتقدات الأرواح وعبادة الأسلاف، وهي ليست نتاجا لتطور أفكار بسيطة سابقة عليها، خصوصا وأننا نجد فكرة الكائن الإلهي الأعلى في مجتمعات لا نعثر فيها على أثر لعبادة الأسلاف. ثم يتوصل لانغ إلى نتيجته المرسومة مسبقا، وهي أن الذهن الإنساني كان قادرا دائما وعبر كل العصور على التوصل إلى فكرة الكائن الإلهي الأعلى، إلا أن الخيال غالبا ما غلف هذا المفهوم السامي بتصورات ميثولوجية خلقت حشدا من الآلهة، حجب وراءه ذلك المفهوم الأصلي.
15
بعد وفاة أندرو لانغ، قام فيلهلم شميدت
Wilhelm Schmidt (1868-1954م)، وهو كاهن كاثوليكي وعالم أنتروبولوجي، بتطوير أفكار لانغ حول التوحيد البدئي، في كتابه الضخم
Der Ursprug Gottesidee
الذي نشر مجلده الأول عام 1912م. هاجم شميدت النظريات التطورية في دراسة الدين، مؤكدا أن التاريخ الإنساني، وتاريخ الأفكار بشكل خاص، يؤلف حقلا أكثر تعقيدا مما يراه التطوريون. وبدلا من الحركة الخطية لتطور الحضارة، يقترح شميدت عددا من الدوائر الحضارية التي تطورت كل منها في استقلال نسبي عن الأخرى، وحملت خصائص مختلفة أيضا. وبعد قيامه برسم حدود هذه الدوائر، يعمد إلى استقصاء فكرة الكائن الأعلى في معتقدات كل دائرة، موضحا الخطوط العامة لشخصيته في كل حالة؛ ليتوصل أخيرا إلى القول بتشابه هذه الكائنات العليا وتماثل سماتها وخصائصها في كل مكان. أما عن سبب هذا التشابه فيعود في رأيه إلى أن ثقافات العالم الحديث في قاراته الخمس ينبغي ألا توضع على مسار تطوري خطي؛ لأن كل ثقافة قد تطورت في معزل عن الأخرى ضمن دائرتها الحضارية الخاصة. ولكن هذه الثقافات جميعا قد نشأت عن مستوى حضاري واحد مغرق في القدم، سادت عنده ديانة واحدة تؤمن بإله واحد، ومنها أخذت الأديان التي استقلت فيما بعد بذور التوحيد. إن مثل هذه الديانة الأصلية الواحدة لا يمكن تفسيرها إلا بالقول بوحي بدئي هبط على البشرية عند جذور تاريخها. ولكن شميدت يلاحظ بعد ذلك أن هذا الكائن الأعلى لم تكن له المكانة نفسها لدى جميع الشعوب وعبر كل الأزمنة، ويعزو ذلك إلى التبدل في أنماط الحياة وما يعكسه هذا التبدل على الأفكار والمعتقدات. فالمجتمعات الزراعية مثلا أكدت على كائن إلهي مؤنث ذي خصائص قمرية، بينما رفعت الشعوب الرعوية إلها مذكرا هو سيد السماء ورئيس مجمع آلهة الظواهر الطبيعية، أما الشعوب البدائية المعاصرة فرغم اعتراف بعضها بوجود سيد أعلى للكون، فإنها لا تتوجه إليه بالعبادة ولا تقيم له الهياكل والمقامات؛ لأنها تعتبره بعيدا جدا ويعيش في عالمه غير آبه بالناس؛ ولذا فإنها تتوسل إلى آلهة أقرب إليها وأكثر دينامية.
16
إن أول نقد يمكن توجيهه إلى شميدت، هو أنه يتحدث عن التوحيد كلما وجد إلها أعلى يتفوق في خصائصه وقواه على بقية الكائنات الروحية أو الإلهية التي تؤمن بها الجماعة، وهذه أولى نقاط الضعف في نظريته. أما النقطة الثانية، فتظهر في تركيزه على الأمثلة التي توافق وجهة نظره المسبقة، ويعزو ما يخالفها إلى مراحل التفكك والانحدار في الحياة الدينية للإنسان. يضاف إلى ذلك أن شميدت، شأنه في ذلك شأن أندرو لانغ وغيره ممن يؤكدون على أولوية الكائنات العليا في أديان البدائيين، لا يعطي الأهمية الكافية للتأثير الذي مارسه التوحيد التاريخي على بقية الديانات، ما نأى منها وما دنا؛ فاليهودية قد تغلغلت في أفريقيا منذ القرون الأولى للميلاد، ثم تلتها المسيحية التي تبنتها نظم ملكية قوية كما هو حال الحبشة، ومنذ القرن السابع لم يترك التجار المسلمون بقعة نائية إلا وارتادوها. ويكفي هنا أن أسوق أوضح مثال على التأثير الإسلامي في الأديان البدائية، وهو مستمد من أفريقيا. فالشعوب التي تسكن القسم الغربي من النيجر والقسم الشمالي من نيجيريا، لها ديانة أفريقية تقليدية ضاربة في أعماق التاريخ الأفريقي، تدور حول الجن والأرواح والأسلاف المؤلهين، إلا أنهم يعتقدون بإله خالق أعلى يقيم في السماء السابعة ويدعونه باسمه العربي الله، كما توجد لديهم عبادة سرية تدور حول كائن شيطاني اسمه إبليس باللفظ العربي أيضا، وكذلك عبادة الملائكة بالاسم العربي ذاته. إلا أن كل هذه العبادات قد احتفظت بطابع زنجي أفريقي، ودخلت في نسيج الديانة المحلية إلى درجة لا تلفت النظر إلى مصدرها الحقيقي، لولا احتفاظها بالأسماء العربية الإسلامية.
17
من هنا، فإن أي دارس مزود بوجهات نظر مسبقة حول التوحيد الأصلي، سوف يحاول إرجاع هذه الأفكار شبه التوحيدية إلى معتقدات قديمة متجذرة في الدين الأفريقي، من دون أن يتقصى مصادرها وأصولها التاريخية. وهذه نقطة الضعف الثالثة لدى شميدت.
ولعل أكثر نقاط النظرية ضعفا هو تقديمها لمفهوم الكائن الأعلى كما وجدته في المجتمعات البدائية، ومن دون النظر إلى تاريخ فكرة الكائن الأعلى وكيفية ظهورها في معتقدات الجماعة. وهذا الموقف ينشأ عن افتراض خاطئ، قدر ما هو شائع، وهو أن الجماعات البدائية هي شعوب سكونية بلا تاريخ، وأن مؤسساتها القائمة اليوم هي استمرار تلقائي لمؤسساتها المغرقة في القدم، وثقافتها هي ثقافة الإنسان الحجري بعينها. لقد أوضحت سابقا وفي أكثر من موضع خطأ هذه النظرة في الثقافة البدائية ومؤسساتها، وضلال ما يبنى عليها من نتائج. أما الآن فسوف أبين بالدليل العملي الميداني كيف نشأ مفهوم الكائن الأعلى، في إحدى الثقافات البدائية، انطلاقا من معتقدات أسبق منه تتعلق بتقديس الأسلاف والقوة السارية في الطبيعة. والمثال مأخوذ عن الثقافة الأسترالية التي تعد أكثر كل الثقافات المعروفة لنا بساطة وركودا.
لقد رأينا سابقا كيف يقوم المعتقد الأسترالي على المبدأ الطوطمي، الذي يعادل مفهوم المانا لدى شعوب ميلانيزيا. وسوف نوضح فيما يأتي كيف توصلت الثقافة الأسترالية لدى بعض قبائلها إلى فكرة الكائن الأعلى، علما بأن هذه الحالات النادرة التي استطاع الباحثون التأكد من وضوح مفهوم الكائن الأعلى فيها، هي الحالات التي عول عليها شميدت دون غيرها، في بحثه عن التوحيد الأصلي في أستراليا، واعتبرها بمثابة الأمثلة الدامغة على أولوية الألوهة المشخصة ممثلة بالإله الأكبر.
18
يميز الأستراليون بين النفس (=
soul ) والروح (=
spirit )؛ فالنفس هي ذلك الشبح الأثيري المحبوس في جسد الكائن الحي، وهي رغم إمكانياتها المحدودة على الحركة من وإلى الجسد، ضمن شروط معينة وفي أوقات معينة، فإنها لا تستطيع التخلص من إساره تماما إلا بموت الجسد. أما الروح، فرغم أنها قد جبلت من المادة الأثيرية التي للنفس، إلا أنها أكثر قوة وحرية، وهي رغم ارتباطها أحيانا بموضوع مادي تحل فيه، كصخرة أو شجرة أو كوكب ... إلخ، إلا أنها حرة في التنقل خارجه والعودة إليه متى شاءت، وذلك على عكس النفس التي لا تملك فعالية تذكر خارج حدود الجسد الذي ترتبط به. ولكن النفس بعد الموت تكتسب بعض خصائص الروح، فتغدو أكثر حرية وأقدر على الحركة، فبعد انتهاء طقوس الدفن والحداد، تمكث النفس بين أهلها وأصدقائها فترة من الوقت ثم تغادرهم إلى عالم الأموات، وبعد ذلك غالبا ما تتردد إلى مساكن أهلها لتتجول في الدغل قرب البيوت، فتقدم العون أو تسبب الأذى، وذلك تبعا لنوع المعاملة التي تتلقاها من الأحياء. ومع ذلك فإن أشباح الموتى هذه تبقى أقرب إلى المتشرد الذي لا يملك وظيفة أو عملا محددا؛ لأن الموت قد وضعها خارج كل الأشكال والصيغ النظامية. أما الروح، فإنها تملك على الدوام قوة من نوع ما، ومجال فعل يتحدد بظاهرة ما من ظواهر الطبيعة أو المجتمع الإنساني؛ أي إن لها وظيفة محددة في النظام الكوني.
يستثنى من هذا التقسيم نفوس معينة تتمتع بخصائص النفس والروح معا، فهي من جهة أشباح موتى عاشوا على الأرض منذ قديم الزمان، ومن جهة ثانية هي أرواح ذات قوة كبيرة ومجال فعل وتأثير واضح وواسع؛ إنها نفوس الأسلاف الأسطوريين الذين وضعهم خيال القوم عند بداية الزمن، والذين تمتعوا إبان حياتهم بقوة لم تتيسر لغيرهم من الأحياء أو الأموات بعد ذلك. هؤلاء الأسلاف لم يولدوا من جيل سابق عليهم، بل انبثقوا إلى الوجود مع انبثاق مظاهر الطبيعة ذاتها، ثم أنجزوا كل الأعمال الجليلة الضرورية لاستمرار البشرية من بعدهم ، وعندما انتهت مهمتهم غادروا الحياة الدنيا وولجوا إلى باطن الأرض، ولكن نفوسهم بقيت بمثابة أرواح خالدة ترعى سلالتهم من بعدهم. وقد تحولت النقاط التي عبر منها الأسلاف نحو باطن الأرض إلى بقاع مقدسة، فهنا تودع العشيرة أدواتها الطقسية، وهنا تقام الطقوس الدينية الرئيسية.
ويعزو الأسترالي إلى أسلافه الأسطوريين قوى فوق طبيعانية خارقة، فهم الذين أعطوا منذ البدء للأرض شكلها الحالي، وهم المسئولون عن ظهور الكائنات الحية عليها. ويبلغ من قدراتهم أنهم يتحركون فوق الأرض أو تحتها بلمح البصر، يخترقون الجبال والحواجز الطبيعية كما الشعاع في الماء، وقد يغمرون البلاد بطوفانات عظيمة، أو يفجرون الينابيع فتملأ بحيرات لا حصر لها. ولعل من أهم المعتقدات المتعلقة بهؤلاء هي مسئوليتهم عن إخصاب النساء وتكوين الأجنة في الأرحام؛ فالفعل الجنسي ليس السبب المباشر في حمل المرأة، بل هو مجرد وسيط يسمح لأحد الأسلاف بأن ينفخ في الرحم من روحه، ويحل فيه بجزء منه فيما يشبه التقمص. وبذلك يزدوج السلف في كل مرة وإلى ما لا نهاية، من غير أن يفقد من كيانه الأصلي شيئا؛ لأن ما يحل منه في الرحم عند كل تقمص لا يعدو أن يكون قبسا ضئيلا أو نفخة طفيفة. وبهذا يغدو كل فرد في العشيرة مرتبطا بشكل وثيق بأحد الأسلاف الأسطوريين، فهو ممثله وصورة عنه في جماعته. ونظرا لمسئوليته المباشرة عن إنجاب الطفل، فإن السلف المعني يتابع اهتمامه به منذ ولادته وحتى مماته، فإذا اشتد عوده يمضي معه إلى الصيد فيدفع الطرائد إليه، وهو يحذره في أحلامه من المخاطر الممكنة، ويحميه أنى تحرك من أعدائه.
إلى جانب العلاقة التي تربط بين أرواح الأسلاف وأفراد العشيرة، هناك علاقة من نوع آخر تربط أرواح الأسلاف إلى مظاهر الطبيعة ؛ فروح السلف تقيم معظم وقتها في الهيئة الطبيعية التي دلف منها ذلك السلف إلى باطن الأرض في غابر الأزمان، وتغدو هذه الهيئة بمثابة الجسد المرئي له، وموضع تقديس عظيم، كما تغدو روح السلف، وبالمقابل، بمثابة روح للهيئة الطبيعية ذاتها. فإذا ما ارتبطت الهيئة بظاهرة من ظواهر حياة الطبيعة، كأن يرتبط نبع ماء مقدس بتهطال المطر، فإن روح السلف الحالة في هذا النبع تعتبر بمثابة روح للمطر ومسئولة عنه أو موكلة به؛ وبذلك تلعب بعض الأرواح دورا جديدا وهاما على مستوى الطبيعة. لقد دعا بعض الباحثين هذه الزمرة من الأرواح التي ارتقت إلى وظائف عليا بالآلهة، إلا أن تعبير الآلهة هنا غير دقيق تماما؛ لأننا لا نزال في الواقع أمام مفهوم أرواح ارتقت إلى منزلة أرقى، وصار لها مجال فعل أوسع، غير أن هذا المفهوم الجديد إنما يضعنا في الواقع على الدرجات الأولى نحو التشخيص التدريجي للقوة الإلهية، مما سوف نتابعه فيما يلي.
رغم الاختلاف في الطقوس الدينية المتبعة ضمن العشائر المكونة للقبيلة الواحدة، فإن هذه الطقوس تؤلف فيما بينها دينا مشتركا بين الجميع، وتتأكد الوحدة من خلال تشابهات أساسية تبدو واضحة تحت مظهر التنوع. وبشكل خاص، فإن طقوس التعدية (=
initation ) تظهر تشابها لدى جميع العشائر، كما أن إجراءها لا يتم على مستوى العشيرة بل على مستوى القبيلة وبحضور جميع العشائر، حيث يتم من خلالها تقديم البالغين من الذكور إلى دين القبيلة وتعريفهم بأسراره. وقد قاد هذا التشابه في طقوس التعدية، وغيرها من الطقوس المشتركة بين العشائر، أو حتى بين مجموعة قبائل في بعض الأحيان، إلى الاعتقاد بالأصل الواحد لهذا الطقس المشترك، وبأنه يرجع إلى سلف بعينه، قام بتأسيسه وتعليمه للقبيلة كلها. فلدى جماعات الأورنتا، يسود الاعتقاد بأن سلف عشيرة القط البري هو الذي أوجد الأدوات الطقسية المعروفة بالتشورينغا، وأباح استعمالها طقسيا لجميع العشائر. ولدى جماعات الدبيري، يسود الاعتقاد بأن سلف عشيرة التمساح هو الذي أرسى أسس طقوس الختان وعلمها لجميع العشائر. هذا النوع من الأسلاف لا يوضع على قدم المساواة مع البقية؛ فإضافة إلى مسئولية هؤلاء عن بعض الطقوس المشتركة ومراقبتهم لأدائها، فإن الخيال الديني يعزو إليهم كل ما هو أساسي في حياة الجماعة، مثل الابتكارات التكنولوجية والمؤسسات الاجتماعية. وقد توصلت عشائر الكايتيش إلى النظر إلى السلف المدعو أنانتو على أنه من صنع نفسه بنفسه في السماء، وابتكر الاسم الذي يحمله، وأن نجوم السماء هي بناته وزوجاته، كما يعتبر اسمه بمثابة تابو لا يجوز التلفظ به أمام من لم يمر بطقوس التعدية ويستلم أسرار دينه.
على أن هذا النوع من الشخصيات الميثولوجية ليس الدرجة الأخيرة في سلم تشخيص القوة الإلهية في أستراليا؛ فلقد تم التوصل أحيانا إلى مفهوم مشترك عن شخصية مبجلة، لا بين العشائر المؤلفة لقبيلة واحدة، بل بين عدد من القبائل. وهذه الشخصية هي التي وصفها أصحاب نظرية التوحيد الأصلي بأنها تشبه بالفعل ما يعرفونه عن الإله الأعلى. غير أن تتبع سيرة حياة هذا الكائن الأعلى في الثقافة الأسترالية، يظهر بوضوح أصله كسلف ارتقى سلم الألوهة تدريجيا. فعلى ندرة وجود هذا النوع من السلف-الإله في الديانة الأسترالية التي تدور حول المبدأ الطوطمي وأرواح الأسلاف، فإنه يتمتع بخصائص متشابهة وسيرة حياة واحدة. فهو كائن عاش على الأرض ردحا من الزمن، ثم غادرها إلى السماء مع عائلته المؤلفة من عدد من الزوجات والأبناء والبنات، ومن هناك راح يدير حركة الأفلاك ويرسل المطر ويصنع البرق والصاعقة، وقد أشعل الشمس لكي تدفئ الأرض وتخرج الكائنات الحية من تربتها وكذلك الزرع والشجر، ثم قام بتعليم البشر كل ما من شأنه إعانتهم على الحياة، وهو يتواصل معهم إما مباشرة أو عن طريق وسطاء. وبما أن طقوس التعدية هي الأكثر أهمية بين الطقوس، فإن هذا الكائن الأعلى هو المعني بها؛ فخلال الاحتفال تنقش على قطعة من الخشب هيئة ترمز إلى صورته، فيرقص المحتفلون حولها ويغنون ويبتهلون، ثم يكشفون للبالغين الذين يتلقون أسرار دينهم في هذا الاحتفال عن الاسم السري له، ويقصون عليهم سيرة حياته وعجائب فعاله، وهم في الإشارة إليه غالبا ما يرفعون أيديهم ويوجهون حرابهم نحو السماء حيث يقيم. وبما أن طقوس التعدية هذه هي العبادة الوحيدة التي تدور حول هذا الكائن الأعلى، فإنهم يعتقدون بأنه يوليها كل العناية، ويحرص على أدائها بحذافيرها كل الحرص.
إلى هنا ينتهي بنا مطاف البحث عن أصل الآلهة المشخصة، وقد ختمناه بمثال عن أكثر الثقافات البدائية بساطة، أجبنا من خلالها على نظرية التوحيد البدئي، وأظهرنا في الوقت نفسه كيفية تكون صور الآلهة من مفهوم الروح، ومن مؤسسة عبادة الأسلاف. فصورة الإله المشخص لم تكن أبدا بدهية من بدهيات العقل الإنساني، بل تكونت عن أفكار دينية أسبق منها، ومعتقدات تدور حول الألوهة غير المشخصة، حول القوى الغفلة التي تكمن عند جذور الدين.
إلا أن السؤال الكبير، الذي سيكون موضوع المنعطف القادم في دراستنا، هو التالي: ولكن هل حلت الآلهة المشخصة، بعد أن ظهرت في تاريخ الدين، محل الألوهة غير المشخصة؛ وهل غاب المجال القدسي وقوته السارية تماما خلف أقنعة الآلهة المشخصة المتعددة؟
لقد بدأنا فعلا بالإجابة على هذا السؤال، عندما استعرضنا المثال المصري، أثناء بحث الصلة بين السحر والدين، حيث أظهرنا أن الآلهة المصرية المشخصة، التي يقدمها عادة دارسو الدين باعتبارها المركز الذي دارت حوله ديانة مصر القديمة، ليست في حقيقة الأمر إلا تجليات للإله الأكبر رع، الذي يشكل بدوره الرمز البدئي للمطلق غير المرئي نتر، أو المجال القدسي بالمصطلح الذي استخدمناه حتى الآن. وبما أن هذا الكتاب ليس دراسة في تاريخ الدين، فإن المثال المصري سيكون المثال الوحيد الذي نسوقه من الديانات الكبرى للشرق الأدنى القديم، ولسوف نلتفت في القسم التالي من دراستنا إلى استقصاء أديان الشرق الأقصى، التي وجدنا فيها أوضح مثال على تعايش مفهوم الآلهة المشخصة إلى جانب مفهوم المجال القدسي. ستظهر لنا الجولة الواسعة القادمة في المعتقدات الشرق أقصوية كيف أن لآلهة المشخصة، بما فيها الكائن الأعلى، ليست سوى مرحلة وسيطة، ودرجة يتكئ عليها الإيمان الديني في تطلعه الدائم نحو المجال القدسي وقوته المتبدية في عالم الناس، وهو الإيمان الذي ترسخت أسسه منذ أن انتصب الإنسان على قائمتين وصنع الأدوات الحجرية. •••
في مطلع القسم المنصرم من دراستنا، أرجعنا الدين إلى بنية الحد الأدنى التي وجدناها في المعتقد، ثم قلنا إن بالإمكان إرجاع المعتقد ذاته إلى حد أدنى أسميناه بالحد الأدنى الاعتقادي، وهو الصيغة البسيطة الأساسية التي تقوم عليها المعتقدات الدينية في كل عصر وكل مكان. وما زلنا في رحلة البحث عن هذه الصيغة التي تثبت حقيقتها كلما تقدمنا في البحث، وتتحول الفرضية إلى نظرية مدعمة.
الباب الخامس
المعتقد وبنية الحد الأدنى [تابع]
المطلق ونسبية الآلهة في معتقدات الشرق الأقصى
الفصل الأول
كامي/تاو
المبدأ الكلي في المعتقدات التقليدية للشرق الأقصى
لعل أفضل مدخل ندلف منه إلى الفلسفات الدينية الكبرى للشرق الأقصى، هو استكشاف الأساس الفكري الذي قامت عليه بنيتها السامقة، وأعني به تلك المعتقدات التقليدية التي تضرب في أعماق التاريخ الشرقي وصولا إلى تخوم عصورها الحجرية. ولسوف تدهشنا تلك الاستمرارية في معتقدات العصر الحجري، والكيفية التي تخللت بها تلقائيا معتقدات العصور التاريخية. (1) كامي: المجهول الأقدس
في دين اليابان
يبدأ التاريخ المكتوب للأمة اليابانية مع القرن الخامس الميلادي، مترافقا مع دخول الديانة البوذية إليها قادمة من الصين. لم يكن اليابانيون يطلقون على دينهم اسما معينا؛ فهو الدين الوحيد الذي عرفوه في جزرهم المنعزلة، أما بعد الانتشار التدريجي للبوذية فقد شعروا بالحاجة إلى تمييز معتقدهم التقليدي فدعوه شنتو؛ أي طريق المبدأ الأقدس الكلي، وهو المبدأ الذي أشاروا إليه دوما تحت اسم كامي. وهذا المعتقد التقليدي لليابان قد وجد في تلك الأصقاع منذ أزمان لا يدري بها أحد، وتم تناقله عبر العصور والأجيال دون أن يعرف له مصدر أو مؤسس أو تاريخ ابتداء. وما زالت الديانتان البوذية والشنتوية متعايشتين حتى الآن في اليابان.
رغم أن مصطلح كامي يترجم أحيانا إلى إله أو جمع الآلهة، فإن الباحثين المحدثين يفضلون استخدام المصطلح بصيغته اليابانية، لتعذر إيجاد ترجمة تقريبية له. وقد حاول حكماء الشنتو تقريب مفهوم الكامي إلى أذهان الغرباء بوسائل شتى، مع اعترافهم ببقاء المصطلح غامضا وعصيا على الصياغة العقلانية المنطقية. يقول الباحث الياباني موريناغا في وصف الكامي: «إنه كل ما يثير في النفس الرهبة والجلال لما يمتلكه من قوى غير عادية.» ويقول باحث غربي متخصص في الشنتو: «إن اليابانيين أنفسهم لا يملكون فكرة دقيقة عن الكامي، فهم يختبرونه بشكل حدسي في أعماق وعيهم، ويتواصلون معه من غير أن يشكلوا حوله مفاهيم ذهنية أو لاهوتية. من هنا، فإنه من غير المتيسر إيضاح فكرة تقوم في أصلها على الخفاء والغموض.»
1
إن ما يميز الشنتو بشكل رئيسي هو الموقف الحدسي والاعتماد على الخبرة الدينية المباشرة من دون المبادئ اللاهوتية المعقلنة، وأتباع هذه الديانة نادرا ما يطرحون أسئلة أنطولوجية تتعلق بالوجود؛ لأنهم يشعرون بحقيقة الكامي عن طريق التماس المباشر مع القدسي، والإدراك المرهف لما هو خفي وسري، ويرون في ذلك فضلا على المقترب الذهني للعقائد المحكمة. ولقد ساعد احتكاك الشنتو بالبوذية والكونفوشية على توضيح أفكارها باستخدام مصطلحات مستمدة من هاتين؛ فالكامي هو القاع الكلي للوجود والجوهر الخفي للحقيقة، إذا أردنا استخدام تعابير بوذية، وهو المبدأ الخلقي الناظم للكون ولعلاقات البشر، إذا أردنا استخدام تعابير كونفوشية.
أما طقوس الشنتو، فبسيطة إلى حد بعيد، وتجري في أحضان الطبيعة حيث الحرم والمقامات الطبيعية، وخصوصا تحت شجرة ال
Sakak
المقدسة. وفي الأصل، كانت الكاهنات النساء هن المسئولات عن قيادة الطقس، فيتلفظن بكلمات القوة والقداسة وفق ترتيل معين حتى يصلن حالة الوجد، فيندفعن في رقص طقوسي محموم من شأنه جمع العابد إلى معبوده. ثم ظهرت الهياكل فيما بعد، واتخذت لها أنماطا معمارية متنوعة، مع حفاظها على أماكنها التقليدية في أحضان الطبيعة، وتأسس سلك للكهنوت متفرغ لها يرعى شئونها ويقود فيها الاحتفالات الدينية، وبين هؤلاء ما زالت الكاهنة القديمة ممثلة في زمرة من خادمات الهيكل يمارسن الرقص الطقوسي الجماعي.
2
لقد لعبت الهياكل وطقوسها منذ قديم الأزمان الدور المركزي في ديانة الشنتو، ونظرا لعلاقتها اليومية بحياة الناس لم يشعر اليابانيون بالحاجة الماسة إلى صياغة إيمانهم وفق نظام أيديولوجي، فكان هذا الإيمان ينتقل من جيل إلى آخر عن طريق الإحساس بالطقس وممارسته ، وتلمس ما ينقله إلى المشاركين فيه من قيم روحية وجمالية. فالياباني يبدأ اكتسابه للإيمان التقليدي منذ الزيارة الأولى للهيكل محمولا على ظهر أمه، حيث يدلف إلى تلك الغابة الساحرة بأشجارها العملاقة المعمرة، ويحس بجمال الطبيعة وجلالها الآسر قبل أن يدخل الهيكل ويراقب ما يجري هناك ، مكونا انطباعاته الأولى عن إيمان قومه. وفي مراحل نموه التالية وتدرجه نحو الفتوة، فإن الفتى لا يلقن أية مبادئ أو أصول تتعلق بدينه، بل يترك للتجربة المباشرة مع فكرة القدسي التي يتلمسها من خلال المشاركة بالطقوس والأعياد في الهياكل. إن ممارسة العبادة في الهياكل لتتصل اتصالا وثيقا بتقدير الجمال، بذلك الإحساس الصوفي بسحر الطبيعة، الذي ينقل الإنسان من المستوى الدنيوي إلى المستوى القدسي الأعلى، ويجعل من حياته حالة خبرة واتصال دائم بالكامي.
3
على أن هذا المفهوم للكامي ليس الوحيد الذي تدور حوله ديانة الشنتو، فإلى جانبه هناك عدد يقدر بالمئات من الكائنات الإلهية التي تتراوح في أهميتها من الآلهة السماوية العليا إلى تلك الآلهة الصغرى التي تقيم في الهياكل الثانوية المنعزلة، وغالبا ما تجري الإشارة إلى هؤلاء جميعا تحت اسم كامي، وينظر إليهم كمجموعة متماسكة متناغمة واحدة.
4
وإلى جانب العبادة التي يوجهها اليابانيون إلى هذه الآلهة، فإنهم يعبدون أيضا كل مظهر من مظاهر الطبيعة يمكن أن يشف لهم عن روح مقدسة تسكنه، فهم يعبدون الشمس والقمر والنجوم والبرق والصاعقة والأنهار والينابيع والصخور والأشجار. يضاف إلى ذلك أن بعض الرجال والنساء ممن أدوا خدمات جلى للمجتمع، يمكن أن يؤلهوا وتقدم لهم فروض العبادة في الهياكل، ومثلهم الأسلاف المؤلهون الذين يتخذون مكانة مقدسة رفيعة في العبادة الشنتوية. كما يعتبر الإمبراطور ابنا للسماء؛ لأنه من سلالة الحفيد المباشر للشمس عند أعتاب التاريخ الياباني، وقد عبد عبر العصور كواحد من الآلهة العظام.
5
كل هذا يجعل الشنتو في عين ناظرها لأول وهلة مزيجا من الخرافات التي لا تنتظم في بنية منطقية معقولة، يساعد على ذلك أن أهل الديانة لم يعنوا بصياغة معتقداتها ضمن أيديولوجيا دينية نهائية، ولم يصبوا أفكارها بلغة فلسفية تخاطب العقل والمنطق، بل تركوها على فطرتها التي نشأت عليها، عندما كان إنسان العصر الحجري يحس ويشعر ويستجيب، أكثر مما يفكر ويعقلن ويرمي شبكة المنطق يؤطر بها كونا يتأبى على التثبيت والتأطير. يروي الميثولوجي ومؤرخ الدين المعروف جوزيف كامبل، الحوار الآتي الذي سمعه في مؤتمر دولي لعلوم الدين في اليابان، بين أحد أعضاء الوفد الأمريكي وهو أستاذ في الفلسفة الاجتماعية، وكاهن شنتو. قال الأمريكي للكاهن بعد إنهاء جولة قام بها المؤتمرون على هياكل الشنتو: «لقد رأينا هياكلكم واطلعنا على طقوسكم، ولكني لم أفهم شيئا عن لاهوتكم ولا عن أيديولوجيتكم الدينية.» فأطرق الكاهن مليا ثم هز رأسه قائلا: «أعتقد بأننا لا نملك لاهوتا ولا أيديولوجيا دينية ... إننا نرقص.»
6
ومع ذلك، فإن للشنتو منطقا داخليا متماسكا قد لا يتيسر للكثير من الأديان الأخرى، وكل ما يبدو على السطح شتاتا لا يجمعه رابط إنما تنتظمه نظرة عميقة ثاقبة للوجود، تنشأ عن مواجهة وجودية بين الإنسان والعالم لتربط بينهما في كون موحد، يتخلل فيه عالم اللاهوت عالم الناسوت الآخر، وبطريقة لا يمكن فصل واحدهما عن الثاني أو وضع حدود مميزة بينهما. فالكون رغم انقسامه شطرين أمام التجربة الحدسية المباشرة للإنسان، ورغم معاينته كمقدس آنا وكدنيوي آنا آخر، إلا أنه في حقيقة الأمر متصل وواحد؛ مقدس في وجهه الأول، ودنيوي في وجهه الثاني، وليس الوجهان إلا تبديين متناوبين للمطلق الأزلي.
فالكامي، الذي يرى فيه الياباني المبدأ الكلي الأقدس المحيط بظواهر الكون جميعها، ليس ألوهة مفارقة متمايزة عن خلقها، بل هو الخميرة الفاعلة في صميم هذا الخلق. ونظرا لكونه متخللا في كل شيء، فإن قوته تتكثف في بعض مظاهر الطبيعة أكثر من غيرها؛ ولذا يعلى من شأن هذه وتعبد. كما قد تتكثف هذه القوة الفاعلة في بعض الأرواح فتمتلئ قدسية وترتقي إلى رتبة الآلهة، التي ليست في حقيقة الأمر سوى قوة المجال القدسي وقد تجزأت وصارت صلة وصل بين الكامي والإنسان. ولا أدل على الدور الثانوي الذي تلعبه الآلهة في الشنتو من كثرة عددها وامتلاء الأرض والسماء بها، وكذلك امتلاء الأرض والسماء بالمقدسات والمعبودات من كل نوع، والتي تقود كلها إلى الحقيقة الواحدة الجديرة بالعبادة والتقديس.
ينعكس المعتقد الديني للشنتو على نظرة الياباني لمكانته في العالم ودوره في النظام الكلي للكون؛ فالبشر هم أطفال الكامي، منه تلقوا الحياة وبه يستمرون في كل يوم. من هنا تأتي قدسية حياة الإنسان، والاحترام الكبير الذي يكنه كل ياباني لحياة الفرد الآخر وشخصه وحقوقه الأساسية؛ فكل عضو في الجنس البشري، بصرف النظر عن عرقه وقوميته ومواطنيته، يحمل قبسا من القداسة استمده من الكامي. غير أن جوهر القداسة في الإنسان لا يظهر تلقائيا، وإنما يتطلب من المرء أن يجلو قلبه ليشع منه نور حقيقته، وذلك بتطهير أفكاره وأفعاله، والإخلاص في تعامله مع عالم المقدسات وعالم الناس. والفرد، رغم تمتعه بخصائص شخصية تميزه وتؤكد استقلاليته، إلا أنه ليس ذاتا منعزلة عن بقية الذوات ومنقطعة عن الجماعة، بل حلقة في سلسلة تمتد في الماضي نحو الأسلاف وفي المستقبل نحو الأجيال القادمة، فهو صلة وصل ضرورية في استمرارية حيوية لكائن واحد هو المجتمع بماضيه وحاضره ومستقبله، وعليه أن يلعب دورا إيجابيا في ارتقاء تقدم الحياة. ودور الفرد هذا مرتبط بنظرة الشنتو الأشمل للتاريخ الصاعد أبدا في اتجاه تقدمي لا نكوص فيه، والذي نصنعه حيوات وجهود كل الأفراد. من هنا فإن الكون أزلي في ذهن الياباني الذي لا يحمل أية معتقدات حول نهاية العالم وفناء البشرية، فلا قيامة ولا بعث ولا نشور. وما على الفرد إلا أن يحيا كل لحظة بكامل أبعادها، ويعطيها ما تستحقه من قيمة باعتبارها لحظة مهمة في حياة الكون.
7
وهكذا تعطينا ديانة الشنتو في اليابان أول إشارة مشجعة في طريقنا الجديد الذي نطرقه لاستكشاف معتقدات الحضارات الكبرى. فنحن ما زلنا نسير في أرض مألوفة، والمعتقد الأساسي للثقافات الحجرية والبدائية يتكرر هنا وإن بتنويعات مختلفة. (2) قوة السماء وتبعية الآلهة
في الفكر الصيني
لم يأخذ الصينيون عبر تاريخهم مسألة تشخيص الألوهة بشكل جدي، ولم يظهروا ميلا لاعتبار الكون مخلوقا من قبل ملك سماوي يتحكم فيه، بل لقد رأوا فيه ما يشبه الجسد الحي الذي يقوم على تنظيم نفسه وفق آلية ضبط ذاتي، وهناك أمثولة تاوية يرويها الحكيم تشانغ تزو من القرن الرابع قبل الميلاد عن هذه التلقائية الكونية، فيقول: «بأن الحريش الذي يزحف مستعينا بأربعة وأربعين طرفا (أم أربع وأربعين) قد سئل عن كيفية تدبيره لحركة هذه العشرات من أرجله، فأجاب بأن المسألة لم تشغل باله قبل ذلك، فهو يشعر بأن أرجله تدبر أمرها بنفسها دون تفكير منه ودونما حاجة إلى تدخله.»
8
ومع ذلك، فإن الديانة الصينية التقليدية السابقة على البوذية حافلة بالآلهة من شتى الأشكال والأنواع، شأنها في ذلك شأن الديانة اليابانية، ولكن هذه الكائنات المتفوقة، التي نطلق عليها اسم آلهة، ليست في الواقع إلا أسلافا أسطوريين قد رفعوا تدريجيا إلى مراتب أعلى في سلم السلطة الكونية. وتظهر السير الأسطورية لحياة هؤلاء كيف ابتدأ أمرهم كرجال صالحين على الأرض، وكيف تم تأليههم وعبادتهم فيما بعد. ومما يلفت النظر في أمر الآلهة الصينية على كثرتها، أنها لا تظهر بالفعل كشخصيات إلهية ذات كيان محدد ووظيفة دائمة، بل ككائنات شبحية غير محددة الملامح، تكتسب قوتها من قوة المنصب الذي تشغله؛ ذلك أن الوظيفة الإلهية هي الثابتة، أما شاغلوها فمتحولون ومتنقلون. ففي كل إقليم من الأقاليم الصينية الكثيرة، يجري توزيع الوظائف والاختصاصات (تصريف الرياح أو إنزال المطر أو قدح البرق ... إلخ) بين الآلهة الصينية نفسها بشكل مختلف عن الآخر تماما، وقد يتم ترفيع إله إلى مقام أعلى أو تخفيض مرتبته أو حتى صرفه من الخدمة نهائيا.
9
أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية، فهو مفهوم غير شخصي للألوهة يتمثل في قوة السماء التي يدعونها تي-يين
T’ien ، والتي عبدت في الصين منذ القدم. ويرى كونفوشيوس، وهو أكثر العقول تأثيرا في الصين القديمة، أن إرادة السماء إنما تعمل من خلال عناية متضمنة في صلب نظام الطبيعة، ويقابل هذا النظام الطبيعي عنده نظام آخر يسود على المستوى الإنساني المجتمعي هو القانون الأخلاقي. من هنا فإن انسجام الفرد مع إرادة السماء الفاعلة في الطبيعة لن يتحقق إلا بمراعاة النظام الأخلاقي، الذي يشكل انتهاكه خطيئة بحق السماء.
10
وكان الاسم الذي يطلق على ألوهة السماء هذه في عهد أسرة شانغ (1100-1500ق.م.) هو شانغ-تي، الذي يعني الحاكم الأعلى. والتسمية هنا مجازية؛ لأن هذه الألوهة السماوية لم تكن تتمتع بكيان شخصي محدد، وإنما جرى تصورها كقوة تشغل الجهة العليا من قبة السماء، وهي أبعد ما تكون عن التصور الغربي للإله الأعلى المسير للكون؛ لأنها غير مشخصة، ولا تتصل بالناس عن طريق رسل يشرحون إرادتها، ويوصلون إليهم شرائعها المعروفة في الكتب المقدسة. فإذا أرادوا معرفة مشيئتها الغائبة، فإن عليهم أن يلجئوا هم إلى التواصل معها عن طريق الاستخارة والتنجيم، وما إليها من تقنيات التنبؤ والرجم بالغيب. ومنذ حكم أسرة تشوس، بعد عام 1100ق.م. أطلق على هذه الألوهة الكونية اسم
T’ien ، والتي تعني في الأصل مسكن الروح الكبرى، ثم استخدمت للإشارة إلى القوة العظمى التي تعتلي هرم القوى الجزئية، والتي بقيت مدار المعتقد الصيني حتى القرن الثاني عشر الميلادي.
11
وعندما تتجرد قوة السماء تماما حتى من القبة الزرقاء التي اعتبرت أحيانا مظهرها المرئي، فإن مفهوم ال «تي-يين» يلتقي مع مفهوم آخر للقوة الإلهية المجردة، هو مفهوم التاو
Tao ، الذي لعب الدور الأهم في الفكر الديني والفلسفي الصيني منذ البدايات المبكرة المعروفة لتاريخ الصين. ونستطيع متابعة التعبيرات الأولى عن هذا المفهوم وتطوراتها اللاحقة من خلال أشهر كتب الحكمة الصينية المعروف بكتاب التغييرات
The Book of Changes ، وبالصينية
I. Ching ، الذي ساهم عدد من العقول المتميزة عبر تاريخ الصين بالتعليق والشرح على متنه، ومنهم كونفوشيوس.
ترجع الأشكال الأولى لكتاب التغيرات إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، على ما ترويه المدونات الصينية، ولكن الأبحاث الجديد ترجح أن الكتاب في شكله المتداول أيام كونفوشيوس، أي في القرن السادس قبل الميلاد، لا يرجع إلى ما وراء الألف الأول قبل الميلاد. يعتبر التغيرات، بحق، واحدا من أشهر الكتب في تاريخ الثقافة الإنسانية، وقد شغل صفوة العقول الصينية قرونا عديدة، وكان وراء أهم المنجزات في التاريخ الطويل للثقافة الصينية. وبشكل خاص، فإن فرعي الحكمة الصينية، وهما التاوية والكونفوشية، إنما يمتحان من هذا النبع وتلتقي مناهلهما البعيدة عنده، إضافة إلى تأثيره الواسع على الحياة اليومية لعامة الناس في الصين. وإلى وقت ليس بالبعيد، كان زائر المدن الصينية الكبرى يلتقي عند زوايا بعض الشوارع الرئيسية بقارئ حظ يجلس خلف طاولة، مستعد لاستخارة كتاب التغيرات من أجله، كما كان بإمكانه أن يقرأ جملا من الكتاب منقوشة على تلك اللافتات الخشبية التي يضعها الصينيون على أبواب منازلهم زينة. ومن اليابان الحديثة لدينا أكثر من شاهد على لجوء رجال سياسة بارزين لاستخارة كتاب التغيرات في المواقف العصيبة. فما هو الكتاب؟ وما هي المبادئ الأساسية التي يقوم عليها؟
12
للوهلة الأولى، يبدو «التغيرات» مجموعة من الرموز التي يضم كل منها عددا من الخطوط المتوضع بعضها فوق بعض على التوازي وفق هذا الشكل
وتنويعاته المختلفة، تستخدم في العرافة وقراءة الطالع. ففي أبسط أشكالها القديمة، تقتصر العرافة على إعطاء جواب بالنفي أو الإيجاب على مسألة ما، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه الكتاب من حيث الشكل؛ فالجواب «نعم» يشار إليه بخط متصل، والجواب «لا» يشار إليه بخط متقطع. ثم إن الحاجة دعت، على ما يبدو، إلى إجابات أكثر تفصيلا، فتم جمع الخطوط المتصلة والمتقطعة في أزواج، ونتج عن ذلك أربعة أشكال رمزية، هي كل الأشكال المحتملة لاجتماع خطين متقطعين أو متصلين أو مختلفين.
وإلى كل زوج من هذه، تم إضافة خط ثالث؛ الأمر الذي أنتج المجموعات الأساسية، وعددها ثمانية، وهي كل الأشكال المحتملة لاجتماع خطوط ثلاثة:
المجموعة
اسمها
خصيصتها
صورتها
علاقتها العائلية
المبدع
القوة
السماء
الأب
المتلقي
الانقياد
الأرض
الأم
الموقظ
الحركة المحرضة
الرعد
الابن الأول
العميق
الخطر
الماء
الابن الثاني
المستقر
الثبات
الجبل
الابن الثالث
الرقيق
النفاذ
الهواء
الابنة الأولى
الممسك
وهب النور
النار
الابنة الثانية
البهيج
البهجة
البحيرة
الابنة الثالثة
من منظور «التغيرات»، فإن هذه المجموعات الثلاثية هي صورة لكل ما يجري في السماء وعلى الأرض، وهي رموز لأحوال دائمة التبدل، يصير واحدها إلى الآخر بالطريقة التي تصير الظاهرة إلى الأخرى في العالم الطبيعي. وهنا نضع اليد على المفهوم الأساسي لكتاب التغيرات؛ فالأشياء ليست في حالة وجود وإنما في حالة صيرورة، والذهن ينبغي أن يركز على تحول الأمور وحركيتها، وما هذه المجموعات الثلاثية في «التغيرات» إلا تمثيلات للأشياء في نزوعها الحركي لا في ثباتها. أما عن العائلة التي تكونها هذه الرموز، فيجب ألا ينظر إليها بالمعنى الحرفي بل بالمعنى المجرد؛ لأن كل واحد منها يمثل قوة ووظيفة، لا شخصية إلهية محددة.
ثم التقت هذه المجموعات الثلاثية، كل اثنتين في واحدة تضم ستة خطوط، ونجم عن كل الاحتمالات الممكنة لاجتماعها بهذه الطريقة أربعة وستون رمزا، يحتوي كل منها على خطوط سالبة متقطعة وخطوط متصلة موجبة، وكل خط من هذه الخطوط قابل للتغير؛ فإذا انقلب خط واحد سالب إلى آخر موجب، وقع التغير في الحالة التي تمثلها المجموعة السداسية.
ويمكن للخبير بهذه الرموز أن يستخدم عددا من عيدان نبتة الألفية، فيبعثرها على الأرض لتعطيه تشكيلا للعيدان يقابل رمزا من الرموز الأربعة والستين، وهذا الرمز يقابل بدوره حالة الشخص الذي يستخير «التغيرات». غير أن هذا النوع من التنبؤ الذي يقدمه الكتاب، يتعدى وصف الحالة إلى وصف الفعل الذي يجب أن يترافق مع معرفة الحالة، قبل أن تستفحل وتغدو قضاء لا يمكن رده؛ ذلك أن نبوءة «التغيرات» هي نبوءة إيجابية لا نبوءة سلبية، وقيام المستخير بالسؤال عما يستطيع القيام به لمواجهة الأوضاع المرتقبة، يجعل من التغيرات كتابا في الحكمة لا كتابا في العرافة.
تقوم حكمة «التغيرات» على عدد بسيط من المفاهيم الأساسية؛ فبالدرجة الأولى لدينا فكرة عن التغير تشكل الأرضية العامة لفلسفة الكتاب، فكل شيء يجري ويجري دون توقف كماء النهر، على حد قول كونفوشيوس، إلا أن التغير ينبغي أن يتم فوق أرضية ثابتة غير متغيرة، وإلا لما كان هناك نظام كوني، ولانحل كل شيء في النهاية إلى فوضى مطلقة. هذه الأرضية الثابتة هي التاو
Tao ، الوحدة الجوهرية الكامنة وراء الكثرة المتبدية، والواحد الذي يعطي للمتعدد الأساس والمعنى ، إنه البداية العظمى لكل الموجودات. فمن أدرك التغير ومعانيه، صرف النظر عن الأعراض الزائلة في الأشكال المتنوعة، وثبت قلبه على المبدأ غير المتغير.
يرمز للتاو في الفكر الصيني بدائرة فارغة، هي المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات، وأيضا بدائرة يتناوب فيها الأبيض والأسود، أو اليانغ والين، هي المبدأ الأول بعد ظهور الموجودات التي نجمت عن دوران القوتين؛ القوة الموجبة يانغ، والقوة السالبة ين.
إن الخط داخل دائرة التاو يعبر عن ظهور الأقطاب والمتعارضات إلى حيز الوجود؛ فالخط قد أحدث شرخا في الفراغ المتماثل، فقسمه إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين ويسار، وإلى أمام وخلف، وانحلت الوحدة السابعة إلى مظاهر ذات قوى متعارضة ومتجاذبة في الوقت نفسه. إن كل ما في الكون هو مزيج من طاقة موجبة وأخرى سالبة؛ فإذا غلب اليانغ كان الشيء ذا طبيعة موجبة، وإذا غلب الين كان ذا طبيعة سالبة؛ لهذا صور القسم الظليل في دائرة التاو وفيه نقطة منيرة، وصور القسم المنير وفيه نقطة ظليلة؛ لأن اليانغ لا يتجلى في حالته الصرفة، ولا الين كذلك؛ ففي كل إيجاب شيء من السلب وفي كل سلب شيء من الإيجاب. كما اتخذ القسمان الظليل والمنير وضعا حركيا دورانيا يدل على التناوب الأبدي بينهما.
ونجد في «التغيرات» مفهوما ميتافيزيقيا أساسيا يدور حول الأفكار. فالمجموعات الثلاثية الثمانية ليست صورا وتمثيلات لموضوعات بل صور لأحوال متغيرة، وكل حادث في الكون المرئي يتم بتأثير صورة (أو فكرة) في المستوى غير المرئي. وعليه فإن كل ما يحدث على الأرض هو نسخة لاحقة زمنيا عن أمر يحدث في مستوى يقع وراء إدراكنا الحسي. والحكيم الذي يكون على اتصال مع المستوى الأعلى يتاح له الاطلاع على الأفكار من خلال حدسه المباشر؛ وبالتالي يكون في وضع يسمح له بالتدخل في الأحداث الجارية في العالم. وبهذه الطريقة، فإن الإنسان يرتبط بالسماء التي تؤلف عالم الأفكار فوق الحسي، وبالأرض التي تؤلف عالم المادة الحسي، ويؤلف معهما مثلث قوة أساسيا. إن نظرية الأفكار المتضمنة في «التغيرات» تطبق في اتجاهين؛ فالكتاب ينبئ عن صور الأحداث وأيضا عن تحققها التدريجي في الزمن؛ ولهذا فإن الاستعانة به في استبصار بذور الأمور المقبلة، تنير لنا المستقبل وتجعلنا نفهم الماضي؛ وبهذا نتكيف مع مجرى الطبيعة.
لقد عرف كونفوشيوس كتاب التغيرات وكرس قسما كبيرا من وقته لدراسته والتعليق عليه، خصوصا في سنوات شيخوخته، وهناك قسم مهم من ملاحق الكتاب التي تحتوي شروحا وتعليقات أساسية تعزى إليه وإلى بعض تلامذته. كما أن «التغيرات» كان المصدر الرئيسي لإلهام الحكيم لاو تسو، مؤسس التاوية ومعاصر كونفوشيوس، وواضع كتاب تاو-تي-تشينغ، وهو الصرح الثاني في الفكر الصيني بعد «التغيرات».
الفصل الثاني
لاو تسو والتاوية
على الأرضية الراسخة التي فرشتها المعتقدات الصينية التقليدية، التي تؤمن بمبدأ لا شخصي يتصل بعالم الظواهر بواسطة قوته ذات الوجهين، السالب والموجب، يبني لاو تسو
Lau Tzu
مذهبه المتميز الذي يدور حول مفهوم التاو القديم.
يلف الضباب شخصية لاو تسو الغامضة، التي لم يستطع قدامى مؤرخي الصين رسم سيرة حياة واضحة لها، وكل ما استطاعوا نقله إلينا بثقة هو أن هذا الحكيم قد عاش حياة مديدة جدا فيما بين أواسط القرن السادس وأواسط القرن الخامس قبل الميلاد، وأنه عاصر كونفوشيوس الأصغر منه سنا، ووضع تعاليمه في الكتاب الشهير المعروف بعنوان
Tao Te Ching ؛ أي رسالة في التاو وقوته، وهو الكتاب الذي بنيت عليه الفلسفة التاوية والديانة التاوية؛ فالتاوية هي اصطلاح عام يدل من جهة على النظام الفكري الذي يجعل من التاو مركزا لكل مجالات الفكر والحياة، وقد قام لاو تسو بالصياغة المنهجية لهذا النظام الفكري وأعطاه الكثير من ذائقته وشخصيته الفكرية المتميزة. ومن جهة أخرى، فإن المصطلح يدل على الديانة التاوية التي بدأت بالتشكل منذ القرن الثالث الميلادي بتأثير تعاليم لاو تسو، والتي تقاسمت مع الكونفوشية ولاء الصينيين مدة ألف عام تقريبا، قبل أن تطغى البوذية على الاثنتين معا، علما بأن التاوية قد صمدت أمام البوذية حتى وقت متأخر من العصور الحديثة من خلال بعض الفرق الباطنية.
عند لاو تسو، يحل مفهوم التاو تماما محل مفهوم قوة السماء تي يين. وكلمة تاو تعني في الأصل الطريق، وقد استخدمت في المؤلفات السابقة على لاو تسو مقترنة بالسماء، فقيل طريق السماء بمعنى الطريقة التي تفعل بها قوة السماء. أما هنا، فيقتصر مفهوم التاو على الإشارة إلى المبدأ الكلي المجرد، الذي حل محل مفهوم السماء في جميع مناحي فعلها كقوة إلهية كونية . ولاو تسو، عندما يحاول في مطلع كتابه تقديمنا إلى مفهوم التاو، ينبهنا ابتداء إلى أن الكلمات لا يمكنها الإحاطة بالتاو، واللغة مقصرة عن الإشارة إليه، فهو بلا اسم لأن في التسمية تحديدا وتشخيصا من نوع ما، وهو بلا صفات ولا خصائص لأن هذه تلحق النسبي ولا تطال المطلق الأبدي. نقرأ في الفقرة الأولى من الفصل الأول في الكتاب:
1
التاو الذي يمكن التحدث عنه
ليس التاو السرمدي،
والاسم الذي يمكن إطلاقه
ليس الاسم السرمدي.
اللامسمى هو مبتدأ السماء والأرض،
المسمى هو أم الآلاف المؤلفة (= مظاهر الطبيعة).
وما يتميز به التاو كمستوى قدسي خفي غير مشخص عن الآلهة المشخصة، هو أن آثاره لا تظهر من خلال ممارسة سلطة مباشرة، بل من خلال تلقائية طبيعية لا قسر فيها ولا إكراه:
تصدر الكائنات عنه ولا يدعي سلطانا،
يعطيهم الحياة ولا يدعي امتلاكا،
يعينهم ولا يقتضي عرفانا،
يكمل عمله ولا يدعي فضلا (2: 7).
إن الفارق الجوهري بين التاو والمفهوم الغربي أو الشرق أوسطي عن الإله الخالق، هو أن الإله يبدع الكون ويصنعه وفق إرادة وخطة مسبقة، أما التاو فيبدعه تلقائيا دونما تدبير وتخطيط، والكون يصدر عنه كما تنشأ النبتة من الأرض. من هنا فإن الفكر التاوي بشكل خاص، والصيني بشكل عام، لا يتساءل عن كيفية خلق العالم؛ لأن هذا العالم قد نما وفق خطة غير مستقلة عن صميم عملية النمو ذاتها، والمبدع كامن في صميم عملية الإبداع، التي تبدأ من الداخل متجهة نحو الخارج وليس العكس:
ليس من شيمته الفعل،
ولكنه لا يترك أمرا بحاجة إلى إتمام (37: 81).
والتاو لا يفرض قانونه على الوجود من خارجه؛ لأن قانونه هو عين حركة الأشياء وعلاقاتها المتبادلة مع بعض، من هنا فإن الإنسان لا يستطيع أن يتماشى مع إرادة التاو أو أن يرفض هذه الإرادة، لا يستطيع أن يقبل قانونه أو يعصيه؛ لأنه أيضا جزء من هذه الحركة التلقائية للكون؛ لهذا يقول شوانغ تزو تلميذ لاو تسو: «إن التاو الذي تستطيع عنه محيدا ليس التاو الحق.»
2
ويوضح الحكيم
Nan Chuan
هذه النقطة في حوار له مع الحاكم
Chao Chou
الذي يسأل: - ما هو التاو؟
إنه إدراكك ووعيك العادي. - كيف يستطيع الإنسان أن يفيء إليه؟
عندما تقصد أن تفيء إليه فإنك تفقده. - ولكن كيف نستطيع أن نعرفه دونما قصد؟
لا ينتمي التاو إلى مجال المعرفة، ولا إلى عدم المعرفة؛ فالمعرفة فهم زائف، وعدم المعرفة جهل أعمى. هل تريد أن تفهم التاو حق الفهم؟ إذن انظر إلى السماء الفارغة.
من هنا، فإن الإنسان قادر على معرفة التاو في أعماق نفسه لأنه جزء منه، ولا حاجة به إلى البحث عنه في أي كائن آخر. يقول لاو تسو:
من غير أن تسافر بعيدا
تستطيع أن تعرف العالم كله.
من غير أن تنظر من النافذة
تستطيع أن ترى طريق السماء.
كلما ابتعدت أكثر
كلما قلت معرفتك.
لذا، فإن الحكيم يعرف دونما حاجة إلى حركة،
يميز دونما حاجة إلى نظر،
ينجز دونما حاجة إلى فعل (47: 106-107).
فالحكيم ينجز دون فعل ظاهر للعيان، ويكتسب المعرفة من دون إعمال للفكر؛ لأن المعرفة الكلية لا يمكن تحصيلها عن طريق جمع المعلومات وتبويبها ودراستها، وإنما بترك العقل يعمل تلقائيا كما يعمل التاو. وهذا ما تدعوه الأدبيات التاوية باللافكر أو اللافعل. وهذه العبارة لا تعني نفي الفكر بقدر ما تعني استخدامه بكليته، وذلك كما نفعل بالعينين عندما ننظر في الفراغ دون تركيز على بؤرة معينة:
في طلب العلم، تعرف في كل يوم أكثر.
وفي طلب التاو تبذل في كل يوم أقل،
تبذل أقل فأقل، حتى تصل حالة اللافعل.
وعندما تصل حالة اللافعل،
لا تجد أمرا بحاجة إلى إتمام (48: 108).
والتاو لا يمكن وصفه بصيغ الإثبات، بل بصيغ النفي؛ فنحن لا نستطيع أن نقول ما هو، بل ما الذي ليس هو . وتتدرج صيغ النفي عند لاو تسو وصولا إلى الخواء والفراغ:
هناك شيء بلا شكل،
موجود قبل السماء والأرض،
صامت وفارغ،
قائم بنفسه لا يحول،
شأنه الدوران بلا كلل،
مؤهل لأمومة هذا العالم.
لا أعرف اسمه فأدعوه التاو،
لا أستطيع وصفه فأقول العظيم.
عظمته امتداد في المكان.
الامتداد في المكان يعني الامتداد بلا نهاية.
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدأ (25: 56-58).
وأيضا:
التاو فارغ، ولا ينضبه النضح (4: 11).
ونحن هنا أمام فراغ التاو أقرب ما نكون إلى مفهوم الصفر الرياضي؛ فالصفر هو لا شيء، ومع ذلك فبدون الصفر لا يوجد الواحد؛ لأن الواحد ينشأ من لا شيء قبله، وهو أساس بقية الأعداد التي تنشأ بتكرار الواحد، أما الصفر فلا ينشأ إلا من نفسه؛ إذ لا شيء يمكن أن يسبقه، وكذلك هو الفراغ بالمعنى التاوي، إنه اللاشيء الذي تحتاجه كل الأشياء لتكون ذات قوام وهيئة وفائدة. فمحاور العجلة لا تدور إلا بفضل الثقب الفارغ عند المحور، والإناء لا يستوعب السائل إذا لم يكن به تجويف فارغ، والغرفة لا تفسح مكانا للعيش إن لم تفصل بين جدرانها فسحة فارغة.
يقول المعلم:
اجمع أقطار العجلة إلى محور واحد،
وانظر كيف يعطيك اللاشيء حركة.
اعجن الطين إناء،
وانظر كيف يعطيك اللاشيء استعمالا.
اصنع أبوابا ونوافذ وارفع غرفة،
وانظر كيف يعطيك اللاشيء سكنا.
ما نحصل عليه هنا: شيء.
ولكن بفضل اللاشيء، يكتسب الشيء وظيفته (11: 27).
ويبدو أن صدور الأشياء عن التاو الفارغ لا يتم على درجة واحدة، بل على درجتين؛ فالمجهول بلا اسم ينتج معلوما، وهذا المعلوم ينتج الآلاف المؤلفة من مظاهر الطبيعة:
الآلاف المؤلفة من أشياء هذا العالم
قد ولدت من شيء،
والشيء قد ولد من لا شيء.
هذا الشيء الذي ولد من لا شيء هو التاو في حالة الحركة، حركة اليانغ والين، ونجده تحت اسم الواحد منتجا للكون:
التاو أنجب الواحد، والواحد أنجب الاثنين،
والاثنان أنجبا الثلاثة، والثلاثة أنجبوا الآلاف المؤلفة.
الآلاف المؤلفة تحمل على ظهرها الين وتعانق اليانغ،
إنها امتزاج هاتين القوتين (42: 93-94).
وأيضا:
منذ القدم، كل هذه الأشياء في حوزة الواحد،
بفضل الواحد شفافية تلك السماء،
وبفضل الواحد رسو هذي الأرض،
بفضل الواحد الآلاف المؤلفة حية (39: 85).
والتاو يسلك سبيل السهولة، إنه التلقائية عينها؛ ولذلك لا نشعر بأثره وفعله. وعلى الحكيم أن يتشبه بالتاو فيسلك سبيل السهولة نفسها، وعلى الحاكم الذي يدرك سطوة الضعف ألا يجعل الناس يشعرون بحكمه:
يفرض النهر نفسه ملكا على مئات الجداول
لأنه أوطأ منها منسوبا؛
فمن شاء أن يحكم الناس،
فعليه أن يتضع أمامهم؛
فالحكيم إذا حكم لم يشعر بثقله أحد،
وإذا سار في المقدمة لم يعرقل الركب (66: 159-162). (والإنسان لا يكسب بإظهار القوة، بل بخفض الجناح):
المقاتل الصنديد لا يبدو مرعبا،
والمجلي في المعارك لا يستشيط غضبا،
وقاهر أعدائه ليس منتقما،
وهذا ما يدعى بفضيلة اللاجهد (68: 166). (فالصلابة لكل فاقد حياة، أما الليونة فخصيصة الحياة الرئيسية):
الجسد الحي رقيق ولين،
وكذلك العشب والشجر الغض.
الجسد الميت صلب وقاس،
وكذلك العشب الجاف والشجر اليابس؛
لأن القسوة والصلابة من علائم الموت،
واللين والرقة من علائم الحياة.
من هنا فسلاح القوة لا ينفع،
والشجرة التي لا تنحني تنكسر بسهولة.
الضخم والقوي يقع تحت الرقيق واللين (76: 182-183).
وأيضا:
لا يوجد أكثر من الماء ليونة ورقة،
ولكنه الأقدر على تفتيت الصلب.
كلنا نعرف أن الضعيف يفوق القوي،
واللين يقوى على الصلب،
ولكننا لا نضع هذه المعرفة موضع التطبيق (79: 190-192).
وفي النهاية، يبقى شعار لاو تسو أن الصمت أبلغ من الكلام؛ فأمام الحقائق الكبرى لا ينفع إلا أن تسلك سبيل المعرفة وحدك وبدون كلمات:
الذين يعرفون لا يتكلمون،
والذين لا يعرفون هم المتكلمون (56: 128).
هذه المعرفة التي لا تتأتى بكلمات، ولا يستطيع صاحبها أن يوصلها بكلمات أيضا، هي ما يجعل الفكر الشرق أقصوي لغزا محيرا بالنسبة إلينا؛ فالفكر الشرق أوسطي، ووريثه الفكر اليوناني والغربي عموما، يرى في المعرفة عملية خطية تنتقل خطوة خطوة من أجزاء الموضوع إلى كليته، بحيث لا يمكن فهم الكل إلا من خلال فهم تفصيلي لمكوناته واحدا إثر آخر، في الوقت الذي يحدث فيه الكون دفعة واحدة . هذا الفهم الخطي التفصيلي نحصله لأنفسنا بواسطة الكلمات، وننقله أيضا بكلمات أو بوسائل اصطلاحية أخرى، مثل رموز الرياضيات والمعادلات الكيميائية وما إليها. وفي مقابل هذا الموقف التجزيئي من المعرفة وطريقة تحصيلها، هناك الموقف الآخر الذي تتخذه حكمة الشرق الأقصى، والذي يرى في المعرفة معرفة بالكليات دون المرور في تفاصيلها، من خلال نظرة شمولية تخترق الحقيقة مباشرة ومن غير تجزئتها. وهنا يستخدم التاوي عقله بكليته وبيسر وسهولة لا قسر فيها لكي يتناغم مع الوجود؛ لأنه كما أن البحر المحيط لا يمكن كيله بكأس، كذلك الحقيقة لا يمكن الإحاطة بها بإعمال الفكر في جزئياتها.
وقد طورت فيما بعد بوذية الزن
Zen (وهي طريقة انتشرت في الصين ثم في اليابان، تجمع بين التاوية والبوذية) هذا الموقف من المعرفة إلى حده الأقصى، عندما أكدت على أن الاستنارة الكاملة تأتي دفعة واحدة وبشكل مفاجئ، وذلك عندما يصل العقل إلى أقصى مدى له في الاسترخاء والإحجام عن الفعل. وهذه الحالة العقلية هي ما يحاول معلم الزن إيصال تلامذته إليها؛ فهو لا يلقنهم معلومات ولا يدربهم على مجاهدات، وإنما يأخذ بيدهم نحو الوصول إلى تلك الحالة التي يستطيعون معها اختراق الحقيقة بأنفسهم. وهو إذ يكرر على مسامعهم الوصية المعروفة جدا في تعاليم الزن والتي تقول «اغسل فمك كلما ذكرت البوذا»، إنما يدفعهم إلى إزاحة كل ما من شأنه التوسط بينهم وبين الطريق الشخصي إلى الحقيقة، بما في ذلك تعاليم البوذا.
تضعنا التاوية أمام عدد من التصورات والمفاهيم الفلسفية والدينية، سوف نواجهها بشكل أو آخر عند بقية الأديان الشرق أقصوية؛ فعوضا عن الإله الخالق المشخص هناك المجال القدسي وقوته؛ أي
Tao/Te ، وهذا المجال القدسي لا يتدخل بصورة مباشرة فيما يجري في عالم الإنسان والطبيعة، أكثر مما تتدخل الجملة العصبية في تسيير وظائف الجسد الحي. ويستتبع ذلك بالطبع أن الدين ليس نتاج مبادرة إلهية، واتصال إرادي يجريه المجال القدسي مع عالم الإنسان، بل هو نتاج مبادرة إنسانية تتجه نحو معرفة المجال القدسي، وإحلال التوافق بين الحياة الإنسانية والقوانين الضمنية للكون؛ ذلك أن الإنسان هو أكثر الكائنات عرضة للانحراف عن التناغم الكوني؛ لأنه أكثرها حرية. وهذه المعرفة لا تتحصل بشحذ الملكات الذهنية، بل بإطلاق الملكات الحدسية والتأمل الباطني. أما التوافق والانسجام مع القوانين الضمنية للكون، فيأتي باتباع القانون الأخلاقي الذي هو صورة وانعكاس للقانون الكوني، وهو قانون غير مفروض من الخارج بقدر ما هو التزام داخلي. كل هذا ينبغي أن يقود في النهاية إلى الاستنارة التي تقود إلى الخلاص، وهذا الخلاص لا يأتي نتيجة فضل ومنة علوية، بل نتيجة كدح روحي لا تلعب الطقوس والعبادات فيه الدور الرئيسي. إن ما يبدو شبيها بالطقوس والعبادات في هذه الأديان، ليس أكثر من إجراءات تطهيرية تهدف إلى تحضير النفس لحالة الاستنارة. •••
إن هذا التاريخ الطويل للديانات الصينية القائمة على مفهوم لا شخصي للألوهة، والتي تمتلئ في الوقت نفسه بحشد من الآلهة التي ترجع في أصلها إلى الأسلاف الأسطوريين، هو الذي قدم لانتشار البوذية القادمة من الهند، منذ القرون الأولى للميلاد. ففي تعاليم البوذا لا يوجد مكان للآلهة رغم أنه لم ينف وجودها، والطقوس البوذية لا تعنى بتقريب القرابين والصلاة إلى إله أعلى من أي نوع؛ لأن جهد الإنسان يجب أن ينصب على تحصيل خلاصه بنفسه وبقواه الشخصية، دون معونة كائن طبيعاني أو فوق طبيعاني.
ولكننا قبل أن نلتفت إلى البوذية، سوف نتوقف عند الهندوسية دين الهند؛ لأنها الأصل الذي تفرعت عنه تعاليم البوذا.
الفصل الثالث
الهندوسية والبحث عن الوحدة في الوجود
تطالع الهندوسية دارسها، أول وهلة، بمزيج من المعتقدات التي لا يربطها رابط ولا تجمعها جامعة. كما يبدو العدد الهائل من آلهتها التي تملأ أرض الهند وسماءها عصيا على الانتظام في سلك واحد يضمها إلى بعض. ولعل السبب كامن في ذلك التاريخ الطويل من التطور البطيء الذي تجره وراءها هذه الديانة التي تعود في أصولها إلى ما وراء الألف الثاني قبل الميلاد. ولكن هذه المعتقدات ما تلبث أن تنتظم تحت عدد من الأفكار والمفاهيم الدينية، وعدد أقل من التصورات الماورائية. أما حشد الآلهة الهندوسية فما يلبث طويلا حتى تظهر حقيقته النسبية، وتبدو الشخصيات الإلهية بلا قوام أو جوهر حقيقي، سافرة عن وجهها ككائنات تشارك البشر بؤس الحياة والموت في عالم السمسارا، عالم تناسخ الأرواح، والدورة الكونية الأزلية.
تبدي الهندوسية تحررا واضحا من أية دوغمائية تتعلق بطبيعة الإله، وجوهر الدين لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود الإله أم عدمه، أو على تعدد الآلهة أم التقائها في واحد. فمن الممكن للهندوسي أن يكون ملتزما بدينه سواء آمن بإله واحد أم بآلهة متعددة أم لم يؤمن بالآلهة طرا؛ لأن هذه المسألة لم تشكل أبدا حجر الزاوية للديانة الهندوسية.
1
ولكن الطوائف الهندية تشترك في عدد أساسي من الأفكار والمعتقدات التي لا يصح دين الهندوسي بغيرها، والتي ترقى إلى مقام اليقين المطلق. أول هذه المعتقدات ورأسها هو الإيمان بتناسخ الأرواح، يتبعه اعتقاد آخر مرتبط به أشد الارتباط هو معتقد الكارما؛ ذلك أن الحالة الجديدة التي تصير إليها الروح بعد موت الجسد تتوقف على طبيعة أفعالها في الحيوات السابقة، التي تتالت عبر ماض لا تعرف له بداية، وتتالى عبر مستقبل لا تنظر له نهاية. والكارما تعني في الأصل الفعل، ومن هنا يأتي مضمونها الفلسفي الديني؛ ذلك أن حياة الإنسان هي سلسلة من الأفعال التي تؤدي إلى نتائج، هذه النتائج بدورها سوف تؤدي إلى أفعال أخرى في سلسلة سببية متتابعة.
وينص قانون الكارما على أن تصرفات الفرد وأفكاره وكلماته، سيكون لها تبعات أخلاقية تحدد مستقبل حياته بعد الممات، كما يتحدد مسار حياته الحالية بما تم من أفعال في الحياة السابقة، وهكذا إلى أجل غير معلوم، في دورة سببية أزلية تدعى بالسنسكريتية سمسارا، وهي دورة لا بداية لها ولا نهاية، تتجاوز عالم الإنسان لتطال عالم الظواهر المادية بأكملها؛ كل شيء واقع في إسار الزمن وفي إسار الرغبة؛ الرغبة في الاستمرار والرغبة في إتيان الفعل (كارما). والزمن نفسه عبارة عن عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت الدورة منتهاها عادت إلى نقطة البداية، دون أن تنشد غاية أو تسعى إلى هدف. ومع ذلك فإن الانعتاق (= موكشا) من هذه الدورة ممكن التحقيق، وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي، والنهاية التي يطمح إليها من كدحه الروحي. إلا أن الطوائف الهندوسية تختلف في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي الحالة التي تصير إليها الروح المتحررة بعد انعتاقها.
من هنا، يدعو الهنود دينهم بالدهارما الخالدة؛ أي سنة الكون الأبدية. وهذه السنة تعني، من جهة، القانون الأخلاقي الذي نصت عليه الشرائع في الأسفار المقدسة، ومن جهة أخرى القانون الأبدي الثابت الذي يحكم الكون برمته. وبهذا المعنى الثاني تتطابق سنة الكون مع ما نفهمه اليوم من مصطلح القانون الطبيعي، الذي تجعل منه العلوم حقلا لدراستها، ولكن مع فارق هام، وهو أن هذا القانون الطبيعي لا يقوم بذاته في الفكر الهندوسي، وإنما يستند إلى مستوى أعمق للوجود، هو الأرضية غير المتغيرة لكل عرض متغير، ويدعى براهمن؛ القاع الكلي غير المشخص للوجود، الذي صدر عنه كل ما عداه من الناس والآلهة ومظاهر المادة. وفي حال الكائنات الحية من بشر وآلهة، ومن كل ما يدب ويزحف على الأرض أو يطير في الهواء، فإن لها نفسا تدعى أتمان، هي تلك النفوس الفردية الموزعة بين الخلائق، وفي الوقت ذاته هي النفس الكلية المنبثقة عن براهمن. فالنفوس رغم تباينها الظاهري هي في حقيقة الأمر نفس واحدة، وإلى هذه النفس الواحدة ترجع النفوس المتحررة المنعتقة لتذوب فيها؛ وبهذا يتحصل لدينا ستة مفاهيم أساسية في المعتقدات الهندوسية: (1)
سمسارا: الدورة السببية الكبرى والعالم الذي تتناسخ فيه أرواح الكائنات الحية وأرواح الآلهة. (2)
كارما: الفعل وتبعاته الأخلاقية. (3)
دهارما: السنة الكونية. (4)
موكشا: الانعتاق من الدورة السببية. (5)
براهمن: اللامتغير الأبدي والقاع الكلي للوجود. (6)
أتمان: النفس المتجزئة، والنفس الكلية أيضا.
بين هذه المفاهيم جميعا، لا نجد واحدا منها يتطابق مع مفهوم الإله الأعلى الخالق للكون والمفارق له. إلا أن هذا المفهوم في حال وجوده، ليس إلا وهما من أوهام عالم الظواهر الذي تعيشه الروح في إسار دورة التناسخ. وهذا ما يقودنا إلى المفهوم الأساسي السابع، وهو المايا، الذي يفهم منه عادة ما يؤدي معنى الوهم أو الظواهر الخادعة.
2
تقوم فكرة المايا أساسا من أجل الربط بين الواحد غير المتجزئ والكثرة التي تصدر عنه؛ لأن الواحد لا يمكن أن يكون سبب الكثرة؛ ولذا فإن هذه الكثرة من موضوعات الطبيعة لا بد أن تكون وهما يمت إلى عالم الظواهر والخداع. وما دامت الروح تعيش في دورة السببية، فإنها واقعة في إسار المايا، تعاين الكثرة والتنوع؛ كثرة الموضوعات الطبيعية وتنوع النفوس البشرية. ولكنها عندما تفلح في الانعتاق، فإن الوهم الكبير ينجلي، ويبدو لها الكون متوحدا في المطلق العظيم، فتنمحي الحدود بين الظواهر وتذوب الفروق بين الأرواح التي كانت تعيش وهم التفرد والاستقلال. أما الإله المشخص الذي عرفته النفوس خلال دهور دوراتها في السمسارا، فيبدو لها بعد الانعتاق على حقيقته؛ براهمن الأزلي الحق، بعد أن كان براهمن + مايا، مثلما كانت النفس البشرية نفسا + مايا، ويتحقق التطابق في الهوية بين النفس أتمان والمطلق براهمن.
إن من يحقق للنفس هذا النوع من الانعتاق النهائي، هو كدحها في سبيل معرفة الحق، وانكشاف البصيرة الداخلية على حقيقة أن هذا العالم المتكثر هو واحد في جوهره، وإن كل ما في الوجود هو براهمن، وذلك على حد التعبير الإسلامي المعروف: لا موجود إلا الله. وهو قول يردده أهل الظاهر ولا يعلمه حق علمه سوى أهل الباطن. فعندما يعلن الحكيم الهندوسي أنا براهمن، أو يشطح الحلاج صارخا أنا الحق، وأبو يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني، فإن هذه الكلمات تبدو آخر ما تلعثم به اللسان قبل أن يصمت أمام الكشف، وقبل أن تنتشر الاستنارة في كل زاوية من زوايا النفس. هنا تنقشع غشاوة المايا عن البصيرة، ولكن لا لكي يرى العارف أن الوجود بحد ذاته وهم وسراب، وإنما ليرى الحدود وقد انمحت بين الأجزاء، وزالت التقسيمات وذابت الثنائيات.
فالمايا بالأصل اللغوي لها هي التقسيم والتحديد والقياس، وجذرها السنسكريتي هو
Matr ؛ أي يقيس أو يكيل أو يقولب شكلا ما أو يضع مخططا. ومن الجذر ذاته تأتي الكلمات اللاتينية
metre ؛ أي المتر، و
matrix ،
matter ؛ بمعنى المادة.
3
إن عملية القياس هي بحد ذاتها تقسيم ، سواء برسم خطوط محددة أم بكيل كميات متساوية، وعليه فإن قولنا بأن عالم الظواهر والأحداث هو مايا، يعني أن الأحداث والظواهر هي في الحقيقة مفردات للقياس أكثر منها دلائل على الحقيقة، وأنها لا تختلف في جوهرها عن خطوط التحديد أو مكاييل الأطوال والحجوم. هذه الرؤية قد تبدو عصية على فهم من تعود النظر إلى الأحداث والوقائع والأشياء باعتبارها الوحدات التي تؤلف العالم المحيط بنا، غير منتبه إلى الحقيقة البسيطة، وهي أن الكل هو الأصل، وليست الأجزاء إلا من خلق الإدراك التجزيئي الذي لا يدرك ما حوله إلا كقطع مستقلة وكيانات متباعدة. أما من أفلح في قهر سلطان المايا، فيتابع رؤيته للعالم من حوله كما يراه الآخرون، ولكنه يدرك في الوقت نفسه أن الأجزاء التي يراها ويتعامل معها لا تمتلك طبيعة خاصة بها، بل إنها تقوم في علاقة بعضها ببعض وفي علاقتها بالكل الذي يملك وحده الوجود الحق.
لم تكتف الحكمة الهندية بصياغة هذا النوع من المفاهيم المجردة لتوضيح المعتقد الهندوسي، وإنما لجأت أيضا إلى الأسطورة التي توضح بالصورة والحركة ما قد تقصر عنه الصيغ الفلسفية الذهنية. وقد اخترت من أساطير الهند الكبرى التي جمعتها لنا الأسفار المعروفة
أسطورتين سوف أعرض لهما ببعض التفصيل فيما يلي؛ الأولى معروفة بعنوان إندارا وموكب النمل،
4
وبطلها الإله إندارا، الذي كان رئيسا لمجمع الآلهة الفيدية قبل تكون الهندوسية الكلاسيكية، وذوبان الجماعات الآرية الحاكمة في لجة الثقافة الهندية الأقدم والأعرق.
يقوم الإله إندارا بقتل التنين السماوي الذي يحتجز مياه الأعالي في بطنه ويستلقي على قمم الجبال العالية في هيئة سحابة لا شكل لها، فيتمزق أشلاء بعد أن تصيبه صاعقة الإله في بطنه، ويندفق الماء من جوفه ليسيل عبر السهول والوديان، وتعود الطبيعة سيرتها الأولى بعد الجفاف الذي حل بها. وبموت التنين الذي اغتصب سلطة الآلهة، تتراجع آلهة الظلام التي جاءت معه إلى العالم الأسفل، ويعود آلهة العالم العلوي إلى مساكنهم في قمم الجبال، يصرفون أمور الكون من جديد.
كان أول عمل لإندارا بعد انتصاره، هو إعادة بناء مدينة الآلهة التي استحالت يبابا خلال فترة حكم التنين، فأتم ذلك على أحسن وجه بواسطة إله الحرف والفنون الذي استعاد الوجه القديم للمدينة وزاد في تجميلها، فهلل الآلهة لإندارا وأعلنوه ملكا ومخلصا. غير أن إندارا الذي أسكرته نشوة النصر وغلبه الإعجاب بالنفس، طلب من إله الحرف أن يبني له قصرا ملكيا لم يحلم بمثله إله أو شيطان من قبل. فشرع المعماري في عمله وأتمه في عام واحد، وكان لإندارا ما أراد وأكثر؛ قاعات وأبهاء، أسوار وبوابات وأبراج وحدائق وجداول وبحيرات. ولكن ملك الآلهة طلب المزيد؛ مزيدا من الأجنحة ومزيدا من الحدائق والبحيرات ومزيدا من وسائل الرفاهية ومما يبهر الأبصار. وكلما تقدم إله الحرف نحو تحقيق مخططات إندارا، خطرت لكبير الآلهة أفكار جديدة وزادت رؤاه سعة في الخيال وبعدا عن الإمكان، حتى حل اليأس بالمعماري ووصل إلى حالة من الحيرة والإحباط. فمضى إلى الإله الخالق برهما
5
وعرض عليه الأمر ملتمسا عون الآلهة الكبرى، فطمأنه هذا ووعده خيرا. ثم إن براهما صعد إلى الملأ الأعلى حيث الإله الأكبر فيشنو (الذي يلعب في أسفار البورانا دور براهمان)، وعرض عليه ما صار إليه إندارا ومشكلة إله الحرف معه. أصغى فيشنو بصمت وهدوء حتى انتهى برهما من حديثه، ثم هز رأسه بحركة خفيفة دلالة موافقته على التدخل في المسألة.
في اليوم التالي، وقف بباب إندارا صبي برهمي
6
يحمل في يده عصا الحج، وطلب من الحراس السماح له بالمثول أمام ملك الآلهة. خف الملك شخصيا لاستقبال الصبي المقدس عند الباب، واقتاده إلى الداخل حيث حياه الآلهة المجتمعون في بهو الاستقبال، وسكبوا أمامه العسل واللبن وقدموا الثمار، ثم سأله إندارا عن قصده وسبب زيارته. كان الصبي في العاشرة من عمره، نحيلا ذا عينين نفاذتين يشع منهما ألق الحكمة، وعندما تكلم مجيبا عن سؤال الملك، صدر عنه صوت رخيم عميق، أشبه ببشارة صوت بعيد لرعد غيمة ماطرة. قال الصبي: «أي ملك الآلهة، لقد سمعت عن القصر العظيم الذي تعمل على تشييده، فأتيت لأطرح أمامك بعض تساؤلات خطرت في ذهني. فكم من الأعوام يستغرقه إكمال قصرك على ما تحب وتشتهي؟ وكم بقي على المعماري إنجازه من أجلك أيها الإله الكبير؟» قالها الصبي وقد علت محياه ابتسامة ذات مغزى. «لم يكن لأي إندارا من قبلك أن ينجح في بناء القصر الذي تتصور في قلبك، فكيف تنجح أنت في ذلك؟»
لم يفقه الملك المفتون بقوته إشارة الصبي إلى «إندارات» أتت قبله ثم مضت، فالتفت إليه يخاطبه بلهجة أبوية، كمن يستوضح أمرا لم يحسن صاحبه التعبير عنه وصياغته بطريقة مفهومة: «كم من إندارا قد رأيت قبلي، أو به قد سمعت؟»
أجاب الضيف الغريب وهو يهز رأسه برفق: «لقد رأيت الكثير منهم.» كان صوت الصبي حلوا ودافئا كلبن بقرة استحلب لتوه، ولكن كلماته جعلت الدم يسري باردا في عروق إندارا. ثم تابع الصبي: «نعم إندارا، يا طفلي العزيز، لقد عرفت أباك كاشايابا الرجل السلحفاة، سلف مخلوقات الأرض وسيدها، وعرفت جدك ماريشي، شعاع النور السماوي وابن برهما، كما أنني عرفت برهما الذي أنجبه فيشنو من برعم لوتس نما من صرته، وعرفت فوق كل هذا فيشنو، الكائن الأسمى الذي أسند عملية الخلق إلى برهما. أي ملك الآلهة، لقد رافقت انحلال الأكوان، ورأيت كل شيء يتلاشى مرة بعد مرة عقب كل دورة كونية؛ في ذلك الوقت المهول تذوب كل ذرة في الوجود في مياه الأبدية التي صعدت منها، كل شيء يعود إلى جوف أوقيانوس بلا قرار، عليه ظلمة فوق ظلمة، ولا أثر لكائن حي. آه ... من يستطيع أن يحصي عدد الأكوان التي عبرت وزالت، والخلق الذي تلاه غضا جديدا صاعدا من هيولى الغمر العظيم؟ من يستطيع أن يعد دهور الكون دهرا يتبع دهرا، بلا بداية بلا نهاية؟ ومن يستطيع أن يقطع لا نهايات المكان ليعد الأكوان الماضيات تجثم متراصة كونا كونا، وكل كون له إندارا خاص به وكذلك فيشنو وشيفا؟ ومن يعد الإندارات فيها إندارا إندارا، ممن حكموا في تلك العوالم الماضيات صعودا، واحدا إثر آخر، إلى عرش الألوهة، ثم هبوطا إلى عالم النسيان؟ أي مليك الآلهة، قد يوجد من يستطيع عد ذرات الرمل على الأرض، وقطرات الماء الهاطل من السماء، ولكن لن يوجد من يستطيع عد كل أولئك الإندارات الماضيات. وهذا أيها المليك ما يعرفه العارفون.»
وفي هذه الأثناء لاحظ الصبي على الأرض طابورا من النمل يقطع القاعة فيما يشبه الموكب العسكري، فتوقف محدقا به ثم أطلق ضحكة رنانة، ما لبث بعدها أن أطرق في سكون وتأمل. فقال إندارا متلعثما: «ما الذي يجعلك تضحك؟ من أنت أيها الكائن المتلفح بهيئة الغلام الخادعة؟» كان صوت ملك الآلهة الفخور متهدجا، وقد جفت منه الحنجرة والشفتان: «من أنت يا بحر المناقب المتستر وراء سديم مضلل؟» رفع الصبي رأسه وقال: «لقد ضحكت لمرأى موكب النمل هذا، ولكن لا تسل لماذا أضحكني مرآه؛ فوراء ذلك سر ينطوي على ثمر الحكمة، سر يجتث شجرة غرور هذا العالم، ولكنه مدفون في غياهب حكمة العصور، ونادرا ما يكشف عنه حتى للقديسين. إنه نسمة الحياة لأولئك النساك الذين تخطوا هذا الوجود الفاني، ولكنه مميت لأولئك المنغمسين في حمأة الرغبة والخيلاء.» قال هذا ثم أمسك عن الكلام وغرق في الصمت، فقال إندارا وقد زاولته الخيلاء واتضعت هيئته: «أيها الغلام البرهمي، لا أعرف من أنت، ولكنك الحكمة المتجسدة، اكشف لي عن سر العصور هذا، عن النور الذي يبدد الظلمة.» فلما رأى الصبي تغير هيئة الملك ورغبته الجادة في التعلم، أخذ يكشف له خفايا الحكمة: «لقد رأيت النمل منتظما في طابور طويل، كل نملة فيه كانت في عالم مضى إندارا، كل واحدة مثلك ارتقت إلى رتبة ملك الآلهة بفضل التقوى والأعمال الحسنة، ولكنها الآن، وبعد عدد من الولادات والتناسخات، صارت نملة مرة أخرى. انظر إلى هذا الجيش، إنه جيش من الإندارات السابقة، ذلك أن الأعمال السامية ترفع أهل الأرض إلى المنازل العليا السماوية، وحتى إلى منازل برهما وشيفا والمنزلة الأعلى لفيشنو، أما الأعمال الرذيلة فتهبط بهم إلى الدرك الأسفل، فيخرجون من رحم الخنازير وحيوانات الفلاة، أو يصيرون طيورا وحشرات وما إليها. بالأعمال تجني السعادة أو البؤس ، تصير سيدا أو خادما، بالأعمال تصير ملكا أو برهميا أو إندارا أو برهما، وبالأعمال أيضا ترد وحشا ضاريا. هذا هو جوهر السر، وهذه هي الحكمة التي تعبر بك خضم الجحيم.» بعد أن أنهى كلامه، تلاشى الصبي من مجلس إندارا، وعرف الجميع أنه لم يكن سوى الكائن الأسمى فيشنو.
وقف إندارا مذهولا يستعيد ما جرى أمامه وكأنه في حلم، ثم أخذ يشعر بتغيير عميق يجري في كيانه؛ لم يعد راغبا في المزيد من السلطان، ولا في المضي قدما لتوسيع قصره السماوي. استدعى المعماري العظيم فأثنى على مهارته وفنه، ومنحه هدايا ثمينة ثم صرفه لشأنه. لقد فتح الصبي عينيه ورمى الحكمة في قلبه، فلن يرضيه بعد الآن سوى التحرر والانعتاق. استدعى ابنه وعهد إليه بمهام الحكم، واستعد لحياة الزهد والتأمل. إلا أن زوجته المخلصة جزعت للقرار وهرعت إلى إله الحكمة والسحر تسأله أن يساعدها في إقناع زوجها لكي يعدل عما انتوى، فقام الإله بجمع الزوجين وراح يعدد لهما فضائل حياة الزهد والتقشف من جهة، وفضائل الحياة الدنيا من جهة أخرى، وصاغ حديثه بطريقه جعلت إندارا يعدل عن قراره ويختار الطريق الوسط بين الحياتين.
وهكذا تنتهي أسطورة إندارا وموكب النمل، على نحو يفتح أمامنا عالما غير مألوف من مفاهيم الزمان والمكان في الفكر الهندوسي. فالأكوان السابقات والتاليات تجثم في حيز واحد، وتتبدى متتابعة في زمان وعود أبدي، كلما انتهت دورة بدأت أختها، وكلما انحل كون وآل إلى الفناء متلاشيا في جوهر المطلق الأبدي، نشأ كون جديد يعيد سيرة سابقه الأولى. فتاريخ الكون لا يسير في زمن خطي باتجاه واحد، بل في زمن دوري ينتقل من النضج إلى الانحلال فإلى النضج مرة. هذا النوع من الوعي بالزمن يتخطى المدى الزمني لحياة الجماعات والأمم بل الجنس البشري كله، إنه زمن الطبيعة التي لا تعرف المئات والألوف من السنين، بل الدهور الجيولوجية والكونية.
في المعتقدات الهندية، تتألف كل دورة كونية من أربعة عصور، يتصف العصر الأول بالكمال في كل شيء، وينتصب فيه القانون الأخلاقي راسخا على أربع ركائز، فيه يولد الناس أخيارا ويكرسون حياتهم لأداء مهامهم وواجباتهم الأخلاقية على أكمل وجه، وهو أطول العصور الأربعة إذ يدوم ما مقداره 1728000 سنة (مليون وسبعمائة وثمانية وعشرون ألفا). في العصر الثاني، يبدأ الفساد بالتسرب إلى الكون وإلى المجتمع الإنساني، فهنا يتوجب على البشر أن يتعلموا الفضائل بعد أن كانت مغروسة في طبعهم، ويدوم هذا العصر ما مقداره 1296000 سنة (مليون ومئتان وستة وتسعون ألفا). يدخل العصر الثالث في فترة توازن حرجة بين النقص والكمال، ويهتز القانون الأخلاقي مستندا إلى ركيزتين فقط، ويدوم هذا العصر 864000 سنة (ثمانمائة وأربعة وستين ألفا). أما العصر الرابع المظلم فتسود فيه البغضاء، وتتغلب الرذيلة على الفضيلة، وتقوم المنازعات بين الأفراد والحروب بين الشعوب. يدوم هذا العصر 432000 (أربعمائة واثنين وثلاثين ألفا)، وهو أقصر العصور، ونحن نعيش اليوم في أحد هذه العصور السوداء، من إحدى الدورات الكونية الصغرى المدعوة ماها يوغا
Maha Yoga ، والتي يبلغ مجموع سنيها 4320000 سنة (أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألفا). أما الدورة الكبرى فتدعى كالبا
Kalpa ، وتتألف من ألف ماها يوغا؛ أي 4320000 × 1000 = 4320000000 (أربعة مليارات وثلاثمائة وعشرين مليونا)، وتؤلف يوما واحدا من أيام برهما، وتدور بملياراتها الأربعة كلما رمش فيشنو بعينه رمشة واحدة، وبعد أن تئول إلى نهايتها يليها ليل بطولها هو ليل برهما. ففي نهاية هذه الدورة الكبرى، وفي آخر لحظة من يوم برهما، تنشطر الأرض وتتداعى الأكوان بما فيها من بشر وكائنات حية وآلهة عائدة إلى الماهية القدسية الأبدية، ويهدأ نبض الزمن في ليل برهما الطويل، حيث ينام فيشنو على أمواج مياه الأبدية التي تؤلف جوهره، بعد أن امتص إلى جوفه الكون الذي صدر عنه. وفي أول لحظة من لحظات يوم برهما التالي، يولد برهما جديد من البرعم الذي ينمو من سرة فيشنو، ليقوم بخلق كون آخر، وتبتدئ دورة كونية كبرى جديدة.
7
والإله فيشنو هنا يلعب دورا مزدوجا؛ ففي نهار برهما ودوراته الكونية الصغرى هو الإله الأعلى المشخص، وفي الليل الذي يليه عندما تئول الأكوان إلى الفراغ الأعظم، يسفر عن حقيقته باعتباره براهمان المطلق الأبدي، ويسقط قناع فيشنو الوهمي مع ما يسقط من بقية العوالم السرابية التي آلت إلى رحم مياه الألوهة الأزلية. ولسوف نرى لاحقا كيف يتناوب فيشنو وشيفا على التقاط قناع الإله المشخص، ولعب الدور المزدوج في الميثولوجيا الهندوسية. ولكن ما الذي يحل بأرواح البشر والآلهة وبقية الكائنات التي كانت تلعب دورة التناسخ، عندما يصمت الوجود وينطوي المطلق على ذاته كأن شيئا لم يكن؟
عندما ترجع الأكوان إلى مصدرها في ليل برهما الطويل، فإن الأرواح التي فنيت أجسادها لا تفنى ولا تنعتق، بل تبقى في حالة سكون، غافلة عن نفسها ناسية أعمالها الماضيات. وعندما يبتدئ نهار جديد، تنتبه الأرواح وتحمل كل واحدة حمل أعمالها السابقة مجددا إلى دورة كاملة أخرى، فليل آخر، فنهار آخر، مليارات من السنين تعقب مليارات، حتى يحين وقت الخلاص إذا حان له وقت. وهذه الأرواح التي تتناسخ في الأجساد البشرية والإلهية والحيوانية وحتى النباتية، لا تنتمي إلى أصناف مختلفة، بل إنها من طبيعة واحدة، تنتقل من حجاب إلى حجاب، من حشرة إلى إنسان إلى إله أو بالعكس، حتى تحقق الانعتاق. وهذا الانعتاق لا يتحقق إلا انطلاقا من الشرط الإنساني، وحين تكون الروح متقمصة في إنسان، فالإنسان وحده من دون بقية المخلوقات هو القادر على تخليص الروح وتحقيق الانعتاق، أما الآلهة فإن عليها أن تنتظر فرصة تجسدها في إنسان لتستطيع من خلال حياة إنسانية كاملة أن تنفلت من دورة السببية الكبرى.
8
لقد تلاشت فكرة إندارا الساذجة عن نفسه وعن دوام مجده، عندما رأى أن هذا المجد ليس أرسخ من الجبال التي تبدو لحياة فرد أو جيل أو حقبة تاريخية، ثابتة أبدية، ولكنها من منظور الدهور المتعاقبة أشبه بموج البحر يعلو ثم يهبط. لقد كانت مشاريعه العمرانية متناسبة مع إحساسه بأناه التي ظنها مطلقة وبلا حدود، أما بعد أن فتح فيشنو عينيه، ورأى ملايين السنين تتحول إلى دقائق، والدهور إلى أيام، فقد رأى كيانه وكيان الآلهة من أمثاله عرضا مؤقتا زائلا، ورأى كل ما تجنيه اليدان تذروه رياح الفناء كأن لم يكن. لقد تبين له الكون أشبه بنهر دائب الجريان، لا يركن إلى حال ولا يبغي مآلا، ولكنه تبين في الوقت نفسه الجوهر الثابت وراء كل متغير.
إن إدراك التغير والتبدل في كل ظاهرة من ظواهر العالم، تجعله يبدو أشبه بسراب ناتج عن خداع الحواس، أو تلفيقة يصنعها الوعي المتمركز حول الأنا. هذه الخبرة بالعالم تجعله معادلا للمايا، والمايا هي الصنعة الفنية التي تنتج عملا يدويا أو تشكيليا لهيئة ما، من مادة غير مشكلة. إن معنى التشكيل انطلاقا من مادة لا شكل لها، يرتبط هنا بشكل وثيق بالمعنى الذي بيناه آنفا، والذي يعود إلى الجذر الذي يعني الكيل والقياس والتحديد، ولكنه ينطوي في الآن نفسه على ظلال جديدة. فبما أن المايا هي إظهار لهيئة لم يكن لها وجود، فإنها تتصل أيضا بالوهم، والحيلة البارعة، وخداع البصر، وما إلى ذلك. ومايا الآلهة هي قدرتها على الظهور بهيئات مختلفة، وذلك بإظهارها لجوانب متنوعة من ماهيتها اللطيفة. غير أن الآلهة هي في الوقت نفسه نتاج مايا كبرى؛ نتاج تبد ذاتي تلقائي لماهية قدسية كبرى لا حضور فيها للهيئات والأشكال. وهذه المايا الكبرى لا تنتج الآلهة فقط، بل العوالم التي تنشط فيها أيضا؛ كل العوالم الماضيات والمقبلات تتشارك الوجود في المكان، وتتبع بعضها بعضا في الزمان. ومستويات الوجود وما فيها من مخلوقات طبيعانية وفوق طبيعانية، هي تجليات يظهرها نشاط المايا الذي ينضح من نبع أزلي لا ينضب. وعندما يهبط ليل برهما الطويل، فإن المايا تتوقف عن النشاطات، وتنحل الظهورات التي تبدت في نهار الدورة الكونية الكبرى. إن المايا هي وجود العالم الذي نعيه ووجودنا نحن بالذات، ولكنها أيضا الطاقة العظمى التي تلد المشهد كله وتفعل من داخله، إنها الوجه الدينامي للماهية الكونية. وبتعبير آخر، إن المايا هي السبب والنتيجة في آن معا؛ فهي الفاعل الداخلي وهي أيضا التدفق والجريان الذي يبدو على السطح. وقد دعيت في الميثولوجيا باسم شاكتي، والكلمة مستمدة من الجذر السنسكريتي
sak
الذي يعني القدرة على إتيان شيء، وجرى تصورها كألوهة مؤنثة، واعتبرت الوجه الأنثوي المشخص للكائن الأسمى.
9
ونحن إذا أعدنا هذه التصورات الفلسفية المعقدة والصور الميثولوجية المتشابكة إلى صيغتها البسيطة، لوجدنا أن المعتقد الهندوسي الجوهري يتلخص بسهولة إلى مصطلحينا المألوفين؛ أي المجال القدسي وقوته السارية.
ولكن لكي يكتمل في أذهاننا الدرس الذي تعلمه إندارا عن المايا الكبرى المولدة لدورة الكون، لا بد لنا من الاطلاع على درس آخر يتعلق بالدورة الصغرى؛ دورة تناسخ الأرواح، وذلك بسرد أسطورة أخرى من أسفار البورانا اخترتها لهذه الغاية.
تدور الحكاية حول ناسك ذي نسب إلهي اسمه نارادا. في يوم من الأيام تجلى الإله فيشنو لهذا الناسك في معتكفه مكافأة له على تعبده الطويل، ومنحه استجابة لدعوة واحدة فقط يدعوها، ورغبة يحققها له. ولكن نارادا الزاهد في كل أمور الدنيا لم يطلب سوى أن يفهم مايا الإله وكيف تفعل، إلا أن فيشنو حاول التملص من تحقيق هذا المطلب عارضا على الناسك الصحة وطول العمر، وغير ذلك مما يطلب البشر عادة، فأصر هذا على طلبه مؤكدا أن لا رغبة له في شيء سوى النفاذ إلى سر وجوده. ولما لم يجد الإله إلى التهرب سبيلا، قام بتلبية رغبة نارادا، ولكن بدلا من أن يشرح له كيف تعمل المايا بكلمات، عرضه لتجربة ساحقة، خبرها بجسده ووجدانه على أعنف شكل يمكن تصوره. أمر فيشنو نارادا أن يغوص في مياه البحيرة القريبة، ففعل. وعندما صعد إلى السطح لم يكن هو نارادا، بل تحول إلى فتاة اسمها سوشيلا، هي ابنة ملك مقاطعة بينارس (ربما أحد تقمصات نارادا السابقة أو اللاحقة)، وكانت مخطوبة لابن ملك المقاطعة المجاورة. ولم يطل بسوشيلا الأمر حتى زفت إلى الأمير، وعرف الحكيم الزاهد نارادا كل متع الجسد في قميصه الأنثوي الجديد. ثم إن الملك المسن توفي وصعد إلى العرش الأمير الشاب زوج سوشيلا، وسارت حياة الزوجين على أفضل وجه، فأنجبت الملكة لزوجها عددا من الأولاد وصار لها أحفاد وهي ما زالت في ريعان الصبا. ولكن بعد مدة من الزمن وقع نزاع بين المقاطعتين المتجاورتين، ودخل أبو سوشيلا وزوجها في حرب ضروس أنهكت الطرفين. وفي معركة أخيرة فاصلة قتل زوج سوشيلا وأبوها معا وعدد من أولادها وأحفادها. تركت سوشيلا العاصمة لسماعها النبأ الفاجع وهرعت إلى ميدان المعركة، وهناك أقامت مناحة على قتلاها، ثم أمرت صنع محرقة جنائزية كبيرة وضعت فوق حطبها جثث أحبائها، ثم قربت نارا وأوقدت المحرقة. وبينما النار تندلع أمام عينها راحت تصرخ كالمجنونة يا ولداه، يا ولداه. ثم رمت نفسها في وسط اللهيب. عند ذلك ابتردت النار وتحولت المحرقة إلى بحيرة؛ البحيرة نفسها التي غطس فيها نارادا، ورأى الناسك نفسه والإله يقوده من يده نحو الشاطئ. وهناك قال فيشنو للحكيم الشيخ وعلى فمه ابتسامة قاسية: «من هذا الابن الذي كنت تبكي موته يا نارادا؟» هنا فتحت عيناه على الحقيقة.
10
والآن هل كانت الحياة الأخرى التي عاشها نارادا كامرأة، هي استعادة لتقمص سابق، أم إرهاصا بتقمص لاحق، أم كانت وهما خلقته قدرة فيشنو على المايا؟ إن الأمر سيان في الحقيقة؛ لأن حيوات نارادا السابق منها والحالي والتالي، ليست إلا سلسلة من التهيؤات التي تولدها المايا الكونية.
في الأسطورتين اللتين اخترت روايتهما آنفا، وفي بقية الأساطير الثماني عشرة التي تؤلف أسفار البورانا، يظهر المطلق الأعظم تحت قناع الإله فيشنو. وعبر السرد القصصي لهذه الأساطير يكتسب المجال القدسي لمسة شخصية تظهر أحيانا وتختفي أحيانا أخرى، رغم أن رسالة الأسطورة تؤكد على الجوهر اللاشخصي للألوهة؛ لأن كل الهيئات والأشكال والشخصيات والأجزاء سراب عابر، والموجود الحق هو المطلق الكلي الساكن المتماثل. وفي الواقع، فإن لمسة التشخيص التي تضيفها الأسطورة إلى المجال القدسي، هي من طبيعة الميثولوجيا نفسها، ولا مناص منها في أسلوب السرد القصصي؛ لأن الترميز الميثولوجي، على عكس التأمل الذهني، يتعامل بالصور الحركية لا بالأفكار المنظمة، ولكي تؤدي الأسطورة فكرة ما، عليها أن توصل المعنى من خلال مشاهد حيوية يتحرك فيها عدد من الشخصيات؛ الأمر الذي يقود تلقائيا إلى تشخيص المجردات. غير أن الإله فيشنو لم يكن القناع الوحيد الذي لبسه المطلق الكلي براهمن عبر تاريخ الديانة الهندوسية الطويل؛ فقد لعب هذا الدور أيضا كل من برهما وشيفا العضوان الآخران في الثالوث الأقدس الهندوسي، المؤلف من فيشنو الحافظ وشيفا المدمر وبرهما الخالق. وفي المراحل المتأخرة من تاريخ الديانة الهندوسية، أخذت الميثولوجيا الشعبية تعلي من شأن شيفا حتى صار الإله الأعلى المشخص الذي يستتر وراءه المطلق الكلي، بعد أن كان مجرد قناع يظهر به فيشنو عندما تحين ساعة التهام الكون وإعادته إلى الأوقيانوس الأصلي، حيث يقوم بإحراق الأكوان وإحالتها إلى رماد، وعندما تحين ساعة الخلق الجديد يولد برهما من البرعم النامي من سرة فيشنو ليبدأ خلقا جديدا. فكلا الإلهين كانا، في ميثولوجيا فيشنو، تعبيرا عن قوة الخلق وقوة الدمار الصادرتين عن المطلق الساكن. أما الآن، فقد أخذ شيفا الأدوار الثلاثة معا فصار الحافظ والمدمر والخالق، وظهرت إلى جانبه قرينته شاكتي التي تلعب دور المايا؛ القوة السارية في الكون.
وبما أننا قد أعطينا فكرة عن رمزية الإله فيشنو من خلال الميثولوجيا، فإننا سوف نعطي فيما يأتي فكرة عن رمزية الإله شيفا من خلال التعبيرات التشكيلية في التصوير الديني الهندي، مستندين بشكل رئيسي إلى التقاليد التانترية
Tantra . هنا سوف يظهر لنا أيضا أن التشخيص في الأعمال التشكيلية ليس إلا ترميزا لمفهوم الألوهة المجرد، ورداء يختفي وراءه المطلق الكلي.
تقترن رمزية شيفا برمزية شاكتي ذات الأسماء المتعددة، فهما التشخيص المزدوج للمطلق الذي يتكشف في الزمان والمكان، من خلال القران المقدس بين قوتيه السالبة والموجبة. وتركز هندوسية التانترا على فكرة القران المقدس بين الإلهين شيفا وشاكتي، من خلال النصوص الأدبية والأعمال التشكيلية؛ فهما في جدلية دائمة وحوار أبدي، نراهما في المنحوتات والصور يتعانقان ويتهامسان، ومن خلال حوارهما هذا يعلن جوهر براهمن عن نفسه للفهم الإنساني. تتكرر مشاهد العناق مرات ومرات في آيات النحت الهندي، وقد ينوب عن الشكل الإنساني للإلهين الرمز التشكيلي المعروف باسم لينغوم-يوني، وهو عبارة عن عضو الذكورة وعضو الأنوثة في وضع الاتحاد. وفي بعض الحالات، عندما ينصب قضيب شيفا الحجري منفردا في الهياكل، فإن كوة في جدار النصب تنتفخ لتظهر من ورائها شاكتي بكامل أبهتها قابعة في صميم القوة الفعالة للذكر؛ ذلك أن كل قوة من هاتين القوتين إنما تكشف سر الأخرى وتكمن في جوهرها. وهذا هو الدرس نفسه الذي تعلمناه سابقا من دائرة اليانغ-ين؛ حيث يعلن جانب الدائرة الأسود عن حضوره في الأبيض من خلال دائرة صغيرة بيضاء.
وفي عمل نحتي يعتبر من آيات الفن الهندي الكلاسيكي، ويعود إلى القرن الثامن الميلادي، نجد أبلغ تعبير عن التشخيص الفني الذي يهدف إلى التعبير عن المطلق غير المشخص. يدعى هذا النحت بشيفا المثلث؛ لأنه يمثل إلها بثلاثة وجوه؛ وجه جبهي وآخرين جانبيين ينظر كل منهما في اتجاه. يبدو الوجه الجبهي مغمض العينين في حالة حلمية، غائصا في ذاته مستغرقا في صمت حجري أبدي، وهو يمثل المطلق الساكن والجوهر القدسي الذي صدر عنه القطبان السالب والموجب. من الجانب الأيمن لهذا الحضور غير المبالي ينبثق الوجه الجانبي للإله شيفا، الذي تعبر خطوط وجهه الحادة عن قسوة وعزم وتصميم، ومن الجانب الأيسر المقابل ينبثق الوجه الجانبي للإلهة شاكتي، التي تفيض عذوبة وحلاوة ووعدا لا ينتهي بالعطاء. وبين هذين القطبين المتوترين يبقى الوجه الساكن الملغز للمطلق على حياده، غير آبه للحركة الصادرة عن ذات يمينه وذات شماله. إنه وجه الأبدية الذي يفيض الزمن وطاقة الحياة من أعماق سكونه، أو إنهما يبدوان في حالة الفيض. فمن وجهة نظر الوجه الجبهي، فإنه لا شيء يحدث على الإطلاق؛ وفي هذه الحضرة الجليلة لوجه الأبدية، يبدو الوجهان الجانبيان أشبه بغيمتين زائلتين، والأحداث التي يمثلانها على مسرح الزمان والمكان تبدو أقرب إلى لعبة الظل والضوء في الأشكال المتلاشية، التي تبدو مرئية للعين المحجوبة خلف ستار الجهل فقط، أما العين المستنيرة فتخترق هذه المرئيات نحو الجوهر الثابت الذي لا يتغير.
في منحوتة شيفا المثلث، يظهر الوجهان الجانبيان في حالة الفعل ومن ورائهما العالم الدائم التغير والجريان، أما الوجه الجبهي فيقول لنا إنه لا شيء يحدث بالفعل، لا شيء يأتي ويذهب. وهنا نجد أبلغ تعبير عن تعايش براهمان مع مايا، فالمايا هي قناع براهمان، والوجه الذي يبدو به في العالم الاختباري. من هنا فقد عبدت المايا باعتبارها كل المظاهر المتبدية للطبيعة؛ فهي الأم العليا للكون، وطاقة حياة البشر والآلهة وكل شيء حي، إنها مايا-شاكتي-ديفي.
11
وهناك رسم تانتري سوف أخصه بالشرح فيما يأتي؛ لأنه يمثل نموذجا من الرسوم مكرسا لإرشاد السالك في كدحه من أجل اختراق حجب الجهل نحو الجوهر الخفي للكون؛ فمن خلال تركيز النظر والقلب على الأيقونة، يترك الناظر لمعانيها أن تتفتح في وعيه دون شرح أو كلمات. يدعى هذا الرسم بجزيرة الدرر، وهو يتألف من محيط مائي داكن الزرقة، لا قرار لها ولا حواف، هاجع وساكن، ولكنه ينطوي على كل الممكنات، وعلى بذور كل القوى المتعارضة والمتجاذبة. وفي قلب هذا المحيط تبرز من الماء بقعة تحدد المركز؛ إنها بؤرة القوة الأولى، والنقطة البدئية التي اتسعت لتشكل كل المكان. تتخذ البقعة شكل جزيرة دائرية في وسط الأوقيانوس، وتزين حوافها أشجار درية تنغمس فروعها الكريمة في الماء. في وسط الجزيرة هناك عرش كبير تجلس عليه الأم الكونية شاكتي في وضعية القعود، إنها الطاقة التي تفجرت في صميم النقطة المكانية وشكلت السماء والأرض وما بينهما، وهي تدعى هنا فيمارسا-شاكتي
Vimarsa Sakti ، حيث تعني كلمة فيمارسا التفكير والتخطيط والتدبير، وكلمة شاكتي القوة والطاقة. وللإلهة أربعة أذرع ترفع بها أربعة أسلحة هي: القوس والسهم والأنشوطة والدبوس. وهذه الأسلحة ينبغي أن تفهم مدلولاتها الرمزية المستندة إلى قيمها الاستعمالية؛ فالقوس والسهم يرمزان إلى الإرادة، والأنشوطة إلى المعرفة، والدبوس إلى الفعل. ولكن الإلهة تقوم في جلستها فوق جسدين ذكريين مسجيين واحدا فوق الآخر، يمثلان وجهي المطلق. يدعى العلوي شيفا سكالا
Skala Shiva ، حيث تعني سكالا القمر التام والبدر الكامل الأجزاء، أما السفلي فيدعى شيفا نشكالا
Nishkala ، حيث تعني نشكالا القمر الفاقد الأجزاء أو المظلم. فشيفا العلوي والحالة هذه هو المطلق المتحقق في الزمان والمكان، وشيفا السفلي هو المطلق المفارق، الهاجع الساكن؛ جملة الإمكانات الخبيئة؛ ولهذا يبدو الشكل العلوي في هيئة الإنسان الصاحي، فهو في حالة التحقق لاتصاله بطاقته الذاتية الصادرة عنه، وهي الطاقة التي تجسدها الإلهة التي تقوم فوقه، والتي تعين الإله على إظهار نفسه على أنه الكون. أما الشكل السفلي فيبدو مغمض العينين مسترخيا غائبا عن الوعي؛ ذلك أن المطلق في استقلاله عن القوة هو فراغ ومفارقة مطلقة.
إن الأشكال الثلاثة المتوضعة فوق بعضها في جزيرة الدرر، يمكن قراءتها من الأسفل إلى الأعلى أو بالعكس؛ فشيفا الهاجع السفلي هو الجوهر القدسي في حد ذاته ولذاته، أما شيفا الصاحي العلوي فهو المطلق في حالة إظهار إمكاناته غير المحدودة على التمايز وإظهار نفسه على أن الكون. وهذا الكون هو مايا-شاكتي المتربعة فوق الاثنين، قدرة الإله على تشكيل المادة، وعالم المادة نفسه أيضا؛ وبذلك يتجلى المطلق عبر ثلاث مراحل، من العطالة التامة والفراغ، إلى التمايز الدينامي والحركة الشاملة. غير أن هذه المراحل الثلاثة، ينبغي ألا تظهر لبصيرة السالك في استقلالها وتتابعها إلا مؤقتا؛ ذلك أن العرفان الأعلى هو الذي تتبدى فيه الأطوار الثلاثة كجوهر واحد. فالحقيقة هي خواء وامتلاء، كل شيء ولا شيء في آن معا. ومن خلال التركيز على هذه الحقيقة، يتوصل العارف إلى اكتشاف تطابق ذاته الفردية أتمان مع الذات الكلية براهمن. أما قراءة هذه الأيقونة من الأعلى إلى الأسفل، ابتداء من الأم الكبرى شاكتي، فيؤدي إلى النتيجة نفسها، ولكن ابتداء من ملاحظة ظواهر الطبيعة والقوة المنبثة في هذا العالم (مايا). ولكن تركيز الوعي على عالم الظواهر هذا ما يلبث أن يقود السالك إلى الخروج من ذاته، والانطلاق من الوعي الفردي القائم على الخبرة المباشرة للحواس، إلى الوعي الكوني الذي يمثله شيفا الصاحي، وأخيرا إلى الاستغراق في شيفا الهاجع، حيث الصمت المطلق، وانعدام الفكر والعمل.
إلى جانب هذه الأعمال التشكيلية من رسم ونحت، هناك أشكال تخطيطية تجريدية لا وجود فيها إلا للخطوط والأشكال الهندسية، تدعى يانترا
Yantra ، وتستخدم في تقنيات الاستغراق الداخلي
Meditation ، من شأنها أن تعين البصيرة الداخلية لمتأملها على الوصول إلى مستويات أعمق للإحساس بالوجود الإلهي المجرد. وهي بإزاحتها لكل الأشكال المشخصة الشفيعة، تضع السالك وحيدا أمام الحضرة الكبرى، حيث لا وسيط ولا شفيع يفصل بينهما. من هذه الأشكال، اليانترا المعروفة باسم
Shri Yantra ، وترسم على طريقة المندالا؛ أي إنها تتألف من عدة مستويات تتدرج من محيط الدائرة إلى مركزها. والوحدة الأساسية للرسم هنا هي المثلث الذي يتكرر في وضعيتين؛ فهناك خمسة مثلثات رأسها نحو الأعلى، تتداخل مع أربعة مثلثات رأسها نحو الأسفل. وهذا التداخل يعطي لعين الناظر انطباعا بتماوج حركتين؛ حركة صادرة من المركز نحو الأطراف، وأخرى مرتدة من الأطراف نحو المركز، فيما يشبه انطباع الحركة المتناوبة الذي تتركه دائرة اليانغ-ين الصينية. ولكن بينما تعطي دائرة اليانغ-ين انطباعا بتناوب دوراني، فإن دائرة اليانترا هذه تعطي انطباعا بتناوب نبضي، مع تركيز أقوى على التوتر الذي يخلقه خداع النظر الذي يولده تداخل المثلثات. تمثل المثلثات الخمسة المتجهة رءوسها نحو الأعلى القوة الكونية الأنثوية، أما المثلثات الأربعة المتجهة نحو الأسفل فتمثل القوة الكونية الذكورية. والأشكال التسعة في حركتها وتداخلها، تعبر عن التكشف التدريجي لممكنات المطلق الساكن، من خلال حركة القطبين السالب والموجب المتولدين عنه، واللذين يعطيان بحركتهما هذه مظاهر العالم الحيوي والمادي. ونلاحظ هنا أن المطلق نفسه لم يشر إليه في الشكل بأي رمز من الرموز، فهو النقطة المتلاشية عند المركز، حيث تنطفئ الحركة المرتدة، أو تبدأ الحركة الصادرة.
بعد هذه الجولة في الميثولوجيا والفنون الهندية، بحثا عن الوحدة في الشتات الظاهري للمعتقدات الهندوسية، لا بد لنا من التوقف عند ذروة الفكر الفلسفي والديني الهندي، وأعني بها كتاب الأوبانيشاد. ولسوف يرجع بنا تقليب صفحات الأوبانيشاد من القص الأسطوري إلى التأمل الذهني مرة أخرى. (1) الأوبانيشاد، حكمة الهند الخالدة
في التصوف الإسلامي، هناك تمييز بين نوعين من المعرفة؛ يطلق على الأول علم السطور والثاني علم الصدور. يؤخذ علم السطور عن الكتب ويكتسب بالدرس والتعلم وتحصيل المعلومات، أما علم الصدور فيجري نقله عبر الأجيال من الشيخ إلى مريده دونما حاجة إلى رقاق وكراريس؛ لأن هذا العلم مختزن في صدور أهله لا يباح به إلا لمن هو أهل لتلقيه. وهذا هو بالضبط ما تشير إليه تسمية الأوبانيشاد، فالكلمة تعني المعرفة القريبة؛ أي تلك التي يجري تلقينها عن قرب من المعلم (= الغورو) إلى السالك في طريق الانعتاق.
يعود الأوبانيشاد إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يختتم الأسفار المقدسة التقليدية المعروفة بالفيدا، والتي تشكل نخاع الديانة الهندوسية. ويتألف الكتاب من أحد عشر سفرا صاغها حكماء متفرقون، ولكنها تنتظم في سياق فكري واحد؛ فهي تأملات عميقة في النفس الكونية براهمان وفي النفس الإنسانية أتمان. ويطلق على كل سفر من هذه الأسفار اسم أوبانيشاد مضافا إليه الاسم الخاص بالسفر؛ مثل كين- أوبانيشاد، وإيش-أوبانيشاد. ورغم صغر هذا الكتاب مقارنة بأسفار الفيدا السابقة عليه، إلا أن تأثيره على فكر الهند كان أقوى من تأثير أي كتاب آخر.
تقوم تأملات الأوبانيشادات حول معرفة براهمان، الذي يقوم وراء الزمان والمكان ووراء كل المجالات التي يمكن لأفكارنا الإنسانية أن تجوس خلالها. إنه بلا هيئة بلا شكل بلا اسم بلا خصائص أو صفات، إنه الحقيقة الوحيدة، وما عداه مجرد ظهور عابر؛ فكل ما نراه من أشكال وهيئات لا حصر لها، أشبه بانعكاس نور ألف شمس في قطرة صغيرة من الندى ما تلبث أن تجف وتتلاشى. نقرأ في كين أوبانيشاد:
12
هو الذي لا تدركه الأبصار،
وبه تدرك الأبصار.
هو الذي لا تسمعه الآذان،
وبه تسمع الآذان.
هو الذي لا يوضحه كلام،
وبه يتضح الكلام.
هو الذي لا تطاله العقول،
وبه تعقل العقول.
هو المختلف عما نعرف،
وهو المختلف عما لا نعرف.
إنه براهمان.
اعرفه في صميم ذاتك،
ولا تعبد أيا سواه (
Ken Opanishad 1, 5-9 ). (وفي الأوبانيشاد نفسه نقرأ أيضا):
لا أعتقد أني أعرف عنه شيئا،
ولا أعتقد أني لا أعرف أيضا.
لا يعقل أن يعرفه المرء،
ولا يعقل ألا يعرفه أيضا.
من يدرك مني هذا القول
ربما عرفه قليلا.
والحكيم الذي يلمس حضوره أنى توجه
يجتاز بحار الوهم ويدخل الأبدية (
Ken Opanishad 2, 2-5 ).
وحول هذا المعنى نفسه يقول النفري، المتصوف الإسلامي، في المواقف: «الجهل حجاب الرؤيا، والعلم حجاب الرؤيا. أنا الظاهر لا حجاب، وأنا الباطن لا كشوف. وقال لي من عرف الحجاب أشرف على الكشف » (موقف 29). وأيضا: «إذا رأيتني استوى الكشف والحجاب» (موقف 31). وأيضا: «فرأيت العيون كلها شاخصة، فتراه في كل شيء احتجبت به، وإذا أطرقت رأته فيها» (موقف 47). والإشارة في الموقف الأخير إلى الآية:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم (41: 53).
عن هذا المجال القدسي الذي لا تلحقه الأسماء والصفات، والمدعو في الأوبانيشادات براهمان نرغونا
Nirguna ، أي المنزه عن الأسماء والخصائص، ينشأ براهمان ساغونا؛ أي ذو الخصائص والأسماء. ويحقق براهمان هذه النقلة من الكمون إلى الظهور بالأسماء والصفات، بواسطة قوته: مايا. ثم إنه يحقق النقلة الثانية بواسطة هذه القوة أيضا، فينشأ عن براهمان ساغونا الطور الثالث للألوهة، وهو قناع الإله الخالق هيرانيا غاربا
Herania Garbha ، أو الابن البكر. وعند هذا القناع تقف أفهام الناس الذين يتقدمون إليه بفروض العبادة ويقربون القرابين، إلا من أراد منهم اجتياز بحر الوهم والدخول في الأبدية.
بعد معرفة براهمان عن طريق اختراق حجاب الإله الخالق إليه، يؤكد حكماء الأوبانيشاد على الفكرة الهامة الثانية، وهي أن النفس الإنسانية التي تبدو منعزلة في الجسد المفرد، ليست إلا قبسا من نفس براهمان الكلية، وإن كدح الإنسان الروحي يجب أن ينصب على تلمس هذا التطابق بين براهمان-النفس الكلية وأتمان-النفس الإنسانية. وهذا هو معنى قول السيد المسيح فيما بعد: «أنا والأب واحد؛ فمن رآني رأى الأب.» وهو أيضا ما قصده الحلاج بن منصور، المتصوف الإسلامي، عندما أنشد:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
فبراهمان يقيم في سويداء قلب الجسد الحي، وهو الذي يدفع من هناك الأنفاس شهيقا وزفيرا:
هو رب اليوم ورب الغد،
ولكن القلب الذي بحجم إصبع الإبهام
مقر له ومكان.
من يعرفه في صميم قلبه
لا يعرف الخوف ولا الأحزان.
من سويداء القلب حيث يقيم،
يدفع أنفاس الزفير خارجا
ويجذب أنفاس الشهيق داخلا،
والحواس الخمس خدم له؛
فما الذي يبقى من هذا الكائن (الإنسان)
بعد أن ينقطع عن سيده الداخلي؟ (
Kath Opanishad, ch2, 1, 12-13, 2, 3-4 ). والمقصود بأن الحواس الخمس خدم له، هو أن براهمان، الذي يسكن النفس الحية، إنما يتملى جمال الخلق الذي صدر عنه بحواس خلقه. فهو الخالق والخلق والصلة بينهما؛ المستمتع والمستمتع به وفعل الاستمتاع، كما سيقوله لنا مقطع آخر. فإذا انقطع هذا البدن عن سيده الداخلي وخميرته الحية، لا يبقى سوى تلك النفس الخالدة التي تعود إلى براهمان. أما عن القلب الذي لا يتجاوز في حجمه إصبع الإبهام ومع ذلك يتسع للمطلق، فيذكرنا بقول الشيخ محيي الدين بن عربي في فصوص الحكم: «اللسان ترجمان الجنان ... والجنان متسع الرحمن، وهو له بمنزلة المكان، فما وسع الرب إلا القلب» (ف 4، 363). وتتكرر فكرة المطلق الذي يبث نفسه في خلقه بتنويعات مختلفة:
الذي من أجل هناءته بخلقه
أودع نفسه في كل كائن.
وبعد تعرفه على حقيقة ذاته،
حرر نفسه من كل قيوده.
هو السيد الكلي المعرفة،
وهو النفس الغافلة الجاهلة.
هو الرب وهو العبد.
بالطبيعة غير المخلوقة تم هذا الخلق كله،
وخلق المستمتع به وفعل الاستمتاع.
فالحكيم الذي يعرف هذه الوجوه الثلاثة لبراهمان
يتحرر من كل قيد (
Svetasvata Opanishad 1, 8-9 ).
فبراهمان يودع نفسه فيما لا يحصى من الكائنات الحية، ثم يحرر نفسه من قيوده في المادة، عندما تتحرر الأرواح الحبيسة في الأجساد. فهو المطلق بوجه، وبالوجه الآخر هو تلك النفوس الحبيسة في الأجساد غافلة من أصلها ومصدرها. أما الطبيعة غير المخلوقة التي تم بواسطتها الخلق، فهي طبيعة براهمان أو قوته، فهي غير مخلوقة أو مولودة لأنها كانت معه منذ الأزل، وهذا ما يذكرنا بمطلع إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.»
والإنسان ليس المجلى الوحيد لحقيقة براهمان، بل كل المظاهر الحية وغير الحية أيضا:
أنت الفراشة وأنت النحلة.
أنت الطير الزاهي الألوان.
أنت السحاب المرعد المبرق.
أنت الفصول يتبع بعضها بعضا.
أنت المحيطات الزاخرة المائجة.
أنت الموجود بلا بداية.
وأنت الواحد
الذي ولدت منه كل هذي العوالم (
Avetasva Opanishad 4/4 ).
ويستعمل حكماء الأوبانيشاد تعبير «ذلك هو هذا» أو «هو أنت» للتعبير عن تماثل الماهية بين الخالق وخلقه؛ بين الخلق والحق:
ذلك هو هذا؛
فكما يتطاير الشرر من النار المتأججة،
كذلك تصدر كل هذه الكائنات المختلفة
عن الحقيقة الخالدة،
ثم إليها يكون سعيهم ومآلهم (
Mundak Opanishad, ch 2 1/1 ).
وهناك تشبيه يعتمد العنكبوت الذي يتدلى من السقف أو الغصن بواسطة خيط رقيق يغزله في بطنه؛ فإذا أراد الصعود استعاد بفمه الخيط إياه:
كما يغزل العنكبوت خيوطا في جسده
ليصنع منها نسجا، ثم يستعيدها إليه،
كما تنطلق النباتات من أديم الأرض،
كما ينمو الشعر من بشرة الإنسان،
كذلك يأتي الكون إلى الوجود،
من براهمان الأبدي الذي لا ينقص (
Mundak Opanishad ch 1, 1-7 ).
وإذا كان براهمان بحجم الإصبع ليتسع له قلب المؤمن، فإنه أكبر من أي كبير نتصور، وأيضا أصغر من أي صغير نتصور. والمقصود طبعا أنه خارج مفهوم الامتداد في المكان.
أكبر من أي كبير نتصور،
وأصغر حتى من ذرة الهباب،
فابحث عنه في أعماق ذاتك.
ليكن الأوبانيشاد قوسك، والعقل سهمك،
والأحاسيس وترا لك.
شد وترك، وصوب نحو براهمان
هدفك الوحيد (
Mundak Opanishad, ch 2, 2, 2-3 ). (فإذا انعتقت الروح ذابت فيه كما الأنهار في المحيط):
كما تفقد الأنهار الجارية أسماءها وأشكالها
لتنتهي في المحيط الكبير،
كذلك يترك الحكيم وراءه اسمه وشكله،
ويذوب في ذلك العظيم العظيم (
Mundak Opanishad, ch 2. 2-8 ). (والطريق إليه ليس الطقوس والقرابين، بل العرفان الداخلي الصامت):
لا تدركه الأبصار ولا تحيط به الكلمات،
لا تصل إليه بالأضحية والتكفير،
بل بالمعرفة التي تجلو العقل،
بتأملات العقل الصافي وحده
يتجلى لك براهمان في كليته (
Mundak Opanishad, ch 3, 1, 8 ).
والمقصود بالعقل الصافي هنا ليس العقل التحليلي، بل العقل بكليته بعد أن يتخلص من قدح زناد الفكر وإعمال الذهن، إنه اللافكر الذي بشرت به التاوية كطريق للعرفان.
الفصل الرابع
ما وراء اللاهوت
المبدأ اللاإلهي في الجاينية والبوذية
تشغل الفترة الممتدة فيما بين القرن السادس والقرن الأول قبل الميلاد في الهند، العصر الكلاسيكي للفكر الفلسفي والدين الهندي. وقد وضعت منذ بدايات هذا العصر القواعد الأساسية للاتجاهين الرئيسين في الفكر الديني الهندي، وهما: اتجاه مستقيمي الرأي، واتجاه الهراطقة. ومن حيث المبدأ، فإن الخلاف الرئيسي بين الاتجاهين يدور حول سلطة أسفار الفيدا
1
وقداستها؛ فبينما يعلي الاتجاه الأول من شأن الفيدا ويعتبرها بمثابة الوحي المنزل، فإن الاتجاه الثاني لا يحفل بها ولا يقيم لها وزنا. وقد طور الاتجاه الثاني المبدأ «اللاإلهي» في الدين (=
Atheism )، وهو المبدأ الذي يقوم على عدم الإيمان بوجود إله خالق للكون، ويرى بأن الإيمان بالآلهة هو إيمان زائف من حيث المبدأ. ويبدو أن الخطوة الأولى نحو اللاإلهية تبدأ في سياق الأفكار الدينية التقليدية التي تجسدها أسفار الفيدا، ففي هذه الأناشيد القديمة نتعرف على مجموعة من الآلهة التي يتحكم كل منها بظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة، ويبدو في كثير من الأحيان متطابقا مع هذه الظاهرة، إلا أن كل إله من هؤلاء يبدو لنا وكأنه الإله الأعلى عندما تتوجه إليه الصلاة بالشكر والثناء والتسبيح، الأمر الذي يفرغ فكرة الإله الأعلى من مضمونها الفعلي. ومع أن الإله إندارا قد نال الحظ الأوفر من صلوات الفيدا، إلا أننا نجد في بعض هذه الصلوات مقاطع تسخر من قوته المشهورة وتلقي ظلالا من الشك حتى على وجوده. ورغم ندرة هذا النوع من الصلوات الذي يحتوي على النقيضين، فإن أهميتها تتعدى نسبتها الضئيلة هذه؛ وذلك بسبب تضمينها في أكثر النصوص الدينية الهندية قداسة. وإلى جانب هذين التوجهين، فإننا نلاحظ في بعض أسفار الفيدا، وخصوصا في الأقسام الأخيرة من ال «رج فيدا»، إشارات إلى إله غير معلوم يحيط بالكائنات جميعا؛ فهو الذي ظهر بقواه الخاصة قبل الموجودات جميعا وتنفس بغير هواء. كما نجد أيضا إشارات متفرقة إلى نظام خفي للكون يخضع له الكل بما فيهم الآلهة أنفسهم.
2
وبذلك تمهد الفيدا للاتجاهات الرئيسية الثلاثة في الديانة الهندية.
من الأديان الهندية الهرطقية ما ينص صراحة على عدم الاعتراف بوجود الإله الأعلى خالق الكون، وعدم أهمية الآلهة بالنسبة للإنسان، مثل الجاينية
Jainism ، ومنها ما ينفي وجود الإله الأعلى ضمنيا، وذلك برفضها لمناقشة هذا الأمر، مثل البوذية، أما داخل اتجاه مستقيمي الرأي الذي يعلي من شأن الفيدا، فلدينا ست مدارس بينها واحدة على الأقل تنكر وجود الآلهة. وقد قام بين هذه المدرسة والمدارس الأخرى جدال فلسفي دام قرونا حول وجود الإله الخالق أو عدمه، وقفت فيه إحدى المدارس المثبتة لوجود الإله موقف الوسط؛ إذ قالت بأن الحجج على وجود الإله الخالق مقبولة وذات قدرة على الإقناع على مستوى حقائق الحياة اليومية، أما على مستوى المعرفة الدينية الأعمق، فإن الكائن الأعلى هو حقا وهم. وقد انهمكت الجاينية من طرفها في هذا الجدال الفكري، ونظرا إلى أن هذه الديانة ترفض فكرة الإله من أجل تسويغ وجود العالم، فقد تقدمت بثماني حجج تدافع فيها عن معتقدها، لا يتسع مجالنا هنا لسردها. أما البوذية فلم تحفل قط بخوض أي جدال يدور حول الآلهة؛ لأنها لا تحفل بها أصلا، ولا تقيم تعاليمها على نفي أو إثبات وجود كائن أعلى. ولعل من المهم أن نثبت هنا أن هذا الجدال الفكري، على أهميته بين المدارس الفكرية المختلفة في الهند، لم يتخذ طابعا هجوميا عدوانيا، ولم يحاول أي اتجاه فرض وجهة نظره بالقوة على الاتجاهات الأخرى، وذلك عبر التاريخ الديني الطويل للقارة الهندية.
3 (1) الجاينية: ديانة علمانية
الجاينية هي الديانة الثانية التي يذكر لنا تاريخ الدين اسم مؤسسها ويروي سيرة حياته. وقد ألمحنا في موضع سابق إلى أن الزرادشتية كانت الديانة الأولى التي قامت على أفكار وتعاليم وسيرة حياة مؤسس فذ، مفتتحة بذلك عصر الوحي، والأديان التي تنشأ عن تجربة روحية معممة لفرد واحد.
ولد المهافيرا، مؤسس الجاينية، في بيت ملكي في مقاطعة بيهار الحالية عام 599ق.م. على ما تذكره التقاليد الجاينية، وعندما بلغ سن الرشد تزوج وأنجبت له زوجته ابنة. ولكن الشاب كان كثير التأمل، عازفا عن حياة الترف المحيطة به، وغالبا ما كان ينسل من القصر إلى الغابة القريبة حيث كان يلتقي بجماعة من النساك المتجولين، منجذبا إلى طريقة حياتهم، واجدا في الاستماع إليهم ما يرضي ذهنه الباحث وروحه المتقدة. وعندما توفي والداه وشبت ابنته عن الطوق، قرر أن يهجر حياة الناس نهائيا، فباع كل ما يملك من ذهب وفضة وعهد بأسرته إلى أخيه الأكبر، ثم مضى في رحلة طويلة من أجل البحث عن الحقيقة. تجول المهافيرا حافيا عاريا في غابات وسهول وقرى مناطق الهند الوسطى، مؤمنا بأن إعتاق الروح من دورة الحياة والموت، لا يتم إلا بتجاهل الجسد واحتياجاته الطبيعية، وبالتزام مبدأ ال
Ahimsa ، أي عدم الإيذاء، الذي يتضمن تجنب الأذية لأي كائن حي، من الإنسان وصولا إلى أصغر حشرة يمكن رؤيتها بالعين. ولم يكن يقضي أكثر من ليلة واحدة في كل قرية، أو أكثر من خمس ليال في كل بلدة؛ كي لا تشده أية رابطة إلى مكان أو أية صلة حميمة إلى الناس. وغالبا ما كان القرويون يرون جالسا في العراء في وضعية التأمل، مستغرقا في ذاته عن كل ما حوله، غير عابئ ببرد أو ريح أو مطر. وبعد اثني عشر عاما من التطواف والتأمل، وفي إحدى جلسات استغراقه العميق، سطع النور في داخله ووصل إلى الاستنارة الكاملة، فصار جينا
Jina ، أي المنتصر، الذي قهر الموت وحرر روحه من عالم السمسارا، ومن هذه الصفة جاءت الجاينية. وعندما أفاق من استغراقه، أخذ يبشر ويجمع الأتباع يعلمهم طريق الخلاص، حتى بلغ الثانية والسبعين من عمره حيث قرر مغادرة العالم، وقطع الأواصر التي تشد الناس إلى الميلاد والشيخوخة والموت، متحررا إلى الأبد من كل ألم.
4
عاشت الجاينية بعد موت مؤسسها قرونا طويلة بين مد وجزر، وما زال لها أتباع يعيشون اليوم في منطقة بومبي بشكل رئيسي، وهم في جلهم من رجال الأعمال الناجحين.
تقوم تعاليم الجاينية على الإيمان المطلق بالإنسان كسيد وحيد لنفسه، وبقدرته على تحقيق الخلاص والانعتاق دون معونة من أية جهة علوية أو تحتية كانت. ورغم اعتقاد الجاينية بوجود كائنات متفوقة تدعى الآلهة، إلا أن هذه الكائنات خاضعة مثل الإنسان إلى دورة السمسارا، ولا ترجى منها شفاعة؛ لأن عليها أن تخلص نفسها قبل أن تكون قادرة على تخليص الآخرين. وفي هذا يقول المهافيرا: «أيها الإنسان، أنت صديق نفسك. فلماذا تبحث عن صديق خارج ذاتك؟» من هنا، فإن العالم غير مخلوق، وهو أزلي قائم بنفسه منذ القدم، وهو يتألف من مكونين هما عالم المادة وعالم الروح. تتألف المادة من ذرات دقيقة جدا تتجمع وفق أنماط معينة لتشكل صنوف المادة المتنوعة كالتراب والماء والهواء وما إلى ذلك. وهي تتدرج في الكثافة من المواد الشديدة الصلابة إلى نوع خفيف جدا من التكوينات المادية التي لا تستطيع الحواس اكتشافها لرقتها وخفتها، ومن هذه مادة الكارما التي تترسب على الأرواح فتثقل عليها نتيجة لأعمالها السيئة. أما عالم الروح، فيتألف من جماع الأرواح الفردية المنبثة في الكائنات الحية كلها، وهو عالم خير على عكس عالم المادة السيئ. والأرواح خيرة في طبيعتها وأصلها، إلا أن ما تجنيه من أعمال سيئة، يؤدي إلى تداخل عالم المادة بعالم الروح فتعلق منه بعض مواده الخفيفة في الروح، وهي مادة الكارما، فتثقل عليها وتجرها إلى تقمصات أدنى في سلم الكائنات الحية. ولا يجلو أثر هذه المادة عن الروح سوى الأعمال الصالحة، التي تجعل الروح خفيفة متخلصة من أدرانها فترتقي سلم الوجود، ربما نحو عالم الآلهة حيث تتقمص هناك جسد إله ما، ثم صعودا فصعودا حتى تحقيق الانعتاق الكامل من دورة السمسارا.
بعد تحقيقها للانعتاق الذي يأتي بالمعرفة الداخلية والسلوك القويم، تعيش الأرواح في القسم الأعلى من الكون المدعو
Isatpragbhar ، في سلام أبدي حائزة على المعرفة المطلقة والقوة المطلقة والقداسة المطلقة. وبما أن الجاينية لا تؤمن بثنائية أتمان-برهمان، وبتطابق الروح الفردية مع المطلق الكلي وذوبانها فيه، فإنها ترى أن الأرواح الفردية في حالة الانعتاق تحافظ على فرديتها ولا تذوب في كيان كلي، وهي رغم فقدانها للصفات والخصائص والعلائق، إلا أنها تبقى في حالة وعي تام وكامل. ويصف الروح المنعتقة أحد النصوص الجاينية فيقول: «إن المنعتق ليس بالطويل ولا بالقصير، وليس بالثقيل ولا بالخفيف. إنه بلا جسم؛ لأنه لن يبعث بعد ذلك أو يتناسخ، ولا شيء يصله من قريب أو بعيد بعالم المادة، إنه ليس بأنثى وليس بذكر، كما أنه ليس حيادي الجنس أيضا، إنه يدرك ويعرف، ولكننا لا نستطيع أن نعرف كيف.»
إن أقصر طريق لتحقيق التحرر الذي حققه المهافيرا، هو الزهد والتنسك والصوم وفقا لقواعد معينة، ويجب أن يترافق ذلك مع ممارسة الاستغراق الباطني (
Meditation ) الذي يعزل العقل عن وظائفه المباشرة اليومية، ويوجهه نحو تحقيق المعرفة الباطنية التي توصل إلى التحرر، بعد تطهير النفس من كل رغبة وتعلق بأشياء العالم المادي. وبما أن الناس جميعا ليسوا على درجة واحدة من الاستعداد لمثل هذا الطريق الشاق، فإن الجاينية تقسم أتباعها إلى فريقين؛ فريق الرهبان الذين نذروا أنفسهم لتحقيق الخلاص، وهم يعيشون في الأديرة والمعابد الجاينية، أو يتجولون في العراء دون مأوى، وفريق عامة المؤمنين الذين يمارسون الحياة اليومية المعتادة. وقد استنت الجاينية لهؤلاء العامة شريعة أسهل تطبيقا واتباعا من شريعة الرهبان، وتتضمن اثني عشر بندا أخلاقيا هي: (1) عدم إيذاء أو قتل أي مخلوق حي. (2) عدم الكذب. (3) عدم السرقة. (4) الإخلاص الزوجي. (5) الابتعاد عن الطمع وتكديس الثروة. (6) الابتعاد عن كل ما من شأنه تسويغ الخطيئة. (7) الاكتفاء بالحد الضروري من وسائل العيش. (8) الانتباه للخطايا التي يمكن تجنبها. (9) إفراد أوقات معينة لممارسة الاستغراق الباطني. (10) إفراد أوقات لممارسة الزهد والتنسك. (11) قضاء أوقات معينة، وعلى فترات، في سلك الرهبنة. (12) تقديم الطعام والكساء اللازم للرهبان المتفرغين لطريقة المهافيرا. وقد قادت هذه الأخلاق القويمة التي اتبعها الجاينيون إلى إكسابهم ثقة الناس واحترامهم، وإلى نجاحهم في كل المجالات العملية.
5
لا تحتوي معابد الجاينية على صور الآلهة، بل على صور للمرشدين الروحيين في أوضاع الاستغراق الباطني. أما الطقوس التي تجري في هذه المعابد فلا علاقة لها بالتقرب إلى الكائنات العليا، وإنما تتركز حول الاحتفالات التذكارية بالمراحل الخمس التي ترسم سيرة حياة المهافيرا، وهي: (1) الحمل به. (2) ولادته. (3) تزهده. (4) الاستنارة. (5) الانعتاق الأخير. وذلك إضافة إلى بعض الحركات الطقسية مثل غسل الصور المقدسة بالماء، والتلويح بالمصابيح الزيتية أمامها، وما إلى ذلك. ورغم أن الجاينية قد أدخلت إلى معتقداتها الشعبية الإيمان بالآلهة المشخصة، وبقدرة هذه الآلهة على عون الإنسان، إلا أن الآلهة بقيت جزءا من الوجود المادي الذي تعيشه الأرواح في الحياة الدنيا، ولا علاقة لها بالعوالم الأخرى التي ترحل إليها أرواح المتحررين. فالآلهة موجودة بالنسبة للناس العاديين لعونهم ومواساتهم، ولكن فقط إلى حين نجاح هؤلاء في تحقيق التحرر بقواهم الذاتية فقط.
6 (2) طريق النيرفانا
يطرح أمامنا طريق البوذا أوضح مثال على النهج الديني المتحرر من أية صلة بعلم اللاهوت، ومعرفة الآلهة بأي مفهوم لها أو تصور. فهنا، وكما في الجاينية، لا يوجد إله تقدم له فروض العبادة، ولا طقوس تقرب الإنسان من خالقه، ولا دار آخرة ترحل إليها أرواح الموتى. وأكثر من ذلك؛ فلا وجود للأرواح الفردية التي تخلد بذواتها بعد فناء أجسادها. ومع ذلك، فإن البوذية لم تبذل أي جهد لأجل نفي الإله، كما فعلت الجاينية وبعض الاتجاهات الهندوسية؛ لأن فكرة الإله لم تكن ضرورية للطريق الذي رسمه البوذا من أجل التحرر ودخول النيرفانا، فلا هي أثبتت ولا هي نفيت؛ لأن في صميم كل إثبات عقلي نوعا من النفي، وفي صميم كل نفي نوعا من الإثبات. إن ما بحث عنه البوذا هو نوع مختلف من الإثبات لحقيقة شمولية واحدة تتجاوز المنطق الذهني، وتقع فيما وراء ثنائيات هذا العالم وتقسيماته الوهمية. أما الطريق إلى ذلك فيسير بشكل معاكس لطريقة العلوم اللاهوتية. فهنا، وفي مقابل توسيط الإله وما يرتبط بعالمه من مفاهيم ورموز، يعتمد طريق البوذا على التواصل غير الذهني مع المستوى الحقيقي للوجود، بدون أفكار وبدون مفاهيم وبدون إعمال فكر. فالعقل هو جزء من عالم الظواهر المادية، عالم السمسارا الذي يمسك بالأرواح في إساره إلى ما لا نهاية إن لم تفلح في الانعتاق؛ ولذلك فإن طريق الخلاص يسير في اتجاه مغاير لاتجاه العقل، إنه طريق «اللاعقل» أو «اللافكر» على حد تعبير التاوية. فهنا، وبدلا من أن تتجه التجربة الوجودية نحو الخارج في رحلة بحث ذهنية، تنكفئ نحو الداخل في عملية استغراق باطني فردي، تؤدي بالمستغرق إلى تلمس القاع الكلي للوجود، أي النيرفانا بالمصطلح البوذي، وهي الحالة التي يتلمسها المستنير في هذه الحياة، قبل أن يدخل فيها كلية بعد الممات.
إلا أن ما يميز النيرفانا كمستوى مواز للوجود (بالمعنى الذي استخدمناه حتى الآن) عن مفهوم براهمان في الهندوسية ، هو أن البوذية لا تتعامل مع النيرفانا باعتبارها مفهوما يمكن التأمل فيه بمعزل عن التجربة الذوقية الفردية، ففي حالة النفي المطلق لكل ما نعرف، ومن غير حاجة إلى تعريف أو تقريب للأذهان بأية صيغة تتضمن المحاكاة أو التشبيه. وقد رفض البوذا طيلة حياته وضع مفهوم ذهني للنيرفانا، على طريقة حكماء الأوبانيشاد، كما رفض الدخول في الموضوعات الميتافيزيقية الأخرى التي كانت موضع جدال بين الفرق الهندوسية؛ لأن مثل هذه الموضوعات لم تكن في اعتقاده ذات أهمية مباشرة لسعي الأفراد نحو الخلاص. وفي التعاليم الأصلية المنسوبة للبوذا، نراه يوضح هذه المسألة لتلامذته على أفضل وجه: «ضعوا نصب أعينكم ما أكدته لكم وميزوه عما لم أؤكد لكم؛ فأنا لم أؤكد لكم بأن العالم أزلي، ولم أؤكد أن العالم حادث. وأنا لم أؤكد لكم بأن العالم زائل، ولم أؤكد لكم بأن العالم أبدي. أنا لم أؤكد لكم بأن الروح والجسد واحد. أنا لم أؤكد لكم بأن المستنير يتابع وجوده بعد الموت، وأنا لم أؤكد لكم بأنه لا يتابع وجوده بعد الموت، كما أني لم أؤكد لكم بأن المستنير يصير إلى حالة لا هي بالوجود ولا هي بالعدم بعد الموت. أما لماذا لم أؤكد لكم هذه الأمور؟ فلأنه لا فائدة منها، ولا علاقة لها بأساسيات تعليمي. وبالمقابل، فلقد أكدت لكم بأن وجود الإنسان شقاء، وأشرت إلى سبب هذا الشقاء، وعلمتكم الطريق لرفع الشقاء عنكم. أما لماذا أكدت لكم هذه الأمور؟ فلأنها ذات فائدة ترجى، ولأنها متصلة بتعاليمي، تزيل الرغبة من نفوسكم وتهبكم المعرفة والحكمة العليا التي تقود إلى النيرفانا.»
7
وبكلمات أخرى، فإن المسألة ليست في الطريقة التي يفلسف الإنسان بها وجوده، بل في طريقة إحساسه بهذا الوجود. من هنا فإن عليه ألا يبدد جهده الفكري في الغيبيات، بل أن يحصره في فهم رغباته والتحكم بها عن طريق الإرادة؛ لأنها مكمن الخطر عليه. ويقود هذا الموقف بالطبع إلى عدم الالتفات إلى مسألة الآلهة وجودا أو عدما؛ فالآلهة في حال وجودها هي كائنات خاضعة لدورة السمسارا، وليس لديها ما تقدمه للإنسان في كدحه نحو الخلاص؛ لذلك فإن التعبد إلى هذه الكائنات وتقديم القرابين لها، وغير ذلك من الممارسات الدينية، هي جهد ضائع يجب توفيره؛ إذ ليس للإنسان إلا نفسه.
8
ولد الأمير سدهارتا غوتاما (البوذا فيما بعد) عام 563ق.م. على ما تذكره التقاليد البوذية. وتبدي سيرة حياة سدهارتا شبها واضحا بسيرة حياة المهافيرا، إلى درجة التطابق الكامل في بعض التفاصيل؛ الأمر الذي دعا بعض الدارسين إلى الاعتقاد بأن الشخصيتين هما في الأصل شخصية واحدة؛ فكلا الرجلين ولد في بيت ملكي، ثم تزوج مبكرا، وأنجب ولدا واحدا أو بنتا، وكان منذ صغره كثير التأمل، غير قانع بما تقدمه الهندوسية الكلاسيكية من أجوبة على تساؤلاته، وكلاهما هجر عيشة الملوك وتحول إلى ناسك متجول يبحث عن سبيل لخلاص الروح البشرية، ثم جاءته ساعة الاستنارة بعد سنوات طويلة من التزهد والتأمل.
عاش الأمير سدهارتا في وقت كانت فيه تعاليم الأوبانيشاد في ذروة تأثيرها على الفكر الديني الهندي. وعندما قرر الأمير الشاب ترك زوجته الشابة وابنه الصغير، والتحول إلى حياة الزهد والتجوال، فإنه كان يتبع تقليدا هنديا شائعا يحض من بلغ أواسط العمر وأدى معظم أو كل التزاماته الاجتماعية والعائلية، على ترك الحياة التقليدية والالتحاق بالنساك الباحثين عن الحقيقة، بعيدا عن التجمعات السكنية الكبيرة. بعد قضاء ست سنوات من الزهد والتطواف كناسك هندوسي تقليدي، اكتشف أنه كان يسير في الطريق الخاطئ؛ فخلال هذه السنوات الطوال، حاول قهر جسده بالصوم والعري والسهر، كغيره من النساك الهائمين على وجوههم يحدوهم الأمل في تحقيق الخلاص لنفوسهم من دورة الحياة والموت، والنفاذ إلى أسباب السر في شبكة المايا، ولكن جهده ضاع سدى. كان يشعر كلما لجأ إلى التأمل والاستغراق، أن النفس التي يحاول تخليصها تزوغ منه، وكلما ركز انتباهه إلى أعماق فكره لسبر غوره، لم يكن يشعر إلا بجهده المبذول في التركيز، أما موضوع ذلك التركيز فغائب تماما. في النهار الذي سبق ليلة الاستنارة، وقع الأمير مغشيا عليه من الوهن، وظن صحبه من النساك أنه قد مات، ولكنه ما لبث أن تحامل على نفسه واتجه نحو جدول قريب، فاغتسل بمائه الذي أنعش جسده وفكره. وهنا قرر الكف عن سعيه وقطع صيامه، فقبل صحنا من الأرز المطبوخ قدمته إليه فتاة عابرة، وعندما انتهى من تناوله شعر بقوة في عقله وجسده، فاتجه إلى دغل قريب مع حلول المساء، حيث جلس تحت شجرة تين وارفة، وأقسم ألا يبرح مكانه حتى تأتيه الاستنارة الكاملة. ومع أول شعاع ضوء عند الفجر، استفاق سدهارتا من استغراقه العميق على الحقيقة الكاملة، متحررا من إسار المايا ودورة الحياة والموت، فصار البوذا؛ أي المستنير. ورغم أنه كان جاهزا للانعتاق والدخول في النيرفانا الأبدية، إلا أنه فضل البقاء في هذا العالم من أجل إرشاد البشر إلى الطريق الذي انكشف أمامه، فانطلق يبشر ويجمع الأتباع حتى بلغ الثمانين من عمره، وقرر أن مهمته قد انتهت، وأن أتباعه صاروا قادرين على الاستمرار بدونه.
9
إن الحقائق التي توضحت أمام البوذا قد قادته بعيدا عن المعتقدات الهندوسية. وأولى الحقائق التي قادت إلى تكوين المعتقد والسلوك البوذي، تدور حول كلمة سنسكريتية هي
Duhkha ، التي تترجم عادة بالألم أو الشقاء. هذا الشقاء هو الذي يميز حياة الإنسان في العالم، والذي كرس البوذا حياته وأرسى تعاليمه من أجل شفاء البشرية منه؛ فالولادة ألم، والمرض ألم، والفراق عمن نحب ألم، والشيخوخة ألم، والموت ألم، كل وجود الإنسان قائم على الشقاء والألم، وإلى جانب هذا الألم تقوم حياة الإنسان في هذا العالم على أمرين آخرين؛ هما «اللاثبات»
Anitya
و«اللانفس»
Anatman . فكلما حاول الإنسان فهم العالم أحس بجريانه وتبدله ولا ديمومته، وكلما تأمل في نفسه لم يستطع العثور على جوهر لهذه النفس. وفكرة اللانفس هنا هي في الواقع من أدق أفكار البوذية، ويمكن شرحها على الوجه الآتي: إذا كانت الهندوسية الكلاسيكية ترى في كل فرد جوهرا ثابتا هو
Atman ، النفس التي هي قبس من براهمان، وأن هذه النفس أو الجوهر هي التي تنتقل من جسد إلى آخر حاملة معها أعمالها السابقة (كارما)، إلى حين فلاحها في تحقيق الانعتاق (
Moksha )، فإن البوذية لا ترى في الفرد إلا تجمعا مؤقتا لعدد من المسببات التي يدعوه اجتماعها إلى الوجود في هذا العالم لمدة ما، والتي تجعله يشعر بأناه وشخصيته المتميزة. وهذه الشخصية تستمر بفعل الذاكرة التي تحفظها من الولادة إلى الممات، أما عند الموت فإن المسببات التي دعت إلى تكوين الشخصية تتحلل ويتحلل معها الفرد تماما، ولا يبقى منه سوى أعماله التي يحملها شخص آخر يتكون بالطريقة نفسها.
10
من هنا لا يمكن القول بأن الفرد يفنى تماما، ولا يمكن القول بأنه يستمر. فالأعمال باقية، وسلسلة التناسخات التي تمر عبرها هذه الأعمال، يمكن تشبيهها بسجل مفتوح تزيد عناصره أو تنقص، دونما حامل شخصي ذي جوهر ثابت ينقلها، وذلك إلى أن تحل ساعة النيرفانا والانطفاء الكامل.
وقد شبهت تعاليم البوذا وشروح تلاميذه بوسائل شتى كيفية تناسخ الكارما دون حامل؛ فهذه العملية تشبه قيامنا بطبع ختم على شمع طري، حيث تنتقل الأشكال المحفورة على الختم إلى الشمع الطري مكونة نسخة عنها، دون أن ينتقل بين هذا وذاك أي جوهر ثابت. إن الفرد خلال حياته يكون مجموعة صفات وخصائص ونمط سلوك، تصير إلى بنية مكتملة صلبة قبل موته، وهذه البنية الصلبة هي ما ينطبع على الشمع الطري لوجود جديد يتشكل في الرحم ويستعد للانطلاق إلى الحياة. ولدينا محاورة طريفة بين حكيم بوذي يدعى
Nagasena
والملك
Milinda ، تدور حول هذه النقطة، أسوقها فيما يلي:
الملك :
هل يتم التناسخ حقا دونما شيء يتناسخ أيها الحكيم؟
الحكيم :
نعم يا صاحب الجلالة، إن التناسخ يتم حقا دونما شيء يتناسخ.
الملك :
هل لنا بما يوضح هذا الأمر ويقربه إلى الذهن؟
الحكيم :
لنفرض أننا أشعلنا شمعة أخرى من هذه الشمعة، هل يتوجب على ضوء هذه أن يحل في ضوء تلك؟
الملك :
كلا أيها الحكيم.
الحكيم :
كذلك حال التناسخ، إنه يحصل دونما حاجة لانتقال شيء ملموس بين ميلادين.
الملك :
هل لنا في مثال آخر؟
الحكيم :
هل يذكر جلالتكم أنه قد حفظ في الصغر قصيدة عن أستاذه؟
الملك :
نعم أيها الحكيم.
الحكيم :
حسنا، هل تحرك شيء اسمه القصيدة بين أستاذك وبينك؟
الملك :
كلا أيها الحكيم، لا أعتقد أن شيئا ما تحرك منتقلا بينه وبيني.
الحكيم :
كذلك حال التناسخ، إنه يحصل دونما حاجة لانتقال شيء بين ميلادين.
الملك :
حقا إنك رجل قادر على الإقناع أيها الحكيم.
11
أما المسببات أو العناصر التي تدعو إلى الوجود المؤقت للشخصية الفردية أو الذات (=
self ) فعددها خمسة، هي: (1) الجسم. (2) الإدراك. (3) الإحساس. (4) الدوافع. (5) المحاكمة الذهنية. وطالما بقيت هذه العناصر مجتمعة إلى بعضها، فإن الفرد الناتج عنها يتابع صيرورته ككائن مستقل له تاريخ ومنحى حياة متميزة عن الآخرين. إلا أن هذه العناصر ليست ثابتة على حال بل في تغير دائم، والجسم يتبدل بين يوم وآخر تغيرا لا يلحظ إلا على فترات متباعدة؛ فمن كان طفلا صار الآن شابا، فكهلا فشيخا، وعندما يأتي الموت تنحل المكونات ويتبخر الشخص الذي ضمت أجزاؤه. إن ما يبدو أمامنا «شخصية» أو «ذاتا» ليس في حقيقة الأمر إلا مظهرا واسما نعطيه لتلك «الوحدة الوظيفية» المتشكلة بتأثير اجتماع وتفاعل العناصر الخمسة، والتي لا توجد إلا كنبضة عابرة في جريان الصيرورة الأبدي. وبما أنه لا وجود لجوهر ينتقل بين الشخصية التي ذابت والأخرى التي تشكلت وانطبعت بطابعها، فإن السؤال الذي يدور حول هوية الحامل الجديد، وهل هو القديم نفسه أم هو غيره، يبقى سؤالا لا معنى له على الإطلاق.
أما النقطة الأساسية التي ينبغي إثباتها، فهي أن ما يفكر به ويفعله شخص ما في حياته هذه، سوف يستمر إلى غد وإلى ما بعد غد، في حيوات قادمة لا نهاية لها. ونحن كلما تأملنا العالم من حولنا وفي داخلنا، رأيناه في حالة صيرورة وتغير، لا يوجهها ولا يتحكم بها كائن أعلى وفق غائية ما. فالظواهر كلها وهم، وكذلك الذات الفردية، ولا خلاص إلا بالخروج من عالم الجريان هذا إلى عالم الثبات والسكون الأبدي.
12
ولكن لكي نتعرف على طريق الخلاص البوذي، ينبغي أن نشير أولا إلى ما أسماه البوذا بالحقائق النبيلة الأربعة، التي لخص بها طريقه،
13
وهي:
الحقيقة الأولى:
هي أن الحياة شقاء (أو ألم). وقد عالجت هذه المسألة منذ قليل.
الحقيقة الثانية:
هي أن سبب الألم والشقاء هو الرغبة، الرغبة في الحياة وفي متعها؛ ذلك أن الرغبة لا يمكن إرضاؤها، فهي كالنار كلما أوقدتها حطبا زادت تأججا، وكلما ازداد الفرد رغبة في الحياة، كلما دفع أمامه سلسلة لا تنتهي من التناسخات المقبلة، يخلقها الطمع في استمرار وهم الوجود.
الحقيقة الثالثة:
هي أن القضاء على الشقاء ممكن، وذلك بالقضاء على الرغبة، وعدم التعلق بأسباب الحياة، وهذا من شأنه تحضير الفرد للخروج من دورة التناسخ إلى النيرفانا؛ أي من الصيرورة إلى الوجود. أما ما هو شكل هذا الوجود وما طبيعته، فأمر رفض البوذا التحدث عنه بإصرار.
الحقيقة الرابعة:
هناك طريق إلى النيرفانا، هو طريق ذو المراحل الثمانية، وهي: (أ) الرؤيا السليمة: وهنا على السالك أن يتخلص من كل الخرافات والطقوس البدائية، وخصوصا ما تعلق منها بالقرابين الحيوانية. كما عليه أن يتخلص من الاعتقاد بالأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة، والجن والعفاريت من أي نوع. وبشكل خاص عليه أن يتخلص من فكرة وجود خالق أعلى للكون يمكن أن يمد يد العون للإنسان في سعيه نحو التحرر، وأن يسلك منفردا طريق الانعتاق. (ب) الموقف الفكري السليم: فإذا آمن الإنسان مثلا بالتمييز بين الأفراد أو الجماعات أو الأجناس، فإن ما يصدر عنه من أحكام وقرارات سوف يتسبب في مزيد من الآلام له ولمن حوله. (ج) الخطاب السليم: فكل فعل يسبقه عادة كلام، وهذا الكلام يجب أن يكون خاليا من الكذب والخداع والفردية. (د) السلوك السليم: حيث يحجم الفرد عن القتل والسرقة والزنى وشرب المسكرات وما إليها، ويقبل على الصدقة والعون وحسن المعاملة. (ه) سبل العيش السليمة: وتقوم هذه السبل على أساس مكين من السلوك السليم، فلا يحصل الفرد عيشه إلا بأفضل الطرق وأنبلها. (و) السعي السليم: فعلى المرء أن يسعى من أجل ارتقائه العقلي والخلقي، من ذلك مثلا نبذ العادات السيئة واكتساب عادات حسنة، والتحرر من الميول الهدامة وتنمية الميول البناءة. (ز) اليقظة السليمة: وهي العناية المبذولة من أجل تيقظ الجسم والعقل، حيث يبقى الفرد في حالة مراقبة لأحاسيسه وأفكاره. (ح) التأمل السليم: وهو الاستغراق الباطني الذي يدفع بالسالك إلى عتبة الاستنارة. ففي جلسة الاستغراق التقليدية التي نراها في تماثيل البوذا، يقوم المستغرق بتركيز وعيه على الآن، وكأن الزمان قد توقف، فلا ماضي للوعي ولا مستقبل، في لحظة متطاولة تبدو وكأنها حاضر أبدي. ولهذا الاستغراق في الممارسة البوذية ثماني درجات، توصل الدرجة الأخيرة منها إلى النيرفانا، بعد تمرس طويل بالدرجات السبع السابقة.
فيما يتعلق بهذه الخطوات الثمانية للتخلص من الالتصاق بالحياة ودخول النيرفانا، أود أن أتقدم بملاحظتين أساسيتين؛ الأولى تتعلق بالسلوك الأخلاقي الذي تتضمنه الخطوات من 2 إلى 7؛ فهذا السلوك لا يتبع شريعة أخلاقية مفروضة من قبل أية سلطة عليا، بل هو التزام داخلي من شأنه مساعدة السالك على توليد كارما إيجابية تنتهي به إلى حالة اللافعل. فالأعمال الحسنة هي غالبا تلك الأعمال التي لا تصدر عن رغبة ولا عن طمع، وهي التي تقود في النهاية إلى عون صاحبها على التخلص من الرغبة في استمرار العيش، وصولا إلى الحالة التي يعزف السالك فيها عن إتيان أي فعل حسنا كان أم سيئا؛ لأن أي فعل في النهاية هو فعل موجه نحو التشبث بالحياة. والملاحظة الثانية تتعلق بالفهم الصحيح لموقف السالك البوذي من حياته الحالية؛ فالخطوات السبع، التي أشرت إليها أعلاه، تظهر بوضوح أن البوذي يتخذ من حياته وحياة الآخرين موقفا إيجابيا لا سلبيا عدميا، وهو بالتزامه المعايير الأخلاقية لا يدير ظهره للمجتمع والحياة، بل ينخرط فيهما دونما تعلق أو تشبث، ويمارس الفعل الذي لا يصدر عن رغبة وطمع، وذلك تمهيدا لقطع سلسلة السمسارا التي تولدها الرغبة في استمرار العيش. فجهده والحالة هذه إنما ينصب على عدم الولادة الجديدة في تقمص كارمي آخر، لا على تدمير حياته الحالية أو إدارة ظهره لها، وحالة اللافعل التي يتوصل إليها في النهاية إنما تأتي بعد أن يكون قد أدى التزاماته الاجتماعية والأسرية.
إن صرامة الطريق الذي وضعه بوذا للتحرر، قد أدى بشكل طبيعي إلى انقسام المجتمع البوذي إلى شريحتين، كما هو حال المجتمع الجايني، شريحة الرهبان المنذورين للخلاص، وشريحة الناس العاديين الذين يتبعون منهجا أقل صرامة لا يؤدي إلى الانعتاق بل إلى تناسخات مقبلة تمهد له. وقد قادت صرامة البوذية الأصلية، التي تنتشر اليوم في سيريلانكا وبورما وتايلاند، إلى نشوء مدارس بوذية تجديدية، أهمها بوذية المهايانا التي انتشرت نحو الصين واليابان وبقية أنحاء الشرق الأقصى. وبما أن مجالنا هنا لا يتسع لمعالجة الفوارق بين الاتجاهين، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أهمها في اعتقادنا، وهو لجوء المهايانا إلى خلق كائنات ما ورائية شفيعة من شأنها مد يد العون للبشر في حياتهم وعونهم على تحقيق الخلاص. •••
وهكذا، فمع انتهائنا من استقصاء المعتقد البوذي الذي لم ير في الحياة إلا تدفقا وهميا لا ثبات له إلا في النيرفانا، ولم ير في عالم الناسوت إلا ظلا لا قوام له يلقيه عالم اللاهوت مصطنعا ما يشبه الوجود وما هو بالوجود، نكون قد أكملنا رحلتنا في معتقدات الحضارات الكبرى للشرق الأقصى.
إن النتيجة التي أوصلنا إليها استقصاؤنا للمعتقدات الشرقية، تؤكد لنا أننا ما زلنا أمام المفاهيم الدينية الأساسية لإنسان العصر الحجري، ولأشكالها التي استمرت في الثقافات البدائية، وأن المعتقد الديني الإنساني واحد في أساسه وأصوله. إن بضعة الآلاف من السنين التي قضاها الإنسان المتحضر وهو يفلسف معتقده الديني فيصبه في هذا القالب النظري أو ذاك، لم يؤد به إلا إلى قول الأشياء القديمة نفسها وفق صيغ جديدة ظن بها تقديم الجديد، وما هو بالجديد. ولقد تعلمنا شيئا على جانب كبير من الأهمية، خلال رحلتنا الاستقصائية المشرقية هذه، يتعلق بدور الألوهة المشخصة في الحياة الدينية للإنسان، وعلاقتها بالمعتقد الأصلي الأساسي للألوهة غير المشخصة؛ فالأصل في الألوهة التجريد والتنزيه، والإنسان الأول لم يجعل لمجاله القدسي ممثلين يمشون على الأرض أو يتحركون في السماء، ولم يرسم لهم صورة ولم يتخيلهم بأي شكل من الأشكال، بل آمن بالمجال القدسي، ورأى آثار قوته السارية في مظاهر الكون، فجعل له شارة هي رمزه المرئي في عالم الناسوت. وعندما ظهرت الآلهة عبر المراحل الدينية اللاحقة، فإنها حلت محل الشارة المقدسة القديمة، وصارت الرمز الذي يتوصل الإنسان من خلاله إلى المجال القدسي. ثم إن القوة السارية قد حلت في هذه الكائنات، وبدلا من تلك القوة الغفلة غير المشخصة، صار لدينا عدد من القوى المتجزئة المتخصصة.
ولكن الشيء المهم الذي برهنا عليه ، هو أن الآلهة المشخصة لم تحل قط محل الألوهة غير المشخصة، بل بقيت بوابة الخيال إليها، ونقطة ارتكاز يستند إليها في صعوده التدريجي من عالم الملموسات إلى الفراغ المطلق اللانهائي.
وقد علمتنا الهندوسية بشكل خاص كيف ينتقل الوعي بالمطلق عبر درجات متتالية للتشخيص، وصولا إلى تشخص المطلق نفسه، وكيف أن الصورة المشخصة للمطلق ما تلبث أن تذوب وتتلاشى بعد أن نستند إليها للوصول إلى القاع الكلي للوجود. ورأينا كيف أن التشخيص الهندوسي (سواء كان تشخيصا ماديا يرسم صورة مرئية للإله من حجر أو خشب، أم تشخيصا ذهنيا بتصور الإله في هيئة معينة، ويعزو إليه أخلاقا وخصائص وسيرة حياة وعلائق واضحة، وإرادة ومقاصد محددة في عالم البشر)، لا يقوم إلا كحالة وسيطة في علاقة الإنسان بالمستوى القدسي، ولا يقود بالنتيجة إلا إليه. يقول واحد من حكماء التانترية في العصر الحديث، وهو راما كريشنا، حول عبادة الإلهة مايا- شاكتي ما يلي: «عندما أفكر بالكائن الأعلى في حالة السكون واللافعل، حيث لا خلق ولا حفظ ولا دمار، فإنني أدعوه براهمان؛ الإله المنزه. وعندما أفكر به في حالة الفعل والخلق والحفظ فالدمار، أدعوه مايا أو شاكتي؛ الإله المشخص. غير أن التمييز بين هذين الحالين لا يعني اختلافا؛ ذلك أن المنزه والمشخص هما واحد، تماما كما هو حال الحليب وبياضه، والماسة وبريقها، والحية وتلويها؛ حيث لا يمكن فصل أحد هذين الوجهين عن الآخر أو تصورهما في حال استقلالهما. إن الأم الإلهية كالي (= مايا، شاكتي) وبراهمان هما واحد. إن كالي ليست سوى ذاك الذي تدعونه برهمان. كالي هي الطاقة البدئية، وأن تقبل كالي يعني أن تقبل براهمان؛ لأن براهمان وقوته متطابقان.»
14
وهذا يشبه قول اللاهوت المسيحي بأن الآب والابن هما واحد؛ فالآب هو المطلق السرمدي الذي لا يتصل بالكون المخلوق إلا من خلال قوته التي يمثلها الابن؛ فالابن هو الكلمة الذي كان عند الله منذ الأزل، والذي به تم خلق العالم، وهو الذي رسم في البدء دائرة على وجه الغمر، فحدد معالم الكون وأخرجه من لجة العماء إلى طور النظام، وهو الذي تجسد في يسوع ليشفع للبشر وينقذهم من عبء الخطيئة إلى رحاب السماء، فكان الشفيع والوسيط بين الله والناس. وليس التثليث المسيحي في الواقع إلا صياغة لاهوتية موفقة للجميع بين التنزيه والتشخيص؛ الواحد هو المطلق المنزه، والثلاثة هم المطلق المشخص. وعندما نقول ثلاثة في واحد، فإننا ننطلق من أطراف الدائرة نحو مركزها. وعندما نقول واحد في ثلاثة، فإننا نصدر عن النقطة المتلاشية في المركز نحو محيطها.
هذه الأفكار الابتدائية التي سقتها أعلاه حول اللاهوت المسيحي، يمكن تطويرها وتعميقها لتشمل الأفكار اللاهوتية منذ القديس أوغسطين وتوما الأكويني، وصولا إلى المعلم إيكهارت في العصور الحديثة. كما يمكن الشروع في جهد معادل من أجل استقصاء لاهوت ما تبقى لدينا من الأديان الكبرى الموثقة. ولكن هذا الكتاب، كما أوضحت سابقا، ليس كتابا في تاريخ الدين، بل هو اكتناه للظاهرة الدينية عند الإنسان من خلال دراسة معمقة لأهم نماذجها التاريخية، التي نعتقد بتمثيلها للبقية غير المدروسة. من هنا فإن المجال لا يتسع لعرض واستقصاء مزيد من الأمثلة، عدا واحدا.
ستكون محطتنا الأخيرة عند التصوف الإسلامي؛ فالفكر الصوفي في الإسلام هو الذي وضع مسألة التشخيص والتجريد، أو باستخدام المصطلح الإسلامي: التشبيه والتنزيه، في إطارها الصحيح ضمن المعتقد الإسلامي. إن الدرس الأخير الذي يعلمنا إياه المعتقد الصوفي، هو أن تصور الله في صورة ما، وصنع منحوتات له ورسوم، ليس الفيصل في التفريق بين التنزيه والتشبيه؛ لأن الصورة الفكرية لله قد ترفع في بعض الأحيان وثنا ذهنيا يفوق في صلابته أي وثن مصنوع من الجلمود. أما الصورة الحجرية فربما فتحت آفاق الذهن والروح معا إلى ما وراء الحجر الذي قد يشف عن أكثر المعتقدات تنزيها.
الفصل الخامس
إله المتصوفة
ابتدأ التصوف كسلوك زهدي في الثقافة الإسلامية، منذ البدايات الأولى للاحتكاك مع الثقافة المسيحية في مصر وبلاد الشام، ومع الثقافات المشرقية الأخرى فيما بين فارس وحدود الصين. أما المعتقد الصوفي، فرغم أن ملامحه الأولى قد تشكلت على يد متصوفة من أمثال الجنيد منذ أواخر القرن الثالث الهجري، إلا أن صياغته النظرية المتماسكة لم تكتمل حتى القرن السادس الهجري، وذلك على يد الغزالي ومحيي الدين بن عربي، ومن بعدهما عبد الكريم الجيلي في القرن السابع. ولسوف أعتمد في عرضي هذا لمعتقد المتصوفة على الجيلي وابن عربي دون سواهما؛ لأني أرى في أعمالهما خلاصة للتجربة الصوفية الإسلامية بكل أبعادها الروحية والفكرية.
يربط الفكر الصوفي بين مفهومين للألوهة ساريين في كتاب الله وسنة رسوله؛ المفهوم الأول يأتي من آيات مثل:
يد الله فوق أيديهم (الفتح: 10)،
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (آل عمران: 54). والمفهوم الثاني يأتي من آيات مثل:
ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (الواقعة: 85)، و
إن الله لغني عن العالمين (العنكبوت: 6). ومن أحاديث قدسية مثل: «ما وسعتني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المؤمن.» الذي يذكرنا بقول الأوبانيشاد: «هو رب اليوم ورب الغد، ولكن القلب الذي بحجم إصبع الإبهام مقر له ومكان.» واللقاء بين هذين المفهومين في الفكر الصوفي يأتي من وحدتهما الضمنية، واختلافهما في الظهور والتجلي؛ ذلك أن الأصل في الألوهة الكمون والغنى، وما درجات التشخيص التي تتجلى بها سوى أمر اقتضاه ظهور الكون عنها؛ فالموجودات هي التي تتطلب من الألوهة الصفات والأسماء، وبغير الموجودات تبقى الألوهة ذاتا مستغرقة في نفسها. يقول عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل: «إن ذات الله سبحانه وتعالى عبارة عن نفسه التي هو بها موجود؛ لأنه قائم بنفسه. فالذات لا تدرك بمفهوم عبارة، ولا تفهم بمعلوم إشارة؛ لأن الشيء إنما يفهم بما يناسبه فيطابقه، أو بما ينافيه فيضاده. وليس لذاته في الوجود مناسب ولا مطابق ولا مناف ولا مضاد؛ فارتفع من حيث الاصطلاح إذن معناه في الكلام، وانتفى بذلك أن يدرك للأنام. المتكلم في ذات الله صامت، والناظر باهت. عز أن تدركه العقول والأفهام، وجل أن تجول فيه الأفهام والأفكار، لا يتعلق بكنهه حديث العلم ولا قديمه ... وهذا الوجود المطلق هو الذات الساذج الذي لا ظهور فيه لاسم أو نعت أو اسم أو إضافة، ولا لغير ذلك .»
1
المرتبة الأولى في خروج الألوهة من كمونها وغناها، يؤشر إليها ظهور الممكنات فيها جميعا، ولكن بحكم البطون لا بحكم الظهور؛ فكل ما سيظهر للوجود فيما بعد، كان في حيز الممكن الثابت في الذات الإلهية الغنية. فهنا يتجلى المطلق في نفسه ولنفسه، وتتأمل الألوهة نفسها دون أن تلحقها الاعتبارات والإضافات. ويدعى هذا التجلي الأول للذات بالأحدية. يقول الجيلي: «الأحدية عبارة عن مجلى الذات، ليس للأسماء ولا للصفات فيه ظهور؛ فهي اسم لصرافة الذات المجردة عن الاعتبارات الحقية والخلقية. وليس لتجلي الأحدية في الأكوان مظهر أتم منك إذا استغرقت في ذاتك، ونسيت اعتباراتك، وأخذت بك فيك عن ظواهرك، فكنت أنت في أنت من غير أن ينسب إليك شيء مما تستحقه من الأوصاف. ومجلى الأحدية هو أول تنزلات الذات من ظلمة العماء إلى نور المجالي، وهو أعلى المجالي؛ لأن كل مجلى بعده لا بد أن يتخصص.»
2
والتخصص هو أن تدير الألوهة وجهها نحو الخارج وتخرج من بطونها وكمونها، فتنتقل بذلك إلى التجلي الثاني المدعو بالألوهية، وهو الذي يظهره نشوء الثنائيات ضمن الأحدية، وهنا يظهر الاسم «الله»، وهو الاسم الذي يبصر الحق به نفسه، ويتوصل الخلق به إلى معرفة الألوهية. يقول: «الألوهية أعلى مظاهر الذات؛ إذ له الحيطة والشمول على كل مظهر، وهيمنة على كل اسم أو وصف. واعلم أن جميع حقائق الوجود وحفظها في مراتبها تسمى الألوهية. وأعني بحقائق الوجود الحق والخلق؛ فشمول المراتب الإلهية وجميع المراتب الكونية، وإعطاء كل حقه من مرتبة الوجود؛ هو معنى الألوهية. والله اسم لرب هذه المرتبة ... والحق سبحانه وتعالى لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق أسمائه وصفاته، وكل الأسماء والصفات واقع تحت الاسم: الله. واعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل هذا الاسم هيولى كمال صور المعاني الإلهية، وكان كل من تجليات الحق التي لنفسه في نفسه داخلا تحت حيطة هذا الاسم، وما بعده إلا الكلمة المحضة التي تسمى بطون الذات في الذات. وهذا الاسم هو نور تلك الظلمة، فيه يبصر الحق نفسه، وبه يتوصل الخلق إلى معرفته ... واعلم أن الوجود والعدم متقابلان، وفلك الألوهية محيط بهما؛ لأن الألوهية تجمع الضدين من القديم والحديث، والحق الخلق، والوجود والعدم. يظهر الحق فيها بصورة الخلق، مثل قوله في الحديث الشريف: رأيت ربي في صورة شاب أمرد. ويظهر الخلق بصورة الحق مثل قوله: خلق آدم على صورته.»
3
فالألوهية والحالة هذه هي برزخ بين الذات الكامنة والخلق الذي يصدر عنها، إنها مرتبة الذات من حيث كونها إلها يعبد ويقدس، ومن خلالها يتوصل العقل إلى معرفة الألوهة. ويمكن هنا إجراء مقارنة مع التصورات التانترية الهندوسية في أيقونة جزيرة الدرر؛ فالذات المستغرقة في نفسها لنفسها في الأحدية تقابل شيفا الهاجع؛ المطلق المستغني بنفسه عن العالمين؛ أما الألوهية التي تظهر فيها التناقضات والثنائيات، فتقابل شيفا الصاحي الذي يستعد لخلق العالم بواسطة المايا؛ قوة الألوهة الخالقة. كما يمكن أيضا إجراء مقارنة بين فلك الألوهية الذي يحيط بالوجود والعدم، بدائرة التاو التي تحيط بالضدين الأساسيين في الفكر التاوي.
عندما تدخل الألوهية طور الخلق، نأتي إلى تجلي الرحمانية. وهنا تتجلى الألوهة كقدرة خالقة لكل مظاهر الكون. إلا أن الخلق هنا ليس خلق صانع ماهر يشكل العالم بيديه، وإنما خلق ألوهة تنقسم إلى حق وخلق، دون أن تفقد وحدتها وتكاملها. وهذان المصطلحان اللذان يتكرران في الأدبيات الصوفية كلها يشيران إلى المظهر المزدوج للحقيقة الواحدة؛ فالوجود خلق من حيث مظاهره، وحق (أو ألوهة مولدة) من حيث جوهره. ويتطلب الخلق عند الجيلي، أولا، أن تظهر الألوهية بحقائق أسمائها وصفاتها، فتظهر أولا بالأسماء الذاتية المقتصرة على الحق، مثل الصمد والقيوم وما إليها؛ ثم تظهر بأوصافها العامة التي تشترك بها مع الخلق، مثل السميع والبصير وما إليها. يقول: «والاسم الظاهر في هذه المرتبة هو الرحمن. واختصاص هذه المرتبة بهذا الاسم من أجل الرحمة الشاملة لكل المراتب الحقية والخلقية؛ فإن بظهوره في المراتب الحقية ظهرت المراتب الخلقية، وصارت الرحمة من الحضرة الرحمانية عامة في جميع الموجودات. فأول رحمة رحم الله بها الموجودات أن أوجد العالم من نفسه؛ ولهذا سرى ظهوره في الموجودات، فظهر كماله في كل جزء وفرد، ولم يتعدد بتعدد مظاهره، بل هو واحد في جميع تلك المظاهر، أحد على ما تقتضيه ذاته الكريمة.»
4
ويشبه الجيلي في أكثر من موضع انقسام الألوهة إلى حق وخلق، وصدور المخلوقات عنها دون أن تفقد وحدتها وتكاملها، بالجليد أو الثلج الذي يتكون على أطراف البحيرة أو سطحها؛ فهذا الثلج إذا نظر إليه من حيث ظاهره بدا شيئا مختلفا عن الماء، وإذا نظر إليه من حيث جوهره بدا عين الماء؛ فاسم الثلج والحالة هذه هو اسم مؤقت لطور عابر يصير إليه الماء، فإذا ذاب الثلج عاد إلى أصله واسمه. يقول: «فكان الحق هيولى العالم؛ فمثل العالم مثل الثلج، والحق سبحانه وتعالى الماء، الذي هو أصل هذا الثلج؛ فاسم تلك الثلجة على ذلك المنعقد معار، واسم المائية عليه حقيقة.»
5
آخر مجالي الألوهة هو الربوبية، وهو المجلى الخارجي المختص حصرا بعالم الخلق، والرب اسم لهذه المرتبة. ويقع تحت هذا الاسم كل الأسماء التي يتطلبها وجود المخلوقات، مثل: المريد والملك والقهار والمجيب والمعز والمذل ... إلخ. فإذا كانت الذات تمثل بطون الألوهة المطلق وغناها الكامل عن العالمين، فإن الربوبية هي ظاهر الألوهة الذي يتجه نحو عالم الخلق ويتطلبه. يقول: «الربوبية اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تتطلبها الموجودات؛ فدخل تحتها الاسم العليم والسميع والبصير والمريد والملك وما أشبه ذلك؛ لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقيم عليه؛ فالعليم يقتضي المعلوم، والقادر يقتضي مقدورا عليه، والمريد يطلب مرادا، وما أشبه ذلك. واعلم أن للربوبية تجليين؛ تجليا معنويا وتجليا صوريا؛ فالتجلي المعنوي ظهوره في أسمائه وصفاته على ما اقتضاه القانون التنزيهي من أنواع الكمالات، والتجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على ما اقتضاه القانون الخلقي التشبيهي.»
6
إن وحدة هذين التجليين للربوبية تظهر ذوقا لمن يناجيهم الحق، فيسمع المناجي خطابا لا يصدر عن جهة ولا عن جارحة: «أنت خلاصة الأكوان والمقصود بالوجود والحدثان. تقرب إلى شهودي، فقد تقربت إليك بوجودي. لا تبتعد فإني أنا الذي قلت: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. لا تتقيد باسم العبد؛ فلولا العبد ما كان الرب. أنت أظهرتني كما أنا أظهرتك؛ فلولا عبوديتك لم تظهر لي ربوبية. أنت أوجدتني كما أنا أوجدتك؛ فلولا وجودك ما كان وجودي موجودا.»
7
وكما أن خروج الألوهة عن كمونها يتم عبر مجال ومراتب متدرجة متتابعة، كذلك يكتشف الإنسان عالم الألوهة من خلال هذه المراتب نفسها، وبما يتلاءم واستعداد كل فرد لوطأة الصلة مع المرتبة؛ فالصلة الأولى بين عالم الناسوت وعالم اللاهوت تعقد مع المجلى الخارجي؛ مجلى الربوبية، ومع الاسم الرب الذي هو إله الشرائع. وعامة الناس يبقون عادة عند هذه المرتبة ولا يستطيعون تجاوزها في معرفة الحق. يقول: «ثم إن الله تعالى تعبد للمسلمين من حيث اسمه الرب؛ فهم مقتدون بأوامره ونواهيه؛ لأن أول آية أنزلها الله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق ، فقرن الأمر بالربوبية لأنها محله؛ لذلك فرضت عليهم العبادات؛ لأن المربوب يلزمه عادة عبادة ربه؛ فجميع عوام المسلمين عابدون لله تعالى من حيث اسمه الرب، لا يمكنهم أن يعبدوه من غير ذلك. بخلاف العارفين؛ فإنهم يعبدونه من حيث اسمه الرحمن؛ لتجلي وجوده الساري في جميع الموجودات عليهم. بخلاف المحققين؛ فإن عبادتهم له سبحانه وتعالى من حيث اسمه الله؛ لثنائهم عليه بما يستحقه من الأسماء والصفات التي اتصفوا بها؛ لأن حقيقة الثناء أن تتصف بما وصفته به من الاسم، أو الصفة التي أثنيت عليه وحمدته بها، فهم عباد الله المحققون، والعارفون عباد الرحمن، وعامة المسلمين عباد الرب. فمقام المحققين:
الحمد لله ، ومقام العارفين:
الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض ، ومقام عامة المسلمين:
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
8
إن تنزلات الذات، كما يراها الجيلي هنا، من ظلمة العماء إلى مجالي الشهود، عبر عدد من المراتب التي تقوم الألوهة من خلالها بإطلاق الزمان ومد المكان وإظهار الموجودات فيما بينهما، وقيام الإنسان بالتعرف على الألوهة مقتديا بتجلياتها ابتداء من الخارج متوغلا نحو الداخل، ليحضر في أذهاننا صورة المندالا التانترية، التي ترمز مثلثاتها الخمسة ذات الرءوس المتجه نحو الأعلى إلى التكشف التدريجي لعالم اللاهوت في عالم الناسوت، ومثلثاتها ذات الرءوس المتجهة نحو الأسفل إلى توغل العارفين في مراتب الألوهة؛ من الحد الخارجي مايا إلى النقطة المتلاشية عند المركز براهمان.
هذه هي خلاصة المعتقد الصوفي في الألوهة، كما صاغها الشيخ عبد الكريم الجيلي، وسأنتقل الآن إلى تقديم خلاصة لفكر ابن عربي
9
حول المسألة ذاتها؛ فالاثنان متفقان في كل الأساسيات، مع اختلاف في التفاصيل.
يقوم البناء السامق لصوفية ابن عربي على نظرية التجلي؛ فكل ما هو موجود في عالم الظواهر عبارة عن مجلى أو مظهر إلهي؛ فالحق يتجلى في الأشياء أي يظهر فيها، فيتكثر دون أن ينقسم. ولتقريب مفهوم التكثر من غير انقسام، يسوق ابن عربي مثالا بديعا مستمدا من الأعداد، فيقول: إن الواحد العددي هو جوهر الاثنين والثلاثة وسائر الأعداد، فهو يستصحبها في الظهور دون أن ينقسم، وهو في كل عدد يحافظ على إشارة واحدة ودلالة واحدة، وهي إشارته إلى ذاته ودلالته على هذه الذاتية. أما بقية الأعداد فلكل منها دلالتان؛ دلالة على نفسه ودلالة على الواحد المندرج أو المتكرر فيه. كذلك هو شأن الحق والعالم؛ فالذات الإلهية إذا نظر إليها معراة عن جميع العلاقات والنسب، لم يكن لها دلالة ولا إشارة إلا إلى نفسها، أما العالم الذي هو كثرة من صور الوجود، فله إشارتان؛ إشارة إلى نفسه وإشارة إلى الذات المندرجة في كل صورة من صوره.
10
فظهور العالم إذا، ليس خلقا عن عدم، بل هو خروج من وجود علمي إلى وجود عيني. فالله يظهر الممكنات التي يدعوها ابن عربي بالأعيان الثابتة إلى الوجود المحسوس، ويعطيها وجودها باسمه الظاهر؛ فهو الظاهر في كل صورة والمتجلي في كل وجه، وهو الوجود الواحد، والأشياء موجودة به معدومة بنفسها. إلا أن وجود الحق لا ينحصر ويتحدد بظهوره في المظاهر، بل إن له وجودا متعاليا خاصا به، فبينما يتجه اسمه الظاهر نحو الخارج، فإن اسمه الباطن يتجه نحو الغيب ولا يكون فيه تجل أبدا. وهذا ما يفرق بين المفهوم المادي لوحدة الوجود، الذي يقول بأنه لا وجود لشيء سوى العالم الذي يقال له الله، ومفهوم ابن عربي.
11
يقول في الفتوحات المكية: «فهو تعالى المتجلي في كل وجه، والمطلوب في كل آية، والمنظور إليه بكل عين، والمعبود في كل معبود، والمقصود في الغيب والشهود، لا يفقده أحد من خلقه بفطرته وجبلته؛ فجميع العالم له مصل وإليه ساجد.» وأيضا: «ما ثم إلا الله، والممكنات ثابتة» (ج4، 410)، و(ج3، 449).
والمقصود بالممكنات الثابتة هو ثبوت الممكنات أو تجذرها في العدم؛ فهي الأعيان أو المثل الثابتة في علم الله، المعدومة في العالم الخارجي. وهذه الأعيان رغم ظهورها في الوجود الخارجي، فإنها لم تفارق عالم الإمكان. يقول في الفتوحات: «ثم لما ظهرت في أعيانها ... فإن الإمكان ما فارقها حكمه ... فلما كان الإمكان لا يفارقها طرفة عين ولا يصح خروجها منه ... فما لها خروج من خزائن إمكانها، وإنما الحق سبحانه فتح أبواب هذه الخزائن حتى نظرنا إليها ونظرت إلينا، ونحن فيها وخارجون عنها» (ج3، 193).
ذلك أن الممكنات لا تنتقل أبدا إلى حيز الوجود الفعلي، رغم أننا نطلق عليها اسم الموجودات؛ لأن الموجود الحقيقي هو الذي يستطيع أن يسند وجوده بنفسه دون أي مدد من جهة خارجة عنه؛ وهذا محال بالنسبة إلى الكثرة الظاهرية؛ لأن وجودها مستمد من الذات الإلهية التي تمدها به في كل لحظة. وهذا ما يقودنا إلى مفهومين آخرين من المفاهيم الأساسية لوحدة الوجود عند ابن عربي، وهما: الخلق الدائم، والوجود الخيال.
إن خلق الله العالم، أي إظهاره من خزائن الممكن، لم يحدث مرة واحدة في بداية الزمن، وإنما هو خلق دائم يجري في كل لحظة . فمع كل نفس من أنفاس الإنسان يعود إلى الفناء ثم يسترده الرحمن إلى الوجود ثانية. والإيقاع ذاته يسري على بقية الموجودات التي هي فانية فموجودة ففانية مرة أخرى، وهكذا إلى ما شاء الله. يقول في الفتوحات: «إن العالم الحسي والكون الثابت - أي المزروع في العدم - استحالات مع الأنفاس لا تدركها الأبصار ولا الحواس، وذلك لتغيير الأصل الذي يمده، وهو - أي الأصل - التحول الإلهي في الصور ... وهو قوله تعالى:
كل يوم هو في شأن ... فلما كان الله كل يوم هو في شأن، كان تقليب العالم، الذي هو صورة هذا القالب، من حال إلى حال مع الأنفاس، فلا يثبت العالم قط على حال واحدة، زمانا فردا؛ لأن الله خلاق على الدوام. ولو بقي العالم على حال واحد زمانين لاتصف بالغنى عن الله» (ج3، 198-199). وأيضا: «فهو خلاق على الدوام، والعالم مفتقر إليه تعالى على الدوام افتقارا ذاتيا» (ج2، 208). وأيضا: «واعلم أنه ليس في العالم سكون البتة، وإنما هو متقلب أبدا دائما من حال إلى حال، دنيا وآخرة، ظاهرا وباطنا» (ج3، 303-304).
في كل لحظة تغيب صور المخلوقات لتحل محلها صور أخرى فيما يأتي من اللحظات، ورغم أن هذه الصور الأخرى تبدو استمرارا للصور الغائبة، إلا أنها جديدة كل الجدة، وهي تحل محل سابقتها دون فاصل زمني ملحوظ؛ لأن الذهاب هو في الآن نفسه بقاء لما يظهره التجلي الثاني. يقول في الفصوص: «إن كل تجل يعطي خلقا جديدا ويذهب بخلق؛ فذهابه هو عين الفناء عن التجلي، والبقاء لما يعطيه التجلي الآخر، فافهم» (الفص 12، فقرة 14ت).
لقد أدرك ابن عربي بحدسه المبدع ما توصلت إليه اليوم فيزياء الكم حول طبيعة الكون والمادة؛ فالوجود عبارة عن طاقة ذات ذبذبات متغيرة، وليست تبديات هذه الطاقة نفسها والظواهر المرئية التي تشكلها إلا اختلافات في درجة الذبذبة. وسواء رأينا إلى هذه الطاقة في طبيعتها الموجية أو الكمومية، فإنها تأتي دوما على دفقات متقطعة، لا كسيالة مستمرة. فالوجود كله والحالة هذه يحدث بشكل متقطع رغم استمراريته الظاهرة لنا.
ثم إن إمداد الصور بقوامها من قبل الحق يتم بفعل الفيض، وهو على نوعين؛ الفيض الأقدس والفيض المقدس. فالفيض الأقدس هو تجلي الذات الأحدية لنفسها في جميع الممكنات التي لم تخرج إلى عالم المظاهر بعد، بل هي مجرد قوابل للوجود، وهي الأعيان الثابتة في العدم التي ألمحنا إليها سابقا. فإذا ظهرت هذه الأعيان الثابتة في العالم المحسوس، كان الفيض المقدس، الذي يتجلى الواحد من خلالها في صور الكثرة الوجودية. ولهذا الفيض المقدس صفة الدوام والاستمرار؛ فلو جرى الفيض مرة واحدة، بداءة، واستمرت الممكنات في العالم الحسي بذاتها بعده، لقامت المخلوقات بقواها الذاتية في غنى عن موجدها، وهذا محال. من هنا لا بد أن يكون الفيض مستمرا، والخلق دائما في كل لحظة، وأن يكون الله خالقا على الدوام.
12
يقول: «ويتطرق إليهم، أي إلى المخلوقات، الأفول والشروق، والتغير والبطلان، والتنقل من حالة إلى حالة أبدا؛
كما بدأكم تعودون (قرآن كريم). فهم الموجودون بغيرهم، والوجود لهم عارية ومجاز ومستعار. ولو كان الوجود لهم حقيقة لأشبه وجود الحق، تعالى الله علوا كبيرا. ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكل شيء هالك إلا وجهه. فبهذا نفهم أنه لا يسع مع وجوده تعالى شيء البتة؛ لأن البطلان يتطرق إلى الأشياء مع الخطرات، وما استفادت الممكنات من الحق تعالى إنما هو شروق شمس الإيجاد عليهم، ولو أمسك تجديد الإيجاد عنهم طرفة عين لانعدموا بلا زمان في أسرع من طرف العين» (تذكرة الخواص، 4).
13
وينجم عن قول ابن عربي بالخلق المستمر، واتصال المخلوقات بخالقها اتصالا غير مكاني ولا زماني، يهبها الوجود في كل لحظة، تصور للكون كمتصل مندمج غير منقطع؛ فكل حقيقة أو مرتبة في العالم متصلة بغيرها، بحيث تستمد من الأعلى وتمد الأدنى. ويجري هذا الإمداد عبر ما يدعوه ابن عربي بالرقائق. والرقائق هي صلات ممتدة بين الحقائق تشبه في رقتها أشعة الشمس في امتدادها إلى البصر؛ فكل حقيقة يشع منها رقائق تربطها بالحقائق الأعلى والأدنى، وعلى هذه الرقائق يصل الإمداد العلمي والوجودي من الحقائق الأعلى إلى هذه الحقيقة، وعليها توصيل الإمداد إلى الحقائق الأدنى.
14
وهذا ما يوصلنا إلى آخر الجوانب المهمة في معتقد وحدة الوجود، وهو: الكون الخيال.
فإذا كان الوجود الحقيقي هو لله وحده، فإن كل وجود آخر لا يعدو أن يكون خيالا، أو بالأحرى نتاج فعل الخيال الخلاق عند الذات الإلهية؛ فالحياة حلم، وكذلك كل ما نراه من صور الوجود الخارجي، فإنها خيال في خيال. وإلى هذا يشير الحديث الشريف الذي يقول: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.» يقول في الفصوص: «فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال؛ أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق، وليس كذلك في نفس الأمر ... فاعلم أنك خيال، وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا، خيال. فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو لله، خاصة من حيث ذاته لا من حيث أسماؤه» (الفص 9، فقرة 7 و8).
والخيال هو هذا الجريان الدائم، وما نراه عن تبدل في عالم الخلق. يقول في الفتوحات: «وحقيقة الخيال التبدل في كل حال والظهور في كل صورة، فلا وجود حقيقي لا يقبل التبدل في كل حال والظهور في كل صورة، فلا وجود حقيقي لا يقبل التبدل إلا الله. فما في الوجود المحقق إلا الله، وأما ما سواه فهو الوجود الخيالي ... فكل ما سوى ذات الحق خيال حائل وظل زائل، فلا يبقى كون ... ولا شيء مما سوى الله على حالة واحدة، بل تتبدل من صورة إلى صورة دائما وأبدا» (ج2، 313).
والخيال قدرة على التشكيل؛ ولذلك فإنه معادل للقدرة الإلهية ذاتها. يقول في الفتوحات: «ما أوجد الله أعظم من الخيال منزلة ولا أعم حكما، يسري حكمه في جميع الموجودات والمعدومات من محال وغيره؛ فليس للقدرة الإلهية فيما أوجدته أعظم وجودا من الخيال، منه ظهرت القدرة الإلهية ... وهو حضرة المجلى الإلهي في القيامة» (ج3، 508).
مع هذا المقطع من الفتوحات المكية تكتمل أمامنا الخطوط الرئيسية لمفهوم الخيال عند ابن عربي. ونستطيع هنا أن نلاحظ مدى اقتراب هذا المفهوم عنده من مفهوم ال
Anitya
في البوذية، والذي يؤدي معنى الجريان المستمر والتغير الدائم لكل ما في الوجود، وهو أحد الأسباب الرئيسية في الألم والشقاء، على ما تقرره الحقيقة الأولى من الحقائق النبيلة الأربع عند البوذا. كما يمكن أن نلاحظ بسهولة مدى اقتراب مفهوم الخيال عند ابن عربي، الذي يتجلى كقدرة فعالة تظهر الموجودات، من مفهوم المايا في الفكر الهندي؛ فالمايا كما شرحنا سابقا هي الوجود الوهمي للظواهر، وأيضا هي القوة الخلاقة للمطلق، بها يستعين على تشكيل مظاهر الكون المرئي. وتحصل المطابقة بين المفهومين عندما نرى أن ابن عربي يشير إلى الطبيعة، التي هي خيال، على أنها الأم العالية للكون، والتي تعادل مايا-شاكتي، القوة الأنثوية الخلافة المنبعثة عن المطلق في الفكر الهندي. يقول في الفتوحات: «وليس إلا الطبيعة في هذه الدار، فإنها محل الانفعال ... لأنها للحق بمنزلة الأنثى للذكر، ففيها يظهر التكوين؛ أعني تكوينا على ما سوى الله ... فللطبيعة القبول ... فهي الأم العالية الكبرى للعالم» (ج4، 150).
ويلجأ ابن عربي إلى استخدام زمرة أخرى من الرموز لمعالجة مسألة تجلي الألوهة في الطبيعة؛ فالألوهة لا تفعل في الطبيعة بشكل مباشر، بل بشكل غير مباشر، وعبر مرتبتين ينتقل الفعل خلالهما من الجانب الإلهي إلى المظاهر الطبيعية، وهما العقل الكلي أو القلم، والنفس الكلية أو اللوح المحفوظ؛ فقد ورد في الحديث الشريف: «إن أول ما خلق الله العقل.» وورد أيضا أنه: «أول ما خلق الله القلم.» فالعقل والقلم صنوان. يقول: «فأول موجود ظهر، مقيد فقير، يسمى العقل الأول، ويسمى الروح الكلي، ويسمى القلم ... وله أسماء كثيرة باعتبار ما فيه من وجود.»
15
ويقول أيضا: «فأول ما أوجد الله تعالى من عالم العقول المدبرة، جوهر بسيط لا صفة له، مقامه الفقر والذلة والاحتياج إلى باريه وموجوده ومبدعه، له نسب وإضافات ووجوه كثيرة، لا يتكثر في ذاته بتعددها، فياض بوجهين من الفيض؛ فيض ذاتي وفيض إرادي ... وله افتقار ذاتي لموجده سبحانه ... وسماه الحق سبحانه وتعالى في القرآن حقا وقلما وروحا، وفي السنة عقلا.»
16
ويتجه فعل العقل، الذي هو بمثابة القلم، إلى النفس الكلية التي هي بمثابة اللوح، فينتقش عليها ما سيكون في العالم إلى يوم القيامة. وهذه بدورها تنقل ما حملته من القلم لتظهره واقعا في عالم الموجودات، فيكون لها الانفعال (عن القلم) والفعل (في الطبيعة)، أما العقل فيبقى ملتزما دوره الفاعل. يقول في الفتوحات: «وأين مرتبة الفاعل من المنفعل؟! ألا ترى النفس الكلية التي هي أهل للعقل الأول، ولما زوج الله بينهما لظهور العالم كان أول مولود ظهر عن النفس الكلية هو الطبيعة.» وأيضا: «أول متعلم قبل العلم بالتعلم لا بالذات: العقل الأول. فعقل عن الله ما علمه، وأمره أن يكتب ما علمه في اللوح المحفوظ الذي خلقه منه ... واسم اللوح المحفوظ عند العقلاء: النفس الكلية. وهو أول وجود انبعاثي منفعل عن العقل، وهي (أي النفس) للعقل بمنزلة حواء لآدم.» وأيضا: «فكان بين القلم واللوح نكاح معنوي معقول، وأثر حسي مشهود ... وكان ما أودع في اللوح من الأثر مثل الماء الدافق الحاصل في الرحم، وما حصل من تلك الحكاية من المعاني المودعة في تلك الحروف الجرمية بمنزلة أرواح الأولاد المودعة في أجسامهم» (ج3، 399؛ وج1، 129).
كل هذا يصل بنا إلى نتيجة مهمة في فكر ابن عربي، وفي الفكر الصوفي عامة، حول تشخيص الألوهة وتجريدها، أو بالمصطلح الصوفي تشبيهها وتنزيهها. فالتشبيه والتنزيه متلازمان؛ لأن التنزيه يتطلب التشبيه، والتشبيه لن يقود إلا إلى التنزيه. ويذهب ابن عربي في القول بتلازم التشبيه والتنزيه مذهبا يوصله إلى القول بأن كل المعبودات التي توجه إليها البشر في كل مكان وزمان، لم تكن في واقع الحال إلا مجالي أسماء الله، وأن التوجه إليها بالعبادة لم يكن إلا طريقا لمعرفة الذات الإلهية الحقة؛ لأن الله قال في كتابه:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، ولم يقل: وأمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه. فكل عبادة تتوجه والحالة هذه لغير الله مآلها إليه. يقول في فصوص الحكم عن قوم نوح: «فقالوا في مكرهم:
وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (قرآن كريم)؛ لأنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء؛ فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله. فما عبد غير الله في كل معبود» (الفص 3، فقرة 8).
وهو يجد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تقرن التنزيه بالتشبيه، ومنها:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . ففي قوله تعالى:
ليس كمثله شيء
تنزيه، وفي قوله:
وهو السميع البصير
تشبيه. من هنا يقول الشيخ شعرا:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا
وإن قلت بالتشبيه كنت محددا
وإن قلت بالأمرين كنت مسددا
وكنت إماما في المعارف سيدا (الفص 4، الفقرة 4)
والتشبيه عنده أمر يتطلبه بطون الذات الإلهية؛ إذ لا بد من صلة تصل هذا المحدود بذاك اللامحدود. يقول في الفصوص: «وبالجملة، فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع إليه ويطلبه فيها. فإذا تجلى له الحق فيها أقر به، وإن تجلى له في غيرها أنكره ... فلا يعتقد معتقد إلها إلا بما جعل في نفسه. فالإله في الاعتقادات بالجعل، فما رأوا إلا نفوسهم وما جعلوا فيها» (الفص 10، الفقرة 13).
إلا أن من قطع شوطا في مسار العارفين، يجب ألا يتقيد بصورة دون أخرى، بل عليه أن يقبل الصور جميعا، وما هو فوق هذه الصور. يقول أيضا: «فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه؛ فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها، فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول:
فأينما تولوا فثم وجه الله » (الفص 10، فقرة 13).
هذه الصورة التي يكونها الإنسان عن الألوهة هي صورة مخلوقة من صنعه، ويدعوها ابن عربي بإله المعتقدات، أو الإله المجعول، أو الحق الاعتقادي. يقول: «فلا يشهد القلب ولا العين أبدا إلا صورة معتقده في الحق» (الفص 12، فقرة 7).
وصورة المعتقد هذه هي بشكل من الأشكال وثن يوضع بين الحق والخلق. يقول: «فما ثم إلا عابد وثنا» (الفتوحات، 186 / 4). •••
وهكذا نعود من رحلتنا في معتقدات الإنسان إلى نقطة المبتدى؛ فالوثن الذي يراه ابن عربي قائما بين الإنسان والذات الإلهية، ما هو إلا شارة القداسة التي أقامها إنسان العصر الحجري في محاريبه ورسمها على جدران كهوفه. وها نحن نقف بخشوع أمام رأس الثور في المريبط وشتال حيوك، وندلف إلى أعماق كهف لاسكو حيث الظلال تنعكس على مشهد البيسون المتحفز للانطلاق. فما هذا إلا ذاك. ولكم ذهب الإنسان بعيدا ليعيد صياغة المعتقد نفسه ولكن بأشكال جديدة. لقد قام برحلة عقلية طويلة، ولكنه لم يتحرك قيد أنملة من مكانه في رحلته النفسية.
الباب السادس
نتيجة، ومدخل جديد
الفصل الأول
نظريات في منشأ الدين: نقد وتأسيس
لقد قلت في بداية هذا الكتاب إن ما أهدف إليه هو التعرف على الظاهرة الدينية عند الإنسان، كما هي، وعلى حقيقتها، وذلك بوصفها وصفا دقيقا، وعزلها عن بقية ظواهر النشاط العقلي والنفسي المتعددة الأخرى؛ لغرض الجواب على التساؤل الأساسي: ما هو الدين؟ وقد خصصت القسم الأول من الدراسة لتحليل بنية الدين، فوجدت أنه يتألف من مكونات أساسية هي: المعتقد والطقس والأسطورة؛ وأخرى ثانوية هي: الأخلاق والشرائع. وبما أن كل ظاهرة يمكن تلخيصها إلى بنية الحد الأدنى التي يقودنا استقصاؤها إلى توضيح ماهية الظاهرة ومعناها، فقد وجدنا في المعتقد الديني ذلك الحد الأدنى الذي يمكن تقليص الظاهرة الدينية إليه دون المساس بأساسياتها. ثم انتقلت إلى الافتراض بأن المعتقدات الدينية قديمها وحديثها وبسيطها ومركبها، يمكن إرجاعها إلى عدد من العناصر الثابتة والمشتركة بين الأديان جميعا. ففي القاع من كل إيمان ديني لا بد من وجود عدد من الأفكار البسيطة الأولية التي تجمعه إلى كل إيمان آخر؛ لأن الظاهرة الواحدة لا بد لها من أساس واحد تقوم عليه، رغم تنوع تبدياتها عبر الأزمان واختلاف البيئة والمكان. وبتعبير آخر، فإن بنية الحد الأدنى للدين التي وجدتها في المعتقد، إنما تقوم بدورها على بنية أخرى للحد الأدنى الاعتقادي، هي تصور إنساني واحد يقوم عليه الدين برمته، وأنى التقينا به. ثم خصصت القسم الثاني من الدراسة لتقصي هذا الحد الأدنى الاعتقادي، أو التصور الإنساني المشترك، وذلك باستعراض أهم النماذج الممثلة لدين الإنسان عبر التاريخ، فاتضح أمامنا تدريجيا صحة فرضيتنا، وتكشفت كثرة المعتقدات عن وحدة صميمية:
يقوم المعتقد الديني على الإحساس بانقسام الوجود إلى مستويين، أو مجالين؛ المستوى الطبيعاني، وهو عالم الظواهر المحسوسة الذي يعانيه ويتحرك ضمنه الإنسان؛ والمستوى القدسي، وهو الغيب الذي صدرت عنه هذه الظواهر المحسوسة بما فيها الإنسان وأشكال الحياة الأخرى. يتصل المستوى القدسي بالكون من خلال حالة فعالية ، هي قوته السارية، التي تجمع بين المستويين في دارة واحدة؛ باطنها الألوهة، وظاهرها ما لا يحصى من الظواهر الحية والجامدة.
في المناهج الحديثة لدراسة أي موضوع، هنالك تمييز بين ثلاث مراحل للتقصي؛ ففي المرحلة الأولى نبحث في طبيعة الموضوع، وفي الثانية في كيفية نشأته وعن ماذا، وفي الثالثة في معناه وأهميته ودوره. تتخذ المرحلتان الأولى والثانية طابعا معرفيا عمليا، بينما تتخذ الثالثة طابعا قيميا وأخلاقيا وفلسفيا. وهنا يكمن فيصل التمييز بين المنهج الفينومينولوجي الظاهراتي الذي يقف عند المرحلة الثانية لا يتجاوزها، والمنهج الآخر الذي يستوفي المراحل الثلاث؛ لأنه يهدف منذ البداية إلى معرفة قيمة الظاهرة المدروسة وإصدار الأحكام القيمية بشأنها، استنادا إلى معايير موضوعة وموازين منصوبة. ولقد تعرفت على طبيعة الظاهرة الدينية من خلال وصفها وصفا شاملا، ثم لخصتها إلى بنية الحد الأدنى التي تلخص ماهيتها وجوهرها، وذلك في القسمين الأولين من هذه الدراسة، وبقي علينا أن نتساءل عن المصدر والمنشأ، أما التقييم وإصدار الحكم فأمر لا يعنى به منهجنا الذي التزمناه.
فعن ماذا ينشأ الاعتقاد بانقسام الوجود إلى مستويين، متمايزين ظاهرا ومتحدين ضمنا وباطنا؟ وما هي بواعث ذلك الإحساس بالوحدة الشاملة التي يقوم عليها المعتقد الديني، ومن ورائه الظاهرة الدينية إجمالا؟ وباستخدام المصطلحات والتعابير الشائعة نقول: ما هو الأصل في الدين؟ وما هي بواعث التدين؟ وهو التساؤل المعروف الذي عالجته مدارس فكرية من شتى المشارب والمذاهب. ولكن، قبل أن نشرع في بسط ما قادتنا إليه هذه الدراسة من نهايات تتعلق بهذا التساؤل، سوف نعمد إلى استعراض أهم المواقف الفكرية من المسألة، فنناقشها ونبني على دحضها نظرية جديدة مدعمة. قد نعود إلى مناقشة بعض الأفكار الرئيسية لمدارس ومذاهب معينة، ولكن لا لغرض التكرار، بل لوضعها في سياق جديد.
إن البحث في منشأ الدين وأصله ليس بالأمر الجديد، كما يعرف كل منا معرفة جيدة. ولقد قادنا الاطلاع على النظريات الرئيسية في أصل الدين إلى تصنيفها في زمرتين، تؤكد الزمرة الأولى على الأصل العقلاني، بينما تؤكد الثانية على الأصل العاطفي غير العقلاني . ينتهي كلا الاتجاهين إلى نتيجة تستدعيها مقدماتهما، وهي أن الدين لا ينبع إلا عن وهم خلقه خيال البشر أو عواطفهم عبر التاريخ، وأنه لا يعكس بأية حال خبرة تمت إلى عالم الحقيقة بصلة. فإلى أي حد تتمتع هذه النتيجة بقيمة تؤهلها لأن تكون نهاية المطاف في استقصاء منشأ الدين؟
لفترة طويلة من الزمن، طرحت النظرية الأرواحية (=
Animism ) نفسها كأقوى معبر عن الاتجاه العقلاني في تفسير الدين، وبقيت حتى الآن نظرية كلاسيكية تتمتع ببعض القبول. يرى الفيلسوف والاجتماعي البريطاني هربرت سبنسر، أن البشرية قد مرت في مراحلها الأولى بزمن لم تعرف خلاله الدين، ثم بدأ الدين بالتكون عندما أخذت الجماعات البشرية بتقديس أرواح زعمائها الراحلين، وتحولت أرواح هؤلاء الأسلاف المبجلين تدريجيا إلى آلهة، تمركز الدين حولها وابتدأ بها. ثم جاء الأنتروبولوجي تيلور، فطور هذه الفكرة المركزية في مذهب سبنسر، ووضع الأسس النظرية المتكاملة للنظرية الأرواحية. فمن فكرة الروح التي طورها الإنسان القديم انطلاقا من مراقبته لأحلامه، انتقل تيلور إلى الربط بين فكرة الروح وتطور مفهوم الآلهة ونشوء الدين. ومن فكرة الأرواح البشرية، انتقل تيلور إلى فكرة الأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة. فالبدائي، كما يرى تيلور، لم يكن يستطيع رسم فاصل واضح بين الكائنات الحية والأشياء الجامدة؛ ولذلك فقد نقل إيمانه بأرواح البشر إلى الإيمان بأرواح المظاهر الطبيعية، وفسر ما يراه من حركة هذه المظاهر بالأرواح التي تسكنها. وبذلك وسع الإنسان مفهوم الروح التي افترضها في الكائنات الحية ليشمل عالم الطبيعة، فقرن عبادة الأسلاف بعبادة مظاهر الطبيعة. لقد قدمنا، بتفصيل أكثر، مذهب تيلور في موضع سابق من هذا الكتاب، ولكن ما أريد إضافته هنا يتعلق بالموقف العقلاني الذي تقوم عليه الأرواحية؛ فالدين عند تيلور إنما ينشأ نتيجة التأمل في العمليات النفسية للإنسان، وبشكل خاص، فإن التأمل في الأحلام هو الذي يقود إلى افتراض وجود الروح، فإلى عبادة أرواح الأسلاف ومظاهر الطبيعة؛ وبذلك يكون الدين قد نشأ، في تفسيره، على عدد من المفاهيم الذهنية التي تكونت نتيجة الفكر والتأمل.
1
النظرية الرئيسية الأخرى في الاتجاه العقلاني هي النظرية الطبيعيانية. وقد جاء أصحابها في صفوف الباحثين في أديان الحضارات الكبرى، لا من صفوف علماء الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا. وقد ساهم في صياغة هذه النظرية عدد من الباحثين من أمثال الألماني
A. Kuhn (عام 1859م)، والفرنسي
M. Breal (عام 1863م)، ولكن المسئول الأخير عن صياغتها بأوضح الأشكال وأكثرها تأثيرا على العصر هو ماكس مولر
Max Muller (عام 1878م).
يظهر الموقف العقلاني منذ البداية في تفكير مولر، حيث يؤكد على أن الاعتقاد الديني لا يتضمن عنصرا لا يقوم على الإدراك الحسي والتصور المسبق. لكن ما هي المدركات الحسية التي قادت إلى تكوين الدين؟ ينطلق مولر من دراسة أسفار الفيدا السنسكريتية في الهند، فيجد أن معظم أسماء الآلهة الهندوأوروبية، هي كلمات دالة على ظواهر طبيعية؛ فالاسم أغنى
Agni
الذي يطلق على إله النار، هو في الوقت نفسه اسم للنار، سواء في السنسكريتية أم في لغات هندوأوروبية أخرى. ففي اللاتينية لدينا كلمة
Ignis
التي تدل على النار بمفهومها الفيزيائي المعتاد دون أية ظلال ما ورائية، ومثلها كلمة
Ugnis
بالليتوانية، و
Ogni
بالسلافية القديمة. والشيء نفسه ينطبق على الاسم
Dyaus
الذي يطلق على إله السماء في السنسكريتية، والذي يعني أيضا السماء الوضاءة. وللاسم ما يقابله في الإغريقية وهو
Zeus ، وفي اللاتينية
Jovis ، وفي الجرمانية الشمالية
Zio . وبعد سلسلة من هذه المقارنات اللغوية، يخلص مولر إلى القول بأن العواطف الدينية في أشكالها الأولى إنما نشأت نتيجة استثارة جاءت من عالم الطبيعة؛ فلقد أدهشت مشاهد الطبيعة المتنوعة والمتغيرة أبدا إنسان العصر القديم، وزرعت في نفسه بذور الإحساس الديني. إن الإعجاز الذي اتسمت به حركة الأجرام السماوية وتعاقب الفصول ودورة الحياة النباتية، والروع الذي أثارته هذه المجريات في قلب الإنسان، هو الذي أنتج فكرة المجهول في ذهنه مقابل فكرة المعلوم، واللانهائي في مقابل المحدود، وهذا ما أعطى النبضات الأولى للأفكار الدينية ومفرداتها اللغوية. فلدى تفكره في مشاهد الطبيعة، لم يملك الإنسان إلا أن يمتلئ بفكرة الاتساع واللامتناهي. فوراء الأبعاد التي تدركها الحواس، هناك أبعاد وأبعاد، ووراء كل لحظة لحظة أخرى، وكل زمن زمن يعقبه نحو أبد لا نعقله وإن أسميناه أبدا، المحيطات تترامى بلا أطراف، والأنهار تجري دون أن ينفذ ماؤها، والريح تروح وتجيء مدفوعة بقوة لا تنفد.
2
غير أن المواجهة البكر مع الطبيعة، كما يرى مولر، لا تقدم إلا الإحساس الديني في صيغته العمومية، أما الدين بشكله المنظم فلا يبتدئ بالفعل إلا عندما تخرج مظاهر الطبيعة من حالتها المجردة في الذهن إلى حالة الفعل، باعتبارها كائنات روحية تحيا وتفكر وتؤثر من الخارج؛ ذلك أن الدين الحقيقي هو أفكار وممارسات تتمحور حول شخصيات مستقلة ذات هيئة وكيان، تنتمي إلى عالم الإعجاز الذي طرحته المواجهة البكر مع الطبيعة. أما الانتقال من الظاهرة الطبيعة نفسها إلى الإله الذي يمثلها، فيأتي من التأثير الذي تمارسه اللغة على الأفكار، أو من التباسات اللغة؛ وهذا ما يدعوه مولر بالمرض اللغوي. فلقد وجد مولر أن اللغة السنسكريتية التي اعتمدها في دراسته اللغوية-الميثولوجية، إنما تقوم على «الفعل» أكثر من قيامها على «الاسم»، وهو حال اللغات السامية إذا نظرنا إلى جذورها اللغوية. ففي العربية مثلا، ترجع المعاجم الكلمات كلها إلى جذر الفعل الثلاثي، ومن هذا الجذر نحصل على الأسماء كلها والصيغ الناجمة عنه؛ ففعل «كتب» يعطينا «الكتاب» و«المكتبة» و«الكاتب»، وفعل «علم» يعطينا «العلم» و«العالم» ... إلخ. فالأصل في اللغة إنما يقوم على الحركة و«الفعل» لا على الثبات و«الاسم»، وليست الأسماء إلا حالة معينة من حالات الفعل. من هنا يرى مولر أن قدماء الهندوأوروبيين في لغتهم السنسكريتية، قد أسموا قوى الطبيعة بما يدل على فعلها؛ فالصاعقة هي الشيء الذي يمزق التربة أو ينشر النار، والريح هي الشيء الذي يصفر، والشمس هي الشيء الذي يصدر السهام الذهبية، والنهر هو الشيء الذي يفيض، وما إلى ذلك، وبمرور الزمن تم تحويل هذا الشيء الذي يمارس الفعل إلى شخصية تفعل كما يفعل الإنسان، وأخذت الموضوعات الطبيعية التي أثارت في النفس الروع والإجلال تختفي وراء غلالات من الاستخدامات اللغوية، حتى انفصلت عن الإدراك المباشر بواسطة المجازات، ثم تم أخذ هذه المجازات بحرفيتها وظهرت الآلهة. وبذلك فرضت اللغة على العالم الطبيعي، كما يتجلى للحواس، عالما متخيلا من الكائنات الروحية، التي اعتبرت منذ ذلك الوقت السبب الفاعل وراء حركة الطبيعة.
لقد مارست نظرية الدين الطبيعاني تأثيرا واسعا على الحلقات الأكاديمية في زمنها، وما زال بعض دارسي الميثولوجيا والدين في أيامنا يتبنون شكلا معدلا من أشكالها. نذكر من هؤلاء
R. Pettazzoni
في كتابه
Essays On The History Of Religion (عام 1954م)، و
Thorkild Jacopsen
في كتابه
The Treasures of Darkness (عام 1976م)، وفي أبحاثه الأسبق التي نخص منها مساهمته في كتاب
Before Philosophy
المعروف لدى قراء العربية في ترجمته التي تحمل الاسم نفسه؛ أي «ما قبل الفلسفة». فلقد توصل
نتيجة لدراسته الواسعة لميثولوجيات العالم، إلى أن معظم الثقافات تعطي المركز الأول في مجمع الآلهة إلى إله السماء، أو لشكل من أشكاله مثل إله الطقس. ويخلص من كل شواهده التي يسوقها إلى القول بأن السماء هي المظهر الطبيعي الأسمى الذي زرع بذرة الإحساس الديني. أما
Jacopsen ، فيرى من دراسته للميثولوجيا السومرية أن تمثيل الفكر الأسطوري لقوى الطبيعة باعتبارها آلهة، وحبك الأقاصيص عن حياتها وعلاقاتها ببعض وبالإنسان، كان مفتاحا لاستيعاب الإنسان السومري لحركة الطبيعة وسير عملياتها، في وقت كان من الصعب فيه على الإنسان صياغة معادل ذهني منطقي للعالم الخارجي؛ وبالتالي فإن ظهور الآلهة وتطورها، لا يمكن أن ينشأ في استقلال عن علاقة الإنسان بالطبيعة.
إن ما أريد قوله في التعقيب على أطروحات الاتجاه العقلاني في نشوء الدين، هو أننا إذا قبلنا جدلا كل ما جاءت به النظرية الأرواحية والنظرية الطبيعانية، فقد نقبله كتفسير لنشوء فكرة الآلهة في تاريخ الدين، لا لتفسير نشوء الدين في حد ذاته؛ لأن الدين كان أسبق بكثير من المرحلة التي ظهرت فيها الآلهة في الحياة الدينية للإنسان، كما أوضحنا بكل جلاء عبر الفصول السابقة من هذا الكتاب. كما أريد أن أضيف إلى هذه الملاحظة عددا من الملاحظات الأخرى الصائبة التي أثارها إميل دوركهايم في نقده للاتجاه العقلاني.
يرى دوركهايم أن المدرسة الطبيعانية قد أقامت حججها انطلاقا من نقدها للمدرسة الأرواحية التي تنشئ الدين على أساس من التهويمات التي تتخذ من الأحلام والأرواح منطلقا لها، فادعى الطبيعانيون أنهم إنما ينشئون الدين على أساس من الخبرة المحسوسة. غير أن الطبيعانية في واقع الأمر لا تختلف عن الأرواحية من حيث النتيجة؛ لأنها تختصر الدين في النهاية إلى نظام من التهيؤات القائمة على شبكة من المجازات التي تفتقر إلى القيمة الموضوعية. فهنا لا تحتك الأفكار الدينية بالواقع إلا لكي تحجبه سريعا بغطاء يخفي حقيقته، والإنسان لا يعيش من خلال منظوره الديني للوجود إلا في عالم مسكون بكائنات لا تمتلك إلا وجودا شفويا معلقا في فراغ الوهم. فإذا أتينا إلى الركن الذي تقوم عليه النظرية الطبيعانية، وهو إحساس الإنسان بالروع والدهشة أمام مظاهر الطبيعة وحركة عناصرها، لوجدنا أننا هنا أمام افتراض يطرح كبدهية لم تخضع للنقد حتى الآن؛ ذلك أن الطبيعة تظهر لنا نظاما روتينيا متكررا أكثر مما تظهر إعجازا، والمنتظم المتكرر لا يمكن أن يترك في النفس أثرا عاطفيا كبيرا، فالشمس تشرق كل يوم وتغيب، والقمر يسير في كل شهر عبر الأطوار نفسها، والأنهار تجري في أحواضها دون انقطاع. قد يخسف القمر أحيانا وقد تكسف الشمس، وقد تفيض الأنهار أو تعصف الرياح، إلا أن هذه الانقطاعات في مسار الطبيعة الروتيني لا تترك إلا انطباعات مؤقتة ما تلبث أن تزول، ولا يمكن لهذه المفاجآت الطبيعية أن تكون أساسا لهذا النظام الدائم من المعتقدات والممارسات مما ندعوه دينا. وفوق هذا وذاك، فإن مفهوم الطبيعة الطاغية هو مفهوم حديث نسبيا؛ لأن الإنسان القديم لم يكن يشعر بأن قوى الطبيعة أكثر من قواه الذاتية، بل كان يعتقد بقدرته على التدخل في مسار العمليات الطبيعانية بواسطة طقوسه السحرية؛ فهو يأمر الرياح ويتحكم بماء المطر ويحفظ حركة الأجرام السماوية. إنه لم يشعر قط بضآلته أمام جبروت الطبيعة، فكيف يمكن لما يقع تحت سيطرتنا أن يثير فينا الروع الذي يولد الحس الديني؟
3
لقد وجد العقلانيون في الدين نظاما من الأفكار، ينطلق من واقعة بيولوجية مثل الأحلام عند الأرواحيين، أو واقعة طبيعية مثل ظاهرة ما من ظواهر الطبيعة المؤثرة عند الطبيعانيين. وهم يؤكدون على أن فكرة الألوهة تنشأ في الذهن نتيجة التأمل في موضوع ما، ومحاولة الإجابة على تساؤلات تدور حوله. غير أن المؤمن عندما يصف لنا حقيقة إحساسه الديني، لا نجد في وصفه موقفا فكريا عقلانيا من أي نوع؛ فالخبرة الدينية لا تعمل على زيادة معارفه ومعلوماته بخصوص موضوعات معينة يجهلها الآخرون، بل تجعل منه إنسانا متكاملا مع نفسه، ومع كل ما يحيط به؛ أي إن التفكير لا يخلق الخبرة الدينية في النفس الإنسانية ولا يزرع فكرة الألوهة فيها، بل يأتي لاحقا لهذه الخبرة التي تداهم الإنسان وتستولي عليه دون تفكير مسبق. والتأمل لا يسبق الإحساس بالألوهة، بل ينطلق من هذا الإحساس نفسه ويستهدف التعامل معه بما هو كذلك.
إن الملاحظات النقدية التي سقتها أعلاه، ليست موجهة فقط إلى المدرستين الأرواحية والطبيعانية، بل إلى كل رأي يعزو نشأة الدين إلى موقف عقلاني تفكيري من الحياة والوجود. ولم يكن اختيارنا للمدرستين المذكورتين إلا باعتبارهما المؤسستين لهذا الاتجاه في العصر الحديث وأقوى المعبرين عنه. وسننتقل الآن إلى نقد النظرية العاطفية في نشوء الدين، وهي التي ترى في الدين انعكاسا للعواطف الإنسانية لا استجابة لتأملات ذهنية.
يمكن تلخيص العواطف، التي يرى أهل الاتجاه العاطفي وجودها وراء الدين، إلى عاطفتين أساسيتين عند البشر، هما: الخوف والطمع. وبما أن منتهى مخاوف الإنسان هو خوفه من الموت، ومنتهى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، فإن هاتين العاطفتين تتعاونان على صياغة معتقد يقسم الإنسان إلى كيانين؛ واحد مادي وآخر روحاني. فإذا كان الموت لا بد مدرك كيانه المادي، كما تعلمنا الخبرة اليومية، فإن الكيان الروحاني سوف يجتاز واقعة الموت، ويترك سكنه المؤقت الذي آل إلى التلف إلى مستوى آخر للوجود يتمتع فيه بالحياة الأبدية. وبما أننا نواجه فكرة الروح هذه، إلا ما ندر، في كل ديانة قديمة أو حديثة مما وصل إليه علمنا، كما نواجه في كل منها تصورا ما لحالة الروح بعد واقعة الموت الفردي، فقد توصل أهل النظرية العاطفية إلى القول بأن الحس الديني هو نتاج ثانوي لعاطفة الخوف من الموت وعاطفة الطمع في الخلود، وأن مفهوم الألوهة لم يترسخ إلا لكي يضمن الإنسان لنفسه خلاصا وبقاء أبديا.
فإلى أي حد تفلح هذه النظرية، وما أكثر أتباعها، في تقديم تفسير يتوافق مع ما نعرفه عن تاريخ الأديان ومعتقداتها؟
في مجال العلوم الطبيعية، تقوم نظرية ما من أجل تفسير عدد من الظواهر المتكررة والمتشابهة. وتبقى هذه النظرية مجدية حتى يثبت لنا عدم مقدرتها على تفسير بعض الظواهر الداخلة في مجالها، أو حتى ظاهرة واحدة مفردة فقط؛ ذلك أن أهم ما يجب أن تتصف به الظواهر التي تفسرها النظرية هو تماثلها وتكرارها، وصمودها أمام التغير باختلاف المكان والزمان. فقانون الثقالة (الجاذبية) سوف يفقد قدرته على تفسير حركة الأجسام، إذا اكتشفنا جسما يسير بأسرع من الضوء. كما أننا سوف نضطر إلى إعادة النظر في كل قوانين الحركة (= الميكانيك) إذا خرقت كرة القدم في ملعب ما أحد القوانين الرئيسية في الحركة، ولم ترتد عن عارضة المرمى بعد اصطدامها بها. ولعل الأمر لا يختلف كثيرا في مجال العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، بخصوص صلاحية نظرية ما أو بطلانها؛ فالنظرية مطالبة هنا أيضا بتقديم تفسير لجميع الظواهر التي تصدت لتفسيرها، لا لبعضها. وبما أن معطيات تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، ومعطيات الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا، تزودنا بأكثر من مثال على معتقدات دينية، من بدائية وغيرها، لا نجد فيها أثرا لفكرة خلود الروح الفردية، ولا لعالم أفضل ترحل إليه أرواح الموتى، فإن النظرية العاطفية في تفسير نشوء الدين، أي نظرية الخوف من الموت والطمع في الخلود، تهتز أركانها أمامنا. ولسوف أعمد فيما يلي إلى تقديم البرهان على أن الخوف والطمع لا يكمنان عند جذور الدين، وذلك من خلال عرض عدد من الأمثلة الموثقة توثيقا جيدا، ومختارة من تاريخ الدين ومن ملفات الأنتروبولوجيا الميدانية.
يعطينا معتقد الإنسان الأسترالي في تناسخ الأرواح فكرة واضحة عن نظرته إلى مسألة النفس وخلود الروح. ومعتقد التناسخ الأسترالي، كما أوضحنا سابقا، لا يشبه أي معتقد آخر في التناسخ؛ ففي بداية الزمان عاش على الأرض فريق من الناس، هم الأسلاف الأسطوريون الذين رحلوا بعد أعمار مديدة إلى باطن الأرض، ولكن أرواحهم بقيت خالدة تتجدد في كل جيل. وهم يدعون هؤلاء الأسلاف بأكثر من اسم وصفة، وكلها تؤدي معنى «الأسلاف غير المخلوقين»، وهؤلاء مسئولون، كما رأينا، عن تناسل الناس؛ ففي تجوال أرواحهم خارج مقرها، تجسد نفسها في أجسام؛ وبذلك يجسد السلف نفسه في أكثر من مولود، ويعيش عددا من الحيوات في آن واحد، مع احتفاظه بنواته التي تبقى خارج سلسلة التجسدات. من هنا يمكن القول بأن الأسترالي لم يؤمن قط بالروح الفردية؛ لأن روحه ليست إلا شذرة من كل، وإلى هذا الكل تعود بعد الموت. أما شخصية صاحبها المؤقت، فلا تتمتع بالخلود في حياة قادمة أخرى، وهي آيلة حتما إلى الفناء مع فناء شقها المادي. ومع ذلك، فقد كان الأسترالي إنسانا متدينا، رغم عدم إيمانه بالروح الفردية وخلودها، واحتوت ديانته على كل مقومات الدين المتكامل في صيغته البدائية. ويمكن لدارس الدين الأسترالي أن يقول بكل ثقة بأن مفهوم الروح هو ناتج ثانوي من نواتج الدين، وليس باعثه الرئيسي ولا حتى باعثا من بواعثه.
في مثالي الثاني أنتقل من أديان الشعوب البدائية شبه المنعزلة، إلى أديان الشعوب البدائية التي عاشت على أطراف الحضارات الكبرى. والمثال هنا عن معتقدات القبائل التيوتونية في أوروبا الشمالية، وهي القبائل التي عاشت على حدود مناطق النفوذ الروماني في أوروبا، وقاومت انتشار المسيحية حتى وقت متأخر من العصور الوسطى. فلقد آمن التيوتون بوجود الروح الفردية التي تسكن الجسد، واعتقدوا بالخلود الفردي لهذه الروح بعد موت صاحبها، ولكنه خلود الفناء التام أرحم منه؛ فالأرواح بعد انفصالها عن الأجساد لا ترحل إلى آخرة خير من الأولى، وإنما تهبط إلى أرض الظلمة في العالم الأسفل لتستمر في وجود شبحي لا نكهة فيه للعيش ولا متعة، لا فرق في ذلك بين أمير أو فقير أو بين صالح في هذه الحياة أو طالح. يدير شئون العالم السفلي إلهة مرعبة أسميها هيل
Hel ، لها رأس يتطوح أمامها عندما تتحرك، ووجها ممسوح الملامح في نصفه الأيسر، واضحها في نصفه الأيمن. وكلما هبطت روح جديدة هبت هيل لاستقبالها وحددت لها مكان سكناها في عالمها الواسع، الذي يتألف من أجنحة وأقسام كثيرة، لكل فئة من الأرواح مثواها ومقرها فيه إلى أبد الآبدين. وهناك قاعة شرف خاصة مهيأة للموتى من الآلهة أنفسهم؛ ذلك أن الآلهة في المعتقد التيوتوني خالدة ما لم تتعرض للقتل العمد من قبل من هو أقوى منها. ولديهم أسطورة تحكي كيف أن كبير الآلهة أودين لم يستطع إنقاذ ابنه بالدر، الفتى المحبب لدى الآلهة جميعا، من قبضة الإلهة هيل، وكيف أنه أرسل أشجع إخوة القتيل بالدر، المدعو هيرمود، في مهمة مستحيلة لاسترجاع أخيه. وصل هيرمود، بعد قهره ما يشبه المستحيل، إلى قصر الملكة هيل في بؤرة الأعماق المظلمة، حيث استقبلته بما يليق بابن كبير الآلهة من حفاوة وتقدير، وعندما استمعت لرغبة كبير الآلهة في استرجاع ابنه وافقت، ولكن بشرط واحد، وهو أن تبكي كل الجمادات والأحياء في العالم الأعلى الإله الغائب. بعث الآلهة رسلهم إلى الجهات الأربع، طالبين من كل إنسان وكل حيوان وكل حجر وشجر ونبع ونهر أن يبكي الإله الميت بالدر، ففعل الجميع، وقامت مناحة في طول الأرض وعرضها. ولكن عندما وصل الرسل إلى عجوز من جنس العمالقة تأوي وحيدة إلى مغارتها الجبلية، أدارت لهم ظهرها بدون اكتراث، وقالت: لم يقدم لي بالدر في حياته منة ما، فلماذا أبكي عليه؟ دع الموت يمسك موتاه. وبذلك خسر الإله الفتى فرصته الوحيدة للخلاص من العالم الأسفل، ولم تكن تلك العجوز سوى هيل نفسها.
4
ورغم أن مكانة سكان العالم الأسفل في المعتقد التيوتوني تختلف باختلاف المكانة التي كانت لهم في العالم الأعلى، إلا أن الفروق في شروط المعيشة في عالم هيل ليست بالقدر الذي يخفف من بؤس مصير الروح هناك. وأغرب مصير تصير إليه زمرة من الأرواح الهابطة إلى هيل، هو مصير جماعة المحاربين الذين سقطوا في ساح القتال؛ فهؤلاء يحلون ضيوفا في قاعة شرف خاصة بهم، ولهم فيها ما يشتهون من طعام أو شراب، يطوف به عليهم عذارى حسان ، ويلبين لهم كل مطلب. غير أن هؤلاء المحاربين محكومون بخوض قتال لا يهدأ في كل يوم؛ فمع ابتداء اليوم الجديد يتخذ الأبطال عدتهم للحرب وينخرطون في قراع يستمر إلى آخر اليوم حيث يأوون إلى أسرتهم؛ لكي يتابعوا الأمر نفسه في اليوم التالي. فأي مصير ينتظر أشجع وأقوى ما عرفته أوروبا من مقاتلين؟ وأي عزاء يحمله هذا المعتقد إلى المؤمنين؟ وكيف يكون الخوف من الموت والطمع في الخلود هنا أساسا لنشوء معتقد ديني لا يطامن من خوف ولا يرضي طمعا؟
فإذا عدنا القهقرى إلى حضارات الشرق القديم، وجدنا في معتقداتها حول الروح ومآلها ما يشبه المعتقدات البدائية الأوروبية، وذلك باستثناء مصر الفرعونية التي تنفرد ديانتها بتصورات خاصة بها. ففي المعتقد السومري وصنوه البابلي، تهبط الروح إلى العالم الأسفل الذي تحكمه الإلهة إريشكيجال، الملكة المرعبة التي يخافها حتى الآلهة الأعلون. في ذلك العالم، تتساوى مصائر الأرواح الهابطة إليه، مع فروق طفيفة تتوقف على المكانة الاجتماعية السابقة للمتوفى، وعلى مقدار التزام أهل الميت بطقوس الدفن وغيرها من الطقوس المخصصة لراحة أرواح الموتى، من تقديم أضاح وما إليها. كما أن بعض الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا قد تخفف من وطأة العالم الأسفل على الروح. نقرأ في النص السومري المعروف بعنوان «جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل»، كيف انسلت روح إنكيدو الميت من كوة إلى العالم الأعلى لتشرح لجلجامش أحوال عالم الموتى. وبعد أن يتعانق الصديقان:
إنكيدو :
إذا كان علي أن أحدثك عن مسالك العالم الذي رأيت عليك أن تجلس أولا وتبكي.
جلجامش :
سأجلس وأبكي.
إنكيدو :
إن جسمي الذي لم تمسك به في العناق، تنهشه الهوام حتى غدا كالخرقة البالية، جثة مليئة بالتراب. (فصرخ جلجامش يا ويلاه، وسقط على وجهه في التراب.)
جلجامش :
هل رأيت في العالم الأسفل من أنجب في حياته ولدا واحدا؟
إنكيدو :
نعم لقد رأيت، إنه جالس عند الجدار يبكي بحرقة.
جلجامش :
هل رأيت الذي أنجب ولدين؟
إنكيدو :
نعم لقد رأيت، إنه يسكن في بيت من الآجر ويأكل الخبز.
ثم يتابع النص على هذا المنوال، حتى نصل إلى استفسار جلجامش عن الموتى، الذين لا يعتني الأحياء بأرواحهم:
جلجامش :
هل رأيت الذي تركت جثته في العراء؟
إنكيدو :
نعم لقد رأيت، إن روحه لا تجد راحة في العالم الأسفل.
جلجامش :
هل رأيت من لا يعتني الأحياء بروحه؟
إنكيدو :
نعم لقد رأيت، إنه يأكل الأقذار وما يرمى في الممرات من فتات.
5
هذه الأرواح التي تهيم في العالم الأسفل وتأكل الفتات، هي التي تنسل أحيانا إلى عالم الأحياء لتسبب لهم القلق والفزع، ولا تعود إلى مقرها إلا بتقريب القرابين. نقرأ في النص الآشوري: «أي شمش، يا إلهي. إن شبحا مرعبا يجثم على صدري، يلاحقني كظلي في الليل وفي النهار، جاعلا شعر رأسي ينتصب رعبا ... هل هو روح هائمة لا تجد مستقرا؟ يا إلهي، أتوسل إليك، هذه عباءة لملبسه، وهذا حذاء لقدميه، وهذه قطعة جلد لمنطقته، وماء قراح لشرابه، وطعام لمئونة عودته ... فليمض إلى مغرب الشمس ويسلم إلى نيدو حارس العالم الأسفل، فيدخله ويوصد خلفه الأبواب.»
6
من هنا، فإن الصلاة إلى الآلهة، في الدين البابلي، لا ترفع طمعا في خلاص الروح إلى عالم أفضل، بل طمعا بمزيد من أيام العمر في هذه الحياة. نقرأ نصا بابليا: «إن القرابين تمد في الأعمار ... وخشية الآلهة تطيل الأيام على هذه الأرض.» ونقرأ في دعاء لأحد ملوك بابل: «يا إلهي، احفظني من الخطيئة نحو ذاتك العظيمة، وامنح لي عمرا مديدا، وازرع في فؤاد ابني وبكري مخافتك وخشيتك، فلا يقترف ذنبا؛ ليمنح أياما كثيرة.» وعن ملك آشوري نقرأ: «إن ما قدمته يدا أبي من أفعال وما قربه من قرابين قد سر فؤاد الآلهة فعاش عمرا مديدا.» وعن ملك آشوري آخر: «لدوام الصحة وطول العمر وامتداد الحكم، أسجد إليك أيتها الآلهة.» وعلى العكس من ذلك، فإن الخطيئة تقصر العمر وتقطع سلسلة الأيام كما يقول أحد النصوص الآشورية: «من لا يخشى الآلهة سيكسر عوده كقضيب القصب.»
لذلك، عندما انقشعت الغشاوة عن بصيرة جلجامش، في الملحمة البابلية، ورأى أن كل ما يصنعه الإنسان في حياته باطل، وأن الأيام مهما امتدت به لا بد وأن تقوده إلى موت أكيد، لم يلتفت إلى الدين البابلي يطلب العزاء عنده، ولا إلى آلهة قومه يستجدي خلاص روحه؛ لأنها لا تستطيع أن تمنح مثل هذا الخلاص، بل رام الخلود في هذه الحياة، أو راح يبحث عن خلاص لم تبشر به ديانة وادي الرافدين، معتمدا على نفسه فقط دون عون من إله أو بشر. ولو كان في المعتقد البابلي مفهوم حقيقي لخلاص الروح إلى عالم أفضل، لما طرحت مسألة الموت نفسها بهذا الإلحاح على الفكر البابلي.
فإذا انتقلنا من حضارة الهلال الخصيب في قرنه الشرقي، نحو قرنه الغربي في سوريا، لم تقدم لنا الوثائق الكتابية صورة واضحة عن معتقدات الموت وأحوال الروح في الدار الآخرة؛ وذلك بسبب ندرة هذه الوثائق خارج موقع أوغاريت من جهة، وعدم عناية ما عثر عليه منها بالموضوعات الميثولوجية والدينية. ورغم أننا نعرف من ألواح أوغاريت عن وجود عالم أسفل يرعاه الإله موت، وعن هبوط الإله بعل ميتا إليه، إلا أن التفاصيل التي أمدتنا بها الوثائق الكتابية عن هذا الموضوع قليلة أو شبه معدومة في سوريا. من هنا فإننا لا نستطيع إلا الاعتماد على كتاب التوراة، الذي ورث الكثير من المعتقدات الكنعانية في الروح، وأحوالها بعد الموت في الدار الآخرة.
يظهر المعتقد التوراتي، في الروح وأحوال الدار الآخرة، شبها واضحا بالمعتقد الرافدي؛ فالأرواح متساوية في مصيرها، وهي تهبط إلى دار سفلى اسمها «شيئول»، أو «الهاوية» وفق الترجمات العربية للتوراة. وهذه الدار تقع تحت الأرض (سفر العدد 16: 30-32)، ولها أبواب تذكرنا ببوابات العالم السفلي الرافدي السبع (إشعيا 38: 10)، وهي أرض ظلمة وديجور لا يرى أهلها نورا (صموئيل الثاني 22: 6، والمزمور 6: 5، و88: 12)، وإليها تذهب أرواح الموتى دون استثناء (التكوين 37: 35، والمزمور 31: 17، وإشعيا 38: 10)، وهي عميقة وتبتلع (التثنية 3: 22، والأمثال 1: 12). والإله التوراتي لا سلطة له على العالم الأسفل: «أفلعلك يا رب للأموات تصنع عجائب؟ أم الأخيلة تقوم تمجدك؟ هل يحدث في القبر برحمتك أو بحقك في الهلاك؟ هل تعرف الظلمة عجائبك وبرك في أرض النسيان؟» (المزمور 6). والموتى قد فقدوا في الدار الآخرة السفلى كل صلة لهم بإله الأحياء، فلا بعث ولا نشور ولا حساب، نقرأ في (إشعيا 43: 17): «يضطجعون معا لا يقومون، قد خمدوا كفتيلة انطفأت.» وفي (إرميا 51: 39): «ينامون نوما أبديا ولا يستيقظون.» وفي (أيوب 14: 10-12): «أما الرجل فيموت ويبلى؛ الإنسان يسلم الروح، فأين هو؟ قد تنفد الحياة من البحيرة والنهر يجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم.»
على أن احتكاك محرري أسفار التوراة بالفكر الديني الفارسي في المنفى إبان حكم قورش الأول، قد أدى إلى ظهور أفكار ضبابية حول الثواب والعقاب وخلاص الروح بعد الممات، ولكن النصوص المتعلقة بهذه الأفكار قد بقيت غامضة وعرضة للتأويلات والتفسيرات المتباينة. وانعكس هذا التردد على المسيحية في فتراتها الأولى قبل استقلالها عن اليهودية، حيث بقي المعتقد المسيحي في بدايات تشكله دون موقف واضح من مسألة خلود الروح الفردية وخلاصها، وتخبط فترة لا بأس بها قبل أن يتوصل إلى قرار حاسم بخصوصها. ويظهر لنا إنجيل نيكوديمس المنحول هذا الموقف الغامض؛ فالسيد المسيح بعد أن يسلم الروح على الصليب، يهبط إلى العالم الأسفل ويحرر الأنبياء والقديسين فيرفعهم معه إلى السماء، أما بقية سكان الهاوية فلا نعرف شيئا عن مصيرهم.
7
فإذا نظرنا إلى أديان الهند والشرق الأقصى عامة، وجدنا أن معتقداتها في الروح والخلود لا تتفق وفكرة خلود الشخصية الفردية؛ فالبوذية تنفي وجود الروح الفردية، كما تنفي وجود جوهر روحي يحل في الأحياء عبر تناسخات متتالية، وما الفرد إلا حالة عابرة لا تتكرر، في سلسلة تقمصات الكارما التي تئول إلى الانطفاء التام في النيرفانا. أما في الهندوسية، فرغم التوكيد على وجود جوهر روحي ثابت محكوم بالتناسخ في الأجساد، وقادر على تحقيق الانعتاق النهائي، إلا أن هذا الجوهر الخالد لا يتطابق في الواقع مع أي من الشخصيات المفردة التي تجسد فيها، عبر مليارات السنين التي قضاها في الانتقال من ظهور إلى آخر. من هنا، فإني لا أرى فارقا كبيرا بين مفهوم النفس الهندوسي، الذي هو حالة عارضة لجوهر ثابت، ومفهوم اللانفس البوذي الذي هو حالة عارضة بلا جوهر ثابت؛ لأننا إذا جردنا مفهوم الروح (أو الجوهر الثابت) في الهندوسية من كل الحالات الشخصية التي صارت إليها قبل انعتاقها، فإنها تفقد محتوياتها من الأفعال والذكريات وتغدو خاوية بلا ماهية أو قوام، لتذوب في الفراغ العظيم عقب انسلاخها عن آخر تقمصاتها. فأي فرق إذن بين ذوبان الروح الكامل في براهمان كما يذوب النهر في المحيط، وبين انطفاء سلسلة الكارما في النيرفانا البوذية، طالما أن الروح لا تعيش استقلاليتها خارج سلسلة التناسخ إلا لتذوب في المطلق؟
إن الخوف من الموت والطمع في الخلود لا يكمنان في أساس الدين ولا يبعثان على نشوئه، والنظرية العاطفية قاصرة على تسويغ وجود أديان لا تقدم لأتباعها مثل هذا العزاء، وذلك من أكثرها بدائية وبساطة إلى أكثرها تجريدا وتفلسفا. مما لا شك فيه أن بعض الأديان قد صاغ تصورا بهيجا عن خلود للشخصية الفردية في عالم مثالي قادم، وأنه قد استخدم فكرة الخلود الشخصي من أجل تثبيت مثله الأخلاقية والتمكين لنواظمه التشريعية، إلا أن دراستنا لتاريخ الدين تظهر بكل جلاء أن معتقدات الروح الفردية وخلود الشخصية قد بنيت على المعتقد الديني، ولم تشكل في أي وقت باعثا من بواعث الدين.
إن رفضنا للاتجاهات التفسيرية المستعرضة أعلاه،
8
يعني أننا نرفض تفسير الدين بما ليس هو، وذلك بإرجاعه إلى نظام معرفي آخر، أو تقليصه إلى ظاهرة أدنى منه، ويستخدم هذا الموقف الإرجاعي، عادة، صيغة تقريرية تقول: «إن الدين ليس إلا ... كذا.» وبذلك تنتهي مشكلة الدين لتبدأ مشكلة ال «كذا» الذي تم إرجاع الدين إليه، وتغيب الظاهرة الدينية في ركام النظام الآخر الذي أحلنا الظاهرة الدينية إليه، باعتبارها ناتجا ثانويا من نواتجه، لا يتمتع بخاصية متفردة. ولعل أبلغ مثال على الموقف الإرجاعي، هو الإرجاعية السيكولوجية، التي تختصر الدين إلى جملة من العمليات النفسية، التي تمكننا دراستها من التعرف على أصول الدين كظاهرة نفسية لا تتمتع بأساس موضوعي صلب. وتبلغ الإرجاعية السيكولوجية عند سيجموند فرويد أكثر أشكالها تطرفا، عندما يقرر أن الدين ما هو إلا عوارض عصابية يمكن دراستها في جملة ما ندرس من ظواهر العصاب عند البشر.
لا يقدم فرويد في أي من مؤلفاته تعريفه الواضح للدين، وهذا ما يجعله يتعامل مع عناصر ثانوية من الظاهرة الدينية، وكأنها حجر الزاوية التي يقوم عليها الدين؛ فهو يمزج مثلا بين الحس الديني والحاجة إلى الإله المشخص الذي يقوم مقام الأب، فهذه الحاجة نمت منذ أيام الطفولة، وتحت إحساس الطفل بالضعف وما يستتبعه من نظرة إلى الأب القوي القادر على كل شيء. وهذه الحالة الطفلية تتعدى عنده مرحلة الطفولة الفردية لتشمل طفولة الجنس البشري؛ فالمعتقدات الدينية القائمة اليوم تحمل معها طابع الأزمان الأولى التي أنتجتها عندما كانت الحضارة طفلا يحبو، وهو يرى أن العزاء الذي تجلبه لا يستحق الثقة. فالدين والحالة هذه هو مرحلة في تطور الحضارة ينبغي تجاوزها، مثلما يتجاوز الفرد أحوال الطفولة العصابية في طريقه نحو النضج. وبتعبير آخر، فإن الدين هو ظاهرة عصابية على المستوى العام تعادل الظاهرة العصابية على المستوى الخاص، إنه نوع من العصاب الاستحواذي الذي يصيب الجماعة. وفرويد لا يميز بين الدين والتشريع، فيرجع ظهور الدين إلى بدايات ظهور التشريع، خصوصا في كتابيه «موسى والتوحيد» و«الطوطم والتابو». فبعد أن قتل الأولاد أباهم، في القبيل البدئي، الذي يفترض وجوده في بداية الأزمان، واستحوذوا على نسائه، شعروا بالذنب وحرموا على أنفسهم نساء أبيهم، فكان ذلك أول تشريع سنه البشر وابتداء للدين.
9
إن معارضتنا للإرجاعية، ومجالنا لا يتسع لعرض المزيد من نظرياتها، تستند إلى خصوصية التجربة الدينية، وعدم قابليتها للإرجاع إلى ظاهرة أخرى؛ لأن في هذا الإرجاع إقرارا بأن الدين وهم إنساني ، وأن الخبرة الدينية هي جدلية ذاتية لا موضوع لها؛ فالدين ليس وهما، والمؤمن ليس واهما في إحساسه بوجود قوة أعظم منه تضم الوجود إلى وحدة متكاملة؛ لأن الخبرة الدينية قد ارتكزت عبر الأزمان على تجربة حقيقية صلبة، وعلى شرط معطى للوجود الإنساني. من هنا، فإن الأديان كلها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان حقيقية وأخرى زائفة، لأديان راقية وأخرى منحطة؛ لأنها جميعا نتاج تلك التجربة الحقيقية الصلبة، والشرط المعطى للوجود الإنساني. فما هي هذه التجربة؟ وتحت أي شرط تتم؟
لقد توصلنا في بحثنا عن المعتقد الديني في بنيته الدنيا، إلى أنه يعكس إحساسا بانقسام الوجود إلى قدسي ودنيوي، وأن القدسي يتصل بالدنيوي من خلال «حالة فعالية» هي قوته السارية التي تجمعهما إلى دارة واحدة، باطنها الألوهة وظاهرها ما لا يحصى من الظواهر الحية والجامدة. ولسوف نلتفت في الجزء الأخير من دراستنا هذه إلى البحث عن الأساس الذي يقوم عليه هذا الاعتقاد، فنجده متجذرا في خبرة حقيقية طرفاها الإنسان-الوعي من جهة، والكون-المادة من جهة أخرى. أما مضمون هذه الخبرة، فاجتماع الوعي المتأمل إلى موضوعاته الخارجية، ووحدة طرفي الحقيقة؛ الإنسان والكون.
رحلتنا القادمة شاقة ومليئة بالمفاجأة، تتطلب عناء وصبر من قرر مرافقتنا حتى الآن، إنها رحلة في الفيزياء الحديثة، في ذلك الجانب الذي يشكل الآن لبابها، والذي يدعونه بالنظرية الكوانتية، أو بميكانيكا الكم. قد يبدو أن هذا الموضوع بعيد عن مسألة الدين، ولكننا واجدون في نتائجه المدهشة الصيغة الحقيقية لعلاقة الإنسان- الوعي بالكون-المادة؛ وبالتالي لمنشأ المعتقد الديني.
إن ما يعنينا هنا من فيزياء الكم هو نتائجها المعرفية، ودورها في اكتشاف الإنسان لوضعه في هذا الكون وطبيعة علاقته به، بعد أن هزت بعمق كل ما كنا نعرفه عن أنفسنا وعن الواقع الموضوعي الذي نتعامل معه، وأدت إلى إعادة نظر فلسفية في كل أفكارنا التقليدية المتوارثة. ولكن، لكي نستطيع أن نفهم هذه النتائج المعرفية، لا بد لنا من عرض مقدماتها بطريقة سهلة تضع القارئ في قلب أكبر مغامرة عقلية في تاريخ الإنسان.
الباب السابع
الوعي والكون
كلانية الوجود في الفيزياء الحديثة ومنشأ الدافع الديني
الفصل الأول
العالم الكمومي والنظرية الكوانتية
فرض ميكانيك الكم نفسه على المسرح العلمي في بداية القرن العشرين بشكل تلقائي غير مقصود، وتضافرت على دراسته وصياغة نظريته صفوة العقول في العالم المتقدم. والكم
Quantum
هو في الأصل اللغوي اليوناني كمية من شيء ما. من هنا فإن تعبير ميكانيك الكم يعني دراسة حركة الكمات أو الكموم. فالطبيعة تبدو وكأنها تحدث على دفقات؛ أي كوانتا
Quanta ، ويقوم ميكانيك الكم بملاحظة ودراسة هذه الظاهرة.
1
تطور ميكانيك الكم تدريجيا، عندما وجد الفيزيائيون أنفسهم أمام ظواهر لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى مبادئ الفيزياء النيوتونية التقليدية، فجاء هذا العلم الجديد من أجل تكميل واحتواء القديم دون إلغائه، وذلك بتطوير وجهات نظر أكثر شمولية من شأنها مساعدتنا على تفسير الطبيعة كما صرنا نلاحظها الآن؛ فالفيزياء النيوتونية ما زالت صالحة لدراسة وتفسير العالم الكبري
Macrocosm ، كالنظام الشمسي وغيره من الظواهر التي تسود الكون الأكبر، ولكنها باتت عاجزة عن دراسة وتفسير العالم الصغري
Microcosm ؛ عالم الذرة والجسيمات الدقيقة المكونة لها. وبتعبير آخر، فإن إنزال مركبة فضائية على سطح القمر لا يغدو ممكنا دون استخدام مبادئ الميكانيك التقليدي، التي شرحها نيوتن في القرن السابع عشر في كتابه المعروف بالمبادئ. أما التوغل في أعماق المادة، وفهم حركة ذراتها والإفادة من طاقة هذه الذرات، فيتطلب منا التحول إلى ميكانيك الكم ومبادئ النظرية الكمومية (الكوانتية).
بقي عالم الذرة عالما افتراضيا منذ أن طرح بعض فلاسفة الإغريق، وبعض حكماء الشرق، تصورهم لبنية المادة على أنها مكونة من ذرات متراصة متماثلة هي اللبنات الأولى، أو الوحدات الأساسية، التي لا يمكن تجزئتها إلى وحدات أصغر. ولم يتحول الافتراض إلى واقع تجريبي حتى القرن التاسع عشر، عندما بدأ الفيزيائيون يلاحظون آثار ونتائج الظاهرة الذرية. وأكثر من ذلك؛ فقد لاحظ الفيزيائيون في الوقت نفسه أن هذه الذرات ليست الوحدات الصغرى النهائية المكونة للمادة، وإنما هي تتألف بدورها من وحدات أصغر منها هي البروتون والنيترون والإلكترون، فدعوا مكونات الذرة هذه بالجسيمات الأولية، اعتقادا منهم بأنها اللبنات الأساسية التي تؤلف الذرة وبالتالي المادة برمتها. ومع اكتشاف الذرة ومكوناتها، اكتشف الفيزيائيون عدم صلاحية كل المفاهيم التقليدية التي تعودوا استخدامها لوصف الموضوعات الطبيعية، مثل الموضع المكاني (=
) والسرعة (=
Velocity ) واللون والحجم وما إليها، والتي غدت غير دقيقة بل وإشكالية أيضا، إذا أتينا لاستخدامها في عالم الجسيمات الدقيقة. ولكي نفهم هذه النقلة الحاسمة في تصور وفهم طبيعة المادة ، لا بد لنا من إجراء مقارنة سريعة بين مقتربات الفيزياء النيوتونية ومقتربات الفيزياء الحديثة الكوانتية.
تتمثل المساهمة الكبرى لإسحاق نيوتن في تاريخ العلم باكتشافه قوانين الحركة وقانون التثاقل (= الجاذبية). فوفق قانونه الأول للحركة، إذا تحرك جسم ما على خط مستقيم، فإنه سوف يستمر في التحرك على مساره إلى ما لا نهاية، إلى أن تتسلط عليه قوة خارجية تحد من حركته أو تحرفه عن مساره. ووفق قانونه الثاني، فإن كل فعل يقابله رد فعل مساو له في الشدة ومعاكس في الاتجاه. أما في التثاقل، فإن الأجسام جميعها تتبادل ما دعاه نيوتن بالتأثير عن بعد وفق قوة تثاقل تفعل بينها. وهذه القوة هي التي تشد التفاحة الناضجة نحو الأرض، وهي التي تحفظ أيضا القمر في مداره حول الأرض والكواكب في مساراتها حول الشمس.
تصف قوانين الحركة عند نيوتن ما الذي يحصل لجسم ما وهو في حالة الحركة؛ فنحن نستطيع إذا عرفنا قوانين الحركة أن نتنبأ بمستقبل الجسم المتحرك إذا توافرت لدينا معلومات دقيقة عن أحواله الابتدائية، مثل سرعته الابتدائية واتجاهه الأصلي ... إلخ. وكلما تزودنا بمعلومات ابتدائية أكثر عددا وأكثر دقة، كلما كانت تنبؤاتنا بالأحوال المقبلة أكثر صوابا ودقة أيضا. وأكثر من ذلك، فإن المعلومات الحالية عن جسم متحرك ما، من شأنها أن تكشف لنا عن أوضاعه الماضية أيضا. فإذا عرفنا الموضع الحالي للأرض بالنسبة إلى الشمس والقمر، وعرفنا سرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس، فإننا نستطيع التنبؤ بالكسوفات المقبلة للشمس، ونستطيع أيضا معرفة كسوفاتها الماضيات. فمن حيث المبدأ، تعتقد الفيزياء النيوتونية بقدرتها على التنبؤ الدقيق والكامل بوقوع أية حادثة فيزيائية، إذا توفرت لدى الباحث المعلومات الكافية حولها. إلا أن ما يمنع من تحقيق مثل هذه التنبؤات الدقيقة والكاملة لكل الحوادث، هو الكمية الكبيرة من المعلومات اللازمة أحيانا بخصوص حادثة ما، وتداخل هذه المعلومات. ولنأخذ مثالا على ذلك حالة بسيطة تتعلق بارتداد كرة عن حائط وسقوطها بزاوية معينة في موضع معين، إن التنبؤ بمسار هذه الكرة قبل اصطدامها، ونقطة الاصطدام، ثم ارتدادها ونقطة سقوطها على الأرض، يتطلب تحصيل معلومات كاملة عن شكل وحجم ومرونة الكرة، وعن سرعتها الابتدائية وزاوية قذفها، وعن كثافة وضغط ورطوبة وحرارة الهواء، وعن سرعة الريح وزاوية تأثيره على المقذوف، وعن صلابة الحائط، وما إلى ذلك. فإذا تضمنت الحادثة الواحدة أكثر من عنصر، زاد حجم المعلومات وتعقدت الرابطة بينها إلى درجة قصوى. ومع ذلك، فإن إمكانية التنبؤ الدقيق والكامل تبقى قائمة، ولو نظريا، حتى في أعقد الحالات. وقد بلغت هذه القناعة عند نيوتن حدا من الرسوخ، دفع به إلى القول بأنه لو قيض لنا معرفة كل المعلومات الابتدائية المتعلقة بلحظة نشوء الكون، وكنا قادرين على معالجتها بكفاية تامة، لاستطعنا التنبؤ بكل الأحداث التي تعرض لها الكون في الماضي وبما ينتظره في المستقبل.
تقود هذه الرؤيا النيوتونية إلى تصور حتمي جبري للكون؛ فكل ما جرى ويجري وسوف يجري، قد تم تقريره في مطلع الأزمان، وما الكون إلا آلة جبارة تعمل بدقة وفق العوامل الأولى التي أطلقت حركتها، ووفق قوانين دقيقة تنطبق على الأجسام الأرضية والأجسام السماوية معا، وذلك بضم مبدأ التثاقل إلى مبادئ الحركة. ولكي يختبر نيوتن صحة اشتمال قوانينه، التي استنبطها من ملاحظة حركة الأجسام من حوله، على حركة الأجرام السماوية البعيدة، قام بحساب حركة القمر وبعض الأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية، باستخدام معادلاته في الحركة العادية، ثم قارن الأرقام التي توصل إليها بالأرقام المتحصلة لدى علماء الفلك، فجاءت النتائج متطابقة كل التطابق. وبذلك ألغى نيوتن، وبضربة واحدة، الفاصل التقليدي القديم بين الأجسام الأرضية والأجسام السماوية، فكلا النوعين يخضع للقوانين نفسها. فكان هذا أول توحيد من نوعه بين السماء والأرض، قائم على ملاحظة علمية مبرهن عليها تجريبيا ورياضيا.
على عكس الفيزياء التقليدية، فنحن في ميكانيك الكم لا نستطيع، من حيث المبدأ، أن نعرف ما يكفي عن الوضع الراهن لعناصر الحادثة الفيزيائية، لنستطيع التنبؤ بأوضاعها المستقبلية، حتى لو توفرت لدينا أفضل معدات القياس. والمسألة هنا لا تتعلق بحجم هذه المهمة وصعوبتها، كما هو الحال في الفيزياء النيوتونية، بل استحالتها؛ ذلك أن طبيعة المادة في العالم الصغري تجعلها عصية على أساليب الفيزياء المعتادة في توقع المسار المقبل للحدث. ولنضرب مثالا على ذلك، حادثة تقليدية في العالم الكبري وأخرى كمومية في العالم الصغري.
إذا أقلعت طائرة من المطار ب في طريقها إلى المطار ج، بسرعة ثابتة مقدارها 800كم في الساعة، فإننا نستطيع في أية لحظة معرفة مكانها على الطريق المؤدي إلى مطار الهبوط ج، طالما أننا نملك معلومات عن سرعتها ووجهتها، فنقول إن الطائرة ستكون بعد ساعتين في س على مسافة 1600كم من مطار الانطلاق. أما في العالم الكمومي، فإن التجارب على الجسيمات الدقيقة قد برهنت عدم قدرتنا على معرفة سرعة جسيم ما وموضعه في آن واحد؛ ففي الوقت الذي نستطيع به ضبط سرعة الجسيم، فإننا نفقد تماما موضعه، وعندما نستطيع تحديد موضعه نفقد سرعته، وهذا ما يعرف بمبدأ الريبة أو اللاتعيين
2
The Uncertainity Principle
في الفيزياء الكمومية. هذا الوضع لا ينشأ، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، عن قصور في الوضع الحالي لتقنيات القياس، بل هو وضع ناجم عن طبيعة العالم الكمومي، الذي تتحدى ظواهره تجاربنا اليومية وفهمنا المعتاد. وتتعدى حالة اللاتعيين التي تواجهنا في ملاحظة حركة الكموم، والعلاقة بين سرعة الجسيم وموضعه، إلى علائق أخرى مثل الزمن الذي تستغرقه حادثة على المستوى الذري والطاقة اللازمة لإتمامها.
إن عدم قدرتنا على تقرير سرعة وموضع الجسيم، يعني أننا لا نستطيع التنبؤ بدقة بأحواله المقبلة كما هو الأمر مع الأجسام المتحركة في عالمنا المعتاد. من هنا، فإن ميكانيك الكم لا يتنبأ بأحداث محددة، بل باحتمالات وقوع هذه الأحداث. وفي هذا المجال، فإن ميكانيك الكم يتمتع في حساب الاحتمالات بالدقة نفسها التي يتمتع بها الميكانيك التقليدي في توقع الأحداث؛ فالفيزياء التقليدية تقول: إذا كانت الأمور الآن على حالة كذا وكذا، فإن كذا وكذا لا بد حاصل. أما الفيزياء الكوانتية فتقول: إذا كانت الأمور الآن على حالة كذا وكذا، فإن احتمال حدوث كذا وكذا هو ... وهنا يحسب الاحتمال بدقة وفق أساليب رياضية خاصة.
ينجم عن هذا الوضع الذي نواجهه على المستوى الكمومي، مسألة فلسفية على غاية من التعقيد؛ فالجسم الحقيقي يجب أن يتمتع بسرعة معينة، ويجب في الوقت نفسه أن يتواجد في موضع معين. ولكن الوضع الكمومي يخيرنا بين معرفة واحد فقط من هذين الوجهين على حساب فقدان الآخر. وهذا يعني أننا لا نؤثر فقط في عالم الواقع، بل إننا نعمل بشكل ما على خلقه. فخيارنا لقياس السرعة يظهر لنا السرعة، وخيارنا لمعرفة الموضع يظهر لنا ذلك الموضع. وبتعبير آخر، فإن خيارنا لمعرفة الموضع يظهر لنا ذلك الموضع. وبتعبير آخر، فإن خيارنا لاكتشاف خاصية ما ربما يعمل على خلق هذه الخاصية وإظهارها إلى حيز وعي المراقب. وهنا يزول مفهوم الإنسان المراقب للطبيعة، ليحل محله مفهوم الإنسان المشارك في حدوث عمليات الطبيعية. وفي هذا يقول الفيزيائي المعروف من جامعة برنستون جون ويلر ما يلي: «إن أهم ما في الفيزياء الكوانتية أنها ألغت مفهوم العالم الذي يقع وراء عدسة المراقب المستريح خلف أدوات رصده. إن رصد جسيم صغير مثل الإلكترون يتطلب من المراقب أن يخترق أداة رصده ليصل إليه، إن عليه أن يختار بين تحضير عدته لرصد سرعة الإلكترون أو تحضيرها بشكل مختلف لرصد موضعه؛ لأن أحد التحضيرين يمنع ويستبعد التحضير الآخر. وفوق ذلك، فإن عملية القياس تغير من حالة الإلكترون الأصلية، ولن يعود الحال إلى ما كان عليه قبل القياس. فإذا أردنا أن نصف حقيقة ما حدث، وجب علينا أن نتجاوز مفهوم المراقب، ونستبدله بالمفهوم الجديد وهو المشارك؛ ذلك أن الكون هو، بطريقة غريبة ما، كون تشاركي.»
3
ففي العالم الصغري، إذن لا يستطيع الفيزيائي أن يلعب دور المراقب الموضوعي، كما كان حال الفيزيائي التقليدي، والموضوعية العلمية هنا لا محل لها ولا معنى؛ لأن المراقب ينخرط بشكل عضوي في العالم الذي يراقبه، إلى درجة تأثيره في الظاهرة التي يراقبها. فنحن جزء من الطبيعة، وعندما نقوم بدراسة أية ظاهرة من ظواهرها، فإن الطبيعة بشكل ما هي التي تعمل على دراسة نفسها بنفسها. ولسوف نرى فيما بعد كيف انتهت الفيزياء الحديثة إلى موقف غير علمي (بالمعنى القديم للكلمة)، وذلك باكتشافها أن الرجوع إلى الوعي ضرورة أساسية من ضرورات صياغة قوانين الميكانيك الكمومي. أما الآن فلنعد إلى بعض الأفكار الأولية حول العالم الصغري.
إن الانتقال من العالم الكبري إلى العالم الصغري يتم على مرحلتين؛ الأولى تنقلنا إلى المستوى الذري، والثانية إلى المستوى ما دون الذري؛ أي عالم الجسيمات الدقيقة. إن أصغر جسم في العالم الكبري يمكن رؤيته بأقوى المجاهر ليحتوي على ملايين الذرات التي لا يمكن رؤيتها مباشرة بأية وسيلة كانت. وإذا أردنا إعطاء فكرة عن مدى ضآلة حجم هذه الذرات الموجودة، مثلا، في كرة بحجم طابة التنس، فإننا نطلب من القارئ أن يتخيل هذه الطابة وقد تضخمت حتى غدت بحجم الكرة الأرضية، عندها فقط يمكن له رؤية ذراتها التي تكون بحجم حبات العنب تملأ هذه الطابة التي ضاهت الأرض عظما. ولكن الذرة ليست أصغر مكونات المادة؛ فلقد اكتشفت الفيزياء الحديثة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن الذرة تتألف بدورها من جسيمات أصغر منها، تم حصرها مبدئيا في ثلاثة هي البروتون والنيترون والإلكترون، ودعيت بالجسيمات الأولية، اعتقادا من العلماء بأن هذه هي المكونات الأساسية للمادة ولبناتها الأولى. فإذا أردنا إعطاء فكرة عن مدى ضآلة هذه الجسيمات، بدورها، بالنسبة إلى الذرة، فإننا نطلب من القارئ أن يتخيل الذرة وقد صارت بحجم قبة مسجد يعادل ارتفاعها مبنى باثني عشر طابقا، عند ذلك يستطيع أن يرى نواة الذرة على شكل بضع حبيبات من الملح هي البروتونات والنيترونات المكونة للنواة، وأن يرى الإلكترونات عبارة عن نثرات من الغبار الدقيق تتحرك على مدارات حول النواة، أبعدها يتطابق وسقف القبة العالية. هذا هو النظام الشمسي للذرة كما تصوره الفيزيائي البريطاني رذر فورد عام 1911م، وكما طوره بعد ذلك الدانيمركي نيلز بوهر
N. Bohr
عام 1913م، اعتمادا على تجربته المشهورة في تحليل طيف توهج غاز الهيدروجين.
إلا أن نظرية الكم التي ظهرت بعد ذلك بقليل، وتطورت خلال العقود الأولى من القرن العشرين، قد أظهرت لنا أن الجسيمات الأولية في العالم ما دون الذري لا يمكن مقارنتها من حيث طبيعتها بحبات الملح أو نثرات الغبار؛ لأن هذه الحبات والنثرات في العالم الكبري هي «أشياء» أو «موضوعات» ذات كيان محدد، أما الجسيمات المدعوة بالأولية، فلا تمتلك «وجودا» من هذا القبيل، بل إنها تنحو لأن تكون موجودة. ومقدار ميلها إلى الوجود يمكن حسابه بواسطة الاحتمالات. إنها مقدار أو كم من شيء ما لا نستطيع تحديد هويته حتى الآن. وبتعبير آخر، فإن الوحدات الأساسية المكونة للمادة ليست لبنات مادية، بل هي كموم من موجود لا ندري كنهه، وأحداث احتمالية تتحقق عندما نجري عليها عملية القياس والرصد. وبما أن عملية الرصد تغير، كما رأينا، من حقيقة المرصود وتحدث فيه اضطرابا، فإننا لن نعرف قط حقيقة المرصود في ذاته، وبمعزل عن الراصد، هذا إن كانت له حقيقة مستقلة عن مشاركتنا إياه حال الوجود. لقد أظهرت التحليلات الدقيقة لعمليات الرصد على المستوى الصغري، أن الجسيمات الدقيقة (= ما دون الذرية) لا يمكن فهمها ككيانات منعزلة مستقلة عن بعضها، وإنما كنوع من العلائق المتبادلة بين أدوات الرصد وما يرافقها من تحضيرات من جهة، والنتائج التي تتحصل لدينا في نهاية عملية القياس والرصد من جهة أخرى. ونحن كلما توغلنا في أعماق المادة، تقابلنا الطبيعة بنوع من الوجود تغيب في مواجهته فكرة المكونات الأساسية، ليحل محلها فكرة النسيج الموحد الذي تشكله العلائق لا الوحدات المادية الصغرى. ومع ذلك، فإن فيزياء الكم بقيت تتعامل مع الجسيمات الأولية باعتبارها «أشياء» و«موضوعات»؛ وذلك لسببين؛ الأول استمرار نوع من الفكر الفيزيائي التقليدي في الفيزياء الحديثة، والثاني عدم وجود خيار آخر في الوقت الحاضر أمام الفيزياء؛ لأن لغاتنا التقليدية ومفاهيمنا السائدة ليست في حال يسمح بابتكار مصطلحات جديدة تستوعب الرؤية الجديدة للكون.
لقد قلنا إن ميل الظواهر دون الذرية إلى الوجود تحكمه الاحتمالات. أما مبدأ الاحتمال فمتصل بالإحصاء، والإحصاء هو وصف لسلوك الجماعات لا الأفراد. تستخدم أساليب الإحصاء الحديثة على نطاق واسع اليوم من أجل التنبؤ بسلوك المجموعات. من ذلك مثلا، ما تقوم به الجهات المختصة في مجتمع ما من دراسة النمو السكاني لهذا المجتمع، والمعدلات المرتقبة لزيادة السكان خلال فترة معينة قادمة. إن هذه المعدلات المرتقبة تتنبأ بزيادة إجمالية مقدارها كذا، ولكنها تعجز عن التنبؤ بالعائلات التي سوف تساهم في تقديم المواليد الجديدة وتلك التي لن تفعل. وإدارة المرور في المدن الكبيرة تقوم بدراسات إحصائية تشمل بعض التقاطعات الحرجة، لتعرف نسبة السيارات التي تنعطف نحو اليسار وتلك التي تنعطف نحو اليمين، أو التي تتبع قدما نحو الأمام. وهنا تقدم قوانين الإحصاء مساعدة بالغة في التنبؤ بالسلوك الإجمالي للسيارات، ولكنها تعجز عن تحديد السيارات التي سوف تنعطف يمينا أو يسارا.
لقد عرفت الفيزياء التقليدية مبادئ الإحصاء وأفادت منها، إلا أنها اعتقدت بأن الصورة الإحصائية لسلوك مجموعة فيزيائية ما، هي نتاج إجمالي لسلوك عناصر المجموعة. فالضغط الحاصل مثلا على جدران مضخة هوائية، هو مجموع اصطدامات جزيئات الهواء المضغوط بتلك الجدران، ونحن نستطيع ولو من حيث المبدأ أن ندرس مسار كل جزيء داخل المضخة وحساب الضغط الفردي الذي يمارسه. أما في الفيزياء الكوانتية، فنحن لا نمتلك من حيث المبدأ أي وسيلة للتنبؤ بالسلوك الفردي لأي جسيم؛ ولذا فإن التركيز هنا يتم على السلوك الإجمالي، أما السلوك الفردي فسلوك احتمالي صرف ولا نستطيع تحديده بدقة. والاحتمال هو الخصيصة الأساسية لميكانيك الكم. وهنا نستطيع أن نسوق مثالا مبسطا يوضح مفهوم الاحتمال الكوانتي. فكلنا يعرف أن الكربون المشع يتحلل بمرور الزمن عن طريق إطلاقه لإشعاعات معينة، وأن هذا النوع من الكربون يخسر نصف وزنه كل 160 سنة. فإذا دفنا في الأرض غراما واحدا من الكربون المشع ، فسنكون على بينة تامة من أننا لو أخرجناه بعد 1600 سنة فسنراه وقد تحول إلى نصف غرام فقط، ولكننا لا نستطيع معرفة الذرات التي ستتحلل وتلك التي ستبقى سليمة، كل ما نستطيع تقريره هو أن 50٪ من هذه الذرات سوف ينطلق على شكل إشعاعات، و50٪ منها سوف يبقى في شكله الحالي.
إن الطابع الإحصائي للقوانين الفيزيائية الناظمة للعالم الذري وما دون الذري، لا يعكس جهلنا الحالي بالعالم الصغري قدر ما يعكس طبيعة ذلك العالم، حيث الاحتمال هو الخصيصة الأساسية التي تحكم كل العمليات الجارية فيه. فالجسيمات الأولية لا توجد على وجه التأكيد في أمكنة ومواضع معينة، وإنما تظهر ميلا للوجود، والحوادث الذرية لا تأخذ مجراها على وجه التأكيد في أزمنة معينة وبطرائق محددة، وإنما تظهر ميلا للحدوث. فمن غير الممكن، مثلا، أن نقول على وجه التأكيد أين يوجد الإلكترون على مداره حول النواة، وإنما نستطيع تكوين احتمالات عن ميله للتواجد في أمكنة مختلفة حول النواة، وذلك من خلال صيغة رياضية تدعى تابع الاحتمال، تدلنا على إمكانيات تواجد الإلكترون في أمكنة متنوعة وأزمنة متنوعة. لنفرض الآن أننا حررنا هذا الإلكترون من مداره حول النواة بواسطة تجهيزات معدة لهذا الغرض، وذلك بقصد دراسة خصائصه وسلوكه. إن إتمام عملية الرصد والاختبار هذه لن يتم إلا إذا ارتحل الإلكترون حرا وعبر مسافة معينة، من منطقة التجهيز التي حررناه فيها إلى منطقة أخرى معدة للقياس، حيث نتلقاه على لوح حساس كما هو موضح في الشكل أدناه.
إن كل الأحوال التي يمر بها الإلكترون من مكان إطلاقه إلى اصطدامه باللوح الحساس، هي أحوال احتمالية صرفة؛ فنحن لا نستطيع التأكد من مكان وجوده على مسار ارتحاله في زمن معين، بل لدينا عدد من الاحتمالات عن تواجده في أماكن معينة وأزمنة معينة، تقدمها لنا الصيغة المعروفة بتابع الاحتمال. وكذلك الأمر عن موضع سقوطه على اللوح الحساس؛ إذ إن تابع الاحتمال يقول لنا إن هنالك 60٪ لإمكانية سقوطه في المنطقة
x
و40٪ لسقوطه في المنطقة
y ، والأمر كله خاضع للصدفة. فإذا سقط الإلكترون على اللوح الحساس، فإنه يترك آثارا مرئية عليه يمكن تحليلها رياضيا بمساعدة الكمبيوتر لاستخلاص النتائج. وبتعبير آخر، فإن خصائص الإلكترون لا يمكن تحديدها في معزل عن هذه العملية، التي تنقسم إلى إجراءات في منطقة التجهيز وإجراءات في منطقة الاختبار، والجسيم لا يوجد ولا يكون له معنى إلا في هذا السياق الرصدي، إنه ليس كيانا مستقلا، وإنما رابطة تصل بين شقي جملة الرصد. ويجري التأكد من ذلك، إذا أدخل القائمون على التجربة تعديلات على عملية التجهيز أو على عملية القياس؛ لأن خصائص الإلكترون المرصود سوف تتبدل تبعا لذلك. وهذا كله يعني أن الجسيمات ما هي إلا تجريدات ذهنية تفيدنا في التعامل العملي مع العالم الكمومي ولا تتمتع بوجود حقيقي.
سوف تتضح أمامنا هذه الأفكار على غرابتها تدريجيا، وسيكون لنا وقفات مطولة معها لاحقا. أما الآن فعودة ثانية إلى بعض المفاهيم الأولية.
يعتقد معظم الناس بأن الفيزياء إنما تدور حول أشياء لا تتمتع بصفة الحياة، وذلك بعكس الكائنات العضوية الحية. غير أن هذا التمييز بين الحي والجامد قد صار اليوم أكثر مرونة، خصوصا في أعماق عالم الجسيمات، حيث تبدو هذه الجسيمات في التجارب وكأنها تعالج المعلومات وتتصرف وفق قراراتها الخاصة، التي تستند بدورها إلى قرارات تتخذها جسيمات أخرى بعيدة عنها. وأكثر من ذلك؛ فقد بينت بعض التجارب أن تبادل المعلومات بين الجسيمات يجري بشكل آني ودون أن يستغرق زمنا ما مهما كان ضئيلا؛ أي إنها تخرق المطلق الوحيد في عالم الفيزياء، الذي هو سرعة الضوء. وهذا يعني أن الجسيمات تشكل ما يشبه العضوية الواحدة، وأن الكون برمته ليس إلا كيانا عضويا متصلا.
والقصة تبدأ عام 1900م باكتشاف للفيزيائي الألماني ماكس بلانك، يعتبر البداية الفعلية لميكانيك الكم. لقد اكتشف بلانك أن البنية الأساسية للطبيعة هي بنية متقطعة، وكان ذلك في سياق دراسته لإشعاع الأجسام السوداء عند تسخينها. كان الفيزيائيون قبل بلانك يعرفون أن الإشعاع الناجم عن توهج الأجسام المسخنة يحدث نتيجة لاستثارة ذرات الجسم بالحرارة؛ ذلك أن إلكترونات الذرات المستثارة تأخذ بالذبذبة والاهتزاز بتأثير الحرارة التي امتصتها، ثم إنها تشعها بشكل متصل وتدريجي حتى تهدأ وتفقد كل الطاقة المكتسبة. ولكن بلانك قد اكتشف أن الأجسام المسخنة لا تكتسب الطاقة بشكل متصل ثم تشعها بالطريقة نفسها، مثل نابض تم ضغطه ثم ترك لكي يتمدد ثانية، وإنما تكتسب هذه الطاقة ثم تشعها على دفقات منتظمة متقطعة أشبه بالرزم المتساوية أو الوحدات المتماثلة، وكلما شعت مقدارا من هذه الرزم هبطت إلى مستوى طاقي أدنى، حتى تهدأ تماما وتتوقف عن الاهتزاز. وقد اعتمد بلانك مصطلح
Quanta ، أي الكم، للإشارة إلى رزم الطاقة هذه، مدخلا بذلك المفهوم الكمومي إلى عالم الفيزياء، رغم أنه سوف يمر سبع وعشرون سنة قبل أن تتخذ النظرية الكمومية شكلها وتدعى بهذا الاسم.
لقد اكتشف بلانك أن الطاقة يتم استيعابها وإشعاعها على دفقات أو كموم، ولكن أينشتاين هو الذي أثبت بعد ذلك بخمس سنوات أن الطاقة نفسها تحدث على دفقات، وأننا لا نواجهها إلا في سلوكها الكمومي هذا. وقد استخدم أينشتاين تجربة بسيطة لإثبات نظريته، قوامها حزمة من الضوء يجري تسليطها على لوح معدني أملس. عندما يصطدم الضوء بالسطح المعدني، فإنه يتسبب في اقتلاع عدد من الإلكترونات التي تترك ذراتها وتتحرك طائرة في الهواء. ولا يمكن لهذه الظاهرة أن تحدث إذا كان الضوء عبارة عن موجة تتحرك في الأثير، كما كان الاعتقاد سائدا، بل لا بد أن يكون الضوء تيارا من حبيبات تندفع بطاقة معينة من شأنها اقتلاع الإلكترونات، كما يفعل حجر طائر في الهواء اصطدم بحائط وأدى إلى تفتيت بعض نثرات الملاط عند موضع الاصطدام وإطلاقها في الهواء. وقد دعيت هذه الظاهرة بالأثر الكهرضوئي
Effect ، ودعيت حبيبات الضوء بالفوتونات.
ثم قادت هذه التجربة أيضا إلى ملاحظة أن تخفيف شدة الضوء المسلط على السطح، لا يؤدي إلى تخفيف سرعة الإلكترونات المتطايرة نتيجة الصدم، بل إلى الإقلال من عددها فقط، وهذا يعني أن طاقة رزم الضوء الوارد إلى السطح لم تهبط بتخفيف شدته، وإنما قل عدد هذه الرزم مع احتفاظها بقوة الصدم ذاتها، أما تخفيف طاقة رزم الضوء الوارد إلى السطح، وهو الذي يدلنا عليه هبوط سرعة الإلكترونات المقتلعة، فيحدث نتيجة لتغيير لون يمتلك مقدارا من الطاقة يزيد أو يقل عن فوتونات اللون الآخر، بينما تتماثل كمية الطاقة في فوتونات اللون الواحد؛ وبذلك أكد أينشتاين ما كان بلانك قد اكتشفه سابقا من تناسب الطاقة طردا مع شدة توتر الضوء. فالضوء البنفسجي ذو التردد (= التوتر، الذبذبة) الأعلى في الطيف الشمسي، يتألف من فوتونات ذات طاقة أعلى من الضوء الأحمر ذي التردد الأدنى في الطيف . وهذه العلاقة البسيطة بين التردد والطاقة هي شأن مركزي في ميكانيك الكم.
ولكن المشكلة هنا أننا عندما نتحدث عن التردد، فإننا ننظر إلى الضوء باعتباره موجة لا جسيمات تتلاحق في تيار دافق. والفرق بين الموجة الطاقية وتيار الفوتونات يشبه الفرق بين موجة ماء على سطح البحر وسرب من الأسماك يسير تحتها في اتجاه واحد؛ فالموجة في أي وسيط مادي مثل الماء تبدو على الشكل الآتي:
فالتردد هو عدد الموجات التي تعبر نقطة معينة مثل س في ثانية واحدة؛ فإذا عبرت النقطة س عشر موجات في الثانية، قلنا إن تردد الموجة هو 10 دورات في الثانية، وإذا عبرتها مائة موجة قلنا إن ترددها هو مائة دورة في الثانية، وهكذا ... وكما نلاحظ من الشكل أعلاه، فإن للموجة طولا هو المسافة الفاصلة بين ذروتين متتاليتين، ولها ارتفاع هو علو الذروة عن محور الحركة. ومن التردد نستنتج السرعة؛ فسرعة الموجة هي عدد تردداتها مضروبا بطول الموجة. ولكننا بخصوص موجة الضوء لا نحتاج إلى إجراء مثل هذا الحساب؛ لأن لموجة الضوء سرعة ثابتة في الفضاء، وهي 300000كم في الثانية أو 186000 ميل في الثانية، كما أثبتت التجربة. فكيف يمكن للضوء أن يتبدى أحيانا كموجة وأحيانا أخرى كجسيمات يلاحق بعضها بعضا؟ إن الجسيم هو شيء ما يشغل حيزا معينا، أما الموجة فإنها انتشار في وسط ما لأثر طاقي معين. فنحن إذا رمينا حجرا في ماء ساكن، فإننا نلاحظ عددا من الأمواج يصدر عن مركز الصدم، يتوسع بشكل دائري حتى يتلاشى تماما. إن ما يحدث هنا هو أن الطاقة الحركية التي يحملها الحجر أثناء قذفه، قد انتشرت في الماء على هيئة أمواج ولد بعضها بعضا، دون أن يكون لدينا هنا أي جسم مادي يتحرك على محور الموجة، حتى الماء. فالماء الذي ينقل الموجة لا يتحرك معها دائما، بل يصعد ويهبط في مكانه دون أن يتقدم معها. من هنا فإن ما قد يعتقده البعض لأول وهلة، من إمكانية التوحيد بين ظاهرة الموجة وظاهرة الجسيم، بتخيل جسيم يسير على موجة، لا يتمتع بأساس علمي؛ فالجسيمات في الطبيعة لا تسير إلا في اتجاه مستقيم، وجزيئات الماء الذي تعبره الموجة لا تتحرك معها، بل تدور في مكانها لدى عبور الموجة، كما هو مبين أدناه.
إن ما يعرفه الجميع عن الضوء هو أنه ذو طبيعة موجية، وأنه يتشكل من موجات طاقة لا من رزم متقطعة تسير في الفضاء. وهذا أمر تدعمه التجربة، ولا يستطيع أحد أن يبرهن على عكسه، منذ أن قام توماس يونغ بتجربته المشهورة قبل أينشتاين بمائة عام، وأثبت من خلالها موجية الضوء. استفاد يونغ من مراقبته لسلوك الموجات المائية، ومن ظاهرة الحيود التي يمكن ملاحظتها في هذه الموجات، وهي الظاهرة التي سنتوقف عندها قليلا قبل أن نشرح تجربة يونغ نفسها.
تصور أنك تحلق في حوامة فوق حاجز لصد الأمواج أمام أحد الشواطئ، في هذا الحاجز فتحة تسمح بمرور سفينتين كل في اتجاه، والموج يصطدم بالحاجز ثم يرتد عنه. عندما ننعم النظر فيما يجري عند الفتحة، فإننا نلاحظ أن الموجات التي تصل إليها تجتازها إلى الطرف الثاني حتى تتلاشى في المياه الهادئة الواقعة خلف الحاجز، كما هو موضح في الشكل أدناه.
والآن إذا قمنا بإحداث فتحة أخرى في الحاجز أضيق من الأولى، لا تسمح بمرور أكثر من قارب عادي واحد، وعدنا إلى مراقبة سلوك الأمواج عند هذه الفتحة، فإننا سنلاحظ سلوكا مختلفا للأمواج الواصلة إليها؛ فبدلا من اجتياز الموجة للفتحة نحو الطرف الآخر، فإن اصطدامها بالحاجز عند الفتحة يؤدي إلى تشكيل موجات جديدة أصغر، تتوسع في حلقات حول الفتحة التي تتخذ مكان البؤرة، فيما يشبه الأثر الذي يحدثه سقوط حجر في ماء ساكن، كما هو موضح في الشكل أدناه. وهذا ما يدعى بالحيود
Diffraction . وتفسير ظاهرة الحيود هذه يكمن في مقارنة عرض الفرجة الجدارية بطول الموجة المتجهة نحوها؛ ففي الحالة الأولى كان عرض الفتحة أوسع من المسافة الفاصلة بين ذروتي موجتي جبهتين؛ الأمر الذي يسمح بمرور الأمواج إلى الجهة الأخرى؛ أما في الحالة الثانية فإن عرض الفتحة كان مساويا لطول الموجة أو أضيق من ذلك؛ الأمر الذي يؤدي إلى ظاهرة الحيود.
فإذا كان الضوء موجة، فإننا قادرون ولا ريب على ملاحظة حيود أمواجه عند مرورها عبر ثقب ضيق. وللتأكد من ذلك نستطيع أن نجري التجربة الآتية: نضع أمام منبع ضوئي حاجزا أحدثنا وسطه فتحة مربعة أبعادها بضعة سنتيمترات، فنجد أن الضوء يمر من خلال الفتحة ويرسم على الحائط المقابل شكلا مربعا مماثلا لمربع الفتحة، ذا حواف واضحة يتمايز عندها النور والظلمة، كما هو موضح في الشكل أدناه.
إن الأمواج الضوئية هنا قد عبرت الفتحة دونما عائق، وعكست شكل الفتحة المربع على الحائط، دونما حيود. ولكننا إذا استبدلنا الحاجز ذا الفتحة المربعة الواسعة بآخر ذي فتحة ضيقة لا تزيد فرجتها عن شق الموسى، وبذلك لا تسمح بمرور الموجة الضوئية، حصل لدينا الحيود، وتشكلت على الجدار بقعة ضوئية غير منتظمة تماما يتداخل عند حوافها النور والظل. وكما نلاحظ من الشكل أدناه، فإن هذه البقعة غير المنتظمة تعكس على الحائط شكل الشق الذي مرت عبره، كما كان حال البقعة المنتظمة الحواف التي عكست شكل الفتحة المربعة؛ لأن الضوء هنا قد حاد عند الشق، مكونا مويجات متتابعة جديدة ناشئة عن اصطدام الموجة بالشق دون أن تستطيع عبوره بسبب ضيقه بالنسبة لعرضها. استنادا إلى ظاهرة الحيود هذه، قام توماس يونغ بتجربته المعروفة في إثبات الطبيعة الموجية للضوء.
استخدم يونغ الشمس كمنبع ضوئي، فجعل ضوءها يمر في فتحة إلى حاجز صنع فيه ثقبين صغيرين جدا، متوضعين على خط عمودي، يمكن تغطية كل منهما بصفيحة معدنية. وراء الحاجز هنالك جدار يتلقى الضوء القادم من أحد الثقبين أو من كليهما، كما هو مبين في الشكل أدناه. سمح يونغ لنور الشمس أن يمر من أحد الثقبين وكان الآخر مغلقا، فوجد على الجدار بقعة ضوئية غير منتظمة تماما يتداخل عند حوافها النور والظل؛ لأن الضوء قد حاد عند الثقب، ثم سمح للضوء أن يمر عبر الثقبين معا فوجد على الجدار، بدلا من بقعتي ضوء تمثلان حيود الضوء عند الثقبين، عددا من المناطق المضيئة والمناطق المظلمة المتناوبة.
إن التفسير الوحيد لتكون هذه المناطق المتعاقبة من النور والظلمة على الجدار، يكمن في ظاهرة معروفة تماما في ميكانيك الموجة، وهي التداخل. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة إذا رمينا في حوض ماء ساكن حجرين في وقت واحد، وفي نقطتين متقاربتين عند ذلك تتشكل مجموعتان من الموجات تتوسعان باتجاه بعضهما إلى أن تتداخلا. نلاحظ في نقاط تقاطع الموجات تشكل ذرى عالية ووديان منخفضة. فالذروة العالية يشكلها التقاء قمتي موجتين، تتضافران لتشكلا ذروة عالية واحدة، أما الوادي الذي يناظرها فيشكله التقاء قمة موجة بقاع موجة أخرى، فتتفانى الموجتان، ويظهر الماء ساكنا عند التقائهما. وهذا بالضبط ما يحدث في تجربة توماس يونغ؛ فحيود الضوء عند الثقبين يؤدي إلى تشكيل مجموعتين من الأمواج، التي تقترب من بعضها ثم تتداخل، فيؤدي تداخلها إلى تكوين مناطق مضيئة تفصل بينها مناطق معتمة. فالمناطق المضيئة تشكلها ذرى موجات الضوء المتضافرة، التي يؤدي تطابقها إلى إضاءة نقطة السقوط بشدة على الحائط. أما المناطق المعتمة فيشكلها تفاني الموجات، عندما تكون إحدى الموجتين في قمتها والأخرى في حضيضها؛ أي إن الضوء لا بد أن يكون موجة؛ لأن الموجات وحدها هي التي تحدث نمط التداخل. وبذلك نكون قد حصلنا على «حقيقتين» حول طبيعة الضوء؛ فتجربة يونغ قد أثبتت بما لا يدع مكانا للشك أن الضوء هو طاقة متصلة يرتحل أثرها في موجات، أما تجربة أينشتاين، التي جرت بعد ذلك بمائة عام، فقد أثبتت بما لا يدع مكانا للشك أيضا بأن للضوء بنية حبيبية، تؤلفها الفوتونات التي تنتمي بشكل ما إلى زمرة الأجسام المادية، رغم عدم تمتعها بكتلة؛ أي إن الضوء هو موجة وجسيم في آن معا، وهما حقيقتان تنفي إحداهما الأخرى؛ لأن الأثر الطاقي شيء والجسيم شيء آخر. وهذه أول أعجوبة هزت أركان المنطق القديم والفيزياء التقليدية. ولكن الظاهرة الكمومية تخفي في جعبتها الكثير من الأعاجيب؛ فبعد اكتشاف أينشتاين للبنية الحبيبية للطاقة بعقدين من الزمان، أثبتت تجربة حاسمة أخرى أن المادة أيضا ذات طبيعة مزدوجة في بنيتها الأولية الدنيا، فالجسيمات الأولية المشكلة للمادة رغم تركيبها الحبيبي فإنها تتصرف كالأمواج أيضا.
في عام 1924م، ألقى فيزيائي فرنسي شاب قنبلة جديدة مزقت كل أمل باق بلقاء الفيزياء التقليدية بالفيزياء الجديدة؛ فلقد اقترح لوي دوبروي
L. Debroglie
بأن للمادة أيضا أمواجا مرافقة لها، ودعم مقولته هذه بحلول رياضية تعتمد معادلات بلانك وأينشتاين. وقد حددت حلوله الرياضية طول الموجات المرافقة للمادة، مثبتا أنه كلما ازداد عزم الجسيم (=
Momentum )
4
كلما قصرت الموجة المرافقة له. وبعد ذلك ببضعة أعوام قام ديفسون
C. Davisson
بتجربة أثبتت نتائج دوبروي الرياضية، ونال الاثنان جائزة نوبل للفيزياء، تاركين بقية الفيزيائيين أمام المعضلة الجديدة؛ أن المادة أيضا موجة.
أعاد ديفسون تجربة الشقين بوضع شاشة تلفزيونية على الحائط في منطقة السقوط، وباستبدال المنبع الضوئي بقاذف إلكترونات. والإلكترونات كما نعرف هي جسيمات مادية ذات كتلة يمكن قياسها، وتدخل بشكل أساسي في تكوين ذرات المادة. أرسل ديفسون نحو الحاجز حزمة من الإلكترونات بعد إغلاق أحد الشقين، فعبرت الإلكترونات الشق المفتوح وسقطت على الشاشة، حيث شكلت عليها نمط توزع شبيها بنمط توزع فوتونات الضوء؛ فمعظم الإلكترونات قد سقط حول المركز المقابل للشق، ثم قل انتشارها نحو الأطراف وصولا إلى الحواف غير المنتظمة للبقعة، التي كان النور والظل يتداخلان عندها في التجربة السابقة؛ أي إن الإلكترونات قد شكلت على الشاشة ما يشبه بقعة النور غير المنتظمة، وإننا أمام ظاهرة حيود موجي، رغم أننا لا نقذف ضوءا بل حزمة جسيمات مادية. وللتأكد من ظاهرة الحيود هذه قام ديفسون بإطلاق حزمة ثانية من الإلكترونات نحو الحاجز، ولكن مع فتح الشقين هذه المرة. وبدلا من تشكل بقعتين غير منتظمتين على الشاشة، كل منهما تقابل أحد الشقين المفتوحين، فقد تشكلت مناطق ظليلة تزدحم فيها مواضع سقوط الإلكترونات وأخرى خالية؛ الأمر الذي يشير إلى التداخل الموجي بين حزمتي الإلكترونات الصادرة عن الشقين. إن الإلكترونات التي عبرت الشق الواحد المفتوح لن تسقط في نفس البقعة، التي سقطت فيها بعد فتح الشق الثاني، بل إنها تختار مناطق معينة لسقوطها دون الأخرى، مكونة شرائط مزدحمة وأخرى خالية.
ننتقل الآن إلى الجزء الأكثر إثارة في التجربة؛ فبدلا من حزمة الإلكترونات، قام المجرب بإطلاق الإلكترونات فرادى، ومن أجل كل إلكترون يعبر الحاجز نضع على الحائط بدلا من الشاشة لوحا فوتوغرافيا حساسا، يسجل لنا موضع سقوط الإلكترون المقذوف. تم إغلاق أحد الشقين وترك الآخر مفتوحا، ثم أطلقت الإلكترونات واحدا إثر آخر، مع تغيير اللوح الحساس عقب سقوط كل إلكترون. بعد سقوط عدد كبير من الإلكترونات، قام المجرب بوضع الألواح الشفافة التي تجمعت لديه بعضها فوق بعض في وضعية المطابقة، وكل لوح منها يحمل أثر سقوط إلكترون واحد، فنتجت لديه بقعة غير منتظمة مشابهة لبقعة النقاط عبر المنتظمة، التي ظهرت على الشاشة التلفزيونية لدى إطلاقنا لحزمة الإلكترونات على شق واحد مفتوح، أعاد المجرب الكرة بعد فتح الشقين معا، وأخذ يطلق الإلكترونات فرادى أيضا مع تغيير اللوح الحساس في كل مرة، وبعد سقوط عدد كبير من الإلكترونات، رتب الألواح الحساسة الشفافة بالطريقة نفسها، فتكونت لديه مناطق مزدحمة وأخرى خالية مشابهة لتلك التي ظهرت على الشاشة التلفزيونية، لدى إطلاق حزمة الإلكترونات على الشقين المفتوحين، وهذا يدل على أن مجموعة الأحداث الإفرادية المتمثلة بعبور إلكترون واحد لأحد الشقين المفتوحين، تظهر تداخلا موجبا أيضا، وأن الإلكترون المفرد يسلك كموجة لا كجسيم إذا كان الشق الآخر مفتوحا. فكيف يعرف الإلكترون وهو يتوجه نحو شق واحد ليمر منه أن الشق الآخر مفتوح فيسلك كموجة لا كجسيم؟ وكيف له أن يعرف ما الذي ينوي إلكترون آخر أن يفعله، فيحجم عن السقوط في الشرائح الخالية مفضلا السقوط في الشرائح الأخرى المعدة لسقوط الإلكترونات الأخرى؟
يقول الفيزيائي هنري ستاب: «إن اللغز المركزي في النظرية الكوانتية، هو انتقال المعلومات بهذه السرعة والكيفية، فأنى للجسيم أن يعرف بوجود شقين؟ وكيف يمكن تحصيل المعلومات عما حدث هناك لتقرير ما يمكن أن يحدث هنا؟»
5
ويجيب بعض الفيزيائيين على هذه التساؤلات بأن يعزوا للجسيمات وعيا من نوع ما. يقول ووكر: «ربما كان علينا أن نعزو وعيا من نوع خاص إلى كل عمليات الميكانيك الكوانتي ... وبما أن كل ما يجري من حولنا هو في النهاية نتيجة لحادثة كوانتية أو أخرى، فإن الكون يبدو مسكونا بعدد لا نهائي من وحدات وعي صغيرة، وغير مفكرة، مسئولة عن السير التفصيلي لعمليات الكون.»
6
لقد كان اكتشاف الطبيعة المزدوجة للطاقة وللمادة، بمثابة الضربة القاصمة لقانون السببية في الفيزياء التقليدية. فوفق القوانين النيوتونية، كنا نستطيع التنبؤ بنتائج معينة وبشكل حتمي، إذا عرفنا الشروط الابتدائية لأية حادثة. أما الآن فإن معلوماتنا عن الشروط الابتدائية لا تفيد بتاتا في التنبؤ بنتيجة الحادثة، وتجربة الشقين الآنفة الذكر أكبر دليل على ذلك. فهنا، ورغم التماثل التام للشروط الابتدائية، فإن الإلكترون يهبط في مكانين مختلفين، وهو يسلك كجسيم مادي وكموجة أيضا، وذلك تبعا لطريقة ترتيب معدات التجربة. وهكذا يبدو أنه يتوجب علينا منذ الآن أن نقبل نظرات متعارضة في رؤية المادة والتعامل معها.
لقد أظهر أينشتاين أن الطاقة ذات طبيعة جسيمية، وأنها تأتي على دفقات، ولكنه لم يدحض النظرية الموجية، ناهيك عن أنه لم يكن راغبا في ذلك. ولتفسير هذا التعارض في طبيعة الطاقة، اقترح أينشتاين وجود «موجات شبحية» ترافق الفوتونات وتقود خطاها، وهذه الموجات هي كيانات رياضية لا تملك وجودا فعليا؛ فالفوتونات يبدو أنها تتبع مسارات لها كل الخصائص الرياضية للموجة، ولكن هذه الموجة لا وجود لها. ورغم أن قلة من الفيزيائيين ما زالت ترى في هذا التفسير حلا مرضيا، إلا أن الغالبية العظمى وجدت أنه لا يفسر شيئا رغم منطقيته. وفي عام 1924م، تم إنجاز أول خطوة عملية مهمة نحو فهم الظاهرة الكمومية؛ فلقد اقترح ثلاثة من الفيزيائيين وعلى رأسهم نيلز بوهر
N. Bohr ، أن الموجات المرافقة للجسيمات هي موجات احتمال. والاحتمال هنا يشير إلى أمر في طور الحدوث ولكنه لم يحدث بعد، إنه ميل الشيء إلى التحقق، وهذا الميل إلى التحقق يمتلك نوعا من الوجود، رغم عدم بلوغه مرحلة الحادثة المكتملة. وبناء عليه، فإن موجات الاحتمال هي كيانات رياضية يستطيع الفيزيائيون الاعتماد عليها من أجل التنبؤ باحتمالات وقوع أو عدم وقوع حادثة ما. إلا أن الفرق بين موجات أينشتاين الشبحية وموجات الاحتمال هذه، هو أن موجات الاحتمال تطلعنا على حوادث ذات وجود خاص لم نعهده من قبل. يقول فيرنر هايزنبرغ: «إنها تعني ميلا نحو شيء ما؛ فهي بشكل ما تعبير كمي عن مفهوم الكمون في الفلسفة الأرسطية. وإن فيها أمرا يقف في موقع الوسط بين فكرة الحادثة والحادثة نفسها؛ فهي نوع غريب من الحقيقة الفيزيائية، يتوسط بين الإمكان والتحقق الفعلي.»
7
إن ما يحدث فعلا في تجربة الشقين عندما نقذف الإلكترونات فرادى، هو أن احتمال سقوط الإلكترون المفرد، يتحسس كلا الشقين محدثا موجتين تجتازان إلى الجهة الأخرى وتتداخلان مع بعضهما، وبما أن ذرى إحدى الموجتين ووديان الأخرى تتضافر أو تتفانى، محدثة حزما ممتلئة وأخرى فارغة (أو مضيئة ومظلمة في حال قذف الفوتونات)، فإن هناك احتمالا أكبر لتوجه الجسيم نحو مواضع الحزم الأكثر وميضا والابتعاد عن الحزم المظلمة. وبسبب اللاتعيين المتأصل في موضع الإلكترون وحركته، وهو اللاتعيين الذي يؤدي إلى الطبيعة الموجية، فإنه ليس من الممكن التنبؤ بالمسار الذي سوف يسلكه الجسيم فعلا، إلا أنه يمكن التنبؤ بسلوك مجموعة كبيرة من الإلكترونات على أساس إحصائي، وذلك من خلال التحليل الرياضي للموجة. ولقد أظهرت التجارب بعد ذلك أن الطبيعة الموجية والجسيمية للفوتون والإلكترون، تتعداهما إلى بقية مكونات الذرة والعالم الصغري إجمالا، بل وللذرة نفسها وللجزيئات. وأكثر من ذلك؛ فإن تمتع العالم الصغري بموجات احتمال، يقود إلى القول بوجود موجات الاحتمال في العالم الكبري أيضا؛ فلكل شيء في عالمنا موجة احتمال خاصة به؛ الكرة المقذوفة، والسيارات المنطلقة ، وحتى الناس أنفسهم. غير أن ما يمنع من ملاحظة أثر الأمواج الاحتمالية في العالم الكبري هو قصرها المتناهي في الصغر.
في تجارب ميكانيك الكم، هنالك دوما منطقة للتجهيز ومنطقة للقياس؛ ففي تجربة الشقين مثلا، تتألف منطقة التجهيز من القاذف الإلكتروني ومن الحاجز ذي الشقين، وقد وضعا وفق ترتيب معين مدروس. أما منطقة القياس (أو الرصد)، فتتألف من اللوح الفوتوغرافي الحساس الموضوع على بعد معين من منطقة التجهيز. نقوم بإعداد الجسيم في منطقة التجهيز، ثم يترك ليرتحل إلى منطقة القياس، بشكل معزول عن المؤثرات الخارجية (وفي الحقيقة، فإن عمليات التحضير والقياس تكون في معظم الحالات أكثر تعقيدا من تجربة الشقين، خصوصا في تجارب تصادم الجسيمات التي تجري في المسارعات النووية). من حيث المبدأ، فإننا نتصور الجملة المقاسة وهي ترتحل بين المنطقتين دون تدخل أو توجيه، وفق قانون سببي خاص وضع أسسه الفيزيائي النمساوي أروين شرودينغر عام 1924م في معادلته المعروفة بمعادلة شرودينغر الموجية؛ ذلك أن ما يجري بين منطقة التجهيز ومنطقة القياس أثناء الارتحال المفترض للجسيم هو انتشار لممكنات، يجري تمثيله رياضيا بما يدعوه الفيزيائيون بالدالة الموجية (= التابع الموجي
wave function )؛ لأنها تبدو رياضيا كموجة تنتشر في حلقات. وهذه الدالة هي ابتكار ذهني رياضي يمثل كل الممكنات التي يمكن أن تحدث للجملة المقاسة (الإلكترون مثلا) عندما تتفاعل مع جملة المراقبة التي تتضمن معدات القياس والرصد، إضافة إلى القائمين على التجربة أنفسهم. ويجري تشكيل الدالة الموجية رياضيا بواسطة معادلة شرودينغر من أجل كل لحظة بين زمن مفارقة الجسيم لمنطقة التجهيز وظهور أثره في جملة المراقبة. وبعد الانتهاء من حساب دالة الموجة، نقوم بإجراء عملية رياضية على الدالة من أجل الحصول على دالة أخرى ندعوها بدالة الاحتمال، وهذه تخبرنا عن الاحتمالات القائمة في كل زمن لكل ممكن ممثل في دالة الموجة، فهي تقول بأن هناك فرصا مقدارها كذا وكذا لتحقيق هذا الممكن أو ذاك.
إن الدالة الموجية للإلكترون المرتحل في مثالنا، تحتوي على النتائج الممكنة كلها لتفاعله مع أجهزة الرصد، وذلك كأن يهبط الإلكترون في المنطقة أ أو ب أو ج أو د من اللوح الحساس، فما إن يتخذ الإلكترون مساره حتى تدخل الدالة الموجية في أطوارها المتغيرة وفق معادلة شرودينغر، إلى أن يتفاعل الجسيم مع جملة المراقبة. في هذه اللحظة يتحقق واحد من الممكنات المتضمنة في الدالة الموجية، وتتحول بقية الممكنات إلى صفر؛ أي إن الدالة الموجية تفقد كيانها وتتلاشى. كل هذا يعني أننا لا نعرف شيئا بالفعل عن حالة الجسيم بين منطقة التجهيز ومنطقة القياس، كما أننا لا نعرف عن مكان هبوطه على اللوح الحساس، كل ما نستطيع القيام به هو حساب احتمالات متتابعة عن مكان الهبوط، أما فيما بين المنطقتين فلا يوجد لدينا جسيم مؤكد في حالة الحركة. ومن الناحية الرياضية، لا يوجد جسيم على الإطلاق. وعليه فإننا لا نستطيع وصف حالة الجسيم بمفاهيم محددة ذات طبيعة متعارضة؛ لأنه لا يوجد في مكان محدد، وفي الوقت نفسه غير غائب تماما، وهو لا يغير موضعه، وفي الوقت نفسه لا يبقى في مكان ثابت. إن ما يتغير هنا هو النمط الاحتمالي. وبكلمات الفيزيائي روبرت أوبنهايمر: «لو تساءلنا مثلا: هل يبقى موضع الإلكترون على حاله؟ كان الجواب بالنفي. ولو تساءلنا: هل يتغير موضع الإلكترون بمرور الزمن؟ كان الجواب بالنفي. ولو تساءلنا: هل هو في حالة حركة؟ كان الجواب بالنفي.»
8
ويقول الفيزيائي نيلز بوهر: «إن الجسيمات المادية المستقلة، ليست إلا تجريدات من صنعنا، أما خصائصها فلا يمكن تحديدها وملاحظتها إلا من خلال تفاعلها مع جمل أخرى.»
9
وهكذا تكشف نظرية الكم عن علائقية متأصلة في طبيعة الكون؛ فهي تظهر عدم مقدرتنا على تقسيم المادة إلى وحدات مكونة أولية منفصلة بعضها عن بعض. صحيح أننا كلما أوغلنا في عالم المادة وجدنا أنها مؤلفة من جسيمات، إلا أن هذه الجسيمات ليست تلك اللبنات الأساسية التي تصورها ديموقرطيس ونيوتن، بل هي تجريدات ذات فائدة عملية من أجل التعامل مع المادة. ففي المستوى ما دون الذري، في عالم الجسيمات الأولية، تتحول الأجسام المادية إلى أنماط موجية احتمالية، وهذه الأنماط الاحتمالية لا تمثل احتمالات لأشياء بل احتمالات لعلائق متبادلة. إن التحليل المتأني لعملية الملاحظة والرصد هنا، تظهر أن الجسيمات ما دون الذرية لا يمكن فهمها ككيانات مستقلة، وإنما كعلائق بين ما يجري في مرحلة التحضير للرصد ومرحلة القياس اللاحقة. وبذلك تطلعنا نظرية الكم على الوحدة الضمنية للكون، بإظهارها عدم إمكانية تجزئة العالم إلى مكونات متناهية في الصغر تتمتع بوجود مستقل عن الكل، وأن هذا الكل ليس إلا نسيجا متصلا من العلائق التي تكونه، أما الوعي الإنساني الذي يراقب الطبيعة ويحاول فهمها بشكل تجزيئي، فليس إلا جزءا من هذه العلائقية الشمولية؛ إنه النقطة التي تنتهي عندها أية حادثة وتتخذ معناها.
ينقلنا موضوع الرصد الذي كنا نجريه لغاية الكشف عن الجسيم، إلى مسألة جديدة من مسائل الفيزياء الكوانتية، وهي دور المراقب في تحقيق الحادثة التي كانت مطوية في موجات الاحتمال؛ ذلك أن الدالة الموجية تتلاشى في منطقة القياس عندما يتداخل المراقب من أجل تحقيق أحد الاحتمالات. فإلى أي حد يساهم الوعي في صنع الحادثة الفيزيائية؟ تطلعنا الفيزيائية الحديثة على أمر في غاية الغرابة، وهو أننا لا نستطيع رصد شيء في العالم الصغري دون أن نعمل بذلك على إحداث تغيير فيه؛ فالمراقب وموضوع مراقبته يتداخلان، وهما في حالة اعتماد متبادل لا تنفصم عراه. وبتعبير آخر، فإن ما نحصل عليه من خلال فعل المراقبة، ليس معلومات موضوعية عن «العالم الخارجي»، بل معلومات عن تداخلنا وتفاعلنا مع هذا «العالم الخارجي». وهذا ما يدعوه الفيزيائيون بالتكاملية
Complementarity . والتكاملية مفهوم طوره نيلز بوهر، أصلا، من أجل تفسير الطبيعة المزدوجة للضوء؛ فقد رأى بوهر أن الخصيصة الموجية للضوء والخصيصة الحبيبية ضروريتان رغم تعرضهما من أجل فهم ظاهرة الضوء؛ لأن هاتين الخصيصتين ليستا في الواقع خصيصتين للضوء، بل إنهما خصيصتان لتداخلنا مع ظاهرة الضوء؛ فنحن نستطيع أن ندفع الضوء إلى إظهار هذه الخصيصة أو تلك باختيار التجربة المناسبة. فإذا أردنا إظهار الخصيصة الموجية قمنا بإجراء تجربة الشقين، وإذا أردنا إظهار الخصيصة الجسيمية أجرينا تجربة أينشتاين في الأثر الكهرضوئي. وهذا يعني أن المراقب الواعي هو صلة الوصل بين مظهري الضوء، وأنه بدون الوعي يبقى الضوء بدون خصائص محددة.
ولكن القول بحاجة الضوء إلى الوعي ليظهر خواصه، يقودنا إلى الاعتراف بأن الوعي الذي يتفاعل مع الضوء يحتاج بدوره إلى الضوء وإلى غيره لكي يتلمس خصائصه الذاتية. وفي هذا يقول بوهر: «إننا لا نستطيع أن نعزو الوجود الحقيقي المستقل، بالمفهوم الفيزيائي المعتاد، إلى الظاهرة المرصودة، ولا إلى القائم بالرصد أيضا؛
10
ذلك أن عالمنا الذي نعيش فيه لا يتألف من «أشياء»، بل من علائق وتفاعلات ، وأن الخصائص ليست من طبيعة ما يتمظهر على أنه «شيء»، بل من طبيعة الترابطات التي تتوسع في شبكة منسوجة بإحكام لتشمل الكون كله. وفي هذا يقول هايزنرغ: «إن العلوم الطبيعية لا تقوم بمجرد وصف وتفسير الطبيعة، بل هي جزء من ذلك التفاعل بيننا وبين الطبيعة.» ويقول أيضا: «إن ما نرصده ليس الطبيعة في ذاتها، بل الطبيعة كما تتبدى لطرائقنا في استجوابها.»
11
وبناء على ذلك فقد قدمت الفيزياء الكوانتية مفهوم المشارك لكي يحل محل مفهوم الراصد أو المراقب. وهناك بوادر منذ الآن على ضرورة تضمين الوعي الإنساني في أي وصف فيزيائي للعالم.
لقد ألهمت أمواج المادة الفيزيائي النمساوي إروين شرودينغر فكرة جديدة حول بنية الذرة؛ فبدلا من التصور المعتاد لإلكترونات حبيبية تدور حول نواة الذرة في مدارات تتوسع نحو الخارج، خرج شرودينغر بنظريته عن أمواج الاحتمال التي تحيط بالذرة في دوائر مغلقة متتابعة. فإذا قمنا بعملية الرصد للتحري عن الإلكترونات، وجدناها في مكان ما على هذه المدارات، إلا أننا لا نستطيع القول بأن هذه الإلكترونات تدور حول النواة بالمفهوم التقليدي للفيزياء النيوتونية. وبما أن المسار الذي تتحرك عليه موجات الاحتمال هذه هو مسار مغلق، فإن الأمواج المتشكلة على المدارات هي من النوع الذي ندعوه بالأمواج الواقفة. والأمواج الواقفة هي نمط موجي يظهر عندما تكون الأمواج محصورة في حيز محدود، لا يسمح للموجة بالتلاشي كما تتلاشى الموجات في المدى المفتوح، مثل الهواء الطلق والحيز المائي الواسع؛ ذلك أن الأمواج في الحيز المحصور تجبر على الارتداد على نفسها، مشكلة سلسلة مقابلة من الأمواج تعود نحو المصدر الذي يردها مجددا، وهكذا في حركة دائبة تؤدي إلى تكوين الموجة الواقفة بين نهايتي الحيز المحصور. ونحن نستطيع رؤية هذه الأمواج الواقفة بالعين إذا ربطنا نهاية حبل إلى الجدار، ثم شددنا النهاية الأخرى باليد، ورحنا نحرك الساعد بشدة صعودا وهبوطا، عند ذلك تظهر أمامنا موجات الحبل وكأنها واقفة رغم حركته، كما هو مبين في الشكل أدناه.
والشيء المهم الذي نلاحظه من هذا الشكل، هو أن الموجات تتوزع ضمن الحيز المغلق بشكل متساو لا يسمح بظهور أجزاء من الموجة، بل هناك على الدوام عدد تام من الموجات، فإذا زادت كانت وحدة الزيادة موجة واحدة لا نصف أو ربع موجة، وإذا نقصت فإنها تنقص بالطريقة ذاتها؛ فهي موجات كمومية تأتي دوما في دفقات. إن مثل هذه الحبال الموجية المؤلفة من عقد متصلة النهايات، هي التي تحيط بنواة الذرة وفق نظرية شرودينغر التي تم التأكد من نتائجها الرياضية تجريبيا. وبذلك حل التصور الجديد محل التصور القديم، وأعطى نتائج تجريبية عملية باهرة؛ فالذرة لم تعد نظاما شمسيا مصغرا، وبدل الجسيمات التي تدور حول النواة علينا الآن أن نتخيل أمواجا احتمالية مكان المدارات القديمة. فإذا قمنا بعملية الرصد، فإننا سنعثر على الإلكترون في مكان ما على الحبال الموجية، ولكننا لا نستطيع القول بأن الإلكترونات تدور حول النواة بالمفهوم الميكانيكي التقليدي. انظر الشكل أدناه:
غير أننا في محاولة التعرف على مضامين الفيزياء الحديثة، يجب أن نحذر من الاعتقاد بأن النظرية عندما تعطي نتائج عملية هي نظرية تصف «الحقيقة»، ويمكن تطبيقها على أوسع نطاق؛ فنظرية شرودينغر في أمواج الاحتمال والموجة الواقفة (أو الساكنة)، ومعادلاته الرياضية التي تم تطبيقها على أوسع نطاق، تخفق في فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية، حيث يقوم الفيزيائيون باستخدام المسرعات النووية من أجل إحداث التصادم بين الجسيمات عن طريق شحنها بطاقات عالية جدا. والسبب في ذلك راجع إلى أن الجسيمات المتصادمة ونواتجها، إنما تتحرك بسرعات خيالية تقارب أحيانا سرعة الضوء؛ الأمر الذي يحتم علينا أن نأخذ بالحسبان مفاهيم النظرية النسبية، وهذا ما لم تفعله نظرية شرودينغر. إن أي نظرية فيزيائية تطمح اليوم إلى بعض الشمول أو كله، عليها أن تترك حيزا للقران بينها وبين النظرية النسبية.
بدأت فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية كاستمرار للبحث القديم عن اللبنات الأساسية التي تتشكل منها المادة. ففي بداية هذا البحث عن مكونات المادة، اكتشف الفيزيائيون الذرة، ثم اكتشفوا بعد ذلك مكونات الذرة، وهي ثلاثة: البروتون والنيترون والإلكترون، فدعوها بالجسيمات الأولية. وبعدها بدأ السعي لاكتشاف المكونات التي تتألف منها هذه المكونات الثلاثة للذرة، وذلك باستخدام تقنيات التصادم العنيف بينها لغرض تفكيكها ومعرفة مكوناتها، بعد أن تأكد لهم أنها ليست أولية ولا بسيطة التركيب. ففي المسارعات النووية، يطلق جسيم التسديد (الذي يدعى بالقذيفة) في مسار دائري يؤمن شحنه بطاقة حركية عالية، قبل أن يترك متجها إلى حجرة التصادم المدعوة بحجرة الضباب. عند الدخول إلى حجرة الضباب الموضوعة ضمن حقل مغناطيسي، تنحرف الجسيمات ذات الشحنة الموجبة في اتجاه معاكس للجسيمات ذات الشحنة السالبة، وبناء على شدة هذا الانحراف يمكن حساب كتلة الجسم الذي يترك وراءه أثرا تلتقطه وسائل فوتوغرافية عالية التقنية، وهذا الأثر يشبه ذيل الأبخرة الذي تتركه وراءها الطائرات النفاثة.
إلا أن التصادمات العنيفة في المسارعات لم تحقق الآمال المعقودة عليها في الكشف عن اللبنات الأولية المكونة للجسيمات الذرية؛ ذلك أن هذه التصادمات لم تؤد إلى تفكيك الجسيمات الأولية إلى مكوناتها، بل إلى خلق جسيمات جديدة ذات طبيعة أولية كطبيعة الجسيمات الداخلة في عملية التصادم. وبعض هذه الجسيمات الجديدة تتمتع بكتلة معادلة لكتل الجسيمات المولدة لها. وهذا يشبه قيامنا بإجراء تصادم عنيف بين سيارتين لمعرفة الأجزاء المؤلفة لهما، ولكننا بدل الحصول على نوابض ونواقل حركة وعجلات وما إليها، فإن التصادم قد أعطانا سيارات أخرى بعضها يماثل تماما السيارتين الأصليتين. يمثل الشكل أعلاه رسما تخطيطيا مأخوذا عن صورة فوتوغرافية من حجرة التصادم، يمثل اصطداما بين بروتونين، حيث قام البروتون الأول بعد دخوله حجرة التصادم باقتلاع إلكترون عن مساره في ذرته، ثم تابع ليصطدم بالبروتون الثاني، لينتج عن اصطدامهما ستة عشر جسيما جديدا.
كيف حصل ذلك؟ ومن أين جاءت الجسيمات الجديدة؟ إن جزءا من الإجابة تقدمه لنا نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، أما الإجابة الكاملة فما زالت من المهمات القائمة لفيزياء الجسيمات؛ فالجسيمات الجديدة تنشأ عن الطاقة التي تكتسبها الجسيمات الداخلة في التصادم أثناء تسريعها، والطاقة تزيد في كتلة الجسيم المتسارع؛ فإذا وصلنا إلى نقطة الاصطدام، كانت الكتلة الأصلية للجسيمين، إضافة إلى الكتلة التي اكتسباها من جراء السرعة الزائدة، كافية لتخليق الجسيمات الجديدة الناجمة عن التصادم. فلقد علمتنا النظرية النسبية مبدأ التعادل بين الكتلة والطاقة، من خلال المعادلة الشهيرة: ط = ك × س
2 ؛ أي: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء؛ أي إن الكتلة ليست إلا شكلا من أشكال الطاقة، وإن العالم المادي الذي كنا بسبيل معرفة جوهره هو عالم بدون جوهر مادي؛ ذلك أن جوهره غير مستقل عن الحوادث التي تكونه على مستوى الجسيمات، حيث الممثل والمسرحية شيء واحد، والمغني والأغنية نسيج متكامل، والراقص والرقصة لا يمكن تمييزهما. إن عالم الجسيمات دون الذرية هو رقصة خلق وفناء دائم، حيث تتحول الطاقة باستمرار إلى كتلة والكتلة إلى طاقة. وبتعبير آخر أدق نقول: حيث تتحول الطاقة إلى أشكالها الأخرى؛ لأننا، سواء في النسبية أم في ميكانيك الكم، نواجه أشكالا لا جواهر، والمهم في أية ظاهرة هو الشكل الذي يتبدى به الحدث، لا جوهر مكوناته.
لكي نفهم المعنى العميق المتضمن في معادلة أينشتاين الآنفة الذكر، لا بد لنا من تقديم توضيح مبسط لمفهوم الطاقة ومفهوم الكتلة؛ ففي حياتنا اليومية نقول عن جسم ما بأنه يحتوي على طاقة، إذا كان قادرا على الإتيان بعمل ما. وهذه الطاقة تأخذ أشكالا كثيرة؛ كالطاقة الحركية، والطاقة الحرارية، والطاقة الكهربائية، والطاقة الكيميائية، والطاقة التثاقلية وغيرها. فبصرف النظر عن شكلها، فإن الطاقة تستخدم لأداء عمل ما. وفي فيزياء الذرة، فإن الطاقة ترتبط بنشاط أو عملية ما، وأهميتها الأساسية تكمن في حقيقة أن الطاقة المتضمنة في عملية ما، هي طاقة محفوظة على الدوام . قد تغير الطاقة من شكلها بطرائق شديدة التعقيد، ولكنها لا تفقد شيئا من كميتها المتضمنة في أية عملية. أما الكتلة فمرتبطة دوما بجسم مادي ما، وهي مقياس لوزنه؛ أي للأثر الثقالي الواقع عليه. إضافة إلى ذلك، فإن الكتلة هي مقياس لعطالة الجسم؛ أي لمقاومته فعل التسارع. فالأجسام ذات الكتلة الكبيرة أصعب على إكسابها سرعة إضافية من الأجسام ذات الكتلة الصغيرة، ويستطيع أن يختبر هذا الأمر كل من حاول دفع سيارة على الطريق. وفوق ذلك، فإن الكتلة ترتبط في المفاهيم الفيزيائية التقليدية بجوهر غير قابل للفناء، هو أصغر جزء مكون لها، والذي يكون أيضا كل كتلة أخرى.
ولكن ها هي النظرية النسبية توحد بين هذين المفهومين المستقلين، وذلك بإظهارها أن الكتلة ليست إلا شكلا للطاقة؛ فالطاقة لا يمكن لها فقط أن تتحول من أحد أشكالها إلى الآخر، كما هو الحال في تحول الطاقة الكهربائية إلى طاقة حرارية، وإنما يمكن لنا أيضا أن نبحث عنها في كتل الأشياء؛ فالطاقة المتضمنة في كتلة جسيم ما، مثلا، تعادل كتلة الجسيم مضروبة بمربع سرعة الضوء. وهذا ما يفسر لنا تخليق المادة واختفاءها في المسارعات النووية، فإذا تم تسريع جسيم إلى ما يقارب سرعة الضوء، فإن كتلته تزداد باطراد، وهذه الزيادة في الكتلة ما هي إلا تعبير عن تحول طاقة الحركة إلى مادة، ثم إذا اصطدم هذا الجسيم المتسارع بجسيم متسارع آخر، تحولت كتلتاهما إلى طاقة، تعمل بدورها على تخليق جسيمات أخرى جديدة تنتج عن التصادم. من هنا يمكن القول بأن الكتلة ليست أكثر من طاقة مخزونة في قمقم علاء الدين. ونحن إذا تأملنا مجددا معادلة أينشتاين أعلاه لتبين لنا من أول وهلة الكم الهائل من الطاقة المخزون في جزء صغير من المادة؛ فلمعرفة كم الطاقة هذا يتوجب علينا أن نضرب الكتلة برقم خيالي هو مربع سرعة الضوء. ولإعطاء مثال توضيحي عن ذلك نقول: إن كتلة البروتون مثلا تساوي حوالي جزء واحد من مليون مليار مليار من الغرام، ولكن رغم ضآلة هذه الكتلة، فإنها تنتج لدى استحالتها إلى طاقة، ومضة من الضوء يمكن رؤيتها بالعين المجردة على مسافة تبلغ عشرة أمتار.
إضافة إلى التوحيد بين الكتلة والطاقة في مفهوم نسبي واحد، فقد عمدت النظرية النسبية أيضا إلى التوحيد بين الزمان والمكان في مفهوم نسبي واحد. ولتوضيح هذا الأمر لا بد لنا من إلقاء نظرة على القوانين الخمسة للنظرية النسيبة.
12
انطلق أينشتاين في بناء نظريته من مبدأين؛ أولهما مبدأ ثبات سرعة الضوء، الذي حوله من لغز إلى بدهية يبتدئ بها، وثانيهما مبدأ نسبية الحركة. ولنبتدئ بالمبدأ الأول. فما الذي نعنيه بقولنا إن للضوء سرعة ثابتة مقدارها 300000كم في الثانية أو 186000 ميل في الثانية؟ إذا كنت في سيارة تنطلق بسرعة 100كم في الساعة، وأمامك سيارة أخرى تسبقك بسرعة 150كم في الساعة، وقمت من مكانك بقياس سرعة السيارة الأمامية، فإنها ستكون حتما 50كم في الساعة، وهذا الرقم هو حاصل طرح السرعتين من بعضهما. أما إذا كانت السيارتان تنطلقان نحو بعضهما في اتجاهين متعاكسين، فإن سرعة السيارة الأخرى مقاسة من قبلك ستكون 250كم في الساعة، وهو حاصل جمع السرعتين المتعاكستين. وهذه من حسابات الحركة المعروفة منذ أيام غاليلو. إلا أن الضوء، وعلى عكس كل ما يتحرك في الطبيعة، يتحرك بسرعة ثابتة وبصرف النظر عن الوضع الحركي للمراقب. فإذا عمدت إلى قياس سرعة شعاع قادم إليك من مصدر مشع ساكن، لوجدتها 300000كم/ثا، وإذا تحركت نحو مصدر الشعاع بسرعة 100000كم/ثا، لوجدت أن سرعته أيضا ثابتة، وهي 300000كم/ثا. والأعجب من ذلك أنك إذا لاحقت شعاعا هاربا وأنت تتحرك بسرعة تصل إلى 250000كم/ثا، لوجدت أيضا سرعة الضوء ثابتة، ولما استطعت أبدا أن تقصر المسافة بينك وبينه.
أما عن نسبية الحركة، فيمكن شرحها من خلال المثال الآتي. تصور أنك قد غادرت الأرض في مركبة فضائية انطلقت بسرعة منتظمة مقدارها 5000كم/سا، حتى غابت الأرض تماما عن ناظريك. بعد أن غدوت وحيدا في الفضاء، فإنك تفترض بأنك ما زلت تسير بالسرعة نفسها؛ لأنها السرعة التي انطلقت بها. غير أن هذه الفرضية غير مؤكدة، ناهيك عن أن مقدار السرعة في الفراغ أمر لا معنى له؛ نظرا لعدم وجود مرجع تبتعد عنه أو تقترب منه، ويعين لك مقدار سرعتك بالنسبة إليه. لنفترض الآن أن سفينة فضائية أخرى قد مرت بك، وأنك قمت بقياس سرعتها من مكانك عند عبورها لك فوجدتها 1000كم/سا. وبما أنك تفترض أن سرعتك ما زالت 5000كم/سا بالنسبة إلى الأرض، فإن تقديرك لسرعة السفينة الأخرى بالنسبة للأرض أيضا سيكون 6000كم/سا، وهو حاصل جمع السرعتين المنتظمتين. إلا أن هذه العملية الحسابية خاطئة كليا في حال غياب مرجعية واحدة للحركة بالنسبة إليكما معا . وفي الواقع، فإن هناك احتمالات أخرى لتفسير تخطي السفينة الأخرى لك بسرعة 1000كم/سا؛ فقد تكون أنت واقفا بسفينتك والأخرى تتحرك بسرعة 1000كم/سا؛ وقد تكون سرعتك 10000كم/سا، والسفينة الأخرى قد مرت بك بسرعة 11000كم/سا؛ وقد تكون السفينة الأخرى واقفة وأنت ترجع إلى الأرض بسرعة 1000كم/سا. كل هذا سوف يدفعك إلى عدم التفكير نهائيا بالسرعة الحقيقية؛ لأنه لا وجود لمثل هذه السرعة في حال غياب المرجع الثابت، وكل ما تستطيع قوله هو أن سرعة السفينة العابرة بالنسبة إليك هو 1000كم/سا، أو بالعكس؛ لأن الحركات كلها نسبية بعضها إلى بعض في غياب المرجعية المشتركة. انطلاقا من هذين المبدأين صاغ أينشتاين قوانين النظرية الخاصة في النسبية، التي سأسوقها فيما يأتي مجردة عن معادلاتها الرياضية.
القانون الأول:
إن كل جسم مادي متحرك ينكمش في اتجاه حركته، حيث يغدو طوله أقصر فأقصر، إلى أن يختفي كلية إذا بلغ سرعة الضوء. لنفترض أن لدينا مركبتين فضائيتين، طول الواحدة منهما عند قاعدة الانطلاق عشرون مترا. أطلقت المركبتان إلى الفضاء الخارجي حيث غابتا عن أية مرجعية ثابتة. بعد ذلك عبرت المركبة أ زميلتها ب بسرعة نسبية مقدارها 150000كم/ثا؛ أي بما يعادل نصف سرعة الضوء. يقوم طاقم ب بقياس سرعة المركبة العابرة ليتأكد من سرعتها بالنسبة إليه، ثم يعمد إلى قياس طولها في الوقت نفسه، فيجده 17 مترا فقط لا عشرين. وهو الرقم الذي تعطيه بالفعل معادلة أينشتاين في انكماش الأجسام المتحركة. فإذا زادت السرعة النسبية بينهما لتصل إلى 90٪ من سرعة الضوء، أي 270000كم/ثا، وقام طاقم ب مرة أخرى بقياس طول المركبة العابرة أ، لوجده عشرة أمتار فقط. أما إذا بلغت سرعة أ بالنسبة إلى ب سرعة الضوء نفسها، وهو افتراض جدلي لا يمكن تحقيقه، فإن طول المركبة العابرة بسرعة الضوء سيكون صفرا. ومن الجدير بالذكر أن طاقم المركبة العابرة أ إذا قام بقياس المركبة الأخرى التي يتجاوزها ب، لوجد أنها هي التي تنكمش إلى 17 مترا في الحالة الأولى، وإلى 10 أمتار في الحالة الثانية، وأنها هي التي تتلاشى تماما إذا عبرها بسرعة الضوء، وذلك في الوقت الذي يجد طاقم كل مركبة أن طول مركبته ثابت لا يتغير. وهذا يعني أن وحداتنا الاصطلاحية لقياس المكان هي وحدات نسبية تطول وتقصر؛ مما يستتبع القول بنسبية المكان (= الفضاء)؛ لأنه لا فرق بين المتر الذي ينكمش في السرعات العالية، وبين المكان الذي يشغله هذا المتر.
القانون الثاني:
إذا تحرك جسم بالنسبة إلى مشاهد، فإن كتلة الجسم المتحرك ستزداد كلما ازدادت سرعته، وتعطي المعادلة الرياضية لهذا القانون مقدار زيادة الكتلة بدقة متناهية. فإذا عدنا إلى مثالنا السابق عن المركبتين الفضائيتين، وافترضنا أن وزن كل منهما في قاعدة الانطلاق هو 1000كغ، تقوم المركبة أ باجتياز المركبة ب بسرعة 250000كم/ثا، وعندها قام طاقم ب بقياس كتلة أ فوجد أنها تصل إلى 1200كغ، فإذا زادت سرعة المركبة أ إلى 270000كم/ثا؛ أي 90٪ من سرعة الضوء، فإن كتلتها ستصير ضعف ما كانت عليه في قاعدة الانطلاق؛ أي 2000كغ. والشيء نفسه يحدث إذا قام طاقم أ بقياس كتلة ب عند تجاوزها، وذلك في الوقت الذي يجد كل طاقم أن كتلة مركبته ثابتة لا تتغير.
وقد تم إثبات صحة نتائج معادلة أينشتاين هذه في تجارب المسارعات النووية، وأعطت القياسات أرقاما متطابقة تماما مع نتيجة المعادلة. من هذه التجارب ما أجراه معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، حيث استطاع رفع سرعة إلكترون واحد إلى 0,99999 من سرعة الضوء، فزادت كتلته المقاسة 900 مرة عن كتلته قبل التسريع.
القانون الثالث:
وتعطي معادلته مقدار السرعة النسبية بين جسمين متحركين. وهذا المقدار ليس جمعا بسيطا لمقدار السرعتين إذا كان الجسمان يتحركان في اتجاه بعضهما، ولا طرحا إذا كانا يتحركان عكس بعضهما. ففي مثالنا الأسبق عن سيارتين تتجهان نحو بعضهما، قمنا بجمع سرعة الأولى إلى سرعة الثانية، وحصلنا على 100كم/سا + 150كم/سا = 250كم/سا، ولكن معادلة أينشتاين الثالثة تجعل الفرق بين حسابنا العادي هذا وحساب النسبية، حوالي جزء من مليون جزء تقريبا من السنتيمتر. وهذا فارق ضئيل جدا يمكن تجاهله في مسائل الحياة اليومية. أما في السرعات العالية التي تقارب سرعة الضوء، فإن معادلة النسبية تغدو ضرورية. فإذا تحركت المركبتان الفضائيتان، في مثالنا السابق، نحو بعضهما بسرعة 160000كم/ثا، فإن السرعة النسبية بينهما لا يمكن أن تكون 160000كم/ثا + 160000كم/ثا = 320000كم/ثا؛ لأن هذه السرعة تزيد بمقدار 20000كم/ثا عن سرعة الضوء، وهذا محال. أما تطبيق معادلة أينشتاين الثالثة فيعطينا سرعة نسبية بين المركبتين مقدارها 259000كم/ثا، وهي أقل من سرعة الضوء.
القانون الرابع:
تزداد طاقة الجسم المتحرك بزيادة سرعته، وهذه الطاقة المضافة هي طاقة الحركة. ويقول القانون: إن هذه الطاقة ذات كتلة تضاف إلى كتلة الجسم المتحرك، وتحسب بواسطة المعادلة التي أوردناها سابقا، وهي ط = ك × س
2 .
القانون الخامس:
إن الزمن يتسارع أو يتباطأ تبعا لسرعة الجملة الفيزيائية المتحركة بالنسبة إلى جملة فيزيائية أخرى. لنفترض في مثال المركبتين أنهما انطلقتا في توقيت واحد من قاعدة الانطلاق، ثم حافظتا بعد ذلك على سرعة نسبية بينهما مقدارها صفر. في هذه الحالة، فإن الساعة الحائطية المعلقة في كل مركبة تشير إلى التوقيت نفسه. فإذا زادت السرعة النسبية بين المركبتين، فإن الأمر العجيب الذي يحدث هو اختلاف التوقيت في ساعة كل مركبة عن الأخرى؛ فالزمن سوف يبطئ في واحدة ويبقى على حاله في الأخرى. والأعجب من ذلك أن طاقم كل مركبة سوف يجد أن ساعته هي الدقيقة، وأن الأخرى هي التي تبطئ . فإذا فرضنا أن السرعة النسبية بينهما وصلت إلى 150000كم/ثا، ونظر طاقم ب إلى ساعة المركبة أ التي تجتازه، لوجد أنها أقل بست دقائق، وإذا زادت السرعة إلى 270000كم/ثا، وجد طاقم ب أن ساعة أ قد أبطأت بمقدار النصف تماما. وهذا ما تبينه المعادلة الخامسة من معادلات النسبية الخاصة.
ومن خصائص هذه المعادلة الخامسة المتعلقة بالزمن أن نتائجها تسير في اتساق تام مع نتائج المعادلة الأولى المتعلقة بانكماش الطول؛ فالزمن في المعادلة الخامسة يتغير بالنسبة إلى السرعة، بنفس «العامل الرياضي» الذي يتغير وفقه الطول بالنسبة إلى السرعة، بحيث يغدو الزمن صفرا في المركبة أ عندما يغدو طولها صفرا أيضا. وهذا يعني وجود صلة عميقة جدا بين المكان الثلاثي الأبعاد الذي نعيش ضمنه وبين الزمن، وأن هذه الأبعاد لا وجود لها من دون الزمن؛ لأنه البعد الرابع للوجود الفيزيائي، وهو كم فيزيائي مثله مثل الطول والعرض والعمق. إن الإنجاز الأكبر للنسبية الخاصة هو ضم العناصر الأربعة للكون في عنصرين؛ فبدلا من الزمان والمكان والطاقة والكتلة، صار لدينا زمان-مكان وكتلة-طاقة.
غير أن أينشتاين لم يكن راضيا تماما عن إنجازه في نظرية النسبية الخاصة؛ لأنها ركزت على حركات الأجسام التي تسير بسرعات ثابتة، وأغفلت حركة الأجسام المتسارعة بإغفالها لمبدأ التثاقل (أو الجاذبية). وهذا ما تداركه أينشتاين بعد ذلك بعشر سنوات، عندما نشر في عام 1915م نظريته في النسبية العامة.
وجد أينشتاين من خلال المعادلات الشديدة التعقيد للنسبية العامة أنه لا يوجد في الكون شيء اسمه قوة الجاذبية بالمفهوم النيوتوني. أما ما يتبدى على أنه قوة تثاقل بين الأجسام، فليس إلا نتيجة لانحناء المتصل الزماني المكاني (= الزمكان) حول الكتلة السابحة في الفضاء؛ أي إن المكان (= الفضاء) ليس متصلا متماثلا ومتشابها في جميع أرجاء الكون، بل إنه يتحدب حول الكتل المتأثرة في أرجائه. ولو قيض لعين بصيرة أن ترى الفضاء من خارج الكون، لوجدته أشبه بمادة هلامية تتكاثف حول النجوم والأجرام، ويزداد هذا التكاثف كلما ازدادت كتلة الجرم الذي يحيط به الهلام . فالفضاء يتحدب حول الشمس أكثر من تحدبه حول الأرض، ويتحدب حول الأرض أكثر من تحدبه حول القمر. هذا التحدب حول الكتل الكبيرة هو الذي يفسر دوران الكواكب حول الشمس في نظامنا الشمسي والأنظمة الشبيهة به؛ ذلك أن التحدب الشديد للزمكان حول الشمس يجبر الأجرام من حولها على الطواف في مدارات إهليلجية، هي أشبه بأخاديد محفورة في المتصل المنحني، حددتها طبيعة الفضاء المتحدب الرباعي الأبعاد. كما أن التحدب حول الجرم لا يؤدي فقط إلى إجبار الأجرام الأصغر على الدوران حوله، بل إلى إجبار الضوء القادم إليه على الانحناء أيضا وإن بدرجة أقل. وقد تم التأكد من انحناء الضوء عند كوكب الأرض، من خلال تجربة معروفة شهيرة، من التجارب التي تمت لإثبات صحة النسبية العامة.
أكتفي بهذا القدر من شرح النظرية النسبية، وأعود إلى فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية، حيث توقفت.
إن اكتشاف الفيزياء لحقيقة أن الكتلة ليست إلا شكلا من الطاقة، قد أدى إلى إحداث تغيير أساسي في نظرتنا إلى الجسيم؛ فبما أن المادة لم تعد مرتبطة بجوهر مادي، فإن الجسيمات قد بدت الآن على حقيقتها كرزم من الطاقة لا كجواهر مادية. وبما أن الطاقة هي فعل ونشاط وعمليات جارية أبدا، فإن الجسيمات بالتالي ذات طبيعة حركية دينامية لا سكونية. إن القران بين النسبية ونظرية الكم يقودنا إلى تصور الجسيمات من منظور نسبوي، في إطار ينحل ضمنه الزمان والمكان إلى متصل ذي أبعاد أربعة، والتحول نهائيا عن تصورها كعناصر مادية سكونية في أبعاد ثلاثة، مثل حبات رمل مرصوصة. عند ذلك فقط سوف تبدو لنا على حقيقتها كأشكال في الزمان وفي المكان، وكأنماط دينامية ذات وجه مكاني وآخر زماني. فالوجه المكاني يجعلها تبدو كأشياء ذات كتلة معينة، والوجه الزماني يجعلها تبدو كعمليات جارية تشتمل على الطاقة المعادلة لتلك الكتلة المكانية. إن هذه الأنماط الدينامية، أو رزم الطاقة، هي التي تشكل البنية الذرية والجزيئية المستقرة للمادة المرئية، وتعطيها شكلها الصلب، الذي يجعلنا نظن بأنها قد صنعت من جوهر مادي ثابت. أما في الأعماق السفلى لهذا المظهر المرئي الصلب، فلا تواجهنا سوى أنماط دينامية، تتحول بعضها إلى بعض في رقصة أبدية للطاقة هي جوهر الوجود.
لقد قادت فيزياء الجسيمات خلال الأربعين سنة الأخيرة، إلى اكتشاف ما يزيد من المائة نوع من أنواع الجسيمات الأولية، وجميعها ليس في الواقع «أوليا» بالمعنى الأصلي لهذه الكلمة، معظم هذه الأنواع لا يعيش بعد تخليقه في المسارعات النووية أكثر من جزء أو بضعة أجزاء من مليون جزء من الثانية الواحدة. ويمكن تمييز كل نوع من خلال خصائص ثلاث، هي: الكتلة، والشحنة، واللف (=
spin )؛ أي الدوران الذاتي على محور وهمي. تحسب كتلة الجسيم انطلاقا من حالته السكونية التي تدعى بكتلة السكون
rest mass ؛ لأن كتلته بعد ذلك تتغير تبعا لسرعته. أما شحنة الجسيم فهي إما سالبة وإما موجبة وإما حيادية . وأما معدل اللف فأساسي جدا لتمييز شخصية الجسيم، إلى درجة أن تغيير هذا المعدل يؤدي إلى تدميره تماما. وهنا يجب أن نضع نصب أعيننا بأن مسألة اللف، مثلها مثل مسألة الحركة، هي شأن اصطلاحي؛ لأنه كما أن الجسيم ليس حبيبة مادية تتحرك في الفضاء، كما أسلفنا، فإنه ليس حبيبة مادية ذات معدل لف ثابت. وعلى حد قول الفيزيائي ماكس بورن فإن: «لف الجسيمات دون الذرية يتضمن فكرة اللف، دون أن يكون هناك شيء يلف.»
13
ومع اكتشاف هذه الجسيمات، اكتشف الفيزيائيون أن لكل جسيم نظيرا يشبهه تماما ولكنه يختلف عنه في الشحنة، وقد دعيت هذه الجسيمات بالجسيمات المضادة. فإذا اجتمع جسيم ونقيضه تفانيا فورا، وذلك كالتقاء إلكترون بنقيضه المدعو بوزيترون؛ فمثل هذا اللقاء يؤدي إلى فنائهما فورا في ومضة ضوء، وينشأ عنهما فوتونان ينطلقان بسرعة الضوء. إن مادة عالمنا المرئي مؤلفة من الجسيمات الاعتيادية، ولكن الفيزيائيين يعتقدون بوجود مادة نقيضة في أرجاء الكون مؤلفة من جسيمات نقيضة.
لقد قلنا سابقا بأن المادة كلها في عالمنا تؤلفها الذرات، وهذه الذرات تؤلفها البروتونات والنيترونات والإلكترونات. أما الجسيم الرابع في عالمنا فهو الفوتون، وحدة الضوء المادية العديمة الكتلة. إن ثلاثة من هذه الجسيمات الرئيسية تتمتع بوضع مستقر ؛ أي إنها تعيش إلى الأبد إن لم تدخل في عملية تصادم، وهي البروتون والإلكترون والفوتون. أما النيترون فيتحلل بشكل تلقائي فيما يدعى بعملية تحلل بيتا، وهي العملية المميزة لبعض أنماط النشاط الإشعاعي. ففي هذه العملية الإشعاعية يتحول النيترون إلى بروتون، مع تخليق إلكترون من العدم وجسيم آخر عديم الكتلة يدعى نيترينو. ويؤدي تحول نيترونات بعض المواد المشعة إلى بروتونات، إلى تغيير في ذراتها؛ وبالتالي تحويلها إلى عناصر أخرى. ويتميز هذا الجسيم المدعو نيترينو بالاستقرار أيضا، مثله مثل الجسيمات الثلاثة الآنفة الذكر. أما بقية الجسيمات التي تم التعرف عليها حتى الآن، فغير مستقرة، ولا تعيش أكثر من جزء من مليون جزء من الثانية كما ذكرنا منذ قليل، فهي إما أن تتلاشى، أو تدخل سلسلة من التحولات تؤدي بها في النهاية إلى حالة مستقرة، وذلك بتحولها مجددا إلى بروتون أو إلكترون أو فوتون. إن دراسة الجسيمات غير المستقرة عمل مكلف وعلى غاية من التعقيد؛ لأنه يتطلب دوما استخدام تقنية التصادمات في المسارعات النووية.
وفي الواقع، فإن التصادمات ليست وحدها المسئولة عن تخليق الجسيمات الجديدة، وعن تحول الجسيمات بعضها إلى بعض؛ فمثل هذه التحولات تحدث بصورة دائمة في العالم الصغري ودونما توقف، بل إنها قانون ذلك العالم. إن الإلكترونات السابحة في مداراتها حول النواة تطلق فوتونات ضوء لا تكاد تتخلق حتى تعود الإلكترونات إلى ابتلاعها، لكي تعود ثانية إلى إطلاق غيرها، وهكذا دونما توقف. وهذه الفوتونات التي تطلقها الإلكترونات في داخل الذرة ليست فوتونات أصيلة؛ لأن الفوتون الأصيل ما إن يولد حتى يطير مبتعدا بسرعة الضوء، أما هذه ففوتونات «كسيحة»
14
لا تتمتع بكل خصائص الفوتون، ولا تستطيع تمثيل دور الموجة الضوئية المرتحلة في الفضاء. وتحدث عملية لفظ الإلكترون للفوتون وإعادة ابتلاعه من جديد، في ومضة زمنية خاطفة لا تتعدى 10 −15
من الثانية.
كما تقوم مكونات النواة، من بروتونات ونيترونات، بتفاعل مع نفسها مشابه لتفاعل الإلكترون مع نفسه؛ فالبروتون يطلق جسيما اسمه البيون، ثم يعيد ابتلاعه قبل أن يستكمل قوته ليصير بيونا أصيلا. وبما أن كل البروتونات متشابهة، فإننا نستطيع الافتراض بأن البروتون في تفاعله مع نفسه قد فني، مصدرا بروتونا آخر وبيونا، منتهكا بذلك قانون انحفاظ الطاقة؛ لأن كتلة الجسيمين الجديدين أكبر من كتلة الجسيم الأول الذي صدرا عنه (انظر المخطط أدناه)، هذا الانتهاك لقانون انحفاظ الطاقة ممكن في حالة واحدة فقط، وهي أن يحصل التفاعل في لحظة تبلغ من القصر حدا لا يسمح للقانون بالانتباه إليها، ويحسب هذا الزمن وفق إحدى معادلات مبدأ اللاتعيين لهايزنبرغ.
وهكذا يتوجب على الجسيمين الجديدين أن يفنيا في ومضة لا حساب لها في سير الزمن، وأن يخلقا بفنائهما بروتونا جديدا واحدا. وهذه عملية دائبة تستمر إلى ما لا نهاية. وهنالك نوع آخر لتفاعل البروتون مع نفسه؛ فبدلا من أن يطلق بيونا حيادي الشحنة، كما في الحالة الأولى أعلاه، فإنه يطلق بيونا موجبا ثم يتحول هو نفسه إلى نيترون. أو بافتراض آخر، فإن البروتون يفنى مصدرا بيونا موجبا ونيترونا (انظر المخطط أدناه). ومرة أخرى، وضمن الوقت الذي يتيحه مبدأ اللاتعيين، يفنى الجسيمان الجديدان لكي يخلقا بروتونا واحدا مكانهما.
وهكذا يمكننا تصور البروتون والنيترون داخل النواة، وكل منهما مغلف بسحابة من البيونات الكسيحة، التي ما إن تخلق من الفراغ حتى تعود إليه. ولكن إذا اقتربت سحابتان لبروتون ونيترون من بعضهما كثيرا، فإن البيون الذي يطلقه البروتون يلتقطه النيترون، ويؤدي هذا التبادل إلى أن يتحول البروتون إلى نيترون، والنيترون إلى بروتون وفق المخطط أدناه. وهذا ما يؤدي إلى ربط هذين الجسيمين النوويين بقوة هائلة يدعوها الفيزيائيون بالقوة الفائقة، وهي أعظم قوى الطبيعة قاطبة. وهذا يعني أن القوة، أية قوة في الطبيعة، ما هي إلا عملية جارية لتبادل جسيمات كسيحة بين جسيمات أصيلة، وأن القوة والمادة هما، مرة أخرى، وجهان لحقيقة واحدة.
تدعى أمثال المخططات التي أوردناها أعلاه بمخططات فيينمان، نسبة إلى الفيزيائي الذي ابتكرها
R. Feynman . ومخططات فيينمان يجب أن ترسم، من حيث المبدأ، على محورين يمثلان المكان والزمان، وفق التالي:
يمثل المخطط أعلاه، حادثة تفاعل إلكترون حر مع نفسه أثناء سيره في الفراغ. ينطلق الإلكترون من نقطة ما في المكان مع تقدمه في الزمان؛ أي إن حركته هي حركة أفقية مكانية وشاقولية زمانية؛ لأن كل متحرك إنما يتحرك في المكان والزمان معا، أما ما يبقى على حاله دون حركة، فإن حركته هي شاقولية فقط؛ لأنه ينتقل في الزمان فقط. في نقطة ما محددة على مخطط فيينمان أعلاه، يلفظ الإلكترون فوتونا أصيلا ينطلق آن ولادته بسرعة الضوء نحو اليمين، وقد مثله المخطط بخط متقطع، أما الإلكترون فإنه يقوم بتغيير اتجاه حركته عند النقطة نفسها منحرفا نحو اليسار؛ وذلك بسبب تأثر عزم انطلاقه
Momentum
بعد لفظ الفوتون. وبعد أن ينحرف فإنه يسير بسرعة أبطأ.
وتنبع أهمية مخططات فيينمان من اكتشافه لتقابل هذه المخططات المكانية الزمانية مع طرائق التعبير الرياضية التي تصف الحادثة نفسها، والتي تعطي احتمالات التفاعلات الممكنة. وعليه، فإن بإمكاننا النظر إلى أي مخطط من هذه المخططات، باعتباره نظيرا لمعادلة رياضية، وبديلا عنها. وإليكم مخططا آخر، يظهر تصادما بين إلكترون وبوزيترون (أي إلكترون نقيض):
في المخطط أعلاه، يأتي إلكترون من اليسار ليلتقي مع نقيضه البوزيترون القادم من اليمين في نقطة التلامس (ويجب أن نلاحظ هنا عدم وجود عملية تصادم عنيف). يتفانى الجسيم ونقيضه، ويتخلق عن فنائهما فوتونان أصيلان ينطلقان بسرعة الضوء كل في اتجاه. وفي الواقع، فإن كل حادثة في العالم الصغري يؤدي إليها فناء الجسيمات الداخلة في التفاعل، كما ينجم عنها تخليق لجسيمات أخرى جديدة. وترسم الحادثة على مخطط فيينمان على شكل عقدة صغيرة سوداء، كما هو واضح أعلاه. من هنا يمكن النظر إلى المخطط السابق الذي يمثل لفظ الإلكترون للفوتون عند نقطة الحادثة، ثم انعطافه نحو اليسار، على أنه تمثيل لفناء الإلكترون عند نقطة الحادثة، وظهور فوتون وإلكترون جديدين، وهو تفسير أكثر بساطة واتساقا.
لننظر مرة أخرى إلى المخطط أعلاه، والذي يمثل تماس الإلكترون مع البوزيترون، ولنفترض بأننا نستطيع استخدام اتجاه رأس السهم لتمييز الإلكترون من نقيضه البوزيترون؛ فإذا كان رأس السهم نحو الأعلى دلنا على الإلكترون، وإذا كان نحو الأسفل دلنا على البوزيترون. عند ذلك، سوف يبدو المخطط كما هو موضح أدناه.
ولكن بما أن مخططات فيينمان تصف حادثة تجري في الزمان والمكان، وأن الحركة الزمانية فيها صاعدة نحو الأعلى، فإن رأس السهم النازل في المخطط أعلاه سوف يشير إلى زمن معكوس للبوزيترون. فهل ستكون هذه الطريقة في التمييز، على المخطط، بين الجسيم ونقيضه صالحة من الناحية الرياضية؟ في الواقع، لقد اكتشف فيينمان عام 1949م، ومن خلال مطابقة معادلاته الرياضية مع المخططات المقابلة لها، أنه لا فرق من الناحية الرياضية بين موجة بوزيترون تتطور زمنيا نحو الأمام، وموجة إلكترون تتطور زمنيا نحو الوراء. وبتعبير آخر، فإن الجسيم النقيض هو ذات الجسيم متحركا في زمن معكوس. من هنا، فإن تدوير المخطط أعلاه في الاتجاهات الأربعة سوف يعطي النتائج نفسها، كما هو مبين أدناه.
في المخطط الأيسر، الذي هو نتاج تدوير المخطط الأصلي ربع دورة نحو اليسار، نجد إلكترونا يأتي من اليمين ليصطدم مع فوتون يأتي من اليسار، فينتج عن تصادمهما إلكترون آخر وفوتون آخر. وهذا ما يحصل فعلا بالحل الرياضي وبالتجربة العملية. في المخطط الأوسط، الذي هو نتاج تدوير المخطط الأصلي نصف دورة، نجد فوتونين يتصادمان لينتج عنهما إلكترون يتجه نحو اليسار وبوزيترون يسير هابطا عكس الزمن. وفي المخطط الأيمن، الذي هو نتاج تدوير المخطط الأصلي ثلاثة أرباع الدورة، نجد بوزيترونا وفوتونا يتصادمان لينتج عنهما بوزيترون آخر وفوتون آخر. وإليكم الآن مخططا يرسم تصادما لفوتونين عند النقطة
B .
إن تصادم هذين الفوتونين سوف يخلق عند
B
إلكترونا وبوزيترونا (وأذكر هنا بأننا لا نرسم للفوتون اتجاها لأنه نقيض نفسه). يلتقي البوزيترون الناجم عن الحادثة
B
بإلكترون قادم من اليسار، فيتفانى الجسيم ونقيضه عند
A ، وينجم عن تفانيهما فوتونان ينطلقان بسرعة الضوء. ولكننا إذا تأملنا المخطط مجددا، فإن التفسير الأفضل للمخطط يقدم نفسه فورا، فهنالك إلكترون على يسار الشكل يتقدم نحو
A ، حيث يلفظ عندها فوتونين؛ الأمر الذي يؤدي إلى تحويله إلى نقيضه البروزيترون. يسير البوزيترون في زمن معكوس نحو
B ، وهناك يمتص فوتونين قادمين من الأسفل، فيعكس اتجاهه في الزمن مجددا ويتحول إلى إلكترون مرة أخرى، منطلقا نحو اليمين. وبهذه الطريقة، نكون قد استبدلنا جسيما واحدا يتحرك باتجاه الزمن حينا وعكس الزمن حينا آخر، استبدلناه بالجسيمات الثلاثة الداخلة في التفاعل بجسيم واحد يتحرك في اتجاه الزمن حينا وعكس الزمن حينا آخر. وهذه هي صورة المتصل الزماني المكاني الواحد التي تقودنا إليها النظرية النسبية.
إن النظرة النيوتونية للمكان والزمان هي نظرة دينامية، حيث الحوادث تتطور بمرور الزمان الأحادي الاتجاه، الذي يسير من الماضي نحو المستقبل عبر الحاضر. أما النسبية الخاصة، فتقودنا إلى القول بأنه من الأنسب والمجدي أكثر، أن نفكر بمساحة ساكنة للمكان والزمان، هي المتصل الزماني المكاني (الزمكان). في هذه الصورة الساكنة لا تتطور الحوادث في اتجاه محدد، بل إنها فقط توجد. فإذا قيض لنا أن نرى البعد الرابع؛ وهو الزمن في اتصاله مع أبعاد المكان الثلاثة، واستطعنا أن نستعرضه دفعة واحدة كما نستعرض عناصر المكان، لوجدنا أن الحوادث لا تتطور في زمان ينساب، بل تقدم نفسها لنا كلوحة منسوجة في قماش المتصل الزماني المكاني، حيث الماضي والحاضر والمستقبل موجود معا وفي تطابق مع المكان. وهذا يعني أن الإحساس بتطور الحادثة عبر الزمن، ما هو إلا نتاج لطبيعة وعينا الذي يسمح لنا برؤية قطاع صغير فقط في كل مرة من تلك الصورة الإجمالية الزمكانية. وفي هذا يقول الفيزيائي الفرنسي لوي دي بروي، صاحب نظرية الموجة، ما يأتي: «في المتصل الزماني المكاني، يعطى الماضي والحاضر والمستقبل لكل منا في رزمة واحدة ... إلا أن كل واحد، وبمرور زمنه، يستكشف شرائح جديدة من الزمكان، تبدو له كجوانب متتابعة للعالم المادي. أما في الحقيقة، فإن جماع الحوادث المشكلة للزمكان موجودة قبل معرفتنا بها.»
15
هذا إذن هو معنى الزمكان في الفيزياء النسبية. إن الزمان والمكان متطابقان وموحدان في متصل ذي أربعة أبعاد. في هذا المتصل يمكن لتفاعل الجسيمات أن يسير في أي اتجاه؛ فإذا أردنا أن نتصور التفاعلات الممكنة جميعا، الموجودة في قطاع معين من الزمكان، فعلينا أن نلتقط لها صورة كلمح البصر، تظهر كل المدى الزمني المتضمن وكل المساحة المكانية أيضا. أما لماذا تستطيع الجسيمات في العالم الصغري أن تتحرك بحرية صعودا وهبوطا في الزمن، ولا تقدر على ذلك أجسام العالم الكبري بما فيها الإنسان، فإن فيزياء الكم، وعلم التيرمو-ديناميك، يقدمان على هذا السؤال إجابة لا نجد متسعا هنا لعرضها.
كانت مخططات فيينمان والنظرية التي تقوم عليها، والمعروفة بنظرية الحقل الكمومي، أول محاولة جدية للتوحيد بين النسبية والكوانتية. ولقد أثبتت هذه النظرية فعاليتها في وصف التفاعلات الكهرطيسية، التي تتضمن الإلكترونات والفوتونات بشكل رئيسي، ولكنها بدت فيما بعد أقل ملاءمة لوصف التفاعلات القوية للجسيمات الأثقل المدعوة بالهادرونات، من أمثال البروتونات والنيترونات والبيونات، وغيرها من الجسيمات الثقيلة، التي تتطلب شحنها بسرعات عالية جدا لإتمام عمليات التصادم. وهنا ظهرت نظرية مصفوفة التبعثر
Scattering Matrix ، المعروفة اختصارا بالمصفوفة
S ، كأفضل بديل لوصف الهادرونات وتفاعلاتها. إن المبدأ الذي تقوم عليه المصفوفة
S ، هو عدم النظر إلى ما يجري بين بداية التجربة ونهايتها، بل فقط إلى مدخلات التجربة ومخرجاتها؛ فهي تركز على الحادثة أكثر من تركيزها على الجسيمات. إن مخططا للمصفوفة
S ، مبنيا على جداولها الرياضية، يمكن أن يبدو على الشكل التالي:
يمثل هذا المخطط حادثة تصادم بروتون وبيون سالب، ينجم عنهما في النهاية بروتون وبيون سالب، أما ما الذي حدث بين هذا الوضع الأولي الذي ابتدأت به التجربة والناتج الأخير لها، فلا يظهره المخطط كما كانت مخططات فيينمان تفعل. والآن إذا زادت مدخلات التجربة، يمكن للمخططات أن تبدو على الشكل الآتي:
إن الجسيم وفق نظرية المصفوفة
S ، هو حالة وسيطة في شبكة التفاعلات. والخطوط هنا لا تمثل التطور في الزمان والمكان، كما كان الحال في مخططات فيينمان، بل هي قنوات تفاعل تجري عبرها الطاقة من أجل تخليق جسيمات أخرى؛ فالنيترون مثلا هو قناة تفاعل يمكن تشكيلها بواسطة تصادم بروتون وبيون سالب، ولكن إذا توفرت طاقة أكبر، يمكن تخليق النيترون بواسطة تصادم قوي بين جسيم لامدا وكوان حيادي، وهكذا إلى آخر هذه الممكنات واحتمالات تحقيقها. لننظر الآن إلى المخطط الآتي:
إن النيترون في هذا المخطط، ورمزه الحرف
n ، هو قناة تفاعل بين أربعة جسيمات؛ فقد تم أولا تخليق النيترون بواسطة تصادم بين بروتون
p
وبيون سالب، ثم قام النيترون نفسه بتخليق لامدا سالب وكوان موجب؛ أي إن الجسيمات في المخطط جميعها حوادث في شبكة واحدة، وكل جسيم منها عبارة عن تركيب محتمل لغيره من الجسيمات، كما أنه في الوقت نفسه متضمن في غيره. فالجسيمات حوادث، ولا وجود لها إلا في علاقتها بضعها مع بعض. وهذا يعني بشكل ما أن كل جزء من الطبيعة في العالم الصغري ينطوي على الأجزاء الأخرى. وفي هذه النتيجة التي توصلت إليها الفيزياء الحديثة ما يشبه بعض الأفكار البوذية حول طبيعة العالم. نقرأ في أحد كتب التعاليم المنسوبة إلى بوذا: «في سماء إندارا، هنالك شبكة عقدها من أحجار كريمة، قد نسجت بطريقة تجعل الناظر إلى أحد أحجارها يرى كل أحجار الشبكة منعكسة فيه. كذا هو حال الكون؛ إن كل شيء فيه ليس نفسه فقط، بل يحتوي على كل شيء آخر.»
16
وفي الواقع، فلقد وصلت الفيزياء الحديثة في رحلة اكتشافها لأعماق المادة وطبيعة الكون إلى حافة الصمت، وباتت اللغة عاجزة عن نقل الوقائع الكمومية التي تبدو مفهومة تماما بلغة الرياضيات إلى لغة الحروف والكلمات. وهذا ما يدعوه بعض الفيزيائيين بمأزق اللغة. وهم لشدة إحساسهم بهذا المأزق، انطلقوا للتبشير بمنطق كمومي جديد، يحل محل المنطق التقليدي، وقد بدأت المحاولات الأولى في هذا الاتجاه تظهر في بعض المقالات والمؤلفات الحديثة.
لقد لاحظ الرواد الأوائل لنظرية الكم، منذ البداية، ترابطا غريبا وعصيا على التفسير بين الظواهر الكمومية، واعتبروه أمرا يمكن للنظرية تفسيره في المستقبل. ولقد أظهر هذا الترابط نفسه بشكل جلي بطرق عدة رأينا إحداها في تجربة الشقين، عندما كان الإلكترون يعرف بطريقة ما أن الشق الآخر مفتوح، ويكيف مساره وفقا لذلك. إلا أن عددا من التجارب اللاحقة قادت إلى استنتاجات محيرة للعقل حول طبيعة الترابط بين أجزاء العالم الكمومي. وأكثر هذه التجارب شهرة هي التجربة التي اقترح مبادئها ثلاثة من الفيزيائيين، هم: أينشتاين وبودولسكي وروزين ، حوالي عام 1935م، والتي لم تنفذ عمليا إلا في السنوات الأخيرة، بعد أن تطورت التكنولوجيا إلى الحد الذي سمح باختبار أفكارهم.
يمكن فهم المبدأ الأساسي في «أحجية أينشتاين وبودولسكي وروزين»، وهو الاسم الذي اشتهرت به، وذلك بتصور قذيفة تم إطلاقها من مدفع. تدل التجربة على أن المدفع يرتد في لحظة الإطلاق إلى الخلف باندفاع يساوي اندفاع القذيفة إلى الأمام تماما، ولو كان المدفع والقذيفة متساويين في كتلتهما فإنهما ينطلقان بعد الإطلاق باتجاهين متعاكسين لكن بسرعتين متساويتين. وإذا كانت سبطانة المدفع محلزنة كما هي العادة، فإن القذيفة تأخذ بالفتل حول نفسها في أثناء انطلاقها، ويحدث الأمر نفسه للمدفع الذي ينفتل في الاتجاه المعاكس. بكلمات أخرى، فإن كلا من الحركة الانسحابية والدورانية اللتين تكتسبهما القذيفة لدى انطلاقها، يؤديان إلى رد فعل في المدفع لحظة الإطلاق يعاكس تماما حركة القذيفة. وفي المستوى دون الذري، توجد أيضا جسيمات تطلق قذائف في حركة انسحابية ودورانية. وقد بينت التجارب أن ارتداد ومعدل فتل كل من الجسيمات وقذائفها، تخضع للقواعد نفسها التي تحكم المدفع وقذيفته. وبعض الجسيمات يمكن أن تتفكك إلى وحدتين متماثلتين تماما، مما يجعلهما ينطلقان باتجاهين ومعدل لف متعاكسين تماما. فالبيون مثلا، وهو جسيم عديم اللف في الأصل، يتفكك في أقل من عشرة أجزاء من مليون مليار من الثانية، منقسما إلى فوتونين ينطلقان باتجاهين متعاكسين، ثم إن فتل أحدهما يأخذ اتجاها معاكسا للآخر، فإذا انطلق أحدهما يلف في اتجاه عقارب الساعة، انطلق الآخر وهو يلف في عكس اتجاه عقارب الساعة؛ لذلك وبسبب هذا الترابط التام بين اتجاه انطلاق ولف الفوتونين، يجب أن يعطي رصد أحدهما معلومات عن الآخر.
17
والآن يمكن للتجربة أن تسير على الوجه التالي: نقوم بتفكيك أحد الجسيمات لنحصل على جسيمين آخرين ينطلقان كل في خط سير معاكس للآخر، وفي اتجاه لف معاكس أيضا؛ فإذا كان أحدهما يلف على مساره نحو الأعلى كان الآخر يلف نحو الأسفل، وإذا كان الواحد يلف نحو اليمين كان الآخر يلف نحو اليسار. لنفترض الآن أننا تركنا مسافة كبيرة بين هذين الجسيمين لا تسمح بأي نوع من الاتصال بينهما، ثم عمدنا إلى تغيير اتجاه لف أحدهما عن طريق إدخاله في حقل مغناطيسي (الحقل المغناطيسي يغير دوما اتجاه لف الجسيمات)، عند ذلك تحدث لدينا ظاهرة لا يمكن تفسيرها، وهي أن الجسيم الآخر الذي لم يمر عبر الحقل المغناطيسي يغير من اتجاه لفه في الوقت نفسه الذي يغير نظيره اتجاه لفه بتأثير الحقل المغناطيسي، بحيث يبقى الجسيمان متعاكسين في اتجاه حركة اللف، وكأنهما ما زالا شريكين في جملة فيزيائية واحدة، رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بينهما.
والأغرب من ذلك أن نتيجة التجربة تبقى واحدة إذا افترضت صيغها الرياضية أن الجسيمين قد ابتعدا عن بعضهما مسافة ضوئية؛ إذ يبقى أحد الجسيمين يغير اتجاه لفه كلما تعرض اتجاه لف الآخر إلى التغيير، ودون فاصل زمني على الإطلاق؛ مما يدل على أن هذا النوع من التواصل ليس تواصلا بالإشارة، بل هو تواصل ترابط عميق يتخطى مفاهيمنا المعتادة عن السببية الفيزيائية. وهذه نتيجة لم تكن في منظور أينشتاين وزميليه عندما صاغوا هذه التجربة الذهنية الرياضية.
قد يرى البعض أن نتائج مثل هذه التجارب لا تمت بصلة إلى حياتنا اليومية؛ لأن نتائجها لا تنطبق إلا على الجسيمات الدقيقة، وأن العالم من حولنا يبقى خاضعا، بهذا الشكل أو ذاك، إلى المبادئ التقليدية التي نعرفها. ولكن الحقيقة هي أن العالم الكبري يتألف من ذرات خاضعة إلى مبادئ الكم؛ ففي حفنة صغيرة من المادة العادية لا تزيد في حجمها عن السنتيمتر المكعب، هناك آلاف من مليارات من الذرات، وكلها تتفاعل وتتصادم ملايين المرات في الثانية. ولدى تفاعل جسيمين ذريين ثم انفصالهما، لا نستطيع اعتبار أي منهما كيانا حقيقيا مستقلا؛ لأن حقيقة كل منهما لا تنبع منه، بل من صيغة الترابط التي تجمعه إلى غيره؛ ذلك أن جميع الجمل الكمومية عبر الكون كله مترابطة معا لتشكل كلا غير قابل للتجزئة، هو المستوى الوحيد الذي يمكن لنا عنده التفكير بالحقيقة.
في عام 1964م، نشر الفيزيائي الأيرلندي ج. س. بيل
J.S. Bell
برهانا رياضيا عرف فيما بعد باسم نظرية بيل، التي اعتبرها البعض أهم عمل فردي في تاريخ الفيزياء. ولقد عمل بيل على تطوير نظريته خلال السنوات العشر التي تلت نشرها، حتى آلت إلى شكلها الناضج الحالي. والنظرية بناء رياضي شديد التعقيد، لا يمكن شرحه بعيدا عن لغة الرياضيات، ولكن إحدى أهم خلاصات برهانها هو أن الأجزاء المؤلفة للكون تلتقي مع بعضها عند المستوى الأساسي والعميق للوجود، وتتصل بطريقة مباشرة وكأنها تذوب في لجة لا تتمايز فيها الأشياء. كما تبرهن النظرية انطلاقا من صحة التنبؤات الإحصائية لنظرية الكم، أن العالم ليس كما يتبدى لنا، أو بالأحرى كما عودنا أنفسنا على رؤيته. ولا يقتصر زوغان العالم هذا على المستوى الصغري، بل يتعداه إلى المستوى الكبري؛ أي إن عالمنا اليومي بكل أحداثه ومجرياته لا يسير كما نظن أنه يسير. وقد أتبع بيل نظريته بتجربة ذهنية مشابهة لتجربة أينشتاين وروزين وبودولسكي، تم فيما بعد التحقق من نتائجها بالتجريب العملي عام 1972م، على يد الفيزيائيين
Clause
و
Freedman ، حيث أثبت هذان العالمان أن الجسيمات تتواصل مع بعضها بدون إشارة تنتقل بينهما. وقد كتب الفيزيائي هنري ستاب عن نظرية بيل يقول: «إن الشيء الهام في نظرية بيل هو نقلها للمشكلة التي تطرحها الظاهرة الكوانتية على المستوى الصغري إلى المستوى الكبري. وهي تظهر أن أفكارنا المعتادة عن الكون من حولنا قاصرة على المستوى الكبري قصورها على المستوى الصغري.»
18
ويقول أيضا: «إن الظاهرة الكوانتية تقدم بينة من الطراز الأول على أن المعلومات تنتقل بطريقة لا تمتثل للقواعد التقليدية ... إن كل ما عرفناه حتى الآن يقودنا إلى القول بأن العمليات الأساسية للطبيعة تقع خارج الزمان والمكان، ولكنها تولد حوادث متوضعة في الزمان والمكان.»
19
ومعنى قول ستاب هنا هو أن الحوادث الفيزيائية، سواء على المستوى الصغري أم على المستوى الكبري، لا تجد أسبابها عند الجذور المرئية أو الملموسة بالتجريب، بل في مستوى أعمق لا تستطيع تجربتنا الوصول إليه. وهذا ما يسميه الفيزيائي دافيد بوهم بالكلانية غير المتجزئة
Unbroken Wholeness ، مما سوف نتحدث عنه بعد عرض موجز لفرضية البوتستراب
Bootstrap ، التي نشأت في السياق النظري والتجريبي للمصفوفة
S ، على يد الفيزيائي ج. تشو
Geoffrey Chew
الذي طور فكرة البوتستراب إلى فلسفة للطبيعة، ثم استخدمها لبناء نظرية للجسيمات مصاغة بلغة المصفوفة
S .
تعتبر البوتستراب بمثابة الرفض النهائي والحاسم، الذي أعلنته الفيزياء الحديثة، للنظرة الميكانيكية للكون. فبالنسبة للفيزياء التقليدية، يقوم الكون على بنية قوامها لبنات أساسية هي الوحدات الأولية المكونة للمادة، والتي لا يمكن تجزئتها إلى أصغر منها أو تحليلها. أما وفق النظرية الجديدة للكون، وهي النظرة التي تعبر عنها البوتستراب أحسن تعبير، فإن المادة لا يمكن فهمها باعتبارها تجمعا لكيانات مادية صغيرة لا يمكن تحليلها؛ لأن الكون هو نسيج محكم من حوادث متداخلة ومعتمدة بعضها على بعض، بحيث لا يمكن اعتبار أي جزء من الكون أكثر أولية أو أساسية من الآخر؛ لأن خصائص كل جزء فيه تعتمد على خصائص الأجزاء الأخرى. يضاف إلى ذلك أن الاتساق الكلي للعلائق المتبادلة بين الأجزاء، هو الذي يحدد بنية النسيج بكامله. من هنا فإن البوتستراب لا تنكر فقط المكونات المادية الأساسية، بل إنها تنكر المكونات الأساسية من أي نوع، سواء جاءت على صيغة قوانين أو معادلات رياضية أو مبادئ؛ وبذلك تبتعد البوتستراب عن فكرة كانت جوهرية في علوم الطبيعة لمئات خلت من السنين، وهي فكرة القوانين الأولية للطبيعة؛ فالقوانين كما يلمسها الفيزيائيون اليوم ليست إلا ابتكارا ذهنيا يساعد على رسم خريطة للحقيقة، ولكنها لا ترسم الحقيقة نفسها.
أما الفيزيائي دافيد بوهم
David Bohm ،
20
فتقوم نظريته على الكلانية
Wholeness
والنظام المنطوي
Implicate Order ، على فكرة أن الظواهر الكوانتية لا يمكن فهمها إلا إذا توقفنا عن النظر إلى الجزء باعتباره الوحدة الأساسية للدراسة، وحولنا اهتمامنا إلى الكل؛ ذلك أن دراسة العالم الكمومي تقودنا إلى مفهوم كلاني غير متجزئ للكون، يتنافى مع المفهوم التقليدي عن كون مؤلف من أجزاء ذات وجود مستقل ومنفصل، حيث العلائق الكمومية التي لا يمكن فصمها هي الواقعة الأساسية، أما الأجزاء التي تسلك في استقلال ظاهري، فليست إلا أشكالا عرضية في ذلك الكل.
يعتبر بوهم أيضا واحدا من أهم الفيزيائيين الذين ساروا بنظرية الكم نحو نتائجها الفلسفية القائمة على الصيغ الرياضية والتجارب العملية؛ فالعالم كما يتبدى لهذا الفيزيائي والمفكر العميق، هو عالم متكثر الأبعاد. وليس المستوى الذي تجري ضمنه حياتنا اليومية وتنشط فيه علومنا الطبيعية، إلا المستوى السطحي للوجود، وهذا المستوى ذو أربعة أبعاد، ويدعوه بوهم بالمستوى المنبسط (أو النظام المنبسط)
Explicate Order . ورغم أن هذا المستوى السطحي الظاهري يمكن وصفه اعتمادا على مظاهره وحدها، إلا أن فهمه لا يتيسر لنا باختراقه نحو المستوى الأعمق للوجود، وهو المستوى الذي يشكل الخلفية الشاملة التي تقوم عليها خبرتنا الفيزيائية والسيكولوجية والروحية، ويدعوه بوهم بالمستوى المنطوي
Implicate Order . فعند هذا المستوى الخفي الباطني، تتحد كل الظواهر التي تبدو مستقلة ومتمايزة في المستوى المنبسط الظاهري، وفيه تجد الأحداث الفيزيائية الغامضة تفسيرها. وهذان المستويان، يتبادلان الظهور والخفاء في حركة جريان كلي ، حيث ينبسط جزء من هذا الجريان على السطح ليعطي أشكالا ذات استقرار نسبي، ولكنها متجذرة في ذلك الجريان السفلي غير المنظور، ثم ما انبسط يعود إلى الانطواء فإلى الانبساط، وذلك في حركة تبادلية دائبة. ويوضح بوهم أن هذه الصورة للحركة الكلانية ليست نتاج تأمل ذهني بحت، ولكنها «المعنى» الذي تنطوي عليه رياضيات ميكانيكا الكم، أو بتعبير آخر، فإن رياضيات الكم ليست إلا وصفا لهذه الحركة الكلانية (
Holomovement ). يقول: «إن الكلانية هي الأمر الحقيقي، وما التجزئة إلا حاصل استجابة الكل لأفعال الإنسان التي يوجهها إدراك يقوم على أفكار متجزئة. وبتعبير آخر، فإن المقترب التجزيئي في النظر إلى الكون، هو الذي يدعو الكون إلى إظهار استجابات متجزئة ... إن كل ما نحتاجه بالفعل هو مران صعب وطويل على التخلي تدريجيا عن أساليبنا التجزيئية في التفكير، لنستطيع اتخاذ مقتربات كلية من الحقيقة، تدفعها إلى الاستجابة إلينا بطريقة كلية.»
21 «إن النتائج الضمنية لكل من النظرية النسبية والنظرية الكوانتية، تظهر الحاجة إلى رؤية العالم ككل غير مجزأ تندمج فيه الأجزاء وتتحد. في هذا الكل، تعتبر النظرة الذرية للمادة نوعا من التبسيط والتجريد، يصلح فقط ضمن مجال محدد. أما الرؤيا الجديدة، فيمكن أن ندعوها بالكلانية غير المتجزئة في حركتها الجارية
Undivided Wholeness in Flowing Movement . في هذا الجريان الكوني، لا يمكن اعتبار العقل والمادة بمثابة جوهرين مستقلين؛ لأنهما وجهان مختلفان لحركة كلانية متصلة. وبهذه الطريقة يكون بمقدورنا النظر إلى جوانب الوجود جميعها في اتصالها لا في انفصالها، وننهي تلك التجزيئية الكامنة في النظرية الذرية إلى المادة، وهي النظرة التي تدفعنا إلى فصل كل شيء عن كل شيء آخر على جميع المستويات.»
22 «لقد اكتشفنا أن الجسيمات التي اعتبرت أولية، يمكن تخليقها وإفناؤها وتحويلها؛ مما دل على أنها أشكال ذات استقرار نسبي مستخلصة من مستوى أعمق للحركة. وقد نفترض هنا أن هذا المستوى قابل بدوره للتحليل إلى جسيمات أكثر رهافة، ربما تكون الجوهر الأخير للحقيقة، إلا أن فكرة الجريان التي نستكشفها هنا تنفي مثل هذه الفرضية؛ لأنها تتضمن أن أية حادثة أو كيان، أو أي شيء مما يمكن ملاحظته ووصفه، هو استخلاص وتجريد من حركة كلية جارية، غير معينة أو معروفة. وهذا يعني أنه بصرف النظر عن تطور معارفنا في قوانين الفيزياء، فإن محتوى هذه القوانين لن ينطبق إلا على تجريدات لا تمتلك إلا استقلالية نسبية في وجودها وسلوكها.»
23 (1) خلاصة ونتائج
لقد قادنا هذا العرض السريع، والشامل إلى حد ما، إلى استخلاص بضع نظرات جديدة إلى الكون، لا تتناسب مع أي شيء نعرفه سابقا ونطمئن إليه. ولعل أهم فكرة زودتنا بها الفيزياء الحديثة، من أجل الرؤيا الجديدة للكون، هي عدم وجود لبنات أساسية أو مكونات أولية للمادة، وأن بنية الذرة لا يمكن وصفها كتجمع لبروتونات ونيترونات في نواة يدور حولها الإلكترونات في مدارات ثابتة، على طريقة النظام الشمسي، وأن هذه الجسيمات الذرية ليست أولية، مثلما أن الجسيمات الناجمة عن تحطيمها بالتصادم ليست أولية أيضا. وبتعبير آخر، فإن الجسيم الأولي لا وجود له، وإن المادة التي تحيط بنا هي مادة بدون جوهر مادي. فلقد أظهرت الجسيمات، الذرية منها وما دون الذرية، بالتجربة أنها عبارة عن عمليات جارية، وليست كيانات مستقلة بأي شكل من الأشكال. وأخذ العالم يبدو لنا أكثر فأكثر على أنه نسيج محكم من حوادث مترابطة متداخلة، لا يتمتع أي جزء منه بصفة الأساسية والجوهرية؛ لأن خصائص كل جزء في هذا النسيج تعتمد على خصائص الجزء الآخر، بحيث تقرر العلائق المتبادلة بين الأجزاء، واتساقها العام، البنية الكلية للمادة.
إن نتائج فيزياء الجسيمات ذات الطاقة العالية، يمكن تلخيصها بالقول المثير الذي أوردناه آنفا، وهو أن كل جسيم في العالم الصغري يتألف من كل الجسيمات الأخرى. وهنا يجب ألا نتخيل أن كل جسيم يحتوي بقية الجسيمات فعلا، ووفق المفاهيم الفيزيائية التقليدية، بل أن نتخيل تلك الجسيمات وهي تتضمن بعضها بعضا بالمفهوم الدينامي الاحتمالي للمصفوفة
S ، حيث يتخذ كل جسيم وضعه في النسيج الكلي، كحالة ترابط احتمالية لبقية مجموعات الجسيمات التي يمكن أن تتفاعل مع بعضها من أجل تخليق هذا الجسيم. ففي تجارب التصادمات العنيفة في المسارعات النووية، أظهرت الجسيمات الثقيلة من البروتونات والنيترونات والبيونات وغيرها، أنها عبارة عن بنية احتمالية مركبة، مكوناتها جسيمات ثقيلة أخرى، وجميعها لا تتمتع بصفة الجسيمات الأولية. فالبروتون قد يخلق بروتونا آخر، وإذا شحن بطاقة أعلى قد يخلق عددا من البروتونات والنيترونات والبيونات، التي تعود بدورها إلى تخليقه من جديد؛ وبهذا فإن كل جسيم ثقيل على المستوى الصغري يلعب ثلاثة أدوار؛ فهو جسيم يتمتع باستقلال ظاهري من جهة، وهو بنية مركبة تؤلفها جسيمات أخرى يمكن أن تتخلق عنه من جهة ثانية، وهو عامل تبادل بين جسيمين آخرين من جهة ثالثة. وهذا التبادل الذي تمارسه الجسيمات فيما بينها، هو الذي يضمها إلى بعضها في قوة ندعوها بالقوة الفائقة؛ أي إن القوة ليست شيئا مختلفا عن المادة، بل هي قيام الجسيمات بتبادل جسيمات أخرى. وبهذه الطريقة فإن كل جسيم يعمل على تخليق جسيمات تقوم بدورها بتخليقه، وكل شيء متضمن في كل شيء آخر. ورغم أن هذا المفهوم الصعب يمكن إعطاؤه معادلا رياضيا دقيقا، إلا أن شرحه بالكلمات لا يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الإيضاح.
كما أوصلتنا الفيزياء الحديثة إلى أخطر اكتشاف يتعلق بطبيعة المعرفة، وهو أن كل القوانين التي ظننا دوما أنها تحكم العمليات الطبيعية، ما هي في الواقع إلا ابتكارات ذهنية تساعدنا على فهم الطبيعة؛ أو بتعبير آخر، ما هي إلا طريقتنا في فهم الطبيعة. من هنا، فإن كل ما نراه من قوانين فاعلة فيما حولنا، هو تقريبات تجعل هذا القطاع أو ذاك معقولا ومفهوما بالنسبة إلينا؛ إنها أشبه بالخرائط المرسومة التي لا تربطها بالهيئات الطبيعية التي تصورها إلا أوهى الروابط. ومن ناحية أخرى، فقد وحدت الفيزياء الحديثة بين طرفي عملية المعرفة، فلم يعد هناك «عارف» و«موضوع معرفة»؛ لأن المراقب الإنساني، كما تبين لنا، ضروري لتعيين صفات وخصائص الموضوع المادي، الذي يبقى دون تعيين بعيدا عن الوعي، وعن تفاعله مع من يراقبه؛ وبذلك سقطت الموضوعية العلمية القديمة، ولم يعد بإمكان الفيزيائي أن يلعب دور المراقب الموضوعي؛ لأنه متصل بالظواهر التي يراقبها إلى درجة التأثير في خصائص موضوعات مراقبته. إن أية حادثة في العالم هي حلقة في سلسلة من العمليات الجارية التي تنتهي عند الوعي الإنساني الذي يرصد ويراقب، بحيث لم يعد ممكنا صياغة قوانين النظرية الكوانتية بغير الرجوع إلى الوعي. وقد رأينا بوضوح، ومن خلال عدد من الأمثلة والتجارب، كيف أن الحوادث تبقى معلقة في الفراغ كمجموعة احتمالات، إلى أن يتدخل المراقب، مجبرا أحد هذه الاحتمالات على التحقق، ومحدثا ما أسميناه بانهيار الدالة الموجية. فالفوتونات تتصرف كالموجات ما سمح لها أن تتصرف كذلك، وتنتشر في الفضاء دون أن يكون لها موضع معين، ولكن بمجرد أن يسأل المراقب عن مكانها، وذلك بتعيين الشق الذي تمر عبره في تجربة الشقين، أو يجعلها تصطدم بحاجز، فإنها تغدو فجأة جسيمات مادية.
ورغم أن الفيزياء لم تعمد بعد إلى إدخال الوعي باعتباره عنصرا فيزيائيا كغيره من العناصر المشتملة بالتجربة، وذلك بسبب شدة تأثير الأفكار القديمة التقليدية، إلا أن مثل هذه الخطورة تغدو ضرورية أكثر فأكثر بالنسبة لأية نظرية فيزيائية مستقبلية؛ ذلك أن الإنسان ضروري لوجود الكون بمقدار ضرورة الكون لوجود الإنسان؛ لأننا نعيش في عالم تشاركي لا غنى فيه لأحد مكونيه عن الآخر، والوعي والمادة متضمنان في بعضهما في عروة وثقى لا تنفصم. غالبا ما نستمع إلى البعض يقول: «لماذا أتيت إلى هذا العالم؟» أو «يجب أن أفعل كذا قبل أن أغادر العالم»، أو ما إلى ذلك من صيغ تعبيرية تعكس نظرتنا إلى أنفسنا كمخلوقات ضئيلة عابرة في هذا العالم. ولكن الإنسان، كما بدأ يعي وجوده الآن، ليس كائنا غريبا «يأتي» إلى العالم ثم «يخرج منه»، بل هو عنصر لازم لقيام عالمه بالذات، إنه يشارك بصنعه وإظهاره إلى حيز الوجود، والكون ليس مجموعة من الظواهر الكائنة «هناك»، تمارس «وجودها» في معزل عن الإنسان، بل هو تعيين مشترط بالوعي ومتضافر معه على إظهار ما ندعوه دوما ب «الحقيقة».
لقد قمنا في هذا الفصل برحلة في الفيزياء الحديثة، لغرض اكتشاف علاقة الإنسان بالكون؛ الإنسان-الوعي بالكون-المادة، وهي العلاقة التي اقترحت أننا واجدون في صميمها بذرة المعتقد الديني، ومن ورائه الدافع الديني. فهل فسر لنا درس الفيزياء هذه العلاقة؟ وهل بتنا على عتبة قول كلمتنا الأخيرة؟
خاتمة
منشأ الدافع الديني
إذا كان الوعي من حيث الأساس هو نصف الحقيقة، وإذا كان الكون لا يقفز إلى عتبة الوجود بغير الإنسان، فلماذا كان علينا أن ننتظر درس الفيزياء الحديثة ليطلعنا على هذا الواقع؟ وجوابي على هذا التساؤل المشروع، هو أن الإنسان كان يشعر دوما، وفي المستوى الآخر الأعمق لوعيه، بكلانية الكون وبلا تمايزه عن الوعي. وليس الدين إلا ظاهرة عبرت، منذ بزوغ الوعي، عن هذا الإحساس المتأصل بالتكامل مع العالم والمشاركة في «الحقيقة»، وإن الدافع إلى التدين وإلى تكوين المعتقد الديني لينشأ عن هذا الإحساس بالكلانية، وبالمشاركة في كون واحد حي.
لقد علمتنا الفيزياء الحديثة أهم دروسها، وهو أن الأجزاء المستقلة ظاهرا، ترتبط مع بعضها ارتباطا لا زمانيا ولا مكانيا، وأن هذا الارتباط يرجع إلى جذر واحد مشترك، يكمن في نظام خفي منطو، تقوم عليه كل الحوادث الفيزيائية الظاهرة في النظام المنبسط السطحي. وبتعبير الفيزيائي دافيد بوهم، فإن حوادث الحركة في هذا النظام المنبسط، التي تؤدي إلى إظهار الكون برمته، ليست إلا فقاعة طافية فوق أوقيانوس النظام الخفي المنطوي. وبما أن الوعي هو الشكل الآخر للمادة وصنوها الذي لا تقوم للحقيقة قائمة بدونه، فإنه هو أيضا موزع بين نظامين؛ نظام سطحي منبسط ونظام خفي منطو. وهذان الوجهان للوعي أدعوهما بوعي الصحو ووعي الغيب. يتجه وعي الصحو نحو المستوى المتجزئ الظاهري، حيث تلعب الأجزاء دور الاستقلال والانفصال، وتؤثر ببعضها وفق سببية ظاهرية، فيحصل على معرفة خطية (أي من الأسباب الظاهرية إلى نتائجها الظاهرية في اتجاه واحد) تجمعه إلى بقية الظواهر، وتساعد الإنسان على حفظ الفردية والتلاؤم مع محيطه. أما وعي الغيب فيتجه نحو المستوى المنطوي للوجود، حيث تلتقي الأجزاء وتجتمع في كلانية غير متجزئة، فيحصل على معرفة غير خطية، تجعل الإنسان في اتساق مع الكل وتعطيه حس الاتصال بكل ما عداه.
إن توضيح العلاقة بين الوعي والمادة، كان من المهام الصعبة عبر التاريخ الفكري للإنسان. وتأتي الصعوبة من ذلك التمايز الجذري الذي يبدوان به أمام تجربتنا من ناحية، ومن تلازمهما تلازما غير مفهوم من ناحية ثانية. ولعلنا واجدون في التفسير الذي أتى به ديكارت مثالا على كيفية التعامل مع هذه المسألة الشائكة؛ فديكارت يعرف المادة على أنها «جوهر يتمتع بخاصية الامتداد في المكان»، ويعرف الوعي على أنه «جوهر يتمتع بخاصية التفكير»، وعلى تباعد هاتين الخصيصتين، فإن الاتصال بينهما غير ممكن، في رأيه، على الإطلاق، إلا بواسطة الخالق الذي يوجد خارجهما معا، ويضمن في الوقت ذاته اتصالهما واللقاء بينهما.
ولكن البيولوجيا والفيزياء الحديثة تشير اليوم بكل وضوح إلى أن الوعي ليس شيئا غريبا عن العالم يضاف إليه من خارجه، بل إنه بطريقة ما ناتج عن مادة هذا العالم من جهة، وإنه يعمل بعد تكوينه على إعادة صياغة العالم. فالوعي ينطوي على المادة لأنه يدركها، والمادة تنطوي على الوعي لأنها تنتجه؛ فهما مستقلان ظاهرا متحدان ضمنا، في بنية كلانية تحتية غير متجزئة. وقد كان للسيكولوجي المعروف كارل غوستاف يونغ أفكار نبوئية حول هذا الموضوع. يقول في كتابه
Aion
ما يلي: «عاجلا أم آجلا، فإن فيزياء الذرات وسيكولوجيا اللاشعور سوف تقتربان من بضعهما كثيرا؛ لأنهما، ومن موضعين مستقلين، قد شقا طريقهما نحو أرض مشتركة ... إن النفس لا يمكن لها أن تستقل تماما عن المادة، وإلا فكيف تؤثر فيها؟ والمادة ليست غريبة عن النفس، وإلا فكيف تعمل على إنتاجها؟ إن المادة والنفس موجودتان في العالم نفسه، وكل واحدة منهما تشارك في الأخرى. وبدون هذا فإن أي تبادل للفعل بينهما يغدو مستحيلا. فإذا قيض للبحث الجاري أن يتطور بما يكفي، فإننا لا شك واصلون إلى لقاء تام بين المفاهيم الفيزيائية المادية والمفاهيم السيكولوجية. إن محاولاتنا الجارية الآن في هذا الاتجاه جريئة، ولكني أعتقد بأننا نسير في الطريق الصحيح.»
1
لقد أمضى يونغ حياته العلمية في تتبع آثار جدلية الخافية الفردية (الخافية = اللاوعي) مع الخافية الجمعية، وأظهر بمقتربه التجريبي وبصيرته الثاقبة ، وحدة الوعي الإنساني، واتصال الذوات الإنسانية عند أعمق مستويات الواعية الفردية، حيث تتلاشى سيكولوجية الفرد في البحر العظيم لسيكولوجية الجنس البشري. ورغم أنه لم يتوصل صراحة إلى ما يمكن أن ندعوه بالوعي الكوني، فإن مثل هذه النتيجة المنطقية تغدو بين أيدينا إذا نحن زاوجنا بين سيكولوجيا الأعماق ليونغ والنتائج المعرفية الفلسفية للفيزياء الحديثة. ولشرح مثل هذه المزاوجة التي تظهر لنا الوعي الكوني الكامن فينا وطريقة عمله، سأقوم برسم المخطط التوضيحي التالي الذي يعبر عن نظريتي في منشأ الدافع الديني:
فالوجود عبارة عن دارة مغلقة ذات قرصين يدوران على بعضهما دوران الرحى؛ الأول هو الكون، والثاني هو الوعي. وبدوران هذا على ذاك يظهر الوجود. فإذا زال الوعي، تحول الكون إلى أنماط موجية احتمالية لعوالم متراكبة تنحو نحو الوجود، ولكنها لا تستطيع إنجاز هذه الخطوة منفردة. وإذا زال الكون تلاشى الوعي لتلاشي موضوعه. وفي الرسم التخطيطي الثاني أدناه، أوضح كيفية انقسام الكون والوعي، إلى مستوى تجزيئي ظاهري ومستوى كلاني تحتي. ففي المستوى التجزيئي تمارس الأجزاء وجودا مستقلا ظاهريا، كما يمارس وعي الصحو الفردي أيضا وجودا مستقلا ظاهرا، فيشعر الفرد بأناه المنعزلة وبممارسته للمعرفة التجزيئية، التي تجعله يتعرف على الموضوعات المتجزئة الأخرى . وفي المستوى الكلاني التحتي تتحد الحوادث المادية، كما يتحد الوعي الفردي بالوعي الجمعي ثم يجتازه إلى الوعي الكوني، حيث يتلاشى الوعي في المادة وتتلاشى المادة في الوعي، في وحدة متكاملة.
أما الرسم التخطيطي الثالث، فيوضح درجات انفتاح الوعي؛ من وعي الصحو إلى وعي الغيب الفردي (وهو الخافية الفردية)، فوعي الغيب الجمعي (وهو الخافية الجمعية الإنسانية)، فالوعي الكوني الذي يوحد الفرد والجنس البشري بالكون.
ينغرس الوعي في صميم المادة-الكون، ويعطي الإنسان شعورا بالخروج من ذاتيته والتوحد بكل ما عداه. وهذا الشعور ليس شعورا وهميا، بل إنه أكثر المشاعر الإنسانية حقيقية. كما أنه في الوقت ذاته ليس شعورا اصطناعيا ناجما عن إعمال فكر في طبيعة الكون والمادة وعلاقة الإنسان بهما، بل هو أشبه بوظيفة نفسانية مؤسسة بشكل راسخ؛ لأنه يعكس بالفعل حالة انغماس الوعي بالقاع الكلي للوجود. وفي الواقع، فإن وعي الغيب يعمل بطريقة آنية وأكثر مباشرة من وعي الصحو، الذي يعمل بطريقة تحليلية بنائية شديدة التعقيد. ففي وعي الصحو، نحن نتلقى المعلومات عن الحوادث الخارجية بواسطة الحواس التي تنقلها إلى المراكز الدماغية عبر سيالات كهربائية، حيث يجري فرزها وتحليلها، والاستعانة بالذاكرة من أجل تمييزها وتقييمها، ثم تعمل مراكز المنطق في الجهة اليمنى من الدماغ، بعد ذلك، على تمحيص هذه المعلومات وتفسيرها، إلى آخر هذه العملية التي يجري بعضها عفويا وبعضها بشكل قصدي إرادي. أما في وعي الغيب، فإن العالم كله معطى لنا بشكل آني مباشر، وما علينا سوى الاستسلام إليه والثقة به. ولا أدل على هذه الآلية المباشرة في عمل وعي الغيب من حالة الحلم؛ ففي الأحلام يحمل لنا وعي الغيب الجمعي، ومن دون جهد يذكر من قبلنا أو قصد، رموزا ورؤى تنبع من أعماق الخافية، لا تنفع في وصفها وتحليلها مئات الصفحات المكتوبة، توضع أمام وعي الصحو من أجل استيعابها وفق معارفه الخطية.
ولكن الإنسان، عبر تاريخ طويل من اعتماده على وعي الصحو من أجل الارتقاء بتقنياته في مواجهة شروطه البيئية، قد وسع باستمرار مساحة الصحو في وعيه على حساب مساحة الغيب، إلى درجة جعلت من العالم التجريبي الظاهري المجال الوحيد لما هو أصيل وحقيقي، ودفعت بوعي الغيب ومحتوياته إلى أعماق منسية في النفس الإنسانية؛ الأمر الذي كان يعمل باستمرار على تكريس استقلال الذات الفردية، حتى وصل الإنسان الحديث إلى أقصى درجات الفردية والعزلة التي تقطعه عن بقية الأفراد وعن الطبيعة. والحقيقة أن الإنسان بحاجة إلى إقامة توازن دقيق بين وعي صحوه ووعي غيبه؛ لكي يشعر باستقلال كاف يساعده على التعامل بكفاية مع محيطه وبيئته وتنمية تقنياته المختلفة، ولكي يؤمن في الوقت نفسه حالة توازن نفسي وروحي مع الكون؛ ذلك أن طغيان وعي الغيب يقف حجر عثرة أمام التعامل المباشر مع الطبيعة، أما طغيان وعي الصحو فيدفع الأفراد إلى هوة البؤس النفسي والروحي. ولعل من أهم منجزات علوم الطبيعة والنفس ، أنها قد فتحت عيوننا على تكامل شطري الوعي وضرورتهما بعضهما لبعض.
وهكذا، وعلى ضوء توحيد النتائج المعرفية والفلسفية للفيزياء الحديثة مع سيكولوجيا الأعماق، تبدو أمامنا المسائل الأساسية للمعرفة، وهي الكون والمادة والحياة والوعي، وقد اجتمعت في مسألة واحدة. وصرنا نرى هذه العناصر المستقلة كإسقاطات لحقيقة واحدة هي الكلانية التحتية غير المتجزئة. ولكن الوعي الديني قد أحس دوما بهذه الحقيقة البسيطة، وعبر عن هذا الإحساس بمعتقد يقسم الوجود إلى مستويين؛ هما المستوى الظاهري للخبرة الحياتية العادية، والمستوى القدسي الغائب الذي يصدر عنه عالم الظواهر. يجتمع هذان المستويان على استقلالهما الظاهري في دارة وجود واحدة، لحمتها القوة السارية التي تصدر من عالم اللاهوت لتعطي كل حركة في عالم الناسوت. أو بمصطلح الفيزياء الحديثة؛ الطاقة الصافية، التي تصدر عن النظام المنطوي الخفي، لتتخذ أشكالها على هيئة حوادث دائمة التبدل والتغير في المستوى المنبسط السطحي. إن أشكال المعتقدات الدينية كافة ليست إلا تنويعات على هذه القاعدة الأساسية للحد الأدنى الاعتقادي، الذي توصلنا إليه في دراستنا الحالية.
ولكن وعي الغيب ووعي الصحو لم يكونا دوما في حالة توازن مثالي. ففي المراحل الأولى للحضارة الإنسانية، كان وعي الغيب يشغل مساحة تزيد عن مساحة وعي الصحو ، والإنسان الأول كان يشعر بوحدته مع كل أشكال الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، بل كان يرى أيضا إلى الكون كعضوية تتخللها حياة واحدة ونفس واحدة. ولقد أنتج هذا الوعي الغيبي الكلاني بالوجود معتقدات المجال القدسي والقوة السارية في ثقافات العصر الحجري والثقافات البدائية، وكل أشكالها الأنضج في الحضارات الكبرى للهند والشرق الأقصى؛ لأن الإنسان كان يواجه الكلانية الوجودية بموقف كلاني، وفكر كلاني يصدر عن وعي غيبه أكثر من صدوره عن وعي صحوه. غير أن نمو وعي الصحو على حساب وعي الغيب، ومقابلة الكلانية الوجودية بموقف تجزيئي، وفكر تجزيئي يصدر عن وعي الصحو أكثر من صدوره عن وعي الغيب، قد أدى إلى الظهور التدريجي للإله المشخص، الذي كان بمثابة تسوية سيكولوجية بين شطري الوعي. فإذا كان الوجود للأجزاء، فلا بد أن تكون الألوهة شخصا ذا هوية محددة وكيان مفارق؛ وبذلك سار الوعي في إحساس مباشر بالكلانية، إلى إحساس غير مباشر بها عن طريق توسيط كائن ما ورائي يضمن وحدة شطري الوجود.
وجماع القول هو أن الدين لا يقوم على أساس وهمي، ولا على أساس عدد من الأفكار الخاطئة التي تم تكوينها في طفولة الجنس البشري؛ فالإحساس الذي يجعل الدين ممكنا إنما يقوم على اختبار نفسي في وعي الغيب للوحدة الكلية للوجود، ومنعكساته في وعي الصحو. وبصرف النظر عن الإله المشخص الذي يوسطه الإحساس بالوحدة الكلية، فإنه يبقى معبرا إلى ما وصفته في الصفحات الأولى بأنه: حالة الوجود الحق.
ثبت المراجع
(1) في الدين والميثولوجيا وتاريخ الأديان
ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، القاهرة 1965م.
ابن النديم، الفهرست، تحقيق الدكتورة ناهد عثمان، الدوحة 1985م.
Boyce, Mary. History of Zaroastrianism, Leden 1982.
Budge, Wallis. Egyptian Religion, Routledge, London 1985.
بدج، واليس، الديانة الفرعونية، ترجمة نهاد خياطة، دمشق 1987م.
Campbell, Joseph. The Masks of God, vol. 1. Primitive Mythology, Penguin. London 1978.
Davidson, H. R. Ellis. Gods and Myths of Northern Europe, Pelican, London 1964.
Devi, Savitri. Son of the Sun, A. M. O. R. C, San Jose, California, 1981.
Eliade, Mercea. The Sacred and the Profane, Harvest, New York 1969.
ميرسيا إلياد، المقدس والدنيوي، ترجمة نهاد خياطة، دمشق 1987م.
Every, George, Christian Mythologe, Hamlyn, London 1970.
Hook, S. H. Babylonian and Assyrian Religion, Hutchinston, 1970.
Noss, J. B. Man’s Religions, MacMillan, London 1969.
Otto, Rodulf, The Idea of the Holy, New York 1970.
Ovid, Metamorphoses, Tr. M. Innes, Penguin, London 1981.
Watts, Alan, The Two Hands of God, Rider, London 1978.
ودينغرين، جيو، ماني والمانوية، ترجمة سهيل زكار. دمشق 1985م. (2) ديانات وفنون العصر الحجري
Breuil, A. H. Four Hundred Centuries of Cave Arts, Dordgne, Centre De Etudes et de Documentation
Braidwood, R. J. Prehistoric Man, Scott Illinois, 1975.
Cauvin, Jacques, Religions Neolithiques, Centre de Recherches de Ecologie et de Prehistoire, Paris 1972.
جاك كوفان، ديانات العصر الحجري الحديث، ترجمة سلطان محيسن، دمشق 1988م.
Clark, Grahame, Prehistoric Societies, Knopf, New York 1968.
Cohen, M. N. The Food Crisis in Prehistory, Yale University 1977.
Gimutas, Mariga. Goddesses and Gods of Old Europe, University of California 1982.
Goff. B. L. Symbols of Prehistoric Mesopotamia, Yale University 1967.
Kenyon, Kathleen. Archaeology in the Holly Land, Manthuen, London 1985.
Laming, Emperaire. La Signification de I’Art Rupestre
Leroi Gourhan, A. Prehistoire de I’Art Occidental,
Leroi Gourhan, A. Treasures of Prehistoric Arts, New York 1965.
Leroi Gourhan, A. Les Religions de la Prehistoire,
Lommel, Andiron, Prehistoric and Primitive Man, Hamlyn, London 1976.
Mellart, James, Cattal Huyuk, Tahmes and Hudson, London 1967.
Starr, C. G. Early Man, Oxford 1973. (3) أصل الدين والأنتروبولوجيا والأديان البدائية
Durkheim, Emile, The Elementary Forms of Religious Life, London 1903-1915, Free Press, New York 1965.
Frazer, James. The Golden Bough, MacMillan. London 1922, 1971.
Froelich, J. C. Animism, Editions de l’Orante, Paris, 1964.
فراوليش، ج. س، ديانات الأرواح، ترجمة يوسف شلب الشام، اللاذقية 1988م.
Harrison, Jane. Themes, Cambridge 1927, University Books, New York 1966.
Lang, Andrew. Myth, Rite and Religion, London 1887, New York, 1968.
Mauss, M. A General Theory of Magic, London, 1972.
Morgan, Ashley. The Concept of the Primitive, Free
آشلي مورغان، البدائية، ترجمة محمد عصفور، الكويت 1982م.
Voiget, Johannes. Max Muller, The Man and his Ideas. Calcutta 1967. (4) أديان وفلسفات الشرق الأقصى
Akiyama, A. Shinto and its Architecture, Tokyo 1955.
Bapat, P. V. 250 Years of Buddhism, New Delhi, 1956.
Banergee, N. V. The Spirit of Indian Philosophy, New Delhi 1973.
البيروني، تحقيق ما للهند، حيدر أباد 1985م.
Buddhist Promoting Foundation. The Teachings of Buddha. Tokyo, 1977.
Devi, Chitrita. Upanishads for All, New Delhi, 1977.
Greel, H. G. Chinese Thought, Mentro, New York 1960.
I. ching, The, or The Book of Changes, The Richard Wilhelm Translation. Renderd into English by C. F. Baynes,
Lao Tzu. Tao Te Ching, translated by D. C. Lan,
Ono, Sokyo. Shinto, The Camy Way, Tokyo, 1992.
Takai, J. C. Basic Terms of Shinto, Tokyo, 1985.
Watts, Allan. The Way of Zen, Penguin, 1965.
Watts, Allan, Tao, The Water Course Way, Penguin, 1979.
Yutang, Lin. The Wisdom of Confocius, Modern Library, New York, 1978.
Zimmer, Heinrich, Myth and Symbols in Indian Art and Civilization, Princeton, 1974. (5) السيكولوجيا وسيكولوجيا الدين
Frued, Sigmund, The Complete Works, Standard Edition, Hogarth Press, London.
James, William, The Varieties of Religious Experience, Modern Library New York.
Jung. C. G. The Collected Works, Rotledg, London. (6) الفلسفة والاجتماع
Burrow, J. W. Evolution and Society, Cambridge 1970.
Cassirer, Ernest. The Philosophy of Symbolic Forms, Yale, New Haven 1977, vol. 2. (7) نصوص الشرق القديم
Hiedel, Alexandar. The Gilgamesh Epic, University of Chicago 1963.
to the Old Tastement, Princeton, 1969. (8) تاريخ الفن
Hauser, Arnold. The Social History of Art, Vintage, 1957.
أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة فؤاد زكريا، القاهرة 1969م. (9) موسوعات في الدين والفن والميثولوجيا
Encyclopedia of Religion, edt, Mercea Eliad Editor in chief, MacMillan, London, 1987.
Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London. 1977.
Larousse Encyclopedia of Prehistoric and Ancient Art, Hamlyn. London. (10) الفيزياء الحديثة ونظرية الكم
Bohm. David. Wholeness and the Implicate Order, Ark, London, 1984.
Bohr, Nils. Atomic Physics and Human Knowledge, John Wiley, New York, 1958.
Capra, Fritjof. The Tao of Physics, Flaminco, Glasco 1983.
Heisenberg, Werner. Physics and Philosophy, Alen and Unwin, London, 1963 (Harper and Row, New York 1958).
فيرنر هايزنبرغ، فيزياء وفلسفة، ترجمة أدهم السمان، دمشق 1984م.
Mehara, J. The Physcist Concept of Nature, Dordrecht, Holland, 1973.
Openheimer, R. Science and the Common Understanding, Oxford, 1954.
Zukav, Gary. The dancing Wu-Li Masters, An Over View of New Physics, Flaminco, Glasco 1984.
عبد الرحمن بدر، الكون الأحدب وقصة النظرية النسبية، طرابلس-لبنان 1986م.
بول ديفس، العوالم الأخرى، ترجمة حاتم النجدي، دمشق 1990م. (11) مجلات ودوريات
American Scientific, February 1963. (12) التصوف الإسلامي
ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت.
ابن عربي، فصوص الحكم، شرح وتقديم أبو العلا عفيفي، دار الكاتب العربي، بيروت.
ابن عربي، الرسائل، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
ابن عربي، إنشاء الدوائر، دار المثنى، بغداد.
عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، دار مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
د. سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، دار دندرة، بيروت .
النفري، المواقف والمخاطبات، دار الكتاب العربي ومكتبة المثنى، بغداد
صفحه نامشخص