دین انسان
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرها
3
إن رأس الثور هنا قد صار مركزا لإجماع روحي واختيار أيديولوجي يتخطى شكله الطبيعي؛ ليغدو رمزا للقوة السارية في الطبيعة ، كما أن هذا الاختيار الأيديولوجي لم يكن مدفوعا بضغط من الوسط الطبيعي قدر ما كان مدفوعا بضغط فكري من نوع خاص، والدليل على ذلك الضغط الفكري الحاضر في بقية الوثائق المتوفرة لدينا.
إن علم البقايا الحيوانية التي تم الاستعانة برأي خبرائه في موقع تل المريبط، يؤكد أن الفصيلة البقرية كانت نادرة جدا في تلك المنطقة خلال السوية الأثرية موضع البحث (أواخر الألف التاسع)، وأن الفصيلة المهيمنة عدديا كانت فصيلة الغزال الذي اصطاده إنسان المريبط أكثر من غيره إبان تلك المرحلة، أما البقر البري فلم تبدأ أعداده بالتزايد إلا بعد خمسمائة عام على الأقل من قيام إنسان المريبط بتقديس رءوسها؛ الأمر الذي يدل بوضوح على أن الثور قد لعب دورا أساسيا في أيديولوجيا المريبط قبل فترة طويلة جدا من هيمنة دوره الغذائي، وهذه واقعة على درجة كبيرة من الأهمية؛ لأنها تظهر أن الدين ليس مرآة تعكس الأوضاع المادية والعلاقات الاقتصادية. وبناء على هذه الواقعة، يمكن الاستنتاج مع بعض التحفظ أن الموقف الفكري من حيوان ما ربما كان الدافع إلى الدخول معه في علاقة نفعية، وأن تقديس ذلك الحيوان ليس نتيجة لكونه الأكثر تكرارا في لائحة الصيد، بل قد يكون العكس هو الصحيح؛ أي أن يساعد التقديس على خلق شروط نفسية تشجع على صيد الحيوان؛ ومن ثم العمل على تأهيله مستقبلا.
4
إضافة إلى رءوس الثيران التي ساعدتنا على تلمس الوسط الفكري لهذا الموقع الرائد في الثقافة النيوليتية، فإن تل المريبط قد أنتج لنا الأمثلة الأولى على فن الدمى العشتارية في العصر النيوليتي، وذلك منذ بدايات الألف الثامن قبل الميلاد؛ أي بعد انقطاع كامل لهذا النوع من الفن يقارب خمسة الآلاف عام، سواء في أوروبا أم في المشرق العربي الذي لم يعرف فن الدمى من قبل. وقد اتبع الفنان هنا الأسلوبين اللذين عرفناهما في الباليوليت الأعلى؛ وهما الأسلوب التبسيطي المغرق في الرمزية الذي يكتفي بالإشارة إلى الهيئة الأنثوية دون التوكيد على تفاصيلها، والأسلوب الثاني الواقعي الذي يعتمد تضخيم مواطن الخصوبة بشكل مبالغ فيه . ورغم أن بعض الدمى قد نفذ في وضعية الوقوف إلا أن معظمها كان يتخذ وضعية القعود على عجيزة ضخمة، بحيث تتخذ الخطوط العامة للهيئة الأنثوية شكل المخروط المستقر، وهو التقليد الذي ساد فيما بعد في جميع مواقع الثقافة النيوليتية.
5
ويبدو أن الفارق بين الشكل المغزلي الباليوليتي والشكل الهرمي النيوليتي للدمية العشتارية، يعكس اختلافا في الوظيفة الطقسية. فلقد استنتجنا سابقا أن الدمية المغزلية المستدقة الطرفين للعصر الباليوليتي، كانت تغرس في الأرض في سياق طقوس قد تكون ذات علاقة بالخصب. أما الدمية المخروطية المستقرة على عجيزتها، فيبدو أنها كانت معدة لأن توضع فوق المحاريب أو المذابح في المقامات المكرسة للطقوس الدينية؛ لأن معظم هذه الدمى النيوليتية قد وجدت قرب هذه المقامات. بشكل خاص، فقد أعطتنا المواقع النيوليتية الفلسطينية عددا من هذه المقامات ذات الوظيفة الدينية الواضحة، خصوصا في موقعي أريحا والمنحطة. إن أحد المقامين اللذين كشفت عنهما المنقبة كاثلين كينيون في أريحا، يكشف عن تصميم رائد للمقامات الأخرى المكتشفة في العصور التاريخية، ويتميز بوجود تجويف طولاني على هيئة محراب في وسط الجدار الشمالي، في أسفله قاعدة من حجر بركاني، وجد قربها عمود من الحجر نفسه يبدو أنه كان منتصبا عليها. وقد شبهت المنقبة هذا العمود الحجري بالعمود الذي أقامه الكنعانيون في معابدهم في المناطق نفسها بعد بضعة آلاف تالية من السنين، والمعروف باسم المازيبوث
Masseboth .
6
ولعل المقارنة مع المقامات الدينية التي اكتشفت في أوروبا النيوليتية، تعطينا فهما أفضل لطبيعة الوظيفة الطقسية للدمى الأنثوية المخروطية، علما أن العصر النيوليتي الأوروبي قد جاء متأخرا عن النيوليت المشرقي بحوالي 1500 عام. وفائدة المقارنة تأتي بالدرجة الأولى من كون الهياكل النيوليتية الأوروبية قد اكتشفت في حالة أسلم من سابقاتها في بلاد الشام، واحتفظت بمعظم أثاثها الثابت الداخلي. وسأتعرض فيما يأتي باختصار لواحد منها يفي بغرض المقارنة، وهو من موقع ساباتينوفكا بمنطقة مولدافيا.
صفحه نامشخص