دین انسان
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرها
Animal Lord - Animal Master )، وذلك في معرض وصفه لطقوس بعض قبائل الصيادين في الصحراء الأفريقية. وسيد الحيوانات هذا، كما وجده فوربينيوس لدى قبيلة «المحاليبي» التي انقرضت الآن، هو الذي يمكن أفراد القبيلة من صيد الطرائد ويسوقها إليهم. وهو يظهر لهم في هيئة حيوانية لا بشرية، وعلى الألب في هيئة الجاموس البري الذي يصطادونه أكثر من غيره؛ ولذا فإنهم يدعونه أيضا بالأب الجاموس، وهم يعبدونه ويرفعون إليه الصلاة. وقد وهبهم هذا المعبود قرن جاموس يعينهم في السيطرة على طرائد الصيد، وهم يستخدمونه على الشكل التالي: فقبل شروق الشمس، يقوم المحاليبي برسم صورة على الرمل للطرائد المنوي صيدها، وعند بزوغ الشمس تماما ترش الصور بدم يراق من قرن الجاموس الطقسي؛ وبذلك يسيطر الصيادون على موضوعات صيدهم وينجحون في الإيقاع بها.
12
وقد سيطر هذا التفسير فيما بعد على دراسة معتقدات ما قبل التاريخ ، وصار مصطلح «سيد الحيوانات» مفتاحا لتفسير المعتقدات الدينية البدائية منها والأصلية، والتي تتوسل بصور الحيوان من أجل إيصال مضامينها الرمزية. فسيد الحيوان لدى الصيادين، هو الحيوان المؤله الذي ينتمي إلى النوع الذي تصطاده القبيلة أكثر من غيره، ويلعب الدور الأساسي في استراتيجيتها الغذائية.
إن تفسير الوثيقة الأقدم والأكثر غموضا، اعتمادا على الوثيقة المشابهة الأحدث منها والأكثر وضوحا، هو إحدى مشكلات دراسات ما قبل التاريخ؛ فهنا يميل الباحثون إلى إعطاء معنى للوثائق ذات الطابع الديني، عن طريق مقارنتها بما يشبهها في الثقافات الكتابية اللاحقة، أو في الثقافات البدائية الحديثة. وهكذا تمت مثلا مقارنة رءوس الثيران التي كانت موضع تقديس في بعض مواقع العصر الحجري الحديث، كالمريبط وشتال حيوك، بنظائرها في الحضارة الكنعانية اللاحقة أو الكريتية، وأسقط مفهوم «سيد الحيوانات» المستمد من ثقافات بدائية حديثة، على التشكيلات ذات الطابع الرمزي في الباليوليت الأوسط، أو الوثائق الفنية للباليوليت الأعلى. يضاف إلى ذلك أن مثل هذه المقارنات، رغم ابتعادها عن تقريبنا من الحقيقة لأسباب شرحناها سابقا، فإنها تجري انطلاقا من مفاهيمنا الحديثة التي نعتبرها المعيار الأصح والأمثل. إن مثل هذه المحاكمات والمقارنات هي التي تقود إلى ابتكار مفاهيم مثل «سيد الحيوانات»، والبحث عن «آلهة» الإنسان الأول في تلك الأشكال الحيوانية التي كانت مركزا لطقوسه.
ولكن ماذا يعني أن يعبد إنسان ما دبا أو ثورا أو كبشا، أو غير ذلك من شركائنا النبلاء على هذا الكوكب؟ إن الدب أو أي حيوان آخر بالغا ما بلغ من القوة والجبروت، كان بالنسبة لحضارات الصيد طريدة سهلة أو صعبة للإنسان؛ فالنياندرتالي الذي قيل عنه إنه يعبد الدب كان في الواقع صيادا للدب، والإنسان العاقل من أهل الباليوليت الأعلى الذي قيل إنه يعبد الثور كان صيادا للثور، وهكذا إلى نهاية هذه السلسلة من العابدين والمعبودين المفترضين. فكيف يؤله الإنسان طريدة من طرائده ويتوجه إليها بالعبادة؟ وحتى لو سلمنا جدلا بأن ثقافة ما قد عبدت الدب مثلا، فأي دب عبدت؟ إن الدببة متشابهة، وهي لا تظهر كثيرا من الفروق الفردية كما هو شأن بني الإنسان، فكيف تم اختيار الدب المعبود من بين هذا الحشد المتشابهة ألوانه وأشكاله؟ أم هل إن الفصيلة كلها كانت موضع عبادة، وإن أي دب يوضع في المقام المقدس يمكن أن ينوب مناب أي دب آخر؟ حول هذه النقطة الأخيرة يورد أحد الباحثين المدافعين عن مفهوم «سيد الحيوانات» النقاش الآتي: «إن الثور العظيم الذي يلعب دورا بارزا في التصورات الميثولوجية للصيادين، هو سيد الحيوانات والنموذج الأعلى البدئي لها (=
Archetype ). وهنا يمكن لنا استخدام تعبير فلسفي ليس بعيدا جدا عن التفكير البدائي كما نتصور، وهو المثال الأفلاطوني. فالثور العظيم هنا يمثل الفكرة الأفلاطونية للنوع، إنه يمتلك بعدا لا يملكه بقية أفراد القطيع؛ فهو لا زمني، خالد كفكرة، ولا يمكن القضاء عليه. أما البقية فمجرد ظلال خاضعة لمقولات الزمان والمكان، وبينما يسقط هؤلاء في الشراك ويقتلون فإنه في منجاة عن الأذى؛ لأنه تعبير عن الجوهر الذي تخلق منه بقية أفراد نوعه.»
13
إن مثل هذه الالتفافة البارعة على المشكلة، تظهر نوع الصعوبات التي تعترض القائلين بتأليه الحيوان وعبادة «سيد الحيوانات». ولرب قائل يقول بعد ذلك بأن «سيد الحيوانات» ليس إلا صورة للإله وليس الإله المعبود نفسه، وأن الثقافات الأصلية قد تصورت آلهتها في هيئة حيوانية كما بقي المصريون يفعلون حتى الأزمنة التاريخية المتأخرة. وهنا يطرح التساؤل البدهي نفسه، وهو: لماذا فضل الإله أن يظهر في صورة الحيوان حصرا من دون صورة الإنسان، رغم إحساس الإنسان بمكانته المتميزة في مملكة الطبيعة؟ ولماذا لم تظهر صورة الإنسان كاملة في التصوير الديني لعصور ما قبل التاريخ حتى أعتاب الفترات التاريخية؟
14
أما عن التقاليد الدينية المصرية التي حافظت على بعض الملامح الحيوانية لبعض من آلهتها، فهذا أمر سوف نتعرض له في حينه، ولا يشكل موضوع مقارنة مشروعة هنا.
صفحه نامشخص