دین انسان
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرها
وهكذا نستطيع الحديث عن «دين نياندرتالي» دون أن نتعب أنفسنا في البحث عن «آلهة نياندرتالية». ولسوف نتعود منذ الآن على التعامل مع ديانات صغرى أو كبرى لا وجود للآلهة فيها. ولكن يتوجب علينا منذ الآن أيضا أن نتخلى عن أطر تفكيرنا الحالية، والطريقة التي ننظر بها إلى الدين من خلال ثقافتنا الخاصة، لنكون أقدر على فهم واستيعاب ثقافات بعيدة ومغايرة، دون أن نسقط ما نعرفه على كثير مما لا نعرف، وهي آفة يتصف بها الفكر الحديث إجمالا. لقد كان أول سؤال يطرحه الأنتروبولوجيون على أنفسهم وهم يشرعون في دراسة دين شعب بدائي ما، هو: ما هي الآلهة التي يعبدونها؟ فإن لم يجدوا آلهة بالمعنى الذي يفهمونه، ابتكروا لهم آلهة تتفق مع مفاهيمهم الخاصة عن الدين والآلهة. من ذلك مثلا ما وجده الدارسون الأوائل لدين الهنود الحمر في أمريكا الشمالية من مفاهيم غريبة عليهم، مثل مفهوم الواكوندا، وهي قوة كونية كبرى لا تتمثل في شخصية إلهية من أي نوع، بل تنبث في الكون وتفعل من داخله، فأطلقوا عليها مصطلح «الروح الكبرى»، واعتبروها بمثابة كبير الآلهة. وما زال المصطلح مستعملا في حقل تاريخ الأديان رغم ضلاله، وتقصيره عن إيصال المضامين الحقيقية لمفهوم الواكوندا.
ولكن، هل عبر الإنسان النياندرتالي عن اعتقاده بعالم ما ورائي، بغير ما رأيناه من بقايا مقابره، وكيف عمل على إقامة صلة بينه وبين ذلك العالم؟ لقد ألمحنا سابقا إلى أن النياندرتاليين لم ينتجوا أي نوع من أنواع الفن التشكيلي، الذي يمكن لنا من خلاله النفاذ إلى عالمهم الفكري، إلا أن أية عملية ترتيب مقصود لعناصر منتقاة من الوسط الطبيعي لا يتضح هدفها النفعي أو الاستعمالي، يمكن أن تزودنا بمفاتيح مهمة لفك مغاليق الوسط الفكري لأولئك الناس. فلقد وجدنا على سبيل المثال أن غرس قرون الماعز الجبلي حول جسد الميت بطريقة خاصة، هو إجراء يخفي وراءه اعتقادا باحتواء هذه القرون على قوة من نوع ما. ولكن اكتشافات مثيرة أخرى قد ساعدت على إلقاء ضوء أكثر سطوعا على المعتقد النياندرتالي.
في جبال الألب، تم اكتشاف ثلاثة كهوف تتوضع على ارتفاعات تتراوح بين السبعة آلاف والثمانية آلاف قدم، وترجع إلى أواخر الباليوليت الأوسط، احتوى كل منها على جماجم عظام دببة مغاور، تم ترتيبها بشكل اصطناعي مقصود، أطلق عليها بعض الباحثين اسم «مقامات الدب»، ورأوا فيها دليلا على عبادة منظمة تدور حول الدب، خصوصا وأن طقوسا مشابهة ما زالت قائمة لدى بعض الشعوب البدائية في الدائرة القطبية الشمالية. في الكهف الأول والثاني من كهوف الألب، وعلى عمق لا بأس به من المدخل، هناك حائط حجري بارتفاع 23 إنشا يرسم ما يشبه الصندوق المفتوح، حفظت في داخله عدة جماجم لدببة المغاور ورتبت بطريقة خاصة؛ فبعضها قد أحيط بحجارة صغيرة وآخر قد وضع على ألواح حجرية، وهنالك جمجمة ارتكزت مقدمتها على عظم الساعد وأخرى قد اخترق عظما الساعد محاجر العينين فيها. أما في الكهف الثالث فقد وجدت خمس جماجم مع عظام الساعد محفوظة فيما يشبه الخزانة الحائطية. وقد رصفت أجزاء من هذه الكهوف بأحجار مسطحة، وقامت في بعض جوانبها مناضد حجرية استخدمت لشطف الصوان، ووجدت حولها أدوات صوانية من الطراز ما قبل الموستيري.
9
وهناك كهف من الباليوليت الأعلى يظهر استمرارية لطقوس الدب في الباليوليت الأوسط، ويلقي ضوءا عليها، رغم انتماء هذا الكهف إلى فترة الإنسان العاقل؛ فقرب منتسبان بفرنسا، اكتشف كهف يحتوي على قاعة تقع في نهاية ممر طويل، وجدت فيها دمية طينية كبيرة لدب في وضعية الربوض، وقد باعد ما بين قائمتيه الأماميتين، وبينهما جمجمة لدب ملقاة على الأرض، والدمية منفذة بطريقة فجة ودون عناية بالتفاصيل. لقد لفت نظر المكتشفين عدم وجود رأس للدمية في الأصل؛ فالرقبة منفذة بطريقة لا تشير إلى أنها قد اتصلت برأس مفقود، إضافة إلى وجود ثقب عند سطحها الأعلى، يدل على أن عصا كانت تغرس فيه لحمل ثقل ما يرتكز على الرقبة. وهذا ما قاد إلى نتيجة منطقية واحدة، وهي أن رأسا لدب مذبوح (أو جمجمة له) كان ينصب فوق رقبة الدمية، التي لم تكن في الواقع سوى حامل أو قاعدة للرأس الطبيعي، وأن هذه القاعدة العميقة في الكهف لم تكن إلا مقاما مقدسا تقام عنده طقوس ذات علاقة بعبادة الدب.
10
لقد اعترض بعض الباحثين في عصور ما قبل التاريخ على وجود ترتيب متعمد لجماجم وعظام الدب في كهوف جبال الألب المذكورة أعلاه،
11
ولكني أقف إلى جانب الرأي المخالف الذي يرى في التكوينات التي اشتملت على العظام ترتيبا مقصودا بدقة، وإن كانت الدلالات الحرفية لهذه التكوينات غير ممكنة التفسير في الوقت الحاضر. وكل ما أستطيع استنتاجه عند هذه المرحلة من معلوماتنا عن الثقافة النياندرتالية، هو أن لتلك التكوينات وظيفة رمزية تتصل بالمعتقد الديني، وأنها تتعلق بالنشاط الهادف إلى إقامة علاقة مع المستوى القدسي للوجود، الذي أحس النياندرتالي حضوره في النفس وفي الطبيعة. ومما يدعم رأينا في الوظيفة الرمزية لتكوينات كهوف الدب، أن الترتيب المقصود لرءوس الحيوانات في أماكن مخصصة ذات طابع ديني، قد استمر إلى العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، حيث نجد مقامات مشابهة في مستقرات المزارعين الأوائل في سوريا وجنوب الأناضول، وقد رتبت فيها رءوس الثيران وقرونها بطريقة خاصة ذات دلالة أيديولوجية دينية، بشكل بدا وكأن الثور قد صار هدفا لاختيار روحي، على حد تعبير جاك كوفان، الذي درس بعناية مقامات الثور في تل المريبط بسوريا. ومن ناحية أخرى، فإن كهف منتسبان الذي وجدت فيه دمية الدب الطينية، والذي يعتبر حالة متأخرة لاستمرار طقوس الدب النياندرتالية، لا يمكن تفسير محتوياته إلا باعتبارها أدوات لطقوس تدور حول الدب؛ فهنا كان الصيادون يضعون رأس الطريدة المذبوحة حديثا على المحور المغروس في رقبة الدمية، ويمارسون حولها طقوسا خاصة. غير أن ما أختلف فيه عن بقية القائلين بالتفسير الديني لكهوف الدب، هو أن تلك الطقوس لم تكن قائمة على معتقد يؤله هذا الحيوان ويرفعه إلى مستوى المعبود الأعلى، بل إنها تخفي معتقدات من نوع آخر، هي المعتقدات التي قامت عند عتبة الدين قبل ظهور مفهوم الإله، وقبل تشكل عالم الآلهة.
كان الأنتروبولوجي المعروف ليو فوربينيوس أول من صاغ مصطلح «سيد الحيوانات» (=
صفحه نامشخص