دین انسان
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرها
5
ولعل من جملة الأسباب التي ساعدت على اتصال الأخلاق بالدين، وتحول لائحة التابو إلى قواعد أخلاقية، هو اجتماع السلطتين السياسية والدينية في يد واحدة هي يد الملك-الكاهن، وذلك عند أعتاب التاريخ، عندما كانت المجتمعات البشرية تتحول لأول مرة في مناطق الهلال الخصيب من نظام القرية الزراعية إلى نظام المدينة. ولدينا براهين مؤكدة من المدن السومرية الأولى، وهي أسبق المدن في الحضارة الإنسانية، على سلطة المؤسسة الدينية، وعلى الصفة المزدوجة للملك السومري كحاكم زمني وككاهن أعلى. لقد شعر هؤلاء الحكام-الكهنة الأوائل، وهم يقودون مجتمعا ودع إلى الأبد بساطة القرية وعلاقاتها الاجتماعية القبلية، وصار إلى حالة من التعقيد وتشابك العلاقات لم تماثلها حالة من قبل، شعروا بضرورة ربط المؤيدات الاجتماعية للسلوك الأخلاقية بمؤيدات تأتي من العالم الإلهي الذي يكافئ ويعاقب، ويحافظ من خلال القوانين الأخلاقية على نظام المجتمعات الإنسانية حفاظه على نظام الكون من خلال القوانين الطبيعية. ولما كان أولئك الحكام يسيطرون على أحوال الناس الدنيوية سيطرتهم على أحوالهم الدينية، فقد سهل عليهم هذا الوضع المتميز إحكام الربط بين النظام الأخلاقي والنظام الديني للجماعة. وقد زادت أواصر هذه العلاقة بمرور الزمن، حتى بدت الأخلاق والأديان وكأنها من طبيعة واحدة وأصل مشترك.
وبما أن الأخلاق لا تستكمل ارتباطها العضوي بالدين إلا عبر سياق تطوري بطيء، فإننا نستطيع متابعة هذا الالتحام التدريجي في بعض الأديان التي خضعت لعملية تطورية عبر فترة طويلة من الزمن، ولدينا عنها وثائق كتابية كافية، مثل الديانة اليهودية. فرغم أن الوصايا الأخلاقية العشر قد تصدرت سفر الخروج، وهو ثاني أسفار التوراة، فإن وصايا «التابو» البدائي والأحكام الطقسية، قد طغت على الوصايا الأخلاقية في معظم أسفار الكتاب. فقد خصص النصف الثاني من سفر الخروج، وكل سفر اللاويين الذي يليه، لبسط وتفصيل أحكام التابو التوراتي التي تتفق وكثيرا من أحكام التابو التي أطلعنا عليها علم الأنتروبولوجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر. فمعظم ما تلقاه موسى من أحكام في سفر الخروج وسفر اللاويين هو أحكام تتعلق بكيفية أداء الطقوس أمام الرب، وطرائق تقديم الذبائح والقرابين، وكيفية إقامة خيمة الاجتماع، وبناء المذبح، وقواعد التحريم الخاصة بالتعامل مع تابوت العهد. أما سفر اللاويين، فيعتبر بحق سفرا للتابو العبراني؛ فهناك تابو اللمس (3-15)، وتابو الطعام (11: 1-46)، وتابو المرأة في فترة الولادة والنفاس (12: 1-8)، وتابو البرص والقرع (13: 1-59)، وتابو السيلان (15: 1-33)، وتابو الدم (17: 1-16)، وتابو المرأة الحائض (15: 9-33)، وتابو الجنس (20: 9-21) ... إلخ، في الوقت الذي لم تنل فيه الوصايا الأخلاقية من الأحكام إلا أقلها. والخطيئة الأخلاقية يمكن غسلها، أما تعدي حدود التابو فجريمة تستجلب القصاص الفوري؛ فمن «أخطأ وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبا ... يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشا صحيحا من الغنم، ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح عنه» (اللاويين 1: 6-6). وحتى ذنوب القوم يمكن غسلها جميعا وفق الطقس المعروف بطقس تيس الخطيئة: «ويضع هارون يديه على رأس التيس الحي، ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل، وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة» (اللاويين 21: 16-22). وفي المقابل، فإن ابني هارون، وهو الكاهن الأكبر، يموتان فورا لتعديهما حدا من حدود التابو: «وأخذ ابنا هارون كل منهما مجمرته، وجعلا فيها نارا، ووضعا عليها بخورا، وقربا أمام الرب نارا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (اللاويين 10: 1-2).
وإله العبرانيين نفسه ذو طبيعة أخلاقية متناقضة وموزعة فيما بين الخير والشر، وهو يبدو في كثير من تصرفاته أبعد ما يكون عن الحس الأخلاقي في معاملة مخلوقاته، فهو يبلبل ألسنتهم ليمنعهم من الاتحاد في مواجهته، ويشتتهم في بقاع الأرض، على ما تذكره أسطورة برج بابل في سفر التكوين (11: 1-8). وهو يفني كل نفس حية بين إنسان وحيوان وحشرة في طوفان شامل، ولا يتورع عن قتل كل المواليد الأبكار في مصر لإرغام الفرعون على إطلاق بني إسرائيل. وعندما يأتي لدمار مدينتي سدوم وعمورة يقف أمامه إبراهيم ليذكره بالقواعد الأخلاقية: «حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر؛ أن تميت البار مع الأثيم ... أديان الأرض لا يصنع عدلا؟» (التكوين 18: 23-25). وهو ينقض مواثيقه بعد عقدها وحلفانه على ثباتها كما في المزمور 89: 35-44. ويبدو سلوك يهوه غير المفهوم من وجهة النظر الأخلاقية، كأوضح ما يكون في سفر أيوب؛ فهنا نرى الإله يقع في مصيدة الشيطان الذي يوغر صدره على عبده أيوب، لا لشيء إلا لكون هذا الإنسان مثالا على التقوى والخلق القويم، فنتابع في هذا السفر المخيف كيف يسلب أيوب قطعانه ويقتل عبيده ويودي الإعصار بأبنائه وبناته، وكيف ينزل به إلهه الآفات والأمراض من كل نوع. ولكي تحكم حلقات الحصار حوله، يقوم أصدقاؤه القدامى وزوجته بإطلاق التهم فيه، وينسبون إليه كل فرية، ولكن أيوب يرفض مع ذلك أن يرفع شكاته لغير إلهه رغم يأسه من الاستماع إليه، ويقف ثابتا في الدفاع عن حقه أمامه؛ وبذلك يتفوق أخلاقيا على ذلك الإله.
6
هذا التوزع بين الخير والشر يدفع إله العهد القديم لأن يتعامل بمعيارين متناقضين؛ فبينما يسمح لنفسه أن يأخذ الأبناء بذنوب آبائهم: «أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (الخروج 2: 5)، فإنه يشرع في سفر التثنية عدم أخذ الابن بجريرة أبيه: «لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل» (التثنية 24: 16). وكان على يهوه أن ينتظر في هذه الحالة الأخلاقية المنقسمة حتى وقت متأخر من تاريخ الديانة اليهودية، وها هو يصحح سلوكه السابق على لسان حزقيال الذي عاش إبان السبي البابلي: «ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست؟ حي أنا، يقول السيد الرب: لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل ... النفس التي تخطئ هي التي تخطئ، هي التي تموت ... الابن لا يحمل من إثم الأب» (حزقيال 18: 2-4، 20).
ونستطيع الافتراض بثقة أن شأن الأخلاق لم يعل على الطقوس وعلى لوائح التابو إلا خلال الأسر البابلي، ومن خلال كرازة الأنبياء المتأخرين الذين قاموا بما يشبه الانقلاب الديني حقا. يقول إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب: أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات ... البخور هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل ... رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت علي ثقلا، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. اغتسلوا تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر» (إشعيا 17-1: 11). وعند عاموس نقرأ: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا ... بغضت كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع، وليجر الحق كالمياه والبر كنهر دائم» (عاموس 5: 14، 21-24). كما يعلن هوشع على لسان الرب: «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هوشع 6: 6). إلا أن الانتصار الحقيقي للأخلاق في ديانات المشرق العربي لم يتم إلا مع مجيء المسيحية ومن بعدها الإسلام؛ فرسالة الأناجيل ليست سوى رسالة إيمان وأخلاق، وبولص الرسول، صاحب الفضل الأول في تحرير المسيحية من الفكر اليهودي، قد ركز في تعاليمه على فكرة أن الله لا يطلب بالذبائح بل بالإيمان والخلق القويم، وكل رسالته إلى العبرانيين تقريبا تحمل هذه المعاني. أما الإسلام، فقد أعلن منذ البداية صلة لا يمكن فصلها بين الدين والأخلاق؛ ولذا فغالبا ما اقترن التكليف بالوصايا، كقوله تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا (الإسراء: 23). كما شغلت الوصايا الأخلاقية الجزء الأكبر من أحاديث الرسول؛ ف «الدين المعاملة»، و«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وغير هذه الأحاديث كثير.
ولقد أثر علو شأن الأخلاق في الحياة الدينية، بشكل خاص، على مفهوم الإله عند الجماعة، وعلى ظهور شخصية إلهية مختصة بأمور الشر؛ فالإله الذي يحض على فضائل الأعمال ينبغي أن يمثل بذاته الخير المحض، ويترك شرور العالم لكي يتدبرها الشيطان. ففي الزرادشتية الإيرانية التي كانت، تاريخيا، أول من فصل بشكل مطلق بين الخير والشر في شخصية الإله، يجري تصور الكون برمته على أنه نظام أخلاقي قطباه قوتان؛ الأولى خير محض، والثانية شر محض. ومثل الزرادشتية في هذا، المانوية وريثتها الفكرية. أما اليهودية، فبسبب عدم توصلها إلى فكرة الخير المحض في شخصية الإله، فقد بقيت حتى اختتام تدوين أسفار التوراة في القرن الثاني قبل الميلاد (وهو زمن تدوين آخر الأسفار) لا توكل لشئون الشر على المستوى الكوني شخصية ما ورائية من أي نوع؛ لأن الخير والشر بقيا متلازمين في شخصية الإله. يقول يهوه على لسان إشعيا: «أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق البشر، أنا صانع كل هذه» (إشعيا، 45: 6-7). أما الشيطان فيبدو في الأسفار الأولى كشخصية باهتة، وكنوع من الجن يسكن البوادي المقفرة تحت اسم «عزازيل »، من ذلك ما نراه في سفر اللاويين (16: 8، 10، 26). ولم يرد ذكره تحت اسم الشيطان إلا مرات قليلة لا تكفي لإيضاح هويته ومجال سلطانه، ولكننا نعرف منها مقاومته لإرادة الرب، كما هو الحال في سفر أيوب (1: 6-12)، وزكريا (3: 1-2). ثم يأتي العهد الجديد ليرسم الشخصية الواضحة للشيطان، ويعطيه سلطانا على العالم يشبه سلطان أهريمان الزرادشتي؛ فهو ملاك سقط بسبب الكبرياء (رسالة بولص إلى أهالي إفسوس 6: 12)، وهو رئيس رتبة من الأرواح النجسة (متى 12: 24)، ويقود العصاة السماويين على الله (رسالة بطرس الثانية 2: 4)، ويوقع بالبشر ويصدهم عن فعل الخير (مرقس 4: 15)، وسلطته تشكل كل الجنس البشري (إفسوس 2: 1-3)، ويدعوه بولص بإله هذه الدنيا الفانية (رسالة بولص إلى أهالي كورنثه 4: 4)، ويدعوه يوحنا الإنجيلي رئيس هذا العالم (يوحنا 12: 31)، ويبقى سلطانه قائما إلى يوم الدينونة (رؤيا 20: 1-2 و10). ورغم أن الإسلام يسير على النهج نفسه، إلا أنه لا يعطي للشيطان من السلطان الشيء الكثير، ويبقى نشاطه ضمن حدود السيطرة الإلهية من جهة، وقوة الإنسان على مقاومته من جهة ثانية؛ فإبليس بعد أن يطرد من السماء لعصيانه الأمر الإلهي وتكبره على السجود لآدم، يعلن تصديه لحمل مسئولية الشر في العالم بالقدر الذي تسمح به المشيئة الإلهية:
قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (الحجر: 39-42).
صفحه نامشخص