دین انسان
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرها
كل العيون تتملى سناك، أنت آتون النهار في ذروة السمت.
أنت في قلبي، ولا يعرفك حقا سوى ابنك أخناتون.
وقد أعطيته فهما ليدرك طرقك وجلائلك.
العالم كله بين يديك. عندما تسطع على المخلوقات تحيا، وإذا تغرب عنها تموت.
فأنت الحياة وبك الحياة.
إن ابتعاد المعتقد الآتوني عن التعبير عن نفسه من خلال الميثولوجيا واضح في هذه الترتيلة، التي لم تحتو على أية إشارة إلى أساطير تكوين وخلق وأصول، شأنها في ذلك شأن أختها المعروفة باسم «الترتيلة القصيرة». كما نستنتج خلو الآتونية من الأساطير، من قراءتنا لنصوص القبور التي تركها الأتباع المقربون للفرعون، فهذه تبتعد بدورها عن أية إشارة إلى أساطير تتعلق بالموت والعالم الآخر، مما هو معروف في غيرها من نصوص القبور المصرية. ولعلنا واجدون في الأعمال التشكيلية التي خلقتها لنا فترة حكم أخناتون برهانا إضافيا على نفور الآتونية من الميثولوجيا.
فالإله آتون لم يصور بتاتا في هيئة مشخصة، وإنما اكتفى النحات أو الرسام بإظهار رمزه التشكيلي، وهو عبارة عن قرص الشمس الملتهب وقد انبعثت أشعته في كل اتجاه، وكل شعاع ينتهي بكف توزع الخير والبركة. وفيما عدا ذلك فإن الفن التشكيلي قد خلا من المشاهد الدينية ذات الخلفية الأسطورية، واقتصر على تصوير المشاهد الدنيوية البحتة. ويبدو لعين المتفحصين لهذه الأعمال الفنية، أنها قامت بالفعل على فلسفة جمالية أقرب ما تكون إلى فلسفة الفن الإغريقي اللاحق، الذي احتفل بالجمال الأرضي وجعل من الإنسان بؤرة اهتمامه. ولعل غياب الأسطورة في الديانة الآتونية هو أمر تستدعيه طبيعة معتقدها؛ فالوظيفة الدينية للأسطورة هي توضيح صور الآلهة وتزويدها بسيرة حياة، وشجرة نسب، وتبيان دورها في عالم الإنسان، مما سوف نوضحه بعد قليل. أما إله أخناتون، فرغم مخاطبته مجازا بالإله الواحد، فإن كل طرائق التعبير عن وجوده وطبيعته وعلاقاته بعالم الناس، لتشير إلى كونه طاقة غفلة غير مشخصة، ومبدأ كامنا عند جذور عالم الظواهر. ومثل هذه الألوهة تستبعد بطبيعتها أي نظام ميثولوجي؛ لأنها لا تتطلب التشخيص والتمثيل والتشبيه. (2) الطقس
تولد الخبرة الدينية المباشرة حالة انفعالية قد تصل في شدتها حدا يستدعي القيام بسلوك ما، من أجل إعادة التوازن إلى النفس والجسد اللذين غيرت التجربة من حالتهما الاعتيادية. ولعل الإيقاع الموسيقي والرقص الحر كانا أول أشكال هذا السلوك الاندفاعي الذي تحول تدريجيا إلى طقس مقنن. ويترافق تقنين الطقس وتنظيمه في أطر محددة ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية وضبطها في معتقدات واضحة يؤمن بها الجميع، ويرون فيها تعبيرا عن تجاربهم الفردية الخاصة؛ وبذلك يتحول الطقس من أداء فردي حر إلى أداء جمعي ذي قواعد وأصول مرسومة بدقة، ويتم ربط الطقس بالمعتقد بدل ارتباطه بالخبرة الدينية المباشرة. ومع ذلك، فقد يتعايش هذان النوعان من الطقوس في الثقافة الواحدة، حيث يقوم الطقس الحر جنبا إلى جنب مع الطقس المنظم، بسبب قصور الطقوس المنظمة عن سد حاجة نوع معين من الأفراد ذوي الحساسية الشديدة للتجربة الدينية الفردية. فإذا كانت الصلاة في المعابد وإنشاد التراتيل فيها هي النموذج الأكثر شيوعا للطقس المنظم، فإن لنا في حلقات الصوفية وما يؤدى فيها من موسيقى إيقاعية ورقص وتواجد، خير مثال على الطقس الحر الذي لا يرتبط بالمعتقدات الجمعية المؤسسة، بل بالخبرة الدينية العميقة المباشرة. ومن الجدير بالذكر هنا، أن هذا النوع من الطقس الحر، رغم كونه قد نشأ أصلا عن الخبرة الدينية المباشرة، إلا أنه غالبا ما يكرر فيما بعد من أجل استعادة هذه الخبرة نفسها وإحداث أثرها في النفس بشكل إرادي؛ فمن خلال رقصات معينة وموسيقى إيقاعية خاصة وتكرار صيغ كلامية ذات أثر خاص في النفوس، يمكن للأفراد المستغرقين في الأداء الانتقال إلى مستويات غير اعتيادية للوعي، واستعادة الحالة الوجدية التي تحتل ساحة الشعور تلقائيا في التجربة المباشرة التي تحدث في الأصل دون استنهاض مصطنع.
يرسم المعتقد صورا ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم القدسية، ولكن الأفكار وحدها لا تصنع دينا بالغة ما بلغت من وضوحها واتساقها، بل قد تشكل في أفضل أحوال اتساقها فلسفة دينية. وأعود هنا للاستشهاد بمثال الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، التي اشتد عودها في المشرق العربي إبان القرن الثالث الميلادي؛ فهذه الفلسفة قد جعلت من الإلهيات بؤرة اهتمامها، وكانت أفكارها مهيأة لأن تكون أساسا مكينا لديانة كبرى في ذلك الوقت، ولكنها لم تحقق هذه الخطوة رغم طموحها الضمني لتحقيقها؛ وذلك بسبب افتقارها إلى نظام طقسي، يضع الإنسان في علاقة مع العوالم القدسية التي صاغ المعتقد صورتها الذهنية، فبقيت هذه العوالم صورا ذهنية باردة تعيش في عقول أتباع هذه الفلسفة لا في قلوبهم. إننا لا نتحول من الفلسفة إلى الدين (وأنا أفترض هنا أن كل تفكير متسق هو فلسفة) إلا عندما يدفعنا المعتقد إلى سلوك وإلى فعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، ومن التفكير في العوالم المقدسة إلى اتخاذ مواقف عملية منها؛ فنتقرب منها أو نسترضيها أو نسخر قواها لمصلحتنا أو نكف غضبها عنا ... إلخ. فإذا كان المعتقد حالة ذهنية، فإن الطقس حالة فعل من شأنها إحداث رابطة. وإذا كان المعتقد مجموعة من الأفكار المتعلقة بعالم المقدسات، فإن الطقس مجموعة من الأفعال المتعلقة بأسلوب التعامل مع ذلك العالم، إنه اقتحام على المقدس وفتح قنوات اتصال دائمة معه.
وبشكل عام يمكن القول بأن أية صورة ذهنية لا تخرج من عالم الفكر إلى عالم الفعل، هي صورة معرضة للتحجر أو التلاشي والزوال. وبما لهذا السبب يتم تذكير الجنود في ثكناتهم يوميا بفكرة الوطن، من خلال ممارسة يومية هي أقرب إلى الطقس الديني بشكلها ومضمونها. إن كل من مارس أو شاهد في القطعات العسكرية الإجراء المتعلق بتحية العلم الصباحية والمسائية، حيث يرفع العلم بحضور جميع أفراد القطعة صباحا، وينزل مساء على صوت البوق، يدرك المعاني الكبيرة التي تنمو في النفوس من جراء القيام بهذا الطقس الدنيوي اليومي. ولعلنا واجدون الشيء نفسه في موقف المجتمع من فكرة الشهادة وإجلال الشهداء؛ فنحن مهما تحدثنا عن مكانة الشهداء في قلوبنا وتقديرنا لهم، لا نستطيع أن نفي ذلك حقه كما يفيه طقس وضع أكاليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في مناسبات معينة. وأكثر من ذلك، فإن مفهوم الوطن القومي وصورته في عقول المواطنين، لا ترسخه الأفكار قدر ما ترسخه الطقوس. فنحن نستطيع أن نتحدث في كتب التعليم وعبر وسائل الإعلام عن فكرة الوطن ومفهوم المواطنية، ولكن احتفالا قوميا واحدا يلتقي فيه الناس في الشوارع فيهتفون ويزغردون ويرقصون بمصاحبة الأناشيد القومية ويلوحون بالأعلام والشعارات، من شأنه تثبيت فكرة الوطن القومي وإضرام نار الانتماء إليه أكثر من كل الكتب والتعاليم. ولقد أدرك المشرفون على وسائل الإعلام في الأنظمة القومية الفاشية هذا الميل النفسي بكل دهاء. ففي ألمانيا النازية، عمد دهاقنة الإعلام إلى تصميم عدد متنوع من الطقوس لفئات الشبيبة النازية؛ فمن الألبسة والشارات المميزة لكل فصيل، ورفع اليد بالتحية المعروفة، إلى الأناشيد الحماسية تنشد «ألمانيا فوق الجميع»، إلى موسيقى فاغنر تعزف في المناسبات وقد ألبست ثوبا قوميا عصريا، إلى احتفالات المشاعل الليلية وما إليها. وتمت الإفادة من هذه المظاهر والاحتفالات الجمعية إلى درجة يمكن القول معها بأن الأيديولوجية النازية لم تنتشر عن طريق التبشير النظري الساذج، قدر انتشارها عبر التصميم المتقن لطقوس قومية لها صفة الهوس الديني.
صفحه نامشخص