دین انسان
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرها
8
لقد تلاشت فكرة إندارا الساذجة عن نفسه وعن دوام مجده، عندما رأى أن هذا المجد ليس أرسخ من الجبال التي تبدو لحياة فرد أو جيل أو حقبة تاريخية، ثابتة أبدية، ولكنها من منظور الدهور المتعاقبة أشبه بموج البحر يعلو ثم يهبط. لقد كانت مشاريعه العمرانية متناسبة مع إحساسه بأناه التي ظنها مطلقة وبلا حدود، أما بعد أن فتح فيشنو عينيه، ورأى ملايين السنين تتحول إلى دقائق، والدهور إلى أيام، فقد رأى كيانه وكيان الآلهة من أمثاله عرضا مؤقتا زائلا، ورأى كل ما تجنيه اليدان تذروه رياح الفناء كأن لم يكن. لقد تبين له الكون أشبه بنهر دائب الجريان، لا يركن إلى حال ولا يبغي مآلا، ولكنه تبين في الوقت نفسه الجوهر الثابت وراء كل متغير.
إن إدراك التغير والتبدل في كل ظاهرة من ظواهر العالم، تجعله يبدو أشبه بسراب ناتج عن خداع الحواس، أو تلفيقة يصنعها الوعي المتمركز حول الأنا. هذه الخبرة بالعالم تجعله معادلا للمايا، والمايا هي الصنعة الفنية التي تنتج عملا يدويا أو تشكيليا لهيئة ما، من مادة غير مشكلة. إن معنى التشكيل انطلاقا من مادة لا شكل لها، يرتبط هنا بشكل وثيق بالمعنى الذي بيناه آنفا، والذي يعود إلى الجذر الذي يعني الكيل والقياس والتحديد، ولكنه ينطوي في الآن نفسه على ظلال جديدة. فبما أن المايا هي إظهار لهيئة لم يكن لها وجود، فإنها تتصل أيضا بالوهم، والحيلة البارعة، وخداع البصر، وما إلى ذلك. ومايا الآلهة هي قدرتها على الظهور بهيئات مختلفة، وذلك بإظهارها لجوانب متنوعة من ماهيتها اللطيفة. غير أن الآلهة هي في الوقت نفسه نتاج مايا كبرى؛ نتاج تبد ذاتي تلقائي لماهية قدسية كبرى لا حضور فيها للهيئات والأشكال. وهذه المايا الكبرى لا تنتج الآلهة فقط، بل العوالم التي تنشط فيها أيضا؛ كل العوالم الماضيات والمقبلات تتشارك الوجود في المكان، وتتبع بعضها بعضا في الزمان. ومستويات الوجود وما فيها من مخلوقات طبيعانية وفوق طبيعانية، هي تجليات يظهرها نشاط المايا الذي ينضح من نبع أزلي لا ينضب. وعندما يهبط ليل برهما الطويل، فإن المايا تتوقف عن النشاطات، وتنحل الظهورات التي تبدت في نهار الدورة الكونية الكبرى. إن المايا هي وجود العالم الذي نعيه ووجودنا نحن بالذات، ولكنها أيضا الطاقة العظمى التي تلد المشهد كله وتفعل من داخله، إنها الوجه الدينامي للماهية الكونية. وبتعبير آخر، إن المايا هي السبب والنتيجة في آن معا؛ فهي الفاعل الداخلي وهي أيضا التدفق والجريان الذي يبدو على السطح. وقد دعيت في الميثولوجيا باسم شاكتي، والكلمة مستمدة من الجذر السنسكريتي
sak
الذي يعني القدرة على إتيان شيء، وجرى تصورها كألوهة مؤنثة، واعتبرت الوجه الأنثوي المشخص للكائن الأسمى.
9
ونحن إذا أعدنا هذه التصورات الفلسفية المعقدة والصور الميثولوجية المتشابكة إلى صيغتها البسيطة، لوجدنا أن المعتقد الهندوسي الجوهري يتلخص بسهولة إلى مصطلحينا المألوفين؛ أي المجال القدسي وقوته السارية.
ولكن لكي يكتمل في أذهاننا الدرس الذي تعلمه إندارا عن المايا الكبرى المولدة لدورة الكون، لا بد لنا من الاطلاع على درس آخر يتعلق بالدورة الصغرى؛ دورة تناسخ الأرواح، وذلك بسرد أسطورة أخرى من أسفار البورانا اخترتها لهذه الغاية.
تدور الحكاية حول ناسك ذي نسب إلهي اسمه نارادا. في يوم من الأيام تجلى الإله فيشنو لهذا الناسك في معتكفه مكافأة له على تعبده الطويل، ومنحه استجابة لدعوة واحدة فقط يدعوها، ورغبة يحققها له. ولكن نارادا الزاهد في كل أمور الدنيا لم يطلب سوى أن يفهم مايا الإله وكيف تفعل، إلا أن فيشنو حاول التملص من تحقيق هذا المطلب عارضا على الناسك الصحة وطول العمر، وغير ذلك مما يطلب البشر عادة، فأصر هذا على طلبه مؤكدا أن لا رغبة له في شيء سوى النفاذ إلى سر وجوده. ولما لم يجد الإله إلى التهرب سبيلا، قام بتلبية رغبة نارادا، ولكن بدلا من أن يشرح له كيف تعمل المايا بكلمات، عرضه لتجربة ساحقة، خبرها بجسده ووجدانه على أعنف شكل يمكن تصوره. أمر فيشنو نارادا أن يغوص في مياه البحيرة القريبة، ففعل. وعندما صعد إلى السطح لم يكن هو نارادا، بل تحول إلى فتاة اسمها سوشيلا، هي ابنة ملك مقاطعة بينارس (ربما أحد تقمصات نارادا السابقة أو اللاحقة)، وكانت مخطوبة لابن ملك المقاطعة المجاورة. ولم يطل بسوشيلا الأمر حتى زفت إلى الأمير، وعرف الحكيم الزاهد نارادا كل متع الجسد في قميصه الأنثوي الجديد. ثم إن الملك المسن توفي وصعد إلى العرش الأمير الشاب زوج سوشيلا، وسارت حياة الزوجين على أفضل وجه، فأنجبت الملكة لزوجها عددا من الأولاد وصار لها أحفاد وهي ما زالت في ريعان الصبا. ولكن بعد مدة من الزمن وقع نزاع بين المقاطعتين المتجاورتين، ودخل أبو سوشيلا وزوجها في حرب ضروس أنهكت الطرفين. وفي معركة أخيرة فاصلة قتل زوج سوشيلا وأبوها معا وعدد من أولادها وأحفادها. تركت سوشيلا العاصمة لسماعها النبأ الفاجع وهرعت إلى ميدان المعركة، وهناك أقامت مناحة على قتلاها، ثم أمرت صنع محرقة جنائزية كبيرة وضعت فوق حطبها جثث أحبائها، ثم قربت نارا وأوقدت المحرقة. وبينما النار تندلع أمام عينها راحت تصرخ كالمجنونة يا ولداه، يا ولداه. ثم رمت نفسها في وسط اللهيب. عند ذلك ابتردت النار وتحولت المحرقة إلى بحيرة؛ البحيرة نفسها التي غطس فيها نارادا، ورأى الناسك نفسه والإله يقوده من يده نحو الشاطئ. وهناك قال فيشنو للحكيم الشيخ وعلى فمه ابتسامة قاسية: «من هذا الابن الذي كنت تبكي موته يا نارادا؟» هنا فتحت عيناه على الحقيقة.
10
صفحه نامشخص