ذو النورین عثمان بن عفان

عباس محمود العقاد d. 1383 AH
66

ذو النورین عثمان بن عفان

ذو النورين عثمان بن عفان

ژانرها

ومن الأحاديث التي رويت عن النبي صلوات الله عليه أن الخلافة ثلاثون سنة، ثم هي بعد ذلك ملك عضوض.

ومن كلام أبي بكر في معارض شتى أن الدنيا موشكة أن تغير من النفوس مالا يحمد تغييره، ومن كلام عمر وعمله في أيامه جميعا ما ينم على حذر كهذا أو أشد من خطر الدنيا على نفوس الأقطاب الكبار فضلا عن الدهماء وسواد الدنيا.

وكانت لهذا الشعور أحيان يشتد فيها ويغلب على الناس عامة؛ حتى كأنه بديهة حاضرة لا تحتاج إلى تفكير، ومن هذه الأحيان فترات التوجس والترقب بين عهد وعهد منذ أيام النبي عليه السلام: بين وفاة النبي وقيام أبي بكر، وبين وفاة أبي بكر وقيام عمر، وبين وفاة عمر خاصة وقيام عثمان.

ولما حدثت فتنة الردة في أوائل عهد أبي بكر دهش الناس ولم يدهشوا: دهشوا لأنهم فوجئوا، ولم يدهشوا لأنهم - وقد وقع الذي وقع - لم يستغربوه، ولم يستكثروا حدوثه بعد صدمة كتلك الصدمة الهائلة، وبعد غياب صاحب الدعوة ومتعهدها وصاحب المنزلة التي لا تدانيها فيهم منزلة، ثم أصبح التوجس والترقب ديدنا لهم في كل فترة من قبيلها، فتساءلوا بعد موت أبي بكر: ماذا عسى أن يكون بعد هذا الخليفة الرفيق الرقيق؟! ولعله تساؤل لم يعنتهم كثيرا ولم يطل بهم أجله غير قليل؛ إذ كان أبو بكر لا يبرم أمرا بغير مشورة عمر، وكانت سياسة الشيخين سياسة واحدة تلين معهما تارة وتشد تارة أخرى، فلما أشفق الناس بعد وفاة أبي بكر لم يشفقوا من تبديل سنة مرعية أو خروج على جادة متبعة، ولكنهم أشفقوا من شدة فيها وصرامة في حمل الناس عليها، ثم ذهب عمر بغتة والناس يستعظمون الخطوب ويلمسون بوادر التغير من بعيد ومن قريب، فعادوا إلى ديدنهم في أمثال هذه الفترة، وخيل إليهم أن كل أمر جائز، وكل خطر متوقع خلال هذه النقلة مما علموه إلى ما يجهلونه ويوجسون منه ويترقبونه.

وفي كل كلمة بدرت، وكل وصاة قيلت في هذه الفترة، إعراب مقصود أو غير مقصود عن هذا الشعور الغالب الذي بلغ أقصاه يومذاك: شعور بحالة يخشى ألا تدوم، وخوف من تغير لا يدرى كيف يتقى.

عمر يوصي ببقاء الولاة عاما، ويتوقع الفواجع من الأثرة والإيثار، ويريد «من يحمل الأمة على الحق»، ومن يشتد في غير عنف ويلين في غير ضعف. وعبد الرحمن يعلم أنه لا رضى عن أحد بعد الصديق والفاروق، ولا طمأنينة للناس إلا أن يطمئنوا إلى سيرة كالسيرة الأولى، وهم لا يعلمون من أين يأتي التبدل والانحراف.

إن تقرير هذه الحالة النفسية أهم من إحصاء مئات الحوادث والأقوال التي انحدرت إلينا من تلك الفترة؛ لأن الحوادث والأقوال لا تفهم بغير فهم تلك الحالة النفسية، ولعل تلك الحالة في كثير من الأحيان هي مبعث الحوادث وأقوال القائلين فيها، فما كان أحد يعيب سياسة عثمان مخلصا أو غير مخلص إلا كان الحذر من تبديل السنن ونقص السوابق حجة له يسوقها في خطابه للخليفة أو خطابه للخاصة والعامة من رعيته، وأصبح حضور هذا الحذر في الأذهان من دواعي المبالغة في تعظيم المخالفات وخلقها من غير شيء على نية حسنة عند بعضهم وعلى نية سيئة عند الأكثرين؛ لأنها نغمة العصر التي تفتح الآذان، وتتأهب الآذان لاستماعها في كل مكان.

وأهم من ذلك أن عثمان على رأس المسلمين قد ساوره ذلك الشعور، وداخلته تلك الحالة النفسية وجثمت في سريرته؛ حتى تمكن منه التسليم والاستسلام لما هو كائن لا محالة، فكان يقول لمحدثيه كما يقول في خطبه: إن ما تبتلى به هذه الأمة قدر واقع لا يدفع، وإن فتنة الدنيا طغت على النفوس طغيانها الذي لا تجدي فيه الحيلة أو المحاولة. وذلك كله مما نلمسه في استسلامه آخر أيامه، وتركه المحاولة أو عدوله عنها بعد المضي فيها، ونلمسه كذلك في شكه واسترابته في صدق العاملين وتعويله من أجل ذلك على أقربائه وخاصة ذويه عسى أن يصدقوه في رعاية السنن والمواثيق.

وتظهر تلك الحالة النفسية من خطبه الأولى كما تظهر من خطبه الأخيرة، فلما بايعه أصحاب الشورى خرج فيهم وهو أشدهم كآبة حتى أتى منبر رسول الله وقام يخطب الناس فأرتج عليه، وجاء في كلام من روى خبر الإرتجاج عليه أنه قال يومئذ: «أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله ...»

مقام أدل من المقال، يدل على كثير.

صفحه نامشخص