ورأى أمين، رأى الحياة مرة أخرى، وهتك هذا الستار الذي أسدله عماه بينه وبين الدنيا، وقد كان أعظم ما يكون إقبالا عليها، رأى ورأى إلى نفسه في المرآة، فأما عينه التي لا ترى فهي كما هي حوراء جميلة لا يستطيع أحد أن يعرف أنها لا ترى، فما كان بها من عيب إلا أنها لا ترى، وفاء، إني إني أرى، وفاء، إني ... ونظر إليها ثانية، وثالثة، ثم حدق، وأطال التحديق، أطرقت وفاء فرفع وجهها إليه فرأى الدموع تسيل ورأى عينا حمراء من أثر الدموع وعينا جامدة، وفاء، وفي صرخة أطلقها الخوف والحب والشعور بالتضحية التي بذلتها له عرف كل شيء، أهذه عينك التي أرى بها، وفاء، ودون أن يبالي بأوامر الأطباء، أو يحاذر على الأمل الذي انفسح أمامه انتفض من سريره وركع تحت أقدامها يقبل أقدامها، بل يقبل حذاءها. - أصبحت بعين واحدة يا أمين. - أحب عينك التي لا ترى أكثر من حبي لعينك التي ترى، بل أكثر من حبي لعيني التي ترى، وفاء، وبكى وبكى، وقالت وفاء : لقد وهبت لك عيني فاحرص عليها ولا تضع عيني عبثا.
ورنت الكلمة في أذنه واستقام معناها في عقله فامتثل أمرها وأطاع أوامر الأطباء، ونجحت العملية وخرج إلى الحياة.
وعاد الزوجان إلى أملهما القديم من الدكتوراه. وانتظم كل منهما في عمله.
وتعود أمين أن يرى زوجته بعين ترى وبأخرى جامدة. وتعود أن يرى حبها له في عين حين يرى عينها الأخرى باردة خامدة لا حب فيها ولا مشاعر ولا حياة، ويكاد يضيق ثم يذكر أنه لولا هذه العين ما رأى حبا ولا حياة، وأنه لولا هذه العين لظلت عينا وفاء لها تنظران إليه بإشفاق ما أبغضه، سواء رآه أو لم يره. ثم يحس خليطا من المشاعر بعضها ساخط لأن زوجته لا ترى بغير عين واحدة، وبعضها ثائر لأن تضحية زوجته من أجله لا سبيل إلى ردها أو شكرانها، وبعضها ضائق لأنها بتضحيتها قد أحاطت عنقه بمثل طوق الكلب الوفي لا يستطيع عن سيده فكاكا، وبعضها خزيان لأنه يسمح لهذه الأفكار أن تمر بخاطره.
وألح عليه شعوره بأنه كلب يدين بالوفاء لزوجته، وكان هذا الشعور لا يبارحه بل هو يطالعه حتى وهو في دراسته، وكثيرا ما فكر أن يتحرر منه ثم ما يلبث أن يعود إليه مرغما كارها. وكانت سكرتيرة الكلية التي يعمل بها فتاة في ربق العمر، وكانت ترى بعينيها كلتيهما، وكانت عيناها جميلتين تفيضان بالحياة وبالجرأة، وكانت بينهما صداقة، واستطاعت الصداقة أن تتطور في يوم من الأيام إلى موعد. أول موعد يعقده أمين مع فتاة أخرى غير وفاء.
عاد أمين إلى البيت ولم تكن وفاء به، ووضع على نفسه أنفس ما يملكه من ثياب وتأنق فبالغ في التأنق ونظر إلى المرآة فطالعه وجهه جميلا، وطالعته قامته ممشوقة ونسي أنه ينظر بعين وفاء، ولم يعد يذكر إلا أنه يرى مشاعر تنبعث من عينين معا لا من عين واحدة وإلا أنه يريد ألا يصبح كلبا، وملأه الزهو بشبابه وجماله ونزل إلى الطريق وسارها خطوات، خطوات قليلة ثم أراد أن يعبر الشارع في زهوه ما يزال فإذا سيارة في الطريق تغول الطريق في سرعة نافذة تندفع إليه، وكانت آتية من جهة عينه التي ترى، فإذا هو ينسى زهوه ينتفض في لهفة محب للحياة يوشك أن يموت فإذا هو على الطوار الآخر لم تمس منه السيارة إلا طرف حذائه، الحمد لله، ماذا لو كانت هذه السيارة قادمة من الجهة الأخرى، الجهة التي لا تبصر، بل ماذا لو لم تكن لي عين وهبتها لي زوجتي، زوجتي الحبيبة وفاء، وفاء، وفاء التي لا ترى إلا بعين واحدة، الأخرى هي التي أنقذتني الآن، يا لي من كلب.
وظل واقفا على الطوار حائرا خزيان ثائرا يضع أصبعه بين ياقة قميصه وبين عنقه، إن الطوق ما يزال حول عنقه.
ربيع
واليوم عاد الربيع، هكذا يقول الوقت ولكن أين الربيع مع الخوف، أين الربيع؟
أهلا ربيع، جئت في موعدك، لم تستطع قوة أن تدفعك عن أن تعود في موعدك، جئت لم تتأخر وما كان لك أن تتقدم، جئت وقال الناس جاء الربيع، لفظة تحركت بها ألسنتهم ثم استكانت الألسنة وانطبقت الشفاه على الشفاه وهوم حول الناس صمت، وانقطع حديث وتطلعت العيون إلى فراغ حولها يملؤه، وما حاولت أذن أن تمتد؛ فالناس، كل الناس وأنا منهم، يعلمون أن ليس في الأجواء موسيقاك، ولا نظر الناس يبحثون عن آثارك، فليست هناك الأزاهير والورود، لا ولا هناك المدى الأخضر المنبسط مثل كف طيبة حنون، وليس في الماء صفاؤك ولا في الجو أنسامك، بل إن العبق الذي كان ينتشر مع مجيئك تخلف اليوم عنك، فما في الجو من عبق شذاك شذى.
صفحه نامشخص