وقال الشيخ عبد الرحيم في سرعة: هيه، رفيعة. - العفو عود، عود مليء ووجه كالقمر، وأبوها غني. - عرفت الأخبار كلها. - بعد الأربعين نتوكل على الله.
ولم يجب الشيخ عبد الرحيم، ومرت الأيام الأربعون، مرت على الناس جميعا سريعة لا سمة لها ولكنها مرت في بيت الشيخ عبد الرحيم وهو لا يسمع شيئا إلا عن جمال البنت.
علية وحلاوة علية وعود علية وغنى أبي علية وطيبة أم علية، حتى أصبحت علية داء مستعصيا في لسان زكية وفي أذن الشيخ عبد الرحيم وفي حياته. إنها المرأة حين تريد، وقد أرادت زكية فهيهات أن يعصي الشيخ عبد الرحيم؛ كان بين اثنتين: أن يطيع زوجه أو يذهب واحد منهما إلى مستشفى المجاذيب، ولما كان الرجل لا يريد لنفسه ولا لزوجته هذه النهاية فقد أسلم أمره لله وأطاع زوجته. وكلم أحمد أفندي أن يحدد لهم موعدا عند عديلة، وتحدد الموعد وخرج موكب الشيخ عبد الرحيم ليخطب لابن الشيخ عبد الرحيم.
ولو كنت في القرية يومذاك لرأيت الشيخ عبد الرحيم في عمامته الجديدة وجبته المصنوعة من الجوخ الأخضر وتحتها القفطان الحريري ذو الخطوط الحمراء، ولرأيت الشيخ وقد أفلت ذقنه من الحلاق بعد أن سلخها فهي كالجزرة لولا بعض البودرة التي يعدو عليها العرق فتتناقص.
ولرأيت الست زكية في فستانها الكريب دشين وقد غطته بالمعطف الأسود الحريري واتخذت على رأسها خمارا يدور حول أسفل ذقنها شأن سيدات المدن.
ولرأيت خادمة المنزل في فستان جديد وقد صحبتها الست زكية لتكون مظهر غنى ودلالة سيادة أمام الأصهار، وقد امتنع مدبولي عن الذهاب أول الأمر ولكن أباه تحت وطأة إلحاح أمه أمره فأدخل نفسه في الجلباب الحريري الجديد والمعطف الصوفي الذي وضعه على نفسه على رغم الحر الشديد، وأدخل رأسه في طربوش أحضره له أبوه، وخرج الموكب.
ولم تستطع زكية حين رأت نفسها وزوجها وابنها، والخادمة في العربة ذات الجياد المطهمة لم تستطع أن تملك نفسها فأطلقت زغرودة عريضة تردد صداها في القرية جميعا، ولكنها لم تكتف بها بل ظلت طوال مرور العربة في القرية تطلق الزغاريد، وتفسر لزوجها السبب في كل زغرودة تطلقها، فهذه للحاجة فهيمة حبيبة العمر ولا بد أن تشاركها الفرحة، وهذه لفاطمة العدو اللدود التي كرهتها منذ دخلت القرية، وهذه للحاجة منيرة الحاضنة لتستدعي زغرودتها المشهورة، وهكذا حتى خرجت العربة من القرية.
ولو أنك انتظرت في القرية بضع ساعات لوجدت هذا الركب عائدا كما هو لم يتغير منه شيء أبدا إلا الزغرودة وزكية، كان الركب عائدا بالعربة نفسها وزكية واقفة في العربة وقد رفعت الخمار الذي كان يغطي رأسها وصفحتي وجهها وأمسكت به بيديها كلتيهما وراحت تحركه ذهابا وجيئة خلف رأسها. ثم راحت في الوقت نفسه ترسل الأصوات النائحة الصارخة والكلمات الفاجعة، يا مصيبتي، يا قلة بختي، يا خيبتي عملتها بيدي، وتقلب عينك في الركب فتجد الجميع لم يغب منهم أحد ولم يمت أحد، بل إنك تجد أيضا السعادة في وجوه الجميع.
لقد ذهب الشيخ عبد الرحيم وخطب علية فعلا، الفرق الوحيد أنه لم يخطبها لابنه مدبولي وإنما خطبها لنفسه، ولعل هذا يفسر لك كل شيء من حزن زكية ونواحها إلى سعادة الآخرين وفرحهم.
فالشيخ عبد الرحيم فرح لأنه حقق أمله آخر الأمر. ومدبولي فرح لأن أباه قبل أن يزوجه فايزة مقابل أن يتزوج هو علية، والخادمة فرحة لأن فرحين سيقامان في المنزل بدلا من فرح واحد.
صفحه نامشخص