أنت يا صديقي أحببت في مجدك وأحببت في صورتك التي رسمتها، وأحببت في رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء، ستجدد مجدك بصورة أخرى وسيقول النقاد عما سوف ترسمه كلاما ينسيك ما قالوه عن صورتي، ولن يبقى مني لك إلا وهم تقف دونه من الأيام سدوف وضباب.
لقد التقى جمال وجهي بريشة الفنان فيك ولن يخلق هذا اللقاء حبا. لو التقت الروح مني بالروح منك، لو التقيت أنا جميعا بك لكنت الآن سعيدة، ولكنت الآن آمنة حين أقول لك إني أقبلك زوجا.
إني يا صديقي قد أحببتك، وقد أحبيت فيك شيئا خالدا، أحببت فنك، وفنك هو روحك، ولكم كنت آمل أن أجد خطابك هذا الذي قرأته والذي أرده إليك يخبرني أن لي عندك ما لك عندي، ولكنك، وهذا ما أحبه فيك، صريح لا تبدي إلا ما تخفي، ولقد وجدتك تحب في شيئا أنا واثقة أنه لن يدوم. فأيام الربيع قصيرة، وهي للمرأة أشد قصرا، فإن جاء الخريف وتلاه الشتاء وبحثت حولي ولم أجدك فوا ضيعتي يوم ذاك، وا ضيعتي! إنني أيها الصديق الحبيب ممن يعدون للشتاء منذ هم بالربيع، ولكم يؤلمني أن أخبرك أنني لن أقبل عرضك هذا؛ فالشتاء وخاصة شتاء المرأة بارد قارس باهت وما أحب أن ألقاه وحدي، لقد نعمت بما نلته منك. وبحسبي هذا من جمالي ذكرى. ولن أقول وداعا، فإنني أحب دائما أن أراك، وسأظل دائما أراك؛ فالصداقة تستطيع أن تمتد إلى كل الفصول، فإلى اللقاء، إلى لقاء دائم.
عودة الزغاريد
وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراهما أو كانت مولية له ظهرها، كانت تحس النظرات ولا تراها.
كانت الحاجة زكية لا تترك فرصة دون أن تطالب زوجها الحاج عبد الرحيم العجل بأن يزوج ابنهما مدبولي الذي تجاوز مطالع الشباب والذي ترى أمه أن زواجه قد تأخر.
ولم يكن الشيخ عبد الرحيم يؤجل طلب زوجته عن فقر؛ فهو بحمد الله غني يملك عشرة أفدنة تنتظر الزيادة. وما كان يماطلها عن بخل؛ فهو يحب ابنه أشد الحب ولا يرجو من حياته شيئا إلا أن يسعد ابنه الوحيد هذا، بل إن السبب الحقيقي الذي من أجله لا يريد الشيخ إتمام الزواج هو هذا الحب الذي يكنه لابنه، وقد كانت مطالبة زوجته تزيده إصرارا على التأجيل الذي قد يصل إلى الإحجام، وكيف يقبل على تزويج ولده وهو ينظر إلى أمه هذه العجفاء التي لا يكاد جلدها أن يخفي عظامها. كومة من العظام حاول على السنين الطويلة، الطويلة جدا، أن يكسوها لحما فلم تفلح محاولاته جميعا.
لا يزال الشيخ عبد الرحيم يذكر ذلك اليوم الأغبر الذي أخبره فيه أبوه أنه كبر وأصبح لا بد له من الزواج عملا بالحديث الشريف: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج.» ولم يصبر أبوه حتى يختار هو العروس بل اختيرت له وتم الاتفاق على زواجهما دون أن يراها، ودخل بها، وكانت ليلة أسود من الحبر، كانت عظاما ولم تكن زوجة، وقد كانت أحلامه، كل أحلامه أن يتزوج من امرأة، امرأة ثقيلة الأرداف حتى لا تستطيع حملها، إذا أمسك بذراعها غاصت أصابعه في تجاويف وكهوف من البشرية الحية الطازجة، فإذا زوجته هذه العجفاء الهزيلة، وصبر نفسه وقال قد أستطيع على الأيام أن أسمنها؛ فأنا في تسمين العجول بارع مشهود لي في القرية جميعا. ولكن براعته في تسمين العجول لم تجد شيئا في تسمين الزوجة.
وعاش معها عشرين عاما تزيدها الأعوام هزالا وتزيده هو يأسا وضيقا بالزواج. وقد جعله ينصب نفسه مبشرا ضد الزواج؛ فلا حديث له إلا أن ينفر الشباب من الإقدام على نصف دينهم، وهو لا ينتهي عن ذكر الأيام الحالكة الظلمة التي قضاها في ظل زواج جاف من امرأة ليس فيها من صفات المرأة إلا أن اسمها في دفتر المواليد أنثى.
لم يحقق الزواج إذن من أحلام الشيخ عبد الرحيم شيئا، وإنه يريد ابنه أن يستمتع بحياته ويخشى عليه أن يلقى في الزواج ما لاقاه أبوه من أهوال تطالعه بها الحاجة عزيزة التي ازدادت على الأيام عظاما وازداد وجهها غضونا، وازداد زوجها منها نفورا ولها كرها.
صفحه نامشخص