ومعروف في دراستي «التراث والتجديد» أنني لا استعمل ضمير المتكلم المفرد «أنا» أو «الجمع»؛ فالعلم موضوع وليس ذاتيا. أما الذكريات فإنها تجمع بين الذات والموضوع من خلال الذات؛ ومن ثم لا ضير في استعمال ضمير «الأنا المتكلم»؛ فالتجربة ذاتية، وهو مصدر الذكريات الذي يجمع بين الذات والموضوع في علاقة متبادلة بينهما. إذا رأى الكاتب سكنه القديم هاجت فيه الذكريات، وإذا تذكر شيئا أكمله بالخيال الذي هو الوجه الآخر للذكريات.
وقد تتكرر بعض الإحالات، ولكن لكل سياقها ومدى عمومها أو تفصيلها؛ فالذاكرة لا تعرف التنظيم والتنسيق والرسم الهندسي؛ فالكتابة هي استدعاء تلقائي طبقا لمدى عمقها واتساع حضورها في اللاشعور. والحكم بالتكرار هو عدم تميز كاف بين التقرير الصحفي والسيرة الذاتية، بين الوصف والتقرير والإبداع الذاتي.
إن هذه الملاحظات المنهجية لم تأت استنباطا من منهج معد سلفا، بل هي نتاج استقراء كل إشكال صادفني في كتابة الذكريات، وحاولت التعبير عنها تجريبيا، ثم رصدتها نظريا كتمهيد منهجي، أسوة بباقي أجزاء «التراث والتجديد»، وأنا أول من ينقدها، كما تم أيضا من قبل في «محاولة للنقد الذاتي». ومع ذلك أتمنى أن تصل هذه الملاحظات إلى حد «خطوات في المنهج» بعد وضعه موضع النقاش مع من ما يزال يجد فائدة في النقاش الفلسفي.
الفصل الأول
الطفولة: الكتاب، المدارس
الأولية والابتدائية والثانوية (1935-1952م)
أنا من مواليد 1935م حي باب الشعرية الذي به جامع الشعراني الذي كان يؤذن فيه محمد عبد الوهاب. ومن شارع الجيش الشارع الرئيسي في باب الشعرية الذي يربط بين العتبة والعباسية، يتفرع منه شارع البنهاوي الذي به جامع البنهاوي الذي يصل إلى باب الفتوح ثم باب النصر. وتتفرع من وسطه تقريبا حارة درب الشرفا ثم عطفة العبساوي والمنزل رقم 4 الدور الأول فوق مخازن السحار للبقالة. عنوان طويل مقارنة بالعناوين الطبقية الأخرى، رقم المنزل واسم الشارع ثم اسم الحي كما حدث بعد ذلك في 167 شارع الحجاز، مصر الجديدة. وكنت أستحي من هذه العناوين الطويلة التي بها الدروب والعطفات. وكنت أذهب إليه بين الحين والآخر؛ أذهب لرؤية البيت الذي ولدت فيه، والشقة التي قضيت فيها طفولتي وصباي قبل سفري إلى فرنسا. وما زلت أحلم بها وبسطوحها الخاص وجملوناته الخشبية التي كانت سقف مخازن السحار للبقالة. وكنت أنزع قعدتها الخشبية السوداء لعمل «عوامة» التي يسير بها الأطفال. رجل فوقها، ورجل أخرى على الأرض ترفعها بعد تركيب عجلتين صغيرتين، أمامية وخلفية، ومتصلة بين العمود الرأسي والقاعدة الأفقية، تربطهما مفصلة - على أحسن تقدير - للانحراف بها يمينا ويسارا مثل دريكسيون العربة.
وكان أول وعي بالناس بعد الأقارب هم الجيران؛ ففي مدخل المنزل هناك غرفة واحدة في الحوش، وهي التي تحولت في المنازل الحديثة إلى حجرة البواب، كانت تسكنها نساء فقط؛ فهيمة الأم والتي كانت تلبس السواد طول الوقت لتكشف عن ذراعيها وساقيها البيضاء، وصالحة الابنة الطويلة الفارهة، والتي كنت أشعر نحوها بشيء ما لا أعرفه. ولما ضاقت الحجرة، سكنوا تحت بير السلم المظلم الذي تسكنه العفاريت؛ فقد كان به الحوض ودورة المياه. وكانت صالحة تعمل وتعول الأسرة. وينظر إلينا على أننا من الأغنياء لأننا نسكن بالدور الأول ونذهب إلى المدارس والجامعات. كانت أرض الحوش من الطين؛ فلم يكن السيراميك قد عرف بعد، وإن وجد فمن يقدر على شرائه؟ وكان في مدخل شقتنا على يمين الحمام البلدي والمطبخ. وفي الواجهة غرفة داخلية مظلمة لا تطل على شيء إلا سطح المخزن على مستوى أدنى والذي كان يستخدم ملعبا «للعوامة». وعلى اليمين غرفة لأخي سيد وأنا الصبيان في المنزل. وعلى اليسار غرفة لأخواتي البنات الخمس: نبيهة، سعاد، فاطمة، علية، نادية، وكلهن من خريجات مدارس المعلمات التي كانت في ذلك الوقت أنسب تعليم للإناث وأسهل وظيفة لهن مدرسات. وعلية الوحيدة التي تفوقت في دراستها، وأخذت الثانوية العامة من المنازل، ثم ليسانس الآداب من قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ثم الماجستير والدكتوراه حتى أصبحت رئيسة القسم، وسافرت إلى اليونان، وتزوجت وهي طالبة صديقا لي طبيبا، د. عبد المحسن حسين عبد الله. أما نادية الصغيرة فقد تخرجت من مدرسة التجارة، وأصبحت موظفة في بنك حيث تعرف عليها زميلها محمد وتزوجها، وأصبحت ربة منزل. وهي التي قمت بتكاليف الإعداد لزواجها بعد أن قام أخي سيد بتكاليف إعداد أخواتي الثلاث الأخريات نظرا لغيابي في فرنسا، وحجج الوالدين مرتين. وكانت أكبر الغرف تطل على العطفة، وتحتها مخازن السحار. أما الوالدان، فكان الوالد في غرفة الأولاد والوالدة في غرفة البنات. أما الصالة الوسطى فكانت غرفة المعيشة والاستقبال، وبجوارها شقة الجزار والكبابجي، وفوقها غرفة الفران عم توحيد وابنه صلاح، وبجواره اللبان الذي كان أبناؤه في الدراسة، وكنت أعطيهم دروسا في الثانوية العامة اتقاء لشرهم. وأما جارتنا نعيمة فكانت جميلة بيضاء وطويلة، وزوجها يعمل في «الأورنس»؛ أي الجيش الإنجليزي، كما يصور نجيب محفوظ في «زقاق المدق».
كان الوالد موسيقيا بالجيش بفرقة البيادة المصرية، يلعب الترمبون، يرفض اللعب في الأفراح لأنه كان يعتبر ذلك إهانة له وللفن وللجيش، يشارك كضيف نعم، أما كلاعب فلا، باستثناء حفل التخرج السنوي لمدرسة الجزويت بالفجالة التي كان يقدرها؛ ربما لحضورها الأجنبي أو للغتها الفرنسية أو للعشاء الفاخر الذي كان يقدم للموسيقيين، وكان يأخذني لأتفرج على عالم جديد غير عالم المدارس الحكومية الفقيرة والتي يحرم كل شيء فيها. وقد كان هو أستاذ الموسيقار الشهير لفرقة رضا، علي إسماعيل، ولما رأى فيه النبوغ نصحه باللجوء إلى المعهد العالي للموسيقى الذي كان يشترط الحصول على التوجيهية؛ أي شهادة الثانوية العامة، فقمت بالتدريس له، نظام الثلاث سنوات في سنة واحدة. كنت أذهب إليه في حي الدقي. ولما نجح أصبح أشهر لاعب كلارينيت في مصر. ظهر في أغنية «عاشق الروح» الأخيرة في فيلم «غزل البنات». ولما أنشئت فرقة رضا للفنون الشعبية أصبح ملحن أغانيها الراقصة الشعبية، وقائد فرقتها. وكنت أذهب إليه أحيانا في مسرح البالون أنا وصديقي محمد وهبي عبد العزيز، فيدخلنا مجانا، وكان أخوه رجب مجرد عازف للأبوا في الفرقة، وكان كلاهما يحبان الجنس الآخر؛ رجب لابنة عمه، وعلي للفنانات شأن معظم الفنانين في ذلك الوقت.
وكانت ستي يامنة وخالتي أم عبد الله تحضران من بني سويف إلى القاهرة لحضور حادث الولادة. وكانت ستي من قبيلة بني مر في أسيوط، جنوب بني سويف، ثم نزحت إلى الشمال، وهي القبيلة التي منها الزعيم عبد الناصر. وكان جدي قد نزح من الأندلس إلى المغرب ثم انتقل شرقا واستقر في بني سويف عائدا من الحج، وأصبح تاجر دقيق بجوار محطة القطار، وما زلت أذكر شعره الأشقر ووجهه الأحمر. وأراد أن يزوج أبي قبل الذهاب إلى التجنيد، فأخذ بيده إلى منزل ستي بجوار مدرسة زعزوع خلف المركز، وطلب من ستي يد ابنتها، وكانت نائمة، فرفعت الغطاء من على وجهها ثم سأل جدي أبي إذا كانت تعجبه فأجاب بالإيجاب. واستيقظت والدتي فوجدت نفسها قد تزوجت وهي نائمة؛ فالاختيار ليس لها. ثم نزحا معا إلى القاهرة، حي السيدة زينب، بجوار مدرسة السنية، ثم بعد ذلك انتقلا إلى باب الشعرية حيث ولدنا أنا وأخي وجميع أخواتي. وما زلنا جميعا نحن إلى هذا الحي الذي أصبح رمزا للأصالة كلما أحسست أنني انتقلت من طبقة لأخرى، وكلما أحسست أنني اغتربت عن أصالتي وعن سلوكي الشعبي.
صفحه نامشخص