هذا أحد مصادر الغيرة والحسد والحقد من هذا الشاب الآتي حديثا من فرنسا وله أعمال علمية يرقى بها في لجان الترقية وبسرعة وعكس ما تطالب به أجهزة الأمن بإيقاف ترقيتي.
ولم يكن الانفعال فقط تجاه زملائي في القسم، بل أيضا خارج القسم وفي نطاق الكلية؛ فالنماذج مكررة داخل القسم وخارجه. وفي مرة دعوت أستاذا كبيرا ووزيرا سابقا للأوقاف لإلقاء محاضرة عن «منهج الفلسفات المقارنة» ومثال ذلك المقارنة بين شك الغزالي وشك ديكارت الذي كان موضوعا لرسالته في ألمانيا منذ عدة عقود. وعقدت المحاضرة في مدرج كبير بالكلية، وبينما كان المحاضر على وشك الانتهاء، فتح علينا أستاذ الباب وكلمه - وأنا رئيس الجلسة - بأن موعد المحاضرة قد انتهى وأنه سيشغل المدرج مع طلبته الآن؛ فأحرج المحاضر لهذا الطرد من المدرج، وكان يمكن لهذا الأستاذ الذي لا يعرف الطرق اللائقة في التعامل مع الزملاء أن يهمس لرئيس الجلسة - وهو أنا - في أذني بالموضوع، وكان يمكن أيضا أن يكتب ورقة يعطيها لي يخبرني فيها أن الموعد قد فات، فقمنا نحن الاثنان؛ المحاضر وأنا، ونحن نشعر بالخجل من عدم الاحترام. وبعد أن خرجنا من المدرج دون أن ينهي المحاضر محاضرته بعبارة أخيرة جاءنا هذا الأستاذ، وله لحية، لكي يعتذر لنا عما فعل، فلم نقبل اعتذاره. وربما أعطته هذه اللحية الحق في التكلم وكأنه صاحب سلطة على الناس.
ولاحظت عدة مرات عندما أدعى لمناقشة رسالة في أحد أقسام الفلسفة بكليات الآداب بعد أن يجلس أعضاء اللجنة الثلاثية وأنا في وسطها باعتباري أقدم الأساتذة، لاحظت أن رئيس القسم يأتي ويجلس بجانب أحد الأعضاء، ويأخذ مكبر الصوت، ويتكلم بدعوى أنه يقدمني ويقدم أعضاء لجنة المناقشة للجمهور، ثم يعود مرة ثانية بعد انتهاء المناقشة وإعلان النتيجة ليلقي الكلمة الختامية بدعوى شكر أعضاء اللجنة ورئيسها؛ وعلى هذا النحو يكون هو الرئيس الذي يتكلم قبل رئيس اللجنة الفعلي، فهو الرئيس على الرئيس. وتكرر ذلك في جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس وجامعة بني سويف، ولما أدركت أن هذا ضد الأعراف الجامعية. فليس من حق رئيس القسم أن يتكلم واللجنة منعقدة ولها رئيس يستطيع أن يقدم أعضاء اللجنة للجمهور، وبدأت أغضب، وفي المرة الرابعة في جامعة بني سويف بدأ رئيس القسم يعتلي المنصة لكي يتكلم، فطلبت منه أن يعود إلى مكانه في القاعة، وعاود ذلك في نهاية المناقشة؛ فطلبت منه للمرة الثانية أن يعود لمكانه في القاعة، وعرفت أن الرئاسة ما زالت قيمة حتى لو كانت على رئيس، وأحيانا أخرى في تنظيم لجنة المناقشة على المنصة يضعون صديق رئيس القسم أو العميد في الوسط وأنا في الطرف، ويكون رئيسا للجنة وهو أصغر مني، إن لم يكن أحد تلاميذي! فغضبت، وهددت بمغادرة اللجنة إن لم يعد النظام العرفي؛ رئيس اللجنة في الوسط، وهو أقدم الأساتذة، وعلى يمينه ويساره العضوان الآخران. وعرفت أن التقاليد الجامعية لا مكان لها داخل الجامعة، وأن قيم الصداقة أو الرغبة في الظهور هي التي تسود.
ثم تتحول الغيرة والحقد والحسد إلى كراهية، والكراهية إلى عدوان، ويمتد هذا الانفعال الجديد إلى بعض أساتذة القسم المساعدين، كراهية لصاحب رؤية جديدة للعلم، سواء كان في الفلسفة الإسلامية أو في الفلسفة الغربية.
ولما كنا نضع أسماء الأساتذة المتفرغين في قائمة المشاركين في الامتحانات لنيل مكافأة بسيطة، كانوا يرفضون استلامها؛ فنضعها في صندوق القسم للصرف على المناسبات الخاصة المختلفة كالأفراح والأحزان. وظهرت الغيرة لحد العدوان عندما ذهب أحد الأساتذة إلى صراف الكلية واستلم مكافأة أحد الأساتذة المتفرغين بعد أن ترك جزءا منها للصراف كي يوافق على تسليمه هذه المكافأة وهو غير مخول لذلك، لا كسكرتير للقسم، ولا رئيس له، وأبلغه بأن يكتب اسمي في قائمة المصححين للامتحانات وأني أخذت مكافأة التصحيح لنفسي، فلما علمت ذهبت إلى الأستاذ المتفرغ وشرحت له الأمر فاستعجب من هذه الكراهية التي يشعر بها زميل تجاه زميل آخر.
وتمثلت الكراهية في أنه كان يشرف على أكبر عدد من الرسائل في الجامعات الإقليمية، ويوافق عليها في أسرع وقت بشرط أن يستخدم المدرس الجديد مؤلفات الأستاذ ككتب مقررة، وانتشر هذا المستوى من الرسائل في معظم الجامعات الإقليمية شمالا وجنوبا. وكان يقبل أي انتداب لجامعة للتدريس بها لأنه سيقوم بتوزيع كتبه، وكان يفخر بأن كتبه لها الآن أكثر من عشر طبعات ليوحي للناس بأن بها علما للقراءة والاطلاع وليس للامتحان والنجاح.
وانفعال آخر كان يغمرني عندما كنت أشعر بأن المصلحة هي الدافع الرئيسي لأي أستاذ بأن يفعل شيئا يدر عليه مصلحة خاصة، وشعرت بأهمية كتاب هبرماس «المعرفة والمصلحة». كانت المصلحة هي الموجه العام للسلوك مع التضحية بقيمة العلم ورسالة العلماء، وقد يصل حد المصلحة إلى السرقات العلمية حين الترقية. وحين ضبط المخالف يقدم للمحاكمة وتوجه التهم له، ويمنع من التقدم للترقية قبل عامين عقابا له. وهذا النوع من الأساتذة تكثر اتصالاته وإصداراته، وهي جميعا تعتبر إعادة طبع لمقالات سابقة وليست مؤلفات جديدة.
ولما كانت الغيرة والحسد والكراهية والعدوان يتوالد بعضها من البعض الآخر، ولم يكن للجماعة العلمية أي هدف جماعي يذكر، لا مشروع بحث، ولا المساهمة في أي مشروع في الكلية أو خارجها مثل عندنا في الجمعية الفلسفية المصرية أو في اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية بالقاهرة أو المجمع الفلسفي العربي في بغداد، ولا سمعة لهم ولا أثر، وكانت شهرتي قد امتدت خارج مصر إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي؛ بدأت هذه الانفعالات الأربعة تكشر عن أنيابها. وكنت قد انتخبت أمينا للجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، ووضعت مشروعا لدراسة الفلسفة في مصر من خلال أقسام الفلسفة بالجامعات المصرية ومشاريع للبحث العلمي يجمع أساتذة الفلسفة للقيام بعمل مشترك مثل الجمعية الفلسفية المصرية، ولما كان كل شيء في مصر يمر عن طريق الاتصالات والعلاقات (التربيطات) وجدت نفسي وقد أزحت عن أمانة لجنة الفلسفة وتعيين آخر أصغر سنا أمينا جديدا، فاستغربت. وكان أمين المجلس في ذلك الوقت هو من أعتبره أحد تلاميذي. ولما لم يحضر الأمين الجديد لرئاسة اللجنة واعتذار لمرضه، فعين آخر أصغر منه أمينا بالنيابة، وكان عضوا بلجنة الفلسفة، ولم يستطع التقدم لانتخاب أمين للجنة، وتنازل عن ترشيح نفسه احتراما لي، ولأنه كان يرى أنني الأجدر. ولما أصبحت له السلطة في رئاسة المجلس أزاحني وعين أحد أصدقائه أمينا للجنة. وانتخبت أنا أمينا للجنة بالإجماع، وتم تعيينه هو أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة الذي تندرج تحته جميع اللجان، وتساءلت لم الحزن ورئيس الجامعة بالتعيين، وعميد الكلية بانتخاب ثلاثة، معين أحدهما، انتخاب في الظاهر وتعيين في الباطن؟ ولم أحزن وكان يتم تجديد دورات متتالية لحكم الرئيس بانتخابات مزورة؟ كما يتم انتخاب أعضاء مجالس الشعب والشورى في الظاهر ويكون التعيين في الباطن نظرا لغياب المنافسة. فانقطعت عن حضور اجتماعات لجنة الفلسفة ونشاط المجلس الأعلى للثقافة على العموم، ثم تم تعيين صحفي خريج قسم فلسفة في الأربعينيات من عمره شغلته الصحافة عن الفلسفة، وأصبح كاتب عامود صحفي في إحدى الجرائد اليومية أو كتاب وثائق خلفاء الرئيس الأول لجمهورية مصر العربية، فحزنت وأعضاء اللجنة من الأساتذة الكبار. وفي إحدى الجلسات سأل يوما هل تعرفون أحد الفلاسفة؟ ونحن قد أشرفنا على عدة رسائل علمية حول هذا الفيلسوف تحديدا فكيف لا نعرفه؟ يسألنا وكأننا تلاميذ. وكان يفتخر بأن التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد قد تم بقلمه هذا وأخرج القلم يرينا إياه، سكت أفرغ ما في جوفي اشمئزازا. ودعانا ذات يوم إلى الغداء في مطعم بإحدى البواخر النيلية الراسية على شاطئ النيل رشوة كي نقبل رئاسته للجنة. ومن يومها غادرت اللجنة وقاطعتها ولم أنضم إليها مرة أخرى وحتى الآن، ولم تدم رئاسته طويلا؛ لقضاء نحبه، وقبل أن تناقش اللجنة كتابي «فيشته، فيلسوف المقاومة». وكان من مطبوعات المجلس، حيث قذف به أحد الأعضاء أرضا بعد أن وزع مجانا على الأعضاء جميعا، استخفافا بالكتاب، وإهانة لمؤلفه. وإلى الآن وأنا أتساءل: «لماذا لم يرشح قسم الفلسفة أحد أعضائه لنيل إحدى الجوائز التشجيعية أو التقديرية، في حين رشحتني هيئات علمية أخرى وأقسام أخرى بالكلية لنيل جائزة الدولة التقديرية ثم جائزة النيل الكبرى والتي نال مثلها نجيب محفوظ وآخرون؟» وعندما رشح القسم أحد الأساتذة الكبار في السن لم يأخذ إلا صوتين من مجلس الكلية، وعندما رشح القسم أستاذا آخر أخذ صوتا واحدا من مجلس الكلية. لم يهتم القسم إلا بإعطاء الأساتذة أكبر قدر من ساعات المحاضرات لتوزيع كتبهم المقررة من خلال عمال القسم (فراشين) أو الاهتمام بالإعارات لدول الخليج؛ فانقسم القسم إلى «شلل» وجماعات مصالح متضاربة. ولتنشيط القسم من جديد دعوت بعض الأساتذة الزائرين يقيم شهرا ويعطي محاضرات بالجامعة لكل منهم مثل: أنور عبد الملك والذي ذاع صيته في العلوم الاجتماعية، ورشدي راشد الذي أصبح العالم الأول في تاريخ الرياضيات العربية. لم يحضر كثير من الأساتذة أو طلاب الدراسات العليا لسماع المحاضرات. كما دعوت حسام الدين الألوسي أستاذ الفلسفة بالعراق ليعطينا تصوره عن تاريخ الفلسفة ولم يحضر الكثير أيضا. وفي محاضرة لرشدي راشد في المجلس الأعلى للثقافة عندما كنت مقررا للجنة الفلسفة فأعطانا درسا مهما عن لغة الرياضيات وأعطى نموذجا لتحويل العبارة الفلسفية للطوسي إلى معادلة رياضية فغضب مقرر اللجنة التالي وغادر القاعة ظانا أن المحاضر أعطى علمه لنفسه؛ لأن المحاضرين لم يفهموا شيئا. وعندما حضر أحد الفلاسفة اليونان ورئيس جامعة أثينا والموسيقي الشهير إلى مصر عن طريق تلميذته التي أصبحت زميلة لنا بالقسم، وأعطى محاضرة للمجلس الأعلى للثقافة، كان من عادة رئيس القسم أو أحد الأساتذة الأكبر سنا دعوة المحاضر الزائر للعشاء في بيته، هذا ما رأيته في الولايات المتحدة الأمريكية. فأعددت وجبة عشاء له ولزوجته ودعوت الأساتذة ليتحدثوا ويتناقشوا في مسائل فلسفية عامة أو في الفلسفة اليونانية خاصة. ولم يحضر أحد من زملائي في القسم، ولم تحضر إلا تلميذته المصرية والزميلة في القسم ومعها طبق من الحلوى الشرقية، فحزنت على مدى تفكك القسم بحيث أصبح لا رابط علميا بين الأساتذة والأساتذة الزائرين. وعندما طلب الأستاذ اليوناني رئيس جامعة أثينا والفيلسوف أن يتناول وجبة عشاء شعبية مصرية؛ أخذته هو وزوجته إلى مطعم «أبو طارق» للكشري في شارع مشهور بالقرب من ميدان التحرير، وتحادثنا نحن الثلاثة عن العلاقات المصرية-اليونانية وعن الحي المصري في أثينا والحي اليوناني في الإسكندرية ودور اليونان في السينما المصرية.
ولا حرج أن يتعامل بالعلم ظاهرا وبالمصلحة دافعا، ويحول المصلحة العامة إلى مصلحة خاصة؛ فالمصلحة هي البداية والدافع والنهاية. وترتبط بالمصلحة الوصولية أو الانتهازية فيتصل المعيد بالأستاذ ويظل معه صديقا مخلصا وتلميذا راغبا في العلم حتى ينال الدرجتين العلميتين بعد التخرج ثم ينتهي الأمر، ويسير في طريقه الخاص إما بحثا عن انتداب في الداخل ليزيد دخله، أو يوزع كتابه المقرر، أو إعارة إلى الخارج، خاصة لجامعات الخليج؛ لينال قسطا أوفر من المال ليكون ما يساعده على الزواج والاستقرار؛ من شبكة ومهر وجهاز وسكن وسيارة، فينتقل من طبقة اجتماعية إلى طبقة أعلى، ويهجر أستاذه وكأنه لا يعرفه، ويلتصق بدائرة أستاذ آخر أقدر على تحقيق المصلحة.
وقد تكون الوصولية إدارية لا علمية فهي أسرع لتحقيق المناصب، ويعتمد أستاذ آخر على التظاهر بالإخلاص إلى الأستاذ القديم الذي عمل معه علميا، ولكنه في الباطن يسعى وراء لقمة العيش. يأخذ أفكاره من الأستاذ، يضعها في بالونة بلون أستاذ آخر، وبدلا من أن يحفر البئر بنفسه ليصل للماء، فإنه يشرب من بئر غيرها، ينقد أستاذه من وراء ظهره، يبلغ الناس بأن أستاذه يمنعه من العلم والانتشار خوفا منه؛ فالتلميذ قد أصبح أعلم وأقدر وأكثر شهرة من الأستاذ، فيتحول إلى منافق لأستاذه ثم يطعنه في الظهر ظانا أنه يزحزحه من مكانه ليجلس هو عليه.
صفحه نامشخص