وحضر طالب عندي، يدرس بقسم الدراسات العليا، ليساعدني في أعمال الطباعة، فأخبرتهم جميعا بأن التدخين في المكتبة ممنوع حتى لا يقع مكروه يؤدي إلى احتراق الكتب وأوراقي الكثيرة هناك. ومع ذلك كان لا يستجيب ويدخن ويقرأ ما يجده من كتب ولا يقدم إنتاجا مقابل ذلك.
تعبت كثيرا مع مثل هؤلاء المساعدين غير الملتزمين، وكنت أخشى أن أعطي مخطوطاتي لمكاتب الطباعة خارج مكتبي بالمنزل حتى لا تضيع لأي سبب من الأسباب.
ثم وفقت لوجود شاب، كان يعمل عندي فترات بعد الظهر، يطبع المخطوط على الحاسب الآلي. كان مثالا على الأمانة والكفاءة. ونظرا لارتباطه بأسرته، زوجته وأبنائه، بدأ يقلل أيام حضوره من ستة أيام إلى خمسة، ومن خمسة إلى أربعة، ومن أربعة إلى ثلاثة، ومن ثلاثة إلى اثنين. فتراكم العمل ثم اعتذر عن الحضور كلية.
ظللت عدة سنوات أطبع مؤلفاتي بمعاونة مساعدي الأول، والذي أكمل معي مدة أكثر من تسعة عشر عاما. أصبحنا صديقين أكثر من كوننا مؤلفا وموظفا. وبعد عدة سنوات عاد الأخير يطلب العمل معي من جديد بعد أن ازدادت عليه النفقات، وبعد انتقاله من مصر الجديدة في منزله الضيق إلى سكن أوسع في التجمع الخامس، فرحبت به من جديد خاصة وأنه يتمكن من قراءة ثم طباعة مخطوطي، ثم أصيب بالكورونا، وغاب عن العمل. وقد تماثل الآن للشفاء وعاد من جديد.
وفي المرحلة الأولى من تكوين الجمعية الفلسفية المصرية، كانت لي زميلة مساعدة من جامعة أخرى، أشرفت على رسالتها عن هيجل، وكانت تدير جميع الجوانب الإدارية والمالية للجمعية بمفردها دون مقر عندما كنا لا نزال نستخدم قسم الفلسفة بآداب القاهرة للالتقاء. ومقر الجمعية كان دولابا صغيرا في حجرة القسم، عليه لافتة «الجمعية الفلسفية المصرية»، به أوراق إشهار الجمعية، وفواتير الاشتراكات، وبعض المقالات استعدادا لنشرها في مجلة الجمعية. كانت مخلصة في عملها، ومتفانية فيه، وتحمل عني أعباء الإدارة.
ونشرنا الأعداد الخمسة الأولى لمجلة الجمعية. وفي يوم من الأيام وهي تجمع اشتراك أحد الأساتذة ضحك معها كما نفعل في مصر قائلا: «أنت تأخذين مالا كثيرا منا!» فحزنت بدلا من أن ترد على المزاح بمزحة أخرى، وجاءت لي، ورمت كل أوراق الجمعية، ومستحقات الجمعية في البريد، وغضبت غضبا شديدا، حاولت مرارا أن أشرح لها طبيعة «النكتة» المصرية، والمزاح البريء، وأن المقصود من مزحة الزميل ليس اتهامها بأي شيء. فقد كانت معروفة بالأمانة المطلقة، خاصة وأن قيمة اشتراك العضو في ذلك الوقت كانت خمسة جنيهات سنويا فقط، ولم يكن لدينا أي فائض من الأموال يستطيع أحد أن يستولي عليها. فقد كان كل ما في البريد أربعين جنيها فقط ولا غير. وكنا في حاجة إلى مال للاستمرار في إصدار مجلة الجمعية. حاولت إرضاءها بشتى الطرق نظرا لإخلاصها ووفائها وتفانيها للجمعية، وصعوبة العثور على بديل عنها أيضا. كانت تعمل مجانا تقديرا للفلسفة وللجمعية ولأستاذها. وكانت عابسة معظم الوقت، متشائمة من الدنيا ومن الحياة. حاولت مرة إدخال البهجة عليها، وهي امرأة وحيدة، سافر زوجها للعمل بالخليج ولجمع المال، تاركا إياها وابنتها تدبر أمورها بنفسها، وكان إخلاص الزوج لوظيفته في الخليج أكثر منه لزوجته وابنته في مصر، ومع ذلك لم ترجع للعمل في الجمعية. واستلم الوظيفة بعدها مهندس معماري لا صلة له بالفلسفة ولكنه كان راغبا في المساعدة. استلم الميزانية منها وأوراق الجمعية وإيصالاتها. وظل حلقة الاتصال بيني وبين الناشر والأعضاء بالمجلة. وكان يحضر الندوات الشهرية والمؤتمرات السنوية، يذهب إلى المطار لاصطحاب أعضاء الجمعية من الأساتذة الجزائريين إلى الفنادق أو إلى دار الضيافة بالجامعة. وبعد استقالته من أمانة الصندوق بسبب شرائنا مقرا للجمعية في مساكن هيئة التدريس خلف الجامعة، اختفى ولم يتصل ولم نره. وبعد مدة نشر كتابا عن دور العلم في عصر النهضة، وأعطاني نسخة من الكتاب، فعاتبته على ترك الجمعية، وطلبت منه العودة للعمل، ومساعدتنا في شئون الإدارة كما كان يفعل من قبل. فبدأ ينقد الجمعية، وقال إن شخصا واحدا يسيطر عليها، وهو كان يعنيني أنا بذلك. فطلبت منه أن يأتي، ويلقي محاضرة على الأعضاء، ويبين مهارته العلمية، ويحضر الجمعية العمومية، وقد ينتخب عضوا في مجلس إدارتها ثم رئيسا لها. فألقى المحاضرة، وكانت عادية بالنسبة لمستوى الأعضاء من أساتذة الفلسفة، وأقل من المتوسط في رأي المتخصصين في فلسفة العلم. بعدها غادر ولم يعد. ثم رأينا له مقالا في جريدة الأهرام، موقعا إياه باسمه وبأنه عضو في الجمعية الفلسفية المصرية لأنه يتشرف بنا ويريد أن يظهر بأنه عضو في الجمعيات العلمية المصرية. ومرة دعي إلى مؤتمر في الخليج من «مركز عزمي بشارة» العالم والمثقف الفلسطيني الذي هاجر من فلسطين، والذي رشح نفسه رئيسا لإسرائيل باعتباره مواطنا إسرائيليا له حق الترشح، ثم أخرجته إسرائيل وطردته؛ لأنه عضو بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتلك كانت مأساة عرب إسرائيل الذين يكونون خمس السكان. هم إسرائيليون جسدا، وفلسطينيون روحا. في الظاهر يتبعون لإسرائيل، وفي الباطن لفلسطين.
وجدنا أمين الصندوق السابق يجلس على مائدة الشرف مع مدير المركز والأعضاء وبعض المثقفين العرب على مائدة واحدة، ويستمع إلى كلام الآخرين، وينظر لمدير المركز ويبتسم وكأنه يقول: «أنا هنا، خذ بالك مني.» وكنت أجلس بالمائدة المجاورة، بعد أن دعاني رئيس المركز إلى الجلوس معه في مائدة الشرف، فرفضت لأنه من الأفضل أن أتعرف وأجلس بجوار المثقفين العرب الذين أراهم لأول مرة. كنت أريد أن أستمع لما عندهم، ويستمعون لما عندي. فعرفت أن هدف صديقنا المصري هو الرقي الاجتماعي والعلمي بالمنتديات الثقافية ليظهر أنه مثقف، ومؤلف، وليس فقط كمهندس معماري.
وبعد أن ضعف بصري وأنا في منتصف إنجاز كتابي الأخير «الفكر الوطني في العالم الثالث»، وعدم تمكني من القراءة، تعرفت على صديقة لابنتي، تسكن في منزل ابنتي التي سافرت لألمانيا لدراسة الدكتوراه. رأيتها لأول مرة وسمعت صوتها واتصلت بها فلم تستجب لندائي. وبعد مدة شاءت الظروف أن أراها ثانية، فعرضت عليها أن تساعدني في القراءة والكتابة لضعف نظري، وهي تسكن في نفس المنزل في الطابق الأول؛ فلن تضيع وقتا في المواصلات العامة. فرحبت. وبعد شهر تقريبا من العمل معي يبدو أنني رفعت صوتي عليها بغضب شديد، فقيل لي إنها غادرت دامعة العينين. اتصلت بها في اليوم التالي أعتذر لها عما بدر مني، ومع ذلك أخبرت زوجتي الحبيبة أنها لن تأتي مرة ثانية. طلبت من إدارة الجمعية الفلسفية أن تنشر إعلانا بحاجتي إلى مساعد أو مساعدة نظرا لضعف بصري؛ أتى أربعة، ثلاثة يؤدون العمل بلا أجر؛ لأنهم يكفيهم أنهم بجواري. وكان الوقت المتاح لديهم قليلا. وفضل موظف الجمعية الرابع خريج الأزهر أن يعمل عندي فترة من الصباح، وحتى الثانية ظهرا. اتفقنا أن يحضر. كان شاعرا أسمعني شعره، ثم اتصل في اليوم التالي بسكرتيرة الجمعية وأخبرها أنه موافق على المرتب وساعات العمل. وطلب أن تكون الإجازة الأسبوعية يومين، وهذا لا يناسبني، فماذا أفعل في اليومين؟ أحسست أنه تاجر لا يفكر كيف يكون العمل عند باحث ومفكر وفيلسوف وأستاذ، ولكنه يحسب كل شيء بحساب المكسب والخسارة.
وفي نفس الوقت اتصل مساعدي والمرافق لي بالجارة في محاولة لاسترجاعها، فوعدتني أنها ستأتي. انتظرت حتى فات وقت الصباح ولم تأت؛ فحزنت، حتى رآني ممرضي ومرافقي، طلب أن يترك له هذا الأمر. صعد إليها ليتحدث معها، وطلب منها كوبا من الشاي، وتحدثا؛ فأصبحت أكثر لينا، وعادت إلى العمل من جديد. وهي خريجة قسم علم النفس بآداب القاهرة، مثقفة، ضاحكة، وملتزمة بمواعيد العمل التزاما دقيقا. وفي أقل وقت كنا ننتج معا أكبر قدر من القراءة والكتابة. لديها هاتفها النقال الخاص وبه «الإنترنت» فإذا احتجنا إلى معلومة أو تاريخ أو قصيدة أو موضوع بحثنا عنه. ووفرت لي عناء البحث بين رفوف المكتبة، والبحث عما أريد. أرجو أن تكون الخاتمة، هي بالكتابة بخط اليد والمساعدين بالطباعة على الحاسب الآلي، حتى أنهي العمل على مؤلفاتي التي أقدمها للناس، إحساسا بالواجب، ومسئولية جيلي عما حدث للبلاد من انكماش وتقهقر.
وأول ناشر عرفته كان دار الكتب الجامعية بالإسكندرية التي نشرت لي «نماذج من الفلسفة المسيحية ». وكان قد قدمني لها على سامي النشار الأستاذ بقسم الفلسفة بآداب الإسكندرية بعد عودتي من فرنسا بعام واحد، وقبل أن أستلم عملي في قسم الفلسفة بآداب القاهرة، وطمعا في قبول التعيين بآداب الإسكندرية وأن أكون زميلا له، هو في تدريس الفلسفة الإسلامية، وأنا في تدريس الفلسفة المسيحية.
صفحه نامشخص