التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها، ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا، يعرفه العلماء، فعند ذلك، يكون قد صادف جهة المطلوب فتظهر حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة، التي ليست فطرية، لا تصاد إلا بشبكة العلوم الحاصلة. بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين، يأتلفان، ويزدوجان، على وجه مخصوص، فيحصل، من ازدواجهما، علم ثالث على مثال حصول النتاج، من ازدواج الفحل والأنثى، ثم كما أن من أراد أن يستنتج فرسا، لم يمكنه ذلك من حمار وبعير، بل من أصل مخصوص، من الخيل، الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص، فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان، وبينهما طريق مخصوص في الازدواج، يحصل من ازدواجهما، العلم المطلوب فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج، هو المانع من العلم ومثاله: ما ذكرناه، من الجهل بالجهة، التي الصورة فيها بل مثاله:أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلا بالمرآة، فإنه إذا رفع المرآة قبالة وجهه، لم يكن حاذى بها جهة القفا، فلا يظهر فيها القفا، وإن رفعها وراء القفا وحاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينيه، فلا يرى المرآة، ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى، ينصبها وراء القفا، وهذه المرآة، في مقابلتها، بحيث يراها، ويراعي مناسبة بين وضع المرآتين، حتى تنطبع صورة القفا، في المرآة المحاذية للقفا، ثم تنطبع صورة هذه المرآة، مع ما فيها من صورة القفا، في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين، ثم تدرك العين صورة القفا. فكذلك في اصطياد العلوم، وطلب إدراك الأشياء، طرق عجيبة، فيها انحرافات عن المطلوب أعجب مما ذكرناه في المرآة، فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب، من معرفة الحقائق، وإلا فكل قلب، فهو بالفطرة الإلهية، صالح لإدراك الحقائق، وكما أن الشيء، يكون حاضرا بين يدي الإنسان، وإذا لم يحرك حدقته، من جانب إلى جانب، تحريكات كثيرة لم ير ذلك الشيء، فكذلك العقل وكما أن العين الباصرة ، لا يمكنها إدراك العقل لا يقدر على إدراك الحقائق، دون خطأ، إلا إذا طلعت عليه أنوار التوفيق والهداية من الله تعالى.
فصل العلم والعلماء
اعلموا: أن الإنسان، من حيث حصوله، في الحيز والمكان، فجسم كسائر الأجسام، ومن حيث يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث يحس، ويتحرك بالاختيار، فحيوان ومن حيث صورته وقامته، فكالصورة المنقوشة على الحائط. وكما أن الفرس، يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة، فيكون الفرس مخلوقا لأجل تلك الخاصية. فإن تعطلت منه، نزل إلى مرتبة الحمار، فكذلك الإنسان، يشارك الجمادات والحيوانات في أمور، ويفارقها في أمور، هي خاصيته، وبها شرفه، فما حصل له الشرف بعظم شخصه، فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته، فإن الأسد أشجع منه، ولا لأكله، فإن الجمل أوسع منه بطنا، ولا لجماعه، فإن أخس العصافير أقوى منه جماعا، وإنما شرف الإنسان وخاصيته التي يتميز بها عن جميع الموجودات، هي العلم،و بها كماله. إذا كمال كل شيء، إنما يكون بظهور خاصيته التي امتاز بها عن غيره ونقصانه هو خفاء تلك الخاصية، فبقدر ظهور تلك الخاصية. يطلق عليه اسم الكامل، وبحسب سترها فيه، يخص باسم الناقص مثلا الخاصية، التي امتاز بها الفرس، وهي الحقيقة الفرسية، أن يكون شديد العدو، ومعتدل القوائم في الطول والقصر، مدركا لإشارة الراكب من: إرادة الكر، والفر، أو الهملجة، أو الحضر أو التقريب، فإذا ظهرت هذه الخاصية: قيل: فرس كامل. ثم الإعزاز والإهانة تابعان للكمال والنقصان. وخاصية الإنسان، هي معرفة حقائق الأشياء، على الوجه الذي هي عليه، بحيث يرتفع عن بصيرته حجاب الشك. ويتيقن حقائقها، مكتشفة له. وبكمال هذه الخاصية ونقصانها، يفضل بعض أفراد الإنسان بعضا، إلى أن يعد واحد بألف.
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى المجد، حتى عد ألف بواحد
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا
ولا شيء أقبح من الإنسان، مع ما فضله الله به، من القدرة، على تحصيل الكمال بالعلم، أن يهمل نفسه، ويعريها من هذه الفضيلة.
ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على الكمال
صفحه ۳