وإن كان حقا ودائما يعرفون الحق بالرجال. ولا يعرفون الرجال بالحق. وهذا غاية الجهل والخسران. فالمحتاج إلى الترياق إذا هربت نفسه منه، حيث علم أنه مستخرج من حية، جاهل. فيلزم تنبيهه. على أن نفرته، جهل محض. وهو سبب حرمانه من الفائدة، التي هي مطلوبة. فإن العالم، هو الذي يسهل عليه إدراك الفرق، بين الصدق والكذب، في الأقوال. وبين الحق والباطل، في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال. لا بأن يكون ملتبسا عليه الحق بالباطل والكذب بالصدق، والجميل بالقبيح. ويصير يتبع غيره، ويقلده فيما يعتقد وفيما يقول. فإن هذه ما هي إلا صفات الجهال. والمتبوعين من الناس، على قسمين: قسم عالم مسعد لنفسه، ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل، لا بالتقليد، ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل، لا بأن يقلدون. وقسم مهلك لنفسه، ومهلك لغيره، وهو الذي قلد آباءه وأجداده، فيما يعتقدون، ويستحسنون، وترك النظر بعقله، ودعا الناس لتقليده.
والأعمى لا يصلح أن يقود العميان. وإذا كان تقليد الرجال مذموما، غير مرضي في الاعتقادات، فتقليد الكتب، أولى وأحرى بالذم، وأن بهيمة تقاد، أفضل من مقلد ينقاد، وإن أقوال العلماء والمتدينين، متضادة، متخالفة في الأكثر، واختيار واحد منها، واتباعه بلا دليل، باطل لأنه ترجيح بلا مرجح، فيكون معارضا بمثله.
وكل إنسان، من حيث هو إنسان، فهو مستعد لإدراك الحقائق، على ما هي عليه، لأن القلب، الذي هو محل العلم، بالإضافة إلى حقائق الأشياء، كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات، تظهر فيها كلها على التعاقب. لكن المرآة، قد لا تنكشف فيها الصور، لأسباب، أحدها: نقصان صورتها، كجوهر الحديد، قبل أن يدور ويشكل ويصقل، والثاني لخبثه وصدئه، وإن كان تام الشكل والثالث لكونه غير مقابل للجهة، التي فيها الصورة، كما إذا كانت الصورة وراء المرآة. والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة، والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذي به الصورة وجهتها.
فكذلك القلب، مرآة مستعدة، لأن ينجلي فيها صور المعلومات كلها، وإنما خلت القلوب عن العلوم، التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة. أولها: نقصان في ذات القلب، كقلب الصبي، فإنه لا تنجلي له المعلومات لنقصانه، والثاني لكدرات الأشغال الدنياوية، والخبث الذي يتراكم على وجه القلب منها، فالإقبال على طلب كشف حقائق الأشياء والإعراض عن الأشياء الشاغلة القاطعة، هو الذي يجلو القلب، ويصفيه، والثالث: أن يكون معدولا به عن جهة الحقيقة المطلوبة والرابع الحجاب، فإن العقل المتجرد للفكر، في حقيقة من الحقائق، ربما لا تنكشف له، لكونه محجوبا باعتقاد، سبق إلى القلب، وقت الصبا، طريق التقليد، والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بين القلب، والوصول إلى الحق، ويمنع أن ينكشف في القلب، غير ما تلقاه بالتقليد، وهذا حجاب عظيم، حجب أكثر الخلق، عن الوصول إلى الحق لأنهم محجوبون باعتقادات تقليديه، وسخت في نفوسهم، وجمدت عليها قلوبهم والخامس؛ الجهل بالجهة التي يقع فيها العثور على المطلوب.
فإن الطالب لشيء، يمكنه أن يحصله، إلا بالتذكر للعلوم.
صفحه ۲