نعم: ولما دنا الإمام -عليه السلام- من هذا المعقل المذكور، وصل إليه قبائل بني شاور وبني حبش الأعرام، وأهل كحلان، وبني عشب، والرحبيين، وبني هنان وجنب، وأهل قارن، والأشمور، وسائر أهل تلك الجهات، ودخل كحلان مدخلا راع قلوب الأضداد، وأرعب أفئدة أهل العناد، وكان بيده هذا الحصن المذكور الحصن الكبير والصغير، والقدمة، وعزات بني عشب ومديخ، ومصنعة العسم، وسيد بن وهاس، والواسط، والقضاضني وغير هذه من الحصون المنيعات، وكانت دعوته والإمام شرف الدين صاحب الولاية على صنعاء وحصونها، فوقع بينهما حروب ووقائع وحوادث عظيمة، وكانت الدائرة غالبا [فيها] على أجناد الإمام شرف الدين مدة إقامة الإمام مجد الدين بالحصن المذكور، والمعقل المشهور، واستراب منه الإمام شرف الدين ريبة عظيمة، وارتاع روعة مقعدة ومقيمة، وطالت المرابطة والمصابرة قدر سنة وشهر منذ وصل الإمام إلى كحلان إلى أن نهض إلى الشرفين، وكان انتهاضه عقيب عيد الأضحى سلخ سنة ثلاثين، وتلقاه أهل الشرف بمحبة ومودة وحسن عقيدة وإجلال وإكرام وإنصاف وإعظام، وكان أهل الشاهل وناشر أحسنهم طاعة، وأميلهم إلى امتثال الأوامر المطاعة، وأقام هنالك أياما منيرة، وسار فيهم أحمد سيرة، ثم انتهض إلى بلاد الأهنوم وهجره مرة ثانية بعزيمة وهمة سامية، فأقام فيه أياما مباركة، وسيقت إليه واجبات تلك الجهات على أتم الإرادات وقصد بعد ذلك وطنه المحروس، ومشهد آبائه المأنوس، وقد أقام الحجة الكبرى ، ودعا إلى الفوز بنعيم الأخرى، وأوضح المناهج وسكن كل لاعج، وكان دخوله إلى المشهد الفللي دخولا أنارت فيه أنوار السعادة غاية الإنارة، وأفاض على العلماء والفضلاء والفقراء من نواله وجزيل إفضاله، وأقام حينئذ بين أسرته وآله، ولم يزل يتردد في جهاته الشامية، ويتفقد الحالات، ويقضي الحاجات، وينيل الوفاد والعفاة، وينصف المظلوم من ظالمه، ويحيي من الهدى كل معاهده ومعالمه، وانفتح بينه وبين الأشراف بني المنصور فتنة طويلة وحروب استمرت وقتا ومدة غير قليلة، فأعانه الله أحسن الإعانات، وأظهره عليهم، ونال منهم مالم ينل من قبله في وقت أبيه وجده عليه السلام، واشتدت وطأته على أكثر الأنام، ودخل تحت طاعته الخاص والعام، إلى سنة خمس وثلاثين وتسعمائة، واستقوت شوكة الإمام شرف الدين بالجهات اليمنية، ولم يزل ينضاف إلى بلاده وتحت بسطته الأول فالأول من بلاد الإمام مجد الدين، وكان السبب في ذلك أنه أطلق من أطلق من رهائن أهل اليمن تحرجا من الإثم، ولم يستجز تكبيلهم بالحديد، بعد أن شكوا ما نالهم بسبب ذلك من الألم الشديد، وحصلت بينه وبين صنوه [السيد] جمال الدين [المذكور] منافرة سببها إطلاق الرهائن؛ لأنه لم يشر عليه بإطلاق من أطلق منهم نظرا منه إلى ما يحصل من إطلاقهم من فساد الرعية، وبطلان طاعتهم بالكلية، ولما حصل الفساد، وكثرت في جهاته الخذلان له والعناد طلب من صنوه جمال الدين الجهاد فأبى إسعاف الإمام بالمراد، ومال إلى الزهادة والعبادة، وطرح جلباب الرئاسة والرفادة، [و] في خلال ذلك والإمام شرف الدين يطوي الجهات اليمنية بعزمات قاطعة قوية، ولما استولى على جميع اليمن، وسالمته صروف الزمن عبأ الجيوش الواسعة والعساكر النافعة على التقدم على الإمام مجد الدين ومن بصعدة من الأشراف الحمزيين، فافتتح صعدة يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر صفر سنة أربعين عنوة بجنود واسعة، وهرب من فيها من الأشراف إلى الجوف وإلى طرف المخلاف، البعض منهم، وكانت منه وقعة عظيمة في طرف المخلاف بينه وبين الأمير ناصر بن أحمد المسمى المعترض، ذهب فيها من القتلى من أصحاب الأمير ما يفوت الحصر، ونفر عنه الرعايا جميعا، لكنه أذاقهم النكال، وحساهم بكأس الوبال، وقد كان الإمام مجد الدين نهض بأولاده قاصدا [إلى] الحرجة، حين لم يجد طاقة لحرب الإمام شرف الدين، فوصل الحرجة واستمر -عليه السلام- هناك قائما بما يجب عليه، وسلم له أهل تلك الجهات الواجبات، مشتغلا بأنواع الطاعات والقربات، إلى أن مات -صلوات الله عليه وسلامه وكراماته وإكرامه-، وذلك في شهر القعدة سنة تسعمائة واثنين وأربعين، ومدة عمره سبعة وخمسون سنة [إلا شهرا]، منها مدة خلافته وهي أربع عشرة سنة، وقبره في الحرجة مشهور، وبنيت عليه قبة عظيمة، وجعل له أهل تلك البلاد نذورا واسعة، صار أولاده يقبضونها وتقوم بهم، وله من الولد: السيد المقام، الأفضل، جمال الدين شمس الدين بن الإمام، ولولده أولاد كثيرون مقيمون هنالك، وله شرح عجيب، فيه تقريب غريب في أصول الفقه على (الجوهرة) للفقيه شمس الدين أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، وقيل فيه -عليه السلام- في مدة حياته ديوان شعر هو الآن موجود، وأجاز قائليه بالجوائز السنية، وأولاهم من كرمه الجم السؤل والأمنية، ووردت المراثي فيه بعد وفاته من كل جهة، وهي موجودة أيضا منطوية على غاية [الفصاحة والبلاغة]، مشتملة على أنواع من العلوم مهمة، منها: (الرسالة البليغة) التي أرسل بها إلى الإمام شرف الدين يطلب منه المناظرة والمحاكمة، وهي مشهورة متداولة في الأيدي، لكن الإمام شرف الدين لم يسعف بالمناظرة، وأبى إلا تحكيم السيف والسنان، وعدم السلوك في غير هذا الميدان، ولنختم ذكر هذه النبذة من سيرته -عليه السلام- بالقصيدة الفريدة، التي وعدنا بالإتيان بها، المتضمنة للتعزية والتسلية وبليغ المسرة والتهنئة التي أنشأها السيد شرف الدين المذكور أولا، هو السيد الأفضل الحسن بن عبد الله بن قاسم القطابري -رحمه الله رحمة واسعة-، وهي هذه[القصيدة] :
الأمس يبكي وهذا اليوم قد ضحكا
وصار يضحك من بالأمس كان بكا
فاعجب لدهر يسر الناس آونة
وتارة للرزايا ينصب الشركا
يوما عزاء وتأبين على ملك
ثوى ويوما ترى من بعده ملكا
كذا الزمان وفي أفعاله عبر
والخير والشر في أيامه اشتركا
وهكذا الدهر ما زالت عجائبه
حينا تسر وحينا تشرق الحنكا
وإن أحسن حزن ما تعقبه
بشر وجلى من الأحزان ما نهكا
بالأمس غيب في بطن الثرى قمر
واليوم لاح هلال زين الفلكا
لئن فقدنا إماما كان عمدتنا
فقد وجدنا إماما للفقيد حكا
وإن مضى ناصر الدين الحنيف فقد
أعاضنا الله بالداعي وما تركا
جلت خلافة مجد الدين كربتنا
حتى كأن أباه اليوم ما هلكا
وأصبح الدين من بعد العبوس له
مبشرا ضاحكا لا يعتريه بكا
والشرك أصبح في ويل وفي حرب
لما رأى سيف مجد الدين فانتهكا
واستبشرت مكة عند القيام به
وطيبة طاب منها القلب إذ ملكا
لأنه صاحب العزم الذي وردت
به الملاحم والنهج الذي سلكا مهدي عيسى الذي جاءت به سير
ولم أكن في الذي بينت مؤتفكا
صفحه ۱۷۵