ذيل البسامة البسامة تأليف السيد العلامة داود بن الهادي بن أحمد المؤيدي [990-1035]
هذا الملحق في البسامة لمولانا السيد المقام الأعظم، والطود الأشم، العلامة العلم الاعلم، صارم الدين، واسطة عقد الفاطميين: داود بن الهادي بن أحمد المؤيدي -لله دره-.
أوله بعد قوله :
وليس يعلم ما يأتي الزمان به
سوى عليم قديم الذات مقتدر
لله درك من علامة علم
أزرى نظامك بالياقوت والدرر
ذكرت فيه ملوك الأرض قاطبة
من بعد وعظ له التأثير في الحجر
ثم اختتمتهم بالمصطفى ولنا
فيه اعتبار وتذكار لمعتبر
والصحب والآل طرا مع مناصبهم
أهل الشقاوة والعدوان والأشر
وقد أحطت بصيدالآل عن كمل
إحاطة الكم بالأسنى من الثمر
وإنني ذاكر من قد علمت به
من الأئمة إيقاضا لمدكر
وليس قصدي في فعلي مناظرة
هيهات ليس يقاس الدر بالمدر
لكنني أرتجي الغفران جائزة
من خالقي ودعاء من أولي النظر
دعا الإمام الذي شاعت فضائله
بين الخلائق من بدو ومن حضر
خليفة من بني الزهراء فاطمة
بحر العلوم سديد الرأي والنظر
نعته في أرض صنعاء ملائكة
حين الوفاة بمدح فيه مشتهر
كفى بذلك فخرا في الأنام له
بمثله ما روى الراوون في السير
وهو الذي شرع الداعي بحي هلا
إلى الطعام مع الآصال والبكر
صفحه ۱۵۹
[الإمام عز الدين بن الحسن]
صفحه ۱۶۰
هو: مولانا الإمام الهادي إلى الحق، أمير المؤمنين: عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن المؤيد بن جبريل -صلوات الله عليهم- كل بكرة وأصيل، نشأ منشأ آبائه الجحاجحة الكرام، وقفا منهاج أسلافه الأئمة الأعلام، ولم يزل -عليه السلام- مولعا بطلب العلم حتى فاز منه بالأبكار والعون، واطلع على سره المكنون، فأتى بما يشرح الصدور ويقر العيون، ابتدأ طلب العلم في وطنه الميمون، ثم قصد صعدة، فقرأ فيها على مشايخ عدة، وأحسنهم ذكاء وحدة، وأكثرهم في العلوم عدة :القاضي العلامة النحرير، بحر العلم الغزير، جمال الملة والدين، عين عيون الشيعة الأمجدين: علي بن موسى الدواري، أخذ عنه أكثر الفنون، وصنف فيها وما[قد] تم له من السنين عشرون، وله من المصنفات العجيبة الرائقة، والتأليفات الغريبة الفائقة، (شرح المعراج على المنهاج) في أصول الدين، وهو جزءان ضخمان، أكب على قراءته وتحصيله أعيان الزمان، وقصده لسماعه عدة من أهل العلم من نواحي جهران، وذمار، وخبان، واتصل بالصفرا وينبع، وتلك البلدان، وله (شرح على البحر الزخار في فقه الأئمةالأطهار)، سلك فيه أسلوبا عجيبا، وطريقا غريبا لو مد الله له في العمر لجاء هذا الشرح من أبلغ كتب الزيدية، لكنه -عليه السلام- توفي وقد بلغ فيه إلى بعض كتاب الحج، ومصنفه إلى هذا القدر قدر مجلدين ضخمين، وله مصنف فائق فيما يتعلق بالإمامة سماه: (العناية التامة بتحقيق مسائل الإمامة)، وله في علم الطريقة وفن أهل الحقيقة مختصر يسمى: (كنز الرشاد و[زاد المعاد]) وله مختصر أيضا في علم النجوم والحساب مفيد لذوي الألباب، ومنظومة فيه فائقة بليغة رائقة، وله في الفتاوي كتاب مجلد ضخم، معتمد عليه عند ذوي الألباب وأهل المعرفة بعلوم السنة والكتاب، وله في الرسائل المشتملة على جم المسائل كتاب فيه من العلوم المفيدة، والأنظار السديدة، ما لا يحيط بوصفه المقال، ولا يبلغ إلى تصوره كنه الخيال، وجمع من الكتب حول ألف كتاب، منها ما هو بخط يده المباركة قدر نيف وثلاثين مجلدا بخطه المنمنم يزري بالدر المنظم، وله ديوان شعر بليغ من نظمه عليه السلام، ويكفيك أن التعرض لحصر صفاته، وبديع محاسن سماته، يستغرق الأوقات، ويحتاج إلى زبر مجلدات.
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن كرمه الجم الذي يغطي على موجات اليم، أنه أسس صائحا يصيح بالناس إلى الطعام المعد في كل وقت للخاص والعام.
صفحه ۱۶۱
وله من الأولاد ستة ذكور أكبرهم سنا وقدرا وأرفعهم في الأنام ذكرا، الناصر لدين الله أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين، ثم السيد الأفضل طراز العترة الأهول: شرف الدين الحسين بن أمير المؤمنين، ثم السيد الأفضل العلامة، القدوة، المدرة الصمصامة: شمس الدين أحمد بن أمير المؤمنين، ثم السيد الأمجد، الأورع، الأعبد، الأزهد: صلاح الدين المهدي بن أمير المؤمنين، ثم السيد المقام ، العلامة، في الآل الكرام، صلاح الملة والإسلام: صلاح بن الإمام، ثم السيد الصدر فخر الدين عبد الله بن أمير المؤمنين، وكانت وفاته قدس الله روحه [ونور ضريحه] يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر رجب سنة تسعمائة، وقد ناهز في السن خمسا وخمسين سنة، منها مدة خلافته تسع عشرة سنة وعشرة أشهر إلا أياما، وكان له من الكرامة الباهرة، والمنقبة الظاهرة أنه نعي عليه السلام بصنعاء في صوامعها الوقت الذي مات فيه بهجرة فللة، وسمع النعي حي الإمامين [الإمام] الوشلي، والإمام شرف الدين، والسيد المرتضى [بن] قاسم وغيرهم، ولفظ الناعي:
رحم [الله] الإمام المؤتمن المحيي لما مات من الفرائض والسنن: أبا الحسن عزالدين بن الحسن، وبلغت هذه الكرامة كل أحد، وخطب بها على المنابر ونوه بها الأئمة الأكابر، هذا ما أردت اختصاره من سيرته عليه السلام، ومن أراد يستقصي سيرته -عليه السلام- نظر في (شرح الزحيف) [فيأخذه من هناك]. ولنعد إلى ذكر ولده الناصر لدين الله أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين عليهم صلوات رب العالمين.
صفحه ۱۶۲
[الإمام الحسن بن عز الدين ]
وسبطه الناصر الداعي الذي اجتمعت
فيه المحامد قبل الشيب والكبر
وكان في وقته ما كان من عجب
من العناد له فاعرفه واعتبر
من بعض أسرته اختاروا عداوته
وقوموا العلم المنصور في الأثر
وابن المظفر ناواه وخالفه
لكنه لم يفز بالخير والظفر
المراد بهذا:[هو] مولانا الناصر لدين الله أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين عز الدين بن الحسن عليه السلام، القائل فيه لسان الحال وناطق المقال:
أنت الإمام الذي من بعد والده
ألقت إليك مقاليد النهى البشر
صفحه ۱۶۳
[ما آثروك بها إذ قدموك لها
إلا لأنفسهم قد كانت الأثر] [كان -عليه السلام- مشهورا بالعزائم القاطعة، والبراهين الساطعة، والأنظار الثاقبة، والآراء الصائبة، والعلوم الزاخرة، والحلوم الباهرة، ولم يزل -عليه السلام- طالبا للعلوم حتى فاز منها بالمنطوق والمفهوم، بلغ رتبة الاجتهاد، وظفر منها بالمراد، وكان دعوته المباركة الميمونة، التي هي بأنواع الصلاح مقرونة، في كحلان تاج الدين تاسع وعشرين من شهر رجب الأصب من سنة تسعمائة، اليوم الثامن من وفاة حي والده -عليه السلام-، وبايعه علماء اليمن عامة مثل: الإمام الوشلي، والسيد مجد الدين المرتضى بن قاسم، والقاضي العلامة عز الدين محمد بن أحمد بن مرغم من صنعاء، وسائر علماء اليمن والشام، ما خلا عمه السيد صلاح الدين، وولده السيد جمال الدين علي بن صلاح، وسائر أخوته والقاضي أحمد بن محمد بن مظفر؛ لأمور كانت بينهم، شرحها يطول ويحتاج إلى أبواب وفصول، وكان سبب معاندة المذكورين أن دعا الإمام الوشلي عن رأيهم، وكاد أن يستظهر في اليمن على الإمام الحسن -عليه السلام- ثم أنه استظهر عليه، وعلى سائر من ناوأه، ودانت له البلاد وأطاعه العباد، وقمع الله بسيوف نقمته أرباب العناد، وله اليد الطولى في جميع العلوم، وله مصنف عظيم مفيد في علم أصول الفقه سماه: (القسطاس المقبول على معيار المعقول في علم الأصول)، وله مختصر أيضا على (الورقات) في أصول الفقه أيضا، وله رسائل وفتاوي قدر مجلد ضخم، واشتغل في مدته -عليه السلام -بالحروب، وفاته من تصنيف العلوم المطلوب، وكان -عليه السلام-آية باهرة في زمانه، وحكمة ظاهرة في أهل أوانه]، وقد تقدم شرح سيرته -عليه السلام- في شرح ابن الزحيف، فلا فائدة للتكرير لذلك، فيؤخذ من هناك، وله من الأولاد تسعة: محمد، وعز الدين، ومجد الدين، وداود، وأحمد، وأم هؤلاء الحرة المصونة: بدرة بنت القاضي محمد النحوي، [وكانت تسمى أم البنين]، وصلاح، ويحيى، وتاج الدين درج صغيرا، وأمهم الحرة المكرمة: مريم بنت المعافى، والمؤيد واسمه علي، وأمه الحرة المصونة: حورية بنت حسن بن حسين الشقري -رحمهم الله تعالى جميعا وأعاد من بركاتهم آمين- وكانت وفاته [رحمة الله و] نور الله ضريحه بعد فراغه من صلاة الفجر[إماما] يوم الأربعاء لعشر خلون من شعبان سنة تسعة وعشرين وتسعمائة.
صفحه ۱۶۵
[الكلام في أخبار الإمام مجد الدين بن الحسن ]
ثم الخليفة مجد الدين قائمنا
أجل داع دعا حقا من البشر
لكنه رفض الدنيا وزينتها
فقابلته صروف الدهر والقدر
هذا هو الإمام المشهور فضله وبركته بين الأنام، المعروف ورعه وزهده عند الخاص والعام، الذي أقر له بالسبق في جميع علوم الإسلام، المعروف بالشجاعة عند اقتناص الأسد الضرغام، السابق في مضمار الفصاحة والخطابة والبراعة [واليراعة] جميع علماء الإسلام، الداعي إلى الله أمير المؤمنين مجد الدين بن الناصر لدين الله [أمير المؤمنين] عليهما صلوات رب العالمين، القائل فيه لسان الحال وناطق المقال:
لجدي كان المجد ثم لوالدي
ولي فيه بعد القوم أشرف مقعد
ثلاثة أيام هم الدهر كله
وما هي إلا اليوم والأمس والغد
بل كما قال:
خمسة أبآء هم ما هم
أفضل من يشرب صوب الغمام
صفحه ۱۶۶
ما فيهم إلا فتى ابنه
إمام حق وأبوه إمام ولد -عليه السلام- [نهار السبت] لليلتين مضتا من شهر محرم سنة ست وثمانين وثمانمائة، بمشهد الهجرة الهادوية بوادي فللة، وقد تقدم ذكر أمه في آخر سيرة والده -عليه السلام-، نشأ في حجر الخلافة الطاهرة، وسلك في مسالك الرافضين للدنيا إلى الآخرة، واشتغل بالطلب حتى فاز بالعلوم الزاخرة، وأحرز معانيها الغامضة والظاهرة، بأنظار سديدة ثاقبة باهرة، حتى تردى بثياب الإمامة الفاخرة، وفاق وراق الأمم الأولة والآخرة، وكانت قراءته -عليه السلام- على مشايخ عدة، وأكثر قراءته على والده الناصر [لدين الله] -عليه السلام-، وعلى حي الفقيه العلامة وجيه الدين عبد القادر بن حسين الذماري، وكان حاله -عليه السلام- في مدة والده وبعد وفاة صنوه السيد العلامة صارم الدين كحال والده -عليه السلام- في مدة الإمام عز الدين في تولي أكثر أعماله، والتزيي بمحاسن خلاله، وكفايته له في جل الأمور، والنظر في أحوال الجمهور، ولم يزل متأهلا للطالبين، وقائما بأمور المسلمين، ملحوظا بعين الكمال من بين أعيان الصالحين والعترة الطاهرين، مرجوا للقيام بأمر الأنام، معروفا بالسداد في الإقدام والإحجام، مشهورا بالكرم الجم إذا شح الغمام، وكانت دعوته -عليه السلام- عقيب موت والده أعاد الله من بركاته، وذلك أنه كان وقت الوفاة بيسنم، ولما وصل دعا اليوم الثالث من وفاة والده وهو يوم الجمعة ثاني عشر شهر شعبان [الكريم] من سنة تسع وعشرين وتسعمائة، والسبب الباعث على تعجيل نشر الدعوة الميمونة، التي هي بأنواع الصلاح مقرونة، الحاوية لأبكار الخير وعونه، ما ظهر بعد وفاة والده من انضراب الأمور، وتغير حال الجمهور، وتغور كواكب الحق بعد الظهور؛ لأنها أظلمت الأرض لوفاة والده وذهابه، وكادت أن تميد لموته ومنتابه، وتغيرت الأحوال لأفوله وانجيابه، وكربت السماء أن تمور كما قال تعالى في كتابه.
صفحه ۱۶۸
فرأى من حوله من الأفاضل والأعيان أنه قد تحتم عليه القيام بأمر الديان، ووجوب تحمل أعباء الإمامة عليه دون أبناء الزمان، فتوكل على الله وفوض الأمر إليه، واعتمد في جميع أموره عليه، ودعا عن نية صادقة ولمراد الله موافقة، فانجبر بدعوته ما صدعت أيدي الخطوب، وطلعت شمس العدل بعد التناهي في الأفول والغروب، وهبت صبا من الأفراج وجنوب، وظهرت له كرامات دالة على فضله وعلامات من ذلك ما أخبر به الفقيه العلامة، القدوة الصمصامة بدر الدنيا والدين، عين عيون العلماء المجتهدين، نقطة بيكار الشيعة الأمجدين: محمد بن يحيى بن بهران البصري التميمي أنه وجد اسمه -عليه السلام- مكتوبا في هرورة عنب، وأظهر على ذلك من حضر عنده من أعيان زمانه وفضلاء وقته وأوانه، فاعلموا بهذه الكرامة كل أحد، وحملت الهرورة إلى كل بلد، وكان لهذه الكرامة محل عظيم، وموقع عند جميع الناس جسيم، وحصل بها في قلوب الناس القرار، والتطف بها أهل البوادي والأمصار، ولما انتهت الدعوة الميمونة الشارحة للصدور، والقاصمة من أعداء الله للظهور، القاضية عليهم بالويل والثبور، إلى علماء صعدة ونواحيها تلقوها بالقبول والإجابة وأظهروا سربال الانشراح وجلبابه، ودخلوا تحت النواهي والأوامر، [و] أخلصوا له المودة، وصفوا السرائر، واتصلت أيضا بصنعاء، ووصلت كتب سادتها وشيعتها بالإجابة كالسيد الأفضل، روض الحكمة المخضل، المرجوع إليه فيما أشكل من الأمور وأعضل، مجد الملة والدين المرتضى بن القاسم بن إبراهيم، والقاضي الأجل، الأفضل العلامة، العلم الأكمل، طود العلم الأطول، وطراز الشيعة الأهول: عز الدين محمد بن أحمد بن مرغم، وسائر سادات اليمن وشيعتهم خلا أتباع الإمام الوشلي، وشايعوه وبايعوه، واستقرت بعد ذلك القواعد، وسكن كل مضطرب ومائد، وقام الولد مقام الوالد. [شعرا] :
صفحه ۱۶۹
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة
وتغرس إلا في منابتها النخل وقيل في وفاة والده وقيامه: بليغات الأشعار، الجامعة بين التهاني والتعازي، وجمع في ذلك الوقت الفرح والترح، وكادت الأرض بعد ميدانها أن تختال وتميس من الفرح، وجمع الشعراء بين التهنئة وبليغ التسلية، فمن أحسن ما قيل في هذا المعنى: القصيدة الرائقة، ذات المعاني الفائقة، التي أنشأها حي السيد الأفضل الفصيح المقول شرف الدين الحسن بن عبد الله بن قاسم القطابري، جمع بين أكثر أبياتها، بين التهنئة والتعزية، وسأذكرها إن شاء الله في آخر الكلام، فإن بليغ القول يشفي الأوام، ويهيج الغرام، ولما تقلد القيام بأمر الإمامة، وكشف عنهم دياجير الظلمة، أرسل دعاته إلى جميع الجهات، فسلموا إليهم الواجبات على اختلاف الأجناس والصفات، في الجهات الخولانية والأقطار اليمنية، وواصله صاحب مكة المشرفة، وغيره من الملوك، وأرسل ولاته إلى ينبع والصفراء، وما يليها من الجهات والقرى، فجاءوا بمصالح تترى، وطاف -عليه السلام- [في] الجهات اليمنية، وانتهض لذلك من ساقين في النصف الأول من شهر ذي الحجة سلخ السنة المذكورة آنفا، سار في طيافتها سيرة ذكية الأعطاف حميدة الأطراف، حاكية لسيرة الآباء والأسلاف، مصاحبا بحسن النية وصفاء الطوية، والعدل في كل قضية، ولما انتهى إلى حول هجر الأهنوم أرسل عمه السيد المقام الأفضل، البر التقي الأكمل: صلاح الدين المهدي بن أمير المؤمنين داعيا لأهل الهجر إلى طاعته والتمسك بأهداب هدايته، فانقادوا إلى تسليم الحقوق فورا وخشيوا من سطوة جنده، ووقعت في قلوبهم [له] هيبة عظيمة، وراموا منه عدم الدخول [إلى مكانهم] إشفاقا، وخوفا، وفرقا، فواجهه من كبارهم طائفة، فألان لهم المقال، وقابلهم بكريم الأفعال، وشملهم بعظيم النوال، طلبا منه للرضى بدخوله، فأبوا إلا النفار وعدم القرار، وخرجوا إلى حول ماجل حميد شاهرين لسلاح العصيان، رائمين لمكاشحة إمام الزمان، فنهض بعض إخوته في جماعة، وفرقوا شملهم في تلك الساعة، ودخل مكانهم قهرا، وأقام فيه قسرا، وبسط لهم بعد ذلك بساط الأمان، وأراهم من العدل والرفق ما قربه [منهم] كل جنان ، وقبض الحقوق كاملة، وعاملهم أحسن معاملة، ثم نهض قاصدا إلى كحلان تاج الدين، وفيه عن أمره صنوه السيد [المقام] الهمام، الهزبر، الضرغام، جمال الملة والإسلام: عز الدين بن الإمام، وهو من أفاضل الآل، وممن اشتهر بالجود والمجد والنوال، واتسم بحسن الشمائل وصفات الكمال، وكان الخليفة في مدة والده في البلاد اليمنية والمعاقل العلية، وإقامته في أكثر الزمان في كحلان تاج الدين وهو الذي استفتح في مدة والده [أكثر] المعاقل، وخضع لهيبته كل معاند ومناضل، ولم يزل يستفتح المعاقل الرفيعة، والأماكن المنيعة، ويقود الجيوش والجنود، ويستأصل شأفة كل معاند وحسود، حتى عظمت هيبته واشتدت وطأته، وخيفت صولته، وارتفعت كلمته.
صفحه ۱۷۱
نعم: ولما دنا الإمام -عليه السلام- من هذا المعقل المذكور، وصل إليه قبائل بني شاور وبني حبش الأعرام، وأهل كحلان، وبني عشب، والرحبيين، وبني هنان وجنب، وأهل قارن، والأشمور، وسائر أهل تلك الجهات، ودخل كحلان مدخلا راع قلوب الأضداد، وأرعب أفئدة أهل العناد، وكان بيده هذا الحصن المذكور الحصن الكبير والصغير، والقدمة، وعزات بني عشب ومديخ، ومصنعة العسم، وسيد بن وهاس، والواسط، والقضاضني وغير هذه من الحصون المنيعات، وكانت دعوته والإمام شرف الدين صاحب الولاية على صنعاء وحصونها، فوقع بينهما حروب ووقائع وحوادث عظيمة، وكانت الدائرة غالبا [فيها] على أجناد الإمام شرف الدين مدة إقامة الإمام مجد الدين بالحصن المذكور، والمعقل المشهور، واستراب منه الإمام شرف الدين ريبة عظيمة، وارتاع روعة مقعدة ومقيمة، وطالت المرابطة والمصابرة قدر سنة وشهر منذ وصل الإمام إلى كحلان إلى أن نهض إلى الشرفين، وكان انتهاضه عقيب عيد الأضحى سلخ سنة ثلاثين، وتلقاه أهل الشرف بمحبة ومودة وحسن عقيدة وإجلال وإكرام وإنصاف وإعظام، وكان أهل الشاهل وناشر أحسنهم طاعة، وأميلهم إلى امتثال الأوامر المطاعة، وأقام هنالك أياما منيرة، وسار فيهم أحمد سيرة، ثم انتهض إلى بلاد الأهنوم وهجره مرة ثانية بعزيمة وهمة سامية، فأقام فيه أياما مباركة، وسيقت إليه واجبات تلك الجهات على أتم الإرادات وقصد بعد ذلك وطنه المحروس، ومشهد آبائه المأنوس، وقد أقام الحجة الكبرى ، ودعا إلى الفوز بنعيم الأخرى، وأوضح المناهج وسكن كل لاعج، وكان دخوله إلى المشهد الفللي دخولا أنارت فيه أنوار السعادة غاية الإنارة، وأفاض على العلماء والفضلاء والفقراء من نواله وجزيل إفضاله، وأقام حينئذ بين أسرته وآله، ولم يزل يتردد في جهاته الشامية، ويتفقد الحالات، ويقضي الحاجات، وينيل الوفاد والعفاة، وينصف المظلوم من ظالمه، ويحيي من الهدى كل معاهده ومعالمه، وانفتح بينه وبين الأشراف بني المنصور فتنة طويلة وحروب استمرت وقتا ومدة غير قليلة، فأعانه الله أحسن الإعانات، وأظهره عليهم، ونال منهم مالم ينل من قبله في وقت أبيه وجده عليه السلام، واشتدت وطأته على أكثر الأنام، ودخل تحت طاعته الخاص والعام، إلى سنة خمس وثلاثين وتسعمائة، واستقوت شوكة الإمام شرف الدين بالجهات اليمنية، ولم يزل ينضاف إلى بلاده وتحت بسطته الأول فالأول من بلاد الإمام مجد الدين، وكان السبب في ذلك أنه أطلق من أطلق من رهائن أهل اليمن تحرجا من الإثم، ولم يستجز تكبيلهم بالحديد، بعد أن شكوا ما نالهم بسبب ذلك من الألم الشديد، وحصلت بينه وبين صنوه [السيد] جمال الدين [المذكور] منافرة سببها إطلاق الرهائن؛ لأنه لم يشر عليه بإطلاق من أطلق منهم نظرا منه إلى ما يحصل من إطلاقهم من فساد الرعية، وبطلان طاعتهم بالكلية، ولما حصل الفساد، وكثرت في جهاته الخذلان له والعناد طلب من صنوه جمال الدين الجهاد فأبى إسعاف الإمام بالمراد، ومال إلى الزهادة والعبادة، وطرح جلباب الرئاسة والرفادة، [و] في خلال ذلك والإمام شرف الدين يطوي الجهات اليمنية بعزمات قاطعة قوية، ولما استولى على جميع اليمن، وسالمته صروف الزمن عبأ الجيوش الواسعة والعساكر النافعة على التقدم على الإمام مجد الدين ومن بصعدة من الأشراف الحمزيين، فافتتح صعدة يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر صفر سنة أربعين عنوة بجنود واسعة، وهرب من فيها من الأشراف إلى الجوف وإلى طرف المخلاف، البعض منهم، وكانت منه وقعة عظيمة في طرف المخلاف بينه وبين الأمير ناصر بن أحمد المسمى المعترض، ذهب فيها من القتلى من أصحاب الأمير ما يفوت الحصر، ونفر عنه الرعايا جميعا، لكنه أذاقهم النكال، وحساهم بكأس الوبال، وقد كان الإمام مجد الدين نهض بأولاده قاصدا [إلى] الحرجة، حين لم يجد طاقة لحرب الإمام شرف الدين، فوصل الحرجة واستمر -عليه السلام- هناك قائما بما يجب عليه، وسلم له أهل تلك الجهات الواجبات، مشتغلا بأنواع الطاعات والقربات، إلى أن مات -صلوات الله عليه وسلامه وكراماته وإكرامه-، وذلك في شهر القعدة سنة تسعمائة واثنين وأربعين، ومدة عمره سبعة وخمسون سنة [إلا شهرا]، منها مدة خلافته وهي أربع عشرة سنة، وقبره في الحرجة مشهور، وبنيت عليه قبة عظيمة، وجعل له أهل تلك البلاد نذورا واسعة، صار أولاده يقبضونها وتقوم بهم، وله من الولد: السيد المقام، الأفضل، جمال الدين شمس الدين بن الإمام، ولولده أولاد كثيرون مقيمون هنالك، وله شرح عجيب، فيه تقريب غريب في أصول الفقه على (الجوهرة) للفقيه شمس الدين أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، وقيل فيه -عليه السلام- في مدة حياته ديوان شعر هو الآن موجود، وأجاز قائليه بالجوائز السنية، وأولاهم من كرمه الجم السؤل والأمنية، ووردت المراثي فيه بعد وفاته من كل جهة، وهي موجودة أيضا منطوية على غاية [الفصاحة والبلاغة]، مشتملة على أنواع من العلوم مهمة، منها: (الرسالة البليغة) التي أرسل بها إلى الإمام شرف الدين يطلب منه المناظرة والمحاكمة، وهي مشهورة متداولة في الأيدي، لكن الإمام شرف الدين لم يسعف بالمناظرة، وأبى إلا تحكيم السيف والسنان، وعدم السلوك في غير هذا الميدان، ولنختم ذكر هذه النبذة من سيرته -عليه السلام- بالقصيدة الفريدة، التي وعدنا بالإتيان بها، المتضمنة للتعزية والتسلية وبليغ المسرة والتهنئة التي أنشأها السيد شرف الدين المذكور أولا، هو السيد الأفضل الحسن بن عبد الله بن قاسم القطابري -رحمه الله رحمة واسعة-، وهي هذه[القصيدة] :
الأمس يبكي وهذا اليوم قد ضحكا
وصار يضحك من بالأمس كان بكا
فاعجب لدهر يسر الناس آونة
وتارة للرزايا ينصب الشركا
يوما عزاء وتأبين على ملك
ثوى ويوما ترى من بعده ملكا
كذا الزمان وفي أفعاله عبر
والخير والشر في أيامه اشتركا
وهكذا الدهر ما زالت عجائبه
حينا تسر وحينا تشرق الحنكا
وإن أحسن حزن ما تعقبه
بشر وجلى من الأحزان ما نهكا
بالأمس غيب في بطن الثرى قمر
واليوم لاح هلال زين الفلكا
لئن فقدنا إماما كان عمدتنا
فقد وجدنا إماما للفقيد حكا
وإن مضى ناصر الدين الحنيف فقد
أعاضنا الله بالداعي وما تركا
جلت خلافة مجد الدين كربتنا
حتى كأن أباه اليوم ما هلكا
وأصبح الدين من بعد العبوس له
مبشرا ضاحكا لا يعتريه بكا
والشرك أصبح في ويل وفي حرب
لما رأى سيف مجد الدين فانتهكا
واستبشرت مكة عند القيام به
وطيبة طاب منها القلب إذ ملكا
لأنه صاحب العزم الذي وردت
به الملاحم والنهج الذي سلكا مهدي عيسى الذي جاءت به سير
ولم أكن في الذي بينت مؤتفكا
صفحه ۱۷۵
أما ترى الأرض قد عمت بدولته
خصبا وشمر عنها الجدب وانفركا
وللخلافة أبراج وهلهلة
بملكه ودم الأشراك قد سفكا
وللمنابر زهو حين تسمع من
خطابها ذكره إذ للعلى سمكا
لأنه البحر إن سماه واصفه
كل الفضائل فيه أصبحت سمكا
كم منبر [حين] كناه الخطيب به
قد كاد يهتز أو تلقاه محتركا
تيها وفخرا وزهوا قد حواه به
لأنه خير من صلى ومن نسكا
ودرة التاج في آل الرسول ومن
يجل في فضله قدرا على الشركا
وواسط العقد في أبناء فاطمة
والأصل والفرع منه في النصاب زكا
وفص خاتم أهل البيت عن كمل
ومن به ستر أهل البغي [قد] هتكا
بمثله ما أتت في الفضل محصنة
ومن تسمى إماما غيره أفكا
حاشاه من مثله في الناس يشبهه
إذ لم يكن في اكتساب الفضل منهمكا
هو الإمام الذي سموه منتظرا
وفضله لقلوب الحاسدين نكا
دعا فأشرقت الدنيا بدعوته
والجود يشكره والعدل منه بكا
خذها إليك أمير المؤمنين أتت
تجلى إليك وتطوي نحوك الحبكا لاغرو يا خير داع من بني حسن
أن صار مجدك بالجوزاء مشتبكا
صفحه ۱۷۶
أو شاع ذكرك في شام وفي يمن
أوصال سيفك في الأعداء أو سفكا
أو للإمامة قد أصبحت منتصبا
وذلل الله أرباب الضلال لكا
فأنت من سادة غر جحاجحة
مدوا لكسب العلا من عزمهم شبكا
فأصبحوا آية في الدهر باهرة
وكل فضل لهم قد صار ممتلكا
ما خر منهم إلى بطن الثرى قمر
إلا بدا قمر يجلو به الحلكا
لم يبرح الدرس والتدريس دأبهم
ليلا وصبحا بعزم في العلى فتكا
آل المؤيد سادات الأنام وكم
قد غص فضلهم من حاسد حنكا
لولاهم أصبح الإسلام منهضما
وأرعب الشرك منه الساق والوركا
لكنهم لحماة قد حموا ورموا
عنه فلم يخش من أعدائه دركا
وأنت يا مجد دين الله زدتهم
فضلا وفخرا فتاهوا في الأنام بكا
لقد سعدنا بدهر أنت قائمه
فالله بالنصر والتمكين أيدكا
ولا برحت قرير العين مغتبطا
وزادك الله توفيقا وأيدكا
وردت إلى الإمام الداعي [إلى الله] عقيب قيامه بالأمر في شهر شعبان سنة تسعمائة وتسعة وعشرين.
صفحه ۱۷۷
[أخبار الإمام شرف الدين -عليه السلام-]
ولنشرع في سيرة الإمام المتوكل على الله شرف الدين -عليه السلام- حسبما اتصل بنا من أخبار سيرته، من غير اطلاع منا على سيرته -عليه السلام-، فنقول:
وقام للأمر من طابت عناصره
أبو المطهر زاكي الفعل والأثر
فدوخ الأرض من شام إلى يمن
بالبيض والبيض والخطية السمر
هو: الإمام المتوكل على الله، أمير المؤمنين: يحيى شرف الدين بن شمس الدين بن أمير المؤمنين المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى -عليه السلام-:
سلسلة من ذهب
منوطة بالشهب
ونسبة ترددت
بين وصي ونبي
صفحه ۱۷۸
سبحان من قدسها
عن شائبات النسب نشأ -عليه السلام- منشأ الأئمة الكبار، واقتفى منهاج درجة الآل الأطهار، حتى قضى من العلوم الأوطار، وشاع ذكره في جميع الآفاق وطار، ولما بلغ في العلوم النهاية، ووصل منها [إلى] الغاية، دعا إلى الله يوم حادي عشر من شهر جمادى الأول من سنة اثنتي عشرة وتسعمائة [سنة]، كما تقدم، ولم تظهر كلمته كل الظهور في مدة الإمام الحسن -عليه السلام- كما ذكرناه في سيرته، وبعد وفاته لم تزل تستقوي شوكته، وتأكد دولته، فاستولى على جهات اليمن جميعا، ودانت له البوادي والأمصار، وسالمته النوائب وصروف الأقدار، وتحاسد على مساعدته الليل والنهار، فكان من أعظم الفتوحات العظيمة، ومنن الله وتفضلاته على المسلمين العميمة تيسير فتح صنعاء، وفيها طائفة اللونذ، وكان السبب في فتحها أنه قصده أهل صنعاء، وتكفلوا له بالسؤل وبلوغ المأمول، فقصدها بجمع قليل من أهل جهاته، فافتتحها على أحسن حال وأنعم بال، وقتل جماعة كثيرة من اللونذ الذين كانوا بصنعاء، وأهل الرتبة بقصر غمدان سلموا له العهدة، واستمرت أوامره ونواهيه بجهات اليمن جميعا، وسار فيها سيرة حميدة، تمضي فيها آراؤه السديدة، ثم اهتم بافتتاح مدينة صعدة ونواحيها، فقصدها بجيوش منصورة، وكتائب واسعة موفورة، وكان افتتاحها في سنة أربعين، ولما وصل إليها أتاه الخبر بأن الشيخ عامر بن داود من ملوك بني طاهر نهض في ذلك الوقت لقصد جهة صنعاء بجنود كبييرة، وممالك كبيرة فوجه من صعدة لحربه ولده السيد الهمام فخر الدين: المطهر بن شرف الدين فكانت الوقعة المشهورة بينهما في موكل، فانهزم عامر بعد قتل كثير من أصحابه، وما زال يتبعه حتى أوصله إلى عدن، ومن تلك الوقعة بطلت واضمحلت دولة بني طاهر، وافتلت وتضاءلت مملكتهم واضمحلت، وملك [بعض] اليمن الأسفل وافتتح تعز، وبعد مدة طويلة قصد زبيد بجموع لا يحصى لها عديد، وأدرك ولده المطهر الإعجاب، وكان من جملة كتاب كتبه إلى أبيه: إنا توجهنا إلى زبيد في جموع كثيرة كما قال تعالى:{مائة ألف أو يزيدون }[الصافات: 147].
فكان في تلك الوقيعة انهزامه الهزيمة الهائلة، والعجب مقرون بالعطب، وعدم بلوغ الأرب، وقد أشار إليه الملك الديان في محكم القرآن، قال تعالى مخاطبا لنبيه -صلوات الله عليه- : {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم [فلم تغن عنكم شيئا] الآية}[التوبة:25]، ورجع بعد الهزيمة إلى تعز، واستقرت مملكته فيه وفي سائر النواحي من تلك الجهات؛ ولم أقف للإمام شرف الدين -عليه السلام- على سيرة، فأذكر منها يسيرا من فضائله، وبدائع فواضله، ويكفيك أن شرح سيرته -عليه السلام- ووقعاته وفتوحاته يطول، ويحتاج إلى أبواب وفصول، وشهرته في حسن السياسة، وبلوغ الغاية القصوى في الرئاسة، ونعمته [النعمة] الشاملة على الموالي، ونقمته القاصمة للمعادي والقالي، وبسياسته الواسعة وعنايته النافعة في الجوامع والحصون، والمناهل والمساكن يغني عن تحقيق سيرته في بطون الأوراق؛ إذ هي شائعة في جميع النواحي والآفاق.
صفحه ۱۸۰
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل نعم: وقد قدمنا في شرح سيرة الإمام مجد الدين أنها نفرت عنه رعايا بلاد صعدة النفرة الكلية، [لكنه] أعد لقتالهم السيوف الهندية، والذوابل الردينية؛ فكان منه فيهم وقعات كثيرة، يحتاج محققها إلى استغراق أوقات كثيرة، من ذلك بل هي من أعظم وقائعه وقعة المعترض في الحسينيات بعد أن جمع له الأشراف بنو حمزة جموعا كثيرة، فقتل منهم كثيرا وجما غفيرا، وأسر منهم أسرى كثيرة، ثم أمر بضرب أعناقهم صبرا، ثم إنه كما ذكرنا دوخ الأرض، وأعطاه الله الرفع لمن شاء والخفض، وإقامة السنة والفرض؛ فدخل جميع من ناوأه من الأشراف الحمزيين وغيرهم من سائر القبائل تحت الطاعة، وامتثلوا أوامره المطاعة.
صفحه ۱۸۱
وأما شيعة الزمان، وعلماء وقته والأوان، فبايعوه رغبا ورهبا، ولم يقدر منهم أحد على الامتناع عنه والإباء، وبعد الإتفاق منهم به -عليه السلام- أعطاهم أموالا جليلة، وحباهم بتفضلات جزيلة، فارتضوه وليا، وقالوا: وجدناه بجميع الخلال المحمودة مليا؛ وكان من جملة من وفد إليه إلى صعدة السادة القادة، أرباب العلم والحلم والجود والسيادة، من آل الإمام علي بن المؤيد -عليه السلام-، وكان يومئذ أكبرهم سنا وقدرا، وأرفعهم عند الإمام ذكرا السيد العلامة القدوة في الآل والشامة والعلامة شمس الملة والدين: أحمد بن أمير المؤمنين عز الدين بن الحسن [بن] أمير المؤمنين، وسائر أولاده الأكابر، أهل المناقب والمفاخر، الوارثين لها كابرا عن كابر، فكان منه من الإنصاف لهم والإتحاف والرعاية التامة مالم يكن على أحد بخاف، وسمح لهم بما كان في الهجرة المقدسة من آثار الإمام مجد الدين من الحبوب، وسائر الأموال، وعزموا منه مجبورين الخواطر، قارة منهم النواظر، ولم يعذر [السيد] شمس الدين أحمد بن أمير المؤمنين من الاستمرار على الحكم بجهته المباركة، وقرر لجميع آل المؤيد التقريرات الكاملة، الواسعة الشاملة، وكذلك من يستحق التجليل، أسدى إليه ما هو أهله من المعروف الجزيل، وبعد سنة كاملة رجع إلى صنعاء وجهاتها، واستمر له الأمر القاهر، الممزوج بالتفضل العام الغامر مدته -عليه السلام-، وكان له في الفصاحة والبلاغة أوفر الأقسام، وحظ وافر لم يحظ به إلا القليل من الأئمة الأعلام، وها أنا أذكر [طرفا] يسيرا من بليغ أشعاره الرائقة ما حضرني وقت الرقم؛ فمن شعره -عليه السلام- القصيدة الرائقة، ذات المعاني الفائقة، المسماه: (بالقصص الحق في مدح خير الخلق) ضمنها ذكر سيرة النبي وأحواله من وقت الولادة إلى آخر سيرته ، وكذلك أخبار الصحابة المحقين، وأخبار القاسطين والمارقين، وغير ذلك مما ذكره -عليه السلام-، ولها شرحان بليغان أحدهما: لولده السيد العلامة: فخر الدين عبد الله بن أمير المؤمنين وهو شرح بسيط جدا، وشرح آخر لطيف: للفقيه العلامة: عز الدين محمد بن يحيى بن بهران، وهي معروفة متداولة، وفيها من البلاغة التي لا يقدر غيره عليها، [ولا] تستطيع فصاحة أحد أن تصل إليها، وطالعها:
لكم من الحب صافيه ووافيه
ومن هوى القلب باديه وخافيه
ومن بديع شعره المتضمن للحكمة: الأبيات التي أرسل بها إلى شيخه العلامة، الحبر الصمصامة، السيد جمال الدين: الهادي بن إبراهيم-رحمه الله [تعالى]، - وهي:
ما إن هجرتك عن بغض ولا ملل
وهل يمل النقاح العذب عطشان
ولا كفورا لما أوليت من نعم
حاشا شكوري أن يغشاه كفران
لكن أتاني كلام عنك مضطرب
ومالك فيه أبراد وأسخان
فقلت: وصل يكون الجرح غايته
بين الأحبة خير منه هجران
فالبحر يرهب إن أمواجه اضطربت
ويترك العذب إن أحمته نيران
وله أيضا إلى شيخه العلامة صارم الدين: إبراهيم بن إسماعيل من هجرة الظهرين: قصيدة بديعة قالها وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة، منها:
يا نجل إسماعيل ياذا الذي
جالت به الأوهام كم من مجال
لا تحسبن أني ممن إذا است
ميل عن علياه بالمال مال
فوا لذي أوسعني همة قعساء
تسمو فوق شم الجبال
ما أقبل الدنيا وإن أقبلت
إن كان في أخراي منها اختلال
صفحه ۱۸۳
ولا أمني النفس بالرزق إن
لم يحصل الرزق بدون السؤال ومن شعره -عليه السلام- في آخر المدة إلى جليسه وأنيسه السيد المقام العلامة عماد الدين: يحيى بن أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين، وقد توهم منه الميل إلى ولده مطهر، قوله:
هذا العجاب وذاك العجب
وذا الظرف[يزهو] وحسن الأدب
فأين شفاء كلام الكلام
فخل المدام وخل الطرب
فواه لفعل أفاد السرور
وفعل وترك أثار الكرب
فيا رب عجل بجمع القلوب
على اللذ ترضاه يارب رب
فأجاب عليه السيد عماد الدين بقصيدة فصيحة أبان فيها تأكد مودة الإمام الصريحة، وها أنا أذكر البعض منها ميلا إلى الاختصار وعدم الإكثار، أولها:
أتانا نظام شريف النسب
حميد الفعال صريح الحسب
أجل الورى كلهم عن يد
وأرفعهم في العلا والرتب
ثمال المساكين والمرملين
وملجأونا في خطوب النوب
وحجة ربي على خلقه
ومحيي الهدى بالقنا واليلب
فيالك نظما يفوق اللآل
ويزري بهاء عقود الذهب
ويحكي الأنابي في نشره
ورشف المدام وظلم الشنب
ويحكي الرياض وماء الحياض
وطيب البياض بياض العنب
فما ابن المراغة أو جرول
وما الصاحب الندب مهما خطب
وما ابن الحميد ونسل العميد
وما هو لبيد فصيح العرب
أفاد السرور وأهدى الحبور
مقال الخليفة يارب رب
فطبنا نفوسا بذاك الدعاء
ونلنا المنى وبلغنا الأرب
وطيبة نفس إمام الهدى
تجلي حنادس ليل الكرب
هجرتك لاعن قلى في القلوب
أقلب إن زرت بين اللهب
ولكن وجدت بقاء الوداد
مع الهجر والصد لاعن غضب
وصفحا عن العبد يا سيدي
إذا كان للذنب منه ارتكب
وأحسن فديتك في الظنون
وأكذب أكاذيب من قد كذب
صفحه ۱۸۴
فشلت يدا من وشى بيننا
وتبت يداه يدا ابي لهب إلى آخر ما قال، ولو حاولنا استقصاء غرائب أشعاره الفصيحة، وبدائع أقواله الدالة على جودة القريحة، لاحتجنا إلى رقم أسفار، وخرجنا في ذلك إلى الإكثار، وأما مصنفاته- عليه السلام- فمنها: (كتاب الأثمار)، [انتزعه من كتاب (الأزهار)]، وشرحه حي الفقيه العلامة : عز الدين محمد بن يحيى بهران شرحا فائقا قدر مجلدين ضخمين، وله شروح كثيرة أيضا غير هذا الشرح، وله مصنفات رائقة فائقة لم يحضرني تعدادها حال رقم سيرته -عليه السلام-.
وبعد أن خانه المقدور قوته
وابتز من ثقبتيه جوهر البصر
قد قدمنا بعض ما يليق ذكره من سيرة هذا الإمام -عليه السلام-، وضبطه للبلاد، وإزالة الظلم والجور والفساد، وإرغام أهل العناد، وإصلاح حال الصالحين من العباد، واستمر له ذلك إلى أن خرج من صنعاء سنة أربع وخمسين وتسعمائة[سنة] إلى كوكبان بعد أن وقع بينه وبين ولده السيد فخر الدين المطهر بن الإمام ما سيأتي [ذكره] إن شاء الله تعالى، ولما أراد الله سبحانه له زيادة الأجر والثواب، وأن يجعله من جملة الممتحنين الفائزين من الخيرات [بأوفر نصاب، سلبه نور البصر لا البصيرة، المنطوية على العلوم الجليلة] الغزيرة، وأشير عليه بالكشط ففعل واستمر له الضياء مدة، ثم ذهب مرة أخرى، فعلم أن ذلك له أولى وأحرى، فأنشأ يقول:
صفحه ۱۸۵
عل خيرا أو على ما كان رحمة
وابتلاء الإله للعبد نعمة وقد كان مرجيا لقيام ولده السيد المقام العلامة جمال الدين علي بن الإمام لكنه مال إلى الراحة، وأحب الاستراحة، ونقل عنه أشياء في العقيدة لا توافق عقائد آبائه الكرام والأئمة الأعلام، وحين أيس -عليه السلام- من ذلك الجانب نظر بنظره الثاقب ورأيه الصائب، وكتب كتابا بليغا إلى السادة الأعلام الذين بهجرة فللة[من] آل الإمام الهادي لدين الله -عليه السلام-، مضمونه: إنهم ينصبون لهم إماما يقوم بأمر الدين، وإحياء سنة سيد المرسلين، وأخبرهم بما قد أمتحن به من ذهاب البصر، فأجابوا عليه بجواب مضمونه: إنه لا يمكنهم نصب إمام مع وجوده، وأنه وإن ذهب بصره ففيه من الهمة مالا يقوم به غيره من الأئمة فيما يرجع إلى صلاح الأمة، وكان محبر الجواب السيد العلامة، الأفضل، البليغ، المصقع، المقول، عماد الدين: يحيى بن أحمد بن أمير المؤمنين-عليه السلام-، وتمثل في صدر الكتاب بهذه الأبيات [وهي] :
لا يكرثنك ريب الحادث الطاري
فما عليك بهذا الخطب من عار
لو يعلم الناس ما في أن تدوم لهم
بكوا لأنك من ثوب الصبا عار
ولو أطاقوا انتقاصا من حياتهم
لم يتحفوك بشيء غير إعمار
صفحه ۱۸۶