المسألة الثالثة: في مكان العقل
وقد اختلف في ذلك حكماءُ الطبيعةُ وعلماءُ الإسلام. فقال بعضهم: "هو في الرأس، ومحلّه الدماغُ. وقال آخرون: "هو في البدن ومحّله القلبُ". والقولان منقولان عن أحمد والشافعيّ.
احتجّ الأوّلون من وجوهٍ.
أحدها: أنّ العقل إذا فسد، أو عَرَضت، له آفةٌ، بادر الحكماءُ إِلى علاج الدماغ دون القلب. وإِنما يُوضع الدواءُ يمقتضى الحكمة في موضع الداء. فدلّ على أنّ العقل في الرأس. واعتٌرِض على هذا بما لا حاصل له. وهو أنّ الصدر. فمّ يرى الدواءُ إِلى القلب بواسطة الأعضاء. وهذا ضعيفٌ؛ إذ يمكن ثبوتُ الدواء على الصدر بربطٍ أو إِلصاقٍ ونحوه. ولو صحّ أنّ العقل في القلب، لما أَعجَز الحكماءَ مداواتُه في محلّه.
الثاني: قد تبيّن، ما سَبَقَ، أنّ العقل قوةٌ مدرِكةٌ. ومحلُّ القوى المدرِكةِ كلّها الرأسُ: الظاهرِة منها، كالسمع والبصر والشمّ والذوق واللمس، وإِن اشتَرَك في اللمس جميعُ البدن؛ والباطنة، كالمخيِّلة والذاكرة والمفكرة والوهم والحسّ المشترك. فنظام الحكمة في الوجود أن تكون تلك القوّة بين تلك القوى.
الثالث: أنّ الرأس أشرف ما في الإِنسان وأعلاه. والعقل نور، إمّا بحقيقته، أو بأثره.
وشأن الأنوار أن تكون في الأماكن العالية، لتُشرِف على ما يستنير بها؛ كالشمس والقمر والنجوم بالنسبة إِلى الأرض، وعيني الإِنسان بالنسبة إلى سائر بدنه. وكذلك السُرُج والقناديل، جُعِلت مستعلية. فكذلك العقل، في قياسِ الحكمة ومقتضاها واستقراسِ آثارها، يُقتضَى أن يكون في أعلى الإِنسان، وهو رأسه.
الرابع: أنّ الدماغ لو فُقِد العقلُ. ولو قدّنا بقاءَ الإِنسان بعد فَقد قلبه حيًا، لم يَفقد العقلَ؛ لأنّه يَعقل بما في رأسه من العقل. وهذا وجهٌ ضعيفٌ؛ لأنّه دعوى محلّ النزاع. ثمّ هو معارَضٌ بِمثله سواء.
واحتجّ الآخرون بوجوهٍ.
1 / 74