بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة]
الحمد لله الذي لا حاكم في الوجود سواه، ولا هادي ولا مضلّ لمن أضلّه وهداه. قضى على إبليس بالضلالة فأغواه، وقدَّر على آدم المعصيةَ فعصاه. الحليم الذي لا يَعجَل على العصاة، العليم الذي أحاط بكلّ شيءٍ علمًا وأحصاه. امتحن الملائكة في حضرة الملكوت، فأوقع في المحنة منهم هاروت وماروت. وقدر على ذي النون فالتقمه الحوتُ، وابتلي داودَ بسؤاله فلم يمكنه السكوت. سبحانه هو الحيّ الذي لا يموت، القادر الذي مطلوبه لا يُعجِز ولا يفوت. أحمده على جميل آلائه، وأعوذ به من وَبيلِ بلائه، حمدَ من استسلم لقدَره وقضائه، وعلِم أنْ لا مضاء لحكمٍ قبل إمضائه في أرضه وسمائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً مؤمن بالقدَر، موقنٍ أنّه إذا أراد أمرًا، غلب عليه وقهَر. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيّد البشر، وصفيّه المجتبى من ربيعة ومضر، صلى الله عليه وعلى آله السراة الغُرر، وأصحابه المؤثرين بجهادهم في الدين أحسن أثرٍ، وسلِّم تسليمًا وأكثر. أمّا بعد.
فإن الله سبحانه أحسنَ خَلْقَ الإنسان بما ركَّب فيه من العقل وعلَّمه من البيان. ثم كلَّفه بما وجّه من التكاليف إليه. وجعل عقلَه سببًا إلى فهم ذلك، وعونًا عليه. فوظيفةُ العقل في الوجود الإرشادُ، لا الحكم على الرب والعباد. وبه يُعرَف الحَسَنُ عُرفًا وشرعًا من القبيح، لا أنّه موجبٌ للتحسين والتقبيح.
لكنّ الله سبحانه أوهم بعضَ الخلق ذلك. وهو سبحانه القاضي بالنجاة والهلكة على كل ناجٍ وهالك. فأوّل من وقع في هذه الشُّبهة الملائكةُ الكرام - عليهم الصلاة والسلام - حيث قالوا، لَمَّا أخبرهم الله أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً: "ليخلق اللهُ ما شاء؛ فلن يخلق خلقًا أكرم عليه منَّا". كأنهم أخذوا ذلك من قربهم من الله، ودأبهم في الطاعة، وأنهم سكَّان السماء، فهم أشرف ممن يكون في الأرض. أو علموا أنّ الخليفة يُخلَق مِن الأرض، وهي جوهرٌ كثيفٌ، ففضّلوا عليه الجوهرَ اللطيفَ.
ثم وقع فيها إبليسُ - عليه اللعنة والتنكيس - حيث قال في اعتذاره عن معصية ربّ
1 / 67
العالمين: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾. فإنّه نظر إلى لطافة النار وتصاعدها وإشراقها، وغفل عن طيشها وشرّها وإحراقها. ونظر إلى ثقل الطين وهبوطه وكثافته، وغفل عن ثباته عن الطيش ورزانته. فلا جرم، عاد كلٌّ منهما إلى طبيعته: إبليس إلى كِبره وافتتانه، وآدمُ إلى حِلمه وثباته. فصار إبليس شقيًّا لعينًا طريدًا، وآدم متدارَكًا بالرحمة سعيدًا.
ثم وقعت فيها الملائكةُ مَرَّةً ثانيةً: حيث عابوا على بتي آدم معاصيهم، ولم ينظروا في النفوس والشهوات الآخذة بنواصيهم. وقالوا: " ربنا لو كلَّفتنا بما كلَّفتهم، لَمَا عصيناك؛ ولكنّا بالطاعة قد أرضيناك". فركَّب الباري سبحانه فيهم الشهوات ساعةً من نهارٍ، فاستقاموا، وطلبوا الفرارَ. وقامت لبني آدم عندهم واضحاتُ الأعذار. فأخذوا في الدعاء لهم والاستغفار. إلَّا هاروت وماروت، أقدما على كِبْر الامتحان. فكانا ممَّن آنَ هلاكهُ، فحانَ.
ثم تتابع بنو آدم في التحسين والتقبيح. فما منهم إلا مَن هو للشيطان ذبيحٌ أو جريحٌ. فمنهم مَن عَبد الفَلك لارتفاعه وعمومه وإشراق دَراريّه ونجومه. ومنهم مَن عَبد الشمس وإشراق أنوارها. ومنهم مَن عَبد ما استَحسن، فأساء وما أحسنَ. فإذن، مدارُ كثيرٍ من الضلالات على الأصل المذكور منذ خُلِق آدمُ، وحتى يُنفخ في الصور.
وكان أشدّ الناس اعتمادًا عليه أهلُ الفلسفة والاعتزال؛ فتزلزلت قواعدهُم أعظم الزلزال. وغالبُ مذهبهم مبنيٌّ عليه، آي عند التحقيق إليه. وقد وضعتُ هذا الكتاب لأبيّن فيه فسادَ ذلك الأصل، وما بُني عليه من الأصول، وأنّ لا حاصل له ولا محصولٌ. وبتوفيق الله أتكلَّم وأقول، وبقوَّته أُجاولِ وأصول، وبفضله أرجو الوصولَ إلى مقام القبول، إنه هو البرّ الوَصول.
وفيه مسائل.
1 / 68
[أولًا: في العقل، وفي أصل التحسين والتقبيح]
الأُولى: في لفظ العقل
اعلم ضأنّ مادّة ع- ق- ل ترجع إلى معنى المنع والحبس. فمن ذلك عِقَال البعير، وهو الحبل الذي يُربَط به ساقُه إِلى ركبته لئلاّ يشرد. يُقال: "عَقَلْتُ البعيرَ، أَعْقِلُه عَقْلا"، إذا فعلتُ به ذلك. ثمّ سُمّي إِعطاءُ القاتل وأقاربه ديَة القتيل، ونفسُ الإِبل المدفوعة في الدنيا عقلًا، "، تسميةً بالمصدر المذكور، المجاورة والملابسة؛ لأنّ الإِبل تُعقَل بالعقال.
وذلك لأنّ القاتل كان يأتي بديَة القتيل، فيعقلها بفناء أوليائه ليسلّمها إِليهم. وكأنهم كانوا يفعلون ذلك ليكون القاتلُ في موقف سؤال القبولِ. ومن ذلك سُمّيت العَصًبةُ "عاقِلةً".
ومنه المعاقِل، وهو الحصون. واحدها مَععْقل؛ لأنّه يمنع العدو مِن الوصول. وفي الحديث، "ليعقِلن هذا الدين من الحجاز مَعِل الأروية (يعني بقرة الوحش) من رأس الجبل (أي يتحصن به ويمتع فيه) ويعود الدين إِلى الحجاز كما بدأ منه".
ومنه اعتقال الرمحِ. وهو أن يجعله الفارسُ تحت فخذه، ويجر آخرَ وراءه على الأرض؛ لأنّه ذلك يمنعه من السقوط. و"اعتقل الشاة"، إِذا جَعل رجلَها بين رجِله وفخذِ ليحلبها و"فلانٌ معتقَلٌ"، أى محبوسٌ.
ومنه والعُقال (بضم العين، وتشديد القاف وتخفيفها)، اسمُ فرس كان للنبي ﵇. وهو أيضًا فرسٌ من فحول الجاهلية المشهورة، جاء في شعر حمزة بن عبد المطلب، ﵁:
1 / 69
ليس عندي إلاّ السلاح ووردٌ ... قارِح مِن بناتِ ذى العُقَّالِ
تقي دونه المنايا بنفسي ... وهو دوني يَلقى صدورَ العوالي
والعُقّال رداءٌ يكون في رجلِي الدابّة، فيَعقلها، أي يمنعها عن الحركة. وأُضيفَ إِليه هذا الفرسُ، إِمّا تفاؤلا له بالنشاط، على عادتهم في التفاؤل بالعكس؛ كقولهم للّديغ "سليمٌ" مفازةٌ، وللبرءِ "اندمالٌ". أو مبالغًة في شدّة جريِه ونشاطِه؛ كذلك كقولهم للغراب "أعور" لحدّة بصرِه، أتو دفعًا لعين السوء عنه.
ومنه في حديث الدجّال: "ثمّ يأتي الخضبُ فيُعَقِّل الكرمَ"، أي يخرُج العُقَّيلى (بضمّ العين، ونشديد القاف، مقصورًا) وهو الحصرم. قلتُ: لأنّه يمتنع بحموضته عن أن يؤكَل على صفته غالبَا.
ومن ذلك، العقلُ الذي في الإنسان الذي هو مناط التكليف. سُمِّى بمصدر "عَقلَ يَعْقِل عَقْلًا"، إِذا مَنع؛ لأنّه يمنع العاقلَ مِن فعلِ ما لا يليق. وإِلى هذا المعنى ترجع فروعُ هذه المادّة جميعها.
المسألة الثانية: في حقيقة العقل
وقد اختُلف فيها. فقيل: هو قوّةٌ غريزيّةٌ توجَد في الإِنسان مِن أوّلِ وجوده. ثمّ تتزايد بتزايد بدنه تَزايُدًا تدريجيًّا، حتى يبلغ سنَّ التكليف، فتكون قد بَلَغَت أوّلَ درجات كمالها. ثمّ تنتهي زيادتُها إلى سبعٍ وعشرين سنةً، كما رُوي عن أمير المؤمنين عليِّ رضى اللهُ عنه: " يحتلم الغلامُ لأربع عشة، وينتهي طولُه لإحدى وعشرين، وينتهي عقلُه لسبعٍ وعشرين. إِلاّ التجاريب، فإِنّه لا غاية لها". هذا في العقل الغريزي. أمّا التجربيّ، فلا يزال في زيادة ما دام العاقل حيًّا؛ كما قالى عليٌ.
وعند الحكماء، العقل جوهرٌ بسيطٌ. لأنهم أدخلوه في تقسيم الجهر، حيث قالوا: "الجوهر إمّا محلُّ، وهو الهيولي (يعني المادّة المهيّئة لقبول الصورة؛ ومِن لفظِ "التهيؤ"
1 / 70
اشتُقّ لفظُ "الهيلوي"، فكأنّه أعجميُ معرّبٌ)؛ أو حالٌ في المحلّ، وهو الصورة؛ أو مركّبٌ منهما، وهو الجسم؛ أو لا محلٌ ولا حالٌ ولا مركبٌ منهما، وهو إِمّا أن يتعلّق بالجسم تَعلُّق التدبير، وهو النفس، أو لا ينعلّق بها كذلك، وهو العقل".
وبعض الفلاسفة يزعم أنّ العقل مِن المجادات الغنيّة عن المحلّ والموضوع. فهو لا داخل البدن ولا خارجه، ولا متّصلٌ به ولا منفصلٌ عنه. وأعلم أنّ دعوى تجرُّده ممكنةٌ بناءً على أنّه روحانيُّ. أمّا عدم دخوله وخروجه واتّصاله وانفصاله، فهو غير معقولٍ؛ لأنّ النقيين لا يرتفعان.
وقال الأستاذ أبو إِسحق: "العقل معنًى يُتمكّن به مِن الاستدلال على ما وراء المحسوسات".
وقال قومٌ: "هو ما لا يخلو العاقلُ عنه عند التذكّر، ولا يشارِكه فيه مَن ليس بعاقلٍ".
وحُكي عن المعتزلة أنّه ما يُعرَف به حُسنُ الحَسَنِ وقُبحُ القبيحِ. وعن الجبّائي أنّه الداعي إِلى الحَسَنِ، الصادّ عن القبيح. وهو بناءٌ على أصلهم الذي نحن بصدد إِبطاله. والتعريفان قبله مَدخولان، لإِجمال الأوّل، وتعريف العقل في الثاني بنفسه.
وقال قومٌ: "هو ما يُعرَف به خَيرُ الخيرَين وشرُّ الشرَّين". وهو شديد الإِجمال أيضًا.
وقالت الخوارج: " العاقل مَن عقل عن الله أمرّه ونهيَه". وهو فاسدُ، لتعريفه بنفسه.
والذى وقَع عليه اختيار المحقِّقين أنّ العقل ضربٌ من العلوم الضروريّة. وهو العلم بوجوب الواجبات واستجالة المستحيلات وإمكان الممكنات. لأنّه لو لم يكن من قبيل العلوم، لصحّ انفكاكُ أحدهما عن الآخر وهو باطلٌ، لاستحالة وجود عاقلٍ لا يعلم شيئًا البتّة، أو عالمٍ بجميع الأشياء، فليس علمًا بالمحسوسات؛ لحصوله في البهائم والمجانين؛ وليسوا عقلاء. فهو إِذن مِن العلوم الكّليّة. ثمّ ليس من العلوم النظريّة؛ لأنها مشروطةٌ بالعقل
1 / 71
وتصرفُّه. فلو كانت هي العقل، لكان شرطًا لنفسه؛ وهو محالٌ. فتعيَّن أن يكون عبارةً عن علمٍ كلّى بديهي.
وأُورِد على هذا الاستدلال أنّ التغاير لا يقتضي جوازَ الانفكاك؛ بدليل [أنّ] الجوهر والعرَض، والعلّة والمعلول، متلازمان ولا ينفكّان. ولئن سُلِّم أنّ التغاير يقتضي الانفكاكَ، لكنّ العقل قد ينفكُّ عن العلم. كالنائم واليقظان الذي لا يَستحضر شيئًا من وجوب الواجبات واستحالة المستحيلات؛ فِإنّ العقل فيهما موجودٌ، والعلم مفقودٌ.
فدلّ ذلك على أنّ العقل غريزةٌ تلزمها هذه العلومُ عند سلامة الحواسّ. كما قال المحاسبيّ: "إِنّه غريرزةٌ طبيعيةٌ يتوصّل بها إلى المعرفة، لا أنّه نفس تلك العلوم".
قلتُ: وهذا سؤالٌ قويٌ لا جواب عنه. وممّا يؤكِّده أنّ العقل إِذا فسد، تَسبَّب الأطبّاءُ إِلى إِصلاحه بالعلاج. فمن ذلك دليلان. أحدهما أنّ موضوع علم الطب إِنما هو الأجسام الطبيعيّة وما اشتملَت عليه من الطبيعيات؛ والعلوم ليست منها. وربما قوّى هذا قولُ الفلاسفة، "إنّه جوهرٌ"؛ لأنّ سلطان الطب على الجواهر أغلبُ منه على الأعراض. الثاني أنّ فساد العلوم إِنم هو بسيانها وذهابها عن القوّة الحافظة، بحيث يتعذّر على العالم استحضارُها. والأطبّاء لا سلطان لهم على تذكير علمٍ منسي، أو ردّ علمٍ ذاهب. وإِنما سلطانهم على القُوى والغرائز، بالتسبّب إِلى إِصلاحها إِذا فسدت فدلّ على أنّ العقل غريزةٌ يحصل بها العلم؛ لا نفس العلم، بل لازمٌ له.
فإِن قال: اللازم يصحّ وجوُده بدون المازوم. فلو كان العقل غريزةً، لازمًا للعلم، لا نفس العلم، لصحّ وجود العقل بدون علمٍ، فكان يوجد عاقلُ لا يعلم شيئًا أصلًا. وهو باطلٌ؛ لأنّ عاقلًا لا يخلو من علمٍ ضروريِّ.
فالجواب بالتزام ذلك. فإِنّ المجنونَ عقلُه قائمٌ به لم يفارقه. وإِنما عليه ما عَرَضَ له من العلّة، فاختفى أثرُه، وهو باقٍ لم يفارِق. إِذ لو فارق، لم يَعُد. وهذا كما يَبطُل تأثيرُ المغناطيش إِذا لُطخ بالثوم، وقوّته الجاذبة باقيةٌ؛ لكن بطل تأثيرُها لغلبةِ المانع والمعارِض.
وكما يَبطُل تأثيرُ الروحِ بالسُكات العارض، والروح باقٍ في البدن لم يفارِق. ولهذا
1 / 72
بعض الناس يظنّ أنّه مات، فيأخذ في جهازه إلى القبر. وإِنما يكون مسكَتًا. فربما زال سكاتُه، فتحرُك في اللحد قبل أن يُطَمّ، فيُرَدّ إلى أهله حيًا. وربما طُمّ بالتراب، فيموت خنقًا وغمًّا. ولهذا ذكَر الفقهاءُ أنّ ميتًا لو نُبش، فوُجِد قد مَزّق أكفانه وهو ميّتٌ، وجبت ديتُه على دافنيه. لأنّه، بتمزق أكفانِه، علِمنا أنّه دُفن حيًّا وأنّه كان مُسكَتًا. فكان موته بعد ذلك خطأً من دافنيه. قال بن عقيلٍ في الفصول، فيما أظنُّ بَعدَ طولِ عهدٍ: "هذه الواقعة وقعت في عصرنا، فتفتيتُ فيها بذلك". ولهذا قالوا أيضًا: يُتيقّن موتُه، إِن شٌكّ فيه، بانخساف صدغيه وميل أنفه وانفصال كفّيه واسترخاء رجليه؛ لأنّ الروح تَربط بعض الأعضاء ببعض، فبانفصالها يٌعلم زوالُه.
وأيضًا، فإِنّ مادّة ج- ن- ن ترجع إِلى معنى السِّتر، لا إِلى معنى الزوال والمفارَقة. عُلِم ذلك باستقراء موارِدها. فالجنون استتارُ لعقل، لا زوال العقل. فاعلم ذلك.
وقد سلك القاضي أبو بكرٍ وإِمام الحرمين في بيان أنّ العقل علمٌ ضروريٌ طريقًا آخر نحوًا من الأوّل. وهو أنّ العقل موجودٌ؛ إذ لا أثر للمعدوم. فهو إِمّا قديمٌ- وهو باطلٌ؛ إذ القديم لا يَحلّ المحدَثَ- أو حادثٌ. وهو إمّا جوهرٌ، أو عرضٌ. والأوّل باطلٌ؛ لأنّ الجوهر لا يقوم بالجوهر. والعرضُ ليس بكون ولا كونٍ؛ لأنّ العقل يوجد بدونها، وينتفى معها. فهو من قبيل العلوم. وليس نظريًا، لما سبق؛ ولا كلَّ ضروري، لأنّ بعض الضروريّات تحصل للمجانين. لكنّ إمام الحرمين يقول: "العقل والعلم جميعًا يُعلَمان بالتقسيم هكذا، لا بالتحديد، لقصور العبارة عن الوفاء بماهيّتهما". وقد خولف في ذلك. ١
1 / 73
المسألة الثالثة: في مكان العقل
وقد اختلف في ذلك حكماءُ الطبيعةُ وعلماءُ الإسلام. فقال بعضهم: "هو في الرأس، ومحلّه الدماغُ. وقال آخرون: "هو في البدن ومحّله القلبُ". والقولان منقولان عن أحمد والشافعيّ.
احتجّ الأوّلون من وجوهٍ.
أحدها: أنّ العقل إذا فسد، أو عَرَضت، له آفةٌ، بادر الحكماءُ إِلى علاج الدماغ دون القلب. وإِنما يُوضع الدواءُ يمقتضى الحكمة في موضع الداء. فدلّ على أنّ العقل في الرأس. واعتٌرِض على هذا بما لا حاصل له. وهو أنّ الصدر. فمّ يرى الدواءُ إِلى القلب بواسطة الأعضاء. وهذا ضعيفٌ؛ إذ يمكن ثبوتُ الدواء على الصدر بربطٍ أو إِلصاقٍ ونحوه. ولو صحّ أنّ العقل في القلب، لما أَعجَز الحكماءَ مداواتُه في محلّه.
الثاني: قد تبيّن، ما سَبَقَ، أنّ العقل قوةٌ مدرِكةٌ. ومحلُّ القوى المدرِكةِ كلّها الرأسُ: الظاهرِة منها، كالسمع والبصر والشمّ والذوق واللمس، وإِن اشتَرَك في اللمس جميعُ البدن؛ والباطنة، كالمخيِّلة والذاكرة والمفكرة والوهم والحسّ المشترك. فنظام الحكمة في الوجود أن تكون تلك القوّة بين تلك القوى.
الثالث: أنّ الرأس أشرف ما في الإِنسان وأعلاه. والعقل نور، إمّا بحقيقته، أو بأثره.
وشأن الأنوار أن تكون في الأماكن العالية، لتُشرِف على ما يستنير بها؛ كالشمس والقمر والنجوم بالنسبة إِلى الأرض، وعيني الإِنسان بالنسبة إلى سائر بدنه. وكذلك السُرُج والقناديل، جُعِلت مستعلية. فكذلك العقل، في قياسِ الحكمة ومقتضاها واستقراسِ آثارها، يُقتضَى أن يكون في أعلى الإِنسان، وهو رأسه.
الرابع: أنّ الدماغ لو فُقِد العقلُ. ولو قدّنا بقاءَ الإِنسان بعد فَقد قلبه حيًا، لم يَفقد العقلَ؛ لأنّه يَعقل بما في رأسه من العقل. وهذا وجهٌ ضعيفٌ؛ لأنّه دعوى محلّ النزاع. ثمّ هو معارَضٌ بِمثله سواء.
واحتجّ الآخرون بوجوهٍ.
1 / 74
أحدهما: أنّ العقل أنفَسُ ما في الإِنسان. والقلب أوثقُ محلِّ فيه. ولذلك جُعِل في الصدر، لما دونه من الوقايات. فاقتضت الحكمةُ جعلَ الأنفسِ في المكان الأوثقِ، كما تُوضع الجواهرُ النفسية في الأماكن الحريزة. وعورِض هذا بأنّ الرأس أوثقُ وأحرزُ، لما دونه مِن عظمِ القحف ونحوِه من الجواهر الصلبة.
الثاني: أنّ القلب أوّل ما يتكوّن من الإّنسان. فكان أولى بمحلّيّة العقل؛ لأنّ أوّليّة تكوين القلب دليلُ شرفِه والعناية الربّانيّة به. ففي جَعْل العقل فيه جَمعٌ بين شريفين نفيسين في محل واحدٍ. فيكون ذكل أعون على صلاح البدن، كاجتماع السلطان والوزير في المدينة. وأُجيبَ عنه بأنا لا نُسلِّم أنّ القلب أوّلُ متكوّنٍ من الإِنسان. بل للحكماء في ذلك ثلاثةُ أقوالٍ. أحدها ما ذكرتم. الثاني أنّه الدماغ؛ لأنّه مَجمعُ الحواسِّ الشريفة السابقِ ذكرُها. الثالث أنّه العُصعص؛ وهو موافقٌ لصحيح السنّة، وهو قولُه ﵇: "كلّ جسد ابن آدم يَبلى، إِلاّ عَجْب الذَنَبِ، ومنه تُبتدأ إِعادتُه".
فيكون أوّلُ القلب أوّل مكوَّنٍ منه؛ لكن لا يلزم من ذلك كونُه أشرفَ ما في الإِنسان؛ إِذ ربما سبقت أواخرُ الأشياء أوائلها شرفًا وفضلًا. وفي المعنى قولُ الشاعر:
لا تَقعُدن عن المكارم والعُلى ... فلربما سبق الأخيرُ الأوّلا
وقولُ الآخر:
افخرْ بآخِرِ مَن بُليتَ بحبّهِ ... لا فخر في حبّ الحبيب الأوّلِ
أوَليس قد ساد النبيُّ محمدٌ ... كل الأنام وكان آخِرَ مرسَلِ
سَلَّمنا أنّ أوّليّته تدلّ على شرفه، لكن لا نُسَلِّم أنّ ذلك يقتضي كونَ العقل فيه.
قولهم "ذلك أعونُ على صلاح البدن"، معارَضٌ بعكسه؛ وهو أنهما إِذا افتَرقا، فكان أحدهما في الرأس والآخر في البدن، كان أجدو بالصلاح. كما تُجعَل الشجعانُ
1 / 75
الأكفّاء في ميمنة العسكر وميسرته وقلبه؛ ولو اجتمعوا في موضعٍ واحدٍ، لانكسر من الجهة الأخرى. وكما تُفرَّق الحكّامُ والولاةُ في البلدان لإِصلاحها. واستعانة السلطان بالوزير لا تتوقّف على كونه معه بالمدينة؛ إِذ قد يُستعان برأيه على بُعد المسافة.
الثالث: وهو من أدلّة المشرِّعين، قوله تعالى: ﴿لَهٌمْ قُلُوب لا يَفقهُونَ بِهَا﴾، ﴿يَعْقِلُون بها﴾؛ ﴿إِنَ في ذَلِك لَذِكْرَى لِمن كانَ لهُ قَلْبٌ﴾؛ ﴿فإنها لا تعْمى الأبْصار ولَكن تَعْمَى القُلُوبُ التي في الصدُور﴾؛ ونحوه من الآي التي يُضاف فيها العقلُ أو أثره كله، وإِذا فسدت فسد الجسدُ كله؛ ألا وهي القلب". والجسد يفسد بفساد العقل؛ فدلّ على أنّه في القلب.
والجواب عن هذا جملةً وتفصيلًا:
أمّا الأوّل، فإنّ العقل والقلب، مع اختلاف مكانهما من الإِنسان، يتعاونان على صلاح البدن والنفس؛ إِذ نسبةُ العقل إِلى القلب نسبةُ ضوء الشمس ونحوها إلى العين. وكما لا إِدراك للبصر بدون واسطة الضوء، فلا إِدراك للقلب ولا اهتداء بدون العقل. إِذ نور العقل مشرِقٌ على القلب؛ فيه يهتدي ويدرِك ما يحتاج إِليه. فلمّا كان بينهما هذا التعاضد، كانا كالشيء الواحد المركب من جزأين. فصحّ أن يُتجوّز بأحدهما عن الآخر ويُضاف أحدُهما إِلى الآخر، على مذهب العرب في تجوُّزها عن الشيء بغيره، مِن لازمٍ، أو علّةٍ، أو سببٍ، أو مجاوِرٍ، أو مقارِنٍ، ونحو ذلك.
وأمّا الثانى، فقوله، ﴿لا يفقهونَ﴾، و﴿لا يعقلون بِهَا﴾، أي لا يَتلقّون بقلوبهم عن العقل ما يفقه ويعقله من خطابه المرشد لهم إِلى السعادة؛ لأنّ العقل هو آلة الفقه والفهم، لا القلب. وذلك لأنّا قد بيّنّا أنّ العقل هو آلة الفقه والفهم، لا القلب. وذلك لأنّا قد بيّنّا أنّ اهتداء القلب بما يُشرِق ويفيض عليه من نور
1 / 76
العقل. وقلوب الكفّار مطبوعٌ عليها، كما أخبر اللهُ عنهم. والقلب جوهرٌ مجوَّفٌ، كالعين والأذن؛ فإِذا خُتِم عليه، حال الختمُ والطبعُ بين داخله ونور العقل، فلا يتبصَّر؛ كما تحولُ الغشاوةُ، أو العمى، ونحوه من أعراض العين، بين القوّة الباصرة ونور الشمس ونحوها؛ فلا تُبصِر. فإِذا فهم العقلُ معنى الخطاب،
[ألقى] بنورِه إِلى القلب؛ فإِن صادفه منشرحًا، أضاء بنوره وامتدى، وإِن صادفه مختومًا عليه، بقي النورُ يموج من خارجٍ، والقلب مظلمٌ من داخله، فضلّ وغوى.
وكذا الكلام في قوله، ﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب﴾، وقوله ﴿لذكرى لمن كان له قلب﴾، أي منشرح، غير مطبوع عليه، يتلقى عن عقله ما يُلقى إليه من نور الهداية. بخلاف من له قلب مختومٌ عليه، فإِنّ ذاك كم لا قلب له، لعدم انتفاعه بلقبه، على مذهب العرب وغيرهم في الإِخبار بنفي الشيء لانتفاء فائدته؛ كقولهم "لا علم إِلاّ ما نفَعَ"، و"لا سلطان إِلاّ مَن عدَل"، ونحوه وعلى هذا يُحمل ما رُوِي عن عليُّ ﵁: "إِنّ العقل في القلب": أي هدايته وأثره في القلب.
وأمّا الحديث، فمعناه ما ذكرنا أيضَا؛ لأنّ صلاحَ بصلاح القلب إِذا تلَقّى نور الهداية عن العقل، وفسادَه بفساده إِذا أبى نورَ الهداية عن العقل، لانطماسه والختم عليه. أو يكون المراد النيّة والقصد اللذين محلّهما القلبٌ؛ فإِذا صَلَحا، ظهر الصلاحُ على الجسد ظاهرًا وباطنًا؛ وإذا فسدا، كان بالعكس. فيكون الحديث نازعًا منزع قوله ﵇: "الأعمال بالنيّات". ويُستأنَس على هذا التأويل، مع ظهوره بأنّ الحديثين- أعني حديثَ "الأعمال بالنيّات، وحديثَ "إِنّ في الجسد مضغةً، ألا وهي القلب"- هما من الأحديث الأربعة التي هي مدار الإسلام ومبانيه. والثالث "من حُسنِ إِسلامِ المرء تركُه ما لا يعنيه". والرابع "كلّ عملٍ ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌ". وفي الختم والطبع على القلب كلامٌ سيأتي -إن شاء الله- في موضعه.
1 / 77
والذي نختاره أنّ محلّ العقل الدماغ؛ لأنّ أدلّته أقوى وأسلمُ من المعارِض. وقد حُكِي عن الحَسَن وعطاءٍ أنّ الله سبحانه بعث العقلَ والحياء والسخاء إِلى آدم ليختار أحدَهما. فقال للعقل: "أين تكون أنت؟ " قال: "في الرأس". وقال للحياء: "أين تكون أنت؟ " قال: "في العين". وقال للسخاء: "وأنت؟ " قال: "في القلب". فقال للعقل: "قد اخترتُك". فقالا: "لو اخترتَ غيره، ما صحبناه".
وعلى هذه الحكاية إِشكالٌ. وهو أن يُقال: كيف كان آدم عاقلًا قبل العقل، حتى اختار العقلَ؟ وجوابه أنّه اختاره بالإلهام، كما تختار البهائمُ الأصلحَ لها، ولا عقلَ لها. ولعلّ آدم إنما اختار العقلَ لعلوّ همّته لاختياره أعلى العاقل، فهو موافقٌ لقوله ﵇، "إِنّ الله يحبّ معالي الأمور ويكره سفسافها". والله أعلم.
المسألة الرابعة: في فعلِ العقل وأثره
وهو الإِرشاد والهداية إِلى الصواب، إِذ خلا عن معارضٍ، من غلبةِ هوًى، أو فسادٍ في مزاجه، ونحو ذلك. والدليل عليه ما تواترت به، آي القرآن، من قوله تعالى، ﴿إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾، ﴿لأولى الألباب﴾. ولو لم يكن العقل هاديًا ومرشِدًا إِلى الصواب والحقّ، لما كان لتخصيص العقلاء بهذا الخطاب معنًى، ولما كان بينهم وبين البهائم فَرقٌ، ولما قامت حجة الله على ابن آدم. لأنّه بالعقل يَفهم خطابَ التكليف، فتتحقّق منه الطاعةُ والمعية، فيَحقّ له الثوابُ، وعليه العقابُ. ولهذا، رُفِع القلم التكليفيّ عن الصبيّ والمجنون والبهائم.
وقد سبق بيانٌ كيفية إرشاده. وهو أنّ نورَه يفيض على القلب من الدماغ. فمَن أراد اللهُ ﷿ إِرشادَه. جمع بين نور عقله وبصرِ قلبه بلا حائلٍ، ثمّ أيّدَهما بنورِ
1 / 78
التوفيق، كتأييد بصر الرأس والهواء الذي يجول فيه الشعاعُ بضوء الشمس. ومن أراد إِضلاله، حال بين نور عقله وقلبه، بأن خَتَم على سمععه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً. فمن يهديه من بعد الله؟ رّبنا لا تُزغ قلوبنا بعد إِذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً، إنّك أنت الوهّاب.
المسألة الخامسة: في تحقيق القول في التحسين والتقبيح
[مفهوم التحسين والتقبيح]
أعلم أنّ الأصوليّين تناقلوا هذه المسألة بهذه الترجمة خلَفًا عن سلَفٍ. وهي ترجمةٌ مجملةٌ لا تفيد حقيقة المقصود. ثمّ لَما شرعوا في تلخيص محلّ النزاع فيها، لم يَعْرُ تلخيصُهم لها عن إِجمالٍ وإبهامٍ. وأنا أذكُرُ معنى عبارتهم في ذلك، ثمّ أُعقب ذلك بما يقع عليه الاختيارُ من كلام العلماء الأخيار. فأقول، والله المستعان:
قال ابن بَرهان في كتاب الاعتصام: "مذهب أهل الحقّ من جميع أصحابنا أنّ الحَسَن والقبيح يُعرفان بالشرع. فلا حَسَن إِلا ما حَسَّنه الشرعُ، ولا قبيح إِلا ما قبّحه الشرعُ. وخالفَنا في ذلك جميعُ المعتزلة والخوارج والروافض والكرّاميّة والبراهمة والتناسخيّة والثنويّة (زاد غيرُه: "واليهود والنصارى")، وقالوا: "بالعقل يُعرَف حُسنُ الأشياء وقبحُها". والشرع إِذ وَرَد بتحسينٍ أو تقبيحٍ، فهو مخبِرٌ عن حُكم العقلِ بذلك، وأمَرَنا الاحترازَ عمّا قبّحَه".
ثمّ ذَكَر عن المعتزلة تقسيمًا سنذكره، إِن شاء اللهُ. ثمّ ذكر عباراتٍ للمعتزلة في تعريف الحسن والقبيح. فقال بعضهم: "الحسن هو الفعل العاري عن وجوه القبح". وقيل: "ما لا يستحقّ فاعلُه الذمَّ". قال: "وهما باطلان، بأفعال البهائم والمجانين".
1 / 79
قلتُ: لأّن أفعالهما لا توصف بحُسنٍ ولا قُبحٍ، فهي عريّةٌ عن وجوه القبح. وكذلك هما لا يستحقّان مدحًا ولا ذمًّا.
وقال الجبّائيّ: "الحَسَنُ ما للقادر عليه فعلُه". قلتُ: وهو دوري؛ لأنّا لا نعلم أنّ له فِعلَه حتى نعلم حُسنَه. فلو عرّفنا كونَه حَسَنًا بأنّه عرى عن وجوه القبح وعدمِ استحقاق فاعلِه الذمَّ، كان دورًا. وإِذا عُرِف الكلام على الحَسَن تعريفًا وتزييفًا، فالكلام على القبيح على وزانه في ذلك عكسًا.
ومذهبنا: الحَسَنُ ما وَرَد به الشرعُ اقتضاءً لفعله وإِثناءً على فاعل؛ فيتناول الواجبَ والمندوبَ. [والقبيحُ ما وَرَد به الشرعُ] اقتضاء لتركه وذمَّا لفِاعله؛ فيتناول الحرامَ والمكروهَ.
فإِن قيل: "المباح من أحكام الشرع؛ ولو تتناوله هذه القِسمةُ". فالجواب من وجوهٍ. أحدها: أنّ المباح لوقوع التخيير فيه صار كأفعال البهائم، لا حَسَنٌ ولا قبيحٌ، ولا مدحٌ فيه ولا ذمٌ. ولهذا، قالت المعتزلة: "إِنّه ليس من أحكام التكليف؛ إِذ التكليف يقتضي المشقّة، ولا مشقّة مع التخيير".
الثاني: قال ابن برهان: "المباح أيضًا إِ ن الشارع في إطلاق الثناء على فاعله. فتتناوله القسمةُ المذكورة". قلتُ: هذا إِنما يتحقق على رأى الكعبيىّ في قوله، "كلّ مباحٍ تَركُ حرامٍ؛ وتركُ الحرامِ واجبٌ". لكنّ هذا يوجب أنّه من قِسم الواجب، وأنْ لا مباح. بل يقال: إِنّ فعل المباحِ يَستلزم تركَ الحرامِ، فيتوجّه الثناءُ إِلى فاعلِه من هذه الحيثيّة. وبالجملة، في هذا الوجه شيءٌ.
الثالث: أنّ الإِسفرائينيّ لهذا الإِشكال قال: "الحَسَن هو المأذونُ فيه شرعًا"؛ فيتناول المباحَ. فلنا أن نُفسِّر الاقتضاءَ المذكور في قسمتنا بالإِذن. أو نقول: الاقتضاء يتضمّن
1 / 80
الإِذن. على أنّ على تعريف الإِسفرائينيّ مناقشةً. وهو أنّ المباح لا قبيحٌ ولا حَسَنٌ. والنزاع في أنّه حكمٌ شرعيٌ أولا لفظي، كما بانَ في أصول الفقه.
ثمّ قال ابن بَرهان في موضعٍ آخر: "مذهب أصحابنا أن وجوب الواجبات يُعرَف بالشرع. فقبل ووردِ الشرع، لا وجوب أصلًا.
وقال جماعةٌ من المتكلمين والفقهاء: كلّ حَسَنٍ، فوجوبه بالعقل. ثمّ منها ما يجب لنفسه؛ كردّ المغصوب، وإغاثة المطلوب. ومنها ما يجب لغيره؛ كالنظر، يجب لتحصيل العلم. ومنها ما يجب لكونه تركًا لقبيحٍ. قلت: هذا مِن قبيل ما يجب لغيره. فينحصر الواجبُ فيما يجب لنفسه أو لغيره.
وقال الآمدىّ: "الحاكم هو الله. ولا حاكم سواه. ويتفرّع عليه أنّ العقل لا يُحسِّن، ولا يُقبح، ولا يوجَب شكرًا لمنعمٍ، وأنّه لا حُكم قبل ورود الشرع. فهذه ثلاث مسائل.
الأوُلى: ذهبت المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة والثويّة إِلى أنّ الأفعال منقسمةٌ ذواتها إِلى حَسَنةٍ وقبيحةٍ. وذهب أصحابنا وأكثر العقلاء إِلى نفي ذلك.
قلتُ: فظاهر عبارة ابن بَرهان في حكايته عنهم، كلُ حَسَنٍ، فوجوبه بالعقل"، وقولِ الآمديّ، "الحاكم هو الله، ولا حاكم سواه"، أنّ مذهب القائلين بالتحسين والتقبيح أنّ العقل موجِبٌ وحاكمٌ. وبذلك صرّحَ بعضُ الأصوليّين.
فأمّا الإِمام فخر الدين أبو عبد الله الرازيّ، في المحصل والنهاية والمحصول وغيره من كتبه، وأتباعه، كالأُرمَويَّين، في الحاصل والتحصيل، فإِنهم سلكوا في تلخيص محلّ النزاع وحكاية مذهب الخصم طريقًا معناه أنّ الحُسن والقبح يُطلقان، ويُراد بهما
1 / 81
تارةً ما لا يلائم الطبعَ وينافِره، كالحلاوة والمرارة والفرح والحزن واللذّة والألم، وتارةً كونُ الشيء صفةَ كمالٍ أو نقصٍ، كالعالم والجهل والشجاعة والجبن والقدرة والعجز ونحو ذلك. وهما بهذين المعنَيين عقليّان، أي يُعرفان بالعقل. وفي هذا الإِطلاق نظرٌ أو تجوّزٌ. فإنهما بالمعنى الأوّل إِنما يُعرَفان بالطبع والحسّ والوجدان؛ والأمرُ قريبٌ. "وتارةً يُراد بهما كونُ الفعل موجِبًا للثواب والعقاب والمدح والذمّ، وهما بهذا المعنى شرعيّان عندنا، خلافًا للمعتزلة". هذه عبارته في المحصّل.
وقال في المحصول: "النزاع في كون الفعل متعَلِّقُ الذمِّ عاجلًا والعقابِ آجلًا".
قلتُ: ولفظ "التعلف"- أَعَني كونَ الذِّم متعلِّقًا بالفعل، أو الفعل متعلَّقّا للذمِّ- لا يدلّ على أنّ العقل موجبٌ لذلك. وفي عبارة المحصّل صرَّح بلفظ "الوجوب"؛ فظاهرُه ظاهرُ كلامِ الأوّلين قبله، في أنّه فهم أنّ مذهب المعتزلة أنّ العقل موِبٌ.
وناقشه القرافي على عبارة المحصول في شرحه له، بأن قال: "النزاع في كون الفعل متعلَّقًا للذمّ أو العقاب"، مُشعرٌ بأن ترتب الذمِّ والعقاب على الفعل متنازعٌ فيه.
وليس كذلك عندنا ولا عندهم؛ إذ يجوز أن يُحرِّم الله تعالى ويوجِب، ولا يُعَجِّل ذمًّا أصلًا، بل يحصل المقصود بالوعيد من غير ذم. ويجوز أن يُكلف، ولا يؤجِّل العقابَ، بل يُعجِّله عقيب الذنب؛ كما أهلك كثيرًا من المجرمين عقيبَ ذنوبهم. لكنّ الله سبحانه قدّر بإِرادته تعجيلَ الذمِّ وتأخير العقابِ. وغيره ممكنُ عند الفريقين. وإِنما النزاع في كون الفعل متلَّق المؤاخَذة الشرعيةِ كيف كانت، ذمًّا أو غيره، عاجلةً أو آجلةً، هل يستقلُّ العقلُ بذلك أم لا؟ "
قلتُ: هذا كلامٌ جيدٌ لا غبار عليه. هذا الذي حضَر مِن حكاية كلامهم. وظاهر أكثره أنّ العقل موجبٌ ومحرِّمٌ على جهة الاستقلال، لاستقلال الحُسنِ والقبحِ بترتب الأحكامِ، لارتباطها بها عقلًا. والذى يدل قطعًا أنهم فهموا أنّ الفضلاء المعتبرين
1 / 82
منهم يستدلّون بقوله تعالى، ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾، ونظائرها من الآي. ولو كان العقل موجبًا أو حاكمًا، لأوجب العقابَ قبل البعثة؛ وهو خلاف النصّ.
والتحقيق في ذلك أنّ مذهب المعتزلة أنّ الفعل إنِ اشتمل على مصلحةٍ خالصةٍ أو راجحةٍ، اقتضى العقلُ أنّ الله سبحانه طلبَه. وإِن اشتمل على مفسدةٍ خالصةٍ أو راجحةٍ، اقتضى العقلُ أنّ الله سبحانه طَلَب تركَه. وإِن تكافأت مصلحةُ الفعل ومفسدتُه، أو عَرى عنهما أصلًا، كان مباحًا؛ وليس حكمًا شرعيًا عندهم، لثبوته قبل ورود الشرع. وأنّ العقلَ أدرَك أنّ الله سبحانه يجب له لحكمته البالغة أن لا يَدَع مصلحةً في وقتٍ ما إِلاّ أوجبها وأثاب عليهما، ولا يدع مفسدةً في قوتٍ ما إِلاّ حرَّمها وعاقب عليها، تحقيقًا لكونه حكيمًا؛ وإلاّ لفاتت الحكمةُ في جانب الربوبية؛ وهو خلاف الإِجماع على كمال حكمته تعالى. فعندهم، إِدراك العقل، لما ذكرناه، مِن قبيل الواجبات للعفل، لا من قبيل الجائزات، كما نقول نحن. بل عندهم، كما وَجَب في العقل أنّ الله سبحانه متّصفٌ بصفات الكمال من العلم والقدرة والإِدارة، فكذلك وَجّب في العقل أنّ الله سبحانه يوجِب المصالح ويثيب عليها، ويحرِّم المفاسدَ ويعاقِب عليها.
فتَلخّص من هذا كلّه أنّ إِيجابَ الله للمصالح وإِثابته عليها، وتحريمه للمفاسد وعقابَه عليها، جَزَم به العقلُ عندهم جزمًا. وعندنا إِنما جوزه تجويزًا. وليس مرادهم أنّ الأوصاف مستقلة بالأحكام، ولا أنّ العقلَ موجبٌ ومحرمٌ.
هذا حاصل ما قرّره القرافي ﵀ في شرح المحصول. وهو الحقّ الذي لا يجوز عنه العدولُ. ولم أَرَ هذا التحقيقَ لغيره. وأنت إذا قابلت بين هذا التقرير وبين ظاهرات عبارات الأصوليّين، وجدتهم قد أحالوا المعنى ونقلوا عن المعتزلة ما لا ينبغي لعاقلٍ ولا يتسنّى.
وإِذ ثبت من مذهبم ربطُ المدح والذمّ والثواب والعقاب بالمصالح والمفاسد، وأنّ العقل اقتضى ذلك وأدركه جزمًا، فقد قالوا: "إِنّ الحُسنَ والقبح منه ما يدركه العقلُ ضرورةً، كحُسنِ العدل والصدق النافع، وإِنقاذ الغرقى، وتخليص الهلكى، ونحوه،
1 / 83
وكقبح الظلم، والكذب، وإِهلاك البريء، والتقاعد عن تخليص المُشفِي على الهلاك مع القدرة عليه، ونحوه.
"ومنه ما يدرِكه نظرًا، كحُسن الصدق الضارّ، وقبحِ الكذبِ النافع، لتعارُض المصلحة والمفسدة فيه؛ فيُنظر في أيّهما أرجح، بخلاف الأوّل، فإِنّه ضروري لتمحضِ مصلحتِه.
"ومنه ما لا سبيل للعقل إِلى إِدراكه بدون التوقيف، كحُسن العبادات، كالصلاة والزكاة، وقُبح المحرَّمات النافعة، كالخمر ونحوها، وكتقدير نصات الزكوات وأُروش الجنايات، وإِيجاب صوم آخِر يومٍ من رمضان، وتحريم صوم الذي بعده، وتحريم صوم الأيّام الخمسة، ومشروعيّته في غيرها من الأوقات، وتحريم الصلاة في الأوقات الخمسة والأماكن السبعة، ومشروعيّتها في غيرها من الأزمنة والأمكنة. وذلك هو حظّ النبوّات، وفائدة إِرسال الرسل، هو وغيره من فوائد البِعثة على ما بيّنه العلماءُ".
وحاصل ذلك أنّ العقل إنِ أَدرَك كونَ الفعلِ مصلَحةً أو مفسدةً جَزم بارتباط الثواب أو العقاب بها ابتداءً. وإن لم يُدرِك ذلك، تَوقف في جزمه على تعريف الشرع له بكونه مصلحةً أو مفسدةً.
[مآخذ الخلاف في مسألة التحسين والتقبيح]
[المأخذان الكيّان]
وإِذ قد تلخَّص محل النزاع، فنذكر مآخذ الخلاف، وهو من وجهين.
أحدهما: أنّ الحُسن عندهم صفةٌ قامت بالفعل، أَوجبَت كونَه حَسنًا، والقبحَ صفةٌ قامت به أَوجبَت كونه قبيحًا، حملًا للأفعال على الأجسام. فإِن الحُسن والقبح إنما هو نسبةٌ وإِضافةٌ حاصلةٌ بين الفعلِ واقتضاءِ الشرعِ إِيجاد والكفَّ عنه. فإِذا قال الشرعُ: "صلِّ! "، قلنا: الصلاة حَسنةٌ: "لا تزن! " قلنا: الزنا قبيحٌ. وعلى هذا فقِسْ.
وما ذكروه، مِن أنّ الحُسن والقبح صفتان للفعل، باطلٌ، لأنّ الصفات أعراضٌ؛
1 / 84
والفعلُ عَرضٌ؛ والعرضُ لا يقوم بالعرض. لأنّ العرض لا يقوم بنفسه؛ وإنما يقوم بالجوهر؛ فكيف يقوم به غيرُه! وأيضًا، لو قام العرضُ بالعرض، لانقلب العرضُ جوهرًا. إِذ لا معنى لقيام العرض بالمحلّ إِلاّ كونه في حيّازه. والعرض لا حيّز له؛ إِلا أن ينقلب جوهرًا. لكنّه محالٌ.
فأمّا ما يشكِّكون به على هذا- مِن أن السرعة والبطء عَرضان، ويقومان بالحركة؛ والحركة عرضٌ؛ وذلك عرضٌ قد قام بعرض؛ ومنه قولنا، "سوادٌ حالكٌ"، و"لونٌ كثيفٌ ورقيقٌ"؛ فالَحلَك والكثافة والرقّة أعراضٌ قامت باللون؛ وهو عرضٌ- فليس بشيءٍ لأنّ هذه الأعراض كلّها إِنما قامت بالجواهر بواسطة الأعراض. فحاصل الأمر أنّ الأعراض لا تقوم إِلاّ بالجواهر؛ نعم، تارةً بلا واسطةٍ، كالحركة، وتارةً بواسطةٍ، كالسرعة قامت بالجوهر بواسطة الحركة. وإذا ثبت هذا، فقياس الأفعال على الأجسام في قياس الحُسن والقبح بها لا يصح، لصحة قيام الأعراض بالأجسام والجواهر، دون الأعراض.
المأخذ الثاني: أنّ الشرع وَرَد عندهم مقرّرًا لحكمِ العقل ومؤكدًا له. وعندنا، وَرَد الشرعُ كاسمع شارعًا للأحكام ابتداءً. وتحقيق ذلك أنّ العقل احتيج إليه قبل الشرعِ لتقرير مقدّماته، كالتوحيد، وجواز البعثة، والنظر في المعجِز كالنائب للشرع في ذلك. كما إِذا ملَك السلطانُ مدينةً، بَعث نائبه بين يديه ليزيّنها لدخوله، ويُقيم له الإقامات، ويهييء له المساكنَ؛ حتى إذا دخلها السلطانُ، انعزل النائبُ، وصار الحكمُ له. كذلك العقلُ، إِذا قَرّر مقدّمات النبوّةِ تَثبَّت وانعزَل وصار مأمورًا بامتثال ما يصدر عنها.
ولهذا، أجمع أهلُ الملّة على أنّ النبيّ الصادق إِذا أخبر خبرًا لا يدركه العقلُ، وجب الإيمانُ به وتلقّيه بالقبول. وتلك خصيصة الإِيمان بالغيب، اتى مَدَح اللهُ بها المؤمنين.
وقد وافق المعتزلة على هذا في تقسيمهم للحَسَنِ إِلى ما يدرِكه العقلُ ابتداءً، وإِلى ما لا يدركه إِلاّ بتوفيق الشرع. ولهذا، لَمَّا قلّدوا عقولَهم في إِنكار عذاب القبر، وسؤال منكَرٍ ونكيرٍ، ووزنِ الأعمال، وقعوا في عقال الضلال؛ لأنهم عدلوا عن قول المعصوم،
1 / 85
إِلى تقليد المتّهم الموصوم؛ إِذ العقل يعرض له الأغلاطُ، فينزلّ عن سواء الصراط.
فإِن قيل: "لو اتُهم العقلُ بعد النبوّة في نظره، لاتُهم في ذلك قبلَها في تقرير مقدّماتها؛ فلم يكن به وثوقٌ. ثمّ تزلزلت قواعدُ النبوّات، وكان أهلُها بانين على الماء، أو على متن الهباء".
قلنا: قبلَ النبوّة، لم يكن له معارِضٌ يرجُح عليه. وبعدها، هي أقوى منه. ولا يلزم مِن اتهامِ الشاهدِ مع من يخالفه اتهامه إِذ كان وحده لا مخالف له. وهذا من أصعب أسئلتهم. وجوابه ما ذكرنا. فحاصل هذا المأخذ أنّ الشرع مؤكدٌ عندهم، وعندنا مؤسسٌ. والقاعدة المتّفق عليها أنّه إِذا تعارض التأكيدُ والتأسيسُ، كان التأكيدُ أولى، لأنّه أكثر فائدةً.
وممّا يشبه هذا المأخذَ اختلافُ الأصوليّين فيما إِذا وَرَد حديثان، أحدهما مخالفٌ للأصل، ناقلٌ عن حُكمه، والآخر موافقٌ له مقررٌ لحُكمه. فقال قومٌ: "يُقدَّم المقرِّرُ؛ لأنهما دليلان يعضد أحدُهما الآخر". وقال آخرون: "يُقدَّم الناقلُ؛ لأنّه أفاد فائدة زائدة".
ومن فروع هذا الأصل النزاعُ في تقديم بيِّنةِ الداخل والخارج؛ لأنّ بيّنة الداخل كالحديث المقرّر للأصل؛ لأنها مقوّيةٌ لدلالة اليد. وبيّنة الخارج كالحديث الناقل عن حكم الأصل.
فهذان مأخذان كليّان للمسألة
[المآخذ الجزئيّة]
أمّا الأدلّة الجزئيّة، فلنذكر منها وجوهًا.
أحدها: لو اقتضى العقلُ قُبحَ شيء من الأفعال، لكان قبحه لمّا من الله، أو من العبد.
والأول باطلٌ؛ إِذ لا يقبُح من الله شيء، بإتفاقٍ. وإِن نوزع فيه، فبرهانه في موضعه. والثاني أيضًا باطلٌ؛ لأنّ فِعل العبد إِمّا اضطراري أو اتفاقي؛ ولا قُبح في واحد منهما. وبيان انحصاره في الاضطرار والاتفاق أنّ فِعل العبد إِن صدر منه عند خلقِ الله سبحانه داعى الفعل فيه، صار وقوعُه واجبًا بالضرورة؛ فكان اضطراريًّا. وإِن صدر عند استواء داعي الفعل والترك، وجاز الترجيحُ من غير مُرجِّحٍ، كان ذلك بالاتّفاق؛ فكان اتّفاقيًّا.
1 / 86