قال: وقولنا (وقافية) تحرز من الموزون وليس مقفى، نحو ما أنشده القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإعجاز له:
ربّ أخٍ كنتُ به مغتبطًا ... أشد كفِّى بُعَرى صُحبتهِ
تمسكًا مني بالودِّ ولا ... أحسبُه يَزهد في ذي أملِ
قلت: يلزم عليه أن لا يكون ما فيه عيب الإكفاء والإجازة شعرًا.
واللازم باطل، فإنه شعر بالإجماع، وإن كان معيبًا، وبعد هذا كله فهو منطبق على ما كان من الكلام بالمثابة المذكورة، وهو خارج عن الأوزان العربية، والقوم يأبون ذلك، فإن موضوع هذا العلم عندهم الكلام الموزون بشيء من هذه الأوزان المخصوصة المقررة فيه. ولو قيل: (الشعر كلام وزن على قصد بوزن عربي لكان حسنًا) فقولنا (كلام) جنس يشمل المحدود وغيره، وتصدير الحد به مخرج لما لا معنى له من الألفاظ الموزونة. وقولنا (وزن) فصل يخرج الكلام المنثور. وقولنا (على قصد) يخرج ما كان وزنه اتفاقيًا، كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها كذلك، كما في قوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وكلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقيًا غير مقصود، كما في قول النبي ﷺ:
هل أنتِ إلا إصبعٌ دميتِ ... وفي سبيل اله ما لقيتِ
فمثل ذلك لا يسمى شعرًا، نعود بالله من ذلك. وكذا لو وقع من متكلم لفظ موزون لم يقصد كونه على طريقة الموزون كما يتفق لكثير من الناس، ويقع مثل ذلك حتى لعوام لا شعور لهم بالشعر، ولا إلمام لهم بالوزن البتة، وقد عمد قوم من الشعراء إلى آيات شريفة أدرجوها في أشعارهم إخلالًا منهم بما يجب من مراعاة الآداب والوقوف عند حدود الله، كقول ابن العفيف التلمساني يتغزل:
يا عاشقين حاذروا ... مبتسمًا عن ثغرهِ
فطرفه الساحرُ مْذ ... شكتكمُ في أمرهِ
يريد أن يخرجِكُم ... من أرضكم بسحرهِ
وكقول أبي نواس فيما حكى عنه موطئًا للآية الشريفة التي تلوناها آنفًا.
خُطّ في الأرداف سطرٌ ... في عروض الشعر موزونْ
وهذا من أفحش السخف وأقبحه، والتهاون بالوقوع في ذلك يجر إلى الانسلال من الدين والعياذ بالله تعالى.
والعجب من قوم يروج عليهم مثل هذا الصنع القبيح، ويستلذون سماعه، ويرونه من الظرف واللطافة، ويعمرون مجالسهم وأنديتهم بمثل ذلك. أولئك لا خلاق لهم في الدنيا والآخرة.
فإن قلت: قد جعل علماء البديع تضمين المتكلم كلامه، شعرًا كان أو نثرًا، شيئًا من القرآن- لا على أنه منه- من المحاسن، وسموا بالاقتباس، كما هو معروف، ومعنى قولهم (لا على أنه منه) أن يورد الكلام المقتبس على وجه لا يكون فيه إشعار بأنه من القرآن، بأن لا يذكر فيه: قال اله تعالى، ونحوه، على ما صرح به التفتازانى، قلت: ذلك محمول على ما إذا لم يؤد الاقتباس إلى إخراج القرآن الشريف إلى معنى غير لائق بجلالته، وأما إذا استعمل على ما فيه إخلال بإجلاله وتعظيمه، فلا يشك مسلم في منع ذلك وتحريمه، وربما أدى إلى الكفر والعياذ بالله. ومن ذا الذي يفهم عن علماء الإسلام أن (الاقتباس) من البديع مطلقًا، سواء كان على وجه حسن أو غيره، كيف ما كان؟ هذا ما لا سبيل إليه أبدًا. أو هو محمول على ما إذا ذكر المتكلم كلامًا وجد نظمه في القرآن فأورده غير مريد به القرآن.
قال الشيخ بهاء الدين السبكي في (شرح التلخيص): فلو أخذ مرادًا به القرآن كان ذلك من أقبح القبيح، ومن عظام المعاصي، نعوذ بالله منه. قال: وهذا هو معنى قول المصنف، يريد صاحب التلخيص، (لا على أنه منه) .
قلت: ولوسلم أن المراد بالاقتباس ما ذكر، وهو الأخذ من القرآن لا على أن المراد به التلاوة، فلا يكون ذلك عذرًا لمن فعله على وجه المجون والسخف الذي يتعاطاه المفحشون من الشعراء، ولا ترتفع به الملامة عنه، ولا يسقط بذلك ما يتوجه عليه شرعًا من تأديب وزجر وإقامة حد، ولو فتح باب لقبول العذر لمثل هذا لتطرق إلى الدخول منه كل مريض القلب، منحل عرى الدين، واتخذه ذريعة إلى الاسترسال في الاستخفاف بالشريعة، والعياذ بالله والله أسأل أن يوفقنا لاتباع سبيل السلف الصالح في القول والعمل بمنه وكرمه.
1 / 3