قال الناظم رحمه الله تعالى:
وللشعرميزانٌ تسمى عروضُهُ ... بها النقصُ والرجحانُ يدريهما الفتى
أقول: أورد كلامه في هذا البيت على وجه يشعر بتعريف العروض، وكأنه يشير إلى ما عرفه به بعض الفضلاء حيث قال: (العروض آلة قانونية يتعرف منها صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها) .
فغن قلت: الشعر في هذا التعريف مقيد بالعربي وهو في البيت غير مقيد به، فأنى يشعر كلام الناظم بذلك؟ قلت: لام التعريف من قوله للشعر هي للعهد الذهني، وذلك أن الشعر الذي يعرض فيه العروضيون كلامهم إنما هو العربي، ولما كان الناظم ذمنهم علم بقرينة الحال أن مراده بالشعر ما هو معهود في الأذهان من الشعر المتعارف عند القوم الدائر فيما بينهم، وليس إلا العربي.
وقد ذكروا في وجه تسمية هذا العلم بالعروض وجوهًا أقربها أن العروض اسم لما يعرض عليه الشيء، فنقل إلى هذا الفن لأنه يعرض عليه الشعر، فما وافقه فصحيح وما خالفه ففاسد.
وقال بعض شارحي الساوية: الذي وقع في خاطري أنه سمي بالعروض لأن الخليل ألهمه في العروض، وهي مكة، فسماه بها تبركا وتيمنا، ورغم أن هذا أجود مما ذكروا.
فإن قلت: ماذا أراد الناظم (بالنقص والرجحان)؟ قلت: الظاهر أنه أراد بالنقص مخالفة الطريقة العربية في وزن الشعر، وبالرجحان موافقتها فيه، فما خرج عن أوزان العرب كان ناقصًا أي لا يعتبر، وما جرى على أسلوبها كان راجحًا، أي معتبرًا معتدًا به عند أئمة هذا الشآن.
وقال الشارح الشريف: (يريد أن صناعة العروض لما كانت هي الآلة التي يعرف بها صحة أوزان الشعر كانت له كالميزان الذي يظهر لك اعتدال الشيئين من استواء كفتيه، ويبين التباين برجحان إحداهما على الأخرى أو نقصها عنها) .
قلت: قضية هذا أن يكون النقص والرجحان جميعًا مشارًا بهما إلى مخالفة شعر العرب، وفيه ما فيه فتأمل.
فإن قلت: كيف يضبط يسمى؟ بالتاء المثناة من فوق، أم الياء آخر الحروف؟ قلت يجوز الأمران معًا، وذلك أن كل لفظتين وضعتا لذات واحدة إحداهما مؤنثة والأخرى مذكرة، وتوسطهما ضمير، جاز تأنيث الضمير وتذكيره. ذكره ابن الحاجب في شرح مفصل.
ولا يخفى أن الميزان مذكر والعروض مؤنث، وأن المراد بهما في هذا المقام واحد، وهو ما وضعنا له من هذا العلم، فقوله (يسمى) محتمل الضمير، فإن اعتبرت تذكير الميزان جعلت الضمير مذكرًا، وإن اعتبرت التأنيث باعتبار العروض جعلته مؤنثًا، والتأنيث هنا أحسن لأن العروض مؤنثة، وهي في المعنى خبر عن الميزان، والخبر محط الفائدة. وإلى نحو ذلك أشار ابن الحاجب حيث تكلم على قول الزمخشرى في المفصل بأثر تعريفه للكلام: (ويسمى الجملة) .
والضمير المجرور من قوله (بها) يجوز أن يعود على العروض، وأن يعود على الميزان باعتبار كونه آلةً، أو باعتبار أن المراد به العروض، وهي مؤنثة كما سبق. فإن قلت هل من فرق بين التقديرين؟ قلت: نعم، فإنا إن أعدنا الضمير على العروض كانت الجملة بأسرها وهي قوله (بها النقص والرجحان يدريهما الفتى) لا محل لها من الإعراب، وإن أعدناه على الميزان كان لها محل من الإعراب، وهو الرفع على أنها صفة ثانية للميزان، فحرره.
وأما الشعر فقال الخليل: هو ما وافق أوزان العرب، ومقتضاه أنه لا يسمى شعرًا ما خرج عن أوزانهم، بل وأن لا تكون أوزان العرب نفسها شعرًا، إذ الموافق للشيء غيره، فلو دخلت أوزان العرب فيه لزم مغايرة الشيء لنفسه وهو باطل. وبعضهم عرفه بأنه: (الكلام الموزون، المقصود به الوزن المرتبط لمعنى وقافية) . قال: فالوزن تساوي شيئين عددًا وترتيبًا. قال: والقصد مخرج لما ورد في القرآن والحديث من آيات وكلمات موزونة. قال: وقولنا المرتبط لمعنىً مخرج لما لا معنى له من الكلام الموزون، نحو ما أنشده القللوسى:
وجهُكَ يا عْمرو فيه طولُ ... وفي وجوه الكلاب طولُ
والكلبُ يحمى عن المواشي ... ولستَ تحمي ولاتصولُ
مستفعلن فاعلن فعولن ... مستفعلن فاعلن فعول
بيت كما أنتَ ليس فيه ... شيءٌ سوى أنه فضولُ
قلت: قوله (الكلام) يغني عن قوله (المرتبط لمعنى) ضرورة لا كلام إلا وهو مرتبط لمعنى، إذ لو خلا عن معنى يرتبط له لم يكن كلامًا.
1 / 2