عثمان بن عفان: بین خلافت و ملک
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
ژانرها
وخرج بهما إلى المسجد في الصبح بعد أن نودي في الناس أن الصلاة جامعة، فلما تم جمع الناس صعد عبد الرحمن المنبر فدعا دعاء طويلا ثم قال: «أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم.» قال سعيد بن زيد وهو في محله: إنا نراك لها أهلا. وأجابه عبد الرحمن: أشيروا علي بغير هذا. وأشار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو بعلي، وأشار عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن أبي ربيعة بعثمان. وأدى اختلاف الفريقين إلى تشاتم بين عمار وابن أبي سرح. وخشي سعد بن أبي وقاص أن يمتد الخلاف وتثور ثائرته، فصاح: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس! قال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
ألمح الآن عبد الرحمن بن عوف وهو بمجلسه على المنبر والمسلمون من حوله قد امتلأ بهم فراغ المسجد، فلا يفوتني شيء من أمارات الجد البادية على وجهه. إنه عزم أن يجعل الخلافة لعثمان وأن يدعو الناس لبيعته. أتراهم يسارعون إلى تلبية دعوته؟ أم ينقسمون ويجري بينهم ما جرى منذ هنيهة بين عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي سرح؟ لئن حدث هذا الأمر وافتتن الناس لتكونن الطامة الكبرى، ولتصبحن المدينة مسرحا لاضطراب يستطير شره. فكثرة الناس عبيد لأهوائهم ومنافعهم، وهم يضحون في سبيلها بأمن الدولة وسلامتها. ولكن التردد في تولية الخليفة لا يحسم الشر ولا يجنب المسلمين الفتنة بل هو أدعى إلى قيامها وإلى اشتدادها؛ لذا دعا عبد الرحمن عليا فأخذ بيده، وقال له: هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ فأجابه علي: «أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي.» وأرسل عبد الرحمن يده ودعا عثمان وأخذه بيده وقال له: «هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟» وأجابه عثمان: «اللهم نعم.» فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال ثلاثا: «اللهم اسمع واشهد.» ثم قال: «اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك، وجعلته في رقبة عثمان.» وبايعه. عند ذلك أقبل من بالمسجد يتزاحمون يبايعون عثمان.
تختلف الروايات في موقف علي من بيعة عثمان، ولكنها تجمع على أن الناس أقبلوا على بيعة الخليفة الشيخ أفواجا، لم يختلف منهم أحد ولم يعترض أحد. أفكان ذلك حبا منهم لعثمان؟ أم اغتباطا بالفراغ من أمر خطير في حياة الدولة لم يكن من الفراغ منه بد؟ فقد كان الرجال الستة موضع إجلال المسلمين وإكبارهم. بل لقد نسب إلى علي أنه قال بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وما كانت في قريش تداولتموها بينكم»؛ لذلك لم يثر عدول عبد الرحمن بن عوف عن علي بن أبي طالب ثائرة، بل قابل الناس خلافة عثمان مقابلة رضا واطمئنان.
أما علي بن أبي طالب فتختلف الروايات في موقفه من عثمان اختلافا يتعذر معه ترجيح إحداها. روى ابن سعد بإسناد أن أول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب. وروي بإسناد آخر أن عليا بايع عثمان أول الناس ثم تتابع الناس فبايعوه. وروى ابن كثير أن عبد الرحمن بن عوف قعد على المنبر مقعد النبي، وأجلس عثمان بعد أن بايعه على الدرجة الثانية. وجاء إليه الناس يبايعونه وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال: آخرا. ويسوق الطبري روايتين تدلان على أن اختيار عثمان ترك في نفس علي أثرا عميقا. أما الأولى فتذهب إلى أنه لما أقبل الناس يبايعون عثمان بعد أن بايعه عبد الرحمن، تلكأ علي، فقال عبد الرحمن:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما . فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة أيما خدعة! أما الرواية الثانية فتجري بأنه لما بايع عبد الرحمن عثمان قال له علي: حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتهم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك. والله كل يوم هو في شأن. وأجاب عبد الرحمن: «يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان.» وخرج علي وهو يقول: «سيبلغ الكتاب أجله.»
يشير ابن كثير إلى روايتي الطبري هاتين فيقول: «وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره من رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: «خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه»، وإنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن:
نكث فإنما ينكث على نفسه
إلى آخر الآية، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وفاعليها، والله أعلم.»
يتعذر ترجيح إحدى هذه الروايات. ويغلب على الظن أن الكثير منها وضع من بعد دعاية لأغراض سياسية. من ذلك ما فسر به الطبري قول علي بن أبي طالب: خدعة وأيما خدعة، وذلك حين دعاه عبد الرحمن بن عوف لبيعة عثمان حتى لا ينكث على نفسه. فقد ذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص لقي عليا في ليالي الشورى فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وإنه ما أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ولكن الجهد والطاقة فإنه أرغب له منك»، ثم لقي عثمان فقال له: «إن عبد الرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فأقبل.» ولست أشك في أن هذه الرواية نسجت بعد الذي كان بين علي وعمرو بن العاص عند الخلاف مع معاوية. فلم يكن عمرو كارها لعثمان حين مقتل الفاروق. وإن طائفة من الروايات لتجري بأن عثمان عزل عمرا عن مصر بعد قليل من توليته. والإجماع منعقد على أن عثمان استعان بعمرو حين هاجم الروم الإسكندرية، فلما انتصر ابن العاص أراد عثمان أن يجعله أميرا على جند مصر مع بقاء عبد الله بن أبي سرح واليا عليها وصاحب خراجها فرفض عمرو وقال: أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها! ثم عاد إلى مكة وبقي بها حتى انضم إلى معاوية في خلافه مع علي. وهذا كله يشهد بأن عمرا وعثمان حين الشورى كانا على وفاق يدعو عمرو لخدعة علي؛ وهو لذلك يقطع بأن الرواية التي أوردها الطبري تعليلا لقول علي: «خدعة وأيما خدعة»، منقوضة من أساسها.
وأعتقد كذلك أن ما أورد من الألفاظ على لسان علي أو عبد الرحمن بن عوف أو غيرهما أدنى إلى أن يكون موضوعا عبر به واضعوه عما اقتنع بعضهم بأنه حدث، وما أراد بعضهم به الدعاية السياسية لغرض بذاته. ولست أريد الإسهاب في الإبانة عن الحجة التي تدعوني لهذا الاعتقاد. وحسبي أن أشير إلى ما ذكره جامعو الحديث عن النبي
صفحه نامشخص