فأخلق بمثل هذا إذا عاين جنة الرضوان أن يتمثل قول القائل:
وكنت أرى أن قد تناهى بى الهوى ... إلى غاية ما بعدها لي مذهب
فلما تلاقينا، وعاينت حسنها ... تيقنت أني إنما كنت ألعب
إن كبير الهمة لا يعتد بما له فناء، ولا يرضى بحياة مستعارة، ولا بقنية (¬1) مستردة، بل همه قنية مؤبدة، وحياة مخلدة، فهو لا يزال يحلق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقه دون عليين، فهي غايته العظمى، وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر، ولا تعب ولا نصب، ولا هم ولا غم ولا حزن، إنما هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، في حبرة ونضرة، في دور عالية بهية، وهناك فقط تقر عينه، وتهدأ نفسه، ويستريح قلبه، قال تعالى في أهل الجنة: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}.
فالجنة هي الوطن، والأوطار إنما تطلب في الأوطان، أما الدنيا فهي دار غربة منذ أهبط إليها الأبوان:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
...
صفحه ۶۶