(الملك والكرامة بالحقيقة في الدنيا لأولياء الله -عز وجل- وأصفيائه الراضين بقضائه، فالبر والبحر والأرض والحجر والمدر لهم ذهب وفضة، والجن والإنس والبهائم والطير لهم مسخرون، لا يشاءون إلا ما شاء الله، وما شاء الله كان، ولا يهابون أحدا من الخلق، ويهابهم كل الخلق، ولا يخدمون أحدا إلا الله -عز وجل-، ويخدمهم كل من دون الله، وأين لملوك الدنيا بعشر هذه الرتبة، بل هم أقل وأذل، وأما ملك الآخرة فيقول الله تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} وأعظم بما يقول فيه رب العزة "إنه ملك كبير"، وأنت تعلم أن الدنيا بأسرها قليلة، وأن بقاءها من أولها إلى آخرها لقليل، ونصيب أحدنا من هذا القليل قليل، ثم الواحد منا قد يبذل ماله وروحه حتى ربما يظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، وإن حصل له ذلك فيعذر، بل يغبط، ولا يستكثر ما بذل فيه من المال والنفس (¬1)، نحو ما ذكر عن آمرىء القيس حيث يقول:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا، أو نموت فنعذرا
فكيف حال من يطلب الملك الكبير في دار النعيم الخالد المقيم؛ أيستكثر مع ذلك أن يصلي ركعتين لله تعالى أو ينفق درهمين أو يسهر ليلتين، كلا بل لو كان له ألف ألف نفس، وألف ألف روح، وألف ألف عمر كل عمر مثل الدنيا وأكبر وأكثر، فبذل ذلك كله في المطلوب العزيز؛ لكان ذلك قليلا، ولئن ظفر بعده بما طلب، لكان ذلك غنما عظيما، وفضلا من الذى أعطاه كثيرا) اه (¬2).
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن رجلا يجر على وجهة من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في طاعة الله -عز وجل- لحقره يوم القيامة" (¬3)، وذلك لما يرى وينكشف له عيانا من عظيم نواله، وباهر عطائه.
صفحه ۶۵