کوپرنیکوس، داروین و فروید: انقلابها در تاریخ و فلسفه علم
كوبرنيكوس وداروين وفرويد: ثورات في تاريخ وفلسفة العلم
ژانرها
2 ، تمهيد). أشار كانط إلى أن الفلسفة في حاجة إلى تغيير في «منظورها»؛ فالتجريبية نظرت إلى العقل بوصفه ورقة بيضاء. ومن خلال الرصد والاستدلال الاستقرائي يكتسب البشر انطباعات شعورية عن العالم المادي، ومن هذه الانطباعات يشكل العقل الأفكار التي تملأ ببطء هذه الورقة البيضاء. أما العقلانية فقد سلحت العقل البشري بقدرات فطرية؛ فمن خلال التفكير الخالص يستطيع العقل البشري فهم البنية الأساسية للعالم الطبيعي. كان الرصد لازما فحسب من أجل تأكيد الفرضيات العقلية. رأى كانط أن كلا نهجي المعرفة كان مخطئا في أحد الجوانب، وكان الأمر اللازم هو التوليف بينهما. كانت التجريبية محقة في الإصرار على أهمية المعرفة التجريبية، وكانت العقلانية محقة في الإصرار على أهمية مبادئ التفكير العقلاني. ويمكن الوصول إلى هذا التوليف من خلال تحول كوبرنيكي في الفلسفة. لا تنظر إلى المعرفة من منظور علاقة العالم-العقل على غرار التجريبية، أو من منظور علاقة العقل-العالم على غرار العقلانية. غير منظورك؛ فالمعرفة ليست ناتجة عن عالم نشط يحفر طابعه على عقل سلبي (التجريبية)، ولا المعرفة ناتجة عن عقل نشط يضع ختمه على عالم سلبي (العقلانية)؛ فالمعرفة الإنسانية تأتي عن طريق شراكة بين عقل نشط وعالم نشط؛ فالعقل يأتي بالفعل مجهزا بالمبادئ الأساسية الخاصة بالسببية والمادة والمكان والزمن، لكنها مفرطة التجرد بحيث لا يمكنها أن تشكل المعرفة التجريبية؛ فهي افتراضات للمعرفة الموضوعية. وهي في حاجة إلى التلاقي مع العالم التجريبي لتؤدي إلى المعرفة التجريبية؛ إذ يسعى العقل المنطقي إلى الاتحاد مع العالم التجريبي. هذا هو التحول الكوبرنيكي في الفلسفة.
قدم كوبرنيكوس نفسه لنا تفسيرا - أساسيا للغاية - لما نعنيه بالتحول الكوبرنيكي. «إنه تحول في المنظور.» يدعو كوبرنيكوس القارئ لتغيير بؤرة تركيز التفسير. تخيل جسما يبدو متحركا، وتخيل راصدا يبدو ثابتا. عند الجلوس في قطار متوقف عند الرصيف، غالبا لا يكون واضحا للراكب للحظات هل قطاره بدأ التحرك أو القطار الموجود على السكة الحديدية المجاورة هو الذي بدأ الخروج من المحطة. إذا بادلنا المنظور بين الجسم والراصد تبقى الحركة دون تغيير، ويمكننا وصفها بأنها حركة قطارنا نحو الأمام أو حركة القطار الآخر في الاتجاه المعاكس. ما ينطبق على هذا القطار ينطبق على الكواكب. إذا بدا أن الشمس تتحرك متخطية الراصد الثابت على الأرض من الشرق إلى الغرب، فمن المؤكد الآن أن الراصد هو الذي يتحرك متخطيا الشمس «الثابتة» من الغرب إلى الشرق. خلال هذا التغيير للمنظور، يجب أن تبقى بعض السمات «دون تغيير»؛ فكما رأينا في تفسير فصول السنة، استعاض كوبرنيكوس عن الميل في دائرة الشمس بالميل في محور الأرض. يظل الميل (23,5 درجة) ثابتا ولكن ينتقل الفلك المائل من الشمس إلى الأرض. كيف يؤثر هذا التغيير في المنظور في حالة الراصد الأرضي؟ من وجهة نظر الراصد الثابت الموجود على الأرض، يبدو أن النجوم الثابتة تتحرك من الشرق إلى الغرب، في حين تتحرك الكواكب عموما من الغرب إلى الشرق، باستثناء فترات الدوران القهقري. إذا غيرنا المنظور وجعلنا الراصد الأرضي يتحرك من الغرب إلى الشرق من خلال الدوران اليومي للأرض، تبقى الحركة ولكن يتغير الاتجاه. سيبدو لنا أن الشمس تشرق من الشرق وتأفل في الغرب. إذا جعلنا الشمس ثابتة وجعلنا الأرض تدور حول محورها من الغرب إلى الشرق، فسيظل مدار الشمس عبر السماء كما هو ولكن حينها سيتغير اتجاهها. في الواقع، تظل كل خصائص الحركة الظاهرية للشمس عبر كوكبة النجوم - المسار الظاهري الشمسي - ثابتة، إلا أن منظور الحركة هو ما يتغير. وهذا - كما يرى كوبرنيكوس - أقل تعقيدا بكثير. فأن تتسبب حركة الأرض في الحركة السريعة الواضحة للنجوم الثابتة أمر أكثر عقلانية من أن تدور النجوم الثابتة بسرعة مرة واحدة في فلكها في إيقاع مدته 24 ساعة. ذكر كوبرنيكوس تغير منظوره مبكرا للغاية في الكتاب:
رغم كثرة المرجعيات التي تقول إن الأرض تقع في مركز العالم وإن الناس يعتقدون أن الافتراض المعارض لا يمكن تصوره، وحتى قد يكون سخيفا؛ فإذا تأملنا هذا الأمر بانتباه، فسنرى أن هذه المسألة لم تقرر بعد، ووفقا لذلك، لا يعني هذا أن تزدرى؛ «فكل تغيير ظاهر في المكان يحدث بسبب حركة الشيء المرصود أو الراصد.» أو بسبب الحركة غير المتساوية بالضرورة لكليهما. وعدم الحركة يمكن إدراكه نسبيا من منظور الأشياء المتحركة على نحو متساو في الاتجاه نفسه؛ أعني بصورة نسبية بين الشيء المرصود والراصد.
تتناول هذه الفقرة تغيير المنظور، الذي سوف يبقي المشاهدات كما هي:
الآن ترصد الدائرة السماوية وتظهر أمام أنظارنا من الأرض. ومن ثم، إذا كان يجب أن تعزى بعض الحركة إلى الأرض فسوف تظهر في أجزاء الكون الخارجية، في صورة الحركة نفسها ولكن في الاتجاه المعاكس، كما لو أن الأشياء الخارجية تتجاوزنا. والدوران اليومي على نحو خاص يمثل هذه الحركة. فيبدو أن الدوران اليومي يحمل الكون كله معه، باستثناء الأرض والأشياء من حولها. وإذا سلمت بأن السماوات لا تمتلك أيا من هذه الحركة ولكن الأرض تدور من الغرب إلى الشرق، فسوف تجد - إذا أجريت دراسة متأنية - فيما يتعلق بشروق وغروب الشمس والقمر والنجوم ظاهريا، أن الوضع كذلك بالفعل.
ينهي كوبرنيكوس هذه المناقشة باستدعاء مستتر قليلا لمبدأ شفرة أوكام، وهو مبدأ - أذكره على نحو فضفاض للغاية ودون احترام لسياقه الأصلي - يقضي بأن بساطة التفسير فضيلة عظيمة في العلم؛ فمن بين تفسيرين مختلفين للظاهرة نفسها، التفسير الأكثر بساطة عموما يكون مفضلا. والتفسير الأكثر بساطة ليس التفسير المخل البالغ التبسيط، وإنما هو التفسير الذي يترك أشياء أقل دون ربط بعضها ببعض ويوضح أشياء أكثر من خلال مبادئ أقل.
ونظرا لأن السماء هي التي تحتوي على كل شيء وتحتضنه كمكان عام لهذا الكون، فإنه لن يكون واضحا أبدا لماذا لا ينبغي أن تعزى الحركة إلى المحتوى بدلا من المحتوي، إلى الشيء الموضوع بدلا من الشيء الذي يمثل المكان. (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول؛ الكتاب الثالث)
يلمح كوبرنيكوس إلى سمة «ثانية» للتحول الكوبرنيكي؛ إذ يجب أن يكون تغيير المنظور - الذي يحدث على خلفية من بعض السمات الثابتة - مصحوبا ببعض المكاسب التفسيرية. وإن لم يكن كذلك، فهذا يعني أننا نتبادل المنظورات وحسب. فسيكون لدينا منظورات مختلفة، كلها صالحة على نحو متساو، دون وجود ما يفصل بينها، ولكن لم يحدث هذا فعليا في تاريخ العلم، وقد بذل كوبرنيكوس جهدا عظيما ليبين أن الفرضية الكوبرنيكية تمنحنا مزايا تفسيرية. وهو يستخدم حركة الأرض كمبدأ أكثر جدارة بالقبول ظاهريا (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول؛ انظر أيضا المبادئ السبعة في «الشرح المختصر» 1959، 58). يمكن من خلال هذا المنظور تحديد المسافة النسبية للكواكب. إن حركة الدوران القهقري ليست مشكلة هندسية، بل هي انعكاس مادي لموضعنا في النظام الشمسي. صحيح أن تفسير فصول السنة أكثر تعقيدا من منظور كوبرنيكوس، ولكن يمكن بسهولة تعديل هذا بالتخلي عن الأفلاك. وهكذا يمثل التفسير الكوبرنيكي مقاربة لظاهرة فصول السنة أفضل من التفسير البطلمي.
إن تغيير المنظور يمثل سمة مهمة للتحول الكوبرنيكي؛ فقد بدأ العديد من العلماء العظام حياتهم بتغيير في المنظور. فداروين - كما سنرى - دعا إلى تغيير في المنظور فيما يخص مشكلة عصره الكبيرة: «أصل» الأنواع. لقد دعا العلماء إلى تغيير المنظور من أجل زيادة المكاسب التفسيرية، مع إبقاء الأشياء الأخرى ثابتة. ماذا عن المفكرين المؤثرين في مجال العلوم الاجتماعية أمثال ماركس وفرويد؟ هؤلاء المفكرون، أيضا، أحدثوا تغييرا في المنظور، ولكن من مواضع الخلاف مسألة هل كانت المكاسب التفسيرية - التي نالوا الفضل فيها - تنشأ حقا من تغيير المنظور. وتخيم ظلال الشك تلك أيضا على كوبرنيكوس. وهي تفسر سبب عدم النظر إلى كوبرنيكوس كثوري حقيقي على المستوى العلمي. تتطلب الثورة العلمية تغييرا في المنظور، ولكن مجرد تغيير المنظور لا يشكل ثورة علمية؛ فثمة عنصر مهم في الثورة العلمية هو بعض «المكاسب التفسيرية». فإذا ظلت الشكوك حول المكاسب التفسيرية المتحققة بتغيير التفكير قائمة، فثمة شكوك حول تأثيرها الثوري الحقيقي. وكانت هذه هي مشكلة كوبرنيكوس، كما سنرى، ومع ذلك، فالمفكرون أمثال كوبرنيكوس وفرويد يذكروننا بنتيجة إضافية للثورة العلمية؛ أن يكون لها تأثير كبير على طريقة نظر الناس إلى العالم. في حالة كوبرنيكوس، يؤدي هذا إلى فقدان المركزية، وفي حالة داروين يسبب فقدان التصميم، وفي حالة فرويد يؤدي إلى فقدان الوضوح.
ربما تحتاج الثورة العلمية إلى وقت لتنتشر؛ فمن الممكن أن يبدأ أحد المفكرين تغييرا في المنظور ويكمل الآخرون الصورة. وتاريخ علم الفلك من كوبرنيكوس حتى نيوتن يوضح هذه النقطة؛ فالمعاني الاشتقاقية لكلمة «ثورة» تتضمن «الاجتثاث»، بمعنى عكس وإسقاط وجهات النظر أو الشروط القديمة الراسخة. والعمل على مفهوم «تحويل الأفكار» أو «تغيير المنظور» يتيح لنا التركيز على العلماء الذين أتموا تغيير المنظور. تألف التحول الكوبرنيكي من إعادة ترتيب النظام الهندسي للكواكب. بنى علماء الفلك النماذج من المواد الموجودة فعليا: الكواكب الستة المعروفة من العصور القديمة حتى القرن الثامن عشر. وبمجرد أن تصبح المكونات في متناول اليد، ثمة سؤال مباشر يطرح نفسه؛ كيف ينبغي ترتيب هذه العناصر بعضها بالنسبة إلى بعض؟ استهل الإغريق تقليدا قديما من بناء النماذج في تاريخ علم الفلك. وكان يتألف من مهمتين؛ تحديد بنية طوبولوجية للنموذج، من شأنها أن ترتب الكواكب في ترتيب هندسي أو مكاني. اختار معظم علماء الفلك الإغريق ترتيبا يضع الأرض في المركز (أرضي المركز). عكس كوبرنيكوس هذا التقليد من خلال اختيار ترتيب يضع الشمس في المركز (شمسي المركز). بمجرد اختيار البنية الطوبولوجية، لا بد من إيجاد بنية «جبرية» للنموذج. تحدد البنية الجبرية العلاقات الكمية بين مكونات النماذج. استخدم الإغريق العديد من الأدوات الهندسية: الدوائر اللامتراكزة أو المؤجلات وأفلاك التدوير. غير كوبرنيكوس البنية الطوبولوجية لنماذج الكواكب، ولكنه أبقى الافتراضات الهندسية لأسلافه الإغريق؛ لهذا السبب لم يحقق كوبرنيكوس المكاسب التفسيرية المرتبطة بالثورة العلمية. فأي تقدم تفسيري يمكن لكوبرنيكوس أن يدعي تحقيقه ينشأ عن البنية الطوبولوجية للنموذج الشمسي المركز. فلم يقدم كوبرنيكوس أي إسهام للبنية الجبرية لنماذج الكواكب. وتحقق المكسب التفسيري في البنية الجبرية ببطء من خلال أعمال كبلر وجاليليو ونيوتن.
صفحه نامشخص