شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
1 - نيكولاس كوبرنيكوس: فقدان المركزية
2 - تشارلز داروين: فقدان التصميم الرشيد
3 - سيجموند فرويد: فقدان الشفافية
الملاحظات
شكر وتقدير
تمهيد
مقدمة
1 - نيكولاس كوبرنيكوس: فقدان المركزية
2 - تشارلز داروين: فقدان التصميم الرشيد
3 - سيجموند فرويد: فقدان الشفافية
الملاحظات
كوبرنيكوس وداروين وفرويد
كوبرنيكوس وداروين وفرويد
ثورات في
تاريخ وفلسفة العلم
تأليف
فريدل فاينرت
ترجمة
أحمد شكل
مراجعة
محمد فتحي خضر
شكر وتقدير
يقدم المؤلف والناشر الشكر على منح الإذن بإعادة نشر الصور التالية:
Aristotle (354-322 BC).
Source:
Deutsches Museum (German Museum, Munich).
Foto Deutsches Museum.
Claudius Ptolemy (AD 100-75).
Source:
Wikimedia.
Nicolaus Copernicus (1473-1543).
Source:
Deutsches Museum (German Museum, Munich).
Foto Deutsches Museum.
Tycho Brahe (1546-1601)
Source: Nature
15 (1876-7), p. 406.
Johannes Kepler (1571-1630).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Galileo Galilei (1564-1642).
Source:
Wikimedia.
Isaac Newton (1642-1727).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Gottfried Wilhelm Leibniz (1646-1716).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
William Paley (1743-1805).
Source:
Wikimedia.
Robert Boyle (1627-91).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Jean Baptiste Lamarck (1744-1829).
Source : Wikimedia.
Charles Darwin (1809-82).
Source: Nature
10 [1874], Frontispiece.
Alfred Wallace (1823-1913).
Source : Wikimedia.
Louis Agassiz (1807-73).
Source: Nature
19 [1879], Frontispiece.
Julia Pastrana.
Source : E. Haeckel,
The Evolution of Man [London 1906], Vol. I, 161.
Thomas Huxley (1825-95).
Source: Nature
9 [1874], p. 256.
Ernst Haeckel (1834-1919).
Source : E. Haeckel,
Last Word on Evolution [London 1910], Frontispiece.
Francis Bacon (1561-1626).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
John C. Adams (1819-32).
Source: Nature
34 [1886], Frontispiece.
Immanuel Kant (1724-1804).
Source : Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Friedrich Nietzsche (1844-1900).
Source : Wikimedia.
Sigmund Freud (1856-1938).
Source:
Deutsches Museum (German Museum, Munich).
: Foto Deutsches Museum.
Johann Gustav Droysen (1808-84).
Source : Wikimedia.
Wilhem Dilthey (1833-1911).
Source : Wikimedia.
Max Weber (1864-1920).
Source : Mohr Siebeck Verlag.
Le Livre Noir de la Psych-analyse. Source:
Les Arènes, Paris.
تمهيد
هذا الكتاب وليد ندوات ألقاها المؤلف لأول مرة في جامعة فيكتوريا في ويلينجتون (نيوزيلندا) وبعد ذلك في جامعة برادفورد (المملكة المتحدة). تعود فكرة هذه الندوات والكتاب إلى زعم فرويد أنه أتم الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس، وقد صيغت الندوات والكتاب في ضوء اقتناع المؤلف بوجود رابط متين بين الأفكار العلمية والفلسفية.
تيسر الانتهاء من المسودة النهائية للكتاب بالحصول على منحة زمالة زائر في قسم الفلسفة والمنطق والمنهج العلمي في كلية لندن للاقتصاد (من يونيو إلى ديسمبر 2006). وأود أن أشكر أعضاء هذا القسم على حسن الضيافة، كما أدين بشكر خاص إلى ستيفان هارتمان لتشجيعه لي على تقديم طلبات المنح البحثية ومشاركته في تقييمها. وأقدم امتناني للمساعدة المالية التي تلقيتها من كلية الدراسات الدولية والاجتماعية بجامعة برادفورد، كما أنني استفدت من المنحة البحثية الصغيرة التي تمنحها الأكاديمية البريطانية، التي جعلت زيارتي لكلية لندن للاقتصاد ممكنة من الناحية المالية. قرأ روبرت نولا من جامعة أوكلاند (نيوزيلندا) المسودة الأولى للكتاب، وقدم لي نصائح قيمة حول كيفية تحسينه. وأعبر هنا عن امتناني له لتشجيعه ولتقييمه طلبات المنح البحثية التي قدمتها، كما أنني ممتن لعدد من القراء المجهولين الذين قدموا تعليقات مفيدة حول الكتاب. وأخيرا، أدين بالشكر لنيك بيلوريني، منسق التحرير الأول في بلاكويل، على دعمه لهذا المشروع. وأود أيضا أن أشكر أنيت آبيل، محررة الكتاب، على القراءة المتأنية للمسودة النهائية والتحسينات الأسلوبية التي أضافتها.
آمل أن يستمتع القارئ بقراءة هذا الكتاب بقدر ما استمتعت بكتابته.
فريدل فاينرت
جامعة برادفورد
مقدمة
يتناول هذا الكتاب قضايا تقع في النطاق المشترك بين تاريخ وفلسفة العلوم، ويهدف إلى إظهار وجود رابط متين بين العلم والفلسفة باستخدام المدرسة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية كمدارس علمية. ثمة روابط عديدة تجمع بين كوبرنيكوس وداروين وفرويد أكثر من مساهماتهم في استكمال الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس. وتبين دراسة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية أن المناهج العلمية لدراسة العالم تؤدي على نحو طبيعي وحتمي إلى نتائج فلسفية.
رأى فرويد أن الأفكار العلمية تغير طريقة تفكيرنا بشأن العالم؛ فقد أزاح كوبرنيكوس - من خلال نظرية مركزية الشمس - البشر من المركز المادي للكون (1543). ووضع داروين - من خلال نظرية النشوء والارتقاء - البشر في وضعهم الطبيعي بين الكائنات (1859). ويرى فرويد أن كوبرنيكوس وداروين سددا ضربات قاسية للصورة التي يفخر بها البشر بوصفهم سادة الكون. ورأى فرويد أنه يكمل دائرة تصحيح هذه الصورة من خلال تدمير الاعتقاد بأن البشر «مسيطرون على أنفسهم» (1916).
غير أن تأثير الأفكار العلمية على الصور الذاتية للبشر ليس سوى جزء صغير من النتائج الفلسفية التي تؤدي إليها النظريات العلمية عادة. هذا الكتاب عبارة عن دراسة لثلاث ثورات في الفكر ونتائجها الفلسفية، وهو تطبيق لنهج متكامل لتاريخ وفلسفة العلوم. يتناول الفصل الأول الانتقال من مفهوم مركزية الأرض إلى مفهوم مركزية الشمس. ويركز الفصل الثاني على التغير الشديد الأهمية في وجهات النظر حول طبيعة الحياة العضوية، الذي سيرتبط إلى الأبد باسم تشارلز داروين. ويناقش الفصل الثالث انتقال فرويد من عقلانية التنوير إلى الدوافع اللاواعية كقوة دافعة للسلوك البشري. ومن شأن إلقاء نظرة واحدة فقط على جدول محتويات الكتاب أن يوضح للقارئ أن كل فصل يختار عددا من القضايا الفلسفية النابعة من دراسة تقاليد محددة في تاريخ الأفكار العلمية.
ينقل عنوان هذا الكتاب - كما هو موضح في مناقشة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية - رسالة ثلاثية؛ أولا: أن وجهات نظر الإنسان نحو الطبيعة المحيطة به والعالم الاجتماعي تتكيف باستمرار مع الاكتشافات العلمية الجديدة. ثانيا: كلما تقدم العلم خضعت إنجازات العصور السابقة لمزيد من التدقيق. ثالثا: أن النتائج الفلسفية بالضرورة مشمولة في هذه التغيرات. لا أقصد الزعم بحدوث عملية اقتلاع وإعادة بناء مستمرة لصرح المعرفة؛ إذ إن النظرة المتقطعة هذه لنمو المعرفة العلمية خاطئة، كما ستحاول مناقشة الثورات العلمية أن تبين. بل ما أعنيه هو أن المعرفة الراسخة ستخوض مواقف إشكالية جديدة؛ مما سيؤدي إلى تعديلات على العديد من المستويات. كان بوبر محقا في قوله إن كل المعرفة العلمية معرفة تخمينية. وما دام البشر يسكنون في المجموعة الشمسية، فمن المتوقع أن تظهر طرق جديدة للتفكير وسيعاد تقييم مكانة البشر في الكون الأوسع. على الرغم من أن البشر اليوم يمتلكون معرفة أكبر على المستوى الكمي، ويتباهون بامتلاكهم براعة تكنولوجية أكبر من معاصري نيوتن، فإن تشبيه نيوتن الخالد سيظل صحيحا: ما زلنا كالأطفال، نلعب بالحصى على الشاطئ، في حين يكمن أمامنا محيط شاسع مجهول.
الفصل الأول
نيكولاس كوبرنيكوس: فقدان المركزية
عالم الرياضيات الذي يدرس حركات النجوم يشبه بالتأكيد رجلا أعمى عليه أن يقوم برحلة خطرة كبيرة لا نهائية وسط أماكن مقفرة لا تحصى، وليس معه سوى عصى تقوده. (ريتيكوس، «المقال الأول» (1540)، 163) (1) بطليموس وكوبرنيكوس
كتب المؤلف المسرحي الألماني برتولت بريشت مسرحيته «حياة جاليليو» في المنفى في عامي 1938 و1939، ومثلت لأول مرة في زيوريخ في عام 1943. في مسرحية بريشت، تصطدم وجهتا نظر: هناك الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض، التي ترى أن الأرض هي مركز لكون مغلق. ومن بين العديد من أنصارها هناك أرسطو (384-322 قبل الميلاد) وبطليموس (85-165 ميلادية)، ومارتن لوثر (1483-1546). على النقيض من ذلك هناك وجهة النظر المعارضة لمركزية الأرض، وهي الرؤية الكونية القائلة بمركزية الشمس، والتي ترى أن الشمس تحتل مركز كون مفتوح. ومن بين العديد من أنصارها هناك كوبرنيكوس (1473-1543)، وكبلر (1571-1630)، وجاليليو (1564-1642)، ونيوتن (1643-1727).
يعرض عالم الرياضيات والفيزياء الإيطالي جاليليو جاليلي في الفصل الأول على مساعده أندريا نموذجا للنظام البطلمي. تقبع الأرض في المنتصف، وتحيط بها ثماني حلقات. تمثل هذه الحلقات الأفلاك البلورية التي تحمل الكواكب والنجوم الثابتة. تجهم جاليليو وهو ينظر إلى هذا النموذج، وقال ممتعضا: «نعم، الجدران والمجالات والثبات. لمدة ألف سنة والناس يعتقدون أن الشمس وجميع نجوم السماء تدور حول الجنس البشري.» ويعتقد الجميع أنهم «كانوا يجلسون بلا حراك داخل هذا الفلك البلوري.» كانت الأرض ثابتة وكل شيء آخر يدور حولها. وأكد جاليليو لمساعده: «لكننا الآن سنتخلص منه.» لم تعد النجوم في النموذج الجديد «مثبتة في سماء بلورية»، بل سمح لها بأن «تدور في الفضاء دون دعم» (بريشت 1963؛ بلومنباخ، 1981، المجلد الثالث، 762-782).
في الفصل الثاني، يزور رجلان مثقفان، عالم رياضيات وفيلسوف، جاليليو في مكتبه لإلقاء نظرة على أقمار كوكب المشتري من خلال التليسكوب المكتشف حديثا. يشرح جاليليو باختصار إخفاقات النظام البطلمي لهما. ببساطة، هذا النظام لا يتفق مع الحقائق؛ فالكواكب ليست «في المكان الذي ينبغي أن تكون فيه نظريا» وحركات أقمار كوكب المشتري حول الكوكب - اكتشاف جاليليو العظيم - ببساطة لا يمكن تفسيرها من خلال النظام البطلمي. لا يمكن وصف ذلك بالكلمات! رؤية العين أفضل من الكلام. وبسذاجة إلى حد ما، يسأل جاليليو ضيفيه المثقفين هل كانا «مهتمين بالبدء من خلال مشاهدة أقمار كوكب المشتري تلك.» لسوء حظ جاليليو، رفض عالم الرياضيات والفيلسوف كلاهما دعوته، وبدلا من المشاهدة، طلبا «مناقشة رسمية» بالطريقة العلمية. سأله الفيلسوف: «يا سيد جاليليو، قبل أن نتوجه إلى تليسكوبك الشهير، أتساءل هل كنا نستطيع الحصول على شرف إجراء مناظرة؟ يمكن أن يكون موضوعها: هل يمكن أن يوجد مثل هذه الكواكب؟» يريدهما جاليليو ببساطة أن «ينظرا من خلال التليسكوب» ويقتنعا بنفسيهما. ويقول عالم الرياضيات: «بالطبع، بالطبع، أعتقد أنك على معرفة برأي القدماء بأنه لا يمكن أن توجد نجوم تدور حول مراكز أخرى غير الأرض، ولا نجوم توجد دون دعم في السماء؟» أضفى بريشت فحسب بعض الدرامية على حدث حقيقي. في رسالة إلى يوهانز كبلر (بتاريخ 19 أغسطس 1610)، أعرب جاليليو عن حزنه للرفض القاطع من أساتذة علميين، مثل سيزار كريمونيني - أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة بادوا - لمشاهدة القمر والكواكب عبر التليسكوب المخترع حديثا (بلومنبرج، 1955، 637). (2) صراع رؤيتين كونيتين
يجسد بريشت في مسرحيته صراع رؤيتين كونيتين ببراعة وهو يرسم الحوار الدائر بين جاليليو وزائريه المثقفين. تنتهي المناظرة بعدم رضا كلا يعرض عالم الرياضيات والفيزياء الإيطالي الطرفين، وسريعا ما يغادر الزائران دون النظر عبر التليسكوب. إن الالتزام بفكرة مركزية الأرض يجعل زائري جاليليو يستخفان باستناده إلى الأدلة الرصدية. والتمسك بفكرة مركزية الشمس يجعل جاليليو يفقد الثقة في جدوى المناقشات العلمية. ومن أجل فهم طريقة وصول أنصار كلتا الرؤيتين المتعارضتين إلى هذا التصادم العنيف - على غرار الصدام الدرامي في مسرحية بريشت - علينا أن ندرس عن كثب الفرضيات الخاصة بهما. ينبغي أن ندقق في بنية الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض والرؤية الكونية القائلة بمركزية الشمس.
مركزية الأرض تسبق مركزية الشمس بألفية ونصف. كان كوبرنيكوس يعرف السلف القديم أرسطرخس الساموسي، الذي طرح فكرة أن الأرض تتحرك، لكن مركزية الأرض ظلت التفسير الرسمي لبنية الكون حتى ذبولها البطيء في القرنين السادس عشر والسابع عشر. جرى الحوار بين جاليليو وزائريه في صيف عام 1610، وكانت فرضية كوبرنيكوس معروفة منذ 67 عاما. واستغرق اعتراف نظرية مركزية الأرض بالهزيمة أخيرا 77 عاما أخرى؛ حتى نشر كتاب «المبادئ» لنيوتن (1687). استغرقت رؤية كوبرنيكوس الكونية 144 سنة من المناقشات النشطة والبحث لتصبح راسخة. هل يمكن أن تستغرق ثورة علمية كل هذا الوقت؟ ما يهم بشأن الثورة ليس طول المدة التي تستغرقها، وإنما عمقها؛ فما يجعل التغيير ثوريا هو الإرباك الذي يحدثه في البنية الراسخة، قلب وجهات النظر، استبدال المسلمات. إنه يمثل إعادة ترتيب عامة لعناصر الشبكة، سواء أكان مفاهيميا أم سياسيا أم اجتماعيا. فتقتلع بعض عناصر النظام، ويستبدل بعضها، ويبقى بعض آخر. ولكي نفهم الثورة العلمية - الكتلة المتشابكة من العناصر الفلسفية والعلمية - نحتاج إلى فهم النظام «قبل» إعادة ترتيبه؛ لذلك، لكي نفهم الثورة الكوبرنيكية، نحتاج أن نفهم الرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض. (2-1) مركزية الأرض
الآن، بنى القدماء سماء فوق سماء، مثل طبقات في جدار، أو باستخدام تشبيه أقرب، مثل قشر البصل: الطبقة الداخلية تدعم الخارجية (...). (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» 1618-1621، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
مركزية الأرض أكثر بكثير من وجهة نظر تقول إن الأرض توجد ثابتة بلا حركة في مركز الكون؛ فهي ترقى إلى رؤية كونية نشأت عبر مرحلتين . أولا : قدم أرسطو علم الكونيات الفيزيائي؛ فن عمارة الكون الأكبر. تضمن علم الكونيات لديه نظرية مهمة للحركة. قدم أرسطو بعض الأفكار غير المرضية عن حركات الكواكب. قدم بطليموس في المرحلة الثانية علم الفلك الرياضي؛ هندسة حركات الكواكب. أعاق هذا التقسيم اليوناني للعمل بين علم الكونيات الفيزيائي وعلم الفلك الرياضي تطور علم الفلك لقرون (دكسترهوز 1956؛ ميترشتراسيه 1962، الفصل 4.4؛ دي سولا برايس 1962). وذلك لأنه يفصل بين سؤال الديناميكا عن الأسباب الفيزيائية - لماذا تتحرك الكواكب بطرق معينة؟ - وسؤال علم الحركة عن الحركة، كيف يمكن وصف حركة هذه الأجرام رياضيا؟ يتبنى بطليموس في كتابه «المجسطي» (نشر حوالي 150 ميلادية) هذا التقسيم صراحة. تتعامل الفيزياء مع الأجسام القابلة للفناء الموجودة على الأرض؛ فلا ترقى إلى أكثر من تخمينات، وهذا بسبب «الطبيعة غير الواضحة للمادة» أما الرياضيات، فهي تقدم معرفة محددة؛ لأنها تدرس طبيعة «الأشياء المقدسة والسماوية» (بطليموس 1984، 36). واستمر هذا التقسيم حتى اكتشاف قوانين كبلر للكواكب في بداية القرن السابع عشر. وبوصفها رؤية كونية، ادعت نظرية مركزية الأرض أنها تقدم تفسيرا علميا لما كان يعتبر حينها أنه الكون، وألزمت أتباعها بعدد من الالتزامات الفلسفية، كما قدمت رؤية شاملة ومتسقة عن الكون إلى المؤمنين بها. وكذلك فعلت نظرية مركزية الشمس. ثمة الكثير من الأمور على المحك، وقد صورت مسرحية بريشت على نحو صحيح اللقاء الفاتر بين رجال العلم الثلاثة في عام 1610 كتصادم بين رؤيتين كونيتين. (2-2) علم كونيات أرسطو
يبني أرسطو علم الكونيات الخاص به على أساس كون ذي فلكين ونظرية الحركة. وفي وقت لاحق قدم بطليموس بعض التحسينات الرياضية. (1)
يبني أرسطو كونا ذا فلكين. وهو مقسم إلى «الفلك فوق القمري»، الذي يضم القمر والمنطقة الواقعة خلفه، و«الفلك تحت القمري»، وهذه هي المنطقة بين الأرض والقمر. والأرض هي فلك صغير يقبع ثابتا في المركز الهندسي لفلك دوار أكبر بكثير يحمل النجوم. والنجوم عبارة عن علامات على الفلك الخارجي. وفي هذا التخيل يسبب الدوران المستمر للفلك الخارجي دورات النجوم اليومية. وبين الفلك الخارجي والأرض توجد أفلاك أصغر متحدة المركز تحمل الكواكب الستة التي كانت معروفة آنذاك، بما في ذلك الشمس (شكل
1-1 ).
شكل 1-1: الأفلاك الدائرية وترتيب الكواكب في العصور القديمة. تقع الشمس بين الكواكب الأخرى، وتقبع الأرض ثابتة بلا حركة في المركز.
يرى أرسطو أن الفلك فوق القمري منطقة في غاية «المثالية والتماثل والانتظام». رسم الإغريق هذه الدائرة كشكل هندسي مثالي؛ ولذلك تبعا لمثالية الفلك فوق القمري، من المفترض أن تتحرك النجوم والكواكب في دوائر مثالية. وعلى النقيض من ذلك، يمثل الفلك تحت القمري منطقة «تغيير وتقلب وفناء». ويمتلئ هذا الفلك تحت القمري بأربعة عناصر: التراب والماء والنار والهواء. وإذا لم تتعرض العناصر للاضطرابات، فإنها تستقر في صورة قشور متحدة المركز حول المنطقة المركزية التي تشغلها الأرض، ولكن بسبب الحركة في فلك القمر، تختلط العناصر في جميع أنحاء العالم تحت القمري؛ ومن ثم تعد حركات الفلك القمري مسئولة عن جميع التغيرات ومعظم أوجه التنوع المرصودة في العالم تحت القمري (كون، 1957، 82-83).
أرسطو (354-322 قبل الميلاد).
يبدو علم الكونيات المبني على مفهوم «البصلة الكونية» هذا غامضا للغاية بالنسبة للشخص الحديث، لكن في نظر القدماء، قدم أرسطو النظرية الأكثر شمولا وإقناعا لبنية الكون؛ فقد بدت مفسرة لبعض ملاحظات العين المجردة التي كانت موجودة في ذلك الوقت؛ فكما بدا، يمكن الاستدلال على مركزية الأرض من مسار الأجسام الساقطة على الأرض والحركة الدائرية للنجوم.
شكل 1-2: نموذج متماثل المركز بسيط. يقع كوكب الأرض في المركز، وتحيط به الحلقات أو القشور المتحدة المركز (الأفلاك) الحاملة للكواكب (انظر أندرسن/باركر/تشن، 2006، الفصل 4.6؛ باركر 2002). وتحمل الدائرة الخارجية النجوم البعيدة. يفشل هذا النموذج لأن الكواكب تتحرك على مسافات متفاوتة من الأرض.
اقتداء بالفيلسوف اليوناني والفلكي إيودوكسوس (408-355 قبل الميلاد)، افترض أرسطو أن الكواكب والنجوم كانت تتحرك في قشور متحدة المركز (أو أفلاك) حول الأرض الواقعة في المركز (شكل
1-2 ). بدراسة أكثر دقة، يجب أن يفشل هذا النموذج البسيط، بل إنه حتى لم يتوافق مع ملاحظات الإغريق؛ فعلى سبيل المثال، إذا كانت الشمس محمولة حول الأرض المركزية في قشرة متحدة المركز، كان الليل والنهار سيبقيان دائما متساويين في الطول. مع ذلك، عرف الإغريق من ملاحظاتهم أن النهار والليل لهما أطوال متغيرة، اعتمادا على فصل السنة (انظر القسم 3-2). ولاحظ الإغريق أيضا أن الكواكب تتحرك على مسافات متفاوتة حول الأرض. كان لا بد من إسقاط نموذج الأفلاك متماثلة المركز؛ فقد كان متناقضا مع المشاهدات الأولية. كان من بين إنجازات بطليموس أنه شيد نموذجا هندسيا على أساس الهندسة الأكثر تعقيدا. وتضمن ذلك اختراع أجهزة جديدة هندسية: الدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير والمؤجلات والموازنات (دكسترهوز 1956، 147؛ روزن 1959، المقدمة؛ كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» 1959، 57؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس؛ دراير 1953، 143). (2)
رغم الاستبدال السريع لوجهات نظر أرسطو البدائية إزاء أفلاك الكواكب، كانت «نظرية الحركة» التي خرج بها هي المساهمة الأبقى أثرا بكثير. لقد ابتكر أرسطو نظرية الحركة المهمة الخاصة به لدعم نموذجه للكون. فنموذج «البصلة» الكونية جعل الأرض جسما مركزيا ثابتا. كيف يمكن تبرير هذه المركزية؟ ادعت نظرية الحركة تقديم آلية فيزيائية لتفسير مسار كافة الأجسام، الأرضية والسماوية على حد سواء.
وفقا لنظرية الحركة لأرسطو، فالأجسام إما تظل ساكنة أو تتحرك في خط مستقيم: فالحجر يسقط عائدا نحو مركز الكون، الذي تقبع فيه الأرض، والدخان يرتفع إلى أعلى نحو السماء؛ بحثا عن مكانه الطبيعي. تشكل الحركة صعودا وهبوطا الحركات «الطبيعية» للأجسام. ويتطلب صرف الأجسام عن حركتها الطبيعية دفعة أو قوة خارجية. ولكي تتحرك الأجسام فإنها تحتاج إلى محرك يحركها؛ فلا حركة من دون محرك: «كل شيء يتحرك عن طريق شيء آخر» (أرسطو 1952أ، الكتاب السابع والثامن). بالطبع، استطاع أرسطو أن يلاحظ أن المقذوفات لا تتصرف بهذه الطريقة؛ فالحجر المقذوف في الهواء أو السهم المنطلق من القوس يطير عادة في مسار على شكل قطع مكافئ قبل عودته إلى الأرض. واستطاع أرسطو أن يفسر حركة القذيفة؛ فبعد إطلاق الجسم من المحرك، أصبح الهواء المضطرب هو مصدر الدفعة الخارجية، وأطال أمد حركة القذيفة.
1
وفي النهاية يستسلم الجسم إلى زاوية ميله من أجل العودة إلى الأرض.
الحركة الطبيعية للأجرام السماوية دائرية، والحركة الدائرية مستمرة ولا تنتهي. ويرى أرسطو أن الحركة المستمرة - الحركة الدورانية للكواكب - يسببها محرك ثابت؛ ذات إلهية (أرسطو 1952أ، الكتاب الثامن).
وهكذا فإن الأجسام لها حركات طبيعية وغير طبيعية، كما أنها تحتل أماكن طبيعية في الكون. اعتقد أرسطو أن اللبنات الأساسية الأربعة للكون - التراب والماء والنار والهواء - تشغل مواضع طبيعية في الأرض وبالقرب منها. وإذا دفعت العناصر بعيدا عن مواقعها الطبيعية، فإنها «تسعى» لاستعادة موقعها الطبيعي؛ فعندما يرفع حجر من الأرض ويطلق بعيدا، فإنه يسعى إلى استعادة موقعه الطبيعي. وعندما تشعل النار، فإن ألسنة اللهب والدخان تقفز لأعلى نحو مكانها الطبيعي في محيط المنطقة الأرضية. والمكان الطبيعي للتراب هو في المركز الهندسي للكون. وبالنسبة لجسم ثابت، يجب أن يكون موجودا في مركز السماوات الدوارة؛ ولذلك، يخلص أرسطو إلى حتمية وجود الأرض (أرسطو 1952ب، الكتاب الثاني). وأية قطعة من الأرض ستسقط دائما إلى حيث تنتمي طبيعيا؛ أي المركز الهندسي للكون. ومن خلال هذه الحجج المستمدة من الفيزياء الأرضية، لم يستنتج أرسطو مركزية الأرض وحسب، ولكن استنتج أيضا ثباتها وكرويتها (أرسطو 1952ب، الكتاب الثاني)، كما يشير إلى أنه خلال الخسوف القمري، يكون شكل ظل الأرض على القمر «منحنيا دائما»، وعندما يسافر الراصدون شمالا وجنوبا على امتداد أحد خطوط الطول، فإنهم يرون نجوما مختلفة في السماء. ولاحقا أضاف بطليموس بعض الحجج الأخرى. كانت الشمس والقمر والنجوم تشرق مبكرا بالنسبة لسكان المناطق الشرقية من العالم عن إشراقها بالنسبة «لأولئك الذين يعيشون في الغرب» (بطليموس 1984). •••
يشكل كون أرسطو المادي ونظريته للحركة رابطا منطقيا؛ فنظرية الحركة تجعل الكون منطقيا، ويوفر كونه الإطار اللازم للظواهر المادية كي توضع في فلكين منفصلين. تحكم قوانين الحركة الأرسطية الفلك تحت القمري؛ فالفيزياء الأرضية تحكم الفلك تحت القمري، وتفسر قوانين الحركة المشاهدات المرصودة في هذه المنطقة من الفضاء: سقوط الأجسام الثقيلة وارتفاع الأجسام الخفيفة. وتنطبق الفيزياء السماوية في الفلك فوق القمري، وهذه هي منطقة الكمال، ولا تحوي سوى الأشكال الكروية والحركة الدائرية، كما أنها منطقة محدودة. في مسرحية بريشت، تذمر جاليليو من «جدران» و«جمود» كون مركزية الأرض. وقدرت المسافة بين الأرض والنجوم بأنها عشرون ألف ضعف طول نصف قطر الأرض، وهذا التقدير أقل من المسافة بين الأرض والشمس المعروفة حاليا (زيليك 1988، 29-31). ويشمل الحد الخارجي فلك النجوم الثابتة. وعلى الرغم من أن هذا الفلك يدور دورة كاملة كل 24 ساعة حول الأرض الثابتة، تبدو النجوم ثابتة لأنها تعود إلى الظهور في الموقع نفسه بعد كل دورة كما كانت في الفترة السابقة. والكواكب مناقضة لذلك، فهي «نجوم سيارة»، لأنها تقوم بحركات ملحوظة يمكن تتبعها خلال السماء. وكون أرسطو هو كون يعاني من نقص في الطاقة. وهذا النقص في الطاقة نتيجة مباشرة لنظرية أرسطو للحركة؛ فلا حركة من دون محرك؛ فالأجرام السماوية تتحرك في أفلاكها عن طريق محرك موجود خارج الفلك الخارجي. يتطلب كون أرسطو طاقة من وراء نطاق النجوم الثابتة؛ فهو كون متناه محدود. وكما سنرى فإن كون كوبرنيكوس أيضا كون محدود ولكنه لم يعد يعاني نقصا في الطاقة. (2-3) مركزية الأرض عند بطليموس
قدم لنا أرسطو علم الكونيات ونظرية للحركة. وكانت هذه الخطوة الأولى في بناء نظرية مركزية الأرض. استكملت الخطوة الثانية بعد عدة مئات من السنين، وتطلب الأمر هندسيا بارعا للقيام بذلك؛ وهو كلاوديوس بطليموس. كان بطليموس الفلكي الأول الذي يصمم نظاما رياضيا كاملا للكون، وقد تنبأ بحركات الكواكب بدقة في حدود 5 درجات من القيم الحديثة. كان نموذجا يعتمد على مركزية الأرض مبنيا عن طريق المنطق الهندسي. ولاحقا سيبني كوبرنيكوس نظاما يعتمد على مركزية الشمس، وسيبنيه أيضا معتمدا على المنطق الهندسي. استخدم بطليموس الهندسة لوصف المشاهدات الفلكية. وكان يتفق مع أرسطو بأن الأفلاك السماوية، التي تحمل الكواكب، تقوم بحركة منتظمة. كما افترض أن الأرض كروية، وموجودة في مركز الكون، وثابتة؛ فكان يرى أنه إن لم تكن الأرض مركز الكون، لم يكن سيحدث اعتدالان، وأن «الفترات الفاصلة بين الانقلاب الصيفي والشتوي لن تكون متساوية» (بطليموس 1984). قدم بطليموس أسبابا وجيهة تماما لرفض الفكرة السخيفة بوجود أي حركة للأرض. ويقال إن أرسطرخس الساموسي (310-230 قبل الميلاد) أشار إلى الدوران اليومي والسنوي للأرض (دراير 1953، الفصل السادس ، 136-148؛ دكسترهوز 1956، الفصل الأول؛ كون 1957، الفصل الأول؛ كوستلر 1964، 50-52)، ولكن إذا كانت الأرض تتحرك، فسكانها سيشعرون بآثار ذلك بوضوح؛ فإذا كانت الأجسام التي تلقى في خط مستقيم لأعلى في الهواء تعود في خط مستقيم إلى النقطة التي أطلقت منها، والمباني تنهار تحت وطأة الحركة، وإذا كانت الطيور تطير من الغرب إلى الشرق (بطليموس 1984؛ قارن كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول)؛ كان منطقيا - بالنسبة للعقل الإغريقي - أن الأرض ثابتة.
كلاوديوس بطليموس (100-175 ميلادية).
ولكن ثمة مشكلة؛ فالراصد الأرضي لا يرصد انتظام حركة الكواكب مقابل خلفية من النجوم الثابتة. كان ينبغي على بطليموس - على غرار الفلكيين الآخرين من قبله - تفسير اختلافين رئيسيين في حركة الكواكب من منطلق فرضياته الأساسية؛ أولا: مسألة «الدوران غير المنتظم» للكواكب، وثانيا: «الدوران القهقري» لها. تنشأ المشكلة بسبب أن المشاهدات لا تتفق مع الفرضيات البطلمية عن حركات الكواكب. المشكلة الأساسية لعلم الفلك القديم هي بناء نماذج هندسية تؤكد الفرضيات المسبقة وتفسر ظاهريا الحركات الواضحة للكواكب. إنها مشكلة الحفاظ على المظاهر البادية، وليس بناء نماذج واقعية للنظام الشمسي. وعلى غرار أسلافه الإغريقيين، اعتمد بطليموس على النماذج الهندسية لحل هذه المشكلات. حاول بطليموس ملاءمة المشاهدات مع فرضياته التي لا جدال فيها: الحركة الدائرية للأجرام السماوية ونظرية أرسطو للحركة، ولكن بطليموس حسن من فائدة النماذج. ابتكر بعض أسلاف بطليموس - على غرار هيبارخوس (190-125 قبل الميلاد) - أدوات هندسية جديدة للتعامل مع هذه المشكلات، وقد استخدمت «الحركة اللامتراكزة» من أجل حل المشكلة الأولى، واستخدمت «أفلاك التدوير» لحل المشكلة الثانية. وأشار بطليموس في كتابه المجسطي على نحو متكرر إلى أعمال هيبارخوس، عادة بقصد تحسينها، وقدم جهازا هندسيا جديدا (الموازن) للوصول إلى نموذج هندسي أفضل للظواهر البادية. وكان يعالج كل مشكلة على حدة. على سبيل المثال، في تعامله مع الحركة السنوية الظاهرة للشمس حول الأرض، تجاهل الحركة اليومية الظاهرة. وخلافا لنموذج كوبرنيكوس، لا يقدم نموذج بطليموس نظاما تكون فيه الظواهر البادية ناتجة عن عامل مشترك؛ على غرار حركة الأرض حول الشمس.
كانت المشكلة الأولى هي «الدوران غير المنتظم» للكواكب عبر دائرة الأبراج ، بغض النظر عن تأثير الدوران القهقري، كما أوضح كبلر لاحقا، فإن الكواكب لا تدور حول الشمس بسرعة موحدة. فكلما كان الكوكب أقرب إلى الشمس، تحرك على نحو أسرع، وكلما ابتعد عن الشمس كان سيره أكثر بطئا، ولكن لم يستطع الإغريق تقبل أن الدوران غير المنتظم حقيقي. كان يجب أن يكون ظاهريا.
كيف يمكن لحركة دائرية منتظمة أن تفسر حركة غير منتظمة؟ الجواب هو الحركة اللامتراكزة (الشكل
1-3 ).
وفق ذلك النموذج كانت الشمس تتحرك حول الأرض عبر دائرة لا متراكزة بسرعة منتظمة. وتوصف الدائرة بأنها «لا متراكزة» لأن الأرض لا تقبع في مركزها. فبينما تدور الشمس حول مركز الدائرة اللامتراكزة، فإن الأرض تكون بعيدة قليلا عن المركز، والمسافة بين هاتين النقطتين مسئولة عن ظهور الاختلاف في الحركة. وكما يرى من وسط الدائرة اللامتراكزة، يتحرك الكوكب من خلال زوايا متساوية في أزمنة متساوية، ولكن كما يرى من الأرض، هذا الكوكب يتحرك من خلال زوايا مختلفة في أزمنة متساوية. بالنسبة للراصد الأرضي، عندما يكون الكوكب أقرب إلى الأرض، يبدو أنه يتحرك على نحو أسرع.
شكل 1-3: الحركة اللامتراكزة. تفسير الدوران غير المنتظم الظاهر من خلال افتراض الدوران المنتظم. تدور الشمس على نحو منتظم حول نقطة مركز الدائرة اللامتراكزة، ومع ذلك، عند النظر من الأرض، فإن الدوران المنتظم يبدو غير منتظم. في الموقع 1 تظهر الشمس في أبعد نقطة عن الأرض (نقطة الأوج)، بينما في الموقع 2، تظهر في أقرب نقطة لها إلى الأرض (نقطة الحضيض).
المشكلة الثانية هي الحركة الشاذة الواضحة باتجاه الغرب للكواكب بالنسبة للنجوم؛ أو «الدوران القهقري»، المصحوب بتغيير في درجة السطوع. بالنسبة للكواكب الخارجية، تحدث هذه الحركة قرب وقت المواجهة الشمسية عندما يكون الكوكب في مواجهة الشمس في السماء. وبالنسبة للكواكب الداخلية، مثل عطارد والزهرة، فإنها تحدث عند الاقتران السفلي، عندما نراهما قريبين أحدهما من الآخر مع الشمس في السماء. فيبدو أن مسار الكواكب العادي المتجه شرقا قد توقف؛ فلبعض الوقت، يرى الراصدون الكواكب تتجه غربا (شكل
1-4 ).
شكل 1-4: مخطط مبسط لحركة الدوران القهقري الظاهرية لكوكب الزهرة كما ترى عن طريق راصد أرضي. «يحدد» الراصد موضع الزهرة مقابل خلفية النجوم بينما يستعد الكوكب لتجاوز الأرض في مدارها؛ الموقع 1. عندما يتجاوز الزهرة الأرض، يرصد الراصد ظاهرة ثانية: كما هو متوقع، انتقل الزهرة من الغرب إلى الشرق؛ الموقع 2، ولكن في مرحلة لاحقة، تكشف مشاهدة ثالثة عن تقهقر ظاهري وغير طبيعي في مدار كوكب الزهرة نحو الغرب. في نظرية مركزية الشمس، يرجع ذلك إلى الوضع النسبي للأرض بالنسبة للزهرة حول الشمس (انظر زيليك 1988، 40؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس).
حل ظهور حركة الدوران القهقري باستخدام جهاز أفلاك التدوير الهندسي. تحمل الكواكب على دوائر أصغر حجما (أفلاك التدوير) تتحرك على دوائر أكبر منها (المؤجلات). على الرغم من أن الإغريق رصدوا الدوران القهقري، فإنه كان ظاهريا، وليس حركة حقيقية؛ فالحركة الحقيقية للأجرام السماوية تتطلب حركة دائرية منتظمة. كانت المهمة تتمثل في بناء نماذج متلائمة مع المشاهدات دون انتهاك الفرضيات المسبقة. وضع نموذج للدوران القهقري عن طريق إضافة «مؤجل»، مع بقاء الأرض في المركز، ووجود دائرة صغيرة - فلك التدوير - مركبة على مؤجل (شكل
1-5
أ). يتحرك نصف قطر فلك التدوير والمؤجل في الاتجاه نفسه. وبالنسبة للراصد الأرضي، يقوم الكوكب بحركة دوران قهقرية بينما يمر من خلال الجزء السفلي من حركة فلك التدوير، ومع ذلك، فهذا النموذج مفرط البساطة؛ فلا يمكنه تفسير التغيرات المرصودة في الحركة القهقرية للكواكب. ولتفسير الاختلاف، اخترع بطليموس جهازا جديدا: «الموازن» (شكل
1-5
ب)؛ وهو نقطة وهمية على الجانب الآخر من مركز المؤجل كما يرى من الأرض. وعند الموازن، يرى الراصد الكوكب يتحرك حول مداره في السماء بسرعة منتظمة بالنسبة للنجوم، ولكن عند النظر من الأرض بعيدا عن مركز الدائرة، تبدو الحركة غير منتظمة.
شكل 1-5: (أ) حركة غير منتظمة. يحدث الدوران القهقري عندما يتحرك الكوكب من الموضع 1 إلى الموضع 2 على فلك تدويره. (ب) الموازن. التفسير الهندسي للدوران القهقري بواسطة جهاز جديد، الموازن (انظر كوبرنيكوس 1543، الكتاب الثالث؛ بطليموس 1984؛ أندرسن/باركر/تشن 2006، الفصل 3.6). من المفترض أن يكون هذا التمثيل نموذجا أكثر توافقا مع البيانات من النموذج الأولي. من وجهة نظر الموازن، تبدو حركة الكوكب في فلك التدوير منتظمة. وأدخل مزيد من المرونة من خلال السماح للأرض بالوجود إما في مركز المؤجل أو بجوار المركز، كما هو مبين في الرسم البياني.
من أجل دراستنا الفلسفية اللاحقة، ينبغي أن نلاحظ عدة نقاط: كان بطليموس مدركا للغاية لدور النماذج التمثيلية في نظريته. وكانت طريقته المعتادة هي استخدام النماذج الهندسية، ولكن من أجل تمثيل النجوم الثابتة اختار كرة مصمتة كنموذج مصغر (بطليموس 1984). وفي الوقت نفسه، كان بطليموس قلقا حيال ملاءمة فرضياته الخاصة بمركزية الأرض. وكان متشككا بما فيه الكفاية لتحذير قرائه بعدم توقع أن يمثل نموذجه الهندسي الظواهر السماوية على نحو دقيق (بطليموس 1984، 600-601). وعلى غرار كون أرسطو ذي الفلكين، حذر بطليموس من أن النماذج الهندسية المبتكرة على يد أحد سكان الأرض لا يمكن أن تصف بدقة كمال الظواهر السماوية. وكما سنرى، فإن مسألة كيفية تمثيل النماذج للواقع المادي تعد محط اهتمام بالغ لدى الفلاسفة. وأخيرا، اتفق بطليموس مع العرف الإغريقي بأن نماذج أفلاك التدوير والدوائر اللامتراكزة كانت أجهزة مماثلة (بطليموس 1984؛ روزن 1959، 37؛ 1984، 27؛ دكسترهوز 1956، 1). وأي من هاتين الفرضيتين سوف تفسر ظهور الدوران غير المنتظم للكواكب بالنسبة للراصد الأرضي، ومع ذلك، تبنى بطليموس مبدأ استخدام الفرضية الأبسط فحسب (بطليموس 1984). ويثير قبول المتماثلات قضايا فلسفية مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بالتفسير والتمثيل. فإذا كانت الدائرة اللامتراكزة تمثيلا جيدا مثل جهاز المؤجل-فلك التدوير، ألا توجد وسيلة لتحديد أيهما يتناسب مع النظام المادي الفعلي على نحو أفضل من الآخر؟ هذه المخاوف من التبعات الفلسفية للنظريات العلمية.
قبل أن نذكر بعض التطورات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، والتي خلقت ظروفا مناسبة لظهور الثورة الكوبرنيكية، ينبغي أن نضيف بعدا تاريخيا آخر؛ وهو التآلف بين «النظرية الأرسطية واللاهوت». وهذا البعد التاريخي هو ما يستطيع وحده أن يوضح أسباب الصدام بين جاليليو والكنيسة في القرن السابع عشر، وقد طور هذا التآلف توما الأكويني (1225-1274) وألبيرتوس ماجنوس (1206-1280)، وغيرهما.
وفقا لتوما الأكويني، تعتمد المعرفة الحقيقية على التجربة الحسية. ويؤكد ألبيرتوس ماجنوس أيضا أن دراسة الطبيعة تقوم على التجربة الحسية، التي تقدم أعلى شكل من أشكال الإثباتات. وحيثما نفتقر إلى المعرفة، علينا أن نلتمس الوحي. فكمال السماوات - المفترض في التقاليد الإغريقية - يكافئ الآن القدرة الإلهية. ونتيجة لذلك، تقتصر معرفتنا على العالم على المدار تحت القمري. فكمال السماوات يتجاوز قدرات التفكير لدينا. يرحب الأكويني بالدراسة المنهجية للطبيعة؛ لأنه يرى في ذلك وسيلة لاكتساب المعرفة من حكمة الإله. وبعبارات أكثر حسما نقول إن توما الأكويني يأمل أن تساعد الدراسة المنهجية للطبيعة في القضاء على الخرافات. وانقيادا لهذه الشروط، لا يجوز نشأة صراع بين الفكر والوحي؛ لأن عقلنا ضعيف وذو نقائص، وفي مسائل الشك يجب أن يخضع للحقائق الأبدية كما وردت في الوحي. كان هذا توجها ذهنيا شائعا في العصور الوسطى. يدافع روجر بيكون (حوالي 1210-1292) عن فكرة مماثلة. تكمن قيمة العلم في مساهمته في تفسير الكتاب المقدس؛ فهو يساعد على تمجيد الرب. وبمجرد أن اعتنقت الكنيسة مذهب أرسطو، أصبحت كل الانتقادات التي وجهت إلى نظرية مركزية الأرض نقدا موجها أيضا للاهوت والكنيسة.
ومع ذلك فقد حدث تقدم، وحدثت بعض التطورات قرب نهاية العصور الوسطى. بيد أن التقدم اعتمد على القدرة على التغلب على الفرضيات التي لا جدال فيها، والتي تفرض قيودا على النماذج المسموح بها. ويمكن التعبير عن هذه الحاجة لإزالة الفرضيات المسبقة قبل أن يحدث التقدم بعبارات كانط. يسأل كانط على نحو عام للغاية متقلدا دور كوبرنيكوس ولكن في الفلسفة: «ما شروط إمكانية حدوث المعرفة؟» وقياسا على ذلك، يمكننا أن نسأل: «ما شروط إمكانية حدوث الثورة الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية؟» ما الفرضيات الجديدة اللازمة لتكون نظرية كوبرنيكوس قادرة على الظهور؟ وقع التشكيك في الفرضيات القديمة على مرحلتين: جذبت نظرية أرسطو للحركة التدقيق النقدي قبل التشكيك في فكرة الحركة الدائرية. (2-4) تنحية الفلسفة جانبا: دلائل المستقبل
لنعتبر نظرية أرسطو للحركة وكونه المادي، أو أجهزة بطليموس، بمنزلة تعليمات مصاحبة لمجموعة من الأدوات نحاول من خلالها بناء نموذج للكون. لبنات البناء لدينا هي نجوم ثابتة وكواكب، وأفلاك دائرية، وأرض ثابتة. تتضمن ورقة التعليمات لدينا شرطا إضافيا: يجب أن يكون النموذج الذي نبنيه قريبا بأكبر قدر ممكن مما ترصده العين المجردة. الأكثر لفتا للنظر هو أننا نرصد حركة الكواكب على خلفية النجوم، وتعاقب الفصول، والتتابع المنتظم لليل والنهار. بوجود هذه العناصر في متناول أيدينا، لا يمكننا أن نبني سوى نموذج قائم على مركزية الأرض. يجب أن تتحرك الشمس والكواكب وحتى خلفية النجوم الثابتة البعيدة أمام أعيننا؛ لذا يجب وضع الأرض في مركز هذه الحركات، وإلا فإننا سنعجز عن أن نفسرها (شكل
1-1 ).
إذا اتبعنا التعليمات، فإن قدرتنا على بناء نوع «واحد» من النماذج تمثل في الوقت نفسه عجزا عن بناء نموذج «مختلف». يمكننا التفكير في مجموعة الأدوات كإنشاء فضاء، على نحو أدق «فضاء محدد»، لاستيعاب النموذج الكوني. هذا الفضاء المحدد فضاء منطقي؛ لأنه يخلق بعض الاحتمالات المحددة لبناء النموذج، سواء تحققت أم لا. سيسمح لنماذج من النوع الهندسي أن تشغل هذا الفضاء، وستستبعد أنواع النماذج الأخرى. وتخضع لعبة الاحتمالات والمستحيلات للقيود التي نقبلها. عمل أرسطو في ظل قيود نظريته للحركة والكون ذي الفلكين. إذا غيرنا هذه القيود، فسيظهر فضاء منطقي آخر، ويستوعب أنواعا أخرى من النماذج. ويمكن فهم «القيود» على أنها شروط مقيدة، يجب التوافق مع عباراتها الرمزية من أجل أن تصبح عبارات علمية مقبولة بشأن العالم الطبيعي. وهذا يعلمنا بعض الدروس التي ستثير اهتمام فيلسوف العلم. (1)
تأتي النظريات العلمية مصحوبة ببعض «القيود»: قيود تجريبية ونظرية يمكن تقسيمها أكثر إلى قيود حسابية ومنهجية وميتافيزيقية. وتعمل النظريات العلمية في ظل هذه القيود. وباستثناء القيود التجريبية، تمثل هذه القيود «فرضيات مسبقة». الفرضيات هي افتراضات أساسية محمية - على الأقل في الوقت الراهن - من التحقيق النقدي، كما تقبل على أنها «حقيقية»؛ فهي بمنزلة بداهات تاريخية. إنها ليست معصومة من الشكوك، لكنها تظل حقائق لا جدال فيها لفترات معينة من الزمن. وسواء كانت صحيحة أو خاطئة، فإنها توجه الأبحاث في اتجاهات معينة. تحتوي مجموعة أدوات أرسطو مثل هذه الفرضيات؛ فالكون ذو الفلكين وأجهزته الهندسية - بما في ذلك نظرية الحركة - يشكلان الفرضيات الأرسطية. يمكن أن تتعرض الفرضيات للشكوك. وحدث هذا عندما استبدلت أجهزة أخرى بحلقات أرسطو المتحدة المركز. ومن خلال هذا التدقيق، تعدل القيود أو ترفض. وبالفعل، سوف يغير التعديل على تعليمات النموذج، مع الحفاظ على العناصر، احتمالات بناء النموذج. على سبيل المثال، اعتماد أفلاك التدوير خلق فضاء لنموذج بطليموس. وأحيانا التعديل على أحد القيود يكون أكثر تأثيرا. حرر التشكيك في نظرية الحركة الأرسطية والاستعاضة عنها بما يسمى «نظرية الزخم» الفضاء المقيد من أجل تطوير نظريات جديدة. من الصعب أن نتصور كيف يمكن أن تظهر نظرية مركزية الشمس لو لم تتغير بعض الفرضيات الأساسية (بلومنبرج 1965، الفصل 1). على سبيل المثال، كان كوبرنيكوس قادرا على رفض بعض الاعتراضات الكلاسيكية ضد حركة الأرض، لأنه لم يعد يسلم بنظرية الحركة الأرسطية. فسمح له تطور نظرية الزخم باعتبار أن حركة الأرض أمر طبيعي. (2)
يمكننا أن نرى أيضا أن بناء النموذج الكوني لا يقتصر على قراءته من المشاهدات المتاحة وحسب. فلا يمكن أن يكون كذلك إذا كانت الفرضيات واقعا للتفكير العلمي بقدر وسائله ونتائجه (فاينرت 2004). حتى وجهة النظر الاستدلالية البسيطة للمنهج العلمي لن تكفي، على الأقل ليس في حالة الثورات العلمية. لنسم وجهة النظر، التي ترى العلم تعميما مباشرا نابعا من المشاهدات والتجارب، «الاستدلال بالتعدد». انتقد فرانسيس بيكون بالفعل وجهة النظر تلك. فثمة طريقة أكثر تطورا تسمى «الاستدلال الإقصائي»، وأوصى فرانسيس بيكون بوجهة النظر هذه باعتبارها منهجا علميا مثمرا. لقد أطلق عليها اسم «الاستدلال الإقصائي»؛ لأن النماذج البديلة أو المنافسة تواجه بالأدلة التجريبية وغيرها من صور القيود. والنموذج الذي يبلي على نحو أفضل في ضوء هذه القيود سوف يكتسب مصداقية، في حين أن النموذج المنافس سوف يفقدها. إذن، تتطلب وجهة النظر هذه وجود نموذجين متاحين على الأقل يواجهان الأدلة. وكما سنرى، حدثت الثورتان الكوبرنيكية والداروينية من خلال الاستبعاد التدريجي لنماذج فاشلة في مواجهة عدد متزايد من القيود. أما وجه الصعوبة في الثورة الفرويدية فهو بالتحديد أن الأدلة المتوفرة غير قادرة على ترجيح كفة بعض النماذج عن كفة منافسيها . هل الأسلوب العلمي الغالب هو الاستدلال الإقصائي أم مبدأ الدحض الأكثر شيوعا، كما اقترحه كارل بوبر؟
وحتى في هذه المرحلة المبكرة من المناقشة، من الجيد طرح هذه الأسئلة الفلسفية؛ لأن القضايا الفلسفية لا يمكن فصلها عن الأمور العلمية والتاريخية، وهذا أحد الفرضيات الرئيسية في هذا الكتاب. بعبارة أخرى: «الثورات العلمية لها تبعات فلسفية.» وسنقابل هذا المنطق في كثير من النقاط على مدار الكتاب. (3)
ثمة سؤال مباشر يطرأ على الذهن، وليس فقط لذوي النزعة الفلسفية. هل هذه الأدوات الهندسية تمثل فعليا أفلاكا مادية، في حين أن الاختلافات غير المنتظمة مجرد ظواهر؟ هل هذه الأدوات الهندسية - فلك التدوير والمؤجل، والموازن والدوائر اللامتراكزة - تصف آلية فيزيائية ما موجودة في الطبيعة؟ هذه هي مسألة القوة «التمثيلية» للنماذج العلمية، التي شغلت بطليموس بالفعل. هل التمييز بين الظواهر والواقع - بين الطريقة التي يبدو أن الكواكب تتحرك بها وفقا للرصد بالعين المجردة والطريقة التي قيل إنها تتحرك بها وفقا للفرضيات الإغريقية - يتوافق مع سمة فيزيائية ما للكون؟ إذا كنا مهتمين بماهية العلم وما يفعله، فإن مثل هذه الأسئلة - على الرغم من أنها فلسفية بطبيعتها - لا مفر منها. وأيا كان الموقف الذي نتخذه استجابة لهذه الأسئلة، فإنها فعليا تؤدي دورا حقيقيا. انقسم أنصار نظرية مركزية الأرض حيال هذه المسألة؛ إذ اعتقد أرسطو أن الأفلاك كانت أفلاكا مادية حقيقية، كما تمتلك حركة طبيعية: دوران دائري. والحركة الطبيعية لتلك الأفلاك تحرك كل الأجرام السماوية، وهي تعتمد على محرك ثابت من أجل الحصول على احتياجاتها من الطاقة. كان بطليموس أقل تأكدا بكثير من الواقع المادي للكرات البلورية وأفلاك التدوير والمؤجلات التي استخدمها كأدوات هندسية. بالتأكيد كانت وظيفتها هي «تفسير الظواهر»، ولكن بطليموس لم يعتقد أن الأدوات الهندسية ملائمة للظواهر السماوية على نحو تام (بطليموس 1984، 600-601؛ دراير 1953، الفصل التاسع). حاولت النماذج الإغريقية التوفيق بين ما ترصده العين المجردة وبين فرضيات مسبقة بشأن العالم المادي. فلم تعتمد فرضيات وجود الحركة الدائرية المنتظمة، والكون ذو الفلكين، والأدوات الهندسية على الرصد . بل على العكس من ذلك ، بدت المشاهدات متعارضة مع الفرضيات. يا لسوء حظ المشاهدات! لم يشجع الفصل بين علم الكون الفيزيائي وعلم الفلك الرياضي علماء الفلك الإغريق على التفكير في المشاهدات كاختبارات للنماذج الرياضية. كان السؤال هو هل كانت النماذج تستطيع تحقيق ما هو أكثر من «تفسير الظواهر». يؤدي هذا السؤال إلى أفكار الفلسفة الذرائعية والواقعية؛ التفسير والتمثيل.
عانت نظرية مركزية الأرض من حالة عدم اليقين فيما يتعلق بالواقع المادي للنماذج الهندسية حتى لحظة زوالها النهائي، وقد أعرب العالم العربي تحديدا، الذي حافظ على تقاليد علم الفلك الإغريقي طوال العصور الوسطى، عن كثير من المعارضة ل «واقع» الأدوات الهندسية (روزن 1984)، ولكنها ظلت مستخدمة لنحو 1400 سنة، وقد تنبأت هذه الأدوات بمواقع الكواكب في حدود الدقة المطلوبة من جانب علماء الفلك الذين اعتمدوا على الرصد بالعين المجردة. واتبع هؤلاء العلماء نظرية الحركة الأرسطية وكون أرسطو.
كما نرى، أشار وصف نظرية أرسطو-بطليموس لمركزية الأرض إلى بعض القضايا الفلسفية العامة، التي يصعب فصلها عن المادة العلمية. (2-5) زعزعة الفرضيات المسبقة: بعض التطورات في العصور الوسطى (...) من خلال غاية الحركة ثبت «أن الحركة جزء من الأرض بوصفها وطنا للمخلوق المفكر.» (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» (1618-1621)، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
في مسرحية بريشت تصادم جاليليو مع ممثلي «المدرسة السكولاستية» (التمسك الشديد بالتعاليم التقليدية). يؤمن جاليليو بمركزية الشمس، والمشاهدات، واستقلال المنهج العلمي. يمثل عالم الرياضيات والفيلسوف عالما متدهورا؛ فهما يضعان ثقتهما في العلم الموجود في الكتب، وخبرة القدماء، ويتشبثان بإيمانهما بمركزية الأرض. يحاول جاليليو زعزعة معتقدات زائريه، ولكنها ليست آراء ضحلة؛ فهي تستند إلى فرضيات فلسفية تحدد فضاءهما المقيد. ويمكن ملاءمة نماذج معينة في هذا الفضاء المقيد، ولكن لا يمكن ملاءمة نماذج أخرى. أصبح بعض العلماء البارزين في القرن الرابع عشر منتقدين للمذاهب الراسخة؛ منهم نقولا دوتركور (توفي بعد 1350)، وجان بوريدان (1300-1358)، ونقولا الأورسمي (حوالي 320-382) في جامعة باريس، ووليم الأوكامي (1295-1349) في جامعة أكسفورد. ثمة تطوران جديران بالملاحظة على وجه الخصوص: (1) رأى نقولا دوتركور أنه يجب الفصل بين الفلسفة واللاهوت ؛ وهو الاقتراح الذي تبناه بعد ذلك جاليليو وباسكال. تمثلت الفكرة العامة في أن الفلسفة الطبيعية ينبغي أن تتناول العالم الطبيعي واللاهوت ينبغي أن يتناول العالم الروحي. (2) يجب أن تخضع النظرية الأرسطية للحركة لدراسة دقيقة. أشار نقولا الأورسمي وبوريدان - كما سيفعل كوبرنيكوس لاحقا - إلى أنه لا يمكن دحض الدوران اليومي للأرض من خلال الحجج المستمدة من النظرية الأرسطية للحركة. فوفقا لأرسطو، تقبع الأرض ثابتة في مركز العالم، لأنها تقف في مكانها الطبيعي. فإذا كانت ستتحرك، يجب أن يشعر الراصد الأرضي بتأثير هذه الحركة غير الطبيعية. كرر جان بودان - الفيلسوف السياسي الشهير من القرن السادس عشر - هذا المنطق القديم في 1597، بعد مرور خمسين عاما على صدور كتاب كوبرنيكوس (1547):
لا أحد في صوابه، أو يمتلك أدنى معرفة بالفيزياء، سيعتقد أبدا أن الأرض الضخمة الثقيلة بسبب وزنها وكتلتها، ستتمايل صعودا وهبوطا حول مركزها وحول مركز الشمس. فلو تحركت الأرض قيد أنملة، فسنرى انهيار المدن والحصون، والبلدات والجبال. (مقتبس من كون 1957، 190)
كما رأينا، قدم بطليموس حججا مماثلة تنطوي على سقوط الأجسام وتدمير المباني. كان الرد في جميع هذه الحالات هو صنع الدوران اليومي والسنوي للأرض الذي يشير بودين إليه بأنه حركة «طبيعية». ويرى نقولا الأورسمي وبوريدان أنه إذا كنا نشارك في هذه الحركة، فإننا لن نشعر بها. ويقول كوبرنيكوس إنها ليست حركة عنيفة كما كان يعتقد بطليموس؛ فالحركة العنيفة تدمر الأشياء بالفعل، ولكن دوران الأرض «يتوافق طبيعيا مع شكلها»، بحيث إن كل جزء من الأرض، «الغيوم وغيرها من الأشياء التي تسبح في الهواء أو تهبط أو تصعد لأعلى» يشارك في هذه الحركة الطبيعية للأرض (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). استخدم كوبرنيكوس أفكار الزخم لدحض الحجة البديهية القديمة. إذا كان غلاف الهواء يتحرك مع الأرض ويشاركها حركتها الطبيعية، فإن عدم وجود رياح عنيفة أمر متوقع. ونحن اليوم لم نعد نقبل نظرية الزخم، ومع ذلك، فإننا جميعا على دراية بمثل هذه الظواهر؛ ففي المركبات التي تتحرك باستمرار، تحدث أفعالنا - شرب القهوة ولعب الورق وقراءة الكتب - كما لو كانت المركبة متوقفة. يمثل مبدأ النسبية لجاليليو تفسيرنا لذلك. كانت نظرية الزخم خطوة مهمة نحو التفسير الحديث للحركة.
طورت نظرية الزخم للحركة في القرن الرابع عشر كبديل لنظرية أرسطو للحركة. ووفقا لهذه النظرية - كما أوضحها نقولا الأورسمي وبوريدان - تمارس قوة دافعة على الشيء وتحمله. هنا تدحض الحجة المعارضة لحركة الأرض. ناهض بوريدان في البداية نظرية أرسطو للحركة. إذا ألقيت أداة حادة وأداة غير حادة في مسار القطع المكافئ نفسه، فإن الهواء لا يستطيع أن يضغط على الأداة الحادة بالطريقة نفسها كما يضغط على الأداة غير الحادة. من الأفضل أن نقول إن القاذف (الطاقة الدافعة الداخلية) يمارس «زخما» أو قوة دافعة معينة على الشيء المتحرك، وأن المقذوف يتحرك في اتجاه الزخم، ولكن مقاومة الهواء و«جاذبية» المقذوف تقلل من الزخم؛ «فهو يقل بحيث تتفوق جاذبية الحجر عليه وتحرك الحجر إلى مكانه الطبيعي».
2
لعبت نظرية الزخم دورا أساسيا في الثورة الكوبرنيكية؛ فكانت أحد الظروف التي جعلتها ممكنة. وكذلك اعتمد نقولا الأورسمي - تلميذ بوريدان - في دحضه لحجة أرسطو الرئيسية بشأن ثبات الأرض على نظرية الزخم، وقد وجه انتباهه إلى الحجة الأولى ضد حركة الأرض. ادعى القدماء أنه إذا كانت الأرض تتحرك شرقا حول محورها، فإن الراصد الذي يرمي حجرا لأعلى في خط مستقيم سيرى الحجر يعود إلى الأرض في ناحية الغرب من قدميه. في غياب نظرية الزخم، بدت هذه الحجة منطقية؛ ففي وجهة نظر القدماء، سوف يدفع الحجر بعيدا عن موقعه الطبيعي وسيسعى للعودة إليه، ولكن بينما كان الحجر في الهواء، فإن الأرض ستدور نحو الشرق. وما دام الحجر لا يستطيع أن يصاحب الأرض في حركتها، يجب أن يقع إلى الغرب من نقطة انطلاقه، لكن أشار نقولا الأورسمي إلى أن الأرض المتحركة تمنح الحجر زخما نحو الشرق. وهذا سيجعل الحجر يتبع الأرض المتحركة (كون 1957، 121؛ ماسون 1956؛ ولف 1978، الجزء الثاني، الفصل 7).
وسع نقولا الأورسمي وبوريدان هذه الحجة لتشمل حركة الأرض. لم تكن توجد حاجة إلى «قوة سماوية» لتحريك الأجرام السماوية. لم تكن توجد حاجة إلى افتراض وجود احتكاك بين الأفلاك البلورية لإبقائها متحركة وفق إيقاعها الدائم. ولم تكن توجد حاجة لمحرك أرسطو غير المتحرك. ولا حاجة لكون يعاني من نقص في الطاقة. فخلال خلق الله للأرض، منحها قوة دافعة تبقيها متحركة. وخلافا للمقذوفات على الأرض - التي وفقا لنظرية الزخم، تتباطأ لأنها تواجه مقاومة الرياح وقوة الجاذبية الخاصة بها المرتبطة بالأرض - لا توجد مثل هذه القوة لتتداخل مع الحركة الأبدية للأرض. وعلى نحو أعم، تضمنت نظرية الزخم حركة دائرية مستدامة ذاتيا للكواكب أيضا (كون 1957، 121-122؛ دكسترهوز 1956، الفصل الثاني).
على المستوى المفاهيمي، كان لنظرية الزخم تبعات مهمة؛ فقد رفعت الحظر المفروض على إمكانية حركة الأرض؛ فالمنطق الأرسطي سبب ثبات الأرض، وبدت الحجج المعارضة لحركتها - الأجسام الساقطة، والرياح العاتية، وتهدم المنازل - منطقية. ثم أوضحت نظرية الزخم أن حركة الأرض كانت ممكنة من الناحية النظرية، كما أوحت نظرية الزخم أيضا بتوحيد الفيزياء الأرضية والسماوية؛ لأنها فسرت مسار الأجسام على الأرض وفي السماء وفقا للمبدأ نفسه؛ ومن ثم أدت إلى تدمير محتمل للكون ذي الفلكين. فصل أرسطو بين الحركة الدائرية - المخصصة للأجرام السماوية - والحركة المستقيمة للأجسام الأرضية، واعتبر أن الدوران هو الحركة الأساسية (أرسطو 1952أ، الكتاب الثامن). وتضمنت نظرية الزخم احتمال التخلص من الانقسام بين الفلكين فوق القمري وتحت القمري.
رغم التحرر الذي تمتعت به نظرية الزخم، لم تصل الحجج المدافعة عنها إلى نتائجها المنطقية. كان المفكرون في القرن الرابع عشر قانعين بدراسة البدائل المنطقية للنظرية الأرسطية، ولم يكونوا مهتمين بالإطاحة بها.
إذا كانت نظرية الزخم إحدى الظروف التي مكنت حدوث الثورة الكوبرنيكية، فإن ظهور «الحركة الإنسانية» في عصر النهضة كان ظرفا آخر. وجهت الحركة الإنسانية في عصر النهضة ضد «المدرسة السكولاستية» القروسطية؛ فكما يبين عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت، تنظر المدرسة السكولاستية إلى تعاليم أرسطو كأمر مقدس. فتمثلت الثقافة السكولاستية في تفسير نصوص أرسطو. فيذكر الفيلسوف في مسرحية بريشت جاليليو بأن «كون المبجل أرسطو يمثل صرحا من (...) نسب متقنة.» ويعارض جاليليو بروح العلم الحديث بأن «الثقة في أرسطو شيء، والحقائق الملموسة شيء آخر.» ولكن هذا الاعتراض دفع الفيلسوف فحسب إلى ثورة غضب عارم قائلا: «إذا كنا سنلقي بأرسطو في الوحل - الذي يمثل سلطة لا يعترف بها كل عالم كلاسيكي فحسب، ولكن أيضا يعترف بها رؤساء الكنيسة - فإن أي إطالة لأمد هذا النقاش في رأيي مضيعة للوقت. لا فائدة في المناقشات غير الموضوعية. هذا يكفي.»
ظهر مع الإنسانية اهتمام متجدد بالانتظام الرياضي والهندسي للظواهر الطبيعة. وهذا أمر مهم لأن كوبرنيكوس كان من بين الأوائل في إحياء علم الفلك الرياضي الإغريقي، الذي كان قد ازدهر في عصر بطليموس (بلومنبرج 1957؛ 1965؛ 1981). ركزت الحركة الإنسانية أيضا تركيزا جديدا على التوجهات الذهنية البشرية حيال الكون، وقد عكست المبدأ القديم الموجود منذ بطليموس القائل بأن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تمتد إلى حد السماء. فرفعت الحركة الإنسانية عالم الفلك إلى منزلة «المفكر السماوي» (بلومنبرج 1957، 77)، مؤكدة على أن بمقدور البشر أن يفهموا طريقة عمل الكون. وهذا التأكيد نقل التركيز من الفهم عن طريق الملاحظة إلى الفهم عن طريق التفكير المنطقي. وكان للتركيز على الفهم المنطقي على أساس الرصد الشخصي من الأرض انعكاسات مهمة على نظرية مركزية الشمس. (3) نظرية مركزية الشمس
ولماذا لا نعترف بأن حركة الدوران اليومية تبدو منتمية إلى السماء ولكنها في الواقع تنتمي إلى الأرض؟ (كوبرنيكوس، «عن دورات الأجرام السماوية» (1543)، الكتاب الأول، الفصل 8 (17)).
توفي نيكولاس كوبرنيكوس في 24 مايو 1543. وبعد موته بأسابيع قليلة، نشر كتابه العظيم «عن دورات الأجرام السماوية». كان العنوان الأصلي للكتاب «عن دورات الأفلاك السماوية»، وغير هذا العنوان المقصود عن طريق أندرياس أوزياندر إلى «عن دورات الأجرام السماوية» (بلومنبرج 1957، 79؛ 1981، المجلد الثاني، 344). كان أوزياندر رجل دين ومبشرا يعيش في نورمبيرج، وأشرف على نشر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، كما أضاف أيضا مقدمة مهمة فلسفيا لعمل كوبرنيكوس دون توقيع. وأشار كبلر لاحقا إلى أن أوزياندر هو مؤلف المقدمة مجهولة المؤلف. كانت المقدمة مهمة فلسفيا لأن أوزياندر حاول تفسير الكتاب على أنه أطروحة لا تتحدى الرؤية الكونية الشائعة؛ وهو ما يخالف الانطباعات الأولى. ظل كوبرنيكوس يعمل على رائعته هذه لسنوات، ولكنه تردد في نشرها ؛ فعلى غرار داروين من بعده، خشي كوبرنيكوس أن أفكاره سوف تلقى رد فعل عدائيا. ومع ذلك، قبل نشر هذا الكتاب، تم تداول نسخ مكتوبة بخط اليد من «صورة لنظريته حول الحركات السماوية» عرفت بعنوان «الشرح المختصر». كانت قد كتبت في الفترة بين 1502 و1514 (انظر روزن 1959، مقدمة). قدم كوبرنيكوس في هذين العملين نموذجا للنظام الشمسي قائما على مفهوم مركزية الشمس. (3-1) نيكولاس كوبرنيكوس
لم يكن إنجاز كوبرنيكوس شيئا تفرضه المشاهدات الجديدة، بل كان انتصارا للعقل في تصور ما كان في الأساس ترتيبا أجمل للكواكب. (جنجريتش، «الكتاب الذي لم يقرأه أحد» (2004)، 116)
يتبين من النظرة الفاحصة أن كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» ينقسم إلى قسمين. يقدم كوبرنيكوس في الفصل الأول فكرة عامة عن نظام شمسي المركز. يذهب كوبرنيكوس إلى أن اعتراضات الإغريق على فكرة أن الأرض تتحرك لا تستطيع الصمود أمام النقد. ويشير إلى عدد ممن سبقوه من الإغريق إلى فكرة مركزية الشمس، وقد ذهب إلى أن مركزية الشمس تقدم تفسيرا للنظام الشمسي أكثر بساطة أو أكثر اتساقا. وبالنسبة لكوبرنيكوس - وكذلك الإغريق - يتألف الكون من النظام الشمسي والنجوم الثابتة. ويحتوي الجزء الثاني من الكتاب على الحسابات الرياضية لحركة الكواكب. وهو جزء تقني أكثر بكثير، ولكن كوبرنيكوس يستخدم الأدوات الهندسية نفسها التي استخدمها الإغريق (الدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير).
نيكولاس كوبرنيكوس (1473-1543).
أصبح من المعتاد منذ عصر كانط أن توصف نتيجة أعمال كوبرنيكوس باسم «التحول الكوبرنيكي» (دكسترهوز، 1956، الجزء الرابع؛ بلومنبرج 1981، الجزء الخامس). وهذا المصطلح مفيد للغاية؛ فهو يميز الإنجاز الكوبرنيكي دون إعلاء عمل كوبرنيكوس إلى مصاف الثورة العلمية.
التحول الكوبرنيكي هو مفهوم الكون شمسي المركز، الذي تحمل فيه الكواكب على أفلاكها حول شمس مركزية (رئيسية)، وليس حول أرض مركزية. لم تكن هذه الفكرة في حد ذاتها جديدة، لأنها كانت موجودة منذ العصور القديمة؛ فقد شيد عالم الفلك الإغريقي أرسطرخس الساموسي نظاما شمسي المركز للكون، فيه تدور الأرض يوميا حول محورها وسنويا حول الشمس. وتصور مفكرون آخرون - في العصور القديمة (هرقليطس) وفي القرن الرابع عشر (بوريدان ونقولا الأورسمي ونقولا الكوزاني) على حد سواء - حركة الأرض اليومية؛ فما الجديد في أعمال كوبرنيكوس؟ رغم أن عمل أرسطرخس لم يصل إلينا، فقد صار كوبرنيكوس أول عالم فلك يشيد نظاما رياضيا لحركة الكواكب من منظور مركزية الشمس. حاول كوبرنيكوس استنتاج كل الظواهر السماوية من عدد قليل من الافتراضات الأساسية («الشرح المختصر» 1959، 58-59). يمكن تفسير جميع المشاهدات عن طريق افتراض حركة الأرض. افترض كوبرنيكوس أن الشمس ثابتة ولكن كبلر صحح لاحقا هذا الرأي مشيرا إلى أن الشمس تدور حول محورها
3 (كبلر 1618-1621، الجزء الثاني). كان كوبرنيكوس أول من وضع تقريرا مفصلا عن النتائج الفلكية الناجمة عن حركة الأرض (كون 1957، 142، 144). فذهب إلى أنها مسئولة عن الظواهر وأنها تنشئ نظاما «مترابطا» لترتيب وأحجام جميع الأفلاك والنجوم.
كان كوبرنيكوس يدرك جيدا أن «الترابط» بين الظواهر الطبيعية سيؤدي إلى نموذج مترابط للكون. وفي إهدائه الكتاب إلى البابا بولس الثالث، أوضح كيف نقله تفكيره من ترابط الظواهر الطبيعية إلى نموذج مركزية الشمس الأكثر ملاءمة لها:
وهكذا، بعد توضيح الحركات التي أعزوها إلى الأرض في موضع لاحق من العمل، اكتشفت أخيرا - بمساعدة من المشاهدات الطويلة والعديدة - أنه إذا ما كانت حركات النجوم السيارة الأخرى مرتبطة بالحركة الدائرية للأرض، وإذا حسبت الحركات وفقا لحركة دوران كل كوكب، فلن يتضح أن جميع الظواهر تنبع من هذا فحسب، ولكن سيتضح أيضا أن هذا الترابط يربط معا على نحو وثيق ترتيب وأحجام جميع الكواكب وأفلاكها أو دوائرها المدارية والسماوات نفسها، بحيث لا يمكن لشيء أن ينتقل في أي جزء منها دون الإخلال بما تبقى من أجزاء وبالكون ككل. (كوبرنيكوس 1543، 6)
يزعم كوبرنيكوس وتلميذه جورج يواخيم ريتيكوس (1514-1576) أن فرضية مركزية الشمس تمتلك العديد من المزايا أكثر من فرضية بطليموس. وتنبع هذه المزايا من معاملة الكواكب وحركاتها ك «نظام»:
وفقا لكوبرنيكوس، تفسر فكرة الأرض المتحركة - دورانها اليومي والسنوي - على نحو طبيعي كل المشاهدات السماوية. على سبيل المثال، يبدو أن المعضلتين الكبريين الموروثتين من العصور القديمة تختفيان في نموذج مركزية الشمس؛ إذ تصبح حركة الدوران القهقري للكواكب (الداخلية والخارجية) نتيجة طبيعية لحركة الأرض حول الشمس (المركزية). فكوكب داخلي على غرار عطارد له فترة مدارية أقصر من الأرض؛ فهو يدرك الأرض ويتخطاها في مدارها السنوي. وبالنسبة للمراقب الأرضي، تبدو حركته كحركة دوران قهقري (شكل
1-3 ). أما المشكلة الثانية فكانت الدوران غير المنتظم للكواكب. بدا أن الكواكب تستغرق أزمنة مختلفة لاستكمال رحلاتها المتعاقبة حول المسار الظاهري للشمس. تمثل جزء من الحل في وضع الكواكب على بعدها الصحيح من الشمس. تحتاج الكواكب الخارجية لإكمال دورتها السنوية وقتا أطول من الكواكب الداخلية، ولكن لم يحقق حل كوبرنيكوس سوى نجاح جزئي؛ لأنه كان لا يزال يفترض وجود الحركة الدائرية المنتظمة. مع ذلك، يمكن تفسير كلتا «الظاهرتين» دون استخدام أفلاك التدوير الكبيرة؛ فالاختلالات الرئيسية لحركة دوران الكواكب ظاهرية وحسب (كون 1957، 149، 166-171؛ زيليك 1988، 49). تنتج هذه الظواهر بسبب الحركة المدارية للأرض. وبما أن الشمس ثابتة في النظام شمسي المركز، فلا يوجد لها حركة دوران قهقري (شكل
1-1 ، مربع 1-1) (انظر كون 1957، 66، 69؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الثالث).
مربع 1-1: ترتيب الكواكب في النظام الشمسي المركز «الشمس، عطارد، الزهرة، الأرض، القمر، المريخ، المشتري، زحل، النجوم الثابتة.»
مقارنة مع ترتيب الكواكب في النظام الأرضي المركز: «الأرض، القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشتري، زحل.»
يحدد كوبرنيكوس أيضا المسافات «النسبية» لبعد الكواكب عن الشمس مستخدما أسلوبا معروفا من العصور القديمة (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول؛ نوجيباور 1968؛ كون 1957، 142، 175؛ زيليك 1988، 40-41). إذا اعتبرنا أن المسافة بين الشمس والأرض وحدة واحدة، فإن عطارد يقع على بعد 1 / 3 وحدة من المسافة بين الأرض والشمس، والمريخ عند ، والمشتري عند 5 وزحل عند 9 وحدات من المسافة بين الأرض والشمس. يقول كوبرنيكوس: «يجب أن يقاس حجم الدوائر المدارية بفترة زمنية» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). ويعني بهذا أن بعد الكوكب عن الشمس ينبغي أن يحدد من واقع فترته المدارية. وبهذا يرفض ممارسة استخلاص المسافات الكونية التي تعود للقرون الوسطى من خلال طريقة بطليموس الخاصة بتداخل الدوائر السماوية بعضها في بعض وفقا لنسب معينة. ويشير كوبرنيكوس إلى أن النموذج الشمسي المركز هو وحده الذي يفي بالعلاقة بين المسافة والفترة الزمنية؛ ففي النظام شمسي المركز، يتحدد ترتيب الكواكب من خلال رصد الفترة المدارية للكواكب. فيعامل كوبرنيكوس الكواكب كنظام مترابط (شكل
1-6 ).
على الرغم من أن افتراض الأرض المتحركة يسمح لكوبرنيكوس بالتخلي عن أفلاك التدوير الكبيرة، فإنه لا يزال بحاجة إلى أفلاك تدوير صغيرة. استخدمت أفلاك التدوير الكبيرة لتفسير الظهور النوعي لحركة الدوران القهقرية. أما أفلاك التدوير الصغيرة فهي دوائر صغيرة لازمة لإلغاء التباينات الكمية الطفيفة بين المشاهدات والنماذج الهندسية (انظر كون 1957، 68). احتاج كوبرنيكوس أفلاك التدوير الصغيرة تلك؛ لأنه أيد المبدأ الإغريقي الخاص بالحركة الدائرية للكواكب، حيث كتب أن حركة الأجرام السماوية «دائرية منتظمة ودائمة» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). في الواقع يريد كوبرنيكوس إنقاذ المنهج الإغريقي من بطليموس. فيريد «نظاما يدور كل شيء فيه على نحو منتظم حول مركزه السليم كما تتطلب قاعدة الحركة الدائرية المطلقة» (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» 1959، 57-58). فيغير الموضع الهندسي للأرض ولكنه يظل متمسكا بالمثالية الأفلاطونية للحركة الدائرية المنتظمة التي يعزوها إلى الأفلاك الحاملة للكواكب (شكل
1-6 ). وينتقد بطليموس لإقحام الموازن، على الرغم من أن نموذجه استخدم جهازا رياضيا مكافئا له وهو فلك التدوير الصغير (جنجريتش 1993، 36، 175؛ نوجيباور 1968).
شكل 1-6: نموذج كوبرنيكوس للنظام الشمسي.
ثمة جانب مهم من جوانب العلم الحديث يتمثل في اعتبار المشاهدات بمنزلة اختبارات للنظريات العلمية، ولكن الإغريق سعوا إلى ملاءمة الظواهر التي رصدوها مع معتقداتهم المسبقة إزاء الظواهر السماوية. يدعي كوبرنيكوس أن عمله يعتمد على مشاهدات طويلة وعديدة، مشاهدات خاصة به وبالمنهج الإغريقي (كوبرنيكوس 1543، «رسالة ضد نظرية فيرنر» 1524؛ ريتيكوس 1540؛ انظر أيضا كوستلر 1964، 203، 581). ونحن لا نريد التشكيك في صدق كوبرنيكوس، ولكن كتابه يتضمن جداول طويلة من البيانات الفلكية المستمدة إلى حد بعيد من مشاهدات قديمة، ولكن كوبرنيكوس كان على علم أيضا بأن بعض هذه المشاهدات القديمة قد عفى عليها الزمن بالمقارنة مع القيم الحديثة.
4
ويحتوي كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» مناقشة طويلة لما يسميه أدوات «مصطنعة». وتعمل أدوات الرصد تلك على تحديد «المسافة بين المدارين» و«ارتفاع الشمس» و«مواضع القمر والنجوم» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الثاني)، ومع ذلك، لم تقدم مشاهدات كوبرنيكوس أي حقائق «جديدة»؛ فالمشاهدات التي أجراها كوبرنيكوس لم تتخط اكتشافات الإغريق. فلم تلق بظلال الشك على الفرضيات الإغريقية المسبقة بشأن الحركة الدائرية؛ ولذلك من الإنصاف القول إنه فيما يخص الناحية الرصدية، كان نظام كوبرنيكوس ونظام بطليموس متكافئين (دي سولا برايس 1962؛ جنجريتش 1982؛ هايدلبيرجر 1980). لم توجد بيانات رصدية في ذلك الوقت ترجح كفة أحد هذين النموذجين المتنافسين. عندما قدم تيكو براهي وجاليليو جاليلي اكتشافات رصدية جديدة، كان لها تبعات مهمة على الكوبرنيكية. يكمن الإنجاز الرئيسي لكوبرنيكوس في إدراكه لضرورة معاملة النظام الشمسي كنظام مترابط، وقد استنبط النتائج الرياضية للكون الشمسي المركز.
على الرغم من وجود العديد من المآخذ على أطروحة كوبرنيكوس «عن دورات الأجرام السماوية» (1543)، فيمكن القول إنها بدأت مسيرة ظهور العلم الحديث، التي بلغت مرحلتها الأولى ذروتها عند نشر نيوتن كتاب «مبادئ الرياضيات» (1687). وعلى الرغم من هذه المآخذ، فقد كان لنموذج كوبرنيكوس قوة تفسيرية أكبر من منافسيه؛ فقد مثل النظام الشمسي كنظام مترابط، وأظهر علاقات الترابط بين العديد من الظواهر السماوية وربطها بسبب أساسي واحد. ويمكننا أن نشهد قدرته التفسيرية في تفسير فصول السنة. (3-2) تفسير فصول السنة
يسمي بعض الناس الشمس - على نحو غير لائق - مشكاة الكون، ويسميها آخرون عقل الكون، ويطلق عليها البعض الآخر حاكم الكون. (كوبرنيكوس، «عن دورات الأجرام السماوية» (1543)، الكتاب الأول، الفصل العاشر، مقتبسة في روزن، «كوبرنيكوس والثورة العلمية» (1984)، 132)
أي إنسان يعرف فصول السنة، وأي نموذج فلكي يجب أن يفسر هذه الظاهرة شديدة الوضوح؛ ولكن إذا كانت الأرض تقبع ثابتة في مركز الكون، والشمس تدور في دائرة متراكزة حولها، فإن التباين السلس لفصول السنة لا يمكن تفسيره؛ فالشمس التي تدور في دائرة منتظمة ستبقى دائما على مسافة ثابتة من الأرض، مما سيؤدي إلى فصل سنوي واحد لا يتغير. كان الإغريق مدركين لهذه المشكلة، وقد عرف بطليموس من مشاهدات هيبارخوس أن «الفترة من الاعتدال الربيعي إلى الانقلاب الصيفي تساوي
يوما، وأن الفترة من الانقلاب الصيفي إلى الاعتدال الخريفي تساوي
يوما» (بطليموس 1984، الكتاب الثالث؛ كون 1957، 67). استخدم بطليموس الدائرة اللامتراكزة ، أو مختلفة المركز، من أجل حل المشكلة (شكل
1-3 ). فأطوال فصول السنة تختلف، ولكنها أيضا موزعة على نحو غير متماثل في أنحاء العالم. عندما يسود الصيف في نصف الكرة الشمالي، يسود الشتاء في نصف الكرة الجنوبي والعكس بالعكس. لنوجه تركيزنا إلى مدينتين: مدريد (إسبانيا) وويلينجتون (نيوزيلندا)، ويمكن بسهولة توضيح سبب اختيار هاتين المدينتين. فلو تمكنا من حفر حفرة تمر بمركز الأرض من ويلينجتون، فسنخرج في الناحية الأخرى في مدريد. كيف يمكن تحقيق تماثل فصول السنة في نصفي الكرة الشمالي والجنوبي في وقت واحد على نموذج أرضي المركز؟ عندما رصد الإغريق أن الشمس ترتفع عاليا في السماء في الصيف وتظل منخفضة في الشتاء، وعندما اعتقدوا أن الأرض ثابتة في مركز الكون، افترضوا أن المدار السنوي للشمس حول الأرض مائل. وكانوا يعرفون أن الميل يقرب من 23,5 درجة. نتج حل لغز فصول السنة من ميل دائرة الشمس اللامتراكزة؛ فهذا يفسر بسلاسة سبب ارتفاع الشمس عاليا في السماء في الصيف وبقائها منخفضة في الشتاء. يفسر ميل المسار الظاهري للشمس اختلاف ارتفاع الشمس في نفس الموقع - مثل الإسكندرية، حيث عاش بطليموس - أو في موقعين مختلفين، مثل ويلينجتون ومدريد. تخيل مغتربين إغريقيين يعيش أحدهما في مدريد والآخر في ويلينجتون في عام 150 ميلادية. بالنسبة لهما الأرض ثابتة وكروية، والشمس تدور في دائرة لا متراكزة مائلة في مسارها الظاهري حول الأرض المركزية. عندما يكون الوقت صيفا بالنسبة للإغريقي في مدريد، فإن ميل الدائرة اللامتراكزة يرفع الشمس عالية في السماء. وبالنسبة لمواطنه في ويلينجتون، سيكون شتاء. إن ميل المسار الظاهري للشمس يعني أن الشمس ترتفع عاليا فوق خط الاستواء، مما يؤدي إلى نهار قصير وليل طويل في نصف الكرة الجنوبي. وبالنسبة لكليهما، تحتل الشمس الموقع نفسه على المسار الظاهري. وبعد ستة أشهر تنعكس فصول السنة. وعندما يستخدم هذا الجهاز بدقة، يبدو أن «حركة الشمس على الدائرة اللامتراكزة يمكن أن تتطابق تماما مع الطول غير المتكافئ لفصول السنة.» كما يمكن أن يوضح أيضا سبب استغراق انتقال الشمس من الاعتدال الربيعي إلى الاعتدال الخريف وقتا أطول بستة أيام، وفقا للقيم الحديثة (روزن 1984، 26؛ نوجيباور 1968، 91، كون 1957، 67).
كيف فسر كوبرنيكوس فصول السنة؟ ثمة عدد من الظواهر التي يجب تفسيرها، والتي ترتبط إحداها بالأخرى كما أصر كوبرنيكوس. هل يستطيع النظام الكوبرنيكي حل هذه المعضلة؟ بصرف النظر عن حركات الأرض المألوفة - الدوران اليومي والحركة السنوية - حدد كوبرنيكوس ما يسميه «انحراف محور الأرض المتحركة» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). وهذا يناسب حركة ثالثة إلى الأرض. وهذه الحركة الثالثة تفسر تغير فصول السنة، ويسميها ريتيكوس «حركة قطبيها»:
الحركة الثالثة للأرض تسبب التغيرات الدورية المنتظمة لفصول السنة على الأرض كلها، لأنها تجعل الشمس والكواكب الأخرى تبدو متحركة على دائرة مائلة بالنسبة لخط الاستواء (...). (ريتيكوس 1540، 150-151)
لماذا يحتاج النظام الكوبرنيكي إلى افتراض دوران محور الأرض لتفسير فصول السنة؟ وفقا لكوبرنيكوس، الأرض كوكب، ولكنها مرتبطة بفلك يحملها حول الشمس، ومع ذلك، هذا يعني أن محور الأرض لا يبقى موازيا لنفسه. ثمة تجربة سهلة ستقنع القارئ بأن المحور لن يحافظ على وضعه ثابتا في الفضاء. كل ما تحتاجه هو قلم وشريط مطاطي وكوب. ضع القلم بزاوية مائلة في الكوب وقم بتدوير الكوب ببطء عكس اتجاه عقارب الساعة. لنفترض أنه في البداية يتوجه القلم من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي. ندير الآن الكوب بزاوية 90 درجة، حينها سيتوجه القلم من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي. دوران الكوب - الذي يتطابق مع الحركة الثانية للأرض في النظام الكوبرنيكي - لن يحافظ على ثبات اتجاه محور الأرض؛ لذا افترض كوبرنيكوس وجود حركة ثالثة مخروطية الشكل تعيد المحور لاتجاهه الأصلي في الفضاء (كون 1959، 165)(شكل
1-7
ب).
شكل 1-7: (أ) فصول السنة كما يراها راصد في نصف الكرة الشمالي وفقا للنظرة الكوبرنيكية الحديثة. يميل المحور المركزي للأرض بزاوية 23,5 درجة ويبقى ثابتا بالنسبة لمستوى المدار حول الشمس. يوضح النموذج كيف يرتبط الانقلاب الصيفي والشتوي ويؤديان إلى وجود أطوال مختلفة للنهار (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» 1959، 63). (ب) المواسم كما يراها راصد في نصف الكرة الشمالي وفقا لرأي كوبرنيكوس. يميل المحور المركزي للأرض بزاوية 23,5 درجة ولكنه لا يظل ثابتا بالنسبة لمستوى المدار حول الشمس. والأرض محمولة على فلك (خطين مزدوجين) حول الشمس «المركزية». وكما توضح تجربة الكوب، هذا يؤدي إلى تغيير في اتجاه المحور، يسميه كوبرنيكوس «انحراف محور» (محور الأرض). تقوم هذه الحركة بدائرة صغيرة في الاتجاه المعاكس لحركة الأرض للتعويض عن «الميل» المتغير للمحور. وفي تعديله للنظام الكوبرنيكي، استغنى كبلر عن الحركة الثالثة.
تواجهنا حالة غريبة. يستطيع نموذجا مركزية الأرض ومركزية الشمس تفسير فصول السنة. مع ذلك، تفسير بطليموس يبدو أكثر بساطة، حيث إن كوبرنيكوس يحتاج إلى افتراض حركة دوران ثالثة للأرض. ظاهريا، لا يوجد فرق بين افتراضنا وجود دائرة لا متراكزة مائلة حول الأرض الثابتة أو محور مائل للأرض المتحركة حول الشمس الثابتة. مع ذلك، ليس بالضرورة أن يكون التفسير الأبسط هو الأكثر ملاءمة. إن تفسير بطليموس مستمد من نموذج يتضمن جزءا ضئيلا من الواقع الفيزيائي للنظام الشمسي، لكن خلافا لنموذج بطليموس، يمثل نموذج كوبرنيكوس النظام الشمسي كنظام متكامل. ونتوقع أن نظام ومن خلال افتراض وجود الحركات الثلاث للأرض، يأمل كوبرنيكوس في تفسير الظواهر معا، وليس على نحو منفصل. (يستطيع بطليموس حقا تجاهل الدوران اليومي للأرض، لأنه لا يلعب أي دور في تفسير فصول السنة.) وبما أن نموذج كوبرنيكوس يتعامل مع الكواكب كنظام، فلا يواجه صعوبة في تفسير تباين فصول السنة وأطوال النهار المتفاوتة. وفي هذا الإطار، يمتلك نظام كوبرنيكوس قوة تفسيرية أكبر؛ فمن خلال اعتماد الأرض المتحركة، يفسر على نحو طبيعي حركة الدوران القهقري، وفصول السنة، والمسافات النسبية لبعد الكواكب عن الشمس، ولكن النظام الكوبرنيكي أقل عملية من النموذج البطلمي، على الأقل في هذا الصدد، ومع ذلك، فإنه يظل أكثر تشابها مع النظام الشمسي من النموذج البطلمي، وقد خضع للتعديل عندما أشار كبلر إلى أنه لا حاجة للحركة الثالثة للأرض. يستطيع كبلر الاستغناء عنها لأنه لا توجد حاجة للأفلاك؛ فعلم الفلك يستطيع تفسير هذه الظواهر بسهولة «دون الأثاث عديم الفائدة المتمثل في الدوائر والأفلاك الوهمية» (كبلر 1618-1621، الكتاب الخامس، الجزء الأول، 124)؛ فالأرض تتحرك بحرية حول الشمس، مبقية محورها دائما ثابتا بالنسبة لمحور مرسوم عبر مركز الشمس (شكل
1-7
أ). (3-3) كوبرنيكوس والتحول الكوبرنيكي
كان هذا التحول إلى حلقات الكواكب من واقع مادي إلى ظاهرة بصرية حجة لا تقهر على صحة علم فلك كوبرنيكوس. (روزن، «كوبرنيكوس والثورة العلمية» (1984)، 115-116)
أصبح من المعتاد الحديث عن التحول الكوبرنيكي منذ أشار كانط إلى فرضية كوبرنيكوس في كتابه «نقد العقل الخالص» (كانط 1787
2 ، تمهيد). أشار كانط إلى أن الفلسفة في حاجة إلى تغيير في «منظورها»؛ فالتجريبية نظرت إلى العقل بوصفه ورقة بيضاء. ومن خلال الرصد والاستدلال الاستقرائي يكتسب البشر انطباعات شعورية عن العالم المادي، ومن هذه الانطباعات يشكل العقل الأفكار التي تملأ ببطء هذه الورقة البيضاء. أما العقلانية فقد سلحت العقل البشري بقدرات فطرية؛ فمن خلال التفكير الخالص يستطيع العقل البشري فهم البنية الأساسية للعالم الطبيعي. كان الرصد لازما فحسب من أجل تأكيد الفرضيات العقلية. رأى كانط أن كلا نهجي المعرفة كان مخطئا في أحد الجوانب، وكان الأمر اللازم هو التوليف بينهما. كانت التجريبية محقة في الإصرار على أهمية المعرفة التجريبية، وكانت العقلانية محقة في الإصرار على أهمية مبادئ التفكير العقلاني. ويمكن الوصول إلى هذا التوليف من خلال تحول كوبرنيكي في الفلسفة. لا تنظر إلى المعرفة من منظور علاقة العالم-العقل على غرار التجريبية، أو من منظور علاقة العقل-العالم على غرار العقلانية. غير منظورك؛ فالمعرفة ليست ناتجة عن عالم نشط يحفر طابعه على عقل سلبي (التجريبية)، ولا المعرفة ناتجة عن عقل نشط يضع ختمه على عالم سلبي (العقلانية)؛ فالمعرفة الإنسانية تأتي عن طريق شراكة بين عقل نشط وعالم نشط؛ فالعقل يأتي بالفعل مجهزا بالمبادئ الأساسية الخاصة بالسببية والمادة والمكان والزمن، لكنها مفرطة التجرد بحيث لا يمكنها أن تشكل المعرفة التجريبية؛ فهي افتراضات للمعرفة الموضوعية. وهي في حاجة إلى التلاقي مع العالم التجريبي لتؤدي إلى المعرفة التجريبية؛ إذ يسعى العقل المنطقي إلى الاتحاد مع العالم التجريبي. هذا هو التحول الكوبرنيكي في الفلسفة.
قدم كوبرنيكوس نفسه لنا تفسيرا - أساسيا للغاية - لما نعنيه بالتحول الكوبرنيكي. «إنه تحول في المنظور.» يدعو كوبرنيكوس القارئ لتغيير بؤرة تركيز التفسير. تخيل جسما يبدو متحركا، وتخيل راصدا يبدو ثابتا. عند الجلوس في قطار متوقف عند الرصيف، غالبا لا يكون واضحا للراكب للحظات هل قطاره بدأ التحرك أو القطار الموجود على السكة الحديدية المجاورة هو الذي بدأ الخروج من المحطة. إذا بادلنا المنظور بين الجسم والراصد تبقى الحركة دون تغيير، ويمكننا وصفها بأنها حركة قطارنا نحو الأمام أو حركة القطار الآخر في الاتجاه المعاكس. ما ينطبق على هذا القطار ينطبق على الكواكب. إذا بدا أن الشمس تتحرك متخطية الراصد الثابت على الأرض من الشرق إلى الغرب، فمن المؤكد الآن أن الراصد هو الذي يتحرك متخطيا الشمس «الثابتة» من الغرب إلى الشرق. خلال هذا التغيير للمنظور، يجب أن تبقى بعض السمات «دون تغيير»؛ فكما رأينا في تفسير فصول السنة، استعاض كوبرنيكوس عن الميل في دائرة الشمس بالميل في محور الأرض. يظل الميل (23,5 درجة) ثابتا ولكن ينتقل الفلك المائل من الشمس إلى الأرض. كيف يؤثر هذا التغيير في المنظور في حالة الراصد الأرضي؟ من وجهة نظر الراصد الثابت الموجود على الأرض، يبدو أن النجوم الثابتة تتحرك من الشرق إلى الغرب، في حين تتحرك الكواكب عموما من الغرب إلى الشرق، باستثناء فترات الدوران القهقري. إذا غيرنا المنظور وجعلنا الراصد الأرضي يتحرك من الغرب إلى الشرق من خلال الدوران اليومي للأرض، تبقى الحركة ولكن يتغير الاتجاه. سيبدو لنا أن الشمس تشرق من الشرق وتأفل في الغرب. إذا جعلنا الشمس ثابتة وجعلنا الأرض تدور حول محورها من الغرب إلى الشرق، فسيظل مدار الشمس عبر السماء كما هو ولكن حينها سيتغير اتجاهها. في الواقع، تظل كل خصائص الحركة الظاهرية للشمس عبر كوكبة النجوم - المسار الظاهري الشمسي - ثابتة، إلا أن منظور الحركة هو ما يتغير. وهذا - كما يرى كوبرنيكوس - أقل تعقيدا بكثير. فأن تتسبب حركة الأرض في الحركة السريعة الواضحة للنجوم الثابتة أمر أكثر عقلانية من أن تدور النجوم الثابتة بسرعة مرة واحدة في فلكها في إيقاع مدته 24 ساعة. ذكر كوبرنيكوس تغير منظوره مبكرا للغاية في الكتاب:
رغم كثرة المرجعيات التي تقول إن الأرض تقع في مركز العالم وإن الناس يعتقدون أن الافتراض المعارض لا يمكن تصوره، وحتى قد يكون سخيفا؛ فإذا تأملنا هذا الأمر بانتباه، فسنرى أن هذه المسألة لم تقرر بعد، ووفقا لذلك، لا يعني هذا أن تزدرى؛ «فكل تغيير ظاهر في المكان يحدث بسبب حركة الشيء المرصود أو الراصد.» أو بسبب الحركة غير المتساوية بالضرورة لكليهما. وعدم الحركة يمكن إدراكه نسبيا من منظور الأشياء المتحركة على نحو متساو في الاتجاه نفسه؛ أعني بصورة نسبية بين الشيء المرصود والراصد.
تتناول هذه الفقرة تغيير المنظور، الذي سوف يبقي المشاهدات كما هي:
الآن ترصد الدائرة السماوية وتظهر أمام أنظارنا من الأرض. ومن ثم، إذا كان يجب أن تعزى بعض الحركة إلى الأرض فسوف تظهر في أجزاء الكون الخارجية، في صورة الحركة نفسها ولكن في الاتجاه المعاكس، كما لو أن الأشياء الخارجية تتجاوزنا. والدوران اليومي على نحو خاص يمثل هذه الحركة. فيبدو أن الدوران اليومي يحمل الكون كله معه، باستثناء الأرض والأشياء من حولها. وإذا سلمت بأن السماوات لا تمتلك أيا من هذه الحركة ولكن الأرض تدور من الغرب إلى الشرق، فسوف تجد - إذا أجريت دراسة متأنية - فيما يتعلق بشروق وغروب الشمس والقمر والنجوم ظاهريا، أن الوضع كذلك بالفعل.
ينهي كوبرنيكوس هذه المناقشة باستدعاء مستتر قليلا لمبدأ شفرة أوكام، وهو مبدأ - أذكره على نحو فضفاض للغاية ودون احترام لسياقه الأصلي - يقضي بأن بساطة التفسير فضيلة عظيمة في العلم؛ فمن بين تفسيرين مختلفين للظاهرة نفسها، التفسير الأكثر بساطة عموما يكون مفضلا. والتفسير الأكثر بساطة ليس التفسير المخل البالغ التبسيط، وإنما هو التفسير الذي يترك أشياء أقل دون ربط بعضها ببعض ويوضح أشياء أكثر من خلال مبادئ أقل.
ونظرا لأن السماء هي التي تحتوي على كل شيء وتحتضنه كمكان عام لهذا الكون، فإنه لن يكون واضحا أبدا لماذا لا ينبغي أن تعزى الحركة إلى المحتوى بدلا من المحتوي، إلى الشيء الموضوع بدلا من الشيء الذي يمثل المكان. (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول؛ الكتاب الثالث)
يلمح كوبرنيكوس إلى سمة «ثانية» للتحول الكوبرنيكي؛ إذ يجب أن يكون تغيير المنظور - الذي يحدث على خلفية من بعض السمات الثابتة - مصحوبا ببعض المكاسب التفسيرية. وإن لم يكن كذلك، فهذا يعني أننا نتبادل المنظورات وحسب. فسيكون لدينا منظورات مختلفة، كلها صالحة على نحو متساو، دون وجود ما يفصل بينها، ولكن لم يحدث هذا فعليا في تاريخ العلم، وقد بذل كوبرنيكوس جهدا عظيما ليبين أن الفرضية الكوبرنيكية تمنحنا مزايا تفسيرية. وهو يستخدم حركة الأرض كمبدأ أكثر جدارة بالقبول ظاهريا (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول؛ انظر أيضا المبادئ السبعة في «الشرح المختصر» 1959، 58). يمكن من خلال هذا المنظور تحديد المسافة النسبية للكواكب. إن حركة الدوران القهقري ليست مشكلة هندسية، بل هي انعكاس مادي لموضعنا في النظام الشمسي. صحيح أن تفسير فصول السنة أكثر تعقيدا من منظور كوبرنيكوس، ولكن يمكن بسهولة تعديل هذا بالتخلي عن الأفلاك. وهكذا يمثل التفسير الكوبرنيكي مقاربة لظاهرة فصول السنة أفضل من التفسير البطلمي.
إن تغيير المنظور يمثل سمة مهمة للتحول الكوبرنيكي؛ فقد بدأ العديد من العلماء العظام حياتهم بتغيير في المنظور. فداروين - كما سنرى - دعا إلى تغيير في المنظور فيما يخص مشكلة عصره الكبيرة: «أصل» الأنواع. لقد دعا العلماء إلى تغيير المنظور من أجل زيادة المكاسب التفسيرية، مع إبقاء الأشياء الأخرى ثابتة. ماذا عن المفكرين المؤثرين في مجال العلوم الاجتماعية أمثال ماركس وفرويد؟ هؤلاء المفكرون، أيضا، أحدثوا تغييرا في المنظور، ولكن من مواضع الخلاف مسألة هل كانت المكاسب التفسيرية - التي نالوا الفضل فيها - تنشأ حقا من تغيير المنظور. وتخيم ظلال الشك تلك أيضا على كوبرنيكوس. وهي تفسر سبب عدم النظر إلى كوبرنيكوس كثوري حقيقي على المستوى العلمي. تتطلب الثورة العلمية تغييرا في المنظور، ولكن مجرد تغيير المنظور لا يشكل ثورة علمية؛ فثمة عنصر مهم في الثورة العلمية هو بعض «المكاسب التفسيرية». فإذا ظلت الشكوك حول المكاسب التفسيرية المتحققة بتغيير التفكير قائمة، فثمة شكوك حول تأثيرها الثوري الحقيقي. وكانت هذه هي مشكلة كوبرنيكوس، كما سنرى، ومع ذلك، فالمفكرون أمثال كوبرنيكوس وفرويد يذكروننا بنتيجة إضافية للثورة العلمية؛ أن يكون لها تأثير كبير على طريقة نظر الناس إلى العالم. في حالة كوبرنيكوس، يؤدي هذا إلى فقدان المركزية، وفي حالة داروين يسبب فقدان التصميم، وفي حالة فرويد يؤدي إلى فقدان الوضوح.
ربما تحتاج الثورة العلمية إلى وقت لتنتشر؛ فمن الممكن أن يبدأ أحد المفكرين تغييرا في المنظور ويكمل الآخرون الصورة. وتاريخ علم الفلك من كوبرنيكوس حتى نيوتن يوضح هذه النقطة؛ فالمعاني الاشتقاقية لكلمة «ثورة» تتضمن «الاجتثاث»، بمعنى عكس وإسقاط وجهات النظر أو الشروط القديمة الراسخة. والعمل على مفهوم «تحويل الأفكار» أو «تغيير المنظور» يتيح لنا التركيز على العلماء الذين أتموا تغيير المنظور. تألف التحول الكوبرنيكي من إعادة ترتيب النظام الهندسي للكواكب. بنى علماء الفلك النماذج من المواد الموجودة فعليا: الكواكب الستة المعروفة من العصور القديمة حتى القرن الثامن عشر. وبمجرد أن تصبح المكونات في متناول اليد، ثمة سؤال مباشر يطرح نفسه؛ كيف ينبغي ترتيب هذه العناصر بعضها بالنسبة إلى بعض؟ استهل الإغريق تقليدا قديما من بناء النماذج في تاريخ علم الفلك. وكان يتألف من مهمتين؛ تحديد بنية طوبولوجية للنموذج، من شأنها أن ترتب الكواكب في ترتيب هندسي أو مكاني. اختار معظم علماء الفلك الإغريق ترتيبا يضع الأرض في المركز (أرضي المركز). عكس كوبرنيكوس هذا التقليد من خلال اختيار ترتيب يضع الشمس في المركز (شمسي المركز). بمجرد اختيار البنية الطوبولوجية، لا بد من إيجاد بنية «جبرية» للنموذج. تحدد البنية الجبرية العلاقات الكمية بين مكونات النماذج. استخدم الإغريق العديد من الأدوات الهندسية: الدوائر اللامتراكزة أو المؤجلات وأفلاك التدوير. غير كوبرنيكوس البنية الطوبولوجية لنماذج الكواكب، ولكنه أبقى الافتراضات الهندسية لأسلافه الإغريق؛ لهذا السبب لم يحقق كوبرنيكوس المكاسب التفسيرية المرتبطة بالثورة العلمية. فأي تقدم تفسيري يمكن لكوبرنيكوس أن يدعي تحقيقه ينشأ عن البنية الطوبولوجية للنموذج الشمسي المركز. فلم يقدم كوبرنيكوس أي إسهام للبنية الجبرية لنماذج الكواكب. وتحقق المكسب التفسيري في البنية الجبرية ببطء من خلال أعمال كبلر وجاليليو ونيوتن.
يمكننا أن نشيد بكوبرنيكوس لطرحه تغييرا في المنظور، ومع ذلك سنعزو الفضل لخلفائه البارعين في استكمال التحول الكوبرنيكي؛ ففي الثورة العلمية، تغيير المنظور على خلفية عناصر ثابتة يجب أن يضاف إليه مكسب تفسيري في البنية الجبرية. سوف نرى أن نظرية داروين كانت قادرة على تقديم هذه المكاسب التفسيرية، في حين فشل فرويد مثلما فشل كوبرنيكوس في ذلك. نحن لسنا مخطئين عندما نعتبر عمل كوبرنيكوس بمنزلة فجر الثورة الكوبرنيكية والعلوم الحديثة؛ فكوبرنيكوس شخصية رئيسية تفوق مكانتها في تاريخ الأفكار العلمية مكانتها في تاريخ الثورات العلمية (بلومنبرج 1957؛ 1981، الجزء الأول؛ الجزء الثالث؛ 1965) كان لكوبرنيكوس تأثير كبير على طريقة تحديد البشر لمكانتهم في الكون الأكبر. وسوف نرى أن أسئلة فلسفية كبرى تنبع من التحول الكوبرنيكي والثورة الكوبرنيكية، ولكن لنكمل أولا قصة الثورة الكوبرنيكية. (أ) تنحية الفلسفة جانبا: من الملاءمة التجريبية إلى الصلاحية النظرية
تتضمن الأقسام السابقة بعض الدروس الفلسفية؛ فتفسير فصول السنة في النماذج الأرضية المركز والشمسية المركز، على الترتيب، يبين أننا في التفسير العلمي نطلب أكثر من مجرد توافق النموذج مع البيانات التجريبية. لنقل إن نموذجين من النماذج غير المتوافقة، اللذين يتفقان مع الأدلة التجريبية، يتمتعان بالملاءمة التجريبية. يستطيع كلا النموذجين البطلمي والكوبرنيكي أن يفسر البيانات المتاحة جيدا على نحو متساو، لكنهما يفعلان ذلك بافتراض بنيتين مختلفتين. يعد كلاهما تفسيرا محتملا بالنسبة للأدلة المتاحة غير أن النموذج الكوبرنيكي يقدم بنية طوبولوجية أفضل من النموذج الأرضي المركز. من أجل تحديد الفرق في الملاءمة سنقول إنه يكتسب «صلاحية تجريبية». ونحن بحاجة أيضا إلى نموذج يجب أن تتوافق بنيته الرياضية مع بنية النظام المستهدف. من أجل تحقيق هذه الملاءمة يجب أن يصبح النموذج نموذجا بنيويا أو نظرية (انظر القسم 6-5، أ). وفقا لتفسير البنية الرياضية للظواهر المرصودة، نقول إن النظرية التفسيرية يجب أن تكتسب «صلاحية نظرية». ونرى الحاجة للصلاحية النظرية في تاريخ نماذج الكواكب. سعى الإغريق إلى «إنقاذ الظواهر». فحاولوا ملاءمة المشاهدات الحسية مع الفرضيات المسبقة حول حركة الكواكب. كان النموذج الأرضي المركز دقيقا إلى حد ما في توقعاته لحركة الكواكب ، ولكنه كان يستند إلى بنية خاطئة: أجهزة مثل أفلاك التدوير والدوائر اللامتراكزة. وبما أن هذه الأجهزة لا تعكس أي آلية فيزيائية، فليس لها صلاحية نظرية. ورغم أن كوبرنيكوس استخدم أيضا هذه الأجهزة، فإن نموذجه وضع الكواكب في ترتيب مكاني، وهو الترتيب القريب من البنية المكانية (الطوبولوجية) للنظام الشمسي. وفي هذا الصدد كان يتمتع بالصلاحية التجريبية. ويعزز نموذج مركزية الشمس - في الشكل الذي صاغه به كبلر - هذا القرب من واقع النظام الشمسي؛ لأنه استبدل بنية جبرية جديدة بأجهزة النموذج الأرضي المركز التقليدية. وعن طريق نيوتن، يصبح النموذج أخيرا نظرية؛ فكما سنرى في الجزء التالي، اكتشف كبلر قوانين رياضية لوصف حركة الكواكب بحيث لم يعد ضروريا حمل الكواكب على أفلاك مساراتها دائرية. والمحصلة هي أننا نريد أن تكون فرضيات النموذج أكثر من مجرد فرضيات خاصة بالأدوات. يجب أن تكون فرضيات النموذج متوافقة مع بنية النظام الطبيعي (انظر القسم 6-5). وهذا الشرط الضروري يوجهنا نحو مناقشة للذرائعية والواقعية (القسم 6-2). (3-4) ترسيخ نظرية كوبرنيكوس: كبلر وجاليليو
إن إنجاز كبلر الرائع مثال جيد للغاية على حقيقة أن المعرفة لا يمكن أن تنبع من الخبرة وحدها، بل تنبع وحسب من المقارنة بين ابتكارات الفكر والواقع المرصود. (أينشتاين، «يوهانز كبلر» (1930)، 266)
أطلق كوبرنيكوس برنامج بحث جديدا اعتمد اكتماله على بعض المساهمات الرائدة. تتمثل الشخصية المحورية التالية التي تعتلي مسرح الأحداث في عالم الفلك الدنماركي تيكو براهي (1546-1601). كان براهي معارضا أبديا للكوبرنيكية، ومع ذلك فقد كان يحتل موقعا محوريا في تاريخ مركزية الشمس؛ وذلك لأن براهي طور طرق رصد بارعة وجمع كميات مهولة من البيانات الجديدة (شكل
1-8 ):
شكل 1-8: مرصد تيكو براهي في جزيرة فين (المصدر: مجلة نيتشر 15 (1876-1877)، صفحة 407).
في عام 1572 اكتشف براهي نجما جديدا، كان في البداية يضيء بضوء زاه جدا في السماء ولكنه اختفى لاحقا. كان براهي في الواقع قد اكتشف مستعرا أعظم؛ وهو ظهور في السماء لضوء ساطع جدا نتيجة الانفجار الهائل لنجم ضخم. يزيد سطوع الضوء مئات الملايين من المرات في غضون بضعة أيام فقط.
بين 1577 و1596، اكتشف براهي مذنبات في السماء، من المفترض أن تقع مداراتها وراء الفلك الخارجي للقمر. ربما المذنب الأكثر شهرة هو المذنب هالي، الذي سمي على اسم الفلكي الملكي الذي استخدم نظرية نيوتن للتنبؤ بمداره. وفي الآونة الأخيرة، تلقى سكان الأرض زيارة من المذنب هيل-بوب، الذي حدث أقرب وجود له بجوار الأرض في 22 مارس 1997 على مسافة 123 مليون ميل (شكل
1-9 ).
تيكو براهي (1546-1601).
كانت هذه الاكتشافات مهمة للغاية؛ لأنها أثارت تساؤلات جدية حول ثبات السماوات، وهي سمة خاصة بالفلك فوق القمري في كون أرسطو؛ فقد كان ظهور مستعر أعظم فيما وراء الفلك تحت القمري غير متوافق مع عقيدة طبيعة السماوات غير المتغيرة أبدا. إن مدارات المذنبات بيضاوية الشكل للغاية؛ فعلى سبيل المثال، فلك المذنب هالي يمر بمدارات الكواكب الخارجية، حيث يبلغ تقريبا مدار بلوتو قبل أن يعود إلى الأرض. واجتاز المذنب هيل-بوب النظام الشمسي من الفضاء الخارجي، عائدا من آخر زيارة له في عام 2214 قبل الميلاد. ووفقا لوجهة نظر أرسطو-بطليموس، ببساطة لا ينبغي أن توجد هذه المدارات. تذكر أنه لهذه الأسباب رفض زائرا جاليليو التفكير في وجود أقمار لكوكب المشتري. إن التوجه الذهني البديل هو تبني نوع من الانهزامية، نجدها في الجزء الختامي من كتاب «المجسطي» لبطليموس. معرفتنا بالأجرام السماوية قاصرة للغاية حتى إن ما يعد مستحيلا وفقا لنموذجنا - المذنبات التي تجتاز الأفلاك - ربما يتضح أنه ممكن في السماوات (بطليموس 1984، الكتاب الثالث عشر).
شكل 1-9: مشهد تخطيطي لمدار المذنب هيل-بوب بين الزهرة والمريخ وهو في طريقه عابرا النظام الشمسي في يونيو 1997. مدارا المريخ والزهرة مائلان نسبة إلى المسار الظاهري.
اقترح تيكو براهي حلا وسطا بين النظامين الكوبرنيكي والبطلمي. فتمثل الأرض في نظامه مركز الكون مع دوران القمر والشمس حولها، ولكن تدور الكواكب الأخرى حول الشمس. كان نظام براهي مهما لهؤلاء الفلكيين الذين يريدون استخدام النظام الكوبرنيكي بسبب مزاياه الحسابية، ولكن لا يمكنهم الموافقة على دوران الأرض لأسباب فلسفية (كون 1957، 202). ويؤدي هذا إلى جداول فلكية أفضل.
من دون بيانات براهي الفلكية، لم يكن يوهانز كبلر سيكتشف قوانينه الفلكية الثلاثة. وهي أول قوانين دقيقة حسابيا في علم الفلك: (1)
ينص القانون الأول على أن مدارات الكواكب ليست دائرية ولكنها تتخذ شكل قطع ناقص. وبهذا القانون، أودعت حركة الدوران الدائرية المثالية القديمة في مزبلة تاريخ الأفكار. (2)
يتخلى القانون الثاني عن فكرة وجود حركة موحدة، كانت لا تزال مفترضة في نموذج كوبرنيكوس. وهو ينص على أن الفترة المدارية لكل كوكب تختلف عن الكواكب الأخرى بحيث إن «الخط المرسوم بين كوكب ما والشمس يقطع مساحات متساوية خلال أزمنة متساوية» فالكوكب القريب من الشمس يتحرك أسرع من كوكب آخر بعيد عنها، ولكن الخط الواصل بين كل كوكب والشمس يقطع مساحات متساوية من القطع الناقص في فترات متساوية من الزمن. (3)
ينص القانون الثالث على وجود علاقة بين سرعة الكواكب في المدارات المختلفة
، ومتوسط المسافة التي تفصلها عن الشمس
A: A
3 ∝
2 .
يوهانز كبلر (1571-1630).
يعتقد البعض أن صياغة هذه القوانين تجعل كبلر الثوري الحقيقي في تاريخ علم الفلك (كوستلر 1964، الجزء الرابع). تذكر التمييز بين البنية «الطوبولوجية» و«الجبرية». يرفض كبلر كثيرا من النهج الإغريقي الذي ظل كوبرنيكوس ملتزما به؛ فالدوائر والأفلاك الوهمية (كبلر 1618-1621، الكتاب الرابع، الجزء الأول، 124)، والأهم من ذلك عقيدة الحركة الدائرية، رفضت كعناصر للبنية الطوبولوجية. يقدم كبلر من خلال قوانينه الثلاثة مساهمة كبيرة في تحسين البنية الجبرية للنموذج الشمسي المركز. علاوة على ذلك، يريد كبلر بناء علم فلك معتمد على المسببات الفيزيائية لحركة الكواكب. ويقدم مقترحا بأن حرارة الشمس وضوءها ربما يبقيان الكواكب في مداراتها الإهليجية الشكل (كبلر 1618-1619، الكتاب الرابع، الجزء الثاني). كان يقصد أن يعزو حركة الكواكب إلى قوى طبيعية، بدلا من وجود «قوى خارجية» هي التي «تحرك الكواكب»؛ فهو يعزو «الروح المحركة» إلى الشمس. أخفق مقترح كبلر على نحو لا يثير الدهشة. ظلت هناك حاجة إلى عدة خطوات أخرى قبل إكمال الثورة الكوبرنيكية. تطلب إكمالها أن يتشارك أنصار مركزية الشمس بعض القناعات الأساسية وليس جميعها.
جاليليو جاليلي (1564-1642).
هذه النقطة موضحة جيدا في أعمال جاليليو جاليلي. جاليليو عالم كوبرنيكي لا يكترث لإنجازات كبلر؛ فهو يتجاهل اكتشاف كبلر للمدار الإهليجي الشكل لجميع الكواكب ويعتنق فكرة الحركة الدائرية كحركة طبيعية لجميع الأجرام. مع ذلك، لا يمكن التشكيك في أهميته في العلم، ولذلك ثلاثة أسباب: (1)
دافع جاليليو عن النظرية الكوبرنيكية وقدم أدلة جديدة - من خلال استخدام التليسكوب - دحضت النظرية الأرسطية البطلمية، ومنحت المصداقية لفرضية مركزية الشمس. وكما ذكرنا بالفعل، بدأ جاليليو بفرضيات جديدة. والأكثر أهمية هو استخدامه للمشاهدات والوصف الرياضي للطبيعة، ذلك خلافا لأتباع المدرسة السكولاستية مثل عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت. وقدمت كل مشاهدات جاليليو دلائل على أن السماوات ليست ثابتة. (أ)
تقدم أقمار كوكب المشتري - التي كان يود أن يراها ضيفاه من خلال التليسكوب بدلا من المناقشة العلمية - نموذجا مصغرا مرئيا للنظام الشمسي الكوبرنيكي؛ فالأقمار تدور حول كوكب المشتري كمركز لها. فلو كان المشتري محمولا على فلك بلوري، لاصطدمت الأقمار به وحطمته. وعلى النقيض من رأي الفيلسوف، ثمة أجرام سماوية «تدور حول مراكز أخرى غير الأرض». (ب)
تظهر دراسة تضاريس القمر التشابه بين الأرض والقمر. وهذا يلقي بظلال من الشك على الأساس المنطقي للكون ذي الفلكين. (ج)
يتعارض رصد البقع الشمسية - على غرار سطح القمر - مع الكمال المفترض للمنطقة السماوية في الكون. (د)
تقدم أطوار كوكب الزهرة معلومات مباشرة عن شكل مداره. فبما أن الزهرة يقع داخل مدار الأرض، فإن الراصدين الأرضيين يرونه مضيئا في اتجاهات مختلفة. وهذا يقدم دليلا مباشرا على الأقل على أن كوكب الزهرة يدور حول الشمس (كوستلر 1964، 431-435؛ كون 1957، 222-224؛ كوبرنيكوس 1543، مقدمة؛ ديويت 2004، 156-164). (ه)
تشير دراسة مجرة درب التبانة إلى اللانهائية المحتملة للكون. (2)
طور جاليليو علم الميكانيكا؛ وهو ما مهد الطريق لوضع نظرية حديثة للحركة تستغني عن «الدفعات» و«الزخم». وطور جاليليو قانون السقوط الذي ينص على أن جميع الأجسام تسقط بالسرعة نفسها، التي يسببها تسارع الجاذبية بالقرب من سطح الأرض، كما صاغ جاليليو أيضا «مبدأ النسبية» (جاليليو 1953، 199-201). إن النظام الثابت والنظام المتحرك باستمرار متكافئان من وجهة النظر الفيزيائية؛ فالأنظمة ثابتة بالنسبة لهذا التغير في المنظور. ويقدم جاليليو تجربته الفكرية الشهيرة للتدليل على تكافؤ أنظمة القصور الذاتي . في قمرة تحت سطح سفينة كبيرة، ارصد سلوك «الذباب» و«الكائنات المجنحة الصغيرة» الأخرى و«سمكة في وعاء». في البداية تكون السفينة ثابتة. وعند اكتمال أول مجموعة من المشاهدات، دع السفينة تسير بسرعة ثابتة. سوف تكشف المشاهدات عن عدم وجود أي اختلاف في سلوك هذه الكائنات (جاليليو 1953، 199-201). أي شيء يحدث للكائنات في هذه النظم يحدث وفقا للقوانين نفسها. وهكذا، على الرغم من تغيير المنظور، فإن الانتظام ثابت. كان اكتشاف جاليليو لمبدأ النسبية حيويا بالنسبة لفهم السؤال الأكثر إلحاحا في علم الفلك: «كيف تتحرك الكواكب في مداراتها؟» وترك أمر تقديم الجواب النهائي لنيوتن (القسم 5). (3)
وأخيرا، أصبح جاليليو مدافعا متحمسا عن حرية البحث العلمي ضد تدخل الكنيسة؛ فعلى غرار روجر بيكون في العصور الوسطى، طالب جاليليو بالفصل بين اللاهوت والفلسفة الطبيعية؛ فمقاطع الكتاب المقدس قد لا تعني حرفيا ما يبدو أنها تقوله؛ ولهذا السبب ينبغي عدم استخدام مقاطع الكتاب المقدس في التشكيك فيما تعلمنا إياه المشاهدات أو التفكير الرياضي.
طور كبلر وجاليليو النموذج الشمسي المركز. وأكمله نيوتن بالاعتماد على أعمالهما. وبهذا نبدأ في أن نرى بشكل أوضح السبب في أن كوبرنيكوس لم يمثل ثورة علمية. (4) كوبرنيكوس لم يمثل ثورة علمية
لذا، بما أن الشمس هي مصدر الضوء وعين العالم، فإنها تستحق أن توصف بالمركز بحيث إن الشمس (...) قد تفكر في سطحها المقعر كله (...) وتستمتع بصورتها، وتضيء نفسها من خلال التألق وتذكي نفسها بالدفء. (كبلر، «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» (1618-1621)، الكتاب الرابع، الجزء الأول (20))
منذ أن أحدث كوبرنيكوس التحول الكوبرنيكي، طرح السؤال هل كان يمثل ثورة علمية أم لا. كان كوبرنيكوس نفسه وتلميذه يواخيم ريتيكوس مدركين للطبيعة المتفجرة للتحول الكوبرنيكي؛ ففي إهدائه كتابه للبابا بولس الثالث، يعترف كوبرنيكوس بأن فرضيته الخاصة بمركزية الشمس ستبدو للعديد من معاصريه سخيفة. ويبدو أن ريتيكوس وجد أنه من الضروري التأكيد على أن كوبرنيكوس لم يكن «منقادا بشهوة الابتداع» (ريتيكوس 1540، 187)، ولكن نظرية مركزية الأرض غير قادرة على تفسير حركة الكواكب بما فيها من «تناسق وترابط رائعين». لقد فشل القدماء لأنهم لم يعتبروا الكواكب وحركاتها نظاما (ريتيكوس 1540، 138). وكما رأينا في المناقشة السابقة، من المهم للنظرية العلمية أن تفسر كل الظواهر التي تقع في مجالها. واحتكم ريتيكوس لهذا المعيار عندما أشار إلى أن هذه الفرضيات فحسب هي التي يمكنها أن تفسر أن كل الانحرافات الواضحة لحركة الكواكب مقبولة (ريتيكوس 1540، 168).
كان يوجد إدراك واضح بأن التحول الكوبرنيكي يحمل بذور رؤية كونية جديدة، ولكن هل كان التحول الكوبرنيكي ثوريا؟ درس كثير من العلماء هذا السؤال، وسيمنح بعضهم كوبرنيكوس فضلا قليلا للغاية. فكتاب كوبرنيكوس ليس سوى «إصدار معاد تنظيمه قليلا من كتاب «المجسطي»» (دي سولا برايس 1962، 215). ليس النظام الشمسي المركز تحسنا في الحسابات عن النظام أرضي المركز، ولكنه «أكثر إرضاء للعقول الفلسفية» (نوجيباور 1968؛ كوستلر 1964، الجزء الثالث). يمتلك النظام الكوبرنيكي مزايا جمالية (كون 1959، 171-181)، كما يفسر أيضا حالتي شذوذ كوكبي كبيرتين من دون اللجوء إلى أفلاك التدوير الكبيرة؛ وهما حركة الدوران القهقري والأوقات المتفاوتة التي تحتاجها الكواكب من أجل إكمال دوراتها حول الشمس (كون 1959، 165-171). وكما رأينا، فإنه يفسر أيضا تواتر فصول السنة، رغم أن هذا التفسير أقل إرضاء من الناحية الجمالية من محاولة بطليموس لتفسيرها. يتفق معظم مؤرخي العلوم على أن كوبرنيكوس لم يحقق ثورة علمية.
5
ثمة أسباب كثيرة لهذا الحكم؛ أولا: لا يزال كوبرنيكوس ملتزما بالمثل الإغريقية الخاصة بالحركة الدائرية. ويتمثل اعتراضه الرئيس على بطليموس في استخدام الموازن، الذي ينتهك الأفلاك الدائرية المنتظمة المثالية.
ثانيا: يوجد عدم اتساق في معاملة كوبرنيكوس لحركة الكواكب، يكشف عن نفسه في التناقض بين الجزء الأول من كتاب «عن دورات الأفلاك السماوية» وبقية الكتاب؛ ففي الجزء الأول، يبدأ كوبرنيكوس بثقة بالتأكيد على الدوران السنوي للأرض حول الشمس. ويؤمن أن الحركة حقيقية وأن لها قيمة تفسيرية، ولكن في الأجزاء الفنية من كتابه، نواجه ما سماه بطليموس «تكافؤ الفرضيات». فثمة تقنيات هندسية مختلفة لوصف حركات الكواكب ينظر إليها باعتبارها متكافئة. صحيح أنها قد تكون «كافية للظواهر» لكنها لا تقدم تفسيرا حقيقيا. وتبين لا مبالاة كوبرنيكوس تجاه الأساليب المختلفة أنه غير معني بالتفسير المادي للظواهر، ومع ذلك، هذا التفسير المادي لازم لدفع علم الفلك لما هو أبعد من مجرد وصف مدارات الكواكب. ويوافق كوبرنيكوس الإغريق في أن «الكواكب ليست محمولة على دوائر متماثلة المركز» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس). وتخفق هذه الأداة الهندسية في تفسير الشذوذ الظاهر في حركات الكواكب، ولكنه يعتمد على التقنية التي لجأ إليها الإغريق بالفعل؛ استخدام المؤجلات وأفلاك التدوير. ويرى أن هذه التقنيات البديلة معادلة و«كافية للظواهر» (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس). ولم يحرز كوبرنيكوس في هذا الصدد أي تقدم عن بطليموس. اشتكى كبلر - وكان محقا - من أن أسلافه سعوا إلى «موازنة فرضياتهم مع النظام البطلمي» (كبلر 1618-1619، الكتاب الرابع، الجزء الثاني). ولهذا السبب نحن بحاجة إلى التمييز بين الملاءمة التجريبية والصلاحية النظرية.
ثالثا: ثمة أسباب أكثر ديناميكية لعدم اعتبار عمل كوبرنيكوس ثورة علمية. يستخدم كوبرنيكوس نظرية الزخم لإضفاء حركة دائرية طبيعية على الأرض. وهذا ما يفسر سبب عدم انهيار المباني على الأرض عندما تدور الأرض، ولكنه لا يجيب على السؤال الرئيس لعلم الفلك في القرن السادس عشر: لماذا تدور الكواكب حول الشمس بسرعات متفاوتة وعلى مسافات مختلفة؟ يقدم كوبرنيكوس أدوات هندسية، وتعين على كبلر أن يحل قوانين فيزيائية محلها. ولكن لم يكن كوبرنيكوس يمتلك فكرة عن مفهوم القصور الذاتي أو الجاذبية. تسمح فكرة دوران الكواكب حول الشمس لكوبرنيكوس بالتخلي عن أفلاك التدوير الكبيرة، ولكن فكرة الحركة الدائرية الثابتة تجبره على استخدام أفلاك تدوير صغيرة. ومن وجهة النظر الرياضية، لا يتمتع نظامه بكثير من البساطة. أما من وجهة النظر الفيزيائية، فإنه يترك أسئلة استفسارية دون إجابة.
ومع ذلك، بدأ كوبرنيكوس «تحولا» كوبرنيكيا (دراير 1953، 342-343)؛ فقد صاحب تغيير منظوره بعض المزايا الجديرة بالملاحظة لعلم الفلك؛ فكما يؤكد ريتيكوس مرارا وتكرارا، الأمر الأكثر أهمية هو أن كوبرنيكوس يربط الكواكب معا في نظام متسق. فإذا أزلت أي فلك من مكانه، ستسبب تعطيل النظام بأكمله (ريتيكوس 1540، 147؛ كوبرنيكوس 1543، تمهيد). وكما رأينا، كان كوبرنيكوس مدركا بشدة لأهمية الاتساق:
حركة الأرض تربط معا ترتيب وحجم الدوائر المدارية للنجوم السيارة. (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس ، مقدمة)
وأدرك كبلر أيضا هذه الميزة على نحو واضح للغاية:
تعامل بطليموس مع الكواكب كل على حدة، أما كوبرنيكوس وبراهي فقد قارنا الكواكب بعضها ببعض. (كبلر 1618-1619، الكتاب الأول، الجزء الأول)
إن مفهوم اتساق ظواهر الكواكب يلزم الكوبرنيكيين ببناء نموذج لنظام الكواكب يجب أن يستوعب جميع البيانات التجريبية المعروفة. وحقق نموذج كوبرنيكوس في هذا الصدد نجاحا جزئيا؛ فعن طريق الربط بين حركة «النجوم السيارة» و«الحركة الدائرية للأرض»، فإن «كل الظواهر» تتبع ذلك، هذا ما يذهب إليه كوبرنيكوس (كوبرنيكوس 1543، تمهيد). وعلى الرغم من أنها لم تتبع جميعها ذلك، فإن النظام الكوبرنيكي يفسر على نحو طبيعي ظاهرة حركة الدوران القهقرية للكواكب وفصول السنة، كما يحدد على نحو صحيح ترتيب الكواكب والمسافات وبعدها النسبي عن الشمس (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). كما أنه يجعل الحركة اليومية والسنوية للأرض حول الشمس حقيقة واقعة، وليست جهازا حسابيا (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). وتوفر نجاحات وإخفاقات النظام الكوبرنيكي مؤشرات مفيدة لمعايير الثورات العلمية. (4-1) الأسلوب الكوبرنيكي
في وسط كل هذه الأجرام تقبع الشمس (...) كما لو كانت تجلس على عرش ملكي، تحكم أسرة النجوم التي تدور حولها. (كوبرنيكوس، «عن دورات الأفلاك السماوية» (1543)، الكتاب الأول، الفصل 10، مقتبسة في جنجريتش «عين السماء» (1993)، 34)
رغم اعتماد كوبرنيكوس إلى حد بعيد على مشاهدات قديمة، فإنه كان معتادا على القيام بمشاهداته الخاصة. في الوقت نفسه كان كوبرنيكوس على علم بالعمل النظري الذي قدمه أسلافه؛ فهو يبدي كثيرا من الاحترام لبطليموس. ومما لا يثير الدهشة وجود تنويه محفوظ خاص بأرسطرخس الساموسي الذي استبق فكرة النظام الشمسي المركز. وكما كانت أعمال أسلاف كوبرنيكوس تمهيدا له، فقد كانت أعماله هو نفسه تمهيدا لأعمال تشارلز داروين. ثمة نوعان من العناصر الجديرة بالذكر في قصص الاكتشاف هذه. يدخل كوبرنيكوس - وينطبق هذا أيضا على داروين كما سنرى - فضاء مفاهيميا تتنافس فيه بالفعل بعض الأفكار النظرية للحصول على الانتباه، وتدعي هذه الأفكار النظرية أنها قادرة على تفسير «الظواهر». يصل نموذج كوبرنيكوس إلى بيئة مأهولة؛ فهذا الفضاء المفاهيمي يستوعب بالفعل نظاما محكما أرضي المركز، وتقريرا غير مفصل عن مركزية الشمس، ومشاهدات قديمة، ونظرية الزخم الخاصة بالحركة. وكما نعلم، قام كوبرنيكوس بالمشاهدات الخاصة به، التي - مع ذلك - لم تؤد إلى اكتشافات جديدة. يسمح لنا وجود فضاء مفاهيمي أن نستنتج نقطتين؛ أولاهما: أن كوبرنيكوس لم يصل إلى نظامه الشمسي المركز عن طريق إجراء تعميم استقرائي على المشاهدات المتاحة، وثانيهما: أننا نجد في الكتاب الأول من «عن دورات الأفلاك السماوية» وفي «النبذة الوصفية الأولى» تقديرا تاما واضحا لمناقب نماذج النظام الشمسي المتناقضة وعيوبها.
ترك لنا ريتيكوس بيانا مقتضبا عن الأسلوب الكوبرنيكي. فأشار إلى أن كوبرنيكوس قارن في البداية المشاهدات من العصور القديمة والعصور الوسطى باستنتاجاته، «ساعيا لإيجاد علاقة متبادلة تحدث توافقا بينها جميعا» (ريتيكوس 1540، 163). ثم قارن تلك المشاهدات مع «فرضيات بطليموس والقدماء». وتبين من الفحص أن الفرضيات القديمة لم تصمد أمام الاختبار. واضطر كوبرنيكوس لتبني فرضيات جديدة، وجد عناصرها - كما اعترف بنفسه - في المعرفة الفلكية المخزونة الموجودة بالفعل. ينمق ريتيكوس الصورة. رفض كوبرنيكوس فرضية مركزية الأرض لأنها مفرطة التعقيد وتتطلب أشياء كثيرة، وليس لأنها كانت في تناقض مباشر مع المشاهدات. في رسمه للنظام الشمسي المركز في (كتاب «الشرح المختصر») - الذي لم يكن موجودا منه سوى نسخ مكتوبة بخط اليد أثناء حياته - يعترف كوبرنيكوس بأن النظام البطلمي «متوافق مع البيانات الرقمية»، ومع ذلك، فإنه يتطلب أيضا الجهاز الهندسي «الموازن»، الذي يراه كوبرنيكوس مكروها من الناحية الجمالية؛ فهو ينتهك إيمانه باتساق وانتظام السماوات (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر»، 1959، 57؛ انظر روزن 1959، 38؛ 1984، 67). قدم كوبرنيكوس فرضية بمركزية الشمس على خلفية من نظرية مركزية الأرض. ويواصل ريتيكوس قائلا إنه من خلال تطبيق الرياضيات، فإن كوبرنيكوس:
يرسخ هندسيا الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها منها (أي الفرضيات الجديدة) عن طريق «الاستدلال» الصحيح، وبعد ذلك يحدث توافقا للمشاهدات القديمة وبياناته مع الفرضيات التي تبناها، وبعد تنفيذ جميع هذه العمليات يكتب أخيرا قوانين علم الفلك. (ريتيكوس 1540، 163) «قوانين علم الفلك» هي الأفلاك الدائرية المنتظمة، التي استبدلها كبلر. المهم في السياق الحالي هو ملاحظة أن كوبرنيكوس قدم «استنتاجات»؛ فهو يستخدم البيانات المتاحة من أجل استنتاج أن النموذج البطلمي لم يكن ملائما. وفي الوقت نفسه، يستنتج من البيانات أن الفرضية الكوبرنيكية أكثر ملاءمة. ولا تتكون البيانات المتاحة فقط من المشاهدات؛ فيستخدم كوبرنيكوس فكرة الزخم لتفادي الحجج التقليدية المقبولة ظاهريا ضد حركة الأرض؛ ومن ثم فإن الاستنتاج الكوبرنيكي ثنائي الاتجاه؛ فالمشاهدات نفسها التي تشكك في النماذج الأرضية المركز تضفي بعض المصداقية على النموذج الشمسي المركز. وعلاوة على ذلك، نشأت النتائج الاستنباطية من النموذج شمسي المركز، وهي متلائمة على نحو أفضل مع المشاهدات؛ فعلى سبيل المثال، الترتيب الصحيح للكواكب والمسافات النسبية لها يمثل نتائج استنباطية للنموذج الشمسي المركز. وكان أيضا من النتائج الاستنباطية للنموذج الشمسي المركز إدراك أن حركة الدوران القهقري للكواكب ما هي إلا صنيعة النموذج الأرضي المركز، كما سنرى، الممارسات الاستنباطية ذات أهمية كبيرة في تاريخ العلم. ولا يجب الخلط بينها وبين الاستقراء من خلال الإحصاء. واجه العلماء أمثال كوبرنيكوس الأدلة المتاحة والنماذج المتنافسة. فيستخدمون الأدلة الرصدية وغيرها من المعايير، مثل احتمالية التفسير، لاستنتاج أن بعض النماذج أكثر ملاءمة من غيرها. وتمثل الأدلة الرصدية، ودراسة الاحتمالات، ونظرية زخم الحركة الآن قيودا مفروضة على قبول النماذج المتنافسة. وسوف نتعامل في فصل لاحق مع هذا الإجراء الأساسي - استنتاج الملاءمة المعرفية لأحد النماذج من القيود المتاحة والتشكيك في الوقت نفسه في نموذج منافس - على أنه طريقة «الاستقراء الإقصائي». إننا نواجه منافسة بين نماذج متنافسة تدعي تفسير الأدلة المتاحة. ويستند كل نموذج إلى فرضيات مختلفة - فرضية مركزية الأرض مقابل مركزية الشمس - ولكن لا يوجد نموذج يتمتع بالصلاحية المطلقة. بالأحرى، هي مسألة قيمة تفسيرية. بالنظر إلى المشاهدات وغيرها من القيود، أي النظامين يوفر تفسيرا «أكثر احتمالا»؟ سوف نجد هذا التوجه الذهني في داروين؛ ففرضية الانتقاء الطبيعي هي تفسير أكثر احتمالا لتنوع الأنواع من حجة التصميم. استخدم الكوبرنيكيون حجج «الاحتمالات» لصالح مركزية الشمس، فقالوا إن دوران الأرض مرة واحدة حول محورها في 24 ساعة أكثر احتمالا على المستوى الفيزيائي من دوران فلك النجوم الثابتة «بسرعة لا يمكن حسابها» في نفس الفترة حول الأرض الثابتة (كبلر 1618-1621، الجزء الأول). وهكذا، يواصل كبلر قائلا: (...) إن من الأكثر احتمالا وجوب أن يكون فلك النجوم الثابتة أكبر بألف أو ألفي ضعف حجمه الذي أشار إليه القدماء، وليس وجوب أن يكون أسرع بأربعة وعشرين ألف ضعف سرعته التي أشار إليها كوبرنيكوس. (كبلر 1618-1621، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
حركة الدوران السنوية للأرض حول الشمس تمنحنا «سببا أكثر احتمالا لمبادرة الاعتدالات» (كبلر 1618-1621، الجزء الثاني، الكتاب الرابع؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول).
كما أدرك كوبرنيكوس وكبلر بوضوح، أن بعض النماذج أفضل في التعامل مع الأدلة من النماذج الأخرى؛ فعملية استنتاج النموذج، الأكثر توافقا مع القيود المتاحة، ليست استنتاجا للنموذج الوحيد الصحيح؛ فالقيود ذاتها تخضع لفحص دقيق. لا يزال كوبرنيكوس متمسكا بالحركة الدائرية المنتظمة كقيد في غاية الأهمية، وطالب بأن تحافظ الفرضيات الكوبرنيكية على الظواهر (روزن 1959، 29). ويؤكد تاريخ مركزية الشمس من كوبرنيكوس حتى نيوتن أن النموذج الأفضل يكون أفضل بالنسبة إلى الأدلة المتاحة والاعتبارات النظرية على حد سواء، وقد أضفى كبلر من خلال القوانين التي وضعها للكواكب تغييرات مهمة على النموذج الكوبرنيكي. وسجل تيكو براهي وجاليليو جاليلي مشاهدات أكثر اتساقا مع مركزية الشمس من مركزية الأرض. وفي نهاية القرن السابع عشر، جمع نيوتن فكرة القصور الذاتي والجاذبية للوصول إلى تفسير ميكانيكي معقول لسبب بقاء الكواكب في مداراتها. وفي عام 1687 تغيرت قيود النموذج الفلكي الملائم إلى حد بعيد، ولكن ثمة معضلة تواجهنا الآن. تذكر أن النموذج الأرضي المركز يفسر فصول السنة وكذلك يفسرها النموذج الكوبرنيكي. لماذا يجب علينا تفضيل هذا النموذج الأخير، مع الوضع في الاعتبار أنه يفترض حركة ثالثة إضافية زائدة للأرض؟ (4-2) نسبية الحركة
أدخل جاليليو في الفيزياء مبدأ نسبية الحركة. (تبنى أينشتاين لاحقا هذا المبدأ وعممه.) فالحشرات تطير عبر مقصورة السفينة بالطريقة نفسها، بغض النظر عن الحركة القصورية للسفينة. وفقا لمبدأ النسبية، حركة الجسم يمكن وصفها إما من إطار مرجعي ثابت أو متحرك. وما دامت الحركة قصورية (حيث يكون الجسم ثابتا أو يتحرك بسرعة ثابتة)، فإن كلا الرأيين متماثلان، ويجب أن يؤديا إلى النتائج العددية نفسها. إن مسألة اعتبار أي الإطارين ثابتا وأيهما متحركا مسألة اختيار؛ فهذا لا يصنع فارقا في فيزياء الموقف.
من وجهة نظر النسبية يجب ألا يوجد فارق إذا ما تبنينا فكرة مركزية الأرض أو فكرة مركزية الشمس (بورن 1962، 344؛ دي سولا برايس 1962، 198؛ روزن 1984، 183-184). فيمكننا أن نتبع بطليموس: فنعتبر الأرض إطارا ثابتا والشمس إطارا متحركا. أو يمكننا اتباع كوبرنيكوس: فنعتبر الأرض إطارا متحركا والشمس إطارا ثابتا. وفقا لمبدأ النسبية خيارنا لا يحدث فارقا بالنسبة لفيزياء الموقف. وهذا ما يبدو عليه الأمر. تدور الأرض حول محورها مرة واحدة كل 24 ساعة لتمنحنا الليل والنهار. ولو دارت الشمس حول الأرض الثابتة مرة واحدة كل 24 ساعة، فسوف تمنحنا الليل والنهار. وتنتج فصول السنة إما بسبب دوران الشمس حول الأرض في مدار مائل أو دوران الأرض حول الشمس في مدار مائل. مع ذلك، ثمة أمور أخرى بخلاف علم الحركة المجردة (الكينماتيكا) في وصف النظام الشمسي؛ فمن وجهة نظر كينماتيكية بحتة، النموذجان متكافئان. فوجهة نظر الكينماتيكا معنية فحسب بالحركة النقية، بغض النظر عن أسبابها (دكسترهوز 1956، الكتاب الأول؛ الكتاب الرابع). وهذا هو المنظور البطلمي والكوبرنيكي، ولكن يوجد أيضا سؤال الديناميكا: ما الذي يسبب حركة الكواكب؟ تخيل أنك تجلس في قطار توقف في المحطة. ولاحظت عبر النافذة قطارا يتحرك ببطء على القضبان. يخبرك حدسك أنك ثابت وأن القطار الآخر يتحرك، ولكن الفيزياء تخبرنا أن قطارك يمكن اعتباره متحركا والقطار الآخر ثابتا. وسوف تخبرك الكينماتيكا الأمر نفسه، ولكن تخيل الآن أن القاطرة فصلت عن قطارك. هنا لم يعد الوضع الديناميكي متكافئا؛ إذ يمتلك القطار المتحرك قاطرة تسبب حركته على نحو واضح. لقد فقد قطارك سبب حركته. انشغل كبلر بمسألة الأسباب المادية، واشتبه في أن أشعة نشطة من الشمس تقود دوران الأرض في مدارها الإهليجي الشكل؛ فعندما يوجه الكوكب «وجهه الودود» للشمس، تجذبه خطوطها المغناطيسية إليها. وعندما يوجه الكوكب «وجهه غير الودود» للشمس، تدفعه خطوطها المغناطيسية بعيدا. وتقيد لعبة التجاذب والتنافر الكوكب في حركته المدارية حول الشمس (كبلر 1618-1621، الجزء الثاني). وكما أوضح نيوتن، كان هذا التفسير الديناميكي مخطئا، ومع ذلك، قدم كبلر حججا ديناميكية لصالح الحركة المدارية للأرض. وبمجرد أن أوضح نيوتن سبب بقاء الكواكب في مداراتها الإهليجية حول الشمس، قدم النموذج الشمسي المركز تمثيلا للواقع المادي أفضل من النموذج الأرضي المركز. حسن نيوتن من البنية الجبرية للنموذج، وقدم شرحا ديناميكيا لمدارات الكواكب في النموذج الشمسي المركز. وحتى إذا ركزنا فقط على الترتيب المكاني للنظام الشمسي، فإن النموذج الشمسي المركز يرسم البنية الطوبولوجية للنظام الشمسي أفضل من النموذج الأرضي المركز. ونعتقد أن بنية النماذج سوف تتوافق على نحو مختلف مع بنية النظام المادي. (5) الانتقال إلى نيوتن
كان التليسكوب شيئا غريبا معروضا في المعرض السنوي قبل أن يتحول على يد جاليلي إلى أداة لصياغة النظريات. (بلومنبرج، «نشأة العالم الكوبرنيكي» (1987)، 648)
كان لدى نيوتن أسباب كثيرة للاعتقاد بأنه يقف على أكتاف من سبقوه. غير أنه تقدم خطوة للأمام وأنتج نظرياته الخاصة. فليست فيزياء نيوتن مجرد مجموعة من قوانين الميكانيكا التي تحكم عالم الأجسام الكبيرة سواء على الأرض أو في السماء، بل هي تلخص نظرة جديدة شاملة للكون؛ صورة جديدة كاملة لطريقة تصور البشر للعالم المادي من حولهم.
إسحاق نيوتن (1642-1727).
يمكننا وصف الثورة العلمية بصفتين مرتبطتين ارتباطا وثيقا: (أ) تدمير الكون القديم واختفاء كل الأفكار المعتمدة على فرضياته. (ب) تحويل الطبيعة والعلوم إلى صيغ رياضية (كواريه 1957، 2، 29، 43، 61-62؛ 1965، 6-8). لنلق نظرة على هاتين الصفتين بمزيد من التفاصيل. (أ) «تدمير الكون القديم» لقد قابلنا بعض سمات النظام العالمي التقليدي للكون:
بنيته الهرمية ذات الفلكين بين كمال الفلك فوق القمري ونقائص وفساد الفلك تحت القمري.
تمييزه ما بين الفيزياء الأرضية والسماوية.
طبيعته المحدودة والمغلقة.
معاناته من نقص الطاقة.
لقد رأينا كيف بدأت المشاهدات الفلكية والبناء النظري تدمير النظام العالمي التقليدي للكون. ويرتبط بتدمير النظام العالمي التقليدي اختفاء كل الأفكار المعتمدة على فرضياته. لقد حلت العلل المادية محل العلل الغائية. ليس هدف الحجر أن يسعى إلى موقعه الطبيعي في الكون. الحجر يخضع لقوة تسارع نحو الهبوط. والكواكب لا تحيد عن مداراتها لأنها تخضع للقوانين الفيزيائية. والنجوم في السماء لا تتلألأ من أجل متعة البشر (بيرت 1932، 17-24).
وينقل جاليليو إلى تلميذه أندريا المتعة التحررية لكسر «الجدران والأفلاك والثبات»؛ فبمجرد «كسر دائرة» أو «تحطيم فلك» (كواريه 1965، 7 رقم 1)، يستطيع الكون الجديد أن يتخذ أبعادا لا نهائية. (ب)
السمة الثانية للثورة العلمية - «تحويل الطبيعة إلى صيغ رياضية» - لها تأثير، على القدر نفسه من الأهمية، على تطور الحضارة الغربية؛ فقد ألهمت نموذجا للكون يعمل وفقا لقوانين حتمية. وانتشرت صورة الكون الذي يعمل بدقة كالساعة بقدر انتشار الداروينية (انظر بيرت 1932، 202، 206؛ فاينرت 2004، الفصل الأول؛ ويندورف 1985، 144).
تنطبق لغة الرياضيات على العمليات الطبيعية. وهذا يقدم ميزة «الانضغاط الحسابي» الرائعة، التي تعني أن عددا كبيرا من البيانات يمكن ضغطه في معادلة رياضية دقيقة. على سبيل المثال، قانون كبلر الثالث يرسخ علاقة بين الفترة المدارية لكوكب ما حول الشمس
، ومتوسط المسافة التي تفصله عن الشمس
A (معبرا عنها بوحدات من المسافة بين الأرض والشمس
AU ). وينص القانون على أن مربع الفترة المدارية يتناسب طرديا مع مكعب متوسط بعده عن الشمس:
ويمكن استخدام هذا القانون لإيجاد متوسط المسافة من الفترة المدارية أو الفترة المدارية من متوسط المسافة لأي جسم يدور حول الشمس (حتى مركبة فضائية). على سبيل المثال، إذا كان متوسط المسافة عن الشمس 4 وحدات من المسافة بين الأرض والشمس، فإن الفترة المدارية ستساوي 8 سنوات. وهكذا، يضغط قانون كبلر الثالث مجموعة كبيرة من البيانات في معادلة واحدة أنيقة. وكل الأشياء التي تدور حول الشمس - من الكواكب إلى الأقمار الصناعية - تخضع لهذا القانون. ويعبر هذا القانون عن بنية المدارات حول الشمس.
بالنسبة لجاليليو ونيوتن، كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات. كان إنجاز نيوتن العظيم هو تقديم توليف بين ميكانيكا السماوات (كبلر) وميكانيكا الأرض (جاليليو). دمر نيوتن الكون ذا الفلكين. وسواء وقعت التفاحة على رأسه أم لا، فإن الدرس المستفاد من هذه الحادثة صحيح؛ فالقوة نفسها التي تجعل التفاحة تسقط على رأسه تبقي الكواكب في مداراتها. كان نيوتن قادرا على صياغة ثلاثة قوانين ميكانيكية أساسية تخضع لها العديد من الظواهر الأرضية؛ من السيارات المسرعة، إلى الكرات المصطدمة والمصاعد المتحركة، حتى الكواكب السيارة: (1)
ينص قانون القصور الذاتي على أن الجسم يظل على حالته من الحركة أو السكون ما لم تؤثر عليه قوة خارجية. (2)
ينص قانون القوة على أن حركة القصور الذاتي يمكن أن تخضع لقوة تغير اتجاهها وكمية حركتها. (3)
ينص قانون التفاعل (الفعل ورد الفعل) على أنه لكل فعل رد فعل، مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
بلغ التحويل الرياضي المتزايد للطبيعة، الذي ساهم فيه كبلر وجاليليو وهوك، ذروته في تبسيط حقائق الميكانيكا الكلاسيكية لنيوتن؛ فصاغ بضعة قوانين ومبادئ أساسية يمكن من خلالها استنتاج قوانين أخرى (مثل قوانين كبلر). وعلى الجانب الفلسفي، تألف عالم نيوتن من أربعة عناصر: «المادة»: عدد لا نهائي من الجسيمات الصلبة المنفصلة وغير القابلة للتغيير. وتمتلك هذه الجسيمات صفات أولية وثانوية، ولكن الصفات الأولية فحسب هي ما تهتم به الفيزياء (بيرت 1932، 235-236). «الحركة»: حركة الجسيمات يمكن وصفها من خلال قوانين الميكانيكا. «الفضاء المطلق»: سفينة كونية خيالية، تؤدي بين جدرانها الجسيمات (والأجسام المكونة منها) حركاتها التي تتبع قوانين الميكانيكا. اعتقد نيوتن بوجود الفضاء المطلق حتى عندما لا توجد مادة تملؤه. «الزمن المطلق»: نهر خيالي يحدد تدفقه المستمر مقياس زمني فريد يمكن من خلاله قياس جميع العمليات الطبيعية؛ فجميع الراصدين في جميع أنحاء الكون يحددون الزمن نفسه للأحداث، أيا كانت المسافة الفاصلة بينهم (فاينرت 2004، الفصل 4).
ثمة جانب فلسفي واضح في فكر نيوتن. (5-1) حول الفرضيات
على غرار معظم العلماء العظام، أظهر نيوتن وعيا فلسفيا؛ فقد تفكر في الأبعاد الفلسفية للفيزياء. يشتهر نيوتن بعبارته:
Hypotheses non fingo . هذه العبارة اللاتينية يمكن أن تترجم إلى «أنا لا أختلق الفرضيات»، أو «أنا لا أستخدم الخيالات»، أو «أنا لا أستخدم الفرضيات أو الافتراضات أو التفسيرات الكاذبة.»
6
وقد حدد مؤرخو العلوم عدة معان يستخدم بها نيوتن كلمة «فرضية»؛ ففي بعض الأحيان كان يعني فكرة معقولة وإن لم يمكن إثباتها. وفي السنوات الأخيرة من حياته وصل لاعتبار الفرضية بمنزلة خيال لا مبرر له (كواريه 1965، 36-37).
ما لا يمكن أن يستمد من الظواهر يسمى «فرضية»، وهذه لا تنتمي إلى الفلسفة التجريبية. (مقتبسة في دكسترهوز 1956، 537)
لم يكن نيوتن أول من شعر بالقلق حيال مصطلح «فرضية»، فقد تراسل كوبرنيكوس وريتيكوس حول فائدة الفرضيات في علم الفلك مع شخص سيصبح قريبا ذا أهمية أكبر في المناقشة: أندرياس أوزياندر. واعتبر كوبرنيكوس وتلميذه أن بعض الفرضيات الفلكية كانت أكثر احتمالا من غيرها. فتمتلك فرضية مركزية الشمس احتمالات أكثر من فرضية مركزية الأرض. ينبغي على الفرضيات المقبولة في علم الفلك أن تفسر كل الظواهر المرصودة، وعليها أن تفسر الظواهر على نحو متسق. يقول ريتيكوس إن فرضية بطليموس لا تكفي لإثبات تناغم الظواهر السماوية (ريتيكوس 1540، 132؛ انظر أيضا المراسلات التي أعيد طبعها في روزن 1959، 31-32؛ 1984، 125-126، 193-194، 198-205). وافق كبلر لاحقا على أن الفرضية الكوبرنيكية تتمتع باحتمالية أكبر من الفرضية البطلمية. كان لمفهوم الفرضية تداعيات كبيرة على مر المائة وأربعين سنة التالية، وقد شجع غموض هذا المصطلح - كما هو منعكس على وجهات نظر نيوتن حيال الفرضيات في العلم - ظهور تفسيرات معارضة للنموذج الكوبرنيكي. في كتابه «حوار حول النظامين الرئيسيين للكون» (1632)، يوجز جاليليو الحالة المتناقضة للفرضيات في القرنين السادس عشر والسابع عشر. تنص المقدمة على أن سالفياتي - المتحدث باسمه - سوف يدافع عن النظام الكوبرنيكي، ولكن فقط كفرضية رياضية بحتة، ولكن بينما يبدأ الحوار، يجر سالفياتي نحو حجج الاحتمالية. وفي نهاية المطاف يعتنق وجهة النظر الكوبرنيكية بأن قبول الحركة المزدوجة للأرض كافتراض فيزيائي يؤدي إلى تفسير أكثر اتساقا للظواهر. لاحظ أن حجج الاحتمالية تلك تستحضر إيمانا بالنموذج، لأن افتراضاته الفيزيائية أكثر احتمالا. يقول كبلر إنه من غير المعقول أن «النجوم الثابتة تتحرك بسرعة لا يمكن حسابها»
7 (كبلر 1618-1621، الجزء الثاني). الفرضيات الكوبرنيكية أشبه بتخمينات من كونها تخيلات مفيدة؛ فلديها ارتباط أوثق بالظواهر أكثر مما سيقبله نيوتن لاحقا. وكما يخبرنا ريتيكوس، فهي تشكل أساس الاستنتاج.
على النقيض من ذلك، وصف الفرضيات بأنها «تخيلات مفيدة» في علم الفلك طمأن خصوم كوبرنيكوس بأن نموذجه الشمسي المركز لم يجبرهم على التخلي عن معتقد مركزية الأرض العزيز. وذكر الكاردينال بيلارمين جاليليو أن كوبرنيكوس دائما ما تحدث من «الناحية النظرية»: من الممكن استخدام حركة الأرض كأداة رياضية لإضفاء سمة الاقتصادية على الحسابات، حيث توجد حاجة لتقليل أفلاك التدوير والدوائر اللامتراكزة، ومع ذلك، ظل التأكيد على مركزية الشمس كفرضية فيزيائية في صراع مع الكتاب المقدس.
8
من أجل تخفيف حدة الصدام بين الكنيسة ونظرية مركزية الشمس، أقحم أوزياندر مقدمته في محاولة لتقديم الفرضيات الكوبرنيكية كأدوات حسابية فحسب؛ فمن الممكن اعتبارها كاذبة أو قابلة للاستبدال ما دامت «تعيد إنتاج ظواهر الحركة بالضبط» (أوزياندر، رسالة إلى كوبرنيكوس، 20 أبريل 1541، مقتبسة في روزن 1984، 193-194). وبحلول الوقت الذي ظهر فيه نيوتن على الساحة، أصبحت الفرضيات أسلوبا لا يحظى بالاحترام. ومن خلال رفضها، يدعي نيوتن أنه استقرائي؛ فكما يشير، استنتجت قوانين الحركة من الظواهر، وجعلت عامة من خلال الاستقراء، وهذا هو أعلى دليل على أن النظرية يمكن أن تتضمن فلسفة (كواريه 1965، 36-37؛ دكسترهوز 1956، 544، 546-547). الظواهر عبارة عن مشاهدات رصدية أو تجريبية (موثوقة) تشتق منها القوانين أو البديهيات. ويرفض نيوتن أي تفسير للظواهر الطبيعية يبنى على فرضيات ميتافيزيقية لا يمكن إيجاد أي دليل لها.
لكن هذا لا يعني أن غير المرصود يجب أن يكون مشكوكا فيه تلقائيا؛ فعلى سبيل المثال، المناطق الداخلية من الشمس غير مرصودة، ومع ذلك يمكن تماما عمل استنتاجات محددة للغاية حول تركيبها الكيميائي عن طريق استخدام التحليل الطيفي. علينا أن نميز المرصود «مباشرة» من المرصود على نحو «غير مباشر». الظواهر المرصودة مباشرة يمكن الوصول إليها من خلال أبصارنا أو من خلال استخدام الأدوات. والمرصود مباشرة ليس بالضرورة أن يكون الأكثر موثوقية؛ فكما يذكرنا كوبرنيكوس، حركة الدوران القهقري ما هي إلا خداع بصري. والظواهر المرصودة على نحو غير مباشر هي استنتاجات من مشاهدات، واستخدام لتقنيات موثوق بها، من أجل الوصول إلى الأجزاء غير المرصودة من الطبيعة. فلا يمكننا أن نرصد مباشرة سبب دوران الكواكب، ولكن يمكننا أن نستنتجه من مشاهداتنا وفرضية مركزية الشمس. لقد بدأنا ندرك أن قصة مركزية الشمس مشوبة بالدروس الفلسفية. (6) بعض الدروس الفلسفية
يعكس كوبرنيكوس التمييز الكوني بين وجهة النظر الضيقة من «ركنه» الأرضي ونقطة البناء المركزية التي لا يمكن في الواقع النظر إلى الكون منها ولكن يمكن التفكير فيه منها. (بلومنبرج، «نشأة العالم الكوبرنيكي» (1987)، 38)
تخلق الكوبرنيكية موقفا إشكاليا ينبع منه عدد من التبعات الفلسفية. وكما سنرى في الفصلين اللاحقين، تنبع تبعات فلسفية أيضا من الداروينية والفرويدية. وينشأ «الموقف الإشكالي» في العلم عندما يقدم عدد من التفسيرات المتنافسة حلولا لمشكلة علمية مدركة. تقدم الحلول على خلفية عدد من الفرضيات والتقنيات والنماذج المقبولة. وهذه الفرضيات والتقنيات تحدد مشكلات مقبولة ومجموعة من الحلول الممكنة لكل مشكلة. تأمل مشكلتين شهيرتين في تاريخ العلم: حركة الكواكب ووجود أنواع حية مختلفة. قدم كوبرنيكوس في عام 1543 حلا للمشكلة الأولى، وفي عام 1859 عرض داروين حلا للمشكلة الثانية. وطأ كلا الحلين فضاء مفاهيميا ترسخت فيه بعض الفرضيات والتقنيات والنماذج بالفعل. قدم كوبرنيكوس وداروين نماذج منافسة كانت تنطوي على مجموعة من الحلول التي تختلف عن الحلول السابقة، كما أوجدا مجموعة من الفرضيات والتقنيات التي تباينت عن الفرضيات المقبولة سابقا. كان الاختلاف بارزا في حالة داروين، ولكنه كان جزئيا وحسب في حالة كوبرنيكوس. على الأقل عمل كوبرنيكوس مع نظرية حركة مختلفة عن نظرية الحركة الأرسطية. قدمت مجموعة الفرضيات والتقنيات والنماذج حلولا معينة مقبولة وحلولا أخرى غير مقبولة. بعض الحلول تكون ممكنة لأنها متوافقة مع مجموعة الفرضيات والتقنيات المقبولة. وتقدم المجموعة أيضا حلولا أخرى غير ممكنة. على سبيل المثال، ثمة صورة ناضجة من الكوبرنيكية ترى أن كل الفرضيات والتقنيات الإغريقية - الدائرة والكون ذا الفلكين، والدوائر اللامتراكزة وأفلاك التدوير - باطلة؛ ومن ثم لم يعد من الممكن اعتبار مركزية الأرض حلا مقبولا. من المهم أن نميز بين الحل «الممكن» والحل «الحقيقي». فحل معين «س» قد يكون ممكنا فيما يتعلق بمجموعة من الفرضيات. ولا يمكننا أن نقبله على أنه الحل الحقيقي؛ لأن من الممكن وجود حلول أخرى فيما يتعلق بهذه المجموعة. ولكي يحول الحل الممكن نفسه إلى حل حقيقي، فإنه يحتاج إلى إثبات قدرته على التحمل. فيجب على الحل الحقيقي أن يحل بعض المشكلات القديمة وبعض المشكلات الجديدة.
المواقف الإشكالية العلمية لها تأثير على القضايا الفلسفية، وهذا ما سنتحول إليه الآن. لاحظ أن هناك فرقا بين النتائج «الاستنباطية» و«الاستقرائية» و«الفلسفية» للنظرية. تنبع النتائج الاستنباطية رياضيا أو منطقيا من مبادئ النظرية. ويمكن أن تحدث النتائج الاستنباطية في شكل تنبؤات جديدة أو توفيق للحقائق المعروفة بالفعل. وفي كلتا الحالتين فإنها غالبا ما تكون متوافقة مع نظرية واحدة فحسب ومتعارضة - على نحو مثالي - مع منافساتها. سوف نتحدث لاحقا عن الأدلة «الداعمة» إذا كان الموقف متضمنا لها. تنبع النتائج الاستقرائية من النظرية التي تتضمن احتمالات. على سبيل المثال، إذا كانت النظرية إحصائية بطبيعتها، فإن نتائجها تتسم بدرجة احتمال أعلى أو أقل. تأمل الفارق بين عبارة «كل الغربان سوداء»، و«معظم الغربان سوداء»، فإذا كان «كل الغربان سوداء»، وعملية الرصد تقول إن «هذا الكائن غراب»، فإنه يتبع ذلك استنباطيا أن «هذا الغراب أسود»، ولكن إذا كانت العبارة هي «معظم الغربان سوداء»، فإنه يتبع ذلك استقرائيا فحسب أن «هذا الغراب أسود»، أما النتائج الفلسفية فهي مسائل مفاهيمية، يفضلها الفلاسفة. وعلى الرغم من أنها غالبا ما تنبع من النظريات العلمية، فإنها نادرا ما تخضع للاختبارات التجريبية المباشرة؛ ومن ثم فإنها لا تحظى بإجماع الخبراء الذي تحفزه عادة النتائج الاستنباطية. بافتراض وجود نظرية «س»، فإنه غالبا ما تستقى منها نتائج فلسفية متعارضة. على سبيل المثال، تثير الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية تساؤلات بشأن التفسيرات الذرائعية أو الواقعية لبعض افتراضاتها الأساسية. وحقيقة أن وجهتي نظر فلسفيتين غير متوافقتين (ذرائعية أو واقعية) تكونان متوافقتين مع نظرية واحدة لا تستبعد إمكانية أن تكون إحدى وجهتي النظر أكثر توافقا مع مبادئ النظرية من وجهة النظر الأخرى. فيما يتعلق بالكوبرنيكية، تناولنا أولا تأثيرها على الرؤية الكونية العامة. ثم تظهر دروس للتوجهات الذهنية المعرفية: الواقعية والذرائعية ومسألة نقص الإثباتات. كذلك تثير الكوبرنيكية مسائل فلسفية تتعلق بالنماذج والنظريات والقوانين. ويحث التحول الكوبرنيكي أيضا على تحليل معايير الثورات العلمية . وأخيرا نتناول «المبدأ البشري» ونتساءل هل كان يمثل نقيضا للتحول الكوبرنيكي. (6-1) فقدان المركزية
علم كوبرنيكوس - من خلال عمله وعظمة شخصيته - الإنسان أن يكون متواضعا. (أينشتاين، «رسالة بمناسبة الذكرى 410 لوفاة كوبرنيكوس» (1953)، 359)
يشرع كوبرنيكوس في كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» في إقناع قرائه أن فرضية مركزية الشمس ليست سخيفة كما قد تبدو، وقد تمكن من إقناع عدد من معاصريه مثل ريتيكوس ومايستلن في ألمانيا، ووجد بعض الأتباع في إنجلترا مثل توماس ديجس وويليام جيلبرت، وفي إيطاليا مثل جيوردانو برونو (دراير 1953، الفصل الثالث عشر)، ولكن في بداية القرن السابع عشر ظل كبلر يشير إلى أن العديد من الناس كانوا يصدمون بأفكار مركزية الشمس (كبلر 1619، 175). فواصل فرانسيس بيكون (1561-1626) - الذي كان معاصرا له - رفضه لقبول الكوبرنيكية.
لاقت الأطروحة الكوبرنيكية، في كثير من الأوساط، المعارضة والعداء. لم يجد معاصرو كوبرنيكوس صعوبة في تقبل التفاصيل الرياضية لعمله، بل كانت اعتراضاتهم فلسفية على نحو أكبر. فإذا اتبعت وجهة نظر كوبرنيكوس حرفيا، فإنها تزيل الأرض من محور الكون. عانى سكان الأرض من فقدان المركزية. ووفقا لكوبرنيكوس، فإنهم شعروا أنه لم يعد صحيحا أن الكون قد خلق من أجل البشر. قدمت فرضية مركزية الشمس الكوبرنيكية أكثر من مجرد أطروحة رياضية في علم الفلك المقتصر فهمه على مجموعة صغيرة من البشر. كانت هجوما على ما آمن به الناس حيال بنية العالم. ولم تكتسب فكرة مركزية الشمس تأييدا خاصة بين رجال الدين وعلماء الدين البروتستانتيين؛ فوصف مارتن لوثر كوبرنيكوس بأنه أحمق، مستشهدا بالكتاب المقدس. ووصفه فيليب ملانكتون - رفيق درب لوثر - ببساطة بأنه وقح. كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تبنت نظرية مركزية الأرض من خلال عمل توما الأكويني. وكانت مقاومة الكنيسة الكاثوليكية ضد الحركة الفيزيائية للأرض حول الشمس تعود جزئيا إلى الضغوط الكنسية؛ فقد رأت الكنيسة الكاثوليكية أن سلطتها مهددة بسبب صعود البروتستانتية. وفرضت الكوبرنيكية تحديا إضافيا على العقيدة الكاثوليكية.
وخلال سعيهما لتخفيف الصدمة الناتجة عن أفكار مركزية الشمس، كان كبلر وريتيكوس حريصين على استخدام الحجج الغائية. فبينما فقدت المركزية المادية، لم ينغمس البشر في غياهب الحقارة الكونية. استثمرت الظواهر السماوية بغرض محدد. فيشير كبلر إلى أن الغرض من الحركة هو إثبات أن «الحركة تنتمي إلى الأرض بوصفها وطنا للمخلوق المفكر» (كبلر 1618-1621، الكتاب الرابع، الجزء الأول). حتى إن ريتيكوس يؤكد على أن «الفلك قد رصعه الله من أجلنا بعدد كبير من النجوم المتلألئة» (ريتيكوس 1540، 143).
لم يتقبل الكوبرنيكيون الأوائل أن مجرد الإزالة المادية للبشر من محور النظام الشمسي إلى الفلك الثالث تمثل حطا مؤلما للمكانة. للظواهر السماوية غاية، وهي لا تتأثر بالموضع المادي للأرض بين الكواكب، فغايتها تتمثل في خدمتها للبشرية. آمن أرسطو أن «الطبيعة علة تعمل لغاية ما» (أرسطو 1952أ، الكتاب الثاني، 8). و«كما أن الطبيعة لا تفعل شيئا بلا غاية أو عبثا، فلا بد أنها صنعت كل الحيوانات من أجل البشر» (أرسطو 1948، الكتاب الأول، 1256ب). يرى كوبرنيكوس أن وظيفته هي فهم «آلية العالم الذي بني لنا عن طريق الصانع الأفضل والأكثر تنظيما» (كوبرنيكوس 1543، تمهيد، 6). وتتردد أصداء عقيدة الغائية - وهي أن «الطبيعة لا تفعل شيئا دون غاية» - عبر تاريخ أفكار البشر حيال الطبيعة. حتى إن ريتيكوس استخدم الغائية لمجابهة السكولاستية. فلا بد أن الصانع الحكيم صنع نموذجا شمسي المركز، لأنه «سيتجنب إدراج أي دائرة زائدة في هذه الآلية» (ريتيكوس 1540، 137).
ظل الوضع هكذا حتى أزال نيوتن التفكير الغائي من العلوم الفيزيائية. واستغرق الأمر فترة أطول في العلوم البيولوجية، كما سنرى في الفصل الثاني. فإقناع الناس أن النجوم ليست مصنوعة لتلمع من أجل تسليتهم أسهل من إقناعهم بأن العيون ليست مصممة لهم لكي يروا.
رأى نيتشه أنه «منذ عصر كوبرنيكوس والبشر يتدحرجون عن المركز نحو المجهول.» واعتبر نفسه كوبرنيكوس ثانيا ووصف انتقاص الذات لدى «الرجل الأوروبي» كأكبر خطر (كوفمان 1974، 122، 288؛ نيتشه 1887، الكتاب الأول). رأى فرويد أيضا التحول الكوبرنيكي والثورة الداروينية كضربات خطيرة لصورة الذات البشرية. وقال الفيزيائي ديفيد دويتش من جامعة أكسفورد:
الرأي السائد اليوم هو أن الحياة - بعيدا عن كونها مركزية، سواء كان ذلك هندسيا أو نظريا أو عمليا - بلا أهمية على نحو لا يمكن تصوره تقريبا.
يختلف دويتش مع هذا الرأي. مع ذلك، من الحقائق الفيزيائية أن:
النظام الشمسي جزء ضئيل من مجرتنا، مجرة درب التبانة، وهي في حد ذاتها غير ملحوظة بين الكثير من المجرات في الكون المعروف؛ لذلك، وكما قال ستيفن هوكينج: يبدو أن «الجنس البشري مجرد زبد كيميائي على كوكب متوسط الحجم يدور حول نجم متوسط للغاية على الحدود الخارجية لواحدة من بين مئات مليارات المجرات.» (دويتش 1997، 177-178؛ راجع واينبرج 1977، 148؛ بلومنبرج 1981، الجزء الأول والسادس؛ 1965)
مع ذلك، ثمة فرق بين المركزية المادية والعقلية.
9
يرصد البشر الكون من منظور أرضي من زاوية مادية معينة، يحددها موقع الأرض في مجرة درب التبانة، وقد أدى هذا المنظور الزاوي إلى مفاهيم خاطئة. فوضع الإغريق نظرية مركزية الأرض من خلال الظواهر. لم يتخل كوبرنيكوس عن الارتباط الوثيق بين الظواهر المرصودة والبنى الهندسية، ولكنه كان يرى أن النموذج الشمسي المركز يفسر الظواهر على نحو أفضل، اعتمادا على معقوليته الكبرى. تسبب تغيير كوبرنيكوس للمنظور في أثرين؛ أولهما: أن البشر لم يعودوا في المركز الهندسي للكون على المستوى المادي. الآخر هو أن فرضية مركزية الشمس تتيح للبشر فهما أفضل بكثير للظواهر المرصودة. ويقدم تغيير المنظور للبشر نموذجا للنظام الشمسي أكثر اتساقا. إن التحول الكوبرنيكي يضع المركزية «العقلية» محل المركزية «المادية». ويستطيع البشر من خلال التفكير العقلاني بناء نموذج دقيق للكون. فوجهة نظرهم حيال الكون تعتمد على موقع مادي محدد في الكون. والسبب في مركزية البشر هو الفهم العقلاني للكون، والذي يفوق بكثير ما تسمح لهم عيونهم برؤيته. يقول كبلر متأملا: «البصر يجب أن يتعلم من العقل» (كبلر 1618-1621، الكتاب الأول، الجزء الأول).
تؤكد المشاهدات أن البشر لا يمكثون في مكان متميز هندسيا داخل الكون الشاسع. ولا يوجد أي دليل على أن الأجرام الأخرى في النظام الشمسي صممت بوجه خاص لغرض الحياة البشرية. وبهذا المعنى، أدت الفرضية الكوبرنيكية إلى فقدان المركزية. ومع ذلك، أثبت الكوبرنيكيون أن المركزية المادية ليست ذات أهمية قصوى؛ فالعقل البشري يحلق في سماء أكبر بكثير من حدود مسكنه المادي؛ فما فقده البشر في المركزية الهندسية اكتسبوه في المركزية العقلية؛ فالمعرفة تحل محل الموقع، والعقل يعزز البصر.
يوجد تناظر معين بين كوبرنيكوس وداروين؛ إذ أبعد كوبرنيكوس البشر عن المركز المادي للكون، وأبعد داروين البشر عن ذروة الخليقة. ومؤخرا واجهت هذه الآثار الفلسفية للتحول الكوبرنيكي والثورة الداروينية اعتراضا، فبعض علماء الكونيات الجدد يرفضون ما يسمونه «العقيدة الكوبرنيكية»؛ فمن وجهة نظرهم، تشير هذه العقيدة إلى أنه لا يوجد شيء مميز بشأن البشر وبيئتهم؛ فالأرض واحدة من كواكب عديدة تدور حول جرم شمسي من الحجم المتوسط. والنظام الشمسي نفسه لا يوجد في موقع مركزي في درب التبانة. ومجرة درب التبانة هي مجرد واحدة من مليارات المجرات. ويبدو أن التطور الدارويني يدعم «العقيدة» الكوبرنيكية؛ فالتطور - وفقا لداروين - أنتج فرعا من شجرة تطورية يسميه البشر وطنهم، ولكن التطور منوط بالصدفة. فربما لم يكن ليتسبب في وجود حياة ذكية.
يرى بعض علماء الكونيات أن «المبدأ البشري» ينبغي أن يحل محل العقيدة الكوبرنيكية (انظر القسم 8). في علم الأحياء التطوري، يوضع «التصميم الذكي» ضد الانتقاء الطبيعي لداروين. تسعى سيناريوهات التصميم الذكي إلى إعادة التفكير الغائي إلى علم الأحياء التطوري (الفصل الثاني، القسم 5-4). ويرفض المبدأ البشري الإيحاء بأن الوجود الإنساني ليس مميزا بأي طريقة. فيؤكد المبدأ البشري أن البشر يعيشون في عصر مميز للغاية من التاريخ الكوني. وهو مميز لأنه سمح ب «تطور الحياة الكربونية» (بارو/تبلر 1986، 601). وقبل أن نتناول هذا المبدأ، ثمة عدد من المسائل الفلسفية الأخرى التي تتطلب انتباهنا. (6-2) هل كان كوبرنيكوس واقعيا؟
رأينا سابقا أن كوبرنيكوس لم يكن صاحب ثورة علمية، ولكن من خلال تغييره للمنظور على خلفية بعض الملامح الثابتة، غرس كوبرنيكوس بذور ثورة علمية. كان التحول الكوبرنيكي - الذي هو تغير في المنظور مع بعض المكاسب التفسيرية - خطوة افتتاحية كبيرة مكنت ظهور العلم الحديث. لقد وقف كوبرنيكوس عند بوابة الحداثة.
عندما نفكر في العلم الحديث، تبرز ثلاث سمات:
المشاهدات المنتظمة.
التجربة الخاضعة للسيطرة.
التحويل لمعادلات رياضية.
أورد كوبرنيكوس عددا من المشاهدات الخاصة به، التي قام بها في فرومبورك في بروسيا (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الثالث؛ ريتيكوس 1540). كما أنه اعتمد على العديد من المشاهدات الإغريقية. وضع كبلر قوانينه المتعلقة بالكواكب على أساس اكتشافات تيكو براهي، وقدم جاليليو إضافات مهمة لمجموعة قواعد البيانات الفلكية. واستخدموا جميعا المشاهدات على نحو «منتظم». وهذا يعني أنهم استخدموها لتأسيس الفرضية الكوبرنيكية. تعني «المشاهدات المنتظمة» أن المشاهدات تستخدم لاختبار مدى ملاءمة نموذج معين. ووجد جميع هؤلاء العلماء أن النموذج الشمسي المركز كان أكثر احتمالا مقارنة بالنموذج البطلمي. في حالة علم الفلك، لا يمكن تطبيق «التجارب الخاضعة للسيطرة». تعني التجربة الخاضعة للسيطرة التلاعب المتعمد في عوامل متغيرة مختارة في المختبرات العلمية. وهذا يعني أنها تنطوي على إقصاء متعمد وإدراج متعمد لعوامل متغيرة في التجربة. على سبيل المثال، في تجارب التشتت الشهيرة لرذرفورد (1909-1911)، استخدم رذرفورد ومعاونوه ذرات هيليوم متأينة، وأطلقوها باتجاه ذرات الذهب من أجل اكتشاف أن الذرة تمتلك نواة. في هذه التجارب تجاهل رذرفورد عمدا الإلكترونات؛ لأنها لا تتداخل مع مسار ذرات الهليوم الثقيلة داخل ذرات الذهب. حصر مجرو التجارب تركيزهم على التفاعلات بين الأنوية. لقد رأينا بالفعل أن «التحويل لمعادلات رياضية» يوفر قابلية ضغط البيانات جبريا (القسم 5). استخدم علم الفلك القديم الهندسة استخداما واسع النطاق؛ فكانت الزوايا والدوائر هي الأدوات الرئيسية المتاحة لعالم الفلك، حتى كوبرنيكوس. والهندسة تحد من الاستفادة من الرياضيات في وصف الطبيعة. وجعل استخدام الهندسة من المستحيل على كوبرنيكوس تقديم نظرية كمية دقيقة لحركة الكواكب، ناهيك عن التحليل الديناميكي، فقد كان مكسبه التفسيري قاصرا على الهيكل الطوبولوجي لنموذجه.
ولكن هل يعني هذا المكسب التفسيري أنه يوجد في متناولنا تفسير فلكي أفضل؟ هذا السؤال يكمن في منطق الموقف الإشكالي الكوبرنيكي؛ فعن طريق تغيير المنظور بين الأرض الثابتة والمتحركة، يدعي كوبرنيكوس الوصول إلى تفسير أفضل للظواهر المرصودة. فتظهر مسألة فلسفية على الفور، كان معاصروه يدركونها: بالتسليم بأن كوبرنيكوس حقق بعض المكاسب التفسيرية، هل هذا المكسب التفسيري يخبرنا، ببساطة، بشيء عن بنية نظرياتنا أو يقدم معلومات أكثر عن بنية العالم المادي نفسه؟ هل كان كوبرنيكوس واقعيا؟ أثار أوزياندر هذا التساؤل في مقدمة كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» التي لم يكتب اسمه عليها. ويقبع هذا التساؤل أيضا وراء الاستخدام المتناقض لمصطلح «الفرضيات». وبهذا فنحن نتعامل هنا مع القضية الفلسفية الخاصة بالواقعية والذرائعية. (أ) دروس للذرائعية والواقعية
إن الشهادة الأكثر شهرة على وجود هذه المسألة الفلسفية في أذهان كوبرنيكوس ومعاصريه مدفونة في مقدمة أوزياندر؛ فهي تقدم الكتاب لعالم عام 1543 الأوروبي، ورأى أوزياندر أن من المناسب إضافة بعض الملاحظات التمهيدية لصالح «القارئ المهتم بفرضيات هذا الكتاب» (كوبرنيكوس 1543، 3-4، كوستلر 1964، 169-178؛ روزن 1984، 195-196). لاحظ أولا أن أوزياندر تبع كوبرنيكوس في الحديث عن «الفرضيات». وكما رأينا، اكتسب هذا المصطلح الحميد ظاهريا تاريخه المنقسم في الفترة 1543-1687. مع ذلك، استخدم أوزياندر هذا المصطلح بمعنى واحد فقط معانيه. وخلال تذكيره للقارئ بحداثة فرضية مركزية الشمس، يوضح معضلة الفلكيين. فمن جهة، لا يستطيع عالم الفلك أن يعرف «الأسباب الحقيقية» للحركات السماوية. من ناحية أخرى، يستطيع عالم الفلك إنشاء وصف دقيق إلى حد ما ل «تاريخ الحركات السماوية». كيف ينبغي حل هذه المعضلة؟ يتمثل حل أوزياندر في الحل الكلاسيكي الشائع للفلسفة الذرائعية. يستطيع عالم الفلك تفسير «كيفية» تحرك الكواكب ولكن لا يستطيع تفسير «سبب» هذه الحركة. مع ذلك، فالعقل البشري يتدرب من خلال الفضول النظري. ورغم عدم القدرة على تقديم تفسير حقيقي، فإن تقديم تفسير ما أفضل من عدم تقديم أي تفسير؛ ومن ثم فإن مهمة عالم الفلك هي:
التفكير في أو بناء أي أسباب أو فرضيات يشاء بحيث يمكن، من خلال افتراض هذه الأسباب، حساب تلك الحركات نفسها في الماضي والمستقبل أيضا عبر مبادئ الهندسة.
وبالتالي فإنه ليس من الضروري بالنسبة للفرضيات أن تكون صحيحة أو حتى محتملة. ولينأى بنفسه مباشرة عن مناقشة الاحتمالات المقدمة في النص الرئيسي، يقول أوزياندر ما يلي:
يكفي [الفرضيات] أن تقدم حسابات تتفق مع المشاهدات.
لماذا يجب على القارئ إذن قراءة كتاب كوبرنيكوس؟ استند أوزياندر إلى البساطة. بعض الفرضيات تجعل الحسابات أبسط، وتجعل المشاهدات أسهل في الفهم. حتى إنها قد تؤدي إلى توقعات أكثر موثوقية.
لذلك دعونا نتح الفرصة لهذه الفرضيات الجديدة للظهور علنا بين الفرضيات القديمة التي هي نفسها أصبحت أقل احتمالا، وخصوصا لأن الفرضيات الجديدة رائعة وسهلة وتجلب معها كمية ضخمة من المشاهدات المكتسبة. وبقدر ما تصل الفرضيات، فلا يتوقع أحد أي شيء مؤكد من علم الفلك، حيث إن علم الفلك لا يمكن أن يقدم لنا شيئا مؤكدا؛ إذ إنه لو أن أي شخص صدق شيئا ما على أنه صحيح رغم أنه أوجد في الأساس لاستعمال آخر، فإنه سيخرج من علم الفلك أكثر حمقا مما كان عليه عندما دخله. وداعا.
توقع أوزياندر شكوك نيوتن اللاحقة بشأن فرضيات علم الفلك. فأشار إلى مركزية الشمس كفرضية رياضية، ولكنها ليست زعما بشأن الواقع المادي. فبوصفها زعما بشأن الواقع، سوف تكون كالشوكة في عين عالم اللاهوت؛ فمن خلال تشتيت فرضية كوبرنيكوس على سطور الذرائعية، سعى أوزياندر لإزالة الألم الذي تسببه؛ فكانت أداة رياضية أخرى لا تزعم تقديم تفسير أفضل للواقع. وكانت تمتلك احتمالا قليلا مساويا لاحتمال الفرضيات الإغريقية المعمول بها؛ فالأسباب الحقيقية لحركة الكواكب لا يمكن أن تعرف، لأن العقل البشري أضعف من أن يفهم الفلك السماوي. وفي غياب الفهم المادي، يحل الوحي محله.
ماذا عن كوبرنيكوس؟ هل كان واقعيا؟ تماما كما أنه لا شك في أن أرسطو آمن بالمركزية المادية للأرض، لا شك في أن كوبرنيكوس آمن بالحركة السنوية واليومية للأرض. آمن أرسطو أيضا بواقع الأفلاك الصلبة، التي كانت مهمتها هي حمل الكواكب، ولكن كوبرنيكوس كان «غير متأكد هل كانت حقيقية أو وهمية» (روزن 1959، 11-21). كان كوبرنيكوس غير متأكد حيال الأهمية الفيزيائية لبنياته الهندسية. ولاحظ أن بطليموس استخدم أدوات هندسية مختلفة. ومما لا يثير الدهشة أنه وجد نفسه غير قادر على معرفة أي واحد منها يتفق مع الواقع. وكان حله هو الموافقة على تكافؤ الفرضيات:
ليس من السهل تحديد أي منها موجود في السماء (...) إلا أن الانسجام الدائم للأرقام والظواهر يدفعنا إلى الاعتقاد بأن أحدها هو الموجود هناك.
10
لم يكن كوبرنيكوس واقعيا إزاء أدواته الهندسية؛ فقد عانى بعض الصعوبة في تصديق أن البنيات النظرية المستخدمة في النموذج الشمسي المركز - الحركة الدورانية اللامتراكزة وأفلاك التدوير المسئولة عن تفسير الظواهر المرصودة - لها نظير في الواقع المادي. لم يكن كوبرنيكوس واقعيا إزاء البنية الجبرية لنموذجه. كان كوبرنيكوس واقعيا إزاء الأجرام السماوية وحركاتها والنظام الذي يضمها معا. وآمن أن المكان الذي حدده للأرض في النموذج الشمسي المركز يتوافق مع جزء من بنية النظام الشمسي. كان كوبرنيكوس واقعيا إزاء البنية الطوبولوجية للنموذج الشمسي المركز. وحجج كوبرنيكوس الواقعية مقدمة في مقدمة وإهداء كتابه إلى البابا بولس الثالث والجزء الأول من الكتاب. «أولا»: منح كوبرنيكوس دورا «سببيا» لحركة الأرض؛ فالموضع المادي للأرض بين الكواكب الأخرى هو ما يفسر ظهور حركة الدوران القهقري وفصول السنة والطول الطبيعي للنهار؛ فالظواهر المرصودة تفسر سببيا بالحركة المادية للأرض:
فسرنا الظواهر بوصفها ناتجة عن حركة الأرض حول الشمس، واقترحنا هذه الوسيلة نفسها من أجل تحديد حركات جميع الكواكب. (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الرابع، مقدمة)
كما آمن كوبرنيكوس بالحالة السيارة للأرض؛ إذ آمن أن موقع الأرض مسئول سببيا عن بعض الظواهر المرصودة. إذا ليس كوبرنيكوس واقعيا إزاء موضع الأرض فحسب، فلا بد أنه واقعي كذلك بشأن النتائج الفيزيائية لهذا الموضع.
تتمثل الخطوة الثانية في «حجة كوبرنيكوس بشأن الاتساق». أشرنا بالفعل إلى أن كوبرنيكوس كان مدركا على نحو جيد لحقيقة أن الظواهر الطبيعية مترابطة بعدد من الطرق. كان هذا يعني بالنسبة لكوبرنيكوس أن حركة الأرض والكواكب مترابطة لدرجة أن أي تغيير في جزء واحد يؤدي إلى عواقب في جزء آخر من النظام. وفقا لكوبرنيكوس، لا نستطيع تغيير ترتيب الكواكب اعتباطا دون الإخلال بالصورة الكونية كلها. وإذا ربطنا مدارات الكواكب، يتبين لنا ترتيبها الطبيعي. فالاختيار الصحيح للموضع الأولي للأرض - كوكب يدور وليست مركزا ثابتا للكون - يؤدي وفقا لكوبرنيكوس إلى نموذج أكثر ملاءمة للكون. وهكذا ينتقل كوبرنيكوس من الواقعية إزاء الأجرام السماوية - بما في ذلك الأرض - إلى الواقعية إزاء النموذج العلمي الذي تبناه، ومع ذلك، تقتصر هذه الواقعية على التوزيع المكاني للكواكب . النموذج الشمسي المركز أفضل في تمثيله للكون من النموذج أرضي المركز، لأنه أكثر اتساقا. ويوفر «اتساق» معقولية محددة تشير إلى أنه يجسد بنية الكون على نحو أكثر صحة من منافسه النموذج الأرضي المركز:
نتحول الآن إلى حركات النجوم السيارة الخمسة؛ فحركة الأرض تربط ترتيب وحجم دوائرهم المدارية معا في تناغم رائع وبتناسب مؤكد ... (كوبرنيكوس 1543، الكتاب الخامس، مقدمة)
تنبع نتائج كثيرة قابلة للرصد من فرضية أن الأرض تتحرك. بمجرد أن يؤدي هذا الافتراض إلى نموذج متسق، يعزز هذا الاتساق من مصداقية الفرضية الأصلية. فالنموذج الشمسي المركز - اعتمادا على اتساقه - تمثيل أفضل لترابط الطبيعة من النموذج الأرضي المركز. وكما أدرك كبلر ونيوتن لاحقا، يمكن تعزيز تمثيل النموذج الشمسي المركز من خلال التخلي عن العديد من فرضيات كوبرنيكوس المسبقة. (6-3) الواقعية الحديثة
إذن، لو أن ثمة درسا يجب أن يعلمه العلماء للواقعيين فهو أن الواقعية - كلها أو أي شيء منها - لا تستحق القتال من أجلها. (سيلوس، «الواقعية العلمية» (1999)، 113)
شعر بعض أصدقاء وأتباع كوبرنيكوس بغضب عارم تجاه ذرائعية أوزياندر التي تشوه النموذج الكوبرنيكي. ووجههم غموض مصطلح «فرضية» نحو اتجاه الواقعية. وبفضل الإدراك المتأخر، يمكن أن نمتلك توجها ذهنيا أكثر استرخاء. فكوبرنيكوس لم يحسن البنية الجبرية للنماذج القديمة، كما لم يستطع كوبرنيكوس أن يقدم أي دليل رصدي قاطع يدعم حركة الأرض. وبدت مقدمة أوزياندر الغارقة في الذرائعية كتحذير. والجزء الفني من أطروحة كوبرنيكوس - مع قبولها لمبدأ تكافؤ الفرضيات - لم يرق إلى مستوى الوعد الذي قدمه الجزء الأول.
11
كان النموذج الكوبرنيكي قادرا على تقديم تفسير متسق للمشاهدات المعروفة خلال حياة كوبرنيكوس، كما كان متوافقا أيضا مع المشاهدات اللاحقة، ولكن افتقر النموذج الكوبرنيكي الأصلي إلى آلية ذات مصداقية يمكنها تفسير المشاهدات. تمتع النموذج الكوبرنيكي بصلاحية تجريبية، نظرا لبنيته الطوبولوجية، ولكن يجب أيضا أن يلبي نموذج أو نظرية أكثر تطورا مطلب وجود بنية جبرية دقيقة. ويجب أن تتوافق الآلية التي تفسر «الظواهر» مع بنية العالم الحقيقي. والنظرية التي تتميز ببنية جبرية دقيقة تتمتع بالصلاحية النظرية. والخلاف الفلسفي بين أوزياندر وكوبرنيكوس، بين الذرائعية والواقعية، له نظير حديث. فمتبع الذرائعية في العصر الحديث متردد حيال الآليات والبنيات الكامنة وراء السمات المرصودة كما كان أوزياندر. ومتبع الواقعية في العصر الحديث واثق حيال الآليات والبنيات الكامنة كما كان كوبرنيكوس واثقا حيال واقع حركة الأرض.
قدم متبعو الذرائعية في العصر الحديث سببين لحذرهم إزاء البنيات غير القابلة للرصد: من جهة، يوجد نقص في الأدلة التي تثبت النظريات (انظر القسم 6-4). وهذا هو الرأي القائل بأن الأدلة التجريبية لا يمكن أبدا أن تفصل بوضوح بين نظريتين علميتين متكافئتين تجريبيا ولكنهما مختلفتان بنيويا. وعبر بطليموس عن هذه المشكلة بالفعل في تكافؤ الفرضيات. من الناحية الأخرى، هناك «الاستدلال المتشائم»؛ وهو الرأي القائل بأن العديد من النظريات العلمية، التي كانت تعتبر سابقا «صحيحة»، ألقيت فيما بعد في مزبلة الأفكار الخاطئة. ونظرية مركزية الأرض إحدى أمثلة تلك النظريات. ما السبب الذي يدفعنا للثقة في النظريات الحالية؟ لذا تهتم الذرائعية الحديثة «بإنقاذ الظواهر». النظريات العلمية يمكن في أحسن الأحوال أن تكون ملائمة تجريبيا؛ فهي تناسب مجالها ما دامت في نطاق الظواهر المرصودة، ولكن علينا أن نظل متشككين فيما يتعلق بالبنية النظرية الكامنة وراءها. ربما تستخدم نظريتان علميتان آليتان غير قابلتين للرصد وغير متوافقتين، على الرغم من أن كلتيهما تفسر الأدلة المتاحة. علاوة على ذلك، من الممكن دائما تفسير الأدلة ذاتها على أساس بنيات نظرية مختلفة. أما متبع الواقعية فيريد أكثر من ذلك. فلا يكفي أن تكون نماذجنا متوافقة مع قدر ما تصل إليه المشاهدات؛ فالبنية النظرية الكامنة وراءها، التي يمكن أن تفسر المشاهدات، يجب أيضا أن تمثل بنية الواقع. ظل كوبرنيكوس مقيدا بقبول تكافؤ الفرضيات الهندسية، على الرغم من أنها تقدم المشاهدات على نحو متسق. مع ذلك، كان كبلر مهتما بالأسباب الفيزيائية؛ فالكواكب تتحرك بطرق منتظمة محددة، عبرت عنها قوانين كبلر الثلاثة. والسؤال التالي هو: لماذا تتحرك بهذه الطريقة؟ لم يصبح التفسير الفيزيائي القابل للتطبيق متاحا إلا عندما جمع نيوتن القانون الأول للميكانيكا مع قانون الجاذبية (انظر شكل
2-12 ). بالنسبة لمتبع الواقعية ، تبين هذه الأحداث أن نظرياتنا العلمية الناضجة تشكل تفسيرا تقريبيا جيدا للتفسير الحقيقي للعمليات الفيزيائية.
يدعي متبع الواقعية أنها هي «الفلسفة الوحيدة التي لا تجعل نجاح العلم يبدو معجزة» (بتنام 1975، 73)، ومع ذلك فإن قصة علم الفلك تبين أن معارض الواقعية يبدو أن لديه وجهة نظر. كان النموذج الأرضي المركز والنموذج الشمسي المركز في البداية متكافئين على المستوى الرصدي؛ إذ كان كلاهما يعتنق «تكافؤ الفرضيات»، ومع ذلك فقد كانا مختلفين بنيويا. وانتهى المطاف بجزء كبير من البنية النظرية في سلة مهملات الأفكار المصرة على الخطأ. لم يبالغ بطليموس في الزعم ب «واقعية» أدواته الهندسية، وكان كوبرنيكوس واقعيا فحسب فيما يتعلق بالترتيب المكاني للكواكب. قدم كبلر حججا قائمة على الاحتمالات لصالح النموذج الكوبرنيكي، رغم تخلصه من بعض فرضياته الرئيسية. تخلى نيوتن عن أسباب كبلر «الفيزيائية»، بينما استكمل الثورة الكوبرنيكية.
كيف يمكن لمتبعي الواقعية تفسير هذا الجانب المزدوج من الاستمرارية والانقطاع؟ قدمت مؤخرا أطروحة «الواقعية البنيوية» لدرء الحجج المناهضة للواقعية
12 (وورال 1989؛ ليديمان 1998؛ سيلوس 1999). ولتفسير الاستمرارية وسط التغيير المفاهيمي، تركز الواقعية البنيوية على الجوانب البنيوية للأنظمة. يمكننا أن نتناول الفكرة من خلال التفكير في حقيقة أن العلم يهتم بالنظم الطبيعية (مثلا، النظام الشمسي أو النظام البيولوجي) على نحو عام تماما. للحصول على نظام لا يكفي أن تضع العناصر أحدها بجوار الآخر (المترابطات)؛ فلا تشكل مجموعة من الكواكب نظاما. ولتحويلها إلى النظام، يجب أن تكون مكونات النظام مترابطة. وبفضل إنجازات الكوبرنيكيين، نعلم أن الكواكب ترتبط على نحو منهجي؛ فالكواكب مرتبطة في نظام عن طريق علاقات (قوانين) النظام. وما يشكل نظاما في العالم الطبيعي هو التفاعل بين مكونات النظام. تمتلك الأنظمة الكوكبية الكواكب كمكونات، وقوانين كبلر ك «الغراء» الذي يربطها معا. وتمتلك النظم البيولوجية الأنواع أو الأفراد كمكونات لها، وما يربطهم معا هو قوانين علم الأحياء التطوري. والمجتمعات البشرية لديها الأفراد والفئات الاجتماعية كمكونات، وما يربطهم معا هو القيم والمبادئ والقواعد القانونية الخاصة بالمجتمعات. وبصرف النظر عن مكونات الأنظمة، يجب أن توجد علاقات مناسبة بين المكونات ؛ فمن الصعب أن نتصور أن مجتمعا بشريا يمكن أن يترابط معا من خلال قوانين كبلر.
يتجمع العديد من المكونات في النظم الطبيعية بطريقة منتظمة؛ ومن ثم فإن النظم الطبيعية تظهر بنية تتألف من مترابطات النظام والعلاقات بينها. ويحاول العلم بناء نظريات ذات نماذج تمثل هذه النظم. يجب أن يكون للنماذج بنية نموذجية، تمثل بنية النظام الطبيعي على نحو رمزي. إذا كان المشروع العلمي منشغلا بوصف وتفسير النظم الطبيعية والاجتماعية، فإن الواقعية البنيوية تقدم أطروحة مفادها أن بنية النموذج تمثل بالتقريب الجوانب البنيوية، المؤكدة جيدا، للنظام المستهدف؛ فهي تهتم بالصلاحية النظرية لبنية النموذج؛ ولذلك فإن متبع الواقعية البنيوية سيرغب في أن يدعي أن نماذج العلم تهدف إلى تمثيل بنيات النظم الطبيعية أو الاجتماعية (الطوبولوجية والجبرية). وتتألف بنية النموذج - من أجل غرضنا الحالي - من المكونات وترابطها؛ أي المترابطات والعلاقات. ولدعم وجهة النظر هذه، فإن متبع الواقعية البنيوية سيرغب في توضيح طريقة توفيق الاستمرارية والانقطاع في النظريات العلمية على المستوى البنيوي. يمكن تدبر هاتين السمتين على نحو تفاضلي فيما يتعلق بالبنية الطوبولوجية والبنية الجبرية. عند الانتقال من بطليموس إلى كوبرنيكوس، تغيرت البنية الطوبولوجية للنماذج، لكن ظلت البنية الجبرية كما هي، باستثناء الموازنات وأفلاك التدوير الكبيرة. وعند الانتقال من كوبرنيكوس إلى كبلر، بقيت البنية الطوبولوجية دون تغيير، ولكن خضعت البنية الجبرية لتغييرات جذرية. ومن كبلر إلى نيوتن، خضعت البنية الجبرية لتحسينات، ولكنها لم تتعرض لتغييرات كبيرة. ومنذ نيوتن، لم يشهد النموذج البنيوي للنظام الشمسي تغييرات جذرية. وإنها لحقيقة أن التمثيل العلمي (في سياق النماذج) يواجه دائما قيودا في عمليتي التقريب والتجسيد المثالي. على سبيل المثال، تعد الدائرة تجسيدا مثاليا للقطع الناقص. سيؤكد متبع الواقعية البنيوية على وجود أدلة قاطعة كافية في تاريخ العلم للتسليم بالاستمرارية في البنيات الأساسية. وتمتد الاستمرارية إلى البنيات الجبرية والبنيات الطوبولوجية على حد سواء. وأخيرا، النماذج الناضجة فحسب هي التي يمكن أن تمثل بنية النظام المستهدف تمثيلا كاملا. وعلاوة على ذلك، تتغير هذه العناصر على نحو مختلف وعادة لأسباب علمية جيدة؛ ومن ثم ربما نشك في أنه حتى في المراحل الثورية في العلوم، ثمة عملية معينة من تسلسل الاستدلال تربط الانتقال من النظريات القديمة إلى الجديدة، وسوف نناقش هذا في (القسم 7). (6-4) نقص إثبات النظريات بالأدلة
كان عدم القدرة على التخلص من تكافؤ الفرضيات واحدا من أسباب فشل أعمال كوبرنيكوس في أن تصبح ثورة علمية. يجب أن يرى الواقعيون أن البنية النظرية التي ينسبها العلماء إلى مجموعة من البيانات الرصدية أو التجريبية تشير إلى بعض العمليات الفيزيائية التي يمكن أن تفسر المشاهدات. على النحو المثالي، يرقى هذا إلى مكانة التفسير السببي (انظر الفصل الثاني، القسم 6-6). كيف يمكننا أن نتأكد من أن تفسيراتنا النظرية تجسد حقيقة العالم المادي تقريبا؟ هذا في جزء منه يتعلق بمسألة كيفية استطاعة التفسيرات العلمية تمثيل أجزاء من العالم الطبيعي. ويتم ذلك من خلال استخدام مجموعة متنوعة من النماذج كما سنرى (انظر القسم 6-4 و6-5)، لكن قبل أن ننتقل إلى هذه الأمور، يجب إزالة حجر عثرة. ثمة حجة شهيرة - أطروحة دوهيم-كواين - تسعى إلى توضيح أن الأدلة لا تكون قوية بما فيه الكفاية «مطلقا» للتغلب على جميع التفسيرات النظرية المنافسة. إذا نجحت هذه الحجة، ربما سيوجد دائما عدد لا نهائي من التفسيرات النظرية المتوافقة مع الأدلة والمتعارضة وجوديا. ولن تكون الأدلة قادرة على تحديد تفوق أحد التفسيرات على التفسيرات الأخرى. وستكون كل التفسيرات النظرية ناقصة الإثبات بالأدلة المتاحة. وسيتاح لمتبعي الذرائعية حجة قوية في ترسانتهم.
تخيل بعض الكائنات الفضائية التي تستطيع لفظ الرقم 9 عندما تظهر مجموعة من الأشياء. كيف توصلت هذه الكائنات إلى هذا الحل؟ من الواضح أنه يوجد عدة آليات يمكننا أن ننسبها إليهم: (1) 3 × 3؛ (2) 4,5 + 4,5؛ (3) ؛ (4) 1 + 2 + 6؛ وما إلى ذلك. لو لم نكن نعلم شيئا آخر عن قدرات هذه الكائنات، فسيكون التحديد صعبا، ولكن تخيل أننا نعلم أن هذه الكائنات لا تتقن سوى الأعداد الطبيعية من 1 إلى 10 وليسوا على علم بالكسور. يمكننا إذن استبعاد الفرضيتين (2) و(3). بهذه الطريقة نستطيع تكوين الأدلة التي تشير بقوة إلى وجوب سريان آلية معينة. يبدو أن هذا يشبه تاريخ الفرضية الكوبرنيكية؛ ففي عام 1543 لم تكن الأدلة الرصدية ببساطة قوية بما فيه الكفاية لتدعم تفوق النظام الكوبرنيكي على النظام البطلمي، ولكن بعد ذلك حقق تيكو براهي وجاليليو اكتشافاتهما التجريبية المهمة، وكان من الصعب التوفيق بينها وبين النظام البطلمي. ومن خلال اكتشاف قوانينه للكواكب، حسن كبلر النظام الكوبرنيكي كثيرا. وأخيرا، توج نيوتن النموذج بالنجاح عندما أوضح أن القصور الذاتي والجاذبية يمكن أن يسببا تشكل مدارات الكواكب الإهليجية. وكما سنبين بالتفصيل في الفصل المتعلق بالداروينية، تحدث عملية للقضاء على التفسيرات المنافسة. عملية القضاء تلك ممكنة، لأن التفسيرات النظرية - كما يوضح تاريخ الكوبرنيكية - تخضع لعدد من القيود؛ تمثل صلابة الظواهر أحد هذه القيود ويمثل الاتساق واحتمالية التفسيرات قيدين آخرين. فإذا كان واقع النظام الشمسي أن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، فسيكون من الصعب على التفسيرات النظرية الهرب من هذه الحقيقة. نجا النظام البطلمي لمدة 1500 سنة بسبب قلة الأدلة. وبمجرد أن قويت الأدلة، ترنح النظام البطلمي أمام صلابة الحقائق وعدم معقولية افتراضاته.
ربما لا يغير متبع الذرائعية المتشدد رأيه متأثرا بمثل هذه الحجج. وسوف يشير إلى: (أ) أن من الممكن دائما دحض الدليل بوصفه بانعدام الثقة. ويمكن القول إن عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت كانا محقين في كونهما متشككين في التليسكوب، الذي لم يكن في عام 1610 بعد أداة موثوقا بها. (ب) وأن من الممكن دائما تغيير بعض الافتراضات الأساسية لإنقاذ النظرية. (ج) وأن تاريخ العلم مليء بحالات نقص الإثبات بالأدلة. حتى بداية القرن السابع عشر كانت النماذج الفلكية يعارض بعضها بعضا، ولكنها كانت متفقة على نحو متساو مع الأدلة. وسادت حالة مماثلة في البيولوجيا التطورية حتى بداية القرن العشرين. ولا تزال نماذج العلوم الاجتماعية المتعلقة بالظواهر المجتمعية تعاني من ويلات نقص الإثبات بالأدلة. (أ) أطروحة دوهيم-كواين
تأمل مخطط بوبر للدحض: نستمد من النظرية العلمية،
T ، فرضية قابلة للاختبار،
H
E ، ثم تخضع هذه الفرضية لاختبارات «صارمة». إذا لم تتخط الفرضية هذه الاختبارات، ¬
H
E ، فإن النظرية التي استخلصت منها تصبح مدحضة، ¬
T . ومخالفة لهذا الأسلوب الدحضي، يرى دوهيم وكواين أن النظرية،
T ، والافتراضات السابقة،
A ، تواجه معا الاختبار. وإذا فشلت الاختبارات في تأكيد الفرضية، فثمة بعض الحرية في الاختيار؛ فإما أن نرفض الفرضية،
H
E ، أو نغير الافتراضات السابقة،
A ، لإنقاذ النظرية (انظر مربع 1-2 من أجل عبارات أكثر منطقية).
قبل أن ننتقل إلى مثال، توجد بعض الملاحظات الأولية التي يجب توضيحها؛ أولا: عملية الانفصال، ، ليست نتيجة محددة. يجب تقديم سبب للاحتفاظ إما ب
H
E
أو
A . ثانيا: ينبغي أن نضع في الاعتبار أن الافتراضات السابقة،
A ، والفرضية الخاضعة للاختبار،
H
E ، ربما لا تمتلكان وزنا معرفيا متساويا. في كثير من الأحيان توجد في العلم نظريات أو نتائج راسخة إلى حد ما، تكون مفترضة مسبقا وليست خاضعة للاختبار حاليا. ثالثا: الأدلة،
E ، التي تستخدم لاختبار الفرضية، غالبا ما تكون قوية إلى حد ما، بمعنى أنه قد جرى التوصل إليها من خلال وسائل مستقلة. تتجاهل أطروحة دوهيم-كواين هذه التحفظات؛ فهي تنص على أنه من الممكن دائما إنقاذ
T ، على الرغم من ¬
H
E ، إذا كنا على استعداد لإجراء تغييرات مناسبة في المعرفة السابقة، مثلا من
A
إلى .
مربع 1-2: أطروحة دوهيم-كواين بعبارات منطقية
مخطط بوبر للدحض:
أطروحة دوهيم-كواين:
لإنقاذ النظرية،
T ، تصور دوهيم-كواين أن الافتراضات السابقة يمكن تغييرها، مثلا إلى
A ' ، لكي يمكن من خلال مزج
T
و
A '
استنتاج:
مفتاح الرموز: =
T
نظرية، =
H
E
فرضية خاضعة للاختبار، = ¬
نفي، = ∨
انفصال منطقي، = ⇒
نتيجة استنتاجية، = A
افتراضات سابقة.
يقدم لنا تاريخ علم الفلك أمثلة مفيدة لتوضيح وتقييم أطروحة دوهيم-كواين.
لندعم أولا مخطط بوبر للدحض ببعض الافتراضات السابقة الإضافية
A . لنفترض أن
T
هي علم الفلك البطلمي، ولنفترض أن
A
تمثل ثبات المجال فوق القمري في علم الكونيات الأرسطي. ونأخذ
H
E
من تأكيد عالم الرياضيات من مسرحية بريشت بأنه وفقا للقدماء، «لا يمكن أن توجد نجوم تدور حول مراكز أخرى غير الأرض»، وهذا يعني أنه لا يمكن أن يكون للمشتري أقمار. أخيرا نفترض أن ¬
H
E
تعبر عن اكتشاف جاليليو لأقمار المشتري. توضح اكتشافات جاليليو، بما فيها اكتشاف أطوار كوكب الزهرة، ومشاهدات تيكو براهي لظهور المستعر الأعظم في عام 1572 حدوث تغيرات في السماوات . يصعب توفيق هذه الاكتشافات التجريبية مع النموذج الأرضي المركز الذي يفترض صراحة ثبات السماوات. من الصعب إدراك كيف كان يمكن تغيير الافتراض السابق،
A ، من أجل التوافق مع النتائج التجريبية. إن تغيير
A
إلى
مثلا - قدرة السماوات على التغير - كان سيدمر بنية النموذج الأرضي المركز. كانت الاكتشافات التجريبية قوية. يقول الفيلسوف في مسرحية بريشت: «كون المبجل أرسطو يمثل صرحا من نسب متقنة، يجب علينا أن نفكر مرارا قبل خلخلة هذا الانسجام.» ومن ثم تمثلت استراتيجية الفيلسوف في إنكار أدلة جاليليو، ¬
H
E . وهذه خطوة مشروعة ما دامت الأدلة غير قوية. وبمجرد أن تكون الأدلة موثوقا بها إلى حد ما، تنتكس هذه الاستراتيجية بسرعة وتتحول إلى دوجمائية. ظهر زائرا جاليليو بمظهر الدوجماتيين؛ لأنهما أصرا على «صحة» عقيدة أرسطو. كان من الممكن أن تصبح شكوكهما مبررة لو كانا شككا في مصداقية التليسكوب.
مع ذلك، ثمة حالات يكون من المعقول فيها تماما رفض الافتراضات السابقة. لنعتبر أن
T
تمثل علم الفلك الكوبرنيكي، وتمثل
A
المدارات الدائرية المنتظمة في الفلك فوق القمري، التي تشارك كوبرنيكوس في افتراضها مع الإغريق. ونجعل
H
E
تمثل الحركة الدائرية لكوكب ما حول الشمس المركزية. أخيرا نجعل ¬
H
E
تمثل اكتشاف كبلر للمدارات الإهليجية الشكل والحركة غير المنتظمة لهذا الكوكب. نحن نعلم أن كبلر رفض الافتراض السابق
A
للمدارات الدائرية، وأحل محله حركة الدوران غير المنتظمة
كما ورد في قوانين كبلر. بما أن كبلر رأى صحة النهج الأساسي لكوبرنيكوس، فلم يستطع حقا رفض النظرية
T . والقيام بذلك قد يعني العودة إلى النظريات السابقة مثل مركزية الأرض لبطليموس أو نظام براهي الذي يعد وسطا بين النظريتين. لم تكن هذه النظريات السابقة تجذب كبلر كثيرا؛ لأنها لم تكن متوافقة مع الأدلة الرصدية. صحيح أن كبلر أنقذ النظرية الكوبرنيكية
T
من خلال تغيير الافتراض السابق
A . وكما تتطلب استراتيجية دوهيم-كواين، فإن مزج
T
و
يؤدي الآن إلى النتيجة الاستنتاجية ، ولكن لاحظ أن الافتراض المسبق
A
هو ما لم يستطع كبلر توفيقه مع الأدلة. لم يكن الأمر مسألة إنقاذ
T
مهما كان الثمن. كانت
T
نظرية ناجحة نسبيا، ولكنها لم تتمكن من تفسير المشاهدات بالدقة التي يريدها كبلر، لاستنادها على افتراض سابق مشترك مع نظرية مركزية الأرض.
يشير هذان المثالان إلى وجوب التمييز بين وجهتي النظر المنطقية والعملية؛ فمن وجهة النظر المنطقية ربما يكون ممكنا في الواقع إنقاذ النظرية
T - كما أشار دوهيم وكواين - من خلال عدد من المناورات: تغيير الافتراضات السابقة أو إنكار الأدلة، ولكن من وجهة النظر العملية، عادة ما يواجه العلماء عددا محدودا من التفسيرات النظرية التي عليهم أن يقيموها من خلال إخضاعها لقوة القيود، كما أوضح أينشتاين (أينشتاين 1918؛ 1919؛ فاينرت 2006). (ب) قوة القيود
ثمة حل عملي لأطروحة دوهيم-كواين يعتمد على استخدام القيود. يمكن عموما اعتبار القيود كشروط تقييدية على المقبولية؛ فهي تتحكم في العوامل المتغيرة التي تقبل في أي نظرية علمية أو نموذج علمي، أو تتحكم بصورة أعم في النظريات والنماذج التي ينبغي قبولها كبنيات علمية. تخيل بوابا يقف خارج ملهى ليلي. يقدم الملهى الليلي المشروبات الكحولية ولكن فقط للمقامرين الذين تجاوزوا حدا سنيا معينا. يجب أن يتأكد البواب من أن المقامرين الذين يستوفون الحد الأدنى للسن هم من يدخلون فحسب. إذا كنت مقامرا أقل من الحد السني، يفرض البواب شرطا تقييديا على دخولك إلى الملهى الليلي. إذا أدى وظيفته على نحو صحيح، فلن تدخل. وكما سنناقش الآن، ثمة مجموعة متنوعة من القيود التي تطبق في التنظير العلمي. في الأساس، توجد قيود تجريبية وأخرى نظرية، وهذه القيود يمكن تقسيمها لمستويات فرعية أكثر.
تخيل أن النماذج والنظريات العلمية مدمجة في «مساحة منطقية» ما، وهي تتشكل من مجموعة من القيود التجريبية والنظرية. يعتبر عالم الرياضيات المعادلة «قيدا» على مجموعة من الحلول الممكنة. تأمل معادلة القطع المكافئ: . تستثني هذه المعادلة جميع الأعداد الأقل من واحد ( >
1) كحلول ممكنة، حيث إن الأعداد الأقل من واحد لا تفي بالقيد الذي فرضته المعادلة. القيود العلمية تمثل شروطا تقييدية على النماذج والنظريات، «بحيث إنه من بين مجموعة العوامل المتغيرة المتاحة، فإن العوامل المتغيرة التي تفي بالقيود هي فقط التي تشكل مدخلات مقبولة.» ومع تطور العلم وظهور الاكتشافات الجديدة، يمكن لهذه الشروط المقيدة أن تتغير بطرق مختلفة (فاينرت 1999، 308-313). وهكذا بالنسبة للإغريق، وكذلك كوبرنيكوس، كانت الحركة الدائرية قيدا قويا على بناء النماذج. ونجد في العلوم فئتين عريضتين من القيود هي القيود التجريبية والنظرية. ويمكن تقسيم هاتين الفئتين إلى فئات أخرى. في ظل «القيود التجريبية»، ندرك مدى توافر البيانات التجريبية المستقرة القابلة للتكرار (النتائج التجريبية والرصدية)، وكذلك أيضا وجود الثوابت الفيزيائية الأساسية (مثل
h
و
c ، انظر فاينرت (1998))، التي قد تظهر في نماذج أو نظريات مختلفة تماما. ويجب أن تكون النظريات العلمية قابلة للاختبار تحت هذه القيود التجريبية. وفي ظل «القيود النظرية» نفهم المبادئ الفيزيائية الرياضية (مثل مبدأ النسبية)، والمعايير المنهجية مثل البساطة والوحدة والاتساق المنطقي والاتساق المفاهيمي للنظرية (الذي يقصد به هنا تعظيم الروابط المنطقية، والاشتقاقات الرياضية، والعلاقات المبنية على البراهين)، وأخيرا، المسلمات الميتافيزيقية (اتساق الطبيعة والسببية والمدارات الدائرية والحتمية والكمال والتناسق في الطبيعة). يمكن لمزيج هذه القيود المختلفة أن يرسم عددا من مساحات القيود المختلفة التي يمكن دمج النماذج والنظريات فيها. تشكل مركزية الأرض وقيودها مساحة قيود واحدة، بينما تشكل مركزية الشمس الخاصة بكبلر بنية قيود أخرى. وتعد فكرة وجود مجموعة من القيود التي تعمل على بنى علمية مفيدة للقضاء على النماذج غير الملائمة؛ إذ تتحطم هذه النماذج على صخرة القيود. لقد ألمحنا بالفعل إلى إجراء الاستقراء الإقصائي، الذي سنناقشه في الفصل الثاني. تكمن قوته في حقيقة أنه لا يمكنه إقصاء النماذج الفردية فحسب، ولكن يستطيع أيضا إقصاء مجموعات كاملة من النماذج التي تفي بمجموعة معينة من القيود (نورتون 1995؛ إرمان 1996).
ومساحة القيود عبارة عن بنية تحددها أنواع مختلفة من القيود، يمكن مزج النماذج الفعلية والمحتملة فيها. تطبق القيود على البنيات المقبولة وغير المقبولة. ودائما ما تكون القيود محدودة، ولكن تسمح مساحة القيود بعدد لا نهائي من النماذج والنظريات المحتملة (غير المصوغة)، ومع ذلك، يمكن لعدد محدود من القيود أن يحكم عددا لا حصر له من النماذج أو النظريات المحتملة، تماما كما يندرج عدد لا حصر له من الحالات المحددة - الفعلية والمحتملة - تحت القانون العلمي الواحد. ويمكن لعدد قليل من القيود أن يقصي عددا لا حصر له من النماذج والنظريات، تماما كما يستطيع بواب واحد رد عدد كبير من المقامرين؛ ومن ثم فإن بإمكان بنية شمسية المركز، بالاتحاد مع قوانين كبلر، أن تقصي كل النماذج الأرضية المركز باعتبارها بنيات غير مناسبة. وينجح الإقصاء؛ لأن النماذج الأرضية المركز تصبح متعارضة مع القيود الجديدة. بعبارة أخرى، تسبب محاولة إدراج النماذج القديمة في مساحات القيود الجديدة تناقضات.
من أجل أغراض مناقشة أطروحة دوهيم-كواين، وفي ضوء القيود، سوف نستخدم البيانات التجريبية فحسب كأمثلة على القيود التجريبية، والاتساق كمثال على القيد النظري.
لنلق نظرة أولا على بعض الأمثلة حول طريقة مساعدة استخدام القيود «التجريبية» على حل معضلة دوهيم-كواين، على الأقل من وجهة النظر العملية. تذكر موقف مركزية الأرض في القرن السادس عشر. في 1572، كان تيكو براهي قد اكتشف نجما جديدا (مستعرا أعظم)، وفي الفترة 1577-1596، اكتشف براهي المذنبات، وأثبت أنها كانت تقع خارج فلك القمر. شكلت هذه المشاهدات مشكلة خطيرة لإحدى العقائد الرئيسية في نظرية مركزية الأرض: ثبات الفلك فوق القمري. لا يمكن من وجهة نظر منطقية استبعاد أن نظرية مركزية الأرض قد وجدت طريقة للتكيف مع هذه الظواهر. في الأجزاء الأخيرة من كتابه «المجسطي»، يشير بطليموس إلى أن أي معرفة دقيقة للفلك فوق القمري تتخطى فهم البشر. إن ادعاء الجهل يمثل طريقة غريبة للتكيف. من المهم التأكيد على أنه كان «ينبغي» على نظرية مركزية الأرض التكيف مع هذه الظواهر. كانت ظواهر عنيدة، وكان إنكارها سيؤدي إلى دوجمائية الفيلسوف. السؤال هو ما التكلفة التي سيفرضها التكيف؟ (كيتشر 1993، 247-256؛ كواين 1990، 3-21)، كما رأينا، كان التكيف طبيعيا بالنسبة لنظرية مركزية الشمس. ومن وجهة النظر العملية، فإن تكلفة التكيف كانت تفرض ضغطا شديدا على نظرية مركزية الأرض؛ فليس من الاتساق أن تفترض ثبات السماوات وتقبل الدليل على الحركة.
لنلق نظرة أيضا على بعض الأمثلة حول الكيفية التي تساعد بها القيود «النظرية»، مثل اتساق النظرية العلمية، على حل معضلة دوهيم-كواين. يعني الاتساق أن عناصر النظرية العلمية تشكل شبكة محكمة ، وهو يقيس عدد الروابط البينية للمكونات والنتائج الاستنتاجية للنظرية. ويعني جعل الاتساق يعمل بمنزلة قيد لا يسمح بدخول النظام إلا للعناصر التي لا تخل باتساقه. يمكن مقارنة اتساق النظريات العلمية بلغز الكلمات المتقاطعة. فبينما نبدأ في ملء أعمدة وصفوف اللغز بالإجابات، نبدأ في رؤية توافق محكم. يمتلك لغز الكلمات المتقاطعة حلا واحدا فقط يحدد الإجابات المسموح بها. فإذا كانت إجابة العمود صحيحة، فإنها تضع قيدا على كل إجابات الصفوف. ومع ملء جميع الأعمدة والصفوف، يصبح اللغز نظاما قويا، وتفرض الأعمدة والصفوف الممتلئة قيودا شديدة على الإدخالات في المساحات الفارغة المتبقية. وبوضع مفهوم الاتساق في الاعتبار، تفكر في الطريقة التي ستمضي بها محاولة إدخال أقمار كوكب المشتري في النموذج البطلمي. سوف تخل باتساق النظام، الذي يقوم على الاعتقاد الميتافيزيقي بكمال الفلك فوق القمري. لم تكن المدارات غير الدائرية وإهليجية الشكل الخاصة بالمذنبات ستسبب مشكلات كبيرة للبنية الهندسية للنظام فحسب (شكل
1-9 )، بل كانت ستدمر اتساقه. لماذا لم يدمر إدخال كبلر لسرعات الكواكب الحقيقية غير المنتظمة اتساق النظام الكوبرنيكي؟ قبل كبلر الترتيب المكاني للكواكب في النظام الكوبرنيكي. ويمكن اعتبار المدارات الدائرية - على المستوى الرياضي - تقديرا تقريبيا جيدا لمدارات الكواكب شبه البيضاوية، لكن كان ينبغي على كبلر التخلي عن الحاجة الميتافيزيقية للأفلاك والحركة الدائرية.
نحن لا نفرض أفكارا فلسفية على الأفكار الكوبرنيكية على نحو تعسفي. لقد رأينا أن كوبرنيكوس يعبر عن إيمان قوي بالاتساق في مقدمته لكتاب «عن دورات الأجرام السماوية»، ويؤكد أنه إذا ما كانت حركة «النجوم السيارة» مرتبطة بحركة الأرض الدائرية، فإن العديد من الظواهر المرصودة ستنجم عن ذلك. وكان تلميذه ريتيكوس - بعد قبول هذه الأفكار حول الاتساق - أكثر وضوحا في هذا الشأن، فقال إن علماء الفلك العظام السابقين:
صاغوا نظرياتهم وأجهزتهم لتصحيح حركة الأجرام السماوية مع عدم الالتفات كثيرا إلى القاعدة التي تذكرنا بأن ترتيب وحركات الأفلاك السماوية تتوافق ضمن نظام مطلق. (ريتيكوس، 1540، 145)
مع ذلك، إذا كان حقيقيا أن النظريات العلمية تميل إلى إظهار كم كبير من الاتساق (الترابط) بين مكوناتها ، فمن الصعب الاعتقاد - في ظل نظرية دوهيم-كواين - أن النظام العلمي يواجه حكم الأدلة ككل فحسب؛ فكما رأينا للتو، يبدو أن شرط الاتساق يحد عدد التغييرات التي يمكن إجراؤها، كما أنه يحد من طبيعة التغيرات التي تكون مقبولة. فيمكننا استهداف عناصر معينة من النظام، عالمين أن ذلك سيؤثر على النظام بأكمله. استهدفت الفرضية الكوبرنيكية عناصر فردية من نظرية مركزية الأرض، وهي الموضع الطوبولوجي للأرض، وأداة الموازن الجبرية. واستهدف كبلر عقيدة المدارات الدائرية. (6-5) النظريات والنماذج والقوانين
تكلمنا في الصفحات السابقة عن النظريات الفلكية والنموذجين الأرضي المركز والشمسي المركز وقوانين كبلر للكواكب. يرتكز المشروع العلمي على عدد من الركائز، منها النظريات والنماذج، والقوانين، والقيود. كيف ترتبط هذه الركائز بعضها مع بعض؟ كيف تختلف النظرية عن النموذج؟ ما هو قانون الطبيعة؟ إن القيود، كما أكدنا، ترسم مساحة مقيدة. ويمكننا توسيع مساحة القيود عن طريق إدخال مزيد من القيود، كما يوضح تاريخ علم الفلك. وسع تيكو براهي الأساس الرصدي الذي ينبغي بناء النماذج الفلكية عليه. وعندما رفض كبلر ميتافيزيقا الأفلاك الدائرية أصبح صاحب التغيير الأكثر ثورية في مساحة قيود علم الفلك على مدار ألفي عام. (أ) النظريات والنماذج
يمكننا التفكير في النظرية العلمية كنظام مفاهيمي متسق يربط عددا من العناصر النظرية، التي تكون مهمة للممارسة العلمية. تنطبق النظرية العلمية على مجال ما، ويتضمن هذا المجال كافة الظواهر في جميع الأنظمة الممكنة التي تنطبق عليها النظرية. تضم النظرية الكوبرنيكية كل الأنظمة الكوكبية الجامدة كمجال لها. وتضم النظرية الداروينية كل النظم البيولوجية الحية كمجال لها. وتزعم كلتا النظريتين أنها تستطيع تفسير جميع أنواع السلوكيات ذات الصلة في النظم التي تقع ضمن مجالها. ترغب النظرية الكوبرنيكية في تفسير توزيع الأنظمة الشمسية وحركات الكواكب، وترغب النظرية الداروينية في تفسير جميع الظواهر التطورية، وتقدم النظريات العلمية إلى حد ما أيضا رؤى كونية؛ وهذا يعني أنها تقدم منظورا معينا حيال النظم الطبيعية أو الاجتماعية التي تشكل مجالها. تخبر الرؤى الكونية الناس بماهية العالم ومكانة البشر فيه. تعبر نظريات مركزية الشمس والداروينية والفرويدية عن هذه الآراء الميتافيزيقية إزاء العالم. وعندما تتغير النظرية، تواجه تلك الرؤى الكونية تهديدا. وهذه اللحظات في تاريخ العلم تمثل مناسبات للثورات العلمية. يمكن أن تفسر مقاومة تغيير النظريات العلمية جزئيا بسبب ارتباطها بالرؤى الكونية. وتتضح هذه العملية على نحو جلي في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس. وسنرى هذه العملية في الانتقال من مرحلة ما قبل الداروينية إلى النظريات التطورية للأنظمة البيولوجية.
عادة ما تجسد النظريات العلمية عددا من المبادئ الأساسية، التي تكون بمنزلة قيود. على سبيل المثال، ذكر كوبرنيكوس في كتابه «الشرح المختصر» سبعة مبادئ لعلم الفلك، بما في ذلك حركة الأرض (كوبرنيكوس، «الشرح المختصر» 1959، 58-59؛ كوبرنيكوس 1543، الكتاب الأول). وثمة مبادئ «ميتافيزيقية» مثل الاعتقاد بوجود حركة دائرية ووحدة الطبيعة، والتسليم أن كل حدث طبيعي محتم الحدوث. وكذلك يعد اعتقاد جاليليو أن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات أيضا قناعة ميتافيزيقية، كما أنه توجد «مبادئ منهجية» مثل الاعتقاد باتساق النظام، وبساطة التفسير، وإمكانية التثبت من الصلاحية التجريبية للنظرية. وثمة «مبادئ رياضية» مثل الأدوات الهندسية الخاصة بالإغريق أو استخدام الجبر في الفترة التي تلت كبلر. وفضلا عن هذه المبادئ، تحتوي معظم النظريات العلمية الحديثة على مجموعة من «القوانين الرياضية». أصبح هذا واضحا - لأول مرة - في أعمال كبلر. ولاحقا عندما أصبح النموذج الشمسي المركز أكثر تطورا، استطاعت النظرية أن تظهر طريقة ارتباط القوانين المختلفة أحدها مع الآخر. أوضح نيوتن كيف يمكن أن تستمد قوانين كبلر من قانون أساسي على نحو أكبر، وهو قانون الجاذبية. وأخيرا، يجب أن تجسد النظريات العلمية مجموعة من «الفرضيات التجريبية». وهذه الفرضيات التجريبية تواجه القيود التجريبية؛ أي الأدلة التجريبية، التي يجب أن تستقى من المبادئ المجردة. ويمكن رؤية تطبيق ذلك في نظرية مركزية الشمس مثلا. تقدم نظرية مركزية الشمس عبارة عامة للغاية مفادها أن «جميع» الأنظمة الكوكبية، وليس فقط النظام الشمسي، تتكون من عدد من التوابع التي تدور حول جرم ذي جاذبية مركزية. ومن أجل تأكيد هذه النظرية العامة، من الضروري استقاء عبارات قابلة للاختبار بشأن نظام معين. كان النظام الشمسي مناسبا للغاية؛ لأنه يمكن رصده من خلال الأدوات المتاحة لجاليليو ومعاصريه. يمكننا أن نعامل هذه المبادئ على أنها تشكل مساحة قيود. تتكون مساحة القيود من القيود التجريبية والنظرية، وتشمل النظريات العلمية أيضا عددا من النماذج، وتسمح النماذج للنظرية بتمثيل جوانب معينة من العالم، وتتمثل وظيفة النظرية العلمية في إلقاء غطاء من الاتساق على كل هذه العناصر، فتوضح النظرية طريقة توافق جميع هذه العناصر معا، وطريقة ترابط نماذج النظرية، وتبين كيف تكون البيانات الرصدية والتجريبية من التبعات الاستنتاجية أو الاستقرائية لمبادئ النظرية. «النماذج» ذات أهمية خاصة، لأنها توفر للنظرية وسائل التمثيل؛ فالنظرية تحتاج النماذج من أجل تمثيل جوانب معينة من العالم، ومن الممكن توضيح هذه الفكرة بسرعة. يمكن بسهولة الخلط بين النظرية الكوبرنيكية والنموذج؛ لأنها نظرية لها مجال محدود للغاية؛ فبالنسبة لكوبرنيكوس، كان النظام الشمسي والنجوم الثابتة يشكلان الكون كله. على وجه الدقة، النظرية الكوبرنيكية ليست سوى نموذج كوبرنيكي، ولكن هذا ليس سوى حالة عرضية لهذا الاكتشاف؛ فلا تقتصر النظرية الكوبرنيكية على النظام الشمسي؛ فغرضها ليس إدراج كواكب النظام الشمسي المعروفة فحسب في مجالها، ولكن أيضا إدراج كل النظم الكوكبية في أي مجرة؛ فإذا وسعناها على هذا النحو، فإنها تصبح نظرية. وتشمل النظرية الكوبرنيكية في مجالها كل النظم الكوكبية في كل المجرات، ولكنها تتسع لما هو أكبر من ذلك بكثير؛ إذ تشمل أيضا جميع النظم الاصطناعية، مثل الأقمار الصناعية، التي يمكن إرسالها إلى مدارات. ثمة سمة أساسية من سمات النماذج وهي أنها لا تغطي سوى نطاق محدود من البيانات. ويوفر النظام الشمسي بيانات كافية لبناء نماذج فلكية مختلفة.
تعد قدرة النماذج على ربط عوامل متغيرة محددة في صورة نظام واحدة من أهم وظائف النماذج. ويمكن أن نسمي هذه الوظيفة «الاتساق» أو «الترابط». كان كوبرنيكوس مدركا تماما أن النموذج الشمسي المركز يجب أن يمثل نظام الكواكب. وكي تتمكن النماذج من أداء هذا الدور، يجب أن تخدم ثلاث وظائف أخرى: الفصل، وإضفاء المثالية، والتحويل إلى حقائق.
تركز النماذج على عدد قليل من عوامل النظام المستهدف المتغيرة التي يمكن التحكم فيها بمعزل عن عدد من العوامل المتداخلة. تهمل العوامل المتداخلة من أجل غرض النمذجة، وهذا ما يسمى عملية «الفصل». ربما تكون هذه العوامل المتداخلة عديمة الأهمية بوضوح، وفي هذه الحالة يتجاهلها النموذج على نحو مبرر. على سبيل المثال، تهمل أقمار الكواكب دوما في النماذج؛ فالنموذج يركز على جرم مركزي وتوابعه، ومع ذلك، ربما يكشف التدقيق القوي أن العوامل المفصولة لها تأثير ذو أهمية على العلاقة بين العوامل المتغيرة، وفي هذه الحالة يجب إدراجها في النموذج؛ فقمر الأرض له تأثير مهم على المد والجزر.
قد يكون حساب العوامل الحقيقية العاملة في العالم المادي معقدا جدا، وفي هذه الحالة يلزم أن يقدم النموذج تبسيطا رياضيا. تقوم النماذج ب «إضفاء المثالية» على العوامل المتغيرة لجعل علاقاتها قابلة للحساب في النماذج. وتسمى هذه العملية «إضفاء المثالية».
13
بمجرد التخلي عن عقيدة الحركة الدائرية، يصبح من الأسهل حسابيا النظر للدائرة باعتبارها تجسيدا مثاليا للمدار الإهليجي.
مرة أخرى، قد تكون النماذج الأكثر تعقيدا قادرة على الحد من عملية إضفاء المثالية على العوامل المتغيرة. ويطلق على إدراج العوامل ذات التأثير المهم والقضاء على إضفاء المثالية على العوامل المتغيرة اسم «التحويل إلى حقائق». ومن أهم عمليات التحويل إلى حقائق في تاريخ علم الفلك وضع كبلر لقوانينه للكواكب.
يوجد أيضا أنواع مختلفة من النماذج، ومعظم النماذج لها وظائف «تمثيلية». وعلى هذا المنوال فإن معظم النماذج في العلوم تخدم وظيفة عملية. والتمييز بين أنواع النماذج المختلفة يساعد على توضيح ما يعنيه التمثيل بالنسبة للنماذج. وعموما وظيفة النماذج هي تصوير الجوانب البنيوية للنظم الطبيعية الخاضعة للنمذجة. تذكر أن النماذج إما تركز على الترتيب المكاني لعناصر النظام - كما على سبيل المثال التوزيع المكاني للكواكب حول الشمس في النظام الشمسي - أو تضع مزيدا من التركيز على العلاقات «الرياضية» بين العوامل المتغيرة؛ على سبيل المثال، كما في الاعتماد الوظيفي لأحد العوامل المتغيرة على عامل آخر. عندما تركز النماذج على الترتيب المكاني، فإنها تمثل «البنية الطوبولوجية» للنظام الخاضع للنمذجة. وعندما تصبح العلاقة الرياضية بين العوامل المتغيرة في بؤرة التركيز، فإن النماذج تمثل «البنية الجبرية» للنظام.
14
وغالبا ما تظهر طريقتا التمثيل هاتان في النماذج المتطورة مجتمعة، كما في نموذج كوبرنيكوس الناضج.
سوف نميز باختصار بين أنواع النماذج المختلفة: «النماذج التناظرية»: تمثل ما هو غير مألوف أو غير قابل للرصد في سياق ما هو مألوف أو مرصود. يشير هذا النوع من النماذج إلى أنه يوجد تناظر بين عناصر معينة من الأنظمة المعروفة بالفعل وبعض عناصر النظم المجهولة. وتستند النماذج التناظرية على علاقات تناظر شكلية أو مادية. من أجل تصور سبب مادي لحركة الكواكب، يستخدم كبلر تناظر الأشعة المغناطيسية للشمس التي تربط الكواكب، لكن التناظر وحسب لا يضمن أن الأنظمة الحقيقية سوف تشبه النموذج التناظري؛ فالشمس لا «تقود» الكواكب بواسطة الأشعة المغناطيسية، والكواكب لا تظهر وجها «ودودا» أو «غير ودود». تستغل النماذج التناظرية في كثير من الأحيان التناظر البصري بين النماذج والنظام الخاضع للنمذجة. يبدو أن الشمس تجذب الكواكب مثل المغناطيس الذي يجذب قطعة من المعدن. والنماذج التناظرية خطوة مفيدة - وإن كانت محدودة - في محاولة تحقيق الفهم الفيزيائي؛ فهي تقدم طرقا مفيدة لفهم المواقف الإشكالية، ومع ذلك، نحن نريد مزيدا من النماذج أكثر من مجرد التناظر وحده. فنريد أن تمثل النماذج السمات البنيوية للأنظمة الطبيعية الخاضعة للنمذجة. ومن أجل تحقيق فهم فيزيائي حقيقي، نحتاج نماذج أكثر تطورا. «النماذج الافتراضية»؛ أو «نماذج كما لو»: تتضمن عمليتي الفصل وإضفاء المثالية؛ فهي تزعم تمثيل النظام الخاضع للنمذجة «كما لو» كان يتألف فقط من العوامل المتغيرة والعلاقات الواردة فحسب في النموذج. وتعد التمثيلات التخطيطية للنظام الشمسي نماذج افتراضية قياسية (شكل
1-6 )؛ فهي تمثل النظام الشمسي «كما لو» كان يتألف - مثلا - من ستة كواكب فحسب دون أقمار و«كما لو» كانت هذه الكواكب تدور حول الشمس في مدارات دائرية، ومع ذلك، ندرك أن هذه العوامل المثالية هي تبسيطات رياضية وأن العوامل المفصولة موجودة في النظم الحقيقية. (سنشير لاحقا إلى أن النماذج الافتراضية تلعب دورا مهما في العلوم الاجتماعية.) «النماذج المصغرة/المكبرة»: تمثل أنظمة واقعية سواء كانت مصغرة الحجم (النظام الشمسي) أو مكبرة الحجم (النموذج الكواكبي للذرة). وتعد النماذج الأرضية المركز والشمسية المركز نماذج مصغرة قياسية تمثل النظام الشمسي بطرق مختلفة. وعادة ما يكون هذا النوع من النماذج ثلاثي الأبعاد ويتطلب معرفة دقيقة إلى حد ما بطريقة عمل النظام. ويوضح تاريخ علم الفلك أن التمثيل الدقيق للنظام الشمسي كان من الصعب الوصول إليه. «النماذج الدالية»: تمثل - كما يوحي الاسم - التبعية الدالية بين العديد من العوامل المتغيرة. وتنتشر هذه النماذج في العلوم، بدءا من دورة كارنو للغاز المثالي إلى مخططات الزمكان حتى منحنيات العرض والطلب في الاقتصاد. لا توجد حاجة إلى تعيين قيم محددة للرموز التي تشير إلى العوامل المتغيرة؛ فما يهم هو طبيعة العلاقة «الدالية» بين بعض العوامل المتغيرة. ونحصل على نموذج دالي إذا مثلت العلاقة الدالية بين بعض العوامل المتغيرة في رسم تخطيطي أو رسم بياني. وتظهر العلاقة الدالية وفق «قانون بود». اكتشفت هذه العلاقة عن طريق يوهان تيتيوس، ولكنها أصبحت معروفة على نحو أفضل من خلال يوهان بود (1772). ينص قانون بود على أن المسافة بين الكواكب والشمس (التي تقاس بوحدة قياس المسافة بين الأرض والشمس) تتبع القاعدة:
ومن ثم فإن المسافة، ، تختلف مع اختلاف الأس . على سبيل المثال، عندما ، نجد أن ، وهو ما يساوي المسافة بين الشمس والأرض بوحدة القياس المختارة. وعندما ، فإن ، وحدة، وهو ما يساوي المسافة بين كوكب المشتري والشمس. وفي هذه النماذج، يبدأ أساس التمثيل الانتقال من البنية الطوبولوجية إلى البنية الجبرية. «النماذج البنيوية»: عادة ما تجمع بين البنية الجبرية والبنية الطوبولوجية من أجل تمثيل طريقة تفسير بنية أو آلية أساسية لبعض الظواهر المرصودة. وتعد النماذج البنيوية مفيدة للغاية في تمثيل الأنظمة الضخمة مثل الأنظمة الكوكبية، والأنظمة المجهرية مثل الذرات. ويجمع نموذج كبلر الشمسي المركز البنية الطوبولوجية للنظام الشمسي الكوبرنيكي مع بنية جبرية محسنة؛ فكما رأينا، كان ترتيب كوبرنيكوس الهندسي للكواكب صحيحا من الناحية البنيوية، ولكن كان إخفاق نموذجه يكمن في البنية الجبرية. وبمجرد الجمع بين البنية الطوبولوجية وقوانين كبلر ثم نظرية نيوتن للميكانيكا، ظهر نموذج بنيوي شمسي المركز دقيق إلى حد ما. وكما سنرى في الفصل الثاني، يمكن أيضا استخدام النماذج البنيوية لتقديم تفسيرات بنيوية. (ب) قوانين الطبيعة وقوانين العلم
عادة ما تضم النظرية العلمية عددا من القوانين العلمية. وفي تاريخ العلم، كان كبلر واحدا من أوائل من قدموا قوانين رياضية لحركة الكواكب (انظر روبي 1995). ويسمح لنا عمل كبلر بالتمييز بين «قوانين الطبيعة» و«قوانين العلم» (فاينرت 1995أ، ب). إن قوانين الطبيعة هي مظاهر الانتظام التجريبية التي توجد في الطبيعة، بغض النظر عن وعي البشر بها من عدمه. أما قوانين العلم فهي تعبيرات رمزية عن قوانين الطبيعة. على سبيل المثال، قبل اكتشافات كبلر، كانت الكواكب تدور في مدارات شبه بيضاوية حول الشمس، وكانت تتحرك تقريبا وفقا لقوانين كبلر الثلاثة للحركة، ولكن قبل كبلر، افترض علماء الفلك أن الكواكب تتحرك في مدار دائري، وهذه الحركة ظهرت في النماذج باستخدام الدوائر اللامتراكزة أو أفلاك التدوير. كانت جميع هذه الأدوات الهندسية من صنع الإنسان، ولكن عندما كتب كبلر قوانينه الثلاثة لحركة الكواكب، استخدم تعبيرات رمزية حولت الحركة الحقيقية للكواكب إلى رموز. تذكر قانون كبلر الثالث:
A
3 ∝
2 . يخبرنا هذا التعبير الرمزي - بمصطلحات المتوسطات - أن مكعب متوسط المسافة بين الأرض والشمس يتناسب مع مربع الفترة المدارية لها حول الشمس. يجسد هذا القانون العلمي مفهوم هذه الظواهر. ويقدم ما يسمى «قابلية ضغط البيانات جبريا» (ديفيز 1995). وهذا يعني أن جميع المشاهدات بشأن حركات الكواكب يمكن ضغطها في صيغة جبرية موجزة. تجنبنا هذه المعادلة المهمة الشاقة المتمثلة في تسجيل أو تذكر جميع البيانات حول هذه الحركات. يتضمن هذا القانون لكبلر معادلة متعددة الحدود تعبر عن العلاقات داخل بنية؛ فنتوقع أن يتبع مسار أي كوكب - أي جرم سماوي - نمطا فيزيائيا وفقا لهذه المعادلة. وبمجرد أن تصبح المعادلة بين يديك، لا توجد حاجة لرصد وقياس موضع «كل» كوكب. تخبرنا صيغ مثل قوانين كبلر أو قانون بود بمسارات الكواكب في صورة جبرية مضغوطة؛ ومن ثم فإنه ليس من الصعب أن نرى القوانين كقيود بنيوية على الأجرام؛ فهي تحدد طريقة يجب أن يتحرك جرم مثل كوكب ما بها، وتحظر أي نوع آخر من السلوك على هذه الأجرام. بالطبع قد يكون القانون العلمي خاطئا، كما بينت نظرية الزخم، ولكن الهدف هنا هو أن السلوك العادي للنظم الطبيعية يمكن التعبير عنه بلغة الرياضيات. فإذا كانت الحال هي أن الكواكب والأقمار الصناعية تتصرف وفقا لقوانين كبلر وأن الأجسام تسقط وفقا لقوانين نيوتن، فإن القوانين العلمية تقدم لنا بنية سلوك النظم الفيزيائية في صورة جبرية. تحدد العلاقة الرياضية رسما بيانيا - على سبيل المثال - يمكن وضع مشاهدات حركة الكواكب فيه. وإن لم يكن ممكنا وضع الكثير من هذه البيانات وفق الطريق المحدد للرسم البياني، فإن المعادلة الرياضية تكون خاطئة. (ج) وجهات النظر الفلسفية للقوانين
إن قابلية ضغط البيانات جبريا التي توفرها قوانين العلم مريحة للغاية. وتعبر قوانين العلم عن علاقة منهجية بين العوامل المتغيرة، مما يتيح لنا الوصول لاستنتاجات حيال حالة غير معروفة من حالة معروفة. وتسمح القوانين للعلماء بإيجاد إجابات لما يبدو أنه مشكلات غير قابلة للحل. على سبيل المثال، سمحت قوانين نيوتن للعلماء بتحديد كتلة الأرض. وفضائل قوانين العلم عظيمة لدرجة أن الفلاسفة شيدوا عددا من النماذج المفاهيمية حولها.
وجهة نظر الاستدلال
وفقا لوجهة نظر الاستدلال-الترخيص، القوانين تراخيص تسمح للعلماء باستنتاج «أ» من «ب». يمتلك العالم مجموعة معينة من البيانات التجريبية - ارتفاع كرة مقذوفة، والفترة المدارية لكوكب ما - وبمساعدة من القوانين المناسبة، يستطيع العالم التوصل إلى مجموعة أخرى من البيانات: السرعة الأولية للكرة، ومتوسط المسافة بين الكوكب والشمس. يصف فيتجنشتاين هذا بأنه وهم «أن ما يسمى قوانين الطبيعة هو تفسيرات للظواهر الطبيعية» (فيتجنشتاين 1921 - 1978) ويقارن النظريات العلمية مثل ميكانيكا نيوتن مع الشبكات المفاهيمية التي تتيح «وصف الكون في صورة موحدة». ويضيف - مستبقا معضلة دوهيم-كواين - أنه يمكن أن توجد شبكات مختلفة تتوافق معها أنظمة مختلفة لوصف العالم. إن حقيقة أن العالم يمكن وصفه من خلال ميكانيكا نيوتن «لا تؤكد شيئا عن العالم» وفقا لفيتجنشتاين.
15
تعبر وجهة نظر الاستدلال-الترخيص عن جوهر الذرائعية، لأنها تؤمن: (1) أن قوانين الطبيعة هي «قوانين لطريقتنا في تمثيل الطبيعة» (هانسون، مقتبسة في موسجريف (1979-1980)، 69). (2) وأن القوانين تسمح لنا أن نستنتج بيانات من بيانات أخرى (على سبيل المثال، يمكننا أن نستنتج موضع كوكب ما قبل 300 سنة من موضعه الحالي) (تولمين، مقتبسة في موسجريف (1979-1980)، 73). (3) وأن القوانين مجرد قواعد للاستدلال؛ ومن ثم تتوقف القوانين عن كونها عبارات «تجريبية» صحيحة أو خاطئة.
كيف ينبغي أن نرى وجهة النظر تلك؟ صحيح أن العلماء لا يستخرجون القوانين العلمية استقرائيا من المظاهر المنتظمة للطبيعة. فبينما يدرسون العالم الطبيعي، يضعون القوانين العلمية. مع ذلك، فكرة أن القوانين العلمية لا تتعلق بالطبيعة، ولكن بالشبكات المفاهيمية التي نصف الطبيعة من خلالها فكرة غير مرضية أبدا. والصيغ الرياضية التي ينشئها العلماء يجب أن تتوافق مع المشاهدات. ومع أنه يمكن اعتبار العلماء متحررين في صياغة القوانين العلمية، فإن القوانين يجب أن تتوافق مع قيود العالم التجريبي. وبهذا المعنى فإن الانتظام المقبول للطبيعة يكون بمنزلة قيد على صياغة القوانين العلمية. وغالبا ما يؤدي هذا القيد التجريبي إلى تعديل صيغ القوانين؛ فعلى سبيل المثال، بظهور قوانين كبلر، فقد قلق القدماء حيال تكافؤ الأدوات الهندسية مبرراته. لو كانت قوانين العلم بطاقات استدلال، فسنواجه دائما هذا السؤال: «لماذا بعض بطاقات الاستدلال أفضل من البطاقات الأخرى؟» «لماذا تعد قوانين كبلر أفضل من أفلاك التدوير؟» مشكلة وجهة النظر الاستدلال هي أن قواعد الاستدلال لا يمكن تأكيدها أو نفيها؛ فهي ببساطة تكون ملائمة ضمن نطاق تطبيق معين، ولكن يمكن أن تكون القاعدة ملائمة دون أن تكون صحيحة؛ فقد قدم علم الفلك القديم العديد من التنبؤات الملائمة، رغم أن «قانون» الكواكب الذي استندت عليه كان خاطئا. إن ملاءمة القانون العلمي لا تضعف نتيجة قدرته على تقديم تنبؤات ناجحة. فيجب أن يكون القانون صحيحا؛ إذ يجب أن يصف بدقة النمط الأساسي لحالة منتظمة ضمن حدود تقريبية مقبولة. والقانون هو العمود الفقري الذي يجمع العظام الرصدية معا، فيقدم بنية تحكم سلوك المشاهدات. ولكن قواعد الاستدلال لا يمكن دحضها؛ فكل ما بوسعنا هو إثبات أنها غير ملائمة للمهمة الحالية. إن المطرقة أداة غير ملائمة لربط برغي ولكنها ملائمة لتثبيت المسامير. وليس من الضروري إقصاء القواعد. وبما أن العلم يعمل عن طريق عملية إقصاء، فلا يمكن للذرائعية أن تفسر تقدم العلم (بوبر 1963، 112-114؛ موسجريف 1979-1980، 97).
يجب أن تكون النتيجة النهائية هي أن تفسير متبع الذرائعية لطبيعة القوانين الفيزيائية غير ملائم؛ فقوانين العلم تعبر عما هو أكثر من مجرد ترخيص لاستنتاج مجموعة معينة من البيانات من مجموعة أخرى.
وجهة نظر الحالة المنتظمة
تعد «نظرية الانتظام» للقوانين الطبيعية برنامجا أكثر طموحا؛ فوفقا لهذا التفسير، عبارة: «ثمة قانون يقضي بأن كل صور
F
صور من
G .»
يجب تحليلها بوصفها مساوية لعبارة: «كل
F
تساوي
G .» (افترض أن
F
تشير إلى «الكواكب» وأن
G
تشير إلى المحمول «الحركة الدائرية». إذن، تخبرنا هذه العبارة أن جميع الكواكب تتحرك في دائرة.) إذا نظرنا إلى قوانين كبلر ونيوتن، فربما نتفاجأ في البداية أن أيا منهما لا يبدو كفرضيات عالمية منطقية: «كل
F
تساوي
G .»
أو بالرموز المنطقية:
باعتراف الجميع، لا يبدو قانون نيوتن الثاني وقانون كبلر الثالث كأنهما فرضيتان علميتان في كتب العلم، ولكن كما يقول أنصار هذا الرأي، فإنهما يمكن أن تصاغا برموز منطقية. كل ما علينا القيام به هو إحلال الرمزين
F
و
G
محل العوامل المتغيرة في هذين القانونين. ويعبر الشكل المنطقي عن العالمية (انظر همبل 1965، 25-30، 40، 271).
تتمثل السمة المميزة لنهج الانتظام في تصويره للعالم الطبيعي بأنه محكوم بنظام متسق بمعنى يتوافق مع فلسفة هيوم. بمعنى أننا إذا رصدنا أن كل حدوث للظاهرة «أ» يسبق الظاهرة «ب»، فإن لدينا سببا للاعتقاد أنه كلما حدث «أ»، تبعه حدوث «ب». وهكذا نستنتج من شروق الشمس في الماضي أن الشمس ستشرق في المستقبل.
تزعم نظرية الانتظام أن العالم تحكمه عمليات متسقة «مشروطة»، نعبر عنها رمزيا في قوانيننا العلمية. وتنفي النظرية وجود أي شكل من أشكال الضرورة في القوانين الطبيعية. وبصورة ما يبدو هذا النهج معقولا للغاية؛ فعلى الرغم من أن الشمس «أشرقت» في السماء على مدار آلاف السنين، فإن هذا ليس سببا كافيا لتأكيد أن الشمس لا بد أن تشرق غدا. كل البجعات المرصودة «س» قد تكون بيضاء «ض» حتى لحظة زمنية معينة، ولكن هذه المشاهدات لا تمنع وجود بجعات سوداء. ولا شيء يمنع عدم حدوث «ض»، حتى عندما يحدث «س»، ولكن تأمل الفرضيتين التاليتين: (1) «جميع أملاح الصوديوم تحترق بلهب أصفر.» (2) «لا شيء يتحرك بسرعة أعلى من سرعة الضوء.»
من المغري صياغة عبارات من خلال صيغ الإمكان والضرورة: (1أ) «لا بد أن تحترق جميع أملاح الصوديوم بلهب أصفر.» (2ب) ««ليس من الممكن» لشيء أن يتحرك بسرعة أعلى من سرعة الضوء.»
ينبع هذا الإغراء من الشعور الحدسي بأن قوانين الطبيعة تتألف من أكثر من مجرد عمليات متسقة مشروطة؛ فالحدس لا يخبرنا أن «أ» و«ب» و«ج» تمتلك السمة «ص» فحسب، ولكن يخبرنا أيضا أنه إذا كانت بعض الأشياء تمتلك السمات «أ» و«ب» و«ج»، فلا بد أنها أيضا تمتلك السمة «ص»؛ فنحن نشعر أن القوانين الطبيعية يجب ألا تعطينا تعميمات عرضية، ولكن تعطينا أوجه انتظام كونية غير مشروطة. يجب ألا يقتصر الأمر على أن عددا معينا من الأشياء الخاضعة للدراسة (الكواكب، أملاح الصوديوم) يتشارك في سمات خاصة معينة (مدارات إهليجية، لهب أصفر)، بل يجب أن يمتلك هذه السمات على نحو أساسي. هل يمكن لنظرية الانتظام أن تعبر عن هذا الحدس؟ لكي تظل نظرية الانتظام قابلة للتطبيق، يجب أن تدعم تمييزا حاسما بين الاتساق «العرضي» و«الكوني». لاحظ الفرق بين عبارة: (3) «جميع كتل الذهب لها نصف قطر أصغر من ميل واحد.»
وعبارة: (4) «كل الذرات لها نصف قطر أصغر من ميل واحد.»
تبدو العبارة الأولى كأنها حادث طبيعي. لا يبدو أنه يوجد شيء في الطبيعة يمنع تشكيل كتل من الذهب لها نصف قطر أكبر من متر واحد. وتبدو العبارة الثانية كقاعدة كونية من الطبيعة؛ فالأمر ببساطة ليس مجرد حالة أنه لا يوجد عالم لم يلحظ أبدا ذرة ذات حجم أكبر ؛ فالعلم يخبرنا بأنه لا «يمكن» أن توجد ذرة إذا تجاوزت حجما معينا. العمليات المتسقة الكونية هي فقط ما يجب اعتباره قوانين للطبيعة. يتمثل التحدي في صياغة مجموعة من المعايير تحدث هذا التمييز. ويقضي أتباع نظرية الانتظام بأن العبارة «ص» تعد قانونا من قوانين الطبيعة لو تحقق عدد من الشروط: (أ)
إما أن تكون «ص» فرضية كونية أو إحصائية. (ب)
تكون «ص» صحيحة في جميع الأوقات وجميع الأماكن. (ج)
تكون «ص» مشروطة. (د)
تحتوي «ص» فقط على محمولات تجريبية غير محلية، بعيدا عن الوصلات المنطقية ومحددات الكمية؛ أي تكون «ص» وصفية بحتة. (ه)
تتخذ «ص» صورة مشروطة ( ⊃ ). (انظر شوارتز 1985، 28-29، مولر، مقتبسة في أرمسترونج 1983، 12) وتعد القوانين الفيزيائية، وفقا لنظرية الانتظام، وصفا لروابط تجريبية متحققة مشروطة بين الحالات والأحداث في العالم المادي (شوارتز 1985، الفصلين الثاني والثالث).
ووفقا لهذه الصياغة، تعاني نظرية الانتظام من عدد من نقاط الضعف، وقد أدى تناول نقاط الضعف هذه إلى نظرية أقوى بكثير، نظرية مذهب الضرورة للقوانين. ما نقاط الضعف تلك؟
يتمثل أحد المخاوف في أن تفسير نظرية الانتظام لا يميز على نحو صحيح بين التعميم العرضي والاتساق الكوني. فثمة تعميمات عرضية منتشرة لن نميل إلى اعتبارها قوانين طبيعية. العبارة (3) تعميم عرضي، بينما العبارتان (2) و(4) اتساقان كونيان حقيقيان، لكن العبارة (3) تستوفي الشروط التي تفرضها نظرية الانتظام على قوانين الطبيعة. من ناحية أخرى، بعض العبارات - على غرار العبارة (1) - تعبر وحسب عن اتساق مشروط. مع ذلك، مؤهلة لتكون انتظاما مسوغا، تماما مثل قانون أوم: (5)
V = IR,
الذي ينص على أن الجهد
V
هو ناتج ضرب شدة التيار
I
والمقاومة
R . يكون قانون أوم صحيحا فقط عند درجات حرارة ثابتة؛ فالكونية غير المقيدة ليست شرطا ضروريا لقوانين الطبيعة.
لذا، علينا أن نميز بين القوانين «الأساسية» والقوانين المرتبطة بالظواهر. القوانين الأساسية، على غرار العبارتين (2) و(4)، صالحة لجميع النظم الفيزيائية. أما قوانين الظواهر، على غرار العبارتين (1) و(5)، فتنطبق فقط على النظم الفيزيائية في ظل بعض القيود الشرطية.
النتيجة الأخرى غير المرغوب فيها الناتجة عن نظرية الانتظام هي استبعادها للاحتمالات الفيزيائية غير المحققة. وتعد الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة سمة مهمة من سمات العلم، تؤدي غالبا إلى الابتكارات التكنولوجية. على سبيل المثال، قبل 60 عاما، كانت الأقمار الصناعية احتمالات فيزيائية غير محققة. وقبل مائة سنة، كانت أشعة الليزر احتمالا فيزيائيا غير محقق. وقبل نحو مائة مليون سنة، كانت معظم الأنواع الموجودة اليوم احتمالات بيولوجية غير محققة. كانت كل هذه الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة - لو أنها تحققت في ذلك الوقت - ستخضع للقوانين نفسها التي تحكمها اليوم. تخضع الأقمار الصناعية لقوانين كبلر، وتخضع أشعة الليزر لقوانين ميكانيكا الكم، وتخضع الأنواع لقوانين التطور، ولكن وفقا لمتبع نظرية الانتظام، الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة مستحيلة فيزيائيا؛ فهذا التفسير لا يقبل كقوانين طبيعية سوى الاتساق الكوني المتحقق. ولا يمكن لنظرية الانتظام التعامل مع الأوضاع «المغايرة للواقع»، لأنها تحدث عند تدبر الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة.
تواجه نظرية الانتظام - على نحو قد يثير الدهشة - عددا كبيرا من المشكلات. فالنظرية الفلسفية للقوانين يجب أن تفسر الأوضاع المغايرة للواقع، والتمييز بين الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة والاستحالة الفيزيائية الحقيقية، والفرق بين الاتساق العرضي والكوني. وينبغي أيضا أن تبرر ثقتنا في تقديم استدلالات من الحالات المعروفة إلى غير المعروفة. وينبغي أن توضح النظرية الفلسفية طريقة عمل القوانين العلمية في تفسيراتنا لسلوك النظم الفيزيائية. وهذه مهمة صعبة. لم تف نظريتا الذرائعية والانتظام بالتوقعات. فهل تستطيع النظرية الأقوى - نظرية مذهب الضرورة - أن تساعد في ذلك؟
وجهة نظر مذهب الضرورة
تمتلك نظرية مذهب الضرورة إجابة واضحة لجميع هذه المشكلات. تمثل القوانين الطبيعية علاقات بين المسلمات. تحول نظرية مذهب الضرورة الصيغة التي يستخدمها أتباع نظرية الانتظام: «ثمة قانون يقضي بأن كل صور
F
صور من
G .»
إلى ادعاء أقوى بكثير: «من الضروري فيزيائيا أن تكون كل صور
F
صورا من
G .»
وفي سياق تمييزنا السابق بين قوانين العلم (القوانين العلمية) وقوانين الطبيعة (القوانين الطبيعية)، تنص نظرية مذهب الضرورة على ما يلي:
يعبر عن القوانين بعبارة واحدة تصف العلاقات القائمة بين الصفات الكونية والمكممات.
القول إن عبارة «صور
F
هي
G » تمثل قانونا يساوي القول إنه لا يجب فهم عبارة «كل صور
F
هي
G » بوصفها عبارة تتعلق بتوسيع المحمولين
F
و
G ، ولكن بوصفها عبارة واحدة تصف العلاقة بين الخصائص الكونية الخاصة ب
F
و
G (حيث يمكن أن تكون الخصائص أحجاما أو كميات أو سمات). (دريتسكي 1957، 252-253؛ راجع ليكي/بيجلو 1995؛ انظر أيضا فاينرت 1995ب)
ويستند نهج نظرية الضرورة لقوانين الطبيعة على مفهومين أساسيين: (أ) تتضمن القوانين مسلمات و(ب) تمثل القوانين العلاقات بين المسلمات. (أ)
وفقا لديفيد أرمسترونج - أحد أنصار نظرية مذهب الضرورة - «المسلمات إما أن تكون خصائص أو علاقات أو روابط بين بعض الأشياء الحقيقية» (أرمسترونج 1983، الفصل السادس). المسلمات هي السمات الزمنية المكانية العالمية القابلة للتكرار. (ب)
إذا قبلنا هذا التوصيف الأرسطي للمسلمات، فسيترك لنا تحديد العلاقة بين المسلمات. وبالنظر إلى أن بعض الأشياء تمثل
F
ونحن نعلم أن قانون الطبيعة ينص على أن ، يمكننا أن نستنتج أن
F
يجب أن تكون
G ، ما لم توجد بعض العوامل المتداخلة. من الضروري فيزيائيا أن
F
تكون
G ، تماشيا مع قانون الطبيعة. وتعد العلاقة التي يفترض وجودها بين المسلمات علاقة ضرورة اعتيادية. مع ذلك، تكون علاقة الضرورة الاعتيادية حقيقية على نحو محتمل فحسب، حيث إنها قد لا توجد في جميع العوالم الممكنة.
تسلط الصياغة الرمزية المنطقية الضوء على الفرق بين نظرتي مذهب الضرورة والانتظام؛ فمن خلال فرضية الضرورة الاعتيادية
N(F, G) ، يترتب على ذلك أنه بالنسبة لكل الأشياء
x ، إذا كانت تمتلك السمة
F ، فإنها يجب أن تمتلك السمة
G . تستلزم علاقة الضرورة الاعتيادية بين سمتي
F
و
G
الانتظام الكوني المقابل:
لكن العكس غير صحيح؛ فقد تكون كل صور
F
هي
G ، ولكن هذا لا يعني أن وجود السمة
F
يستتبع بالضرورة وجود السمة
G ، كما يتضح في حالة العمليات المنتظمة العرضية:
تسمح الحالات العامة العرضية بحدوث استثناءات، أما الضرورة الاعتيادية فلا تسمح بها (عدا قيود المجال). ويتمثل أحد الانتقادات التي وجهت ضد هذه النظرية في أن الضرورة الاعتيادية ليست قابلة للرصد. فلا يوجد في أدلتنا الرصدية ما يشير إلى وجود الضرورة الفيزيائية في الطبيعة، التي تتطلب نظرية مذهب الضرورة وجودها. يفترض أرمسترونج الضرورة الاعتيادية باعتبارها فكرة بدائية غير قابلة للشرح في نظريته (أرمسترونج 1983، الفصل 6.4). يرصد العلم السمات القابلة للتكرار بين الأحداث المكانية-الزمنية. ونحن أحرار في أن نطلق على هذه السمات - على غرار الغراب والسواد - اسم المسلمات الأرسطية. وحتى إذا ما سلمنا بأن العلم يرصد المسلمات، فلا يمكننا أن نقفز إلى استنتاج مفاده أن الضرورة الفيزيائية تربط بينها. ولا تعني الشمولية الكونية ضمنيا الضرورة الاعتيادية (يتجاوز أتباع آخرون لنظرية مذهب الضرورة أرمسترونج ويشيرون إلى وجود مسلمات غير موضحة بالأمثلة، ومن ثم يعتنقون الأفلاطونية).
يجب أن نفرق بين معنيين للضرورة الفيزيائية؛ فمن ناحية لدينا معنى الضرورة الخاص بالضرورة الاعتيادية بين المسلمات. وهذه الضرورة الفيزيائية بين المسلمات تشكل قوانين الطبيعة؛ ومن ناحية أخرى لدينا المعنى العلمي للضرورة. ينص هذا المعنى على أن بعض الأنظمة الفيزيائية تخضع لقوانين الطبيعة؛ فالكواكب يجب أن تدور حول الشمس، لأنها مدفوعة إلى عمل ذلك وفق قوانين كبلر، في ضوء القيود الأولية. في نظرية مذهب الضرورة، تختزل كل العمليات المتسقة في الطبيعة إلى علاقة واحدة وحسب: ضرورة اعتيادية بين المسلمات، ولكن تعلمنا قوانين العلم أن هناك العديد من العلاقات الرياضية المختلفة بين العديد من الأنظمة المختلفة، ويمكن التعبير عنها بعوامل متغيرة محددة بدقة. علاوة على ذلك، فإن هذه النظم مترابطة. تعبر قوانين العلم عن عدد من العلاقات الجبرية المختلفة بين مترابطات النظم الفيزيائية. ولكي تعبر قوانين العلم عن قوانين الطبيعة، يجب أن تقترب من أوجه الانتظام في الطبيعة.
لا تخبرنا نظرية مذهب الضرورة إلا بالقليل للغاية من المعلومات حول طريقة استخدام القوانين في العلم. وإذا كنا مهتمين بطريقة تعبير قوانين العلم عن العمليات المنتظمة في الطبيعة، فعلينا أن ننتقل إلى نظرية للقوانين، تقربنا من الممارسة العلمية. لنسم هذه النظرية النهج البنيوي. وتتمثل الفكرة الأساسية وراء هذا النهج في أن قوانين العلم تحول العلاقات الموجودة في بنية النظم الفيزيائية إلى رموز.
وجهة النظر البنيوية
يشير كارل بوبر، عن حق، إلى أن «القوانين الطبيعية» أقوى منطقيا من العبارات العامة على نحو تام. تتعامل هذه الملاحظة مع الحاجة إلى التفرقة بين القوانين الطبيعية والحالات العامة العرضية، ولكنها أضعف منطقيا من الضرورة المنطقية؛ ففي حين أن الضرورة المنطقية حقيقية في كل العوالم الممكنة، فإن قوانين الطبيعة مشروطة. ونتوقع أن تكون قوانين الطبيعة هذه صحيحة في الكون الفعلي وليس فقط على الأرض، ولكنها قد لا تكون صحيحة في كل العوالم الممكنة. ما الطابع المنطقي الذي تمتله القوانين؟ ينقل بوبر الضرورة من قوانين الطبيعة إلى قوانين العلم.
إذا افترضنا أن «أ» قانون طبيعي، فإننا نفترض أن «أ» تعبير عن سمة بنيوية في عالمنا؛ سمة تمنع وقوع أحداث فردية معينة يحتمل أنها منطقية. (بوبر، 1959، 432)
وبالتالي تعني الضرورة الفيزيائية أن القوانين تفرض قيودا بنيوية على العالم الطبيعي (بوبر، 1959، 430). وفقا لبوبر، تعبر القوانين العلمية عن خصائص بنيوية معينة حول العالم الفيزيائي. تتعارض نظرية بوبر البنيوية للقوانين مباشرة مع نظرية الذرائعية لفيتجنشتاين. يؤكد بوبر أن قوانين الطبيعة تمنع بعض الخصائص البنيوية للكون الحقيقي. تمنع القوانين الحركة الدائرية للكواكب، وآلات الحركة الدائمة، والسرعات الأعلى من سرعة الضوء. ويتمثل عكس هذا التوصيف في أن القوانين ستسمح أيضا بأحداث فيزيائية معينة. تفرض القوانين قيودا بنيوية، يجب على الكائنات الفردية أن تتصرف وفقا لها. ولكن الحقائق المفردة تواصل التمتع بحرية معينة داخل الشبكة البنيوية التي تربط كل الحقائق معا. فأوراق الخريف التي تحملها الرياح، «تتحدى» قانون الجاذبية. وربما يقصى كوكب يسير في مسار تصادمي مع نيزك من مداره. وتنتج الطفرات التطورية بسبب الصدفة الوراثية.
تفسر النظرية البنيوية جيدا بعض السمات الرئيسية للقوانين العلمية؛ فهي تفسر عمليتي الفصل وإضفاء المثالية الحتميتين الموجودتين في القوانين العلمية، كما تبين أسباب عدم قدرتنا على استنتاج الضرورة الاعتيادية من الأدلة المتاحة. كما تظل هذه النظرية على مقربة من الممارسة العلمية (فاينرت 1993؛ 1995أ، ب). إن قوانين الطبيعة تصوغ الخصائص البنيوية للأنظمة الفيزيائية في صورة رموز. وقوانين العلم هي تعبيرات رمزية عن هذه الجوانب البنيوية بلغة رياضية. تميز النظرية البنيوية بين قوانين العلم وقوانين الطبيعة، وهو التمييز الذي نجده في الممارسة العلمية. وهي تبرز الفارق بين الاتساق العرضي والكوني. فحالات الاتساق العرضي - «كل قطع الذهب قطرها أصغر من ميل واحد» - ليست سمات بنيوية للعالم الطبيعي. فلا يوجد شيء في التركيب الذري للذهب يمنع وجود قطع كبيرة من الذهب. أما حالات الاتساق الكوني - «كل الذرات قطرها أصغر من ميل واحد» - فتعبر عن بنية الذرة. فلا يمكن أن توجد ذرات لو كانت هذه هي أبعادها. وهي تفسر الاحتمالات الفيزيائية غير المحققة بوصفها احتمالات مسموح بها عن طريق البنيات. وهي تفسر الأوضاع المغايرة للواقع بالاعتماد على ما تسمح به البنيات وما لا تسمح به. إن عبارة «لو كان يوجد كوكب عاشر، فإنه سيتبع قوانين كبلر» تعني أن بنية النظام الشمسي من النوع الذي يجعل كوكبا عاشرا قد يدور حول الشمس وفقا لقوانين كبلر. وهي تغطي التمييز بين القوانين الأساسية والقوانين المرتبطة بالظواهر؛ فالقوانين الأساسية تعبر عن بنية جميع النظم أو العديد منها، بينما تقتصر القوانين المرتبطة بالظواهر على عدد قليل من النظم التي تتطلب العديد من الشروط الحدية.
وفقا للنظرية البنيوية للقوانين، تشكل قوانين الطبيعة قيودا مفروضة على المسارات المحتملة للأشياء المادية في كوننا. والمعادلات بالنسبة لعلماء الرياضيات هي القيود المفروضة على إمكانية الحلول. تخيل عالم رياضيات يدرس الجبر لسنوات عديدة. أوضح عالم الرياضيات بصبر للطلاب استخدام الدوال. الدالة
f(x)
هي معادلة من درجة معينة: (أ)
هي معادلة من الدرجة الثانية بينما (ب)
هي معادلة متعددة الحدود. وكما اكتشف ديكارت، يمكن تمثيل الدوال برسوم بيانية ديكارتية. وأيا كانت المعادلة، فإن الدالة الرياضية توضح بنية جبرية نموذجية تعتمد على الأسس التي تحتويها. تأمل شيئين ماديين في كوننا، يتصرف أحدهما وفقا للدالة (أ) والآخر وفقا للدالة (ب). حتى لو لم نكن نعرف شيئا أكثر من هذا عن هذين الشيئين، فإن بنية مسارهما تكمن في الرسمين البيانيين الخاصين بهما. (تتغير تفاصيل الرسمين البيانيين إذا ضمن المزيد من الشروط الحدية. انظر الشكل
1-10
أ، ب)
شكل 1-10: (أ) تنتج الدالة من الدرجة الثانية قطعا مكافئا. (ب) تنتج الدالة متعددة الحدود رسما بيانيا متعدد الحدود.
يمثل هذان الرسمان البيانيان المسارين اللذين يسمح بهما للشيئين، وفق قيود دالتيهما. بتعبير أدق، فإنهما يمثلان نمطا رياضيا ينص على أن أي شيء يخضع للبنية الجبرية المذكورة
سوف يتبع نمط سلوك هذه البنية. وعلى نفس المنوال يحدث الأمر ذاته للأشياء التي تخضع للبنية الجبرية . تصف قوانين العلم الجوانب البنيوية للعالم من حولنا بلغة رياضية. فتحدد القوانين العلاقات داخل البنية، التي يجب أن تتصرف الأشياء المادية وفقا لها. وبهذا المعنى فإن قوانين العلم تفرض قيودا على المسارات المحتملة للأشياء عبر العالم المادي. وكما أشرنا سابقا (القسم 6-3)، تتكون البنية من المترابطات والعلاقات، والعلاقات تربط المترابطات معا. في حالة الأنظمة الكوكبية، تتمثل المترابطات في الكواكب والأقمار والمذنبات والنيازك والأقمار الصناعية، وتتمثل العلاقات في العلاقات الرياضية التي تربط المترابطات. وربما تتمثل المترابطات في النظم البيولوجية التي تربط بينها علاقات تطورية. في النظرية البنيوية، تحدد قوانين العلم رياضيا ارتباطات معينة بين المترابطات. وكما يوضح الرسمان البيانيان، تحدد القوانين مسار الأشياء المادية بينما تنسج مساراتها الخاصة عبر العالم المادي في جوار غيرها من الأشياء.
ناقشنا حتى هذه اللحظة عددا من القضايا الفلسفية التي نشأت من الموقف الإشكالي الناتج عن الكوبرنيكية. وقف كوبرنيكوس على عتبة العلم الحديث، وفتح التحول الكوبرنيكي الأبواب أمام الثورة الكوبرنيكية. فهل يمكن أن تخبرنا الكوبرنيكية شيئا عن العملية التي تحدث وفقها الثورات العلمية؟ (7) كوبرنيكوس والثورات العلمية
يتمثل أحد مقاييس عمق أي نظرية فيزيائية في المدى الذي تطرح به تحديات جدية أمام جوانب في نظرتنا للعالم كانت تبدو فيما سبق غير قابلة للتغير. (جرين، «الكون الأنيق» (2000)، 386)
أشرنا إلى أن كوبرنيكوس أوجد تغييرا في المنظور؛ إذ استهل كوبرنيكوس التحول الكوبرنيكي. وعلى الرغم من أن نظامه كان يتضمن العديد من المزايا، فإنه لم يرق إلى مستوى الثورة العلمية؛ فمن ناحية، يتمسك كوبرنيكوس كثيرا بأسلافه الإغريق وأساليبهم الهندسية، كما يتبنى وجهة نظر حركية بحتة، ولم يضف أي بيانات رصدية جديدة مهمة إلى المشاهدات المتوفرة؛ ومن ناحية أخرى، يترك تكافؤ الفرضيات كما هو، كما يرى أنه من المقبول استخدام عدد من الأدوات الهندسية على نحو متبادل، دون أن يتساءل عن أيها أكثر توافقا مع الآلية الفيزيائية لحركة الكواكب، ولكن نموذجه يتوافق على نحو أفضل مع البنية الطوبولوجية للنظام الشمسي، ويتمتع في هذا الصدد بصلاحية تجريبية أكبر، ومع ذلك، بنيته الجبرية ناقصة، ولهذا السبب فشل النموذج الكوبرنيكي في الوصول إلى الصلاحية النظرية التامة.
إذا كان التحول الكوبرنيكي خطوة أولى في اتجاه الثورة العلمية، فما المعايير المتاحة للحكم على حدث علمي بأنه ثورة علمية؟ اقترحت عدة نماذج للثورات العلمية: (أ) «نموذج كون الإرشادي للثورات»: وفقا لتوماس كون، يتكون تاريخ العلم من سلسلة من الفترات «العادية» و«غير العادية» (كون 1970،هوينينجن هونا 1993). تتميز الفترة العادية من العلم بوجود نموذج مهيمن. ويكون هذا النموذج مقبولا كإطار صالح للأبحاث الجارية. وخلال فترات العلم العادية، ينخرط العلماء في حل المشكلات. وتحدد المشكلات والحلول المقبولة من خلال النموذج السائد. ومن الأمثلة النمطية للنماذج علم الفلك شمسي المركز، والميكانيكا النيوتونية، والبيولوجيا التطورية الداروينية. خلال فترات العلم العادية، يقبل ممارسو المجال العلمي افتراضات النموذج الأساسية. ويتضمن عملهم صقل القوة التمثيلية والقدرة التفسيرية للنموذج. قبل كبلر وجاليليو ونيوتن فرضية مركزية الشمس. وقبل نيوتن قوانين كبلر؛ لأن جاليليو اختار أن يتجاهلها. غير أن مشاهدات جاليليو قدمت مساهمات كبيرة لنظرية مركزية الشمس. صقل كل منهم النموذج وحسنه بطريقته، ومع ذلك، فإن أي فترة علم عادية تواجه أزمة في نهاية المطاف، ثم تحل فترة علم غير عادية. يمكن أن تحدث أزمة العلم لعدد من الأسباب. فوفقا لكون، غالبا ما ترتبط بفشل النموذج في التعامل مع جميع الظواهر في مجاله. تحدث أزمة بسبب أن النموذج يواجه «شذوذا» كبيرا. حالة الشذوذ ليست مجرد فشل في التنبؤ أو وجود تناقض بين النظرية والمشاهدات؛ فهذه التناقضات لا يمكن تجنبها؛ فأجهزة الرصد ليست مثالية، والنظرية دائما ما تقوم بعدد من عمليات الفصل وإضفاء المثالية. تحدث حالة الشذوذ عندما يوجد خلاف مستمر بين النظرية وتوقعاتها. تنشأ حالة الشذوذ عندما تدعي النظرية أن العالم يسير بطريقة ما وتخبرنا المشاهدات أنه يسير في اتجاه آخر. واجهت نظرية الدوائر المتراكزة الإغريقية سريعا حالة شذوذ. أشارت النظرية ضمنيا إلى أن الكواكب تكون دائما على مسافة ثابتة من الأرض، بينما أخبرت المشاهدات الإغريق بخلاف ذلك؛ فقد كانت المسافة بين الكواكب والأرض تتغير. وتمنع نظرية مركزية الأرض ظهور المذنبات بعد المجال القمري. وأصر عالم الرياضيات والفيلسوف في مسرحية بريشت على أنه لا يمكن لكوكب المشتري أن يمتلك أي أقمار. رغم أن مشاهدات براهي وجاليليو أخبرتهما بخلاف ذلك. واجهت هذه النظريات حالات شذوذ. لم تتمكن هذه النظريات من استيعاب المشاهدات التي كانت تقع على نحو واضح ضمن مجالاتها. وعندما تحدث مثل هذه الأحداث، يقع النموذج الذي كان مهيمنا في أزمة، ويحاول ممارسو العلم حل المشكلة بعدد من الطرق. إذا نجحوا في ذلك، فقد يستمر النموذج في هيمنته، ولكن إذا فشلوا، يدخل المجال العلمي «فترة ثورية». وخلال الفترة الثورية - كما يشير كون - يفكك النموذج القديم ويحل محله نموذج آخر جديد؛ فالثورة العلمية هي عملية استبدال للنموذج.
والنموذج هو مخطط مفاهيمي يكون وسيطا للتفاعل بين العالم والعالم؛ فهو يسهل إضفاء البنيات الرمزية على العالم التجريبي. وفضل كون لاحقا الحديث عن «مصفوفة نظامية»؛ وهي مجموعة مرتبة من العناصر. وتضم المصفوفة عددا من العناصر المفاهيمية؛ منها تعميمات رمزية مثل القوانين الأساسية، ومسائل نموذجية يستطيع الطلاب من خلال حلولها ممارسة تقنيات المجال، وقيم علمية مثل الاتساق والترابط وقابلية الاختبار والتوحيد، وقناعات ميتافيزيقية مثل الإيمان بأن الكون منظم، ووجود واقع خارجي مستقل وقوانين حتمية. أعاد كون تسمية نموذج العلم باسم «مصفوفة المجال» للإشارة إلى أن البنى المفاهيمية تشكل شبكة متسقة. ثمة سمة مميزة لنموذج كون الإرشادي للثورات العلمية هي أن العلماء يعتبرون ملتزمين على نحو أساسي بنماذجهم؛ فالنموذج يمنحهم موطئ قدم يمكنهم من دراسة العالم الطبيعي بطريقة منهجية. وفقا لكون، يبدأ العلماء في رؤية العالم في سياق النموذج الحاكم. وكأن العالم يرتدي نظارات - نظارات نيوتونية أو نظارات داروينية - يستطيع من خلالها فقط رؤية العالم. ووفقا لكون، لا يستطيع العلماء سوى تبني نموذج واحد فقط في ذات الوقت. وإذا كانت هذه هي الحال، فإن النماذج التي تفسر مواقف إشكالية مختلفة تماما تجعل العلماء يرون العالم على نحو مختلف تماما. فيجدون صعوبة في التحدث بعضهم مع بعض، لأنهم يعيشون في «عوالم مختلفة»؛ فالأرسطيان في مسرحية بريشت كانا يعتنقان نظرية مركزية الأرض ويسكنان عالما مركزي الأرض. ومن المنطقي بالنسبة لهما أن يرفضا النظر عبر التليسكوب؛ لأن أقمار كوكب المشتري «لا يمكن أن تكون موجودة». وعلى النقيض من ذلك، كان جاليليو يؤمن بمركزية الشمس، وكان يعيش في عالم شمسي المركز. ولم يغير لجوءه للأدلة الرصدية رأي عالم الرياضيات والفيلسوف؛ فقد كان يتحدث من منصة نموذج لا يستطيعان فهم لغته؛ فلا مجال هنا للخطاب النقدي.
إذا كان هذا السيناريو يصف تاريخ العلم على نحو صحيح، فإن كون يواجه مسألة كيف يصير التغيير العلمي ممكنا من الأساس. إذ يبدو أن كلا طرفي النزاع مقتنع تماما بصحة نموذجه. يستخدم كون مصطلح «اللاقياسية» لوصف حالة الجمود هذه. يشير هذا المصطلح إلى أنه ليس من الممكن تحويل كل عنصر من نموذج ما إلى عنصر في النموذج المنافس له. من الممكن مقارنة النموذجين على مستوى عام، ولكن ليس من الممكن مقارنة كل عنصر مفاهيمي في أحد النموذجين مع عنصر مفاهيمي في النموذج الآخر (انظر أندرسن/باركر/تشن 2006، الفصل الخامس). ربما نتساءل عن سبب اعتبار ذلك أمرا جللا أو يمثل حتى مشكلة. فإذا لم يوجد ما يكافئ «فلك التدوير» في نموذج كبلر، فإن هذا يبدو مكسبا وليس خسارة، ومع ذلك، يرى كون أن سمة اللاقياسية في النماذج سمة مهمة في تاريخ العلم؛ لذلك كان عليه أن يشرح كيفية تغير النماذج إذا كان العلماء يرتبطون بها كرؤى كونية. تتمثل إجابة كون في أن بذور التغيير الثوري موجودة في كل نموذج؛ فكل نموذج يواجه في النهاية حالة شذوذ. وعدم التوافق المستمر بين النظرية والبيانات التجريبية هو ما يدفع النموذج إلى حالة الأزمة.
وفي النهاية يظهر نموذج جديد. ومع النموذج الجديد، تبدأ مرحلة جديدة من العلم الطبيعي. ويكون معظم ممارسي العلم في هذه الفترة متفقين على نحو أساسي مع فرضيات النموذج الجديد. وهو يفرض مرة أخرى رؤية على العالم تختلف على نحو ملحوظ عن الرؤية السابقة. «فما كان بطا في عالم العالم قبل الثورة أصبح الآن أرانب بعدها» (كون 1970، 111). وفقا لكون، النقلة النوعية من نموذج ما إلى آخر لها عواقب وخيمة؛ أولا: تتغير الشبكة المفاهيمية بأكملها. يوجد اختلافات كبيرة في الأنطولوجيا - الخاصة بالأشياء التي من المفترض أن توجد في العالم - بين النموذجين القديم والجديد؛ فعلى سبيل المثال، استبدال كبلر بالأفلاك الصلبة كواكب تسير بحرية، وحلت قوانين كبلر للكواكب محل الأدوات الهندسية الإغريقية. يؤثر هذا التغيير المفاجئ أيضا على مجموعة المشكلات المقبولة والتقنيات المقبولة. من كبلر لنيوتن أصبحت المشكلة المهيمنة هي السؤال الآتي: «لماذا تدور الكواكب في مدارات؟» أصبحت الأساليب الهندسية قديمة وحلت محلها تقنيات رياضية أكثر تطورا. ثانيا: يحدث انقطاع في التواصل، كما توضح مسرحية بريشت. لم يكن كون واضحا دائما فيما يخص مدى انقطاع التواصل. وبعد الانتقادات بدا أنه تقبل أن انقطاع التواصل يكون جزئيا فقط (كون 1983؛ نولا 2003، الفصل 1.4.1). سيتقبل العلماء على الأقل جزئيا بعض الاستمرارية بين النموذج القديم والجديد، ولكن الأسباب المنطقية وحدها ليست كافية لإقناع العالم المتشكك بمميزات النموذج الجديد. يفسر كون تبني النموذج الجديد كحالة تحويل وإقناع. أما الواقع فهو أكثر تعقيدا، كما اعترف كون في نهاية المطاف. فثمة روابط مستمرة ومتقطعة بين النماذج. وجرت مناقشة حادة بين الكوبرنيكيين والبطالمة وعلماء دين. لقد ظلت المراسلات بين أوزياندر وكوبرنيكوس وريتيكوس باقية، واستمر النزاع لمدة 150 سنة. كان هذا وقتا كافيا لترتيب النماذج المختلفة. قدم البطالمة حججا مناهضة لحركة الأرض، وتبنى كوبرنيكوس نظرية الزخم لرفض حججهم، واتخذ تيكو براهي موقفا وسطا. والمناصر المتعصب للكوبرنيكية، مثل جاليليو، تجاهل ببساطة قوانين كبلر. تحول البعض إلى الكوبرنيكية، مثل ريتيكوس في ألمانيا وديجز في إنجلترا. وحتى بداية القرن السابع عشر لم توجد أدلة كافية على صحة فرضية مركزية الشمس حتى إن بعض العلماء قبل أجزاء وحسب من النظام الكوبرنيكي (ريبكا 1977؛ دراير 1953، الفصلان الثالث عشر والرابع عشر). وانتصر الكوبرنيكيون أخيرا عندما ضم نيوتن قانون القصور الذاتي إلى قانون الجاذبية.
لا يتفق التحول الكوبرنيكي فعليا مع نموذج كون (هايدلبيرجر 1980)؛ فهو لا يشكل نقلة نوعية؛ فالنسخة الكوبرنيكية لمركزية الشمس لا تكاد تكون في حالة غير متكافئة مع مركزية الأرض بسبب التداخل الكبير بين النظامين. يستخدم كوبرنيكوس العديد من المشاهدات الإغريقية، ولم يبتكر أي طريقة جديدة، بل على العكس من ذلك، أراد أن يكون أنقى من بطليموس، حيث اعترض على استخدام الموازن. وكما يوضح النقاش حول مصطلح «الفرضية»، من الصعب رصد مثل هذا القدر الضئيل من انقطاع التواصل الجزئي. وبطبيعة الحال، فإن المعارضين لم يقبلوا ذلك. يبدو أن غموض مصطلح «الفرضية» أرسى رابطة بين أنصار الكوبرنيكية ومعارضيها. وبعد ذلك، لم يتفق الكوبرنيكيون حتى على بعض العناصر الأساسية في مصفوفة المجال. واصل جاليليو الإيمان بوجود الحركة الدائرية. والرؤية الكونية الكوبرنيكية متوافقة مع الذرائعية والواقعية؛ فمن خلال التركيز على تكافؤ الفرضيات، دعم أوزياندر الذرائعية. ومن خلال التركيز على بنية نموذجه الطوبولوجية (في الكتاب الأول من كتاب «عن دورات الأجرام السماوية»)، وصل كوبرنيكوس إلى وجهة نظر واقعية.
لم تتغير الشبكة المفاهيمية بنقلة نوعية ولكن تغيرت عن طريق تحول بطيء. فمشاهدات تيكو وحسابات كبلر ونتائج جاليليو قدمت حججا قوية لصالح الفرضية الكوبرنيكية. وشكلت هذه الإنجازات قيودا قوية لم يستطع النظام الأرضي المركز أن يتوافق معها؛ لذلك، فلنتناول بعض النماذج البديلة للثورات العلمية. (ب) «نموذج كوهين ذو المراحل الأربع»: اقترح مؤرخ العلم برنارد آي كوهين نموذجا ينص على أن الثورة العلمية تتكشف على أربع مراحل (كوهين 1985). تتألف المرحلة الأولى من الابتكار المفاهيمي، كما نجد في الكوبرنيكية والداروينية، وقد ناقشنا هذه المرحلة سابقا على أنها تغيير في المنظور. مع ذلك، ليس تغيير المنظور كافيا لتشكيل ثورة.
16
وتتكون المرحلة الثانية من أساليب وتقنيات جديدة. رأينا أن كوبرنيكوس لم يقدم تقنيات جديدة؛ ومن ثم فإنه يخفق في الوفاء بهذا المعيار الثاني. وفي هذا الصدد قدم كبلر ونيوتن أعظم التحسينات. وكذلك قدم داروين أيضا طريقة جديدة: الاستدلالات الداروينية؛ فكما سنرى، يتضمن مبدأ الانتقاء الطبيعي الذي قدمه بنية جبرية جديدة. أما المرحلة الثالثة فسماها كوهين «النشر». وفي هذه المرحلة تحدث الثورة على الورق. فتجد صدى في الساحة العامة. بعبارة حديثة، يمكننا أن نقول إن العمل يجد ناشرا. ثمة بعض تواريخ النشر الشهيرة في العلم التي توضح هذه المرحلة، منها كتاب كوبرنيكوس «عن دورات الأجرام السماوية» (1543)، وكتاب داروين «أصل الأنواع» (1859)، ونظرية النسبية الخاصة لأينشتاين (1905). تقدم هذه المنشورات الأفكار الثورية للفحص العام. وتتكون المرحلة الرابعة من اعتناق المجتمع العلمي للأفكار الجديدة. وهذه ليست مسألة تحول فوري. عادة ما تجد الأفكار الجديدة بعض الأنصار لكنها تواجه أيضا شكوكا ومعارضة، وفي مثل هذه الحالة تحدث مناقشات حادة، وليس من الضروري أن تشبه الصدام المؤسف بين جاليليو وعالم الرياضيات والفيلسوف. غالبا ما تعتمد محاولات الإقناع على الحجج. في كتابه «النبذة الوصفية الأولى» (1540) يحاول ريتيكوس إقناع معاصريه برجحان النظام الكوبرنيكي. في بداية القرن السابع عشر كتب كبلر أول مرجع لعلم الفلك. يمثل كتاب «خلاصة الفلك الكوبرنيكي» (1618-1621) حجة طويلة تدعم نظاما كوبرنيكيا معدلا. رأى داروين كتابه «أصل الأنواع» على أنه «حجة طويلة» تدعم التفسيرات التطورية. لو لم يحدث أي تحول فوري، فإن النظريات العلمية الأكثر نجاحا تحظى بتقارب في آراء الخبراء. وبعد فترة يصبح معظم ممارسي المجال العلمي مقتنعين بصحة النظرية الجديدة. ووفقا للأدلة المجموعة في هذا الفصل والفصلين اللاحقين، فالأمر عبارة عن مسألة إقناع بالحجج. وبالنسبة للأدلة، كما رأينا، فإنها تتلاقى أيضا في نموذج واحد أو نظرية واحدة. وإضافة إلى ذلك، فالأدلة ذاتها التي تزيد من مصداقية نظرية ما تبدأ في نزع مصداقية النظريات المنافسة.
يرى نموذج كوهين ذو المراحل الأربع الثورات العلمية كعمليات ممتدة زمنيا؛ فهي انتقالات وليست تحولات مفاجئة. تشير المرحلتان الأوليان - الابتكار المفاهيمي والتقنيات الجديدة - إلى جانب مهم من الثورات العلمية، وهو قدرات حل المشكلات الخاصة بالنماذج الجديدة. وجرى التأكيد على هذا الجانب بالفعل في نموذج كون الإرشادي، كما أنه يصبح بؤرة تركيز نموذج تسلسل الاستدلال . (ج) «نموذج تسلسل الاستدلال»: يعاني نموذج كون من عيبين عند النظر إليه في ضوء الكوبرنيكية (والداروينية)؛ فمن خلال أطروحة اللاقياسية، يؤكد ذلك النموذج على الانقطاع الهدام بين النماذج المتعاقبة. وغالبا ما يصور وجود انقطاع في التواصل بين العلماء، كما عرض بسخرية في مسرحية بريشت، بينما يكون واقع الثورات العلمية في كثير من الأحيان أكثر تعقيدا. ربما يرضي نموذج كوهين مؤرخ العلم لكنه لا يؤكد بما فيه الكفاية على الاستمرارية المفاهيمية بين الثورات المتعاقبة. تظهر الثورات المتعاقبة طبيعة انتقالية يمكن أن تكون أكثر دقة. لنتحدث عن «النظريات»، بدلا من النماذج الإرشادية، لتوضيح الشبكات المفاهيمية في تاريخ العلم. يمكن لعناصر كل منها أن تتغير على نحو «متفرق». وهذا يعني، كما هو جلي في تاريخ الكوبرنيكية، أن نظرية مركز الأرض لم تسقط مرة واحدة. بدلا من ذلك، سبق التخلي عن نظرية أرسطو للحركة إعادة ترتيب كوبرنيكوس أماكن الكواكب. ولم يحدث التخلي عن فكرة الحركة الدائرية إلا في وقت لاحق. هذه الجراحة التفريقية تعني أننا يمكن أن نبحث عن تحولات مسببة بين المكونات المفاهيمية للشبكة (شيبر 1964؛ 1966؛ 1989؛ تشن/باركر 2000)؛ فنحن نستطيع تتبع تاريخ مفهوم المدارات الدائرية - مثلا - من الإغريق إلى ما بعد علم الفلك الكوبرنيكي، وسنجد أنها تركت ونتساءل عن سبب حدوث هذا. أو يمكننا دراسة دور نظريات الحركة في تاريخ النماذج الفلكية. أحل منظرو المدرسة الباريسية نظرية الزخم محل نظرية أرسطو للحركة؛ لأنهم وجدوا أن نظرية الزخم تقدم تفسيرا أفضل للحركة. وساعدت نظرية الزخم النموذج الكوبرنيكي على طول الطريق، ولكن لم يطور مفهوم الزخم إلا في منتصف القرن السابع عشر (دريك 1975؛ وولف 1978، دكسترهوز 1956). وهذه أمثلة على التحولات المسببة، وهي تحولات مسببة لأنها تنشأ عن مواقف إشكالية تقيم فيها الحلول المقترحة من خلال سلاسل وحجج منطقية. في تاريخ النماذج الفلكية يمكننا تتبع تاريخ الافتراضات التأسيسية، ويحكم عليها وفق قدرتها على تقديم حلول لمشكلة حركة الكواكب. تؤدي التحولات إلى إعادة تنظيم جزء على الأقل من المخطط المفاهيمي. وتمثل التحولات جزءا من محاولات حل المشكلة، وتخلف هذه المحاولات خطوط ارتباط يمكن تتبعها بين النماذج الفلكية؛ فهناك «عمليات حذف»: كما حدث مع نظرية أرسطو للحركة، و«عمليات تعديل»: كما في التخلي عن الدائرة لصالح القطع الناقص، و«عمليات إبدال»: مثل إحلال التحليل الرياضي محل الأساليب الهندسية. يمكننا تتبع خطوط الحجج عبر تطور النظريات المفاهيمية ومكوناتها: مثل تطور نظريات «الحركة» وترتيب «الكواكب» من نظرية مركزية الأرض إلى نظرية مركزية الشمس. ونستطيع أن نقيم هذه العمليات في السلاسل المنطقية. توضح تحولات تسلسل الاستدلال التحولات البطيئة للشبكات المفاهيمية والنظريات من خلال أهمية الحجج والأدلة. وبدمج هذه الأفكار، نصل إلى نموذج تحليلي ذي أربع مراحل للثورة العلمية على شكل سلسلة من الأحداث المتتالية: (1)
تحول أو تغير في المنظور، ينطوي غالبا على تشكيك في الافتراضات القائمة. (2)
تقديم أساليب وتقنيات جديدة ذات قدرة على حل المشكلة. (3)
ظهور نظرية جديدة من خلال تحولات تسلسل الاستدلال التفريقية كنتيجة لنجاح النظرية الناشئة في حل المشكلة. (4)
تلاقي آراء الخبراء عند نظرية جديدة. وسنبين في الفصل الثاني أن هذا التلاقي لا يستبعد وجود نماذج بديلة في الوقت نفسه ضمن النظرية الجديدة.
لا يوجد ما يضمن أنه بمجرد أن يتخذ عنصر ما مكانا آمنا ضمن نظرية ما سيظل في موقعه دون أن يواجه تحديا من الحجج الإضافية. ومن المفارقات أن حل هذا المصير على المبدأ الكوبرنيكي نفسه. وإذا اتبعنا تسلسل الاستدلال المحدد هذا في نقاش معاصر، فسوف يؤدي بنا إلى التشكيك في المبدأ الكوبرنيكي؛ الذي يقضي بأننا لا نحتل مكانة متميزة في الكون. (8) المبدأ الإنساني: هل هو عكس التحول الكوبرنيكي؟
في إعادة صياغة لعبارة ديكارت أقول: «أنا أفكر، إذن، العالم موجود كما هو.» (كارتر، «المبدأ الإنساني» (1974)، 294)
يعتبر فرويد أن الكبرياء البشري عانى ضربات خطيرة من الكوبرنيكية والداروينية؛ ففي الواقع أزاحت الفرضية الكوبرنيكية البشر من العرش الوهمي للمركزية المادية في الكون. ويبدو أن داروين قد سلب البشر «تاج ذروة الخلق»، ولكن تغيير كوبرنيكوس للمنظور يوضح أيضا قوة العقل البشري. أوضح كوبرنيكوس وخلفاؤه أن المجال فوق القمري لم يكن خفيا عن الفهم البشري إلى الأبد؛ فكما أشار كبلر بإصرار، العقل البشري أكثر إدراكا من العين البشرية؛ فما يستطيع البشر رؤيته لا يمثل حدود ما يمكنهم فهمه. فبما أنه يبدو أننا الكائنات الذكية الوحيدة في منطقتنا الكونية المباشرة التي تمتد لعدة سنوات ضوئية في كل الاتجاهات، يمكن للإنسان على الأقل أن يدعي تمتعه بالمركزية العقلانية. يوضح التحول الكوبرنيكي أن المركزية العقلانية لا تعتمد على المركزية المادية. بمجرد أن فهم هذا الأمر، استطاع العلم الحديث الانطلاق؛ فالبشر لن يكونوا قادرين على ترك النظام الشمسي في المستقبل المنظور. ولن يستطيعوا حتى زيارة جميع أجزاء النظام الشمسي. مع ذلك، يعرف علماء الكونيات من التحليل العلمي أكثر بكثير مما قد يتعلمونه من مشاهدة أجزاء الكون. لقد رسم علماء الكونيات بنية النظام الشمسي ومجرة درب التبانة والكون إلى حد لا يمكن مضاهاته من خلال المشاهدات المجردة.
بالنسبة لبعض علماء الكونيات، هذه المركزية العقلانية ليست كافية. فاقترحوا «مبدأ إنسانيا»، يسعى إلى إعادة بعض الكبرياء قبل الكوبرنيكي إلى الجنس البشري. يسعى المبدأ الإنساني إلى عكس التحول الكوبرنيكي؛ فهو يستنبط من وجود الحياة الذكية على الأرض وجود ظروف مادية خاصة تجعل وجود الحياة الذكية ممكنا. ربما لا يكون موقعنا في الكون مركزيا، ولكنه متميز (كارتر 1974، 291). في الواقع ثمة نسختان من المبدأ الإنساني: «المبدأ الإنساني القوي»: «يجب أن يمتلك الكون الخصائص التي تسمح للحياة بالتطور داخله في مرحلة ما من تاريخه.» (بارو/تبلر 1986، 21؛ كارتر 1974، 294)
هذا شرط صارم للغاية؛ لأنه يفترض أن الشكل المادي للكون يحتم على الكون أن يصير كونا ذاتي الإدراك؛ فالكون سيؤدي في النهاية إلى خلق راصدين بشريين أذكياء (بارو/تبلر 1986، 248، 523؛ بروير 1991، الفصل الأول). إن موطن قوة هذا الشرط يمثل أيضا موطن ضعفه. من ناحية، يجسد المبدأ الإنساني القوي مركزية البشر الحتمية، التي لم تعد جزءا من تفسير فيزيائي؛ فمنذ قيام الثورة العلمية في القرن السابع عشر، كان يوجد ميل جوهري تجاه القضاء على منطق مركزية البشر أولا من العلوم الفيزيائية، وبعد ذلك من العلوم البيولوجية؛ ومن ناحية أخرى، يسير المبدأ الإنساني القوي مباشرة عكس التفسيرات التطورية للحياة؛ فالمبادئ البيولوجية، مثل الانتقاء الطبيعي، لا تدعي أن الأنواع الجديدة تتطور على طول مسار خطي تكون نهايته هي ظهور البشر؛ فقد تمثلت إحدى النتائج المترتبة على عمل داروين في اعتبار أي تفكير غائي في علم الأحياء التطوري يعامل البشر باعتبارهم غاية أخيرة للتطور تفكيرا خاطئا؛ لذلك يفضل معظم علماء الكونيات نسخة ضعيفة من المبدأ الإنساني. «المبدأ الإنساني الضعيف»: «يجب أن نكون مستعدين لنضع في الاعتبار حقيقة أن موقعنا في الكون متميز بالضرورة إلى حد يتوافق مع وجودنا كراصدين.» (كارتر 1974، 293؛ ديك 1961؛ بروير 1991، 8)
ينص هذا الافتراض على أن وجود الحياة البشرية يمكن استخدامه لتفسير القيم الدقيقة للثوابت الفيزيائية الأساسية:
القيم المرصودة لجميع الكميات الفيزيائية والكونية ليست محتملة على نحو متساو لكنها تمثل قيما محددة بشرط أن وجودها يكمن في المواقع التي يمكن أن تتطور فيها الحياة القائمة على الكربون وبشرط أن يكون الكون قديما بما يكفي لفعل ذلك. (بارو/تبلر 1986، 16؛ ديك 1961)
الفكرة هي أن التوازن المعقد بين الثوابت الفيزيائية الأساسية لا يمكن أن يكون صدفة كونية؛ فحتى أدنى التغييرات في هذه القيم كان من شأنه أن يدمر احتمال وجود الحياة البشرية. فيرى أن القيم العددية الدقيقة للثوابت الأساسية قيم ضرورية كي تصبح الحياة البشرية ممكنة؛ فاستقرار المادة والفضاء الثلاثي الأبعاد على سبيل المثال أمران ضروريان للحياة. ومن شأن التغيير الطفيف في هذه القيم العددية أن يوجه الكون نحو مسار مختلف تماما. أما الأكثر درامية من ذلك فهو أنه توجد خصائص أساسية للكون كان التطور البيولوجي سيصبح مستحيلا من دونها. واكتشافنا لهذه الخصائص الأساسية «قد يكون بمعنى ما عاقبة ضرورية لحقيقة كوننا راصدين» لها (بارو/تبلر 1986، 383). تتمثل الفكرة الأساسية في أن الوجود البشري يفرض قيودا صارمة على القيم العددية للثوابت الأساسية. فيجب أن يكون للثوابت هذه القيم التي هي عليها الآن، وذلك لأننا موجودون. وبصياغة العبارة بطريقة مغايرة للواقع ، لو كانت الثوابت الفيزيائية الأساسية قد اكتسبت قيما مختلفة قليلا، ما كان للبشر أن يظهروا. وبما أن البشر قد ظهروا وتطوروا، فقد كان من الحتمي أن تمتلك الثوابت هذه القيم المحددة.
تأمل على سبيل المثال عمر وحجم الكون. يؤكد أنصار المبدأ الإنساني الضعيف أن هذه السمات يمكن تفسيرها بدراسة حالة الوجود البشري. من الواضح أن الأرض لا بد أن تكون ملائمة ماديا لاستضافة تطور الحياة العضوية. يحدث تحول الهيدروجين والهيليوم إلى جزيئات مساعدة للحياة في المقام الأول في النجوم، لكن إنتاج الجزيئات الثقيلة التي تعتمد عليها الحياة يستغرق مليارات السنين. يجب أن يكون الكون قديما بما فيه الكفاية لتوجد أشكال الحياة؛ ومن ثم، يرى أنصار المبدأ الإنساني الضعيف أن وجود الحياة البشرية يمكن أن يفسر عمر الكون. والعمر يفسر الحجم. «العديد من مشاهدات العالم الطبيعي (...) يمكن أن ينظر إليها على أنها نتائج حتمية لوجودنا» (بارو/تبلر 1986، 219).
بالنسبة لأنصار المبدأ الإنساني الضعيف، يعيد هذا المنطق شكلا من أشكال المركزية الخاصة ويناقض التحول الكوبرنيكي؛ فلو أن ظروفا خاصة للغاية تنتج كونا ذاتي الإدراك، فثمة إعادة تأسيس لصلة وثيقة بين الجنس البشري والبيئة الكونية. يضع المبدأ الإنساني قيودا على بنية الكون ذاتي الإدراك. ويؤكد أن الحياة الذكية بطريقة ما تختار الكون الفعلي (بارو/تبلر 1986، 510؛ بروير 1991، الفصل الأول). وهذا الكون وحده هو ما ينتج راصدين أذكياء يمكنهم التعرف على موقعهم المتميز.
من مشكلات المبدأ الإنساني أنه مقاربة وحسب في أحسن الأحوال. وهو يوجه الراصد مرة أخرى نحو النظرية الفيزيائية، ولكن حتى حينها فإنه يشير فقط إلى القيمة الأسية للثوابت الأساسية، وليس القيم على وجه الدقة. يتنكر المبدأ الإنساني الضعيف في صورة تفسير فيزيائي بينما لا يزيد عن كونه استنتاجا لا اعتراض عليه؛ فمن حقيقة أن الراصدين البشريين يسكنون زاوية صغيرة من الكون، يستنتج أن هذا المكان لا بد أن يكون ملائما للحياة، ولكن وجودنا لا يفسر بأثر رجعي سبب امتلاك الكون للظروف المادية التي جعلت الحياة الذكية ممكنة (سالمون 1998، 396). وحتى أنصار المبدأ الإنساني يعترفون بأن المبدأ يمكن أن يحل محله في نهاية المطاف تفسير فيزيائي (كارتر 1974، 292، 295؛ كار/ريس 1979، 612).
ثمة تشابه معين بين الحجج التي ساقها أنصار المبدأ الإنساني وأنصار التصميم الذكي الجدد؛ فيرى أنصار التصميم الذكي أن العديد من العمليات الكيميائية الحيوية مضبوطة بدقة شديدة لدرجة تمنع الانتقاء الطبيعي من تفسيرها (انظر الفصل الثاني، القسم 5-4). فيعتبرون أن أعضاء مثل العين معقدة بحيث لا يمكن أن تكون نتيجة لتكيف تطوري بطيء. ويشير أنصار المبدأ الإنساني إلى توازن دقيق مماثل في الثوابت الأساسية. فيرون أن وجود راصد ذكي يمكن أن يفسر دقة ضبط الثوابت الأساسية. تلعب التفسيرات الغائية في كلتا الحالتين دورا مهما. ويستنتج أنصار التصميم الذكي وجود التصميم من تعقيد النظم البيولوجية وعدم أرجحية وجودها بمحض الصدفة. ويستنتج أنصار المبدأ الإنساني وجود مكان وزمن خاصين للبشر من القيم المحددة للمتغيرات الكونية. المشكلة هي أن الثوابت الأساسية لا تمتلك قيمها الخاصة لأننا موجودون؛ فالتغيير الطفيف في قيمة الثوابت الأساسية في الماضي البعيد ربما كان سيجعل بالفعل تطور الحياة على الأرض مستحيلا، ولكن وجودنا «الآن» لا يعني بالضرورة أن الثوابت اكتسبت في الماضي قيمها المحددة. صحيح أن بوسعنا أن نستنتج قيما خاصة للثوابت الأساسية من وجودنا، ولكن هذا لا يفسر القيم. يبدو أن المبدأ الإنساني القوي يعني ضمنا أن الراصد هو هدف التطور (بارو/تبلر 1986، 28). وهذا التفكير الغائي - كما سنوضح في الفصل الثاني - كان سائدا خلال معظم تاريخ الأفكار. وهو يتناقض بشدة مع تاريخ الداروينية. فحتى المبدأ الإنساني الضعيف فشل في إظهار أن أحجام النجوم والكواكب والناس نتائج لازمة لثوابت الطبيعة (بارو/تبلر 1986، 387). أحد الأسباب هو أن التطور الكوني عرضي؛ فالأرض ليست محمية من بقية النظام الشمسي؛ فلملايين السنين كانت الأرض تخضع لقصف من الفضاء الخارجي. إن الكون نظام شاسع، ووفقا لفرضية ألفاريز فقد حدث انقراض الديناصورات قبل 65 مليون سنة بسبب اصطدام أحد الكويكبات بالأرض. وعندما اختفت كانت حياتها قد امتدت بالفعل أكثر من 200 مليون سنة. ولو كانت الديناصورات قد استمرت في الحياة، لم يكن البشر ليوجدوا . خلال عهد الديناصورات، كانت الظروف ملائمة للحياة العضوية، ولكن هذا لا يعني وجوب ظهور الراصدين البشريين . ثمة سبب آخر للشك في التفكير وفق المبدأ الإنساني، الذي ينتج عن الانتقاد الأول؛ فالتفكير وفق المبدأ الإنساني يتجاهل تسلسل السببية. فلا يمكننا أن نفسر سببيا وقوع حدث سابق من خلال وقوع حدث لاحق. مع ذلك، يقفز التفكير وفق المبدأ الإنساني من حدث بعيد في الماضي إلى أحداث في الوقت الحاضر؛ فهو يجيب على أسئلة مثل: «لماذا الكون موحد الخواص؟» بعبارات مثل «لأننا موجودون فيه» (بارو/تبلر 1986، 426)، ومع ذلك، فإن عرضية الأحداث الفيزيائية تمنعنا من تخطي عدة حلقات في تسلسل السببية. سيكون من قبيل التفكير الخاطئ الادعاء بأني موجود هنا لأن أجداد أجدادي تزوجوا في سبعينيات القرن التاسع عشر. يخبرنا التفكير الفيزيائي أن الاستنتاجات يمكن أن تغير مسار الحدث «المحدد سلفا». ويخبرنا التفكير التطوري بأن شجرة الحياة نمت على نحو عرضي. وإذا قبلنا هذه الأفكار، فإن البشر ليسوا نتيجة ضرورية للتطور. يبدو هذا التفسير على نحو مثير للريبة مثل التطور التدريجي للامارك. وكما سنرى، أدت ثورة داروين إلى الإطاحة بمفهوم التصميم الرشيد.
ربما نستنتج أن التحول الكوبرنيكي أدى إلى فقدان المركزية المادية، لكن الوجود الإنساني لا يزال ثمينا في سياقين؛ فنحن النوع الذكي الوحيد في ضاحيتنا الكونية. وعلى هذا النحو فإننا لا نعتمد على أي مركزية مادية. ومن خلال قوة التفكير النظري تستطيع العقول البشرية أن تجوب الكون. ونحن نعرف من التفكير أكثر مما نعرفه من الرؤية. وهذا نوع أثمن من المركزية؛ إنها المركزية العقلانية.
أسئلة مقالية (1)
كان علم الفلك الإغريقي معنيا ب «إنقاذ الظواهر». اشرح معنى هذا والأثر الذي تركه على المكانة الفلسفية للنظريات العلمية. (2)
افترض علم الفلك الإغريقي وجود «كون ذي فلكين». اشرح معنى هذا وأثره على المكانة الفلسفية للنظريات العلمية. (3)
ما بنية نظرية «مركزية الأرض» ولماذا وجدها الإغريق مقنعة للغاية؟ (4)
فسر كيف كان استبدال «نظرية الزخم» بنظرية أرسطو للحركة شرطا مسبقا منطقيا لتطور الكوبرنيكية. (5)
أوضح أهم إنجازات الثورة الكوبرنيكية. (6)
فسر سبب عدم اكتمال الرؤية الكونية الكوبرنيكية إلا من خلال نظريات نيوتن. (7)
ما بنية نظرية «مركزية الشمس» ولماذا يجدها الكوبرنيكيون مقنعة للغاية؟ (8) «الواقعية»: هي «الاعتقاد بأن مجرد وصف البيانات لا يمثل كل ما هو مطلوب من النظرية» (برنار ديسبانا). ناقش أهمية هذه العبارة مستخدما أمثلة مناسبة. (9)
ثمة نوعان من وجهات النظر حيال النظريات: «الواقعية» و«الذرائعية». اشرحهما. ما الحجج التي يقدمها الواقعيون ضد الذرائعيين؟ (10)
بأي صورة يمكنك استخدام الكوبرنيكية لدعم الذرائعية والواقعية على الترتيب؟ (11)
أوضح كيف نشأت قضية الواقعية في مواجهة الذرائعية من التحول الكوبرنيكي وناقش بعض الحجج لصالح الواقعية والذرائعية على الترتيب. (12)
اشرح ووضح وقيم بعض الحجج النموذجية المؤيدة والمعارضة للواقعية والذرائعية. (13)
إذا كانت «النماذج» بعيدة عن «تمثيل» العالم الطبيعي والاجتماعي، فكيف يتحقق هذا التمثيل؟ (14)
اشرح دور النماذج في العلم. ما أنواع النماذج وما أهميتها؟ أوضح إجابتك في ضوء الكوبرنيكية. (15)
يفترض النموذج الاستدلالي الطبيعي «تناظر التفسير والتنبؤ». استخدم أمثلة من علم الفلك لتقييم مدى ملاءمة هذا الافتراض. (16)
اشرح ووضح دور «الفرضيات» في تاريخ علم الفلك من بطليموس إلى نيوتن. (17)
اشرح «أطروحة نقص الإثبات» (أطروحة دوهيم-كواين). ما الحجج التي يمكن أن تقدم ضدها؟ (18)
اشرح ووضح «عكس المنظور» في الكوبرنيكية. (19)
ماذا نفهم من «الثورة العلمية»؟ هل كانت «الكوبرنيكية» و«الداروينية» ثورتين علميتين؟ (20)
اشرح لماذا كانت فرضية مركزية الشمس الكوبرنيكيية «تحولا كوبرنيكيا» وليست ثورة علمية. (21)
اشرح لماذا استغرق استكمال الثورة الكوبرنيكية أكثر من 140 عاما؛ من 1543 إلى 1687؟ (22)
إذا كان كوبرنيكوس أطلق تحولا كوبرنيكيا وحسب، لماذا يعد كتاب داروين «أصل الأنواع» (1859) ثورة علمية بينما لا يعد كتاب كوبرنيكوس «عن دورات الأجرام السماوية» (1543) كذلك؟ (23)
اشرح ما يميز النموذج الكوبرنيكي عن النموذج البطلمي. لماذا لا يعتبر مؤرخو العلم كوبرنيكوس ثورة «حقيقية» في العلم؟ (24)
ناقش على نحو نقدي قابلية تطبيق نموذج كون الإرشادي للثورات العلمية في سياق النموذج الكوبرنيكي. (25)
اشرح أسباب اعتبار يوهانز كبلر الثوري الحقيقي في تاريخ علم الفلك. (26)
حلل على نحو نقدي دور القيود في العلم بالإشارة إلى الكوبرنيكية والداروينية. (27)
اشرح الفرق بين قوانين الطبيعة وقوانين العلم. لماذا هذا التمييز مهم؟ (28)
قيم على نحو نقدي التمييز بين النظريات والنماذج. (29)
ناقش على نحو نقدي الحجج المؤيدة والمعارضة للنظرية البنيوية للقوانين. (30)
ناقش على نحو نقدي الحجج المؤيدة والمعارضة لمذهب الضرورة للقوانين. (31)
ناقش على نحو نقدي الحجج المؤيدة والمعارضة لنظرية الانتظام للقوانين.
قراءت إضافية
Andersen, H./P. Barker/X. Chen [2006]:
The Cognitive Structure of Scientific Revolutions.
Cambridge: Cambridge University Press.
Aristotle [1948]:
, transl. E. Barker. Oxford: Oxford University Press.
Aristotle [1952a]:
Great Books of the Western World, The Works of Aristotle, Vol. I. Chicago: Encyclopaedia Britannica.
Aristotle [1952b]:
On the Heavens.
Great Books of the Western World. Chicago: Encyclopaedia Britannica.
Armstrong, D. [1983]:
What is a Law of Nature?
Cambridge: Cambridge University Press.
Barker, P. [2002]: “Constructing Copernicus,”
10 , 208-27.
Barrow, J. D./F. J. Tipler [1986]:
The Anthropic Cosmological Principle.
Oxford: Oxford University Press.
Blumenberg, H. [1955]: “Der kopernikanische Umsturz und die Weltstellung des Menschen,”
Studium Generale
8 , 637-48.
Blumenberg, H. [1957]: “Kosmos und System,”
Studium Generale
10 , 61-80.
Blumenberg, H. [1965]:
Die kopernikanische Wende.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Blumenberg, H. [1981]:
Die Genesis der kopernikanische Welt.
3 vols. Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation:
The Genesis of the Copernican World , transl. R. M. Wallace. Cambridge, MA: MIT Press, 1987].
Born, M. [1962]:
Einstein’s Theory of Relativity.
New York: Dover.
Brecht, B. [1963]:
Leben des Galilei.
Berlin: Suhrkamp [English translation:
The Life of Galileo.
London: Eyre Methuen, 1963].
Breuer, R. [1991]:
The Anthropic Principle: Man as the Focal Point of Nature.
Boston: Birkhäuser.
Brzeziński, J./F. Coniglione/Th. A. F. Kuipers/L. Nowak
eds. [1990]:
Idealization II: Forms and Applications.
Atlanta, GA: Rodopi.
Brzeziński, J./L. Nowak
eds. [1992]:
Idealization III: Approximation and Truth.
Atlanta, GA: Rodopi.
Burtt, E. A. [
2
1932]:
The Metaphysical Foundations of Modern Physical Science.
London: Routledge & Kegan Paul.
Carter, B. [1974]: “Large Number Coincidences and the Anthropic Principle in Cosmology,” in M. S. Longair
ed.,
Confrontation of Cosmological Theories with Observational Data.
Dordrecht: D. Reidel 1974, 291-8.
Carr, B. J./M. J. Rees [1979]: “The Anthropic Principle and the Structure of the Physical World,”
Nature
278 , 605-12.
Carroll, John W., “Laws of Nature,” in
The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2003 Edition), Edward N. Zalta
ed.,
URL =
http://plato.stanford.edu/archives/fall2003/entries/laws-of-nature .
Cartwright, N. [1999]:
The Dappled World: A Study of the Boundaries of Science.
Cambridge: Cambridge University Press.
Chen, X./P. Barker [2000]: “Continuity through Revolutions,”
67 , S208-S233.
Cohen, I. B. [1985]:
Revolution in Science.
Cambridge, MA: Belknap Press at Harvard University Press.
Copernicus, N. [1543/1995]:
On the Revolutions of Heavenly Spheres.
Amherst, NY:
Copernicus, N. [1959]: The
Letter Against Werner , in E. Rosen
ed. [1959], 93-106.
Copernicus, N. [1959]:
The Commentariolus , in E. Rosen
ed. [1959], 55-90.
Crombie, A. C. [1961]:
Augustus to Galileo.
London: Mercury.
Crombie, A. C. [1994]:
Styles of Scientific Reasoning in the European Tradition.
London: Duckworth.
Cushing, J. T. [1998]:
Cambridge: Cambridge University Press.
Davies, P. [1995]: “Algorithmic Compressibility, Fundamental and Phenomenological Laws,” in F. Weinert
ed. [1995a], 248-67.
Deutsch, D. [1997]:
The Fabric of Reality.
London: Penguin.
DeWitt, R. [2004]:
Worldview
s. London: Blackwell.
Dicke, R. H. [1961]: “Dirac’s Cosmology and Mach’s
Nature Letters
192 , 440-1.
Dijksterhuis, E. J. [1956]:
The Mechanization of the World Picture.
Oxford: Clarendon 1961.
Dirac, P. M. [1961]: “Dicke’s Cosmology and Mach’s
Nature
192 , 440-1.
Drake, S. [1975]: “Impetus Theory Reappraised,”
Journal of the History of Ideas
36 , 27-46.
Dreyer, J. L. E. [1953]:
A History of Astronomy from Thales to Kepler.
New York: Dover.
Dretske, F. I. [1977]: “Laws of Nature,”
44 , 248-68.
Duhem, P. [1962]:
The Aim and Structure of Physical Theory.
New York: Athenaeum.
Einstein, A. [1918]: “Prinzipien der Forschung,” in A. Einstein [1977], 107-10; English translation in Einstein [1954], 224-7.
Einstein, A. [1919]: “Was ist Relativitätstheorie?,” in A. Einstein [1977], 127-131; English translation in Einstein [1954], 227-32.
Einstein, A. [1930]: “Johannes Kepler,” in A. Einstein [1977], 147; English translation in Einstein [1954], 262-6.
Einstein, A. [1953]: “Message on the 410th Anniversary of the Death of Copernicus,” in Einstein [1954], 359-60.
Einstein, A. [1954]:
Ideas and Opinions.
London: Alvin Redman.
Einstein A. [1977]:
Mein Weltbild. Hrsg.
von Carl von Seelig. Frankfurt a./M: Ullstein.
Galilei, G. [1953/1632]:
Dialogue on the Great World Systems.
G. de Santillana
ed.
Chicago: Chicago University Press.
Gingerich, O. [1982]: “The Galileo Affair,”
Scientific American
247 (August), 118-27.
Gingerich, O. [1993]:
The Eye of Heaven: Ptolemy, Copernicus, Kepler.
New York: American Institute of Physics.
Gingerich, O. [2004]:
The Book Nobody Read.
London: Heinemann.
Greene, G. [2000]:
The Elegant Universe.
New York: Vintage Books.
Gutting, G.
ed . [1980]:
Revolutions.
Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press.
Hacking, I.
ed. [1981]:
Scientific Revolutions.
Oxford: Oxford University Press.
Hanson, N. [1958]:
Discovery.
Cambridge: Cambridge University
Heidelberger, M. [1980]: “Some Intertheoretic Relations between Ptolemean and Copernican Astronomy,” in G. Gutting
ed. [1980], 271-83.
Hempel, C. [1965]:
Aspects of Scientific Explanation.
New York: The Free
Herfel, W. E. et al.
eds. [1995]:
Theories and Models in Scientific Processes.
Amsterdam: Rodopi.
Hoyningen-Huene, P. [1993]:
Reconstructing Scientific Revolutions.
Chicago: Chicago University Press [German original:
Die Wissenschaftsphilosophie Thomas S. Kuhns.
Braunschweig: Vieweg & Sohn 1989].
Jeans, J. [1943]:
Cambridge: Cambridge University
Kaufmann, W. [
4
1974]:
Nietzsche.
Kepler, J. [1619]:
The Harmonies of the World,
in J. Kepler [1995], 1-164.
Kepler, J. [1618-21]:
Epitome of Copernican Astronomy,
in J. Kepler [1995], 165-245.
Kepler, J. [1995]:
Epitome of Copernican Astronomy & Harmonies of the World.
Amherst, NY: Prometheus Books.
Kitcher, P. [1993]:
The Advancement of Science.
Oxford: Oxford University
Koestler, A. [1964]:
The Sleepwalkers.
London: Penguin.
Koyré, A. [1957]:
From the Closed World to the Open Universe.
Baltimore, MD: John Hopkins University Press.
Koyré, A. [1965]:
Newtonian Studies.
Chicago: University of Chicago
Koyré, A. [1978]:
Galileo Studies.
Hassocks (Sussex): The Harvester
Krajewski, W. [1977]:
Correspondence Principle and Growth of Science.
Dordrecht: D. Reidel.
Kuhn, T. S. [1957]:
The Copernican Revolution.
Cambridge, MA: Harvard University Press.
Kuhn, T. S. [
2
1970]:
The Structure of Scientific Revolutions.
Chicago: The University of Chicago Press.
Kuhn, T. S. [1983]: “Commensurability, Comparability, Communicability” (PSA 1982). P. D. Asquith/T. Nickles
eds.
East Lansing, MI: Philosophy of Science Association, 669-88.
Ladyman, J. [1998]: “What is structural realism?”
Studies in History and Philosophy of Science
29,
409-24
Leckey, M./J. Bigelow [1995]: “Necessitarian
92-118.
Mason, S. F. [1956]:
Main Currents of Scientific Thought.
London: Routledge.
McMullin, E. [1985]: “Galilean Idealization,”
Studies in History and Philosophy of Science
16 , 247-73.
Mittelstraß, J. [1962]:
Die Rettung der Phänomene.
Berlin: Walter de Gruyter.
Morgan, M./M. Morrison
eds. [1999]:
Models as Mediators.
Cambridge: Cambridge University Press.
Musgrave, A. [1979-80]: “Wittgensteinian Instrumentalism,”
Theoria
45/6 , 65-105.
Neugebauer, O. [1968]: “On the Planetary Theory of Copernicus,”
Vistas in Astronomy
10 , 89-103.
Nietzsche, F. [1887]:
On the Geneology of Morals.
New York: Vintage 1967 [Translation of
Über die Geneologie der Moral , 1887].
Nola, R. [2003]:
Rescuing Reason.
Dordrecht: Kluwer.
Nowak, L. [1980]:
The Structure of Idealization.
Dordrecht: D. Reidel.
The Logic of Scientific Discovery.
London: Hutchinson.
Conjectures and Refutations.
London: Routledge & Kegan
Scientific Realism.
London: Routledge.
Almagest.
G. J. Toomer
ed.
London: Duckworth [German translation:
Des Ptolemäus Handbuch der Astronomie.
Bd. 1, 2, übersetzt von Karl Manitius. Leipzig: B. G. Teubner, 1912].
Mathematics, Matter and Method.
1. Cambridge: Cambridge University
Quine, W. v. [1990]:
The
Cambridge, MA: Harvard University
Rheticus, J. [1540]:
Narratio
, in E. Rosen [1959], 107-96.
Rickles, D./S. French/J. Saatsi
eds. [2006]:
The Structural Foundations of Quantum Gravity.
Oxford: Clarendon Press.
Roman, P. [1969]: “Symmetry in Physics,” in R. S. Cohen/M. W. Wartofsky
eds.,
Boston Studies in the Philosophy of Science , Vol. V. Dordrecht: Reidel, 363-9.
Rosen, E.
ed. [1959]:
Three Copernican Treatises.
Mineola, NY: Dover.
Rosen, E. [1984]:
Copernicus and the Scientific Revolution.
Malabar, FL: Robert E. Krieger.
Ruby, J. [1995]: “Origins of Scientific 'Law’,” in F. Weinert
ed. [1995a], 289-315.
Rybka, E. [1977]: “The Scientific Reception of the Copernican Theory,”
Studia Copernicana
17 , 158-71
Salmon, W. [1998]:
Causality and Explanation.
Oxford: Oxford University
Shapere, D. [1964]: “The Structure of Scientific Revolutions,” reprinted in G. Gutting
ed. [1980], 27-38.
Shapere, D. [1966]: “Meaning and Scientific Change,” reprinted in I. Hacking [1981], 28-59.
Shapere, D. [1989]: “Evolution and Continuity in Scientific Change,”
Science
56 , 419-37.
Sklar, L. [2000]:
Theory and Truth.
Oxford: Oxford University
Smolin, L. [1997]:
The Life of the Cosmos.
New York: Oxford University
Solla Price, D. J. de [1962]: “Contra-Copernicus,” in M. Clagett
ed.,
Critical Problems in the History of Science.
Madison: University of Wisconsin Press, 197-218.
Swartz, N. [1985]:
The Concept of Physical Law.
Cambridge: Cambridge University
Toulmin, S. [1953]:
The
London: Hutchinson.
Watson, W. H. [1938]:
On Understanding Physics.
London: Cambridge University
Worrall, J. [1989]: “Structural Realism”: The Best of Both Worlds?”
Dialectica
43 , 99-124
Weinberg, S. [1977]:
The First Three Minutes.
London: Deutsch.
Weinert, F. [1993]: “Laws of Nature: A Structural Approach,”
30 , 147-71.
Weinert, F.
ed. [1995a]:
Laws of Nature-Essays on the
Berlin: de Gruyter.
Weinert, F. [1995b]: “Laws of Nature-Laws of Science,” in F. Weinert
ed. [1995a], 3-64.
Weinert, F. [1995c]: “The Duhem-Quine Problem Revisited,”
International Studies in the
9 , 147-156.
Weinert, F. [1998]: “Fundamental Physical Constants, Null Experiments and the Duhem-Quine Thesis,”
Naturalis
35 , 225-52.
Weinert, F. [1999]: “Theories, Models and Constraints,”
Studies in History and Philosophy of Science
30 , 303-33.
Weinert, F. [2004]:
The Scientist as Philosopher.
New York: Springer.
Weinert, F. [2006]: “Einstein and the Representation of Reality,”
Facta Philosophica
8 , 229-52.
Wittgenstein, L. [1921/
8
1971]:
Tractatus Logico-Philosophicus.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Wendorff, R. [
3
1985]:
Zeit und Kultur.
Opladen: Westdeutscher Verlag.
Wolff, M. [1978]:
Geschichte der Impetustheorie.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Zeilik, M. [
5
1988/
9
2002]:
Astronomy.
New York: John Wiley & Sons.
الفصل الثاني
تشارلز داروين: فقدان التصميم الرشيد
القرد والإنسان شكلان متماثلان تطورا على نحو متباين من الأصل نفسه. («الإنسان»، دير مينش (1870
2 )، 107؛ ترجمة المؤلف) (1) داروين وكوبرنيكوس
يبدو داروين في نظري بمنزلة كوبرنيكوس العالم العضوي. (دوبوا ريمون، «داروين وكوبرنيكوس» (1882-1883)، 557)
تحدثنا في الفصل الأول عن كوبرنيكوس، الذي وضع نظرية مركزية الشمس التي أدت إلى فقدان البشر للمركزية المادية، وقد سبب هذا تغيرا خطيرا في المنظور البشري حتى إنه ليس من المستغرب أن يقارن بين داروين وكوبرنيكوس كثيرا (هيكل 1929، 207؛ هكسلي 1860، 79). فلقد سبب داروين هو الآخر تغييرا في المنظور، حيث أزال فكرة التصميم، ووضع جميع أشكال الحياة العضوية، بما في ذلك البشر، تحت وطأة التفكير التطوري. بمجرد أن نشر داروين كتابه «أصل الأنواع» في 24 نوفمبر 1859، سرى شعور بالتأثير الهائل لنظريته بين معاصريه. كتب ألفريد راسل والاس - الذي شارك داروين في اكتشاف مبدأ الانتقاء الطبيعي - معترفا بالإمكانيات الثورية لنظرية داروين:
لم تحدث - ربما قط - في تاريخ العلم أو الفلسفة كله ثورة في الفكر والرأي في عظم تلك التي حدثت في فترة الاثني عشر عاما من 1859 إلى 1871، وهما عاما نشر كتابي السيد داروين «أصل الأنواع» و«أصل الإنسان» على الترتيب. (والاس 1891، 419؛ هيكل 1882، 534)
وبعد ما يقرب من 150 عاما من نشر داروين لكتابيه، لا يزال الباحثون في علم الأحياء متفقين على الثورة التي أحدثتها الداروينية في التفكير البشري. كتب جاك مونو في عام 1974 أنه واثق تماما:
أنه لا توجد نظرية علمية أخرى كان لها من الآثار الفلسفية والأيديولوجية والسياسية الهائلة مثل ما لنظرية التطور. (مونو 1974، 389)
ويؤكد عالم الأحياء التطورية الشهير إرنست ماير أن نشر كتاب «أصل الأنواع» «ربما يمثل أعظم ثورة فكرية شهدتها البشرية» (ماير 2001، 9؛ ماير 2000، 67-71). وانعكاسا للأهمية المتزايدة لعلم الأحياء في القرن الحادي والعشرين، يمنح ستيفن جاي جولد داروين تأثيرا أكبر من كوبرنيكوس.
من بين أعظم ثورتين في الفكر العلمي، يتفوق داروين بالتأكيد على كوبرنيكوس في التأثير العاطفي الخام ... (جولد 2002، 46؛ بوشنر 1868، 267)
يهدف هذا الفصل إلى تقديم وصف موجز للداروينية؛ مبادئها ونتائجها. لن يكون من الممكن دراسة كم المؤلفات الهائل الموضوع عن داروين والداروينية. ويتناول كثير من الأعمال المكتوبة عن الداروينية مبادئ علم الأحياء التطوري. يركز هذا الكتاب على تأثير الفكر العلمي في المسائل الفلسفية، ولذلك سنركز على الجوانب المهملة نسبيا من الداروينية؛ وهي نتائج تفكيره التطوري على الصور الذاتية للإنسان والمسائل الفلسفية. ومن أجل فهم الانقلاب في الفكر الإنساني، الذي سوف نصفه فيما بعد بأنه فقدان للتصميم الرشيد، فإننا بحاجة إلى دراسة وجهات النظر المختلفة للحياة قبل كتاب «أصل الأنواع» وبعده. ولكي نفهم تأثير الداروينية على مسألة أصل الإنسان، نحتاج إلى دراسة الأعمال التي تتناول العصور القديمة للبشرية وفكرة التحدر مع التعديل الجديدة. تسير هذه الخيوط معا في كتاب داروين «أصل الإنسان» (1871). ومن خلال دراسة هذه المواد سوف نتبوأ موقعا أفضل نعالج من خلاله المسائل الفلسفية التي تبزغ من بين ثنايا عمل داروين. وسيقودنا هذا إلى دراسة تاريخ الفرضيات الفلسفية في الداروينية وصولا إلى أسئلة المنهج العلمي وفلسفة العقل والتفسير والتنبؤ. (2) نظريات الحياة العضوية
النقد العلمي للحياة «يعترف أن كل تفسيراتنا للحقيقة الطبيعية تقريبا ناقصة ورمزية، وتوجه المتعلم الباحث عن الحقيقة نحو الأشياء وليس الكلمات.» (هكسلي، «مقالات في العلوم والثقافة ومقالات أخرى» (1888)، 15)
لنبدأ بتاريخ ما قبل الداروينية. سنتناول خليط التخمينات النظرية عن الحياة العضوية وظهور البيانات التجريبية التي خلقت الفضاء المفاهيمي الذي وجدت فيه نظرية التطور لداروين بيئة ملائمة. وسرعان ما قلصت نظرية داروين نفوذ النظريات المنافسة ورسخت نفسها في نهاية المطاف بوصفها النظرية السائدة. (2-1) الغائية
إذا كانت الثورة العلمية - بمعناها البسيط - إعادة ترتيب للشبكات المفاهيمية، إذن كانت الداروينية ثورة حقيقية في العلوم؛ فقد غيرت الداروينية نظرتنا للحياة العضوية، ويتعلق أبرز تغيير بزوال التفكير الغائي. يتضح ذلك جليا في الازدواجية التفسيرية لكانط. يطبق كانط معايير مختلفة في شرح الطبيعة العضوية وغير العضوية. في كتاب «نظرية السماء» (1755) يقدم كانط نظرية ميكانيكية بحتة لأصل وتطور العالم غير العضوي. وأوضح تاريخه الكوني ظهور النظام من الفوضى الأصلية من خلال تطبيق أسباب ميكانيكية بحتة. يوجد في أعمال كانط توقع مبكر للغاية لنظرية الانفجار العظيم. في البداية توجد حالة من الفوضى، وفي الوقت الحاضر يوجد نظام. والنظام الأكثر وضوحا هو نظام الأنظمة الكوكبية، ولكن الأنظمة الكوكبية تتجمع داخل مجرات، وتتجمع المجرات في عناقيد. كان كانط من أوائل من خمنوا أن نقاط الضوء في السماء ليلا تمثل في الواقع مجرات أخرى في الكون مشكلة بطرق مشابهة لمجرتنا درب التبانة. كيف ينشأ هذا النظام؟ لم يحتج كانط إلا لقوانين نيوتن لتفسير النظام الكوني. يكمن جمال فرضية كانط الكونية في أنها تصور الكون كله بمنزلة شبكة واسعة من النظم والنظم الفرعية، كلها تخضع للانتظام النيوتوني. ويؤكد كانط على أنه يمكن تفسير نشأة النظام الكوني اليوم من الفوضى الأصلية عن طريق اللجوء إلى القوانين «الميكانيكية» وحدها؛ فالتطور الكوني، كما صوره كانط، يفتقر إلى الهدف، والقوانين الميكانيكية لا تسعى لأي هدف. وينكر كانط فرضية الأهداف النهائية في تفسير التاريخ الكوني؛ فالطبيعة غير العضوية لا تسير وفق أي تصميم سابق الوجود.
ولكن الطبيعة العضوية مختلفة على نحو مذهل. يرى كانط أن الطبيعة العضوية لا يمكن تفسيرها من دون تصور وجود تصميم. يأتي التصميم مصحوبا بهدف، وتصمم الأداة للقيام بهدف معين. وعلى نحو مشابه، لا يمكن تفسير الطبيعة العضوية دون تصميم؛ فاستخدام الأهداف الميكانيكية وحدها لتفسير نبات أو حشرة سيفشل في مرحلة مبكرة؛ فلتفسير الطبيعة العضوية نحتاج إلى أهداف نهائية. توقع كانط في 1755 أنه من المرجح أن التفسير الميكانيكي لتشكيل «جميع» الكواكب ومداراتها وأصل البنية الكونية سيكتشف قبل «أن يمكن تفسير عشبة أو يرقة واحدة ميكانيكيا» (كانط 1755، تمهيد، 237). يستبعد تفسير كانط التطوري للتاريخ الكوني تطور الأنواع. وبعد 104 أعوام بالضبط، قدم داروين آلية لتفسير أصل العشب واليرقات وغيرها من الكائنات. لم يدع كانط أن الهدف قابل للرصد في الطبيعة، ولكن الوصف الميكانيكي وحده لبنية طائر - مثلا - من شأنه أن يترك انطباعا بالصدفة البحتة. لا تستطيع الصدفة البحتة تفسير تعقيد العالم العضوي. ومن أجل تجنب التفسيرات من خلال الآليات العمياء، يجب أن يحدد الهدف في الطبيعة كمبدأ تنظيمي. هذه هي فرضية الغائية (كانط 1790). فيجب أن تفسر الآليات القابلة للرصد «كما لو» أنها كانت تعمل وفقا لمخطط خفي (تصميم)، الهدف من هذا المخطط هو السماح بوجود تفسير معقول للنظام المعقد للكائنات الحية. يشير كانط إلى أن الآليات العمياء ليست كافية لتفسير طريقة بناء الكائنات العضوية؛ فعند دراسة مخلوق عضوي ما، من الممكن دائما أن نسأل: لماذا يوجد في هذا المكان؟ ما وظيفته؟ والتفسيرات الميكانيكية لا تقدم إجابة شافية. ثمة حاجة إلى الأهداف النهائية لتكملة التفسيرات الميكانيكية، وثمة حاجة أيضا إلى هذه الأهداف النهائية لفهم الوجود الإنساني والأخلاقيات. لقد رأى البشر، قبل كانط وبعده، أنفسهم بمنزلة الهدف النهائي على الأرض.
كانت الازدواجية التفسيرية لكانط مفهومة في ذلك الوقت. فبحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت العلوم الفيزيائية قد قضت على التفكير الغائي، وقدم كانط نفسه تفسيرا ميكانيكيا لتطور الكون، ولكن كان من الصعب أن نرى - كما توضح ازدواجية كانط التفسيرية - كيف يمكن لدراسة العالم العضوي أن تتخلى عن الهدف والتصميم.
في وقت وفاة كانط (1804)، كان علم الأحياء أقل تطورا بكثير من علم الفلك والفيزياء؛ فكان يفتقر إلى القوانين الأساسية والمشاهدات الدقيقة، كما كان يفتقر إلى البنية المؤكدة. بدا واضحا لعلماء الفلك الإغريق على نحو بدهي أن الأرض ثابتة والكواكب تدور حول موقعها المركزي. وكان واضحا لعلماء الأحياء في القرن الثامن عشر على نحو بدهي أن تعقيدات العالم العضوي كانت تكشف عن وجود نظام مبني على هدف وتصميم. وقبل داروين عكست عدة مخططات هذا الاعتقاد بالطبيعة التي تتضمن وجود هدف. سوف نتناول قريبا «سلسلة الوجود العظمى» ونظريات لامارك التطورية، لكن يجب أن ندرك أن ثورة داروين لم تمح كل المعتقدات القديمة بشأن الطبيعة العضوية؛ إذ اتضح أن الغائية فرضية عنيدة؛ فقد عادت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ومرة أخرى في تسعينيات القرن العشرين تحت مسمى «التصميم الذكي ». ويرجع انبعاث سيناريوهات التصميم كليا إلى الضعف المتصور لآلية الانتقاء الطبيعي لداروين. حتى بعض أشد مؤيدي داروين تشبث بقشة الغائية. لم يكن داروين ليتمنى مؤيدا أكثر حماسا من أوجست وايزمان (1834-1914). توصل وايزمان إلى اكتشاف هائل؛ وهو أن الخلايا «الجنسية» فقط هي التي تنقل المعلومات الوراثية. وأوضح وايزمان - ضد رأي لامارك بشأن انتقال السمات المكتسبة - أن الخلايا «الجسدية» لا يمكن أن تنقل السمات من الآباء إلى الأبناء. وأوضح ألفريد والاس هذه النقطة:
لم يزعم قط (...) أن أطفال الآباء البكم يواجهون أي صعوبة غير عادية في تعلم الكلام، كما كان ينبغي أن يحدث لو كانت آثار عدم استخدام أعضاء التحدث لدى الآباء تورث. (نيتشر 48، 1893، 267)
مع ذلك، وجد وايزمان صعوبة في التخلي عن النظريات الغائية، تماما مثل والاس. في شرحه الدارويني للنظرية الميكانيكية للطبيعة، يسأل: «ولكن كيف يمكن أن نقر بمبدأ غائي دون التخلي عن مفهوم ميكانيكي بحت للطبيعة؟» والجواب الكانطي الجوهري هو: من خلال افتراض «غائية جوهرية للكون». إن وايزمان - العالم - يعتنق مفهوما ميكانيكيا للطبيعة، أما وايزامن - الفيلسوف - فمرعوب من المادية الصرفة، ولذلك يحاول جمع مفهوم ميكانيكي مع مفهوم غائي للكون. وعلى غرار كثير من معاصريه، كان وايزمان يخشى أن التخلي عن الغائية سيؤدي إلى فقدان الثقافة والروحانية (وايزمان 1882، 710-718). في نظر معارضي داروين، كان لنظرية التطور نتيجة فلسفية غير مرحب بها، وهي المادية. كانت نظرية التطور أكثر من مجرد أطروحة علمية أخرى؛ فقد هددت القناعات الفلسفية الراسخة. لم يتغير الدافع وراء السعي لإيجاد هدف وتصميم في الطبيعة منذ عصر وايزمان؛ فكما سنرى، لا يزال التعقد الشديد للنظم والوظائف البيولوجية يجعل المعارضين المعاصرين لنظرية التطور يخلصون إلى وجود تصميم ذكي. ومن أجل التعرف على هذا التفكير، لنستعرض أولا بعض وجهات النظر الغائية النموذجية للحياة العضوية في بداية القرن التاسع عشر. (أ) سلسلة الوجود العظمى (...) لا يمكننا أن نفهم كيف أن سمك السلمون المرقط في شمال جبال الألب يمكن أن ينتمي إلى نفس الأصل مثل أسماك السلمون المرقط في جنوب جبال الألب، رغم أن النوعين مفصولان على الدوام بجبال لا يمكن تخطيها (...). (فوكت، «محاضرات حول البشرية» (1864)، المحاضرة الثامنة، 216)
ثمة فكرة تمثيلية لبنية الطبيعة العضوية تسمى «سلسلة الوجود العظمى»، تعود هذه الفكرة إلى زمن الإغريق (لوفجوي 1936). كان العالم الطبيعي يصور في صورة سلم تتراص على درجاته جميع أشكال الكائنات من ألمع الملائكة الناصعة إلى الدودة الوضيعة بترتيب تنازلي. جسد الإله في أعلى شكل من أشكال الكمال، واحتل كل مخلوق درجة على هذا السلم الهرمي. استخدم شكسبير هذا التدرج في مسرحياته التاريخية (تيليارد 1943). وبما أن البشر يمتلكون غرائز وأحاسيس جسدية وقدرات التفكير النظري، فإنهم يحتلون منزلة وسطا بين عالم الحيوان (الذي تحكمه الغرائز) وعالم الملائكة (الذي يحكمه العقل الخالص). كان ينظر إلى السلسلة بأكملها على أنها «سلم متدرج للكمال». كانت السلسلة تامة ومستمرة ومتناغمة، ولا توجد بها صدوع أو ثغرات. وثمة عدد من السمات البارزة لهذه السلسلة:
لا تسمح بالتحولات التطورية؛ بل على العكس من ذلك تؤكد سلسلة الوجود في صورتها النقية على ثبات الأنواع. إن التدريج ثابت، وكل نوع - بما في ذلك البشر - موضوع في درجته الخاصة من السلم. لا يوجد مجال للتحدر مع التعديل.
يعتقد أن السلسلة بأكملها أنشئت بشكلها الحالي. لم يكن التشابه بين الإنسان والقرد مثيرا لقلق الأشخاص في القرن الثامن عشر (كما سيكون بالنسبة للأشخاص في القرن التاسع عشر). وكان هذا التشابه مجرد تذكير لقرب الدرجتين اللتين يحتلهما القرود والبشر على التوالي. واستمرارية السلسلة لم تش بشيء عن الأصول؛ فلا يوجد مكان للتطور في السلسلة، حيث كان يعتقد أن عمر العالم بضعة آلاف سنة وحسب.
لا مجال لخلق الأنواع أو انقراضها؛ فقد كانت السلسلة كاملة.
كانت سلسلة الوجود العظمى رسما توضيحيا، وواجهت حكم الأدلة على غرار نظرية مركزية الأرض. في نهاية القرن الثامن عشر، عانت فكرة سلم الوجود من العديد من الصعوبات:
أولا: استقل علم الجيولوجيا، وقد اكتشف هذا العلم الجديد العديد من الحفريات التي وثقت عمليات انقراض متعاقبة للأنواع. في كتابه «القاموس الفلسفي» (1764)، عبر فولتير عن عدم رضاه عن ثبات سلسلة الوجود (انظر لينبيس 1978، 47؛ لوفجوي 1936، 252). فلاحظ أنه كان واضحا وجود نباتات وحيوانات منقرضة، وأن البشر أوضحوا قدرتهم على القضاء على جميع أفراد مجموعة من الحيوانات، مثل الذئاب في إنجلترا. ثانيا: كان من الواضح لفولتير وجود فجوات في السلسلة: «ألا يوجد على نحو واضح فجوة بين القرد والإنسان؟» وانكب العلماء على العمل على عدم الاستمرارية والفجوات في عالم الحيوان. ومن أجل أغراضنا، كان الاختلاف والتشابه الأكثر إثارة للدهشة بين القرد والإنسان ذا أهمية خاصة (جليسبي 1959، 17-18؛ آيزلي 1959، 5-10؛ جولد 1988، 6). ثالثا: بدأ علماء مثل جيمس هوتون وتشارلز لايل في الشك في وجهة النظر التقليدية بأن عمر الأرض مجرد بضعة آلاف سنة. زادت الحسابات المبدئية عمر الأرض من آلاف إلى ملايين السنين، وبدأ يتضح للعلماء أن عمر الأرض كان أكبر بكثير مما كان متصورا سابقا. غالبا ما يوصف هذا الاكتشاف بأنه اكتشاف «الزمن السحيق». وكان كانط قد خمن في كتابه «نظرية السماء» (1755) بأن «ملايين السنين والقرون» قد مرت قبل أن يرى الترتيب الحالي للكون. وخلال حياة داروين، قدر عالم الفيزياء جورج طومسون - الذي عرف فيما بعد باسم اللورد كلفن - عمر الأرض بأنه حوالي 98 مليون سنة (بارو/تبلر 1986، 160-161؛ جولد 1988؛ انظر المربع 2-1).
المربع 2-1: عمر الأرض ووجود الحياة «عمر الأرض»: 4,6 مليارات سنة. «الكائنات المجهرية» في السجلات الحفرية الأولى: 3,5 مليارات سنة. «أقدم الحفريات الحيوانية»: 700 مليون سنة. «الفقاريات الأولى»: 400 مليون سنة. «الثدييات الأولى»: 200 مليون سنة. «الإنسان الماهر»: 1,8 مليون سنة. «الإنسان المنتصب»: 500 ألف-مليون سنة. «الإنسان العاقل»: 25 ألف سنة.
جوتفريد فيلهلم لايبنتس (1646-1716).
وفي مواجهة هذه الصعوبات، لم تعد سلسلة الوجود وصفا للكون كما كانت دائما، وخضعت السلسلة لمراجعة مفاهيمية. أصبحت السلسلة ترتيبا زمنيا: فتحولت صورة مدرج التحدر إلى سلم تصاعدي (كرومبي 1994، المجلد الثالث، 1698؛ ليبنيز 1978، 52-77). وأعيد تفسير السلسلة على أنها عملية خلق تحدث على مدى فترات طويلة من الزمن. صاغ الفيلسوف الألماني وعالم الرياضيات جوتفريد فيلهلم لايبنتس تعبيرا بليغا لتفعيل التسلسل الزمني على سلسلة الوجود:
علاوة على ذلك، نحن ندرك أن ثمة تقدما دائما وأكثر حرية للكون كله نحو تحقيق جمال وكمال عالمي لكائنات الله، بحيث تتقدم دائما نحو مزيد من التطور (...).
على الرغم من أن سلسلة الوجود قد تحولت إلى سلم تصاعدي، فإنها احتفظت ببعض معالمها الأساسية. يتطور الكون نحو الكمال، وتقدمه هادف ويتبع خطة إلهية. لم تعد السلسلة ثابتة، لكنها تواصل النمو على نحو غائي نحو هدف معين.
لمواجهة الاعتراض الذي ربما يقدم ضد هذا الأمر بأن العالم كان سيصبح جنة منذ فترة طويلة، فإن الجواب في متناول اليد: على الرغم من أن كثيرا من المواد قد أحرز كمالا كبيرا، فإنه نظرا للانقسام اللانهائي لما هو مستمر، يظل دائما في لجة الأشياء أجزاء هامدة، وهذه الأجزاء تحتاج إلى التحفيز والحث لكي تكون شيئا أكبر وأفضل؛ باختصار، لكي تصبح حالة متطورة أفضل؛ ومن ثم ليس لهذا التقدم نهاية أبدا. (لايبنتس 1697)
مع تفعيل التسلسل الزمني لسلسلة الوجود، ظهر حس بالتطور في التفكير البيولوجي. لم تمتد سلسلة الوجود على نحو ثابت كجسر من بداية الزمن حتى نهايته. بدلا من ذلك، نبتت كشجرة حياة من جذور بسيطة في لحظة الخلق وتحولت إلى معجزات عضوية بعد فترة كافية من الزمن. مع ذلك، ظلت «فكرة أن خلق الحياة العضوية كان مسرحا على نحو بارز لرصد العناية الإلهية وهي تعمل» قائمة كما هي (جليسبي 1959، 19). كانت العناية الإلهية - الرعاية المفيدة من الرب لسكان الأرض - افتراضا رئيسيا قبل داروين. كان يوجد تصور عام بأن الرب صانع ماهر أشرف شخصيا على خلق حتى أصغر الكائنات الحية في العالم الطبيعي. ولم يحد لايبنتس عن هذا المفهوم؛ فقد كان يتبع مبدأ الازدواجية التفسيرية مثل كانط، فكان يرى أن القوانين الميكانيكية كافية لتفسير سلاسة سير العالم غير العضوي. كانت قوانين الحركة التي تحكم جميع الأشياء التي ترى بالعين المجردة دقيقة حتى إنه لا توجد حاجة لتدخل الرب في آليتها. كان الكون أشبه بساعة عملاقة. كان الكون آليا بالكامل. أما العالم العضوي فكان مختلفا؛ فقد كان يتطلب تصميما وهدفا وتطورا غائيا. وسيتطلب الأمر جهودا مفاهيمية جادة للتغلب على الإيمان بالتكشف التدريجي لتعقيد العالم العضوي . وفي محاولة لبناء نظرية للعالم العضوي في بداية القرن التاسع عشر، كان افتراض التطور التدريجي لبنة لا جدال فيها في النظرية. جعل لامارك التطور التدريجي ركنا أساسيا من أركان نظريته. احتاج لامارك تصميما على غرار لايبنتس، ولكن الرب المصمم لعب دورا متواضعا في نظريتيهما. لدى لايبنتس وبويل، يقتصر دور الرب على تشغيل ساعة الكون. ويقبل لامارك في أحسن الأحوال أن الرب يضع خطة التصميم الأساسية. لقد خطا لامارك خطوات عملاقة نحو النظرة الحديثة للحياة العضوية، وكان صوتا وحيدا؛ إذ ظل النموذج المهيمن قائما على حجج التصميم. (ب) حجج التصميم
وفقا للغائية، كل كائن يشبه رصاصة بندقية أطلقت مباشرة نحو هدف، ووفقا لداروين، الكائنات مثل طلقات الخرطوش يصيب أحدها ويطيش الباقي. (هكسلي، «الانتقادات» (1864)، 84)
في مناقشات أوجه التناقض بين نظرية التطور وحجج التصميم، من المعتاد أن أشير إلى رئيس الشمامسة بيلي. كان وليام بيلي شخصية شهيرة ألف كتابا بعنوان «اللاهوت الطبيعي، أو أدلة وجود الرب وصفاته مجموعة من الظواهر الطبيعية» (1802). يقدم الكتاب «حجة صانع الساعة» الشهيرة: فمن وجود الساعة نستدل على وجود صانع الساعة. وقياسا على ذلك، نستنتج وجود رب مصمم من نظام الطبيعة، لكن بيلي نفسه يحتل مكانا في التراث الطويل للتفكير الغائي. وهذا النموذج التصميمي يستنتج من الترتيب والكمال الواضحين في الطبيعة وجود رب مصمم، مهندس إلهي موهوب. حاول الأبيقوريون تفسير جمال وتناسق الطبيعة كنتيجة للصدفة البحتة. عادة ما يرفض أنصار حجة التصميم مثل هذه المحاولات لأنها غير محتملة على نحو كبير؛ فهي تتناقض مع خبراتنا الحسية. لم يستطع الإغريق تصديق أن الأرض تدور حول الشمس. وبدا أن الأدلة الحسية تدعم مركزية الأرض. فلو كانت الأرض تدور، لحدثت عواصف عنيفة على الأرض. ولم تكن الأشياء لتقع في خط مستقيم. وبطريقة مماثلة تعتمد حجة التصميم على ما يبدو بدهيا للإدراك الحسي البشري. كانت نظرية مركزية الشمس لأرسطرخس رأي الأقلية، وكذلك كان تفسير الأبيقوريين. شكلت مركزية الأرض وحجة التصميم رأي الأغلبية، واعتمدت كلتاهما على المنطق الصرف وشهادة الحواس؛ فحواسنا تخبرنا بأن الأرض تقبع ثابتة في مركز الكون. كما تقول لنا أيضا إن النظام والتماثل في العالم العضوي لا بد أنه عمل خالق ذكي.
وليام بيلي (1743-1805).
روبرت بويل (1627-1691).
شعر روبرت بويل بالاستفزاز من أبيقوريي القرن السابع عشر حتى إنه نشر دليلا موسعا على التصميم: «مقالة عن الأسباب النهائية للأشياء الطبيعية» (1688). فتناول أولا حجة التصميم من وجهة نظر الجمادات. انغمس معاصروه في الاعتقاد الدارج بأن النجوم والشمس أنشئت بوجه خاص لإلقاء الضوء والدفء على سكان الأرض. على سبيل المثال، يقول كبلر عن القمر؛ «الكوكب الثانوي»:
خصص هذا النجم للأرض كملكية خاصة لها، لكي يساعد في نمو الكائنات الأرضية ويرصد عن طريق المخلوق المفكر على الأرض، وكي يبدأ به رصد النجوم. (كبلر 1618-1621، الكتاب الرابع، الجزء الأول)
كان هذا إفراطا في التبسيط. أشار بويل إلى أن نظام العالم كان شديد التعقيد حتى إنه كان من الخطأ أن نستنتج هدفا معينا للبشر من انتظام حركات الكواكب. آمن بويل - على غرار لايبنتس - بكون يعمل كالساعة. ولا حاجة لتدخلات تصحيحية من جانب الصانع. كان هذا رأي ميكانيكي أكثر راديكالية من رأي نيوتن، الذي كان يفترض أن الرب سيضطر إلى إجراء تعديلات أحيانا على الكون الذي يعمل كالساعة، ولكن في مجال الحياة العضوية، لم ير بويل إمكانية تجنب الازدواجية التفسيرية على غرار لايبنتس وكانط. فحتى الشيء الشديد التعقيد كالساعة لا يمكن أن يضاهي تعقيد الكائنات الحية في العالم البيولوجي: (...) ثمة آلية في عضلات الإنسان أكثر إثارة مما في (...) «أفلاك الأجرام السماوية»، وتنطوي عين الذبابة (...) على براعة أكثر إثارة للدهشة من براعة صنع جسم الشمس. (بويل 1688، 43-44)
كان تعقيد وتصميم النباتات والحيوانات شديدا حتى إن استنتاج غايات معينة كان مبررا. وكان واضحا لبويل أن المهندس الإلهي قد خلق العيون لتمد حاملها المحظوظ بالرؤية. وكان لهذا الصانع من الحكمة ما يكفي لتزويد كل حيوان بزوج من العيون، احترازا لموقف أن تستسلم إحدى العينين للمرض. لا يستطيع البشر الاستدلال على وجه اليقين أن الرب خلق كل هذه العجائب الطبيعية لهدف وحيد هو خدمة البشر وإسعادهم، ومع ذلك، يمكنهم أن يكونوا على يقين من أن هذا أحد أهداف وجودها. وسيكون من ذروة اللاعقلانية أن نستنتج، من جمال الطبيعة وكمالها، أن الصدفة وحدها كانت هي الخالق.
ومع ذلك، رفض الفيلسوف الفرنسي بيير لويس مورو دي موبرتيوس (1698-1759) قصر تأثير حجة التصميم على نظام الكواكب أو البنية العضوية. ويشير في كتابه «بحث في علم الكونيات» (1750) إلى أن الرياضيات يمكنها إثبات وجود الإله. إن الانتظام الصارم للكون نفسه يستند على مبدأ الفعل الأدنى العام. يشير موبرتيوس إلى وجود مبادئ الفعل الأدنى في الفيزياء، التي تثبت أن الطبيعة تتصرف بالطريقة الأكثر اقتصادا. في بداية القرن السابع عشر أثبت بيير فيرما أن أشعة الضوء تتحرك بين أي نقطتين بالطريقة التي تجعل مساراتها تستغرق أقل وقت. ربما لا يكون هذا المسار أقصر المسارات ولكنه المسار الذي يستغرق وقتا أقل من أي مسار آخر. وينطبق الشيء نفسه على الجسيمات، التي تتحرك وفقا لقوانين نيوتن للحركة. من بين عدد من المسارات الممكنة، التي يمكن للجسيمات اتخاذها في الفراغ، فإن المسار الحقيقي هو الذي تكون فيه كمية تسمى الفعل
S
في حدها الأدنى.
1
لذا تعمق موبرتيوس أكثر في نظام الطبيعة، فوجد أن الاقتصاد الرياضي للطبيعة - المعبر عنه بمبدأ الفعل الأدنى - يشير إلى وجود مصمم إلهي؛ فالجمال الرياضي الذي يكشف عن نفسه في نظام الطبيعة لا بد أنه صنيعة يد ذكاء متفوق.
عندما طرح بويل وموبرتيوس حججهما المرتبطة بالتصميم، كانت النظرية الميكانيكية قد رسخت تفوقها في العلوم الفيزيائية. كان نيوتن لا يزال يعتقد أن الكون الذي يعمل كالساعة في حاجة إلى تدخل من حين لآخر من الإله لمواصلة العمل بانتظام تام، ولكن رأى بويل ولايبنتس كلاهما أن الحاجة لأعمال إصلاح أحيانا تشير إلى انتقاص من قدرة الخالق؛ فبمجرد تشغيل الكون الذي يعمل كالساعة عن طريق خالقه، تبقيه القوانين العامة في حركة منتظمة، ومع ذلك، في نظام الكواكب والمجرات لا يمكن رصد ما هو أكثر من نوايا التصميم العامة. قدم العالم العضوي أدلة ملموسة أكثر بكثير على الأعمال الإلهية. يقر بويل بأن الصدفة وحدها ربما تخلق الحجارة والمعادن، ولكنها لا تخلق الخضروات والحيوانات.
ثمة فن منقطع النظير في بنية قدم الكلب أكثر مما هو موجود في تلك الساعة الشهيرة في ستراسبورج. (بويل 1688، 47)
نجد في أعمال بيلي تفضيلا مماثلا لدى علم الأحياء نحو استخدام حجة التصميم. يقول بيلي إنه من الصحيح أن الساعة تكشف عن قدر كبير من التصميم، ولكن العالم العضوي يقدم الكثير من حالات التصميم الأكثر إثارة للدهشة. فنكتشف كثيرا من الجمال والنظام والانتظام حتى إنه لا يمكن إنكار أن مصمما ذكيا قد خلق العالم.
2
لا يمكن أن يوجد تصميم من دون مصمم، ولا اختراع من دون مخترع، ولا نظام من دون خيار. (مقتبس من جليسبي 1959، 36)
مع توجيه كثير من الاهتمام للنباتات والحيوانات، بدا أن كل نوع مخلوق لهدف معين. رثى بويل الميل القوي لدى معاصريه نحو تفسير كل الأحداث الكونية كما لو أنها تحدث خاصة لأهداف بشرية. كان هذا التحذير مفهوما لأن حجج التصميم تؤكد على ميول البشر لقراءة نية الخالق في الطبيعة العضوية. رغم ذلك، يبدو أن العالم العضوي يقدم رخصة أكثر أمنا للوصول لاستدلالات حول وجود مصمم. كان علم اللاهوت الطبيعي في مهمة إثبات «النية النهائية للخالق فيما يتعلق بكل بنية» (آيزلي 1959، 178)، ومع ذلك، ينشغل اللاهوت الطبيعي بالظواهر. لقد وجدنا مركزية بشرية مماثلة في مركزية الأرض؛ فيبدو أن الظواهر تشير إلى أن الأرض تقع في مركز الكون. دمرت مركزية الشمس هذا الاعتقاد، والآن أكد اللاهوت الطبيعي مركزية الوجود البشري في العالم العضوي.
رغم أن فكرة سلسلة الوجود الثابتة خبت وتلاشت، فإن البحث عن التصميم استمر. أفادت اقتراحات في القرن الثامن عشر بأن عمر الأرض أكبر بكثير من ال 6000 سنة المذكور في الكتاب المقدس. مع ذلك، كان الدليل المأخوذ من الصخور ما يزال ضعيفا للغاية لدرجة تمنع أن ينفي القصة التوراتية؛ فبالنسبة لعقل المؤمنين، بدت الأدلة الجيولوجية تأكيدا على ذلك: حدث طوفان عالمي ولا يمكن أن يكون الوجود الإنساني أقدم مما هو منصوص عليه في الكتاب المقدس. كانت هذه ميزات أساسية في القصة التوراتية للخلق؛ فكانت متوافقة جيدا مع الاعتقاد الغائي السائد والتطور التدريجي (جليسبي 1959، 107). وفي مثل هذه الحالات، عندما لا تستطيع الأدلة إثبات أحد النموذجين ونفي الآخر على نحو حاسم، يشير الفلاسفة إلى نقص الإثبات (انظر الفصل الأول، الجزء 6-4). فيبدو الدليل نفسه متوافقا مع مفاهيم متنافسة، فيما يتعلق بعمر الأرض على سبيل المثال. في بداية القرن السادس عشر، تشبث كوبرنيكوس بتكافؤ الفرضيات البديلة. وفي بداية القرن التاسع عشر، ظهرت نماذج متنافسة لأصل الأنواع. ولقد تحدت هذه النماذج نموذج التصميم الحالي. ولكن مرت خمسون سنة أخرى قبل أن تتمكن الأدلة من تقييم النماذج المتنافسة على نحو تفريقي. بعبارات فلسفية، كانت حجة التصميم بمنزلة رخصة للاستدلالات المسموح بها. تأخذنا الاستدلالات من وجود النظام الواضح في العالم الطبيعي إلى التصميم، ومن التصميم إلى خالق معطاء. تعمل حجة التصميم على نحو أساسي من خلال قوة التمثيلات.
بدا أن كل نوع مصمم بدقة لهدف معين؛ فالعصفور له أجنحة من أجل أن يطير. والبشر لديهم عقول من أجل التفكير. بإجماع الآراء، يحتل البشر مكانة متفوقة في مخطط الخلق. وضمنيا، خلق عالم الحيوان والنبات من أجل البشر، ولكن علينا أن نفكر هل كانت الاستدلالات «المباحة» أيضا استنتاجات «مقبولة» أم لا. تأمل نقاشا في بداية القرن التاسع عشر بين أحد المؤمنين بوجود إله وأحد معتنقي فكرة التطور. يعتمد المؤمن بالإله على حس العقل ومظهر النظام الطبيعي للاستدلال على وجود الإله. ويعتمد معتنق التطور على القوانين الطبيعية والتفسيرات الميكانيكية للاستدلال على الانتظام في الطبيعة، ويتجنب الاستدلالات التي تشير إلى عامل خارق. بالنسبة للمؤمن بالإله، الوظيفة تأتي أولا، ثم يخلق العضو من أجلها. إذا كان الخالق يريد لمخلوق أن يرى، فإنه يمنحه عينين من أجل ذلك. ومن ثم فإنه لا معنى في هذا المخطط للسماح بحدوث تبديل وتغيير. تحتل الكائنات أماكن دائمة في ترتيب الأشياء؛ فثمة سلم متدرج .
بالنسبة لأنصار التطور، ينشأ العضو أولا، ثم يشكل وظيفته. وضع هذا المنظور المعاكس بين يدي هكسلي نقضا داروينيا لحجة التصميم:
مع ذلك، لنفترض أن أحدا كان قادرا على أن يبين أن الساعة لم تصنع مباشرة ولم يصنعها أي شخص، ولكن ذلك كان نتيجة لتعديل ساعة أخرى كانت تدل على الوقت ولكن على نحو سيئ، وأن هذه الساعة نشأت من بنية يمكن بالكاد تسميتها ساعة؛ نظرا لعدم وجود أي أرقام على قرصها، وأن عقاربها كانت بدائية، وأنه بالعودة إلى الوراء في الزمن نصل في الأخير إلى أسطوانة دوارة هي أقدم مادة بدائية يمكن تتبعها لهذه البنية بأكملها. وإذا تصورنا أيضا أن من الممكن إيضاح أن كل هذه التغيرات نتجت؛ أولا: عن ميل البنية إلى التغير بلا نهاية، وثانيا: عن شيء في العالم المحيط ساعد على توجيه جميع التغيرات نحو اتجاه شيء يبين الوقت بدقة، واستبعد كل التغييرات في الاتجاهات الأخرى، حينئذ يصبح من الواضح أن قوة حجة بيلي قد تبددت؛ فلسوف يتبين أن الجهاز المتكيف جيدا بدقة لهدف معين قد يكون ناتجا لطريقة التجربة والخطأ التي اتبعتها قوى غير ذكية، مثلما قد يكون ناتجا مباشرة من تطبيق الوسائل الملائمة لتحقيق هذه الغاية عن طريق قوة ذكية. (هكسلي 1864، 83)
استفاد هكسلي من اقتراح داروين لآلية يمكن من خلالها تفسير الوظائف سببيا. (انظر الجزء 6-7، ج). كان يوجد قبل داروين تخمينات جامحة كثيرة بشأن الطريقة التي يمكن أن يتشكل بها العضو لأداء وظيفته. قدم لامارك محاولة جريئة لتقديم شرح ميكانيكي. وكانت هذه الفرضيات الميكانيكية تعلن في بعض الأحيان وتنتقد بشدة. أشار بول ثيري دي هولباخ في كتابه «نظام الطبيعة» (1770) إلى أن البشر نتاج للطبيعة، فيما يتعلق بنشأتهم وقدراتهم الأخلاقية والفكرية. تكيفت النباتات والحيوانات وفقا لظروف مناخية محددة على الأرض؛ فكما يشير، لو تغيرت الظروف البيئية على الأرض «لتغيرت جميع منتجات الكرة الأرضية أيضا.» من المعقول أن نشك أن جميع الأنواع عرضة للتغيير؛ فالطبيعة لا تعرف أشكالا دائمة. والبشر ليسوا هم ذروة الخليقة؛ فكل هذه تكهنات غامضة؛ خيال فلسفي جامح، ومع ذلك، علينا ألا نقلل من قوة الأفكار؛ فالأفكار تفرض نظاما على مشاهداتنا. وهي تجعل ما يبدو متفاوتا متماسكا، كما تخلق نماذج جديدة للواقع، ولكن عندما تكون الحقائق نادرة، تطوف الأفكار بحرية كبيرة في الفضاء المفاهيمي. كانت هذه قوة فرضية لامارك، التي أدت إلى دمارها. (ج) جان باتيست لامارك
مما لا شك فيه أن أعظم خلل في عمل لامارك هو عدم كفاية المشاهدات والتجارب التي أوردها في دليل مبادئه العامة. (هيكل، «الطبيعة» 26 (1882)، 540)
جان باتيست لامارك (1744-1829).
يرتبط اسم نيوتن في أذهان كثير من الناس بسقوط التفاحة وقانون الجاذبية. هذا ارتباط إيجابي لأنه يعد دليلا على عبقرية نيوتن. أما اسم جان باتيست لامارك فيثير رابطا سلبيا؛ إذ يثير في الأذهان صورة الزرافة التي تمد عنقها للوصول إلى أوراق الأشجار العالية، ويزداد طول الرقبة وتنقل الزرافة طول العنق إلى الجيل التالي من الزرافات. هذا هو السبب في امتلاك الزرافات رقبة طويلة. ويمتلك البط أقدام مكففة لأنه يبسط أصابع قدميه ليدفع نفسه إلى الأمام في الماء. لقي لامارك سخرية كثيرة لأفكاره بشأن توريث الصفات المكتسبة بالاستخدام؛ بحيث تنتقل السمات التي اكتسبها أفراد الجيل الواقعين تحت ضغط شديد بأعجوبة لأبنائهم. لم يعر داروين إنجازاته أي احترام. مع ذلك، يضم عمل لامارك ما هو أكثر بكثير من «اكتشاف» وراثة الخصائص المكتسبة. كان لديه مستقبل مهني ناجح؛ فكان أستاذ علم الحيوان في متحف التاريخ الطبيعي في باريس، وعضوا في «معهد فرنسا» والعديد من الجمعيات العلمية الأوروبية الأخرى. مع ذلك، كان تأثيره ضئيلا. فلم يفهم في عصره إلا قليلا؛ إذ عاش في ظل الرجل الشهير جورج كوفييه (1769-1832)، وقد أفلت شمس أفكاره مع بزوغ شمس نظرية التطور لداروين، لكن لا ينبغي أن نسمح لتألق عمل داروين بأن ينسينا إنجازات لامارك. فقبل خمسين عاما من نشر كتاب «أصل الأنواع» بالضبط، نشر لامارك كتابه «فلسفة علم الحيوان» (1809)، الذي قدم فيه نظرية التحولية. يحتوي هذا الكتاب على مذهبه المعيب كثيرا الخاص بالوراثة فوق الجينية، ولكن لنقارن أخطاءه بإنجازاته . طور لامارك وسيلة لإضفاء التسلسل الزمني على «سلسلة الوجود العظمى». وبقيامه بذلك، تخلى لامارك عن فكرة ثبات الأنواع ونظرية الخلق الخاص. كان ثبات الأنواع عنصرا أساسيا في تدرج الوجود وحجج التصميم. وظل هذا الثبات موجودا من خلال أعمال كوفييه حتى نقضه داروين في نهاية الأمر. بدلا من ثبات الأنواع، يقترح لامارك آلية «التعديل التدريجي». بل إن لامارك لم يفترض وجود فعل الخلق الإلهي في بداية الحياة العضوية؛ فتبدأ الحياة من خلال التوالد الذاتي. ومن خلال هذه العملية تولد كائنات بسيطة جدا. ولو تركت في هدوء، فإن تعقيد حجم الحياة سيتطور ببطء من خلال تعديلات تدريجية. ألن تختفي الكائنات الأكثر بساطة؟ لا، لأن التوالد الذاتي يعمل على نحو مستمر، ودائما ما يجدد العالم. وستحول القوة الدافعة الداخلية الضرورية هذه الكائنات الأبسط إلى كائنات أكثر تعقيدا. تحدث تعقيدات، وتعطل التغيرات البيئية آلية التعديل التدريجي وتتحدى قدرة الكائنات على تكييف نفسها. وتؤدي الظروف البيئية المتغيرة إلى تغييرات في الكائنات الحية. سيستخدم بعض الأعضاء كثيرا بينما يعاني بعضها من عدم الاستخدام. وتورث الأعضاء المعززة من خلال توريث السمات المكتسبة. تتغير الكائنات في غضون بضعة أجيال، وينشأ تعقيد العالم العضوي ببطء. هذا تطور «خطي»، لأن فكرة التسلسل الهرمي باقية. بالنسبة للامارك، الإنسان نموذج للكمال، وتقاس جميع الكائنات الأخرى في مقابل الإنسان. وعلى الرغم من أن لامارك أضفى التسلسل الزمني على «سلسلة الوجود العظمى» وتخلى عن فكرة ثبات الأنواع، فإنه لا يزال ملتزما بالغائية. وهذا يعني أن لامارك يعتقد أن تطور سلم الوجود يتبع هدفا ما محددا مسبقا. والهدف الأخير هو إنتاج البشر؛ فالطبيعة تتطور من كائنات أبسط إلى كائنات أكثر تعقيدا بهدف الوصول إلى أكثر الكائنات كمالا على الإطلاق: الإنسان العاقل، وقد أثبتت هذه الصورة أنها مقنعة حتى إن نظرية التطور في الوقت الحالي غالبا ما تقترن بالتعديل التدريجي؛ وهو الالتباس الذي يشهد عليه العديد من الوثائق المعاصرة. (شكل
2-1 )
شكل 2-1: الأعمار السبعة للشخص الأكاديمي. إعلان في صحيفة الجارديان (2002/4/23)، يلفت الانتباه إلى الوظائف الأكاديمية الشاغرة في طبعات الثلاثاء (المصدر: صحيفة الجارديان. جميع الحقوق محفوظة جارديان نيوز آند ميديا ليمتد 2002).
كان لامارك أيضا معتنقا متشددا لمبدأ المادية. والمادية لها العديد من الدلالات، وتعبر في هذا السياق عن الاعتقاد بأن كل ظواهر الحياة العضوية يمكن تفسيرها باللجوء لأسباب ميكانيكية. وهذا يشمل القدرات العقلية العليا لدى البشر. لم يكن كانط معتنقا للمادية، بل إنه شكك في أن اليرقة يمكن تفسيرها ميكانيكيا، لكن المذهب كان له باع طويل في فرنسا (دي هولباخ، هلفتيوس، لا متري)، وقد أدى إلى صورة الإنسان كآلة التي ذكرها في كتابه «الإنسان آلة»؛ فبالنسبة لمعتنق المادية، القدرات العقلية والوعي ليسا سوى تعبير عن حالات دماغية.
سنرى أن المادية كانت أحد الاعتراضات الفلسفية الرئيسية ضد نظرية داروين. وكما سيكتشف الداروينيون، فإن التحدي الأكبر أمام المادية هو تفسير ظواهر العقل والوعي.
من التأثيرات المؤسفة للثورات العلمية أن الأفكار المؤدية لها تتلقى فضلا قليلا للغاية من جيل ما بعد الثورة. مع ذلك، فإننا نتعلم من أخطائنا، كما أشار بوبر بإصرار. فحتى الأخطاء تساهم في التقدم العلمي. ألقت تحولية لامارك على ثبات الأنواع حملا ثقيلا من الشكوك. وكانت ماديته محاولة أولى للتغلب على ثنائية كانط التفسيرية. مع ذلك، تبين أن تحولية لامارك نموذج غير كاف؛ فالوراثة فوق الجينية لا وجود لها، ولا التعديل التدريجي. ظلت تحولية لامارك في حاجة إلى أسس تجريبية. وكما حدث في حالة مركزية الأرض، أنقذت التحولية الظواهر، كما واجهت مسألة الواقع. يحدث في العلم أن تبحث الحقائق عن نظرية. عندما توفي لامارك، كان لا يزال يوجد الكثير من الأفكار البيولوجية الباحثة عن دعم الأدلة. في إنجلترا، أعلن إراسموس داروين - جد تشارلز - والمؤلف المجهول لكتاب «الآثار الباقية للتاريخ الطبيعي للخلق» (1844) روبرت تشامبرز أفكارهما التطورية. وفي فرنسا، استبق إيزيدور جوفري سانت هيلير اتحاد التجريبية والعقلانية في دراسة الطبيعة العضوية، التي تبناها لاحقا هيكل. ودافع عن تحولية لامارك ضد إصرار كوفييه بشأن ثبات الأنواع، ولكنه صحح تركيز لامارك الشديد على التغير من خلال استخدام الأعضاء؛ فكان ينبغي وضع المناخ بعين الاعتبار (جوفري سانت هيلير 1847؛ انظر جرين 1980، 300-301). وبينما اكتشف علم التشريح وعلم الأجنة والجيولوجيا وعلم الحفريات حقائق جديدة، بدأت هذه التكهنات النظرية تغرس جذورها في أرض صلبة. (3) اكتشافات الحفريات
عندما تتنافس مجموعة نماذج على تفسير الظواهر المرصودة، يحاول كل نموذج التوافق مع الحقائق المتاحة. ولا تأتي الحقائق مرتبطة على نحو جاهز بالنموذج التفسيري الصحيح؛ فالحقائق تحتاج إلى تأويل. وتعمل النماذج على وضعها في نظام متسق. وعندما تكون الحقائق قليلة ومتباعدة، يكون من السهل على النماذج المتنافسة ادعاء نجاح التوافق. كانت هذه هي الحال بين نظريتي مركزية الأرض ومركزية الشمس لما يربو عن خمسين عاما، ولكن في نهاية المطاف تظهر حقائق جديدة تتوافق مع أحد النماذج على نحو أفضل من غيره. وستمنح الحقائق القديمة والجديدة مزيدا من المصداقية لأحد النماذج أكثر من غيره. ربما لا تكون هذه نهاية النموذج الذي فقد مصداقيته، لا سيما عندما تحدث تطورات نظرية جديدة. مع ذلك، يحظى النموذج المنتصر بكثير من الاهتمام لفترة من الوقت. لقد رأينا أن مركزية الأرض لم تمت موتا مفاجئا، ولكن جعلت مشاهدات براهي وقوانين كبلر واكتشافات جاليليو حياتها غير مريحة على نحو أكبر. ونشهد في علم الأحياء التطوري صراعا مشابها بين وجهة النظر الغائية القديمة ووجهة النظر الميكانيكية الناشئة. فلا يمكن أن يكون النظام الشمسي أرضي المركز وشمسي المركز في الوقت نفسه، ولا يمكن أن تكون الحياة العضوية ناتجة عن تصميم معين وصدفة «عبثية» في الوقت نفسه. إذا كان النظام الكوكبي شمسي المركز حقا، فإن النموذج الشمسي المركز سيكون أكثر ملاءمة معرفيا من النموذج الأرضي المركز. ولو كانت الطبيعة العضوية برمتها تشكلت في غياب التصميم، فإن النموذج الآلي سيكون أكثر ملاءمة معرفيا من النموذج الغائي. ولو كانت الكواكب تدور حول الشمس وتطورت الكائنات المعقدة، فلا بد من وجود حقائق تشهد على هذه السمات. وهذه الحقائق ستتوافق مع مخطط تفسيري ما بشكل أفضل من غيره. في خلال الخمسين عاما بين صدور كتاب لامارك «فلسفة علم الحيوان» (1809) وكتاب داروين «أصل الأنواع» (1859) ظهرت اكتشافات جديدة في مختلف المجالات. في الجيولوجيا - على سبيل المثال - زيد عمر الأرض تدريجيا من عمر ستة آلاف سنة القليل المذكور في الكتاب المقدس إلى ملايين وملايين السنين من التطور الكوني الذي ذكره كانط. فقد اكتشف أن الطبقات الصخرية تحتوي على تدرج زمني مخفي. وكلما كانت الطبقات أعمق، زاد عمر الصخور. في علم الحفريات، أضافت اكتشافات الحفريات إلى التسلسل الزمني للأرض. فحفريات الحيوانات المنقرضة وحفريات أشكال الحياة غير المعروفة كشفت عالم أحياء العصور القديمة. على سبيل المثال، أصبح الكائن القديم أركيوبتركس - الذي كان وسيطا بين الديناصورات والطيور - موضع مناقشات مكثفة. اكتشفت رتبة الزواحف تلك في أوائل القرن التاسع عشر، ولكن بدأ فهمها على نحو صحيح في ستينيات القرن التاسع عشر فقط. ولم يبدأ استخراج الهياكل العظمية لأنواع مختلفة من الديناصورات مثل إجوانودون إلا على يد أوثنيل تشارلز مارش في عام 1881. ونشرت مجلة نيتشر رسوما توضيحية رائعة لأشكال الحياة القديمة تلك (شكل
2-2 ). وجدت اعتراضات فولتير على «سلسلة الوجود العظمى» في نهاية المطاف دعما من البيانات التجريبية الملموسة؛ إذ أظهر التشريح المقارن التشابه التشريحي الوثيق بين البشر والقردة، وكشف علم الأجنة تشابها مثيرا للدهشة بين أجنة الأنواع المختلفة في المراحل الأولى من النمو (شكل
2-3 ).
شكل 2-2: إجوانودون (المصدر: نيتشر 55 (189)، 463).
شكل 2-3: مقارنة الأجنة (من اليسار إلى اليمين). في الأعلى: الكلب (4 أسابيع)؛ الإنسان (4 أسابيع). في الأسفل: الكلب (6 أسابيع)؛ الإنسان (8 أسابيع). (المصدر: هيكل (1876)، المجلد الأول، 306-307).
بما أننا مهتمون على نحو خاص بالنتائج الفلسفية للنظريات العلمية، سنركز على اكتشافات الحفريات البشرية وما تعنيه لعصور البشرية القديمة. حدث بعض هذه الاكتشافات قبل نشر داروين لكتابه «أصل الأنواع». ينبغي أن نلاحظ أن مسألة ظهور البشر مستقلة عن مسألة تحدر الإنسان من القردة الشبيهة بالإنسان. إن النقاش حول العصور القديمة للبشرية متوافق مع نظرية الخلق الخاص؛ فمن الممكن إعادة تأويل التزام الكتاب المقدس بستة آلاف سنة من الوجود الإنساني بأنه أمر مجازي فحسب، ولكن نظرية تحدر الإنسان من القردة الشبيهة بالإنسان تتنافى مع عقيدة الخلق الخاص للبشر. عندما يجمع هذان السؤالان الخاصان بالعصور القديمة والأصل معا، فإنهما يشكلان الخليط المتفجر الذي صدم العامة بعد وقت قصير من نشر كتاب داروين؛ إذ إن المزيج يجعل البشر عرضة للانتقاء الطبيعي كما هي حال الأعشاب واليرقات عند كانط. وبمجرد أن أصبحت صيغة التطور لداروين - المدعومة بالانتقاء الطبيعي - متاحة كحل لمسألة الأنواع، صار لها منطق خاص بها. وسارع معاصرو داروين إلى بسط نموذج داروين التطوري من النباتات والحيوانات إلى عالم الإنسان. (3-1) العظام والهياكل العظمية
لا وجود لحفريات بشرية. (كوفييه، «وجهات نظر من عالم ما قبل التاريخ» (1822)، 101، مقتبسة في رول، «الإنسان» (1870)، 265)
كيف يمكنك تحديد العصور القديمة للبشرية في غياب تقنيات التأريخ الدقيقة؟ ستقوم باستدلالات. أعرب كاتب في مجلة نيتشر عن شكوك هائلة في أننا «لن نكتشف أبدا مهد جنسنا الصحيح.» ومع ذلك، يمكن لفن الاستنتاج أن يقطع بنا شوطا طويلا. كان جون إيفانز - رئيس قسم الأنثروبولوجيا بالجمعية العلمية البريطانية (1890) - واثقا من:
أنه من وقت لآخر ربما نكتشف أغراضا فنية بشرية، وفي ظل هذه الظروف والأحوال ربما نستنتج يقينا أنه في مرحلة معينة في تاريخ العالم وجد البشر (...). (نيتشر 42، 1890، 507؛ قارن رول 1870، الفصل الثاني والسادس)
شكل 2-4: رسم للهيكل العظمي للماموث (المصدر: رول 1870، 286).
ربما لم يكن ممكنا تحديد العمر الدقيق أو حتى التقريبي للهياكل العظمية في فترة ما قبل اكتشاف رذرفورد لقانون الاضمحلال الإشعاعي (1901)، لكن التقديرات النسبية يمكن على الأقل أن تقدم بعض استدلالات ذات احتمالية أكبر من غيرها؛ فقد عثر على حفريات بشرية بين حفريات الحيوانات المنقرضة مثل دب الكهف والماموث والرنة والحصان البري (شكل
2-4 )، كما عثر أيضا على أدوات وأسلحة مصنوعة من حجر الصوان. وهذا يشير إلى أن كائنات شبيهة بالبشر استوطنت مناطق أوروبا التي كانت سابقا موطنا لحيوانات انقرضت في الوقت الحالي، كما أشار أيضا إلى أن العصرين البرونزي والحديدي لم يكونا قد حلا بعد؛ ومن ثم لا بد أن الجماعات البشرية عاشت في أوروبا خلال العصر الحجري. هذا استنتاج مرجح على نحو أكبر من رأي كوفييه بأنه لا يمكن أن توجد أي حفريات بشرية. وهو مرجح على نحو أكبر؛ لأنه أكثر توافقا مع الحقائق. أقنعت عدة اكتشافات لبقايا بشرية العديد من علماء الحفريات أن البشر وجدوا في وقت أبكر بكثير مما كان يفترض حتى ذلك الوقت. استكشف فيليب تشارلز شميرلينج الكهوف الموجودة تحت الأرض بالقرب من مدينة لييج البلجيكية ووجد جماجم بشرية وعظام حيوانات منقرضة. كان شكل الجماجم البشرية مختلفا نوعا ما عن جمجمة الإنسان الحديث، لكن ظل هذا الدليل ينظر إليه على أنه غير مؤكد، ولكن في أربعينيات القرن التاسع عشر، اكتشف بوشيه دو بيرث أدوات حجرية بدائية قرب أميان في فرنسا بين بقايا حيوانات منقرضة. أثبت كوفييه وآخرون بالفعل على نحو مستقل أن هذه الحفريات الحيوانية تنتمي إلى ما يسمى فترة الطوفان أو العصر الجليدي. ويشار اليوم إلى هذه الفترة على أنها العصر البليستوسيني (انظر جدول
2-1 ). اكتشف هيكل عظمي بشري في وادي نياندر بالقرب من دوسلدورف (ألمانيا)، واشتهر باسم إنسان نياندرتال (1856). لم يعثر على بقايا حيوانات منقرضة، ولكن الطبقات الجيولوجية (الطين) كانت تنتمي إلى فترة «الطوفان». وكان أكثر ما أصاب علماء الحفريات المعاصرين بالدهشة حينها هو شكل الجمجمة (شكل
2-5 )؛ إذ بدا أنها تحمل مخا متخلفا نوعا ما يظهر تشابها قويا مع مخاخ القردة الشبيهة بالإنسان. (ولكن لاحظ أن إنسان نياندرتال لا يزال قيد التقييم حتى اليوم.) حدثت كل هذه الاكتشافات قبل نشر كتاب داروين. وحدث اكتشاف آخر مهم قرب نهاية القرن هو إنسان جاوة (1891 -1892) وكان يمثل «الإنسان المنتصب». كان إنسان جاوة مرشحا ليمثل الحلقة المفقودة. لم يكن لفكرة الحلقة المفقودة معنى قبل داروين؛ ففي المخططات القديمة كان البشر مخلوقين خلقا خاصا أو كانوا ذروة التطور التدريجي. أدرج داروين سلالة البشر في شجرة الحياة. أصبح البشر عرضة لتحدر السلالة مع التعديل، ولذلك أصبح من الضروري التحقق من وجود أشباه البشر الأوائل. كان الباحثون يعرفون سلسلة النسب البشرية قبل داروين على نحو أفضل مما كانوا يعرفون عن وجود الديناصورات.
شكل 2-5: جمجمة إنسان نياندرتال (المصدر: رول (1870)، 309). (3-2) بشر العصور القديمة
لا يمكن أن يكمن هدف الإنسانية في النهاية، ولكن يكمن فقط في أفضل نموذج لها. (نيتشه، «تأملات في غير أوانها» (1873-1874)، الجزء الثاني، مقتبسة في كوفمان (1974)، 149)
جدول 2-1: تطور أشباه البشر. *
الاسم
الفترة
الوقت
السمات
أوسترالوبيثيكوس، رشيق وقوي (القرد الجنوبي)
أواخر فترة الميوسين إلى أوائل فترة البليوسين
منذ 4-2 مليون سنة
سعة الجمجمة: 430-450سم
3 ، وضع منتصب.
الإنسان الماهر (هومو هابيليس)
أوائل فترة البليستوسين
منذ 2-1,5 مليون سنة
زيادة سعة الجمجمة (640سم
3 )، أنياب وأسنان طاحنة أصغر، يد قادرة على معالجة الأشياء على نحو دقيق، القدرة على تصنيع أدوات حجرية.
الإنسان المنتصب (هومو إريكتوس) (إنسان هايدلبيرج (هومو هايدلبيرج)، الإنسان العامل (هومو إرجاستر)، إلخ)
أوائل إلى أواسط فترة البليستوسين
منذ 1,5 مليون-900 ألف سنة
سعة الجمجمة 883-1043سم
3 ، السيطرة على النار، نقص في حجم الأسنان، أدوات حجرية؛ إنسان جاوة، إنسان بكين.
إنسان نياندرتال (هومو نياندرتال)
أواخر فترة البليستوسين (العصر الحجري)
منذ 200-15 ألف سنة
زيادة حجم الدماغ، وجه طويل كبير، الاحتفاظ بالنتوء عند منطقة الحاجبين، نتوء الأسنان والأنف وغياب الذقن الكامل، قواطع وأنياب كبيرة، أدوات حجرية بدائية، أول من دفن الموتى عمدا، حل محله الإنسان الحديث منذ 50 ألف-30 ألف سنة.
الإنسان العاقل (هومو سيبيان)
العصر الحجري
متوسط سعة الجمجمة 1350سم
3 ، الجبين العمودي، تقوس قاع الجمجمة، صغر حجم الأسنان الماضغة. القدرة على صنع الأدوات الازمة لصنع أدوات وقبضة قوية ودقيقة حقا ناتجة عن الإبهام الطويل.
أوائل العصر القديم
400-200 ألف سنة
أواخر العصر القديم
200-100 ألف سنة
العصر الحديث
100 ألف-الحاضر *
هذه البيانات معاد تجميعها من الموسوعة البريطانية 18 (1991)، 803-854 ومجلة ساينتيفيك أمريكان 13 (2003)، مع نصائح من الدكتور هولجر شوتكوفسكي، قسم الآثار في جامعة برادفورد.
كان واضحا قبل داروين أن أصل البشرية جذوره ضاربة في العصور القديمة. مع ذلك، لا يوضح هذا أي شيء بشأن أصل الإنسان، ولكن متى عاش أجداد البشر هؤلاء؟ لم يكن لدى الباحثين أي مقاييس مطلقة للعصور على الأرض، فقط تسلسل نسبي (جدول
2-1 ). لم يكن واضحا طول المدة التي استمر فيها العصر الجليدي على الأرض. ولكن كان يوجد ترتيب تنازلي في الماضي: من العصر الحديدي إلى العصر البرونزي إلى العصر الحجري، وقبل ذلك، فترة البليستوسين، وفترة البليوسين، وفترة الميوسين. ومرة أخرى لعبت الممارسات الاستدلالية دورا رئيسيا. عندما عثر مع الحفريات البشرية على أدوات وأسلحة حجرية بدائية، استدل على أن البشر الأوائل كانوا مضطرين للتعامل مع مثل هذه الأدوات البدائية. وبالنسبة للمراحل اللاحقة، حلت الأدوات البرونزية والحديدية محل الأدوات الحجرية؛ لذا لا بد أن أشباه البشر المكتشفين مع أدوات حجرية أقدم من أشباه البشر المكتشفين مع أدوات أكثر تطورا. حدد معظم الباحثين ظهور أشباه البشر في فترة البليستوسين (العصر الجليدي). لم يكن الكتاب في ستينيات القرن التاسع عشر متأكدين بشأن مدى امتداد العصور الجيولوجية في تاريخ الأرض، لكن أصول البشر أشارت إلى أنها تتخطى الحدود التوراتية (رول 1870، 159). لم يكن تحديد عصور الأرض من خلال التأريخ بالنشاط الإشعاعي قد طور بعد. في عام 1868 قدر طومسون (على نحو خطأ) عمر الأرض بأنه لا يزيد عن مائة مليون سنة. كان داروين فقط هو من انزعج بشدة من هذا التقدير. واعتنق هكسلي ووالاس الرأي القائل بأن الجيولوجيا يجب أن تحدد عمر الأرض، وأن على علماء الأحياء وضع شجرة الحياة في المساحة المتوفرة. وبما أن تقدير طومسون كان إجماليا، فإنه لم يخبرنا بشيء بشأن العصور الجيولوجية للأرض وطول مدتها. أعلن فريدريش رول عن العثور على هيكل عظمي بشري في دلتا المسيسيبي (1852-1853)، وكان عمره يقدر بسبعة وخمسين ألف سنة.
كان للجدال بشأن عصور البشر القديمة أهمية رئيسية قبل صياغة داروين نظريته للانتقاء الطبيعي. أظهر الإثبات التجريبي لعصور البشر القديمة أمرين؛ الأول: هو أن البشر كانوا أقدم بكثير من العمر المذكور في الكتاب المقدس المقدر بستة آلاف سنة. فقد وجد أشباه البشر بالفعل خلال العصر الجليدي، كما كان يوجد أيضا دليل على هجرة الجماعات البشرية في أوروبا. ألقى كل هذا شكوكا خطيرة على مقولة كوفييه أنه لا وجود لحفريات بشرية، كما أشار أيضا إلى أن الأنواع يمكن أن تنقرض وتفسح المجال لأنواع جديدة. (في عام 2003 اكتشف على جزيرة نائية في إندونيسيا ما يعتبره البعض نوعا بشريا جديدا أطلق عليه اسم «الهوبيت».) وأصبح التشابه الهيكلي بين البشر وآباء البشر والقرود موضوعا علميا جادا. وتحدت كل هذه الاكتشافات نظرية ثبات الأنواع. أما الأمر الثاني: فهو أنه قوض فكرة التعديل التدريجي التي تستلزم ظهور أنواع معينة من الكائنات على الأرض قبل أن تظهر الكائنات الأكثر تعقيدا. فلو أن البشر عاشوا على الأرض مع حيوانات انقرضت في الوقت الراهن، فإن التعديل التدريجي لا يمكن أن يكون تفسيرا ملائما. تشير كل هذه الأمور بوضوح إلى أن ثورة داروين حدثت على خلفية الاكتشافات التجريبية المتاحة وعدد من التفسيرات النظرية المتنافسة، وقد حاولت جميعها تفسير المشاهدات والاكتشافات.
صورة لتشارلز داروين (1809-1882). (4) ثورة داروين (...) حول داروين التطور من تكهنات إلى علم عملي (...). (جولد، «نظرية التطور» (2002)، 23)
لم يكن داروين أبا نظرية التطور؛ فمحاولات استخدام التطور في تفسير تنوع الحياة تركت بالفعل بصماتها على المشهد الفكري في أوروبا. لم تكن نظرية لامارك مؤثرة ولكنها لم تدخل طي النسيان أيضا. وكان داروين على علم بمن سبقوه؛ ففي الطبعات اللاحقة من كتابه الذي صدر في عام 1859، أضاف ملخصا تاريخيا لنظريات أصل الأنواع من بدايات القرن التاسع عشر كتمهيد. وجد داروين 34 مؤلفا عبروا عن اعتقادهم في تعديل الأنواع، كما قدم داروين أيضا مشاهداته المهمة بشأن تنوع الأنواع؛ فخلال رحلته على متن السفينة «بيجل»، اكتشف أصنافا مثيرة للدهشة من العصافير وعظام الحفريات من ثدييات منقرضة كبيرة في الأرجنتين. وعندما ألف كتابه «أصل الإنسان» (1871)، استفاض في ذكر المواد التجريبية المتعلقة بعصور البشر القديمة. تمتد هذه المواد من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى سبعينيات القرن التاسع عشر. كان داروين بمنزلة كبلر علم الأحياء أكثر من كونه كوبرنيكوس علم الأحياء. قبل كبلر فرضية كوبرنيكوس لكنه رفض فكرة الحركة الدائرية المنتظمة. واستخدم البيانات التجريبية الخاصة ببراهي وبه لصياغة القوانين الرياضية لحركة الكواكب، ولكن كبلر لم يستطع أن يفسر على نحو صحيح سبب بقاء الكواكب في مداراتها. قبل داروين النظرية التطورية، لكنه رفض آلية لامارك بشأن وراثة السمات المكتسبة. بالنسبة لداروين، كانت الآلية هي الانتقاء الطبيعي؛ فهي تعمل على صلاحية السمات المتغايرة لدى الأفراد، لكن داروين لم يفهم الآلية الجينية للوراثة، التي جعلت تباين الأفراد ممكنا. إن الكتاب الذي طرح فيه داروين نظريته كان بعنوان «أصل الأنواع»، ونشر في 24 نوفمبر 1859. والعنوان الكامل للكتاب معبر تماما لأنه يعبر باختصار عن جوهر أفكار داروين: «أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، أو الحفاظ على التغايرات المواتية خلال الصراع لأجل الحياة.»
ألفريد والاس (1823-1913).
كملاحظة تاريخية بشأن الاكتشافات المتعددة، يجب أن يضاف أن داروين دفع إلى نشر عمل هذا. كان يقصد به فقط أن يكون ملخصا لعمل أوفى حول التطور سوف يكتب لاحقا. إن ما دفع داروين إلى نشر الكتاب هو ورود ورقة بحثية من شخص يدعى ألفريد والاس قدم فيها مؤلفها أفكارا حول التطور مشابهة للغاية لأفكار داروين. كان عنوان الورقة البحثية: «عن نزعة المتغايرات إلى الابتعاد إلى ما لا نهاية عن النمط الأصلي»، ونشرت في عام 1858. أثار هذا قلق داروين لأنه كان قد طور نظريته الخاصة عن التطور بالفعل في عام 1838، بعد رحلة لمدة خمس سنوات على متن السفينة «بيجل»، ولكنه لم ينشرها. لا أحد يحب أن يسبقه غيره في نشر أفكاره؛ ولذا رغم أن داروين كان أول من قدم آلية تطور قابلة للاختبار، فإن والاس وصل إلى نفس الأفكار على نحو مستقل، ولكن بعد 20 عاما. كان والاس قد نشر بالفعل في عام 1855 مقالا ربط فيه «الانقراض التدريجي وخلق الأنواع» بالتغيرات التدريجية في البيئة (والاس 1855). حتى إنه أشار إلى أن الحواجز الجيولوجية، كما هي الحال في جزر جالاباجوس، من شأنها أن تؤدي إلى ظهور أنواع مختلفة. ولكي ينأى بنفسه عن أفكار لامارك، أشار والاس إلى أنه لا يقترح نظرية ارتقاء ولكن نظرية للتغير التدريجي. قدمت هذه الورقة الأولى نظرية للتطور، ولكنها لم تقدم أي آلية تدفع التطور. كانت ورقته البحثية في 1858 هي التي كررت كثيرا من أفكار داروين العزيزة. أصر والاس في هذه الورقة البحثية اللاحقة على أهمية الصراع من أجل الحياة بوصفه «مؤشرا قويا على الزيادة الكبيرة للأنواع.» وأشار إلى أن وفرة الأنواع أو ندرتها إنما تعتمد على مدى «التكيف المثالي مع ظروف الحياة.» تواجه الأنواع تحديا ثلاثيا: الإمدادات الغذائية، والأعداء الطبيعيين، والظروف المناخية. وفي هذا الصراع، التعديلات المفيدة تميل إلى زيادة عدد الأفراد الذين يملكونها، بينما التعديلات عديمة الفائدة سوف تميل إلى تقليل أعدادهم. إذا كان ثمة فرق بين داروين ووالاس فإنه يكمن في موضع التركيز. أشار والاس صراحة إلى أنه لا يمكن القيام باستدلال مفيد من الحيوانات المستأنسة إلى الحيوانات البرية، بينما كان الاستدلال من الانتقاء المصطنع إلى الانتقاء الطبيعي واحدا من أهم استدلالات داروين. كذلك كان والاس أكثر اهتماما بالأنواع من الأفراد، بينما شغل الأفراد ذهن داروين. وأخيرا، استبعد والاس البشر من تأثير الانتقاء الطبيعي. (4-1) النظرة الداروينية للحياة
كان المفتاح الأساسي لاكتشاف الانتقاء الطبيعي هو إدراك أن المجموعات البيولوجية قد تشكل جماعات أو وحدات تفاعل داخل الطبيعة. (جيسيلين، «انتصار المنهج الدارويني» (1969)، 56)
ثمة فكرة فظة وخاطئة للغاية بشأن نظرية التطور تقضي بأن التطور يعني البقاء للأصلح. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن داروين لم يستخدم في الطبعة الأولى من كتاب «أصل الأنواع» مصطلحي «التطور» ولا «البقاء للأصلح». كان الفيلسوف هربرت سبنسر هو من ربط التطور بالبقاء للأصلح. كان لداروين معارضون نافذون من مصلحتهم ربط التطور بشكل من أشكال التقدم الحتمي نحو صورة حياة أسمى. وهذا سوء فهم للداروينية، فلا يوجد أي تقدم حتمي، لكن التقدم الحتمي كان قاعدة يقينية قبل داروين. كان يقينا خاصا بالغائية. كان عقيدة التصميم. وهذه العقيدة هي التي هاجمها داروين، ومع ذلك، من النادر لثورة علمية أن تقضي تماما على الأفكار الراسخة بضربة واحدة. حتى الأفكار الثورية لا تؤدي إلى تغير حماسي، تحول جشطالتي مفاجئ. إليك على سبيل المثال واحدا من المدافعين عن جورج كوفييه وألكسندر فون همبولت: لويس أجاسيز (1807-1873). ولد أجاسيز في سويسرا ولكنه هاجر إلى بوسطن في 1846. وكأستاذ لعلم الحيوان في جامعة هارفرد، كان له تأثير هائل على التفكير البيولوجي في أمريكا وسمعة عالمية كباحث. كان يعتبر فون همبولت أمريكا، كما نشر دراسات مهمة عن الأنهار الجليدية وكان أحد مكتشفي العصر الجليدي. كان أجاسيز أيضا معارضا لدودا لنظرية التحدر.
أصر على أن الأنواع كانت «فئات فكرية تجسدت في صور حية فردية»، ويمثل التاريخ الطبيعي جوهريا «تحليل أفكار خالق الكون، كما تتجلى في المملكة الحيوانية والنباتية.»
3
صورة لويس أجاسيز (1807-1873).
كان أجاسيز حريصا على هدم فرضية «النشوء» التي رآها غير متوافقة مع «الحقائق العظيمة للأخلاق والدين السماوي.» واحتفى بنشر كتاب هيو ميلر «آثار الخالق» (1849، 1861). وأشاد به «لمزيجه الناجح من المذاهب المسيحية والحقائق العلمية البحتة» (ميلر 1861، 1-35، إليجارد 1958، 336-337). أراد أجاسيز إعادة التصميم في مقابل مفهوم داروين الميكانيكي للطبيعة. لم يجد معاصرو داروين فكرة الانتقاء الطبيعي مقنعة، حتى إن أفكار لامارك بشأن وراثة السمات المكتسبة ظهرت من جديد. بل إن داروين ذاته راودته الشكوك؛ ففي كتاب «أصل الإنسان» (1871) أعرب عن بعض الأسف على رفضه التام السابق لأفكار لامارك بشأن الوراثة فوق الجينية. كان من الواضح أنه صدم بسبب غياب الحماس حيال مبدأ الانتقاء الطبيعي.
لماذا تجنب داروين مصطلح «التطور»؟ كما رأينا بالفعل، كان لهذا المصطلح ارتباط قوي بالتعديل التدريجي للامارك؛ وهو يعني تقدم النمو من حالة بدائية إلى حالة ناضجة أو كاملة. وكان لهذا المصطلح أيضا معنى تقني آخر في علم الأجنة. كان ألبرشت فون هالر - أستاذ الطب وعلم النبات - يعلم في منتصف القرن الثامن عشر أن الأجنة تنمو من إنسان ضئيل مشكل موجود في البويضة أو الحيوان المنوي.
يتحدث داروين عن تحدر السلالة مع التعديل. والقوة الدافعة لتحدر السلالة مع التعديل هي الانتقاء الطبيعي، وكان يقصد بهذا الحفاظ على التغايرات المواتية في الكائنات الفردية. إذا كانت التغايرات مواتية للبقاء على قيد الحياة في بيئة معينة، فإنه توجد نزعة للحفاظ عليها. لاحظ داروين أن سبنسر أعرب عن فكرة الحفاظ على التغايرات المواتية بمصطلح «البقاء للأصلح»، ولكنه دافع عن استخدام مصطلحه الخاص، رغم أنه يبدو متضمنا لاختيار واع، لأنه يجمع بين إنتاج الأعراق المستأنسة بواسطة قدرة البشر على الانتقاء، والمحافظة الطبيعية على النسخ والأنواع في حالة الطبيعة (انظر كرومبي 1994، المجلد الثالث، 1751).
لم يفكر داروين أن تطور الحياة العضوية يمكن أن يصور على أنه تطور ضروري من الأشكال «الدنيا» إلى الأشكال «الأسمى». كان التطور يعني بالنسبة لداروين تكيف الكائنات على نحو أفضل مع بيئتها الطبيعية وحسب. وخلال هذه العملية يمكن أن يحدث تطور إلى أشكال أكثر تعقيدا؛ فهناك ديدان وهناك الومبت (أو السحمور). يمكن تفسير ذلك من خلال عملية الانتقاء الطبيعي. أو هكذا أمل داروين. لا يتبع التطور أي خطط، وهو ليس موجها نحو هدف. مع ذلك، فإنه لا يحدث عن طريق الصدفة العمياء، بل يجب أن يحافظ على السمات المواتية. وهو يعمل عن طريق الانتقاء التراكمي. ووفق عبارة فرنسوا جاكوب اللبقة، التطور كالعامل الحرفي، وليس مهندسا موهوبا.
4
وعلى نحو متوقع، واجه الداروينيون أكبر تحد لهم عندما طبقوا فكرة الانتقاء الطبيعي على نشأة البشر؛ الكائنات المالكة لأعلى أشكال الوعي. وكما سنرى، كان الاعتراض هو أن الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يفسر الوظائف العقلية الأعلى لدى البشر. لم يتحد الداروينيون قط المكانة العليا للبشر في تدرج الحياة العضوية. ولكن ما يصنع الفارق الجوهري هو هل كان هذا مفهوما بمعنى مكاني، كما في «سلسلة الوجود العظمى»، أم بمعنى زمني كما في نظرية التطور (ويندورف 1985، 403)؛ ومن ثم فإن نظرية التطور لها انعكاسات كبيرة على فلسفة العقل: كيف نفسر ظهور الوظائف العقلية العليا الخاصة بالأنشطة العصبية في المخ؟ (أ) مبادئ التطور
يتواصل التطور وكأنه عامل حرفي يعيد تغيير شكل أعماله على مدار ملايين السنين (...). (جاكوب، «لعبة الإمكانات» (1981)، 66، ترجمه المؤلف)
قبل تناول داروين لأصل الإنسان، تعامل أولا مع أصل الأنواع. إن عنوان كتاب داروين «أصل الأنواع» مضلل؛ فليس مقصد الكتاب تفسير أصل الحياة في فجر التاريخ ولكن تفسير كيفية ظهور الأنواع الجديدة. حاولت نظرية داروين تقديم تفسير طبيعي لبقاء الكائنات العضوية وما مرت به من تعديلات في الماضي القريب وفي الحاضر. فبدلا من الإشارة - على غرار لامارك - إلى أن سلسلة الأنواع تميل نحو نوع من الكمال وتبلغ ذروتها في ظهور الجنس البشري، كانت فكرة داروين أن التغير العضوي يؤدي إلى تكيف محلي استجابة للبيئة المتغيرة. تؤدي الاستجابات التكيفية للظروف البيئية المتغيرة إلى التنوع ، وقد تؤدي هذه العملية إلى تطور ضمن السلالة (التخلق التجددي) أو إلى تقسيم السلالة (التخلق التفرعي). وتصبح بعض الكائنات أكثر تعقيدا من غيرها. زادت سعة الجمجمة البشرية كثيرا مع تطور الإنسان من «الإنسان الماهر» إلى «الإنسان العاقل»، ولكن ليس حتميا أن يكون هذا انتقالا نحو الكمال. فربما يفقد كائن حي وظيفة البصر لو كان يتكيف مع ظروف المعيشة في الكهوف المظلمة؛ لذلك ليس الأصلح هو الأفضل بالمعنى المطلق. إنما تكتسب الكائنات ببساطة تكيفا أنسب مع البيئة المحلية. يستشهد علماء الأحياء بالعديد من أمثلة تعديل أجزاء الجسم: من فقدان الآذان الداخلية والخارجية إلى فقدان الأطراف الأمامية لدى الثعابين، ومن تبسيط العيون لدى الثعابين (فقدان الجفون) إلى فقدان البصر لدى أسماك الكهف (راف 1996، 207-209؛ جولد 2002، 203-204، 218-219).
لفهم الأفكار الرئيسية للتطور، تأمل ثلاثة مستويات: مستوى الأنواع، ومستوى الكائنات الفردية، ومستوى الجينات.
على مستوى الأنواع، قدم لامارك وجهة نظر «خطية» متدرجة للتطور. تولد الطبيعة سلسلة من أشكال الحياة متزايدة التعقيد، وتنتهي السلسلة بالبشر، ذروة الخليقة. رد الداروينيون بوجهة نظر «متفرعة» للتطور. يحتاج البقاء على قيد الحياة إلى دفع الكائنات إلى أنماط حياتية معينة. وهذه الأنماط الحياتية تفرض قيودا على الكائنات على المستوى المورفولوجي والبنيوي. وتوفر الاستجابات التكيفية درع الحياة الواقي النابض بالحيوية.
كان تركيز والاس منصبا على نمو وتضاؤل الأنواع. وهذا ألهمه بالفعل في عام 1855 بصياغة صورة مجازية جديدة: شجرة الحياة العضوية المتفرعة. من منظور عين الطائر، يعني تطور الأنواع التكيف المحلي مع الظروف البيئية المتغيرة. وتكون النتيجة تنوعا كبيرا في الأنواع. تحمل شجرة الحياة العديد من الفروع والأغصان. صور تي إتش هكسلي - الرائد الأول لنشر العلم بين العامة - جوهر التغيير في صورة مجازية:
بدلا من تخيل الكائنات الحية على أنها مرتبة مثل درجات السلم، تجبرنا الدراسات الحديثة على ترتيبها كما لو كانت أغصان وفروع شجرة. تمثل نهاية الأغصان الأفراد، وتمثل أصغر المجموعات الأنواع، وتمثل المجموعات الأكبر الأجناس، ويمثل الفرع الرئيسي مخطط بنية مشترك. (هكسلي 1888، 300)
كلما زاد تنوع الأنواع، زاد استغلالها لما يقدمه النمط الحياتي المحلي من حيث الموارد؛ إذ تعمل البيئة بمنزلة قيد. يمثل دب الكوالا شكلا متطرفا من أشكال التنوع؛ إذ إنه يعتمد فقط على مصدر غذائي واحد. وتسمى دراسة تنوع الأنواع تلك باسم «التطور الكبروي». يمتلك التطور على هذا المستوى اثنتين من الخصائص الأساسية؛ أولاهما هي الانتواع: بمعنى انقسام السلالة وتطور أنواع جديدة.
5
والثانية هي التباين المورفولوجي في السلالات: بمعنى تغيير الأنواع لمظهرها وبنيتها الداخلية حتى تصبح غير قادرة على التهاجن. وهذه هي العملية التي أطلق عليها داروين اسم «تحدر السلالة مع التعديل»، وهي موضوع مخطط الشجرة الوحيد الوارد في كتاب «أصل الأنواع». واتباعا لهذا السبيل، قدم أحد أنصار داروين، الألماني إرنست هيكل، أشجار الأنساب، لتمثيل تحدر السلالة مع التعديل (شكل
2-6 ).
شكل 2-6: شجرة أنساب الحياة. المصدر: إي هيكل، «الكلمات الأخيرة في التطور» (لندن 1910)، 32.
ولكن لنترك منظور عين الطائر ونهبط إلى «مستوى الكائن الفردي». كيف يبدو التطور من هذا المنظور؟ على هذا المستوى، يحتدم الصراع من أجل الحياة. ولتفسير هذا الصراع من أجل الحياة، يقدم داروين بعض المبادئ التفسيرية؛ في البداية، يولد عدد كبير من الأفراد، أكثر ممن يمكنه البقاء على قيد الحياة.
6
وهي تختلف عن الآباء اختلافات طفيفة. هذا هو «مبدأ الوراثة، وتباين الصفات». فبين الذرية سوف يولد بعض الأفراد وهم يمتلكون تغايرات مواتية، والبعض الآخر تغايرات ضارة. لا يمكن لأي بيئة معينة أن تدعم سوى عدد محدود من الأفراد من نوع معين. وهذا له تأثير ينتج عنه استمرار الصراع من أجل البقاء. في أي بيئة، يمتلك الأفراد ذوو الأفضلية الطفيفة مقارنة بالآخرين فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة والمشاركة في إنجاب نوعهم. ويكون الأفراد ذوو التغايرات الأقل ضررا أكثر احتمالا للموت. هذا هو «مبدأ الانتقاء الطبيعي»: الحفاظ على التغايرات المواتية ورفض التغايرات الضارة. تتبع معظم التغيرات الصراع من أجل الحياة: ليس فقط بقاء الفرد على قيد الحياة ولكن أيضا النجاح في ترك ذرية. «لا يمكنك الحصول على تعقيد تكيفي من دون الانتقاء الطبيعي» (روس 2003، 333).
لقد نزلنا حتى الآن من تطور الأنواع إلى بقاء الأفراد على قيد الحياة. إذا كان صحيحا أن بعض الأفراد يولدون بسمات مواتية وآخرين يولدون بسمات غير مواتية، فمن الطبيعي أن نسأل: «ما الذي يسبب هذه التغايرات في الأفراد؟» الجواب الحديث هو: الطفرات الوراثية العشوائية. وهذا يسمح بتحديد مستوى ثالث؛ «مستوى الجينات».
تمثل هذه المستويات الثلاثة وحدات التطور والانتقاء والتغايرات. (شكل
2-7 ):
الأنواع هي وحدة التطور.
الكائنات الفردية هي وحدة الانتقاء.
الجينات هي وحدة التغايرات.
لم يقدم داروين سوى تكهنات فحسب بشأن وحدة التغايرات. وكثيرا ما تحدث عن «جهلنا» بسبب كل تغاير معين (في الأفراد). لم يكن داروين يمتلك أدنى معرفة بقوانين مندل، لكنه شك في أن «الاضطرابات في الجهاز التناسلي» - على حد تعبيره - تسهم على نحو رئيسي في حالات التغايرات أو الاختلافات في النسل (داروين عام 1859، 173).
وفقا لداروين، عملية التطور عملية شديدة البطء تؤدي إلى تعديلات طفيفة غير محسوسة. وهذا غالبا ما يسمى «التدرج» (يناقش جولد (2002) وينتقد التزام داروين بالتدرج).
لا أستطيع أن أرى أي صعوبة في إنتاج الانتقاء الطبيعي للبنية الأكثر إتقانا، إذا كان يمكن الوصول لهذه البنية من خلال «التدرج». (داروين 1859، 435، 153)
شكل 2-7: تمثل هذه المستويات الثلاثة وحدات التطور والانتقاء والتغايرات.
يستطيع الانتقاء الطبيعي أيضا منع التعديل البطيء للأنواع على مدى آلاف الأجيال. يقضي الانتقاء الطبيعي على «المنحرفين عن التطور المثالي الحالي» لسمات الكائنات الحية. على سبيل المثال، اكتشف هيرمان بامبوس في عام 1899 أن العصافير التي اختلف متوسط أطوال أجنحتها عن الطبيعي قتل منها في إحدى العواصف أعداد أكبر من تلك التي تمتلك أجنحة عادية. ويطلق على ميزة وجود سمة عادية (طول الجناح، اللون) «تطبيع» أو «انتقاء تثبيتي» (ويليامز 1996، 32-34). (4-2) أصل الإنسان
الإنسان أكثر شبها بالغوريلا من شبه الغوريلا بالليمور. (هكسلي، «المقالات المجمعة»، الجزء الثاني: الداروينية (1907)، المقالة الثانية، 61)
ذكرنا سابقا اكتشاف حفريات بشرية. وكان ذلك مرتبطا بمسألة البشر في العصور القديمة. استبدل عمل داروين آلية الانتقاء الطبيعي بالحاجة القديمة للغائية. ثمة عبارة واحدة فقط في كتاب «أصل الأنواع» ذكر فيها داروين البشر: «سوف يلقى الضوء على أصل الإنسان وتاريخه » (داروين 1859، 458). بعد اثني عشر عاما من نشر كتاب «أصل الأنواع» تناول داروين أخيرا مسألة أصل البشر في كتاب بعنوان «أصل الإنسان» (1871)، ولكن لم ينتظر معاصرو داروين كل هذا الوقت؛ فبمجرد أن نشر داروين فكرته الأصلية، التي قرنت فكرة التطور بآلية الانتقاء الطبيعي، أسرع معاصروه لاستخلاص استنتاجات بشأن أصل البشر؛ فخلال ستينيات القرن التاسع عشر قدمت مجموعة من الكتب المهمة ما اشتهر في أوساط الصحافة الشعبية بأنه نظرية القرود. وشهد عام 1863 نشر كتاب توماس إس هكسلي «الأدلة على مكانة الإنسان في الطبيعة» وكتاب تشارلز لايل «الأدلة الجيولوجية على عصور البشر القديمة». وتلاه كتاب إدوارد تايلر «أبحاث تاريخ البشرية القديم وتطور الحضارة» (1865)، وبعد ذلك كتابه «البيئة البدائية» (1871) وكتاب «علم الإنسان» (1881). وفي القارة الأوروبية، نشر فريدريش رول «الإنسان، أصله وحضارته في ضوء نظرية داروين» (1865، 1870
2 ). قدم الكتاب سلسلة من اكتشافات الحفريات البشرية ودافع عن الرؤية الكونية الداروينية بشأن تحدر الجنس البشري من أشكال سابقة شبيهة بالإنسان. نشر كارل فوجت كتابه «محاضرات عن الإنسان» (1863)، الذي ترجم في عام (1864). أوضح فوجت أصل الأجناس من خلال ربط أصلها بأسلاف مختلفين من أشباه البشر. رفض معظم الداروينيين نظريته متعددة الجينات تلك؛ فكانوا يرون أن جميع الأجناس تنحدر من السلف المشترك نفسه (براون 2003، «ساينتيفيك أمريكان» 289، 2003، 50-57؛ ميناند، 2001). نشر إرنست هيكل كتابه المكون من مجلدين «التشكل العام للكائنات» (1866)، تلاه كتاب «التاريخ الطبيعي للخلق» (1868). كان هيكل واحدا من أكثر المدافعين عن الداروينية إصرارا وحماسا. فجمع الفطنة العلمية مع الرؤية الفلسفية، وحول الداروينية إلى رؤية كونية. كان المهم بشأن هذا الطوفان من الأعمال المنشورة عن مسألة أصل الإنسان هو استنادها جميعا إلى النظرية الداروينية. وكما لاحظنا بالفعل، فإن التشكيك في التسلسل الزمني التوراتي لم يشكل خطرا حقيقيا على الرؤية الكونية التقليدية. فلم تكن الستة آلاف سنة مهمة، حرفيا. فربما تكون مقياسا زمنيا مجازيا. بل كان المهم هو الفرضيات الأساسية الموروثة من «سلسلة الوجود العظمى» وحجة التصميم. كان البشر مختلفين بوضوح عن الحيوانات الأخرى؛ فلا يمكن أن يكون لأصلهم الجذور نفسها، ولكن نظرية داروين عن الأصول فتحت فضاء مفاهيميا يمكن أن تربط فيه مسألة أصل الإنسان بآلية الانتقاء الطبيعي.
جوليا بسترانا - «المرأة الغوريلا» - كانت من غرائب ستينيات القرن التاسع عشر. لم يعتبرها داروين دليلا على تحدر البشر من القرود.
كانت مسألة أصل الإنسان حساسة للغاية، حيث كان العرف القديم يقضي بتفرد البشر. لم ترتبط هذه الفرضية بنموذج غير تطوري، بل كانت قائمة على الغائية. كان بالفعل من الصعب تصور أن المخ البشري تطور بالطريقة نفسها مثل «الأعضاء» الأخرى. بدا أن العقل البشري وظاهرة الوعي بعيدين تماما عن متناول التفسيرات الطبيعية. وتماما كما بدا طبيعيا للإغريق أن ينسبوا موضعا فريدا للأرض، بدا طبيعيا لمعظم علماء الأحياء قبل الداروينية أن ينسبوا مكانة فريدة للبشر في قصة الخلق. كان يوجد عزوف كبير عن قبول وجود ارتباط متواصل بين جميع الكائنات. انشغل المفكرون قبل الداروينية بإنقاذ الظواهر بقدر انشغال علماء الفلك الإغريق به، وقد تطلب الأمر تغييرا في المنظور لكسر هذا السحر. أخبر كوبرنيكوس معاصريه المرتابين بالتفكر في حركة الكواكب والنجوم من منظور أرض متحركة، لا أرض ثابتة. ومن منظور تطوري، أوصى الداروينيون باعتبار المخ البشري عضوا طبيعيا، كمقر للعقل البشري.
7
لا تنظر إلى الذكاء البشري من منظور إلهي، تصوره على أنه نتاج للتطور.
من الطبيعي الاعتراض بأن العقل البشري أسمى بكثير من أي «عضو» آخر، ومن ثم لا يمكن أن يكون نتيجة للتطور؛ فهو لم يتكيف بنفس طريقة تكيف «الأعضاء» أو «الكائنات الحية» الأخرى. عاتب والاس قراءه بقوله: قارن فحسب اليد البشرية والعقل البشري. اعتنق والاس وجهة نظر ثنائية، تذكرنا بتيكو براهي. لم يستطع براهي تقبل فقدان المركزية المادية للأرض، الذي ينتج عن الكوبرنيكية؛ فأبقى الأرض في موضعها الأرسطي المركزي وجعل القمر والشمس يدوران حول الأرض المركزية، ومع ذلك، تدور الكواكب الأخرى في مدارات حول الشمس. أخضع والاس الجسم البشري إلى آليات المبادئ التطورية، لكنه اشترط لخلق العقل البشري مصدرا إلهيا. أراد الداروينيون التخلي عن هذا الرأي الثنائي بقدر رفض الكوبرنيكيين للكون ذي الفلكين. فإذا كان لا بد أن يتتبع البشر أثر أصلهم إلى أشكال الحياة الحيوانية البدائية، فإن ظهور المخاخ والعقول يجب أن يذعن للتفسيرات التطورية. كان هذا مرة أخرى مسألة استدلال.
كان من الأسهل بالطبع البدء بالجسد البشري، وهذا هو المكان الذي بدأ منه الداروينيون. كان جيل سابق قد استنتج بالفعل أن الإنسان موجود على الأرض منذ زمن بعيد. كان التحدي الآن هو إيجاد رابط بين الهياكل الجسدية للإنسان والقردة الشبيهة بالإنسان. بمجرد إيجاد هذا الرابط، يمكن محاولة إيجاد تفسير يعامل العقل البشري على أنه نتاج للمخ البشري. وهكذا انتقل الداروينيون من علم الأحياء إلى الفلسفة، من التطور إلى فلسفة العقل.
كانت الاستراتيجية العامة هي التأكيد على الرابط المتواصل بين عالمي الحيوان والبشر. في ذلك الوقت لم تكن توجد دراسات جينية متاحة تعلمنا أن البشر والشمبانزي يتشاركون 95 بالمائة من المادة الجينية. وبالنسبة للداروينيين، حمل علم الأجنة والتشريح وعلم الحفريات الرسالة نفسها. فكشفت دراسة أجنة الأنواع المختلفة أنه على الأقل خلال المرحلة الأولى من تطور الأجنة يكاد يكون من المستحيل التمييز بين البشر والدجاج (شكل
2-3 ). وأوضح التشريح للداروينيين أوجه التشابه في البنية الجسدية بين البشر والرئيسيات الأخرى؛ فمن الرأس إلى أخمص القدمين، أظهرت الهياكل العظمية للبشر والقردة تشابها مثيرا للدهشة. فأنماط تلافيف مخاخ البشر والقردة الشبيهة بالإنسان هي نفسها، وكذلك ترتيب العضلات في القدم (شكل
2-8 ). وترتيب أعضاء البطن مشابه، كما يوجد تشابه وثيق في الأسنان الطاحنة.
شكل 2-8: مقارنة بين القدم واليد لدى الإنسان والشمبانزي. (المصدر: تايلر، «علم الإنسان» (1881)، صفحة 42).
صورة لتوماس هكسلي (1825-1895).
كانت الدراسات التي تتناول مسألة إنسان العصور القديمة قد كشفت بالفعل عن حفريات مثل إنسان نياندرتال، الذي يختلف في الشكل عن الإنسان الحديث. تضع الداروينية الآن تركيزا شديدا على الروايات التاريخية. فوفقا للنظرية التطورية لداروين، بما أن الكائنات الحية ترتبط من ناحية الأصل، فليس من المبالغة أن نستنتج من التشابه التشريحي وجود أصل مشترك . لقد كشفت دراسة الحياة في الماضي الجيولوجي عن حدوث التحدر مع التعديل. في كتاب «الأدلة على مكانة الإنسان في الطبيعة » (1863)، أثبت هكسلي هذه النقطة بوضوح عندما بين العلاقة التشريحية بين مختلف الرئيسيات. قارن صور الهياكل العظمية لقرد جيبون وإنسان الغاب والشمبانزي والغوريلا والإنسان (شكل
2-9 ). كان هدف مثل هذه الدراسات التفصيلية هو العثور على أدلة تدعم نظرية التحدر. وكانت أيضا وسيلة لدحض سيناريو الخلق. زعمت نظرية التحدر أنها تستطيع تفسير هذه الظواهر بمبدأ تفسيري واحد؛ فقد جلب مبدأ الانتقاء الطبيعي التوحيد. كان الداروينيون حريصين على التأكيد على أن قدرة الدماغ البشري لم تكن تختلف كثيرا عن الحيوانات. كان الاختلاف في الدرجة وليس في النوع. وفي نهاية القرن التاسع عشر تناول العديد من الكتب مسألة ذكاء الحيوان. نشر لودر ليندساي كتاب «العقل عند الحيوانات الدنيا» (1879)، ونشر جورج رومانز كتابه «التطور العقلي لدى الحيوانات» (1883)، وعرض آر سي لويد مورجان وجهات نظره في كتاب «الحياة الحيوانية والذكاء الحيواني» (1890-1891). وفتحت مجلة نيتشر صفحاتها أمام الحكايات المسلية التي تتناول ذكاء الحيوانات (نيتشر 29 (1883-1884)، 336؛ انظر المربع 2-2).
شكل 2-9: العلاقة التشريحية بين قرد جيبون وإنسان الغاب والشمبانزي والغوريلا والإنسان وفقا لتي إتش هكسلي (المصدر: تايلر، «علم الإنسان» (1881)، صفحة 39).
كانت إحدى التهم المتكررة من جانب الداروينيين أن نظرية الخلق تتطلب حدوث عمليات خلق خاص متعددة لتفسير تنوع الحياة. وأعرب داروين عن رأيه في هذا قائلا: «أنا لا أؤمن بعمليات خلق لا حصر لها.» تمتلك الكائنات الحية العديد من السمات بعضها ليس تكيفات ولا تعزز البقاء على قيد الحياة على نحو مباشر. وافترض داروين نوعا آخر من الانتقاء - الانتقاء الجنسي - لا يعتمد على الصراع من أجل البقاء ولكن على الصراع من أجل حيازة الإناث (داروين 1859، 136؛ داروين 1871، الفصل الثامن). وأوضح مصدر السمات التي بدت غير ذات أهمية أو ضارة في الصراع من أجل الوجود - قرون الغزلان، وريش الطاووس - كأدوات لزيادة النجاح في التزاوج:
عندما يكون لذكور وإناث الحيوانات عادات الحياة العامة نفسها، ولكن يختلف الجنسان في البنية الجسدية أو اللون أو الزخارف الجسدية ، فإن هذه الاختلافات يسببها على نحو رئيسي الانتقاء الجنسي. (داروين 1859، 137؛ جولد 1987، 46)
مربع 2-2: الذكاء الحيواني
قدم شخص ما يدعى إف جيه فاراداي من مانشستر الحكايات التالية لقراء مجلة نيتشر دليلا على الذكاء الحيواني:
ثمة سمكة كانت غير قادرة على الحصول على قطعة من الطعام تقبع في الزاوية التي شكلها الزجاج الجانبي وزجاج قاع الحوض. رفعت نفسها بوضعية مائلة، بحيث يكون رأسها مائلا لأعلى والسطح السفلي لجسمها نحو الطعام. ثم من خلال تحريك زعانفها صنعت تيارا في الماء رفع الطعام مباشرة إلى فمها.
ألقيت كعكة في بركة، وسقطت في زاوية بعيدة عن متناول دب. بدأ الحيوان عند ذلك تحريك المياه بكف يده، بحيث أنشأ تيارا دورانيا أدى في النهاية إلى تحريك الكعكة حتى متناوله.
على الرغم من أن داروين كان يعتقد أن الانتقاء الجنسي عملية منفصلة عن الانتقاء الطبيعي، فإن كثيرا من علماء الأحياء الحديثة يعتبرونه فئة خاصة من الانتقاء الخاص بالمكانة الاجتماعية، وهو نوع من الانتقاء الطبيعي (وليامز 1996، 28-31). كذلك آمن داروين أيضا بأن الانتقاء الطبيعي هو الوسيلة الرئيسية وليس الوحيدة للتعديل (داروين 1859، 69). وتظهر هذه الملاحظة أهميتها الحقيقية في التفسيرات الداروينية للمسائل العقلية.
وهكذا نرى أن الداروينيين انخرطوا في الوقت نفسه في العلم والفلسفة، في مسائل علم الأحياء ومسائل الفلسفة. فليس كافيا للعالم أن يجمع البيانات التجريبية، بل يجب أن توضع هذه البيانات في نظام متسق. وكما كان الداروينيون يدركون تماما، واجهت نظريتهم التطورية للحياة منافسة. لم تهيمن نظرية لامارك الخطية للتطور مع إصرارها على وراثة السمات المكتسبة. صحيح أنها رفضت ثبات الأنواع، ولكنها التزمت بالغائية، وهو ما تشاركت فيه مع سيناريوهات الخلق. رفضت نظريات الخلق فكرة تنوع الأنواع. ورغم أن فكرة التطور أصبحت مقبولة على نحو عام، فقد ظل مبدأ داروين للانتقاء الطبيعي خلافيا. في عام 1859، دخل كتاب داروين مشهدا مفاهيميا دعم عدة تصورات متنافسة لأصل الأنواع، كانت كلها تستند على أساس تجريبي واه نوعا ما. واحتاجت الداروينية دعما تجريبيا وفلسفيا على حد سواء. لننتقل إلى المسائل الفلسفية لتوضيح أن الداروينية ورثت عن المنهج الفلسفي بعض الفرضيات. وهذا أكسبها اتهامات بعدم احترام الأساليب العلمية الراسخة؛ اتهامات بالمادية واللاأخلاقية. (5) مسائل فلسفية
كل العلم الحقيقي هو فلسفة، وكل الفلسفة الحقيقية هي علم. وبهذا المعنى فإن كل العلم الحقيقي هو فلسفة طبيعية. (لامارك، «فلسفة علم الحيوان» (1963)، الفصل الثاني، 33؛ ترجمة المؤلف)
قال أينشتاين ذات مرة: إن العلم من دون فلسفة يكون مشوشا، والفلسفة دون علم تكون نظاما فارغا. قد تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى غريبة. تعودنا على التفكير في العلم والفلسفة كمجالين منفصلين. صحيح أن معظم ما نسميه علما اليوم كان يطلق عليه يوما ما فلسفة طبيعية؛ فقد صار مصطلح «العلم» يستخدم استخدامه الحالي في وقت ثورة داروين تقريبا. ومنذ ذلك الحين أدى التخصص المتزايد في جميع مجالات المعرفة إلى إقامة الحدود بين التخصصات. سعى الفلاسفة، وخاصة في الآونة الأخيرة، إلى التقارب مع العلوم وأنشئوا تخصصات مثل فلسفة العلوم وفلسفة الفيزياء وفلسفة البيولوجيا، ولكن الحقيقة هي أن العلماء كثيرا ما كانوا مهتمين بالفلسفة، وهذا ينطبق خصوصا على العلماء العظام الذين دفعتهم ابتكاراتهم إلى تأمل الآثار الفلسفية للاكتشافات العلمية. كان يوجد الكثير منهم حتى إننا قد نشك، ولنا الحق في ذلك، في أن «ولع» العالم الفلسفي أكثر من مجرد هواية. لا بد أنه يوجد بعد ما في النشاط العلمي ذاته يغري العلماء بالتفكير فلسفيا. والجواب العام - الذي ورد في الفصول الثلاثة لهذا الكتاب - هو أن العلوم لا تعمل مع تقنيات رياضية متخصصة وحسب، ولكنها تلتجئ أيضا إلى مفاهيم أساسية تماما، تساعد على بناء نظرية متسقة متماسكة لعالم خاص من الظواهر. ربما تتخذ هذه المفاهيم شكل افتراضات غير معلنة بشأن طبيعة الواقع أو طبيعة النظريات، ولكن في كثير من الأحيان يجعل العلماء فرضياتهم الفلسفية علنية. علاوة على ذلك، تكون هذه الفرضيات عامة للغاية لدرجة إمكانية تطبيقها على العديد من التخصصات؛ ولذلك من الممكن أن تجد مسائل فلسفية مثل الفرصة والضرورة، والمادية والآلية، والكينونة والصيرورة، والزمن والمكان في مناقشات علماء الفيزياء والأحياء والاجتماع على حد سواء. عادة ما تكون هذه المسائل أيضا مثار اهتمام كبير لدى الفيلسوف. وفي محاولة لتوضيح هذه المفاهيم الأساسية، يتلاقى الفيلسوف والعالم على أرضية مشتركة. وكما سنرى في الأجزاء التالية، وضعت فرضيات فلسفية أساسية في عالم التفكير التطوري. كان من نتائج نظرية داروين الجديدة للحياة العضوية أن هذه الفرضيات الفلسفية وقعت في بعض الأحيان من التجريد الفلسفي الواهي على أرض العلم التجريبي الصلبة. تؤدي الثورة في الفكر في كثير من الأحيان إلى التشكيك في الفرضيات الفلسفية، وهذا ما قصده أينشتاين. يتشوش العلم إذا ظل غامضا حيال التزاماته الفلسفية تجاه الواقعية والمنهج العلمي. وتحتاج الفلسفة من العلم أن يلقي مرساة تجعلها على اتصال دائم بالعالم الحقيقي؛ فالفلسفة تحتاج إلى تبني نتائج العلم لكيلا تشيد بناءها على أساس واه (فاينرت 2004). (5-1) فرضيات فلسفية: وجهة النظر الميكانيكية والحتمية والمادية
من جانبي أود أن أكون من نسل هذا القرد الصغير البطل، الذي تحدى عدوه اللعين من أجل إنقاذ حياة حارسه، أو من هذا البابون العجوز، الذي حمل رفيقه الشاب أثناء هبوطه من الجبال بانتصار وسط حشد من الكلاب المشدوهة؛ أفضل من أن أكون من نسل وحش يسعد بتعذيب أعدائه، ويقدم ذبائح دموية، ويئد دون ندم، ويعامل زوجاته كالعبيد، ولا يعرف أخلاقا، ويكون مسكونا بأفظع الخرافات. (داروين، «أصل الإنسان» (1871)، الجزء الثاني، الفصل الحادي والعشرون، 404-405)
رأينا أن نظرية التطور لداروين دخلت حيزا تجريبيا أخبرتنا فيه الحفريات قصة منقحة عن عصور البشر القديمة. لتوضيح عصور البشر القديمة والأصل المشترك، اعتمد الباحثون على أدلة من علم الأجنة والتشريح المقارن وعلم الحفريات. أضاف داروين خلال رحلته على متن السفينة «بيجل» قدرا كبيرا من المشاهدات المتعلقة بالتوزيع الجيولوجي وتنوع الأنواع. كانت المواد الواقعية لا تزال ضعيفة بما فيه الكفاية للسماح بتعايش عدة مخططات مفاهيمية في الوقت نفسه؛ فقد كانت سيناريوهات الخلق التي تؤمن بثبات الأنواع لا تزال موجودة (كوفييه، أجاسيز).
مربع 2-3: لغز الطفرات الوراثية
تتمثل إحدى الأفكار الرئيسية للداروينية، كما أشار إرنست ماير مرارا وتكرارا، في «فكر الجماعات». لا ينبغي النظر للأنواع على أنها أنواع مثالية وإنما بوصفها مجموعة من الأفراد (انظر ماير 2001؛ جيزلين 1969، 56؛ بوشنر 1868، المحاضرة الأولى). هؤلاء الأفراد يختلف أحدهم عن الآخر قليلا، ويختلف الآباء عن ذريتهم. وهذا يتيح لبعض أفراد الذرية أن يكونوا أفضل في السمات من غيرهم. ثمة كثير من القصص في الدراسات السابقة عن جراتيو كيليا؛ المالطي الذي ولد بستة أصابع في اليد وستة أصابع في القدم (انظر تي إتش هكسلي، «المقالات المجمعة 2» (1907)، 37، 406؛ إف رول 1870
2 ، 82-84، 102-103). تزوج جراتيو بامرأة عدد أصابع يديها وقدميها طبيعي. رزق الزوجان بأربعة أطفال، فولد الطفل الأول بستة أصابع في القدم وستة أصابع في اليد مثل والده. وكان الطفل الثالث طبيعيا مثل أمه. وكان الطفلان الآخران لهما خمسة أصابع في اليد وخمسة في القدم ولكن كانت أطرافهما مشوهة قليلا. وعندما أصبح هؤلاء الأطفال بالغين وتزوجوا، فإنهم أنجبوا مرة أخرى أطفالا بعضهم لديه ستة أصابع في اليد وستة في القدم والبعض الآخر لديهم خمسة أصابع على نحو طبيعي.
ويناقش داروين (نيتشر 24، (1881)، 257) حالة السيد الأميركي الذي بدأ يتحول لون شعره إلى الرمادي في سن العشرين. وعندما تزوج أنجب أربع بنات، بدأ شعر اثنتين منهن أيضا يتحول إلى الرمادي في نفس العمر مثل والدهما، في حين احتفظت الأخريان بشعر أمهما الداكن.
كان يوجد أيضا العديد من المؤلفات عن التطور (لامارك، سانت-هيلير، «بقايا التاريخ الطبيعي للخلق»)، التي كان عنصرها الأكثر تقدما هو تنوع الأنواع، لكنها وجدت صعوبة في تقديم آلية موثوقة يمكن أن تفسر اختلافات الأنواع.
تقدم داروين خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح عن طريق مقترح الانتقاء الطبيعي، ولكن ظل سبب الاختلاف الوراثي لغزا، وقد جذبت الطفرات العفوية الكثير من الاهتمام في دراسات التطور (انظر مربع 2-3).
وقعت هذه الاستراتيجيات التجريبية والمفاهيمية المختلفة على خلفية لوحة فلسفية رسمها عصر التنوير؛ لذلك ليس من المستغرب أن نجد العصر الفيكتوري مشبعا بثلاثة التزامات فلسفية؛ الأول: هو «وجهة النظر الميكانيكية»، والثاني: هو «الحتمية»، والثالث: هو «المادية». لا حاجة بنا للبحث عن قنوات خفية تربط علم العصر الفيكتوري بفلسفة العصر الفيكتوري؛ فالفرضيات الفلسفية مدمجة في كتابات العلماء الفيكتوريين. فقد ورثوها من المنهج الفلسفي. (1)
أطلق توماس كارلايل في عام 1829 على القرن التاسع عشر اسم عصر الآلات (كارلايل ، مقالة «لافتات العصور» (1829)، مقتبسة في باشمان 1995، 11). ضرب هذا اللقب وترا حساسا حيث إنه في نهاية القرن عارض هيكل لقب «قرن الأنثروبولوجيا» السابق وأطلق على القرن لقب «القرن الطبيعي». منحت المحركات البخارية والكهرباء للقرن التاسع عشر «ختما ميكانيكيا» (هيكل 1929، 279، 307). ورث الالتزام ب «وجهة النظر الميكانيكية» من الثورة العلمية وعصر التنوير؛ فوفقا للآباء المؤسسين للعلوم، يتكون العالم المادي من المادة والحركة. أطلق روبرت بويل عليها اسم وجهة النظر الجسيمية. وفسرت هذه النظرة جميع الظواهر الطبيعية بالرجوع إلى قوانين الحركة التي تنطبق على أصغر وحدات المادة؛ الذرات أو الجسيمات (انظر الفصل الأول، 5).
إرنست هيكل (1834-1919). (2)
نبع الالتزام ب «الحتمية» أيضا من الثورة العلمية. في الأعمال الفلسفية، غالبا ما تتسم الحتمية بأنها اعتقاد بالقدرة على التنبؤ المباشر بالظواهر الطبيعية من خلال معرفة القوانين القطعية والظروف الأولية. وصورتها الدائمة هي «شيطان لابلاس»، الذي يكشف نظره للتاريخ الكوني الحالة الديناميكية لجميع الأحداث، في الماضي والمستقبل، وكأنها خرز في سلسلة لا تنتهي. وتظهر الدراسة الأكثر دقة أن شيطان لابلاس يعتنق أيضا فكرة أنطولوجية للحتمية. فشيطان لابلاس يستطيع معرفة التاريخ الكوني والتنبؤ به، لأن الأحداث الكونية مربوطة في سلسلة فريدة من الأسباب المسبقة والآثار اللاحقة. فلا تقع أي أحداث بالصدفة. فالأحداث السببية التي وقعت يوم أمس تؤدي إلى آثار اليوم، والتي تصبح سببا لآثار الغد (فاينرت 2004، الفصل الخامس). وينعكس هذا الالتزام بالحتمية الأنطولوجية في كتابات الفيزيائيين والممارسين الطبيين، وكذلك في كتابات علماء الأحياء. ووفقا لإرنست هيكل:
أوضح علم التطور أن القوانين الثابتة الأبدية نفسها التي تحكم العالم غير العضوي تنطبق أيضا على العالم العضوي والأخلاقي. (هيكل 1929، 285؛ 1866، الفصل الرابع؛ 1878، 509)
كانت هذه وجهة نظر هكسلي أيضا.
8
ينبغي أن نلاحظ في هذا الصدد أن داروين شارك في الالتزام بالمادية، ولكنه لم يلتزم بالحتمية الصارمة. التطور عملية عشوائية، حيث تكون الصدفة هي السمة الأهم وليس الضرورة. يعمل مبدأ الانتقاء الطبيعي على الاختلاف المتناحي ؛ فهو يميل إلى انتقاء الاختلافات المواتية والتخلص من الاختلافات غير المواتية. ولا ينبغي أن يساء فهم ذلك على أنه مصادفة عمياء عشوائية. إذ يجب أن يحافظ التطور على الاختلافات المواتية وأن يراكمها، ولكن مصير الكائن الحي دائما ما يكون تحت رحمة الطفرات الجينية العشوائية والقيود البيئية. يعمل التطور في سياق محلي على نحو صارم، تشكله بيئة متغيرة. ترك داروين قراءه في شك قليل حيال احتمالات التطور:
لا أؤمن بأي قانون ثابت للتطور (...). إن تنوع كل نوع مستقل تماما عن كل الأنواع الأخرى. وإمكانية أن يستفيد الانتقاء الطبيعي من هذا التنوع أم لا، وهل كانت الاختلافات تتراكم على نحو أكبر أو أقل (...)، تعتمد على العديد من الاحتمالات المعقدة ... (داروين 1859، 318؛ دينيت 1995، الفصل العاشر) (3)
وهكذا فإن الداروينيين ملتزمون ب «المادية»، التي تمثل مرة أخرى تراثا من الثورة العلمية، وقد أصبح هذا الالتزام واضحا على نحو خاص عندما طبق نموذج داروين التطوري على ظهور البشر على الأرض. وجد معاصرو داروين أنه من الصعب على نحو خاص قبول التحدر الأرضي المشترك للبشر. وقد اعتقد أن نظرية داروين للتغير مبنية على حقائق «وهمية»، والأسوأ من ذلك أنها اعتبرت هرطقة ضد المسيحية وخلود الروح. كان عمل داروين خطرا لأنه ألغى الحاجة إلى التصميم الخاص.
9
لماذا شعروا بالنفور عندما أصبحت المادية موضوعا بارزا بين فلاسفة التنوير؟ (لامتري 1747؛ هلفيتيوس 1758).
كان لامارك، أيضا، ماديا؛ ففي كتابه «فلسفة علم الحيوان» يقول:
جميع القدرات من دون استثناء بدنية بحتة؛ أي إن كل واحدة منها تظهر أساسا بسبب أنشطة التنظيم، من أبسط الغرائز إلى القدرات الفكرية.
وكما يعترف لامارك، تواجه المادية الاعتراض القائل بأن العلاقة بين المخ والعقل لا يمكن فهمها.
ما العقل؟ هو مجرد اختراع لغرض حل الصعوبات التي تنبع من عدم كفاية المعرفة بقوانين الطبيعة. المادية والأخلاقية لهما أصل مشترك؛ فالأفكار والفكر والخيال ما هي إلا ظواهر طبيعية. (لامارك 1809، الجزء الثاني، مقدمة؛ لانج 1873، الجزء الثالث)
ذهب الماديون الفرنسيون أبعد من ديكارت؛ ففي كتابه «الإنسان» (1664)، كان ديكارت قد درس الجسم البشري وكأنه آلة أرضية، ولكن بدا هذا تقليلا لتفوق العقل البشري. وكان حل ديكارت هو ثنائية الجوهر؛ إذ كان الجسم جوهرا ماديا ممتدا، بينما كان العقل جوهرا غير مادي، متصلا بجسم الإنسان من خلال الغدة الصنوبرية. يتدفق الدم في الأوردة، وعندما يصل إلى المخ، فإنه يتحول إلى أرواح حيوانية. والأرواح الحيوانية قادرة على تحريك الأطراف. يسكن العقل والجسم عالمين منفصلين، ويتصلان من خلال سوائل غامضة. لم يرض ورثة ديكارت الفلسفيون عن حله الثنائي. ينبغي أن تخضع الظواهر العقلية أيضا لتفسير ميكانيكي، وقد بذل الماديون الفرنسيون قصارى جهدهم لتفسير جميع العمليات العقلية كمظاهر للعمليات البدنية.
يتمثل التحدي الأكبر للمادية في تفسير ظاهرتي العقل والوعي. هل العقل والمخ متطابقان؟ هل العقل مجرد ظاهرة ثانوية؟ هل تظهر العمليات الذهنية من العمليات المخية؟ تعد هذه الأسئلة الفلسفية نتيجة مباشرة للالتزام بالمادية، التي أيدها معظم الداروينيين. بمجرد أن قبلوا آلية الانتقاء الطبيعي، التي وحدت العديد من الظواهر المتنوعة، فإنهم كرهوا إعادة استخدام حل ثنائي من أجل حل لغز العقل. يمكن أن يعزى ظهور الجسم البشري إلى آلية الانتقاء الطبيعي، وإذا استثني العقل من مجال التفسيرات التطورية، فسيعود التصميم والغائية للظهور. كان الداروينيون ملتزمين للغاية بالمادية لدرجة لا تسمح بترك ثغرة لثنائية العقل والجسم. ومن خلال تبني نظرية مادية للعقل، كانوا مضطرين للانتقال من علم الأحياء التطوري إلى فلسفة العقل. (5-2) من علم الأحياء إلى فلسفة العقل
لا يزال الإنسان يحمل في إطار جسده الدليل غير القابل للمحو على أصله البسيط. (داروين، «أصل الإنسان» (1871)، الجزء الثاني، الفصل الحادي والعشرون، 405)
مع نشر كتاب داروين «أصل الأنواع»، اكتسبت مسألة أصل وطبيعة البشرية فجأة إطارا نظريا جديدا. تناول عدد من الباحثين على الفور وعد داروين الشهير بإلقاء الضوء على أصل الإنسان، وحاول هؤلاء تقديم إجابة في سياق الانتقاء الطبيعي.
10
عندما نشر داروين أخيرا كتاب «أصل الإنسان» (1871) لم يكن قد دخل في نطاق مجهول، كما رأينا بالفعل، أوضح هيكل وهكسلي وليل ورول وتايلر وفوجت بالفعل دروس تطبيق الانتقاء الطبيعي على ظهور البشر على الأرض. ويعاني أي تطبيق لنظرية الانتقاء الطبيعي على أصل البشر على الأقل من مسألتين؛ أولا: ثمة تحد «تجريبي» في وضع أصل البشر في نطاق النظام العضوي. ثانيا: ثمة تحد «فلسفي» أمام استيعاب القدرات العقلية والأخلاقية العليا للبشر داخل الإطار التطوري. وحتى نشر كتاب داروين «أصل الإنسان»، كانت هذه المحاولات تتم دون تغيير كبير في الفرضيات الفلسفية الأساسية الخاصة بالحتمية والمادية والآلية. (أ) التجريبية
تكمن الحجة «التجريبية» الأكثر أهمية لصالح وضع أصل الإنسان في عالم الحيوان في أوجه التشابه البنيوية. في ستينيات القرن التاسع عشر كانت حجة التشابه تعتمد على علم الأجنة، وعلم التشريح المقارن، وعلم الحفريات. أجرى الباحثون مقارنات تشريحية مضنية، وخاصة بين الهياكل العظمية لقرود وبشر العالم القديم. أطلق فريدريش يوهان بلومنباخ (1752-1840) على القرود اسم «كوادرومانا»، أي كائنات رباعية الأيدي، والبشر «بيمانا»، أي كائنات ثنائية الأيدي. كان هذا التمييز شائعا حتى أظهر هكسلي أنه غير كاف، ولكن التشابهات بين مخطط الجسم والأطراف والجماجم كانت واضحة للعين المجردة (انظر الشكلين
2-8
و
2-9 ).
كان قدم البشر وتشابههم البنيوي الوثيق مع القردة واضحا. وبمجرد أن أصبح مبدأ الانتقاء الطبيعي متاحا، كانت فرضية تحدر الإنسان من القرد نتيجة طبيعية. ولكن ما الشكل الذي اتخذه هذا التحدر؟ كان لامارك قد قدم بالفعل نظريته عن التعديل التدريجي، التي عرفت الإنسان بأنه ذروة التطور الخطي؛ ولذلك، بدا الإنسان أكثر أشكال الحياة تعقيدا وأعلاها. ثم مضى لامارك وقارن بين كمال البشر والنقائص المتدرجة للأشكال العضوية الأقل، ومع ذلك، فإن الحفريات لم تدعم التعديل التدريجي. على الرغم من أن هكسلي وهيكل رفضا نظرية لامارك للتعديل التدريجي من خلال توريث الصفات المكتسبة بالاستخدام، فإنهما اعتقدا بوجود شكل من أشكال التحدر المباشرة للبشر من أشكال عضوية أدنى. وفقا لهكسلي، من المعقول أن الإنسان قد نشأ من خلال التعديل التدريجي لقرد شبيه بالبشر:
ولكن لو لم يفصل البشر عن الحيوان بأي حاجز بنيوي أكبر من ذلك الذي يفصل الحيوانات بعضها عن بعض، فيبدو أن ذلك يستتبع أنه إذا اكتشفت أي عملية من السببية المادية نتجت من خلالها أجناس ورتب الحيوانات العادية، فإن عملية السببية هذه كافية على نحو كبير لتفسير أصل الإنسان .
11
في خطاب إلى الأكاديمية الفرنسية للعلوم (1878)، أنهى هيكل سوء الفهم الشائع الذي نبع من ربط الداروينية ب «نظرية القرد»: الاعتقاد بتحدر الإنسان مباشرة من قرود حالية شبيهة بالبشر. كانت الصورة الأكثر دقة هي أن «البشر والقردة من العالم القديم والجديد ينحدرون من سلف مشترك» (هيكل 1878، 509؛ انظر شكل
2-9 ). ولكن في تعميم فلسفته - الواحدية - قدم هيكل ادعاء أكثر ثورية، وهو «حقيقة تاريخية لا جدال فيها»:
أن الإنسان ينحدر مباشرة من القرد، وثانويا من سلسلة طويلة من الفقاريات الدنيا. (هيكل 1929، 69)
ونجد لدى هكسلي تذبذبا مماثلا؛ ففي عبارة أكثر حذرا أشار إلى أن:
الإنسان ربما نشأ (...) كشعبة من السلالة البدائية نفسها مثل تلك القرود. (هكسلي 1863أ، 125)
كان الفكر الرصين الذي يقضي بأن الإنسان ربما ينحدر مباشرة من القرود مفيدا لأصدقاء داروين وأعدائه. كره العديدون الحوارات المحتدمة في ذلك الوقت التي تغذت على افتراض «التخلق التجددي» الخاطئ: تطور البشر من القرود الحالية. استخدم هيكل هذا الافتراض ليصدم جمهوره ويدفعهم نحو التواضع. وحتى في الوقت الراهن تستغل صورة غوريلا ضخمة تحدق بغضب من ملصق وتحمل العنوان البلاغي: «هل هذا جدك؟» العلاقة الخطية من أجل السخرية من الرؤية الكونية الداروينية الخاصة بالأصل (انظر أيضا شكل
2-1 ).
بأسلوبه الأكثر ثورية، عزا هيكل إلى داروين وهكسلي نظرية تحدر الإنسان مباشرة من القرود، ولكن داروين كان حذرا كهكسلي؛ ففي كتابه «أصل الإنسان» (1871) تردد حيال صورة الاشتراك في الأصل. وفي غضون عدد قليل من الصفحات في هذا الكتاب الطويل، تحدث عن «تحدر» الإنسان من شكل أدنى (1871، الجزء الأول، القسم السادس، 185)، وكذلك «الاشتراك في الأصل» مع ثدييات أخرى من شكل غير معروف أو أدنى (1871، 186)، وكذلك «التشعب» من قرود العالم القديم (1871، 199، 201). ثم، أخيرا اقترح صورة «التفرع» (شكل
2-10 ).
ثم تفرعت القرود القديمة إلى فرعين كبيرين: قرود العالم الجديد وقرود العالم القديم. ومن الفرع الثاني، في فترة نائية، نشأ الإنسان، أعجوبة الكون ومفخرته.
12
شكل 2-10: شجرة نسب الإنسان لهيكل (1874) توضح فكرة التطور «التفرعي». (المصدر: ويكيميديا).
ولكن حتى إذا قبلنا فكرة التفرع - وليس فكرة أن البشر ينحدرون مباشرة من القرود ولكن يشترك كلاهما في سلف واحد - فسيظل حجر عثرة هائل موجودا. فحتى أكثر الماديين تعصبا للمادية لا يمكنه أن ينكر وجود فجوة فكرية بين الإنسان والحيوانات؛ فالقدرات العقلية والأخلاقية للبشر أعلى بكثير من القرود؛ لذلك لا يمكن أن ينحدر البشر من القرود. لقد أصبح شرح ظهور القدرات العقلية والأخلاقية في حدود الانتقاء الطبيعي والمادية تحديا كبيرا أمام داعمي داروين. (ب) فلسفة العقل
البقاء للأصلح أدى إلى البقاء للأذكى. (نوزيك، «الثوابت» (2001)، 296)
واجه العديد من الماديين قبل الداروينية هذا التحدي «الفلسفي»؛ فرفضوا الثنائية الديكارتية، وعلى غرار لامارك قبلوا المادية التامة. واتباعا لمنهج قديم في الفلسفة الفرنسية، عامل بول تيري دولباك الإنسان كآلة. واستنتج من هذا الافتراض أن القدرات الفكرية والسمات الأخلاقية للبشر يجب أن تستمد من الأسباب المادية نفسها التي تؤثر أيضا على جسم الإنسان (دولباك 1770، 1978، 110). اعتنق دولباك نتائج ماديته اعتناقا كاملا. فلا يمتلك البشر أسبابا لاعتبار أنفسهم كائنات متميزة في النظام الطبيعي (1770، 81)، وليس الإنسان الهدف النهائي للخلق (1770، 452). لم يستطع آخرون حمل أنفسهم على قبول مثل هذا الاستنتاج المتطرف. شعر ألفريد والاس، المشارك في اكتشاف مبدأ الانتقاء الطبيعي، بعدم رضا متزايد حيال قدرة هذا المبدأ على تفسير جوهر البشرية، فقد كان يميل لحجج التصميم. فقبل الحقيقة الواقعة للعصور القديمة للبشر، ورأى أن جسم الإنسان قد نشأ من سلف بدائي، لكنه لم يستطيع أن يقبل أن العقل البشري تطور نتيجة للانتقاء الطبيعي. رصد والاس في الوعي البشري والنزاهة الأخلاقية دليلا على التصميم. وأضاف سريعا جلد الإنسان الذي لا يغطيه الشعر ويداه وقدماه وصوته كمظهر آخر للتصميم الذكي. وفي بعض كتاباته الأخيرة ادعى أن «الحياة على الأرض تتوج بالبشر» وأن «وجوده كان هدف الكون» (والاس 1903؛ 1891). يعود والاس هنا إلى ثنائية العقل والجسم الديكارتية؛ ففي حالته الشبيهة بالقرود، كان الإنسان معرضا لقوى الانتقاء الطبيعي، ولكن بعد ذلك، حدثت ثورة في الماضي البعيد؛ فجلبت مخلوقا ذا عقل ينعم بهبة الوعي. توقف التطور الجسدي للإنسان، وتركز ارتقاؤه من وقتها على ازدهار قدراته العقلية. وتحول الانتقاء الطبيعي إلى انتقاء ثقافي، تحل فيه الأعراق الأسمى محل الأعراق الأدنى. وتجاوزت القدرات العقلية للبشر ما كان مفيدا لبقائه على قيد الحياة بكثير.
لم يكن في مقدور الانتقاء الطبيعي إلا أن يهب الإنسان الهمجي مخا أعلى ببضع درجات من القرد، في حين أنه يملك في الواقع مخا أقل قليلا للغاية من مخ فيلسوف. (والاس 1870، 202، قارن 1891، 474)
إذن، خلص والاس إلى أنه لا بد أن كائنا أسمى وجه «تطور الإنسان في اتجاه محدد» (والاس 1870، 204).
ولكن التفسير المادي للوظائف العقلية لا يمكن أن يشمل أسبابا خارقة للطبيعة. فهي ستشكل خرقا للحتمية، التي قدم علماء القرن التاسع عشر جميعهم تقريبا لها سلسلة فريدة من الأحداث الفيزيائية تمتد من الماضي إلى المستقبل، كما أنها ستشكل أيضا خرقا للمادية، لأنها تتعارض مع اختزال القدرات العقلية إلى قدرات بدنية. وعلى أساس هذه الفرضيات، يجب على متبع المادية أن يسعى إلى تفسير معقول للوظائف العقلية، دون أن يخرج عن نطاق حدود المجموعة. كان الماديون حريصين على تجنب الازدواجية. وعكست صفحات مجلة نيتشر مرة أخرى التفكير التقدمي لهذه الفترة. نشر جورج هنري لويس كتاب «الأساس المادي للعقل» (1877)، الذي اقترح فيه وجهة نظر مفادها أن العمليات العقلية والعصبية تمثل ببساطة جوانب مختلفة من الواقع «نفسه»، لكن الماديين الداروينيين فقدوا بعض ثقتهم في أسلافهم الفرنسيين. كان التركيز منصبا على العقل والمادة؛ أي اعتماد الوعي على التنظيم العصبي. وافترض هكسلي أن «التغير الجزيئي في الجهاز العصبي يسبب حالة من الوعي.» ولكن - كما واصل حديثه - لا تزال «طريقة ارتباط الوعي والكائن المادي» تمثل لغزا (هكسلي 1874، 365؛ قارن نيتشر 15، 1876-1877، 78-79). كيف ينبغي التعامل مع هذا اللغز؟ تحمل أوجه الشبه بين الإنسان والكائنات الحية الأدنى - كما هو ثابت من خلال دراسات علم الأجنة والتشريح المقارن وعلم الحفريات - الكثير من الثقل الإثباتي. يشير التشابه البنيوي إلى نشأة البشر من أشكال الحياة الأدنى، من سلف شبيه بالقردة، ومع ذلك ، لا يمكن إنكار الفجوة الفكرية بين الإنسان والحيوانات. يجب على متبعي المادية إيجاد جسر بينهما: قبول الفجوة ولكن تفسيرها من مستويات أدنى، وقدم هكسلي مرة أخرى تشبيه الساعة. جميع القدرات تعتمد على البنية؛ فالعضو يشكل الوظيفة، ولكن اختلافا معينا في البنية لا يقابل باختلاف خطي في الوظيفة؛ فالوظيفة تعبير عن الترتيبات الجزيئية. والتغيير البسيط في البنية يمكن أن يؤدي إلى تغيير كبير في الوظيفة. إن أصغر حبة رمال ستؤثر سلبا على عمل آلية الساعة. وعلى نفس المنوال، أدت الاختلافات في بنية جسم الإنسان - الوقفة المنتصبة وتحرير اليدين وزيادة حجم الدماغ - إلى اختلافات وظيفية كبيرة بين البشر والقردة: ظهور الوظائف العقلية وتطور اللغة والأشكال الرمزية الأخرى (انظر داروين 1871، الجزء الأول، الفصل الثاني؛ هكسلي 1863أ، 112-125؛ 1863ب، 470-475؛ 1909، 51؛ دينيت 1995، 117، 287). في كتابه «أصل الإنسان»، يرى داروين أنه لا يوجد فرق أساسي في النوع بين الوظائف العقلية للبشر والكائنات الحية الأعلى؛ فالحيوانات المعقدة تشعر بعواطف وتظهر علامات الذكاء. ووفقا لداروين، فإن مبدأ الانتقاء الطبيعي قادر على تفسير تطور القدرات العقلية والأخلاقية. فبلغة اليوم، المخ هو عضو العقل، ولكن العقل البشري عضو متطور ومعقد بحيث إنه من غير المعقول أن تكون كل وظيفة من وظائفه جرى انتقاؤها على نحو خاص. بالنسبة إلى داروين، لم يكن الانتقاء الطبيعي الوسيلة الوحيدة للتعديل (داروين 1859، 136). لقد ذكرنا بالفعل أنه قدم مبدأ الانتقاء الجنسي لشرح أصل السمات، مثل قرون الغزلان، التي تبدو ضارة لاحتمالات البقاء على قيد الحياة للفرد. يقول داروين: إن القدرات العقلية والأخلاقية، على الأرجح، «صقلت عن طريق الانتقاء الطبيعي»، مضيفا «إما مباشرة أو على نحو غير مباشر، وهي الصورة الأكثر شيوعا» (داروين 1871، الجزء الأول، الفصل الثاني، 80). ويستطيع الداروينيون تفسير التعديلات غير التكيفية من خلال تقديم وجهتي نظر: (1) «تمثل الكائنات الحية أنظمة متكاملة والتغيير التكيفي في جزء واحد يمكن أن يؤدي إلى تعديلات غير تكيفية للسمات الأخرى» (جولد 1987، 45). يطلق داروين على هذا «مبدأ ارتباط النمو» (داروين 1859، 182؛ 1871، الجزء الأول، الفصل الثاني). تؤدي الاختلافات الطفيفة في بنية جسم الإنسان إلى تغيرات موازية في أماكن أخرى من النظام. وهذا يمكن أن يفسر تضاعف حجم الجمجمة في الدماغ البشري (انظر جدول
2-1 ). (2) «العضو الذي بني تحت تأثير الاختيار لدور معين ربما يكون قادرا على أداء العديد من الوظائف الأخرى غير المختارة أيضا نتيجة لبنيته» (جولد 1987، 50). وهذا يمكن أن يفسر تطور القدرات العقلية. ربما يكون مخنا الكبير نشأ «من أجل» مجموعة من المهارات اللازمة في عملية جمع الغذاء والتفاعل الاجتماعي وما إلى ذلك، ولكن هذه المهارات لم تصل إلى حدود ما يمكن لهذا العضو المعقد تحقيقه (داروين 1859، الفصل الخامس؛ 1871، الجزء الأول، الفصل الخامس؛ أيالا 1987؛ كرومبي 1994، المجلد الثالث، 1759). «يجعل الانتقاء الطبيعي المخ البشري كبيرا، ولكن معظم السمات والقدرات العقلية قد تكون «سمات ثانوية»؛ أي نتائج ثانوية جانبية لا تكيفية لبناء عضو بهذا التعقيد البنيوي» (جولد 2001، 104).
ومن ثم فإن البشر بالنسبة لداروين نتاج التطور مثل أي كائن حي آخر. رفض الداروينيون بشدة الالتجاء إلى «قوى إبداعية جديدة» لتفسير المخ البشري، وبهذا اتبعوا مبدأ التوحيد الذي يشير إلى أن الظاهرة نفسها يجب أن تفسرها المبادئ نفسها. (ج) العقول الناشئة
ما المادة؟ لا يهم. ما العقل؟ لا يهم. (جولد، «بنية نظرية التطور» (2002)، 97)
يأمل الماديون في تفسير كيف أنتج المخ العقل. كان هذا في عصر داروين خطة بحثية أكثر من كونه برنامجا مفصلا. وحتى اليوم لا يزال واحدا من الأسرار الكبيرة، ونقطة تركيز لأبحاث مكثفة. قدمت فلسفات العقل والعلوم المعرفية معا عددا من الإجابات الممكنة، وكلها لا تزال غير مثبتة بدقة بالأدلة. ولا يسعنا مراجعة هذه النماذج هنا (انظر بلاكمور/جرينفيلد 1987؛ ليونز 2001؛ بلاكمور 2003؛ سيرل 2004)، ومع ذلك، يمكننا أن نتساءل عن الموقف الحديث الذي تتسق معه هذه التأملات الداروينية بشأن العقل على نحو أكبر.
وفق الرؤية الداروينية، الحالات العقلية هي سمات مخية «ناشئة». و«السمة الناشئة» لا يمكن اختزالها إلى الأساس الذي ظهرت منه، فهي تشكل ظاهرة جديدة نوعيا تتطلب مستويات جديدة من الأوصاف وربما قوانين فيزيائية جديدة. امزج الدقيق والزبد والبيض والسكر، وضع الخليط في الفرن، وستحصل على كعكة كظاهرة ناشئة . إذا كان هذا حقيقيا بالنسبة للكعكة، فربما يكون حقيقيا بالنسبة للعقل. والعمليات العقلية الذاتية - التخطيط الواعي، والتفكير، وحل المشكلات - تشكل ظواهر جديدة. ويمثل المخ نظاما ذاتي التنظيم ينتج عمليات عقلية جديدة أسمى. العمليات العقلية هي السمات الناشئة لتفاعل شبكات الخلايا العصبية. وعلى هذا النحو، توزع الوظائف العقلية عبر المخ. وتنتمي السمات الناشئة إلى النظام بأكمله وليس لمكوناته. طبق الداروينيون مبدأ ارتباط النمو على المخ، وأشاروا إلى أن المخ ربما يكتسب وظائف ذهنية لم يحدث أي انتقاء مباشر لها؛ وهذا قد يؤدي بالفعل إلى تأثير كرة الثلج (بانج 1977؛ 1980؛ سبيري 1983؛ تشالمرز 1996؛ كلارك 1997؛ داماسيو 1999؛ إديلمان 1992؛ همفريس 1997؛ سيبرايت 1987؛ «سينتيفيك أمريكان» 2004) كان هكسلي قد أشار بالفعل إلى أن التغيرات الصغيرة في المخ ربما تؤدي إلى تغييرات كبيرة في العقل. ربما تؤدي الزيادات الصغيرة في التشابكات العصبية - التي استفاد منها البشر في ماضيهم التطوري - أولا إلى اختراع أدوات ثقافية جديدة مثل اللغة الرمزية. وبمجرد توافر هذه الأدوات، فإن استغلالها السريع في التفاعل مع العالم المادي منح البشر ميزة تطورية رئيسية. والتجليات الموضوعية للعمليات الذهنية الذاتية - الثقافة، واللغة الرمزية، والعلوم - تتخطى منشئيها الأصليين، ويتضمن النشوء حقيقة السمات العقلية. علاوة على ذلك، تغلف السمات الناشئة بحلقات سببية، كما يتضح في ظاهرة سلوك المجموعة.
يمكن للمجموعة أن تؤثر على طريقة تصرف أفرادها. وكما سنرى في الفصل الثالث، ذهب دوركايم إلى وجود شمولية ناشئة فيما يتعلق بوجود الفئات الاجتماعية والمجتمع. يعزو فرويد أيضا في عمله في مجال علم النفس الجماعي قوى سببية إلى الحشود، وهذه القوى لا يمكن اختزالها إلى مجموع الأفراد الذين يشكلون الحشد. ووفقا لهذا الرأي، فإن التفاعل بين الأفراد يؤدي إلى ظواهر أسمى، مثل العلاقات الاجتماعية. إذا كانت الظاهرة العقلية ظاهرة ناشئة أسمى من حالات المخ التي نشأت منها، فمن المفترض أن نكون قادرين على إيجاد مثل هذه الحلقات السببية في العمليات العقلية. تعتمد العمليات العقلية اعتمادا كبيرا على الوسائل الرمزية، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى المجتمعي؛ فنحن نتحدث مع أنفسنا والآخرين بلغة عامة. والحياة الاجتماعية مدعومة بأطر مؤسسية؛ فعلى سبيل المثال، الأموال وسيلة رمزية تسمح بتبادل السلع. إذا كان العقل قادرا على إنتاج أهداف شخصية ومنتجات ثقافية ، بدورها يمكن أن تؤثر على السلوك الفردي والجماعي، فلا يمكن أن يكون العقل مجرد ظاهرة ثانوية. لا بد أن توجد سببية عقلية؛ فكما أصر فرويد، الاضطرابات العقلية تؤدي إلى أفراد مضطربين. وعادة ما يتسبب القرار العقلي في القيام بعمل مادي. وتكشف لنا الآثار التي تطرحها الأفكار الموضوعية على وجهات نظرنا العامة وأعمالنا الاجتماعية ما يكافئ ذلك؛ فبلا شك، لم يعد البشر يتصرفون وكأنهم مركز الكون، وذروة الخلق. إن الأفكار المتجسدة في الكوبرنيكية والداروينية وجهت توجهاتنا الذهنية العملية نحو العالم الطبيعي والاجتماعي في اتجاهات جديدة؛ فقد غيرت الفرضيات الفلسفية. وتمثل المؤسسات العامة (التعليم، والعدالة، والسياسة، والسوق) أيضا كيانات رمزية تؤثر بشدة على سلوك الجماعة التي تبنتها. ويختلف سلوك العناصر الاقتصادية الفردية اختلافا كبيرا تبعا لما إذا كانت تعمل ضمن إطار مؤسسي لسوق حرة أو سوق موجهة.
إذا كانت السببية العقلية حقيقية، فلا بد أن تصور في أي نموذج للعقل البشري. ويبدو أن السمات الناشئة تفي بهذا الشرط؛ فهي تتيح وجود الحلقات السببية. يمكن للسمات الناشئة أن تتداخل مع العناصر التي نشأت منها، ويمكن للعمليات العقلية أن تؤثر على العمليات العقلية الأخرى، وكذلك أيضا على العمليات المخية والعمليات البدنية، وقد تولد الفكرة الجيدة أفكارا جيدة أخرى. ويؤثر الإجهاد العاطفي على الحالات الفسيولوجية للفرد، بينما يدفع الاكتئاب بعض الأشخاص إلى الانتحار. ومن بين الأفكار المهمة في العلوم الاجتماعية فكرة أن الأفكار والمؤسسات يمكن أن توجه العمل الاجتماعي (فيبر 1948، 280).
على الرغم من أن الماديين الداروينيين لم يكن لديهم مفاهيم النشوء والعقل المتجسد، ففي مناقشاتهم وصفوا العقل بأنه سمة ناشئة، واعتبروا العقل قوة مهمة في الطبيعة والمجتمع. يمكن للعقل تطوير وظائف جديدة، مثل اللغة الرمزية، التي تعطي أي كائن حي ميزة كبيرة في الصراع من أجل الوجود. ويصنع العقل أيضا أفكارا أخلاقية - على سبيل المثال - تنظم العلاقات الاجتماعية. وبهذه الطريقة، خفف التطور الثقافي القوة القاسية للانتقاء الطبيعي.
ولكن لا يزال العديد من تلك الأسئلة القديمة دون إجابة حتى اليوم. لنفترض أن الحالات العقلية «تنشأ» من نشاط الخلايا العصبية. كيف يفسر العلم التجريبي نشأة العقول الواعية؟ اكتشف علم الأعصاب الشبكات العصبية في المخ، وهي مرتبطة بالوظائف العقلية. ويمكن تحديد موقع للترابط. على سبيل المثال، يبدو أن الكلام يقع في منطقة بروكا. وترتبط مناطق أخرى في قشرة الدماغ بالحركة والرؤية. أطلقت الداروينية برنامجا بحثيا، وجرى التخلي عن ثنائية الجوهر الديكارتية، وصار ينظر إلى المخ على أنه عضو بيولوجي، وهو مقر العقل. يشجع تركيز الداروينية على تساؤلات بشأن نمو الوظائف العقلية الجديدة والميزة التطورية الخاصة بالوعي (بارلو 1987؛ نوزيك 2001). (سوف نتناول في القسم الخامس من الفصل الثالث تطور علم النفس التطوري؛ وهو محاولة لتفسير الوظائف العقلية من خلال تطبيق المبادئ التطورية على العقل.) وللداروينية أيضا انعكاس على صورة الذات لدى البشر؛ فقد تسببت في فقدان التصميم الرشيد. (5-3) فقدان التصميم الرشيد
دراسة مستقبل الجنس البشري أكثر إرضاء لغرورنا من دراسة الماضي. (بوشنر 1868، 256؛ ترجمة المؤلف)
يشكل التفسير الطبيعي الدارويني لظهور البشر فقدانا تاما للتصميم الرشيد؛ فلم يحدث تدخل من قوى خارقة مهد الساحة لميلاد البشرية. رفض الماديون الداروينيون موقف والاس الوسطي؛ فإذا كان الانتقاء الطبيعي يستطيع تفسير ظهور جسم الإنسان، فلا بد أن يفسر أيضا ظهور العقل البشري؛ فالبشر، «بالمعنى الحرفي»، ليسوا ذروة الخلق. ورفض الداروينيون حل لامارك بتصوير البشر هدفا للتطور التدريجي؛ فالتطور التدريجي كآلية ليس موجودا؛ فلم تصل العملية التطورية إلى ذروتها مع ظهور البشر. إن البشر لا يمثلون ذروة الكمال، التي يقارن بها جميع الكائنات الأخرى على نحو غير ملائم؛ ففي نماذج التصميم والتطور الخطي، كان البشر إضافات متأخرة نسبيا إلى حلة الطبيعة. فينبغي إعداد الأساس المناسب لتعقيد البشر؛ ولذلك سخرت الحيوانات والنباتات من أجل الهدف النهائي للخلق، وهو البشر المعقدون. ومن ثم، يمكن للبشر أن ينظروا إلى النباتات والحيوانات على أنهم مذللون من أجل احتياجاتهم. كان ذلك يشبه مركزية الأرض ولكن في عالم الأحياء . قضى كل من كوبرنيكوس وداروين على هذه المركزية البيولوجية الوقحة. فقد التصميم الرشيد، واحتلت القوى المادية مكانه. كانت المشكلة، كما أشار كارل فوجت ، أن:
الغرور المتأصل في الطبيعة البشرية عارض فكرة أن سيد الكائنات ينبغي أن يعامل مثل أي مخلوق طبيعي آخر. (فوجت 1864، المحاضرة الأولى، 10)
فهل يمكن على الأقل اعتبار البشر ذروة الخلق بالمعنى «المجازي»؟ حتى بين الماديين، اختلفت ردود الفعل حيال فقدان التصميم الرشيد كثيرا. كان إرنست هيكل الأكثر تشاؤما؛ فقد ساوى فقدان التصميم الرشيد بانعدام الأهمية الكونية للبشر، ورفض منح البشر أي راحة، حتى بالمعنى المجازي. بل على العكس من ذلك، شهد اكتشاف أصل الإنسان المتواضع سقوط البشر من درجة السلم العالية في سلم الخلق:
إن «طبيعتنا البشرية» - التي مجدت نفسها في صورة رب في وهمها الأنثروبي - تنحط إلى مستوى الثدييات المشيمية، التي لا قيمة لها في الكون عموما أكثر من قيمة النمل أو ذبابة الصيف أو النقاعيات المجهرية أو أصغر العصيات. (هيكل 1929، 199-200)
على النقيض من ذلك، لم ير كل الداروينيين عدم أهمية كونية في أصل الإنسان المتواضع. رفض هكسلي نسخة المادية الخام واعتبر العقل قوة ثالثة من قوى الطبيعة. وكثيرا ما ذكر أن هكسلي يتبع مذهب الظاهراتية المصاحبة الذي يرى أن الوعي عاجز على مستوى السببية (هوندريش 1987؛ تشالمرز 1996؛ بلاكمور 2003)، ومع ذلك، إذا كانت الحالات الواعية تمثل فئة فرعية من الحالات الذهنية، فإن هكسلي لم يكن متبعا لمذهب الظاهراتية المصاحبة فيما يتعلق بالحالات الذهنية. يؤكد هكسلي أن الحالات الذهنية تنتج الأفكار، التي يمكن أن تغير العالم (هكسلي 1874؛ 1886؛ 1893). ويضم تطور الحضارة الانحراف التدريجي لقوى الانتقاء الطبيعي؛ فالحياة الاجتماعية في المجتمعات المتحضرة معزولة عن عملية الطبيعة الكونية التي يسود فيها الصراع الوحشي من أجل الوجود؛ فالحياة المتحضرة تشبه عملية البستنة التي يقضى فيها على الصراع من أجل الوجود إلى حد بعيد. وعلى غرار البستاني الجيد، عدل البشر ظروف الوجود لتتناسب مع احتياجاتهم. وتعد الداروينية الاجتماعية امتدادا زائفا للتطور إلى المجال البشري.
كما لو أن الطبيعة نفسها أدركت غطرسة الإنسان، وبكل قسوة قضت بأن قدراته العقلية - بكل ما حققته من انتصارات - يجب أن تبرز مظهره الضعيف، مذكرة إياه بأنه ليس سوى تراب. (هكسلي 1863أ، 125)
وافق داروين على هذه الآراء. ولم ير تحدر الإنسان من أشباه البشر اكتشافا مهينا. وبينما سعى المناهضون للداروينية لزيادة الفجوة بين القرد والإنسان بأقصى قدر، كان الداروينيون حريصين على تضييقها؛ فلم يروا سوى اختلافات نوعية؛ فقد كانت الحيوانات تمتلك ذكاء وإحساسا، ولم يكن من المهين اعتبارهم أسلافنا.
حول الداروينيون الأكثر تفاؤلا انتباههم من النشأة إلى الارتقاء. تنشأ الحالات الذهنية من الحالات المخية؛ وهذا يؤدي إلى اللغة الرمزية وإلى الثقافة وإلى القيم. وتبقى حجة أن القيم الإنسانية، حتى لو كانت جذورها تكمن في الغرائز الاجتماعية، تمتلك حياة وديناميكية خاصة بها مفتوحتين للماديين. توجه القيم الحياة الاجتماعية في اتجاه معاكس للصراع من أجل الوجود. رأى داروين الأهمية الكونية للبشر في ارتقائهم من البدايات المتواضعة إلى قمة السلم العضوي، من خلال التطور الثقافي.
تمتلك سلسلة الوجود العظمى في شكلها المضاف إليه التسلسل الزمني ديناميات مدمجة تدفع التطور نحو أعلى مستوى من الكمال، وهي جزء أصيل من تكوين الجنس البشري. وهكذا يصبح الإنسان حرفيا «ذروة الخلق». رفض داروين والداروينيون الغائية، التي تعد أساسية للتعديل التدريجي. لا يشكل ظهور البشر ذروة التعديل التدريجي، فالبشر تشعب ناتج عن التفرع التطوري؛ فكان يمكن أن تنمو شجرة الحياة دون أن تنبت فرع البشر؛ فالصدفة هي التي مهدت الساحة للبشر وليست الضرورة. ويجب أن يتغير تقييم مكانة البشر في الكون بالضرورة. فلا ينبغي أن يكون الأمر كئيبا كرأي هيكل؛ فكما أكد كثير من الداروينيين، كرامة البشر مستمدة من تطورهم الثقافي:
إن احترامنا لنبل البشرية لن يقل بسبب معرفة أن الإنسان - من حيث المضمون والبنية - أحد الحيوانات. (هكسلي 1863أ، 132)
رغم الأهمية التي حظي بها - ولا يزال يحظى بها - الصراع من أجل الوجود، عندما يتعلق الأمر بأسمى جزء من الطبيعة البشرية، توجد عوامل أخرى أكثر أهمية؛ فالصفات الأخلاقية تطورت (...) من خلال تأثيرات العادة، وقدرات التفكير، والتعليم، والدين وما إلى ذلك، أكثر بكثير من تطورها عن طريق الانتقاء الطبيعي. (داروين 1871، الجزء الثالث، الفصل الحادي والعشرين، 688-689)
اتفق الداروينيون مع المركزية العقلانية التي أشار إليها كوبرنيكوس . بالنسبة لمعاصريهم الأكثر اتساما بالفكر العلمي، أدت ثورة داروين في العلم إلى فقدان التصميم الرشيد. فشلت حجج التصميم القديمة في التعامل مع المهمة التفسيرية الخاصة بتقديم تفسير متماسك لتنوع شجرة الحياة. والتفسيرات التابعة لنظرية الخلق المتبعة لأسلوب الكتاب المقدس شديدة الخصوصية حتى إنها غير قادرة على ادعاء مصداقية كبيرة. تأمل، على سبيل المثال، عمر الأرض. ثمة أدلة مستقلة على أن الأرض تشكلت قبل نحو 4,5 مليارات سنة. ولن يكون مقبولا الزعم بأن الأرض تشكلت حقا من 6000 سنة فقط، كما يقول الكتاب المقدس. يتطلب التشبث بهذه العقيدة وجود خالق مخادع زرع على نحو خفي الأدلة الجيولوجية لجعل الأرض تبدو كما لو كانت أقدم بكثير. إن التعصب الديني لا ينجح عندما تكون النظرية العلمية منافسا جادا له.
وحتى خلال عصر داروين، ابتعد بعض خصومه عن سيناريوهات الخلق الواردة في الكتاب المقدس؛ فقد أخذوا العلم على محمل الجد، واستدلوا من الاستنتاجات العلمية على التصميم، وليس المصمم. دعمت سيناريوهات التصميم الذكي كنماذج منافسة لإصرار داروين على الانتقاء الطبيعي. يجب ألا ننسى أن الانتقاء الطبيعي أصبح موضع شك كبير خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. حتى إن تي إتش هكسلي أبدى بعض الشكوك بشأن القدرة التفسيرية للانتقاء الطبيعي. وبالنظر إلى جلد الإنسان الأملس، ويديه وقدميه، وصوته، ناهيك عن قدراته الفكرية، شك والاس في عمل التصميم الذكي. وأشار كتاب ميلر المناهض للداروينية «آثار الخالق» (1861) إلى أنه يمكن استخلاص مؤشرات التصميم المتناغم والعناية الإلهية الأبدية من الحقائق الجيولوجية. واتفق المناهضون للداروينية على أن الأدلة لم تدعم الانتقاء الطبيعي على نحو كاف. فلا يمكن أن تكون سببا ماديا حقيقيا، كما أنها فشلت في تفسير دليل التعقيد على نحو مناسب. وأكد معارضو الداروينية، مثل دوق أرجيل وهيلر ميلر وسانت جورج ميفارت، أنه يلزم وجود الكثير من التنسيق في نمو الكائنات الحية، وبهذا لا يمكن أن ينسب إلى عمل الصدفة «العمياء». كان رفض الانتقاء الطبيعي، وإن لم يكن رفضا للتطور، طعنة في الفلسفة الميكانيكية.
13
ولكن إذا أخفق الانتقاء الطبيعي والفلسفة الميكانيكية، فإن اللجوء إلى التصميم يستعيد بعضا من المكانة. لا بد أن خطة ذكية تكمن في جذور التعقيد العضوي؛ فالتطور العضوي كله يجب أن يتضمن اتجاهية كامنة فيه.
تظهر سيناريوهات الخلق المتبعة لأسلوب الكتاب المقدس من وقت لآخر، ولكن التحدي الموثوق للداروينية يجب أن يأخذ الأساليب العلمية والحقائق على محمل الجد. في تسعينيات القرن العشرين ظهرت نظرية حديثة للتصميم الذكي، وهي تهدف إلى أن تثبت علميا أن الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يقوم بالعمل التفسيري الذي يدعي القيام به. من وجهة النظر الفلسفية، تعد نظرية التصميم الذكي مثيرة للاهتمام؛ لأن الحجج تصاغ في صورة أسئلة تثار عن الاستدلالات المسموح بها. ولقد رأينا بالفعل أن الاستدلالات تلعب دورا رئيسيا في التاريخ الدارويني. (5-4) التصميم الذكي
كل ثورة في العلوم الطبيعية أنتجت قضايا فلسفية جديدة. (روزنبرج، «فلسفة العلوم الاجتماعية» (1995)، 212)
استنتجت حجج التصميم القديمة من النظام المرئي وجود تصميم، ومن الكمال الظاهري وجود مصمم إلهي. وأكد داروين أنه يوجد نظام في الطبيعة، ولكن لا يوجد كمال. وتستنتج حجج التصميم الجديدة، من التعقيد العضوي وعدم الاحتمالية، وجود تصميم ذكي. ويعتبر استدلال بيلي الإضافي من التصميم، الذي يقضي بوجود مصمم، استدلالا غير ضروري. إن التعقيد ناتج عن الدراسات العلمية، وليس التأمل الديني. وتأخذ نظرية التصميم الذكي - على غرار سابقاتها من القرن التاسع عشر - العلم على محمل الجد. فتعتمد على وجه التحديد على الاكتشافات العلمية للبيولوجيا الجزيئية والنتائج الرياضية لنظرية الاحتمالات. وهكذا نقلت المعركة إلى أرض التطوريين. كانت تتفق مع الداروينيين في عدم تسامحها المطلق مع دعاة نظرية الخلق. وكانت توافق على أن عمر الأرض حوالي 4,5 مليارات سنة، وتوافق على أن الانتقاء الطبيعي يلعب دورا في التطور، ولا ترى حاجة للالتجاء إلى وجود مصمم؛ فهي تعامل التصميم الذكي باعتباره فرضية «الذكاء غير المتطور» (ديمبسكي/روس 2004، 3) أو حتى كاستدلال لأفضل تفسير (مينوج 2004، 32؛ ماير 2004، 371-372). ومن وجهة نظر منطقية، يبدو أنها تستخدم ممارسات استدلالية تماما مثل الداروينيين.
من أجل التبسيط، لنفترض وجود تفسيرين: القصة الدراوينية (الجديدة) المألوفة وتفسير التصميم الذكي، ولكن علماء الأحياء التطورية لم يعودوا يعتمدون على التشريح وعلم الأجنة وعلم الحفريات؛ فقد اتسع نطاق الأدلة إلى العالم الجيني والجزيئي. يركز منظرو التصميم المعاصرون تحديدا على: (أ) التعقيد على المستوى الجزيئي. (ب) الانتقال من الحياة غير العضوية إلى الحياة العضوية وظهور تصميمات أجسام حيوانية جديدة. (ج) الاحتمالات الرياضية الداعمة للتصميم الذكي. لنتناول هذه الحجج بإيجاز ثم نلق نظرة على بعض الانتقادات الموجهة لنظريات التصميم الذكي الحديثة. (أ)
حجة التعقيد غير القابل للاختزال (بيهي 1996؛ 2004): وفقا لبيهي، أثبتت البيولوجيا الجزيئية الحديثة وجود تعقيد غير قابل للاختزال في النظم الموجودة داخل الخلية. وتشير أمثلة بيهي العلمية الواقعية إلى تخثر الدم، والكيمياء الحيوية للرؤية، وما يسمى السياط البكتيرية كجزء من كيمياء الخلية (وهو محرك دوار يعمل بالطاقة الأيونية، بحسب ميلر (2004، 82)، وهو «متصل بالأغشية المحيطة بالخلية البكتيرية»). ويعني التعقيد غير القابل للاختزال أن «إزالة أي من الأجزاء المتفاعلة يؤدي إلى توقف النظام عن العمل» (بيهي 2004، 353). ووفقا لبيهي، تتمثل النقطة المتعلقة بالتعقيد غير القابل للاختزال في أنه لا يمكن تفسيره بعملية التعديل التدريجي الداروينية. وإذا أخفق الانتقاء الطبيعي والتدرجية في تفسير التعقيد، فإنه يبدو من المعقول بالنسبة لبيهي استنتاج التصميم الذكي لتفسير هذا النوع من التعقيد الجزيئي. يكشف التعقيد عن التصميم الذكي. من وجهة النظر الفلسفية، من المدهش أن منظري التصميم الذكي - أمثال بيهي - على استعداد للانتقال من مسألة الاستدلالات المقبولة التي يوافق عليها جميع الأطراف إلى مسألة الاستدلالات المسموح بها. وهكذا، يعلن بيهي أن «عملية التصميم ربما لا تنتهك أي قوانين طبيعية على الإطلاق» (بيهي 2004، 357). (ب)
حجة ظهور الحياة وتصميمات الأجسام الجديدة: حاول علماء الأحياء تفسير التحول غير المحتمل من الحياة غير العضوية إلى الحياة العضوية. كانت المشكلة هي أن الجزيئات الأولى كانت معقدة جدا بالفعل، ويحتاج أصل هذا التعقيد إلى تفسير. ووفقا لمنظري التصميم الذكي، اللجوء إلى الصدفة والقوانين الطبيعية غير كاف. «يبدو أن أصل الحياة هو المثال الأقوى للتعقيد غير القابل للاختزال» والمثال «الأكثر إقناعا بالحاجة إلى التصميم الذكي في الطبيعة» (برادلي 2004، 350). لاحظ مرة أخرى الشكل الذي تتخذه الحجة: «تفشل» التفسيرات التقليدية؛ ومن ثم يبدو أن استدلال التصميم الذكي يفرض نفسه. وفي تطور آخر للحجة، لم يقدم التصميم الذكي كحل مناسب لمسألة «أصل الحياة» وحسب، ولكن أيضا لظهور تصميمات الأجسام الحيوانية الجديدة في فترة انفجار العصر الكامبري (ماير 2004، 372). يقبل منظرو التصميم الذكي أن «الآلية الداروينية يمكنها تفسير التكيف التطوري الصغير»، مثل مجموعة المناقير المتنوعة لدى عصفور الدوري التي ذكرها داروين. ما يعارضونه هو أن التطور يستطيع أن يفسر «ظهور معلومات محددة معقدة في الكائنات الحية» (ماير 2004، 386؛ ولكن قارن ذلك مع جولد 1991؛ 2001 من أجل التفسير التطوري). نلاحظ مرة أخرى الاستعداد للانتقال من الاستدلالات المقبولة إلى الاستدلالات المسموح بها:
إن تحديد التفسير الأفضل بين مجموعة من التفسيرات المحتملة المتنافسة يعتمد على أحكام الكفاية السببية أو «القوى السببية» للكيانات التفسيرية المتنافسة. (...) وتمتلك العوامل الذكية قوى سببية كافية لإنتاج زيادات في المعلومات المحددة المعقدة، إما في صورة خطوط تسلسل محددة للكود أو النظم المرتبة هرميا للأجزاء. (ماير 2004، 386-387)
لا يلجأ ماير فقط إلى استنتاج أفضل تفسير؛ فمن السهل نسبيا ادعاء أن نظرية المرء المفضلة هي أفضل تفسير لبعض الأدلة المتاحة. يشير ماير إلى استنتاج أفضل تفسير «مقارن». في هذا النوع من الاستنتاج، تقدم الأدلة دعما تجريبيا لواحدة من عدة فرضيات متنافسة. فتثبت إحدى الفرضيات وتشكك في منافسيها. (ج)
حجة التعقيد المتخصص: إن حجة التعقيد غير القابل للاختزال ليست سوى «حالة خاصة من المعلومات المحددة المعقدة» (مينوج 2004، 47). تتميز المعلومات المحددة المعقدة بأنها معلومات ذات قيمة احتمال منخفضة ووجود نمط مستقل، وهي قادرة على القضاء على الصدفة (انظر ديمبسكي 1998، الفصل الثاني؛ 2004). يرى دمبسكي التعقيد المتخصص كمعيار إحصائي يساعد على تحديد آثار الذكاء. للتوضيح، تخيل سفرك إلى الخارج مع صديق لا تعرف شيئا عن قدراته اللغوية. وعندما تصل إلى البلد المقصود، تلاحظ أن صديقك يجيد لغة البلد المضيف. من الواضح أن احتمالية أن صديقك تعلم هذه اللغة الأجنبية في يوم وصولك تقترب من الصفر. إن الفرضية الوحيدة المعقولة هي أن صديقك كان يتحدث لغة ذلك البلد بطلاقة قبل وصولك. في هذا المثال لدينا نمط محدد؛ القدرة على التحدث بلغة أجنبية «ل» التي تفسر طلاقة صديقك في اللغة أفضل بكثير من فرضية أنه تعلمها عن طريق الصدفة في يوم وصولك «و». وإتقان صديقك غير المتوقع للغة الأجنبية «ل» منفصل - أي مستقل - عن الحدث المحدد «و»، على الرغم من أن «و» بالطبع يمثل نمطا أو تصميما.
التخصيصات هي تلك الأنماط التي تضمن - بالإضافة إلى احتمالية قليلة - القضاء على الصدفة. (ديمبسكي 1998، 136)
بمجرد استبعاد الصدفة والانتظام من التفسيرات الممكنة لحدث تظهر عليه جميع الصفات التي تجعله يبدو «كما لو» كان مصمما، بدا أن استنتاج التصميم هو الخيار الوحيد الباقي. طبقت فكرة التعقيد المحدد تلك على علم الأحياء التطوري بعد ذلك؛ فالأنظمة الجزيئية، مثل السوط، غير محتملة، حتى إن الآليات الداروينية فشلت في تفسير ظهورها. إذا فشل الانتقاء التراكمي، فإن الانتقاء العشوائي غير مرجح على نحو أكبر، نظرا للاحتمالات المعنية. ولجأ ديمبسكي إلى إجراء الاستقراء الإقصائي (ديمبسكي 2004): حيثما تفشل التفسيرات الميكانيكية المتنافسة في إثبات الدليل «د»، حينها يؤخذ هذا الدليل نفسه لدعم التفسير، الذي يبدو أنه يفسره.
ثمة كمية هائلة من الأدلة الوراثية والجزيئية. هل تؤيد هذه الأدلة التفسير الدارويني أم أنها تدعم التصميم الذكي؟ يتجلى هذا في مسألة الاستدلالات «المقبولة»، وليس مجرد الاستدلالات المسموح بها. يتفق المعسكران على أن الأدلة تكشف عن نظام وانتظام. فهل الانتقاء الطبيعي يكفي لتفسير التعقيد؟ الجواب الدارويني هو «نعم»؛ فالانتقاء الطبيعي، كنظرية، ضروري وكاف على حد سواء لتفسير نسيج الحياة الغني (دوكينز 1988؛ دينيت 1995؛ ريدلي 1997؛ جونز 1999؛ ماير 2001؛ جولد 2002؛ أيالا 2004). لم يوافق منظرو التصميم الذكي على هذا الجواب.
من على صواب؟ هل ينبغي أن نختار استدلالا تصميميا أم تطوريا؟ يجب أن يحدد العلم التجريبي طبيعة تعقيد النظم العضوية (على سبيل المثال، تخثر الدم، وكيمياء الخلايا، والكيمياء الحيوية للرؤية . انظر ميلر 2004؛ كوفمان 2004؛ فيبر/ديبيو 2004)، ولكن هذا ليس مجرد مسألة تجريبية. يعكس تفضيل نوع معين من الاستدلال توجها ذهنيا فلسفيا تجاه العلم أيضا. سوف يجادل التطوريون الحديثون بأن الاستدلال على التصميم الذكي، رغم أنه مسموح به، فإنه يعود بنا إلى تفسيرات خارقة للطبيعة. أما الداروينية فتهدف دائما إلى التوحيد والتفسير الطبيعي للظواهر البيولوجية. وحتى لو كان الانتقاء الطبيعي لا يستطيع تقديم تفسير كامل للظواهر التطورية، فإن النهج الطبيعي لا يزال أفضل من الاستدلال على التصميم (بينوك 2004)؛ فالتصميم يقع خارج نطاق الاختبار.
قابلية الاختبار فكرة مقارنة؛ فنحن نستخدم الأدلة نفسها لتقييم القيم الخاصة بنظيرتين متنافستين (انظر صوبر 1999، 2002، 2004). وفي هذه الحالة، النظريتان المتنافستان هما التصميم الذكي والداروينية. وتصبح مسألة قابلية الاختبار سؤالا هل كانت قوة الأدلة تدعم فرضيتي التصميم الذكي والتطور على نحو تفاضلي.
في نظر الداروينيين الحديثين، يتجاهل الإصرار على التعقيد الأصلي للنظم البيولوجية رؤية نيتشه. رأي نيتشه أنه لا يمكننا أن نستدل من طبيعة الوظيفة الحالية للعضو على طبيعة وظيفته السابقة. فثمة فرق بين «أصل أو ظهور الشيء وفائدته النهائية» (نيتشه 1887، القسم الثاني عشر؛ دينيت 1995، 470؛ جولد 2002، 1216)، ولكن علماء الأحياء التطورية يصرون على أن الأعضاء الأولية - مثل الأجنحة البدائية أو الخلايا الحساسة للضوء - كانت تقدم بعض المزايا التطورية للكائن الحي في الماضي. كما أنهم وجدوا في البيولوجيا الجزيئية دعما للتفسيرات التطورية. فدراسة التطور الجزيئي تكشف عن معلومات قيمة، وغالبا ما تكون قابلة للقياس، حول معدل ونطاق التغيرات التطورية. ويمكن بناء الأشجار التطورية للجينات والأنواع من خلال التحليل الدقيق للتسلسلات الجزيئية.
هذه ليست مجرد مسائل تجريبية، فالبيانات التجريبية تتطلب فهما. كيف يمكن دمجها في نظرية علمية متسقة؟ على هذا المستوى، تظهر الأسئلة الفلسفية الخاصة بالطريقة. فمن بين الاستدلالات المسموح بها، ما الاستدلالات المقبولة؟ (6) مسألة المنهجية
نحن العقبات الحقيقية في طريق الطبيعة. (لامتري، «الإنسان آلة» (1747)، 79؛ ترجمة المؤلف)
لاحظنا أن الداروينيين يعملون في فضاء مفاهيمي تتنافس فيه وجهات النظر المختلفة الخاصة بالحياة العضوية على خلفية اكتشافات تجريبية وفرضيات فلسفية. كما رأينا أيضا أن الثورة الداروينية لها تبعات كبيرة على مكانة البشر في الطبيعة العضوية؛ فقدان التصميم الرشيد. تنبع المعارضة الشائعة للداروينية جزئيا من الرابط السطحي بين نظرية التحدر ونظرية القرد. كان يدعى أن المادية ستؤدي إلى اللاأخلاقية. أما المعارضة الدينية للداروينية فكانت أكثر اهتماما بمنطق الحجة الداروينية؛ فعلى سبيل المثال، شكك سانت جورج ميفارت ووالاس في كون آلية الانتقاء الطبيعي كافية لشرح تعقيد البشر. ربما كانت معتقداتهما الدينية هي الدافع وراء شكوكهما، غير أنه كان يتعين أن تتحول الدوافع إلى حجج مضادة من أجل النقاش العلمي. فلا يكاد يوجد هجوم أكثر فعالية على النتيجة العلمية من التشكيك في المنهج العلمي الذي نتجت عنه. مثل الأسقف ويلبرفورس مخاوف المعسكر المناهض للداروينية عندما اتهم الداروينيين بعدم الولاء للاستقراء البيكوني (كوهين 1985ب؛ إليجارد 1958، الفصل التاسع). ويتهم أنصار التصميم الذكي في الوقت الراهن الداروينيين باستقاء استنتاجات خاطئة من التعقيد الجزيئي.
إن هدفنا هو استكشاف النتائج الفلسفية للنظريات العلمية؛ ومن ثم فإن علينا أن نتحرى مسألة المنهج. ما المناهج العلمية التي استخدمها الداروينيون؟ هل حادوا عن المسار الحقيقي للمنهج البيكوني؟ ما الاستقراء البيكوني؟ كيف يقارن الاستقراء البيكوني مع قابلية الاختبار لبوبر؟ (6-1) الاستنتاجات الداروينية
في حين أن طرح الأسئلة العامة أدى إلى إجابات محدودة، فإن طرح أسئلة محدودة تبين أنه يقدم مزيدا من الإجابات العامة. (جاكوب، «التطور والإصلاح» (1977)، 1162)
رأينا بالفعل عددا من الاستنتاجات العاملة؛ فمن خلال وجود اكتشافات حفريات الأنواع المنقرضة والعظام البشرية والأدوات القديمة، استنتج الباحثون في أربعينيات القرن التاسع عشر العصور القديمة للإنسان. قدم داروين استنتاجات مماثلة، فمن خلال التأكيد على القوة المعروفة للانتقاء الاصطناعي بين مربي الحيوانات، استنتج مبدأ الانتقاء الطبيعي؛ فكان يرى أنه يستطيع تفسير تنوع الأنواع. ويعد مبدأ الانتقاء الطبيعي مبدأ تفسيريا، كما يمكن تقسيمه إلى عدد من المبادئ الفرعية:
مبدأ الاختلاف (الطفرات العشوائية).
مبدأ الاختلاف في القدرات البدنية (التعديلات المواتية/غير المواتية).
مبدأ الصراع من أجل الوجود.
المبدأ القوي الخاص بالتوريث (كيتشر 1993، 19).
وبفضل تلك المبادئ، استطاع داروين توحيد مجالات البحث المتنوعة، التي كانت حتى هذا الوقت متفرقة. إن «التوحيد» مبدأ منهجي قوي في البحث العلمي. ولقد قابلناه بالفعل في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس؛ فاختفاء الكون ذي الفلكين وفرضياته الأساسية ونظرية الحركة الأرسطية أتاح توحيد الفيزياء الأرضية والسماوية. قدمت مبادئ داروين تقنيات قوية للتفسير البيولوجي، وتسمح لنا باستنتاج تاريخ التحدر من ظواهر بيولوجية عديدة.
14
تأمل ثلاث ظواهر منها: (1)
دهش داروين بالتوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع وأصنافها في جزر جالاباجوس. كيف كان من الممكن أن يتسم نفس النوع من عصافير الدوري بخصائص مختلفة قليلا من جزيرة إلى جزيرة؟ كان الرأي السائد قبل داروين هو نظرية الخلق الخاص. كان جواب داروين هو التعامل مع تعديلات كل مجموعة «ج» من الكائنات الحية عن أسلافها كرد فعل للكائنات الحية تجاه التغيرات في البيئة. ويمكن توسيع نطاق هذا الأمر ليوضح مثلا الاختلافات المرصودة بين جماجم إنسان نياندرتال وجماجم الإنسان الحديث. (2)
ترسخ أصل الإنسان من خلال أبحاث في التشريح المقارن. وكما أكد هكسلي، لم يوجد سوى اختلافات تشريحية بسيطة بين البشر والقردة. فإذا كان البشر والقردة - الذين ينتمون إلى أنواع مختلفة - يتشاركون في خصائص عامة في بنية عظام الأطراف، فكيف يفسر ذلك؟
من أجل معالجة مثل هذه الأسئلة، فرق الداروينيون بين «التنادد» و«التناظر». «التنادد» هو وجود نفس الجهاز في كائنات مختلفة بمجموعة متنوعة من الأشكال والوظائف، مثل أجنحة الطيور وذراعي البشر. يرجع التنادد إلى التحدر مع التعديل. ويمكن الاستدلال على وجود التنادد في الكائنات الحية المختلفة من خلال تاريخ التحدر من سلف مشترك. أما «التناظر» فهو وجود أعضاء متشابهة ذات وظائف متشابهة لدى حيوانات غير مرتبطة بعضها ببعض، مثل أجنحة الطيور والحشرات. ويعزى التناظر إلى التطور المقارب، أي نتيجة لضغوطات بيئية مماثلة. ويمكن تفسير وجوده عن طريق تتبع تاريخ ظهور السمة التناظرية على مدار سلسلة النسب المختلفة للأنواع المختلفة. فليس لديها أصل تطوري مشترك حديث. ورغم أن هذا التمييز واضح من الناحية النظرية، فقد يكون من الصعب إثباته عمليا (داروين 1859؛ رول 1870، 151-152؛ كرومبي 1994، المجلد الثاني، 1291؛ دينيت 1995، 357؛ راف 1996، 34-36؛ دي بير 1997، 213-221). (3)
وأخيرا ثمة أسئلة تخص التكيف: لماذا تظهر الكائنات الحية التي تعيش في بيئات معينة خصائص معينة، تسهم في صلاحيتها لهذه البيئة تحديدا. يمكن الإجابة على هذه الأسئلة أيضا عن طريق إعادة إنشاء العملية التاريخية التي حدثت خلالها عملية التكيف. تحل هذه الإجابات محل حجة التصميم القديمة، كما أنها ترفض الإصرار على الكمال المطلق. وكما يؤكد داروين، التكيف مسألة تتعلق بالدرجة بالأساس:
يميل الانتقاء الطبيعي فقط لجعل كل كائن عضوي كاملا، أو أكثر كمالا بقليل من السكان الآخرين في المكان نفسه الذين يتصارع معهم من أجل الوجود. (داروين 1859، 229)
تسبب آلية التحدر مع التعديل الكمال النسبي الخاص بتكيف الكائنات العضوية مع بيئتهم المادية، ولكن الكائنات الأخرى، التي تدخل معها هذه الكائنات في المنافسة، تسكن أيضا بيئتها المادية. ثمة صراع عنيف حول الغذاء والمأوى، ولتجنب الإصابات والموت. وللصراع من أجل الوجود «نتيجة طبيعية ذات أهمية قصوى»؛ إذ ترتبط بنية كل كائن على نحو أساسي «بكل الكائنات العضوية الأخرى» (داروين 1859، 127).
كان من الواضح بالفعل لمعاصري داروين أن نظرية التحدر مع التعديل تتمحور حول استقاء استنتاجات مقبولة. السؤال الحقيقي ليس ببساطة: ما الاستنتاجات «المسموح بها»؟ ولكن ما الاستنتاجات «المقبولة» في ضوء الأدلة المتاحة؟ ينعكس هذا التأكيد في الفرق بين الحلول الممكنة والفعلية. بالنسبة لأصدقاء داروين وخصومه، يتلخص الأمر في بديل بسيط: هل أدلة التكيف الرائع تسوغ الاستدلال على وجود مصمم خارق أم عملية الانتقاء الطبيعي؟ (انظر نيتشر 27 (1882-1883)، 362-364، 528-529). بالنسبة للداروينيين، الاستدلال الكامن وراء حجة التصميم - من نظام الطبيعة إلى الرب المصمم - غير مقبول؛ لأنه لا ينتمي إلى عالم العلوم الطبيعية، ولكن كما توضح نظرية التصميم الذكي، لا توجد عقبة من الناحية المنطقية تمنع استنتاج التصميم على الأقل. ويتفق مؤيدوها مع الداروينيين على أن الأمر يتلخص في مسألة الدعم. أي فرضية من الفرضيتين - التصميم أم الانتقاء الطبيعي - تتلقى دعما أفضل من الأدلة؟ لم يدع الداروينيون قط أن فرضية الانتقاء الطبيعي صحيحة تماما وأن فرضية التصميم خاطئة تماما. العديد من الاستنتاجات مسموح بها منطقيا، ولكن هل هي مقبولة ؟ الاستنتاجات المقبولة تمثل مسألة دعم بالأدلة. وسنميز عما قريب بين الأدلة «الإيجابية» و«الداعمة». وهنا يكفي أن نميز الدليل الداعم كدليل يثبت فرضية واحدة على حساب الأخرى. وبالنظر إلى الأدلة، من المقبول استنتاج معقولية نموذج تفسيري واحد على حساب النماذج المنافسة له. هذه هي الطريقة التي جادل بها الداروينيون. في بعض الحالات تمنح الأدلة دعما لفرضية واحدة وتضعف منافستها. لم يجادل داروين في سياق فكرة التصميم المثالي الغامضة نوعا ما؛ فقد درس التوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع، وأصنافها وأوجه التشابه بينها والتكيفات، وقال إن هذه المجموعة من الأدلة يمكن تفسيرها من خلال اللجوء للانتقاء الطبيعي. فإذا كان يوجد تشابه تشريحي بين القرود والبشر، فإن نشأتهما من سلف مشترك أكثر ترجيحا من نشأتهما على نحو منفصل (داروين 1859، الفصل الثالث عشر، الرابع عشر). إذا كانت السجلات الحفرية تكشف عن العصور القديمة للإنسان، فمن المعقول أن نستنتج أن البشرية أقدم من التأريخ الزمني الذي يقدمه الكتاب المقدس. لاحظ أن هذا يجعل المحاولات التفسيرية من جانب المؤمنين بنظرية الخلق قديمي الطراز أكثر صعوبة، ولكن ليست مستحيلة. فيمكن للمؤمن بنظرية الخلق أن يجادل دائما بقوله إن الرب زرع المكتشفات الحفرية منذ حوالي 6000 سنة. ويضطر المؤمن بنظرية الخلق إلى خوض هذه المناورات؛ لأن عمر المكتشفات الحفرية يتعارض من النظرة الأولى مع الأدلة. ويتجنب منظرو التصميم الذكي مثل هذه المناورات؛ فهم يفضلون استنتاج التصميم. تشير نظرية الانتقاء الطبيعي إلى أسباب مادية، وتعتمد حجج التصميم على قوة خارقة للطبيعة. تسمي حجج التصميم المتعصبة هذه القوة، أما حجج التصميم الحديثة فتتركها دون تسمية. ويتفق منظرو التصميم الحديث مع الداروينيين على الحاجة إلى توافر أدلة داعمة. ولا يوجد منطقيا أي خطأ في الانتقال من الأدلة إلى التصميم، ولكن ذلك يتطلب كسرا لسلسلة التفسير الطبيعي. فيطلب منا أن نقفز قفزة واسعة من الاستدلالات المقبولة إلى الاستدلالات المسموح بها.
دخلت الداروينية فضاء مفاهيميا مزدحما بالنماذج التفسيرية المتنافسة. كان الداروينيون دائما يشاركون في تفسيرات معارضة (انظر مربع 2-4). نظرا لنتائج وايزمان السلبية بشأن وراثة الخصائص المكتسبة، أصبح من الأقل احتمالا أن يحظى تفسير لامارك بدعم كبير من الأدلة. وعلى النقيض من ذلك، كان الانتقاء الطبيعي يعمل على الأنماط الظاهرية للاختلافات الجينية العشوائية. فقط لو أن الخلايا الوراثية تنقل، فإن هذا يتوافق مع اعتقاد داروين بالاختلاف المتناحي. ونظرا لعدم وجود تكيفات مثالية وترتيب متناغم في الطبيعة، تضاءلت قوة حجة التصميم. عانت النظرية الداروينية نفسها من صعوبات متنوعة؛ فكانت هناك حجة «الحلقة المفقودة»، التي عزاها داروين - في هذه الحالة وحدها - إلى فقر سجل الحفريات. ثم جاءت حسابات طومسون لعمر الأرض. لم تكن تسعون مليون سنة كافية لأداء عملية التطور التدريجي البطيء الخفية التي تخيلها داروين. وكانت ثمة شكوك حول القيمية التفسيرية للانتقاء الطبيعي نفسه. ورغم أن الداروينيين اعترفوا بالصعوبات، فإنهم ظلوا يعتبرون النموذج الدارويني متفوقا على نظرية الخلق الخاص.
أما منتقدو داروين فقد اتهموه بإهمال مخجل للمبادئ البيكونية؛ فكانوا يرون أن الطريقة الصحيحة هي رصد الطبيعة والتعميم من مشاهدات بعض الحالات على جميع الحالات. وانغمس داروين في تخمينات جامحة. رد هكسلي بأنه قد كتب الكثير من «الرياء الزائف علميا» عن الفلسفة البيكونية (هكسلي 1907، 364-365؛ هيكل 1866، الفصل الرابع؛ جرين 1980، 314). أصبح هكسلي وهيكل على بينة من أهمية تأكيد مصداقية الأساليب الداروينية. ورأى كلاهما أن ذلك يتطلب مزيجا من الاستقراء والاستنباط النقدي. ونسبا الفضل في اكتشاف هذا المزيج إلى جون ستيوارت ميل.
مربع 2-4: الاستدلال على أفضل تفسير أو الإقصاء
إذا كان الاستدلال على أفضل تفسير يعني فحسب أننا نستنتج من الأدلة المتاحة تفسيرا نعتبره أفضل تفسير لهذه الأدلة، فإنه لا ينبغي الخلط بين الاستدلال على أفضل تفسير والاستقراء الإقصائي. سوف نرى في الفصل الثالث أن فرويد استدل من الظواهر المرصودة، مثل السلوك العصبي والأحلام، على تفسير بشأن اللاوعي الديناميكي، ومع ذلك، لا يمكن أن يقدم هذا تفسيرا كافيا ما لم نقارنه مع عدد من التفسيرات المتنافسة (ليبتون 2004
2 )؛ فنحن بحاجة إلى الاستدلال على أفضل تفسير «معارض»، بحيث يمكن للأدلة تقديم قيمة احتمالية للتفسيرات المتناقضة. وفي هذه النقطة على وجه التحديد يعد إجراء فرويد معيبا على نحو حزين؛ فهو يستخدم الأدلة الهزيلة لتأكيد نموذج اللاوعي، دون تقييم احتمالية التفسيرات المنافسة.
ادعى داروين أنه وصل استقرائيا إلى مبدأ الانتقاء الطبيعي ، ولكن هذا لا يثبت أنه نظرية صالحة. قدم داروين عددا من المشاهدات التي أوحت إليه أن تنوع الأنواع وتكيفها مع البيئة الطبيعية يمكن تفسيره من خلال الآلية المادية للانتقاء الطبيعي. ولكن مثل هذه التعميمات من عينة صغيرة نسبيا قد تكون مضللة على نحو خطير. استدل الأوروبيون عادة من ملاحظتهم للبجعات البيضاء أن جميع البجعات كانت بيضاء، وقد دحض هذا التعميم الاستقرائي تماما عندما اكتشف المستوطنون بجعات سوداء عند وصولهم إلى أستراليا. وفي الحقيقة فإن فرانسيس بيكون - الذي هاجم منتقدو داروين أسلوب داروين «الهش» على خلفية منهجه - وصف:
الاستقراء، الذي يتبع إحصاء بسيطا (...) بأنه طفولي؛ استنتاجاته غير مستقرة، ومعرض لخطر حالة من التناقض، كما أنه يحدد عموما وفق عدد قليل للغاية من الوقائع، وعلى الحقائق الوحيدة المتاحة. (بيكون 1620، الكتاب الأول)
سنرى في الجزء التالي أن فرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل اقترحا كلاهما طريقة أكثر تعقيدا من الاستقراء بالإحصاء، وأطلقا عليه الاستقراء الإقصائي. (6-2) التجريبية الفلسفية
ولكن دعونا نكمل أولا الخطوات التي دافع بها هيكل وهكسلي عن طريقة داروين. ربما نصل إلى نموذج، مثل الانتقاء الطبيعي أو مركزية الشمس، من خلال خطوة استقرائية من عدد معين من المشاهدات، بمساعدة من مبدأ نظري معين، ولكنها تظل مجرد تخمينات أو فرضيات. وبمجرد توافر هذه النماذج تصبح خاضعة للاختبارات، وهنا يبدأ دور الجزء الاستنباطي. وفقا للمعرفة القياسية، فإننا نستمد من النموذج تنبؤات معينة، يجب اختبارها. يمكن الوفاء بهذه المطالبات في الكوبرنيكية ولكن لا يمكن ذلك في الداروينية. لم تكن الداروينية قادرة على تقديم تنبؤات رقمية دقيقة عن السلوك المستقبلي للكائنات البيولوجية. وكان داروين قادرا على تضمين الحقائق المعروفة حينها، التي ظلت محيرة في نظر النظريات المنافسة. على سبيل المثال، فإن التشابه التشريحي الكبير لدى القردة والبشر - وجود أعضاء بدائية - وجد تفسيرا طبيعيا في الفرضيات الداروينية. ظل هذا التشابه محيرا في نظرية الخلق الخاص. قدمت نظرية التطور إطارا يمكن استخدامه لاستخلاص الحقائق المستوعبة. ثمة ما هو أكثر من ذلك؛ غالبا ما تميز المناقشات الحديثة بين الأدلة أو فبمجرد توافر الإطار النظري، يمكن استخدامه للاستدلال على النتائج الاستنباطية أو الاستقرائية. وكانت الحقيقة الأكثر إثارة التي استخلصها الداروينيون من نظرية التحدر هي احتمالية نشأة الإنسان الحديث من البشر الأوائل، وفي النهاية من القرود الشبيهة بالبشر من خلال التفرع. أنشأت الداروينية رابطا جديدا بين عصور البشر القديمة ومسار التحدر. لا يمكن التعامل مع هذا الاستنتاج كتنبؤ جديد، لأنه يدرج حقيقة معروفة على نحو مستقل في النظرية الجديدة. ركز عالم الأحياء الألماني فريتز مولر على التاريخ التطوري للقشريات. وجد العديد من التفاصيل الفسيولوجية - التي وصفها بتفصيل شديد - تفسيرا طبيعيا في نظرية التحدر، ولكنها أضفت سرعة تصديق على نظرية الخلق الخاص. وجد مولر في التفاصيل الفسيولوجية المعقدة للقشريات أدلة قليلة على «خطة الخالق الثابتة». وأشار إلى أن التفاصيل التشريحية للقشريات يمكن أن تستمد من وجهة نظر داروين. تشكل هذه العواقب الاستقرائية دليلا داعما للداروينية (مولر 1864). كان داروين معجبا للغاية بعمل مولر - واصفا له بأنه «إثبات رائع» لعقيدته - حتى إنه رتب لترجمة إنجليزية نشرت في عام 1869 (براون 2003، 259-260).
فرانسيس بيكون (1561-1626).
يطلق هيكل على هذا التفاعل بين الاستقراء والاستنباط «التجريبية الفلسفية». إنه تفاعل بين الخبرة والعقل، توليفة من التجريبية والعقلانية، ولكن كما أشار العديد من العلماء في ذلك الوقت أيضا، لا توجد مشاهدات جيدة من دون نظرية سابقة. وكما رأينا، عمل كوبرنيكوس وداروين على خلفية من التفسيرات المنافسة. ينبغي أن نضيف شرطا مهما آخر في هذا التفاعل؛ أي نظرية جيدة تكسب قبولا - إما عن طريق تأكيد التنبؤ الجديد أو عن طريق التلاؤم الناجح - يجب أن تنفي النظرية المنافسة. إن الطريقة البيكونية أو الميلية (نسبة إلى ميل) الحقيقية هي طرق للإقصاء، كما أشار ميل:
يؤمن معظم الناس باستنتاجاتهم بدرجة من الراحة تتناسب مع حجم الخبرة التي يبدو أنهم يستريحون معه، ولا يدركون أنه عبر إضافة حالات إلى حالات، كلها من النوع نفسه (...) فإنه لا شيء يضاف إلى دليل الاستنتاج؛ فمن شأن حالة واحدة أن تقصي بعض الحالات السابقة، التي كانت موجودة على نحو شائع، أن تكون أكثر قيمة من العدد الأكبر من الحالات. (ميل 1843، الكتاب الثالث، الفصل العاشر)
على سبيل المثال، استمتع عشرون شخصا بوجبة في مطعم ولكن ثمانية منهم أصيبوا بتسمم غذائي. وبالتحقيق وجدنا أن هؤلاء الثمانية تناولوا طبق الدجاج، في حين أن الاثني عشر شخصا المتبقين تناولوا أطباقا أخرى مختلفة، وتناول العشرون جميعا حلويات مختلفة. يحق لنا أن نستنتج أن طبق الدجاج، ربما، يكون السبب. لقد أقصينا الأطباق الأخرى لأنه لا أحد من الاثني عشر شخصا شعر بالمرض. وهذه هي طريقة ميل المسماة «منهج الاتفاق». كان جميع الضحايا سيئو الحظ مشتركين في شيء واحد؛ أنهم أكلوا طبق الدجاج. يقدم ميل عددا من أساليب الإقصاء، بما في ذلك «منهج الافتراق». إن المبادئ «البيكونية» الحقيقية تعمل عن طريق الإقصاء كما أقر هيكل وهكسلي وميل؛ فقد كان منتقدو داروين مخطئين. لنتناول قوة الإقصاء. (6-3) بعض مبادئ الإقصاء
هل كدس داروين حقيقة فوق حقيقة، أم أنها كانت حقيقة فوق نظرية؟ (جيزلين، «انتصار الطريقة الداروينية» (1969)، 232)
ادعى داروين في سيرته الذاتية أنه قام بعمله وفق مبادئ استقرائية حقيقية: «يبدو أن عقلي قد أصبح نوعا من آلات استخلاص القوانين العامة من مجموعات الحقائق الكبيرة (...)» (داروين 1958، 54؛ هكسلي 1907، الفصل العاشر، 284). في الواقع، اتبع داروين مبادئ «بيكونية» حقيقية. لم يكن الاستقراء يعني بالنسبة لبيكون ولا لميل فعليا استقراء بسيطا بالإحصاء؛ فالاستقراء مسألة ذات حدين: ففي حين أنه يدعم نموذجا ما، فإنه ينفي في الوقت نفسه نموذجا منافسا. وهذا يسمى «الاستقراء الإقصائي» (نورتون 1994، 1995؛ فاينرت 2000). توجد لدينا ظاهرة «ظ». في كثير من الأحيان في تاريخ العلوم تقدم نماذج التفسير المتنافسة تفسيرات لهذه الظاهرة. ما النموذج الصحيح؟ لنفترض أن «ظ» هي وقوع جريمة وحشية، كما هي الحال في رواية لي هاربر «أن تقتل طائرا بريئا». قبل أن يجمع المحققون الأدلة حول «ظ»، فإن أي إنسان حي على الأرض يمكن منطقيا أن يكون الجاني، ولكن سرعان ما تبدأ الأدلة في إقصاء أعداد هائلة من المشتبه بهم المحتملين. حدثت «ظ» في مكان معين، «ك
1 »، وفي وقت معين «ق
1 ». تستبعد الحقائق الأولية الغالبية العظمى من الجناة المحتملين؛ ففي «ق
1 » كان معظمهم في موقع آخر «ك
2 ». وتزداد الأدلة دقة. وبعد مرور فترة قصيرة، لا يتبقى في القائمة سوى أسماء قليلة. لنفترض أن اثنين من المشتبه بهم، «ش
1 » و«ش
2 »، لا يزالان في القائمة. سيحاول المحققون جعل الأدلة دقيقة بحيث تشير على نحو مؤكد إلى «ش
1 » أو «ش
2 ». ولنفترض أن أدلة الحمض النووي ربطت المشتبه به «ش
1 » بالجريمة. يجعل هذا «ش
1 » المشتبه به الرئيسي ويقلل من احتمال أن يكون «ش
2 » ارتكب الجريمة. إن إجراءات العلماء لا تختلف كثيرا عن عمل المحققين؛ فالعالم مثل المحقق الذي يرغب في ربط الأدلة المتاحة - على نحو مفضل - بنموذج واحد من النماذج التفسيرية. يجب أن تحدد قيمة الأدلة احتمالية التفسير. ويمكننا أن نستنتج مصداقية النموذج التفسيري من مدى قوة إشارة الأدلة إليه.
من أين تأتي الأدلة؟ تأتي من المشاهدات، كما هي الحال لدى كوبرنيكوس وداروين، وقد تأتي من التجارب المعملية. وربما تقدم المبادئ الفيزيائية أيضا أدلة. تخبرنا الفيزياء أنه لا يمكن أن توجد «حركة أبدية»، وأنه لا يمكن لأي مادة أن تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء. من أين تأتي هذه النماذج؟ ربما جرى التوصل إليها من خلال خطوات استقرائية بسيطة؛ من خلال فرضية أو تخمين. وبمجرد توافر النماذج، فإننا نحتاج إلى أدلة لها القدرة على دعم أحد النماذج أكثر من منافسيه. كان بيكون على دراية تامة بإجراءات الإقصاء تلك. فبعد أن رفض الاستقراء بالإحصاء ووصفه بأنه «طفولي»، شرع في تحديد تفسير أكثر إيجابية:
ولكن الاستقراء، الذي ينبغي أن يكون متاحا لاستكشافات العلوم والفنون وإثباتها، يجب أن يحلل الطبيعة من خلال الرفض والاستثناء المناسبين؛ ثم بعد عدد كاف من النتائج السلبية، يتوصل إلى استنتاج بشأن الحالات الإيجابية ... (بيكون 1620، الكتاب الأول)
ويذكرنا ميل بأنه يجب علينا تكرار التجارب والمشاهدات لاستبعاد أخطاء الرصد أو القياس. ويجب أن تكون نتائجنا التجريبية والرصدية موثوقة، ولكن بمجرد فعل ذلك،
فإن تكرار الحالات، الذي لا يستبعد أي ظروف أخرى، لا طائل منه تماما ... (ميل 1843، الكتاب الثالث، الفصل العاشر)
ولكن الرفض والإقصاء وحدهما لن يحققا ذلك؛ فنحن مهتمون ببعض النماذج العاملة، التي يمكنها التوافق على نحو كاف مع الأدلة. إذا قوضت مصداقية أحد النماذج التفسيرية، يجب أن تثبت الأدلة نفسها النموذج المنافس. ماذا يعني القول إن نموذجا يمكنه أن «يتوافق» مع الأدلة؟
يجب أن نناقش أربع سمات أساسية للاستقراء الإقصائي: (1) التمييز بين الأدلة الإيجابية والداعمة، و(2) استكشاف فضاء الاحتمالات، و(3) التمييز بين النماذج البديلة والمنافسة، و(4) ملاءمة الحقائق المعروفة مقابل التنبؤ بالحقائق الجديدة. (6-4) السمات الأساسية للاستقراء الإقصائي (1)
غالبا ما تميز المناقشات الحديثة بين الأدلة أو الحالات «الإيجابية» و«الداعمة». الأدلة «الإيجابية» هي نتيجة استقرائية لبعض النماذج التفسيرية المتنافسة. وتنبع الحالات الإيجابية استقرائيا من مبادئ نظرية ما. وعلى العكس من ذلك، تأتي الأدلة «الداعمة» على نحو مثالي في شكل تنبؤات جديدة، تتفق مع نموذج واحد فقط من النماذج المتنافسة. تشكل الحالات الداعمة اختبارات للنظريات المتنافسة. ربما تتخذ أيضا شكل التوفيق الناجح للحقائق المعروفة في إطار عمل أحد النماذج، بينما تقاوم هذا الاندماج في النموذج الآخر. واحتكم بيكون للتجارب الحاسمة التي تقف عند مفترق الطرق بين أي تفسيرين متعارضين (بيكون 1620، الكتاب الثاني). فهذه التجارب تمتلك القدرة على التأثير في الحجة لصالح أحد التفسيرين على حساب التفسير الآخر. طبق بيكون هذا على الفرضية الكوبرنيكة؛ هل كان دوران الأرض حقيقيا أم ظاهريا. فاقترح نتائج تجريبية عديدة قابلة للاختبار، يمكن أن تقر - على سبيل المثال - بمركزية الأرض أو بمركزية الشمس. تدبر بعض الأمثلة:
الحالات الإيجابية لكل من مركزية الأرض ومركزية الشمس هي الحركة المنتظمة للكواكب وسلوك الأجسام على الأرض. أما الحالات الإيجابية لكل من اللاهوت الطبيعي والداروينية فهي تنوع الأنواع وبعض السجلات الحفرية. وتتوافق الحالات الإيجابية مع الإطار المنطقي للنماذج المتنافسة؛ فهي لا توزع قيم الاحتمال على نحو غير متساو على هذه النماذج، وهذا يخلق صعوبة تفسيرية شديدة. فلو كان يوجد نماذج متنافسة تدعي تفسير الظواهر، رغم الأدلة المتاحة، فلن يكون لدينا أي تفسير على الإطلاق. إذا كان يمكن تفسير جميع الظواهر الأرضية من خلال مركزية الأرض أو مركزية الشمس على حد سواء، وإذا كان يمكن تفسير جميع الظواهر البيولوجية على نحو متساو باستخدام نظرية الخلق الخاص ومبدأ الانتقاء الطبيعي، فلن يكون لدينا حقا أي تفسير نقدمه؛ فالنظام الشمسي لا يمكن أن يكون أرضي المركز وشمسي المركز في الوقت نفسه، ولا يمكن أن تكون الأنواع ناتجة عن الخلق والتطور في الوقت ذاته. إننا نعلم على وجه اليقين أن النظام الشمسي شمسي المركز، وهذا يجعل مركزية الأرض غير متفقة مع الحقائق. ومعظم علماء الأحياء واثقون إلى حد ما من أن الأنواع قد تطورت، وهذا يجعل نظرية الخلق غير قابلة للتصديق؛ فعلى غرار المحقق تماما، يحتاج العالم إلى أدلة تشير نحو نموذج واحد وتنأى به عن منافسيه.
تلعب الأدلة الداعمة دورا مزدوجا يتمثل في التأكيد والدحض. وكما أكد بيكون، فإن التجارب الحاسمة يمكن أن تزيد من مصداقية نموذج ما على حساب النموذج المنافس له. ويمكن أن يلعب رصد الحقائق الجديدة دورا مماثلا. في تاريخ مركزية الشمس، كانت هذه الأدلة الداعمة تدعم بشدة الفرضية الكوبرنيكية؛ فقد كان رصد براهي للمذنبات والمستعرات العظمى، ورصد جاليليو لأقمار المشتري، والتنبؤ المشترك بين آدامز وليفيريه بوجود نبتون (1846) يتفق مع الكوبرنيكية وليس مع مركزية الأرض. كما أيدت الأدلة الداعمة نظرية داروين للانتخاب الطبيعي ضد التفسيرات المنافسة؛ مثل اكتشاف الأنواع البشرية والحيوانية المنقرضة في السجل الحفري، والتشابهات التشريحية بين القردة الشبيهة بالبشر والإنسان، والتشابه في التطور الجنيني، وتنوع الأنواع في توزيعها البيولوجي الجغرافي.
من المهم إدراك أن النموذج الباقي على قيد الحياة هو النموذج الأنسب المتاح فيما يتعلق بالأدلة المتاحة. لا يلزم أن يكون النموذج الصحيح. ومهما كانت ما تعنيه الصحة، من الصعب جدا على النظريات العلمية تجنب التجريدات والمثاليات. وليس من الممكن الوصول إلى نظريات علمية معقدة عن طريق استقراء بالإحصاء بسيط . فجميع النظريات تخمينية، ومن وجهة نظر منطقية، ربما يوجد عدد لا حصر له من النظريات. يجب أن نكون دائما على دراية بفضاء الاحتمالات؛ أي فضاء النماذج الممكنة والفعلية، التي يمكن - على نحو متساو - أن تفسر الأدلة. من ناحية أخرى، في تاريخ العلم لم تتح نماذج متنافسة في الوقت ذاته إلا بعدد قليل. واجهت مركزية الشمس مركزية الأرض وبعض التنويعات الأخرى. وواجهت الداروينية نماذج التصميم، وبعض النماذج التطورية البديلة. كيف يمكننا أن نفسر ندرة النماذج في الممارسة العملية؟ (2)
لنتصور «فضاء من الاحتمالات». يشكل هذا الفضاء من الاحتمالات فضاء منطقيا أو مقيدا؛ لأنه يحتضن نماذج فعلية وغير فعلية. تخيل الفضاء المقيد كشبكة مجردة تتضمن خلايا تنتظم في صفوف وأعمدة. يمكن اعتبار المخططات الملونة من مصنع الدهانات فضاءات منطقية. يوجد، على سبيل المثال، العديد من الخلايا الملونة بدرجات اللون الأصفر. ربما لا تكون هذه الدرجات هي جميع الدرجات الصفراء التي يمكن تصنيعها. وفي الواقع تقدم درجات جديدة في كل موسم. يحتوي المخطط الأصفر على مساحة للعديد من درجات اللون الأصفر، ولكنه يستبعد جميع درجات الألوان الأخرى؛ فهي تنتمي إلى فضاء منطقي مختلف. يسمح بدخول بعض العناصر لأحد الفضاءات المقيدة ولكن لا تدخلها كلها. إن اللوحة الكبيرة ذات الثقوب المثلثة والمستطيلة تسمح بمرور المثلثات والمستطيلات الأصغر من فتحاتها. وسوف تحظر جميع الأشكال الأخرى التي يتجاوز حجمها حجما معينا. يمكن أن نفكر في «القيود» على أنها تحدد هذه الفضاءات المنطقية. انظر للقيود مرة أخرى على أنها شروط تقييدية من النوع التجريبي والنظري. إنها تؤدي دور «حراس المرمى». تسمح القيود لبعض العوامل المتغيرة بالدخول إلى النطاق مع استبعاد العوامل الأخرى. ويوضح إجراء اختيار بسيط في مدينة الملاهي قوة القيود. إذا لم يكن طولك يصل لارتفاع معين
h ، فإنك صغير لدرجة تمنعك دخول اللعبة. هذا قيد تجريبي. وثمة قيود نظرية أيضا؛ فإذا لم تتمكن من حل المعادلات التفاضلية، فإن حياتك المهنية كفيزيائي سوف تكون قصيرة. تخيل القيود كرسم حدود حول الفضاءات المقيدة (انظر الفصل الأول، القسم 6-4، ب). (3)
يمكننا أن نستخدم القيود للقيام بتمييز ضروري في فضاء النماذج المقيد. تحدثنا حتى الآن بحرية عن النماذج المتنافسة، دون تحديد هل كانت «بدائل» أم «منافسة». في مجال مفاهيمي ما ستكون بعض النماذج ليست إلا بدائل، وفي مجالات أخرى ستكون منافسة حقيقية. و«النماذج البديلة» متنافسة ولكنها متوافقة منطقيا؛ لأنها تشترك في قيود متماثلة. وغالبا ما تفي «التفسيرات المتنافسة» بقيود متباينة ولا تشترك إلا في بعض الفرضيات المتداخلة. على سبيل المثال، جميع نماذج مركزية الشمس منافسة لنماذج مركزية الأرض. جميع نماذج التطور غير الغائية منافسة لنظريات التطور الغائية. وجميعها تنتمي إلى فضاءات مقيدة مختلفة. وتضع القيود، التي تحدد هذه الفضاءات، معايير مختلفة للعضوية فيها. والتفكير في الموقف في سياق التنافس له ميزة مباشرة. فوجود مجموعة معينة من القيود لا يقصي نظرية تفسيرية واحدة فحسب، بل فئة كاملة من النظريات التفسيرية المتنافسة بضربة واحدة. على سبيل المثال، التأكيد على مركزية الشمس يلغي جميع نظريات مركزية الأرض؛ فالبنية الجبرية الطوبولوجية لمركزية الشمس غير متوافقة مع البنية الجبرية الطوبولوجية لمركزية الأرض. بعبارة أخرى، إذا كان نظام الكواكب الشمسي المركز وتحكمه قوانين نيوتن، فإنه لا يمكن لنظرية أرضية المركز أن تفي بالقيود التي يفرضها نظام كوكبي شمسي المركز. ونظريات التطور الداروينية تلغي جميع النظريات الغائية، سواء كانت في شكل حجج التصميم أو التطور التدريجي؛ فالبنية الجبرية الطوبولوجية للتاريخ الدارويني لا تتوافق مع النظريات الغائية. تكمن البنية الطوبولوجية في نموذج التطور التفرعي، والبنية الجبرية في آلية الانتقاء الطبيعي. وهذا يعني أنه إذا كان التطور مدفوعا بالانتقاء الطبيعي، فإن هذا لا يمكن توفيقه مع أي فكرة للتصميم أو التطور التدريجي؛ فالنماذج المتنافسة غير متوافقة منطقيا، وهي غير متوافقة لأنها تقع في فضاءات مقيدة مختلفة.
قلنا إنه اعتمادا على القيود العاملة، فإنها تشكل فضاءات مقيدة مختلفة. ويمكننا استخدام الكوبرنيكية والداروينية لتقديم توضيحات للفضاءات المقيدة والنماذج المتنافسة والبديلة. تتفق اللاماركية والداروينية على عدم ثبات الأنواع، ولكنهما تختلفان بشأن الطبيعة الغائية للتطور وآلية الانتقاء. ويتفق كبلر وكوبرنيكوس على الموضع المركزي للشمس ولكن يختلفان بشأن شكل مدارات الكواكب. ويمكن اعتبار الدائرة - بعد تجريدها من أغلفتها الميتافيزيقية - بمنزلة إصباغ للمثالية الرياضية على المدار الإهليجي. إن النماذج الكوبرنيكية نماذج «بديلة ». والنماذج الكوبرنيكية الناضجة تتعارض جذريا مع النموذج البطلمي؛ لأنها لا تشترك معها في البنية الجبرية والطوبولوجية نفسها، ومن ثم ليست لها القيود نفسها. إنها نماذج متنافسة، وليست نماذج بديلة. أما نموذج لامارك التطوري فهو منافس «بديل» لنموذج داروين التطوري؛ لأنهما يتفقان على تنوع الأنواع، ولكن النماذج التطورية تختلف جذريا عن نماذج التصميم الغائي؛ وهي متنافسة، وليست بدائل.
15
ثمة معيار مفيد لتحديد هل كان النموذجان بديلين أم متنافسين، وهو يكمن في درجة التغيير المسموح به. يمكن تعديل النظام اللاماركي والنماذج الكوبرنيكية. وما عدل في كلتا الحالتين كان البنية الجبرية: من الوراثة فوق الجينية إلى الانتقاء الطبيعي، ومن المدارات الدائرية إلى الإهليجية. في حالة النماذج الكوبرنيكية، لم يؤثر هذا التغيير على البنية الطوبولوجية الشمسية المركز، ولكنه كان يعني تحويل الدائرة من أداة ميتافيزيقية إلى أداة رياضية. وفي حالة النماذج اللاماركية، أدى التغيير في البنية الجبرية إلى تغيير في البنية الطوبولوجية، من التطور الخطي إلى التطور التفرعي، ولكن لا يمكن تعديل نماذج التصميم ومركزية الأرض بهذه الطريقة؛ فكلتا بنيتيها الطوبولوجية والجبرية تتعارضان مع تبني الانتقاء الطبيعي والمدارات الإهليجية على الترتيب، رغم الأدلة المتاحة.
عندما نفكر في فضاء الاحتمال، يجبرنا المنطق على اعتباره لا ينضب؛ فيمكننا دائما إجراء تغييرات على النماذج الحالية لإنشاء نماذج محتملة جديدة. عمليا، يعمل العلم دائما مع مجموعة محدودة من النماذج المتاحة. وعندما ننخرط في استقراء إقصائي، فإننا نستخدم البيانات التجريبية، والنتائج الفيزيائية الرياضية، والفرضيات الميتافيزيقية، والمعتقدات المنهجية كقيود لتوجيه اختيارنا. لقد رأينا كيف يضع استدلال التصميم أو نماذج التطور أمامنا خيارا فلسفيا؛ وهو أن نضع ثقتنا في نظرية التطور أو نماذج التصميم. ويعني وضع الثقة في نظرية التطور اعتناق مذهب الطبيعانية. ويشمل هذا التعبير عن الثقة والأمل في أن تحل المشكلات المعلقة في المستقبل. وتعني الثقة في نماذج التصميم إعلان أن الانتقاء الطبيعي غير قادر على تفسير التعقيد وعدم احتمالية البنى. الأمل هو أن استدلال التصميم من النظام سوف ينال الاحترام على المستوى العلمي. وبينما نستبعد نموذجا واحدا لصالح نموذج منافس له - لنفترض أننا نستبعد سلسلة الوجود الكبرى لصالح التحدر مع التعديل - فإننا نستبعد فئة كاملة من النماذج المنافسة، مثلا كل تلك النماذج التي تفترض ثبات الأنواع. إننا نستبعد فئة، وليس نماذج فردية منافسة وحسب؛ لأن جميع النماذج في هذه الفئة (المحتملة والفعلية) تخالف القيود الموضوعة. وهذا يترك لنا فئة من النماذج البديلة، ولكنها ليست مهددة على نحو خاص؛ لأنها تتشارك في عدد كبير من القيود. وفي كثير من الأحيان يمكن فرزها وفق مقياس من المعقولية مع اكتشاف أدلة جديدة. (4)
تمثل «الملاءمة» إحدى المشكلات المقلقة. غالبا ما يوافق الفلاسفة على أن التنبؤات الجديدة تشكل أنقى أنواع الاختبارات التي يمكن أن تتعرض لها النماذج التفسيرية. وكثيرا ما ينظر للملاءمة بعين الشك. يخشى أن تبنى النماذج مع وضع الحقائق المعروفة في الاعتبار، مما يعرضها إلى نقيصة الظرفية (سيلوس 1999، الفصل الخامس؛ هوسون/وورباخ 1993، 147-160). على سبيل المثال، عندما واجه داروين حجة الرابط المفقود، أجاب بادعاء أن السجل الحفري كان فقيرا جدا. في عصر داروين كان هذا الدفاع ملائما لهذا الوقت وحسب، وقد حمى نموذج داروين من الاعتراضات الخطيرة. لحسن حظ داروين، تحسن السجل الحفري، وأزال حجة الرابط المفقود، ومع ذلك، فإن ملاءمة النماذج مع الأدلة الموجودة والمعروفة دائما ما يسبب مشكلات خاصة، كما سيوضح تحليلنا للفرويدية لاحقا. ومع هذا، ثمة أمثلة مشهورة للملاءمة في تاريخ العلم. كان تقدم الحضيض الشمسي لعطارد معروفا بالنسبة للفيزياء الكلاسيكية ولكن لا يمكن تفسيره في النموذج النيوتوني. الحضيض الشمسي هو أقرب نقطة في مدار الكوكب إلى الشمس. في حالة عطارد، تتقدم هذه النقطة على مدى فترة من الزمن؛ فبدلا من عودة الحضيض دائما إلى نفس النقطة بعد المدار السنوي، يشكل مدار عطارد نمطا يشبه الوردة. تمكن أينشتاين من استيعاب هذه المشكلة داخل نظريته النسبية العامة (1916). وعندما بنى نيلز بور نموذجه الشهير لذرة الهيدروجين (1913)، بناه بحيث يتلاءم مع العديد من الظواهر الذرية المعروفة في ذلك الوقت: تجارب التشتت، وتمايز الأطياف الذرية. لم يقدم كوبرنيكوس تنبؤا واحدا جديدا، ولا داروين . كان عملهما هو تحقيق التوافق مع عدد ضخم من المشاهدات؛ فوفرا إطارا متسقا تكون فيه المشاهدات منطقية. ومثل هذه الحالات من الملاءمة لا تسبب المشكلات لسببين: (1) في جميع هذه الحالات قدمت النماذج الجديدة على خلفية النظريات المنافسة. فإذا كان النموذج يفسر حقيقة معروفة، تهدد اتساق نموذج منافس، فإن الملاءمة لا تشكل خطرا جسيما. لقد واجهنا عدة أمثلة؛ فالكوبرنيكية تفسر على نحو طبيعي الحركة القهقرية، التي أجبرت مركزية الأرض على تبني حل غير طبيعي. والداروينية تفسر بأناقة تنوع الأنواع، الذي أجبر حجج التصميم على تبني العديد من أعمال الخلق. (2) كان لهذه النظريات نتائج قابلة للاختبار، حتى لو كانت تعاني قصورا في التنبؤات الجديدة. بمجرد أن توفر النظرية إطارا متسقا للحقائق المعروفة، تتبعها النتائج الاستنتاجية والاستقرائية. إنها لا تمتلك تأثير التنبؤات الجديدة، ولكنها، رغم ذلك، ربما تعزز الدعم التجريبي للنظرية. تستطيع الكوبرنيكية تفسير تعاقب فصول السنة، كنتيجة استنتاجية لبنيتها. وينتج تفسير عصور الإنسان القديمة على نحو طبيعي من التحدر مع التعديل.
ميزنا بين أربع سمات أساسية للاستقراء الإقصائي. كان النموذج الكوبرنيكي والدارويني جيدا للغاية في هذا الصدد. وتستطيع النظرية الكوبرنيكية، من بين أمور أخرى، تقديم تقدير دقيق للترتيب النسبي للكواكب من الشمس. ويمكن للنظرية الداروينية، من بين أمور أخرى، تفسير تكيف الأنواع مع بيئاتها المحلية. هذه النتائج الاستنتاجية والاستقرائية تعزز التوحيد، وينبغي اعتبارها دليلا داعما. استكشف كوبرنيكوس وداروين كلاهما النماذج المنافسة لنموذجيهما، لكنهما رأيا أن فضاء الاحتمالات استنفده المنافسون. سعى كوبرنيكوس إلى دحض مركزية الأرض، وكان داروين مشغولا في الغالب باستكشاف نقاط ضعف نظرية الخلق المنفصل. بالنظر إلى السمات الجبرية والطوبولوجية لمركزية الشمس ومركزية الأرض، من السهل تماما التمييز بين النماذج المنافسة والنماذج البديلة. وبالنظر إلى العملية الجبرية للانتقاء الطبيعي في الداروينية، مقابل الانتقاء الإلهي في اللاهوت الطبيعي، من السهل مرة أخرى التمييز بين المنافسين والبدائل . واقترحنا، كمعيار، درجة التغيير المقبول في نموذج ما في ضوء الأدلة. لقد كان الكوبرنيكيون والداروينيون منشغلين بملاءمة الحقائق المعروفة على نحو أكبر بكثير من انشغالهم بتقديم تنبؤات جديدة. (6-5) قابلية الدحض أم قابلية الاختبار؟
قبل بوبر تماما انتقاد هيوم للاستقراء البسيط؛ الاستقراء بالإحصاء. لا يوجد دليل منطقي على أنه يحق لنا أن نستنتج من رصد بعض حالات «ص» العبارة العامة «جميع ص» كما أنه لا يوجد دليل تجريبي. ولا يمكننا أن نستنتج من نجاح ممارساتنا الاستقرائية في الماضي نجاحها في المستقبل؛ لأن هذا يفترض مسبقا نفس مبدأ الاستقراء، الذي نهدف إلى إثباته. وخلص بوبر من هذه الحالة إلى أنه من المستحيل إثبات حقيقة نظرية علمية عامة على أساس عدد محدود من المشاهدات. فلا يمكن استخلاص النظريات العامة في العلم من خلال الاستدلال الاستقرائي. قلب بوبر هذه الحالة. فلا يمكننا التحقق من حقيقة نظرية عامة عن طريق المشاهدات أو التجربة، ولكن يمكننا أن نظهر على الأقل أن نظرية ما خاطئة. فإذا طرحت نظرية عامة في صورة قد تتناقض مع بعض المشاهدات، التي استخلصت منها، فإننا عندئذ لدينا سبب للاعتقاد بأن النظرية خاطئة. هذا هو الاختلاف بين الإثبات والدحض. فلا يمكن إثبات النظرية العلمية ولكن يمكن دحضها؛ فالنظرية تدحض عندما تتعارض إحدى نتائجها الاستنتاجية مع اكتشافاتنا التجريبية بشأن العالم (بوبر 1959؛ 1963؛ 1973). يعد قانون كبلر الأول للمدارات الكوكبية الإهليجية اكتشافا يدحض فرضية المدارات الدائرية في نظرية مركزية الأرض ونظرية مركزية الشمس الكوبرنيكية. وفي الوقت نفسه يشكل رفضا لمركزية الأرض وتعديلا لمركزية الشمس؛ لأن المدارات الإهليجية تضع الشمس كنقطة محورية. وتتناقض اكتشافات الحفريات في القرن التاسع عشر مع ثبات الأنواع في النظريات غير التطورية. وفي الوقت نفسه تمثل رفضا ل «سلسلة الوجود الكبرى» وتعديلا للنظريات التطورية السابقة لأنها ظلت ملتزمة بالغائية.
ادعى بوبر أنه استبعد الممارسات الاستقرائية في العلم نهائيا، وقد خلق تأثير بوبر الشديد على فلسفة العلوم في القرن العشرين انطباعا بأن الممارسات الاستقرائية أحداث غير مهمة في تاريخ العلم، في حين أن الممارسات الاستدلالية هي القاعدة. كان بوبر معجبا للغاية بالنظرية النسبية لأينشتاين؛ فقد كانت تخمينا جيدا مبتكرا بحرية أدى إلى ثلاثة تنبؤات دقيقة قابلة للاختبار (تقدم الحضيض الشمسي لعطارد ، وانزياح الضوء نحو الأحمر في مجالات الجاذبية، وانحناء الضوء بالقرب من الأجسام الجاذبة)، ولكن دراستنا للكوبرنيكية والداروينية أقنعتنا بأن الممارسات الاستقرائية منتشرة في العلوم، ولكنها تتخذ صورة الاستقراء الإقصائي بدلا من الاستقراء بالإحصاء. ورد الفيزيائي ستيفن واينبرج على هيمنة الدحض بطريقته الخاصة؛ فلم يجد حالة واحدة من الدحض «خلال المائة سنة الماضية» (واينبرج 1993، 102). وإنصافا لبوبر، ينبغي أن نتذكر أنه يتطلب قابلية دحض النظريات وليس دحضها الفعلي.
هل يجب أن نقرأ معيار بوبر بأنه قابلية للدحض أم قابلية للاختبار؟ فإذا أخذنا كلام بوبر حرفيا للغاية - فالإصرار على أن النظريات تكون علمية فقط إذا كانت قابلة للدحض - فسيقودنا هذا إلى استنتاجات غير متناسقة. فلا يمكن دحض العبارات العلمية المحترمة تماما بشأن استحالة وجود آلات دائمة الحركة. ولا يمكن دحض الأبحاث الكونية عن وجود المادة المظلمة. يستبعد معيار القابلية للدحض البحث بشأن الوجود الإيجابي لبعض الكيانات أو القوى، كما يجعل النظريات التي يعتبرها تاريخ العلوم علمية غير علمية. أراد علم الفلك البطلمي إنقاذ الظواهر من خلال البنى الهندسية الرائعة. ولم يكن يوجد التزام بحقيقة الأدوات الهندسية، ولا تنبؤات جديدة. فشل علم الفلك البطلمي كنظرية علمية وفق بوبر، ومع ذلك، فإنه يصنف كمنافس جاد ضمن نماذج الفلك الإغريقية؛ فقد تنبأ بالظواهر المعروفة ونظمها، ولم يصبح قابلا للاختبار إلا على المدى الطويل. ما رأينا في نظريات مثل التنجيم والتحليل النفسي الفرويدي، التي يمكن أن تكون لها نتائج قابلة للدحض؟ إذا كان التنجيم ونظرية فرويد قابلين للدحض من حيث المبدأ، من خلال تقديم تنبؤات يثبت خطؤها، هل يجب أن نعتبرهما علميين؟ وماذا نفعل بشأن النظريات المعتمدة على النماذج، مثل ميكانيكا نيوتن، التي تواجه شذوذا، مثل تقدم الحضيض الشمسي لعطارد؟ وقع تقدم الحضيض الشمسي لعطارد ضمن مجال نظرية نيوتن، ولكن لم يكن من الممكن تفسيره، ولم ترفض نظرية نيوتن بسبب هذا الفشل.
يفرض بوبر بعض القيود الصارمة على النظريات الجديدة التي تحل محل النظريات القديمة. يجب أن تقدم النظرية الجديدة تأكيدات أكثر دقة من النظرية القديمة؛ فيجب أن تفسر حقائق أكثر من النظرية القديمة ويجب أن تفسرها بمزيد من التفصيل، كما يجب أن تتخطى النظرية الجديدة الاختبارات التي فشلت فيها النظرية القديمة، ويجب أن تتخطى اختبارات جديدة، وكذلك يجب أن توحد النظرية الجديدة أيضا الظواهر غير المرتبطة بعضها ببعض حتى لحظة تقديمها (بوبر 1963، الفصل العاشر). وبوجه خاص، يجب أن تحدد النظرية العوامل التي تقيم العلاقات بينها. ويجب أن تكون العوامل والعلاقات قابلة للقياس الكمي. وكما رأينا، فإن هذه العلاقات القابلة للقياس الكمي بين العوامل غالبا ما تشكل أساس قوانين العلم. يتعذر على علم التنجيم الوفاء بهذا الشرط؛ إذ يمكن تحديد مواضع النجوم في السماء بدقة عددية، ولكن لا ينطبق الأمر نفسه على صفات الشخصية. ويجعل هذا الإخلال من الصعب قياس أي ارتباط مفترض بين صفات الشخصية ومواضع النجوم.
يمكننا تلخيص هذا المعيار تحت مسمى «قابلية الاختبار». يمكننا طرح قابلية الاختبار كوسيلة للإقصاء أو كنشاط «مقارن» (انظر صوبر 1999) فرغم كل شيء، تستند معايير بوبر على مقارنة بين النظرية القديمة والنظرية الجديدة. تحدث أسهل حالة عندما تقدم النظرية القديمة التنبؤ الأول وتقدم النظرية الجديدة تنبؤا ثانيا مختلفا. وفق نظام بوبر، إذا لم يحدث التنبؤ الثاني، تعتبر النظرية الجديدة مدحضة، وتؤكد النظرية القديمة لو رصد التنبؤ الأول، لكن ماذا يحدث لو قدمت النظرية القديمة والنظرية الجديدة التنبؤ نفسه - مثلا تنبؤ يتعلق بحركة المريخ - وكانت النظرية القديمة والنظرية الجديدة تستندان إلى مبادئ مختلفة على الترتيب؟ وفقا للاستقراء الإقصائي، تعتبر هذه التأكيدات إيجابية ولكن ليست دليلا داعما؛ فعلينا انتظار دليل داعم يميز بين النظريتين. إن نموذج بوبر التطوري للنمو المنطقي للمعرفة العلمية يملأ فضاء الاحتمالات بعدد من التفسيرات البديلة والمتنافسة؛ إذ يسمح بتنافس عدد من الحلول المؤقتة المعنية بمشكلة معينة، حتى تقصي عملية إزالة الأخطاء بعض الحلول المؤقتة، وتترك عددا من الحلول المؤقتة الأكثر تعقيدا التي تعالج في هذه اللحظة مشكلة أكثر دقة. في نقده لقابلية الدحض، أكد كون أيضا على الحاجة إلى عدد من النظريات المنافسة يختار بينها وفقا لمعايير معينة (هوينينج-هين 1993). وتخبرنا طريقة الاستقراء الإقصائي عن النماذج التي ينبغي أن نعتبرها الأفضل من حيث القوة التفسيرية وفي ضوء الأدلة المتاحة. فنتوقع أن النموذج الباقي لن يصف الظاهرة وحسب، ولكن يفسرها أيضا. وينبغي أن يسمح لنا باستخلاص ظواهر جديدة أو ملاءمة حقائق معروفة. وبمجرد أن تختار طريقة الاستقراء الإقصائي نموذجا كأفضل مرشح للتعامل مع الأدلة المتاحة، يطرح هذا السؤال: كيف يفسر النموذج الدليل؟ ما التفسير العلمي؟ يمكننا الإجابة على هذا السؤال بأفضل طريقة من خلال دراسة بعض نماذج التفسير. (6-6) التفسير والتنبؤ
تفسر الظاهرة عندما يتبين أنها إحدى حالات قانون عام للطبيعة (...). (هكسلي، «أصل الأنواع» (1860)، 57)
هل أنت راصد صبور؟ تخيل أنك تعيش بجانب البحر ويثار فضولك بشأن نمط المد والجزر، فتقرر أن تضع جداول تدخل فيها أوقات انحسار وارتفاع المياه. بعد فترة من الوقت سوف تميز بلا شك النمط وتقدم تنبؤات بشأن المد العالي المقبل. ربما لا تكون توقعاتك دقيقة لدرجة تحديد الدقيقة والثانية، ولكنك ستكون قادرا على التنبؤ بالمد والجزر بدقة كافية لا يصل هامش الخطأ فيها إلى ساعات. تشعر بالتشجيع بسبب نجاحك، فتحول انتباهك إلى القمر. ترصد مراحل القمر، وترسم أفضل ما تستطيع من رسومات. تلاحظ أن الأمر يستغرق حوالي 28 يوما بين البدرين. وخلال فترة قصيرة، تكون قادرا على التنبؤ بمراحل القمر مع هامش خطأ مقبول.
يمكنك التنبؤ بمراحل القمر والمد والجزر. هل هذا يعني أنه يمكنك تفسيرها؟ بالتأكيد لا! كونك قادرا على التنبؤ لا يعني كونك قادرا على التفسير، وكونك قادرا على التفسير لا يعني بالضرورة أن تكون قادرا على التنبؤ.
تسمح لك النتائج المجدولة لمراحل القمر والمد والجزر بتقديم تنبؤات دقيقة إلى حد ما. ربما لا يكون لديك أي فكرة عن كيفية نشأة هذه الظواهر الطبيعية. لست وحدك في هذا الأمر. لقد تنبأ الإغريق القدماء بحركات الكواكب بدقة تبلغ نحو 5 بالمائة من القيم الحديثة. كان لدى الإغريق نموذج «تفسيري» استندت إليه توقعاتهم، ولكن نموذجهم - نموذج مركزية الأرض - كان خاطئا. فليس العالم المادي أرضي المركز. كان الإغريق قادرين على تقديم تنبؤات جيدة ولكن كان لديهم تفسير خاطئ تماما. ومن خلال نموذج مركزية الشمس، اقترب التنبؤ والتفسير أحدهما من الآخر. تعد مركزية الشمس الكوبرنيكية تقريبا جيدا للبنية الطوبولوجية للنظام الكوكبي، ولكن البنية الجبرية خاطئة. وظل كوبرنيكوس يعمل ضمن نموذج الحركة الدائرية المثالية الإغريقي، ومع ذلك، فإن النموذج الكوبرنيكي استوفى بعض القيود المفروضة على الفضاء المنطقي الذي يقبع فيه. وفي هذا الفضاء المقيد، شهد عددا من التحسينات المهمة التي ارتبطت بكل من كبلر وجاليليو ونيوتن. ومن خلال هذه الخطوات العملاقة، تحسنت البنية التفسيرية لنموذج مركزية الشمس على نحو كبير. وأظهر النموذج النيوتوني للنظام الشمسي بنية جبرية وطوبولوجية تتناسب مع بنية النظام المادي على نحو أفضل. وبهذا فقد قدم النموذج النيوتوني تفسيرا جيدا للنظام الكوكبي. وأدى ذلك إلى تحسين دقة التنبؤات بهذا النموذج الكوبرنيكي المتطور، وقد توج هذا النجاح بالتنبؤ بوجود كوكب جديد؛ وهو نبتون. حسب جون سي آدامز وجيه جيه لوفيرييه (1811-1877) من خلال الميكانيكا النيوتونية أن الاضطرابات الملحوظة في مدار أورانوس لا بد أن تعود إلى وجود كوكب آخر. وشرع يوهان جال (1812-1910) في برلين في البحث عن الجرم الجديد واكتشف كوكب نبتون في عام 1846، ولكن استعصى تقدم الحضيض الشمسي لعطارد على أي تفسير نيوتوني له.
صورة لجون سي آدامز (1819-1892).
يميل المرء إلى الاعتقاد بأن الكفاية التفسيرية للنظرية سوف تؤدي إلى القدرة على التنبؤ، ولكن مثال علم الفلك يمكن أن يقودنا إلى اتجاه خاطئ. عندما يكون العالم معقدا للغاية فإن توافر مبادئ تفسيرية جيدة لا يضمن استقاء تنبؤات جيدة. فإذا كنت راصدا جيدا لمراحل القمر والمد والجزر، ربما تكون راصدا جيدا للحالات المزاجية البشرية. ثمة زميل لك يتمتع بود غامر لا يقل عن أدبه الجم، ولكنه تجاهلك بينما عبرت أمامه في الحرم الجامعي. وعلمت لاحقا من صديق أن زميلك عانى نوبة من الأخبار السيئة في ذلك اليوم بالذات. فقمت بوضع تفسير: كان في هذا المزاج السيئ حتى إنه لم يرغب في النظر إلى أي شخص، ناهيك عن التحدث مع أي شخص . هذا أمر مفهوم! لقد عزوت جفاء زميلك غير العادي إلى انزعاجه الشديد في ذلك اليوم. يمكنك التعاطف معه، كما يمكنك تفسير ذلك. هل يعني هذا أن بإمكانك التنبؤ بأن زميلك سيظهر الجفاء مرة أخرى إذا وصلته أخبار سيئة مرة أخرى؟ مستحيل! البشر معقدون للغاية حتى إنه يستحيل تقديم هذه الاستدلالات السهلة. ربما يكون زميلك في المرة التالية ودودا للغاية عندما تعبر أمامه مرة أخرى وذلك لتوقه إلى نسيان الأخبار السيئة؛ لذلك من الممكن أن تفسر دون أن تكون قادرا على التنبؤ.
بصورة ما، هذا هو موقف نظرية التطور الداروينية؛ فالتطور بالمعنى الدارويني هو نظرية إحصائية. وتتحدث نظرية الانتقاء الطبيعي عن «ميل» السمات المواتية إلى البقاء والسمات غير المواتية إلى الاختفاء. إن نجاح الأنواع - أي مجموعة من الأفراد - لا يعتمد وحسب على سماتها المواتية؛ فالسمات المواتية تعتمد على نوعية البيئة التي تنتمي إليها الكائنات. إن صلاحية الأنواع ناتجة عن البيئة التي تحاول الأنواع البقاء فيها على قيد الحياة والتكاثر؛ ولذلك من المستحيل التنبؤ بدقة كبيرة بمسار الأنواع خلال إحدى مراحل الحياة، ولكن بما أن النظرية التطورية نظرية إحصائية، فإنها قادرة على إصدار تنبؤات إحصائية. تشير التنبؤات الإحصائية إلى السلوك المستقبلي لمجموعات الأفراد وليس إلى أفراد المجموعة. وبمعنى معين، من الصحيح أن نقول إن نظرية التطور يمكن أن تفسر ولكنها لا تتنبأ، ولكن بعد ذلك نطبق فكرة القدرة على التنبؤ الدقيق، وهي مستمدة من علم الفلك، حيث يمكن التنبؤ بمدار الأجرام الفردية بدقة كبيرة. يستطيع علم الفلك التنبؤ بالمستقبل والتنبؤ بالماضي، ولكن ينبغي ألا ننسى أن التنبؤات الإحصائية مصدر ثمين للمعلومات. يضع الاقتصاديون تنبؤات بشأن الأداء الاقتصادي لبلدان كاملة على مدى فترات محددة. ويضع علماء الاجتماع تنبؤات عن تأثير الظروف الاجتماعية على المعايير الصحية أو الأداء التعليمي لبعض الفئات العمرية. ويتنبأ متخصصو علم الإجرام بحدوث ارتفاعات في الجرائم الجنائية على الأقل خلال فترة زمنية محددة.
وبما أن التفكير في التجمعات السكانية هو النموذج السائد في علم الأحياء التطوري في الوقت الراهن، فمن المتوقع فقط أن يؤدي إلى تنبؤات إحصائية. تأمل نسبة هاردي-واينبرج (التي تنص على أن تواترات الألائل وتواترات النمط الجيني تبقى ثابتة في التجمع):
p
2 : 2pq: q
2 ، حيث
p
و
q
تمثلان اثنتين من ألائل أحد الجينات في تجمع سكاني. ستبقى هذه النسبة بين السكان من جيل إلى جيل إذا لم يحدث تدخل من بعض العوامل. وربما تتمثل هذه التدخلات في فقدان جينات موجودة أو وصول جينات جديدة. فإذا حدث هذا فسوف تضطرب النسبة وقد يحدث التطور (انظر ماير 2001، 96-97؛ فيشر 1930، 22؛ ويليامز 1973؛ رايس/هوستيرت 1993). على سبيل المثال، تأمل التأثير القابل للتنبؤ به الخاص بإدخال سناجب رمادية على مجموعة من السناجب الحمراء. سيكون تأثير الانتقاء الطبيعي أن يكون من المرجح أن تنخفض أعداد السناجب الحمراء. وستحدث تغيرات مماثلة في أعداد التجمع السكاني إذا حدثت تدخلات اصطناعية أو طبيعية في السلسلة الغذائية لأحد الأنواع. وتتعلق التنبؤات الأخرى بعملية الانتواع. لماذا تتشعب التجمعات السكانية وتتطور إلى سلالات مختلفة؟ يتنبأ أحد النماذج المقنعة بأن العزلة الجغرافية التي تقسم التجمع السكاني إلى مجموعتين فرعيتين يمكن أن يؤدي إلى تقسيم السلالة. ومن التبعات التنبئية للانتواع التبايني وجود بعض الأشكال الانتقالية. وينبع وجود الأشكال الانتقالية من منطق حجة داروين. وكما ذكرنا سابقا، وجد الباحثون في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر بقايا لأشباه البشر، اختلفت قليلا عن الإنسان الحديث. وتدعم هذه الأشكال الانتقالية المتماثلة فرضية التحدر مع التعديل، التي تفهم هنا على أنها الانتواع التبايني. وأظهر اكتشاف البقايا الحفرية للطيور البدائية مثل «الأركيوبتركس» و«هيسبيرورنيس ريجاليس» مزيدا من الأشكال الانتقالية، وقد كانت تشبه الزواحف في أحد الجوانب المهمة؛ إذ كان لديها أسنان قوية (هكسلي 1876، 94-113؛ ماير 2001، 14، 67؛ الشكل
2-11
أ و
2-11
ب).
يؤدي نقاشنا إلى استنتاج أنه يوجد اختلاف معين بين التنبؤ والتفسير. من الناحية المثالية، تسمح لنا مبادئنا التفسيرية بوضع تنبؤات دقيقة، ولكن ثمة العديد من مجالات المعرفة البشرية لا توجد فيها هذه الحالة المثالية. فلا يمكننا أن نتنبأ دائما رغم قدرتنا على التفسير. ولا يمكننا التفسير دائما رغم قدرتنا على التنبؤ. (6-7) بعض نماذج التفسير العلمي
تنعكس بعض نماذج التفسير العلمي الأكثر أهمية في النهج الكوبرنيكي والدارويني والفرويدي.
شكل 2-11: (أ) يبلغ طول «هيسبيرورنيس ريجاليس» خمس وست أقدام ويشبه الزواحف في الأسنان الناتئة (المصدر: تي إتش هكسلي، «المقالات المجمعة»، المجلد الرابع (1898)، 96)؛ (ب) مقطع جانبي وعلوي لنصف الفك السفلي ل «هيسبيرورنيس ريجاليس»، وكذلك صور للفقرة وسنة منفردة. (المصدر: تي إتش هكسلي، «المقالات المجمعة»، المجلد الرابع (1898)، 97). (أ) نماذج هيمبل
ما التفسير العلمي؟ يشتهر كارل هيمبل بنموذجيه للتفسير. قدم هيمبل النموذج الاستدلالي الطبيعي والنموذج الاستقرائي الإحصائي (هيمبل 1965). وفقا لهيمبل، يتمثل تفسير الظاهرة
في إدراجها تحت الحالة القياسية
R . على نحو أكثر دقة، تتمثل فكرة هيمبل العامة في أننا نقدم تفسيرا لحدث ما
E ، إذا كنا نستطيع إيضاح أنه يتبع قوانين عامة وشروطا أولية إما استنتاجيا (استدلالي طبيعي) أو باحتمالية كبيرة (استقرائي إحصائي). يتكون أي مخطط تفسير من عنصرين؛ الظاهرة التي ينبغي تفسيرها (أو «المفسر»)، والمبادئ التي تقدم التفسير (أو «الأسباب»). ويتألف التفسير نفسه من جزءين: القوانين العامة والشروط الأولية. ويعبر عن القوانين العامة بأشكال رمزية عامة (على سبيل المثال، قانون نيوتن الثاني
F = ma ). ومن أجل استخلاص المفسر، نحتاج إلى إدراج قيم معينة في الصورة العامة. وتنبع هذه القيم المعينة من الشروط الأولية (على سبيل المثال، قيمة الكتلة والتسارع). ثم ينتج التفسير إما كنتيجة منطقية من السبب (النموذج الاستدلالي الطبيعي) أو باحتمال كبير (النموذج الاستقرائي الإحصائي). لنفترض أن
هي فترة دوران عطارد حول الشمس.
هي المفسر. وفقا للنموذج الاستدلالي الطبيعي لهيمبل، نفسر
من خلال إظهار أنها تقع تحت الأسباب. وفي هذه الحالة، تتكون الأسباب من قانون كبلر الثالث
A
3 ∝
2 (
A
هي متوسط المسافة بين الكوكب والشمس، و
هي فترة الكوكب، التي تمثل المفسر) والشروط الأولية المعينة (متوسط المسافة بين عطارد والشمس). تنبع قيمة
من الأسباب. ولنفترض أن
R
تمثل تعافي شخص معين من العدوى بعد العلاج بالبنسلين. يمكننا تفسير هذا التعافي (المفسر) من خلال معرفة (أ) أن 95 بالمائة من المرضى الذين يعانون الالتهابات يستجيبون جيدا للبنسلين، و(ب) يعاني مريضنا المذكور من عدوى يمكن معالجتها بالبنسلين (تشكل (أ) و(ب) الأسباب). على النموذج الاستقرائي الإحصائي، كما هو مذكور في المخطط، من المرجح أن يتعافى المريض. وهذا هو تفسير إحصائي لسبب تحسن صحة المريض. ومن المفيد أن نفكر في العوامل المتغيرة المادية والقوانين العامة، التي تدخل المخططات التفسيرية، على أنها قابلة للقياس. القوانين هي حالة قياسية (دقيقة أو إحصائية) بشأن العالم الطبيعي. تحمل قوانين العلوم رموزا للمعلومات البنيوية الخاصة بالعالم الطبيعي. اقتنع هيمبل بأن التفسير والتنبؤ متماثلان في ظل ظروف معينة. وبمجرد توافر القوانين العامة، تصبح أطروحة التماثل بين التفسير والتنبؤ مغرية؛ فنحن «نفسر» ظاهرة موجودة من خلال إظهار أن وقوعها الحالي يقع تحت القانون، و«نتنبأ» بظاهرة لا وجود لها حتى الآن من خلال اشتقاق حدوثها في المستقبل من القانون. و«نتنبأ» بماضي ظاهرة سبق أن حدثت من خلال اشتقاق حدوثها «الماضي» من القانون.
تعرضت نماذج هيمبل للانتقاد بشأن عدد من القضايا الخاصة، مثل التناظر بين التفسير والتنبؤ (أشينشتاين 1985، 169-181)، وافتراض أن الاحتمالية الكبيرة ضرورية وكافية للتفسير الإحصائي، والفكرة العامة التي مفادها أن إدراج الظاهرة تحت قانون ما يفسر هذه الظاهرة (انظر كيتشر/سالمون 1989).
يمكن تقديم تفسيرات علمية لأحداث «معينة»، مثل ظهور المذنب هالي في 1759 أو طفرة جين معين. وفي كثير من الأحيان يحاول العلم تفسير سمات «عامة» للعالم الطبيعي، مثل المدارات شبه البيضاوية للكواكب أو «أصل الأنواع». وتشير التفسيرات الأكثر عمومية إلى أن العلم لا يهتم حقا باستنباط أو استدلال أحداث معينة من القوانين العامة، كما يشير نموذج هيمبل، كما نستطيع أن نرى من الكوبرنيكية والداروينية، مهمة العلم هي تحديد البنيات الأكثر عمومية في العالم المادي: بنية النظام الكوكبي، وبنية العالم العضوي. تؤدي القوانين دورا مهما في تحديد مثل هذه البنيات. والنظم المادية هي مظاهر لهذه البنيات، وهي تتكون من عناصر، مثل كواكب النظام الشمسي، وعلاقاتها. وتصور الطريقة التي ترتبط بها المكونات معا عن طريق قوانين العلم، مثل قوانين كبلر للكواكب. أبدى داروين تقديره لأهمية بنية النظم الطبيعية عندما قال: «بنية كل كائن عضوي ترتبط (...) بكافة الكائنات العضوية الأخرى» (داروين 1859، 127؛ فاينرت 2004، الفصل 2-5، 1).
بما أن التفسير في العلوم الطبيعية والاجتماعية ينطوي على أنواع مختلفة من الظواهر، فإنها قد تتطلب أنواعا مختلفة من التفسير. لا يوجد نماذج مختلفة للتفسير وحسب، بل يمكن تفسير الظاهرة نفسها عبر وجهات نظر تفسيرية مختلفة. (ب) النماذج الوظيفية
تتكيف الكائنات الحية على نحو رائع مع بيئاتها المحلية، ما يجعل التصميم المتعمد يبدو أنه التفسير الوحيد الممكن. وتفترض النماذج الغائية - سواء أكانت قائمة على التصميم أم التطور التدريجي - أن الأغراض النهائية موجودة في الطبيعة. والوظيفة تسبق البنية. فبنية العضو تستمد من الوظيفة التي يجب أن يؤديها. أراد الصانع أن يدور الدم في أجسام الكائنات، ووظيفة القلب هي تدوير الدم، ولذلك خلق الصانع القلب. وأراد الخالق العظيم أن ترى الكائنات، ولذلك خلق العيون. لم يلتزم لامارك بالتصميم الإبداعي. مع ذلك، استخدام العضو يحدد البنية (لامارك 1809، 113؛ جولد 2002، 177). تتمثل إحدى الصعوبات التي تكتنف هذا التفكير الغائي في أن العيون بنيات متناظرة، تطورت على نحو مستقل 40 مرة في تاريخ الحياة. وهذا يقلل من احتمالية أن الوظيفة تأتي أولا. يعكس التطوريون سلسلة التفكير تلك؛ فالوظيفة نتيجة العضو، وليست السبب في وجوده. يتطور العضو وبنيته قبل الوظيفة. يقول هكسلي (1863أ، 115-123) إن كل الاختلافات الوظيفية تنبع من اختلاف البنية. بعدها يتكيف العضو مع الحالة الجديدة، بل إنه ربما يكتسب وظائف لم يختر من أجلها أصلا. هذا هو التفسير الدارويني لظهور العقول الواعية. تفسر نظرية داروين التطورية تكيف وتنوع الكائنات الحية من خلال نظرية التحدر مع التعديل؛ لذلك، غالبا ما ينظر إلى الداروينية على أنها نظرية وظيفية، «مؤدية إلى تكيف محلي تقترحه البيئة وينظمه الانتقاء الطبيعي» (جولد 2002، 31؛ دينيت 1995، 228؛ روز 2003، 264-270). إن صلاحية الكائنات الحية تنتج عن خصائصها المورفولوجية والظروف البيئية، وليس عن تصميم مقدر على نحو مسبق.
يصبح من الممكن مع الاستدلالات الداروينية النزول من الارتفاعات المسببة للدوار الخاصة بالوظائف المحددة مسبقا إلى مستوى الوظائف المكتسبة المنخفض. في التصور الغائي، تحتاج الوظيفة الموجودة مسبقا إلى عضو، أما في التصور التطوري فالعضو هو الذي يكتسب الوظيفة . على سبيل المثال، كانت القدرة على المشي منتصبا ميزة انتقائية لأشباه البشر الأوائل الذين خرجوا من الغابات لاحتلال السافانا. يعد اختيار السمات المواتية استجابة من الكائن الحي نحو الظروف البيئية. وتعد الوظائف استجابات للضغوط الانتقائية. يمكن تفسير الوظيفة سببيا، وليس غائيا. ثمة مجموعة من العوامل المسببة - منها الصلاحية التفاضلية للكائنات وبنية البيئة - تجعل التأثير محتملا: القدرة على الطيران (وظيفة الأجنحة)، الرؤية (وظيفة العينين)، التنفس (وظيفة الرئتين)، التفكير (وظيفة العقل البشري). من أجل تجنب التفسيرات في سياق الأغراض النهائية، يتوجه عالم الأحياء إلى الاستدلالات الداروينية. تعرض الاستدلالات الداروينية مجموعة من الظروف السببية، التي من المرجح أن تكون قد أنتجت التأثير المرصود. لا يدعي عالم التطور الدارويني أن مجموعة معينة من الظروف ستحدد التأثير الناتج. فنظرية التطور ليست علم الفلك النيوتوني. فلا يمكن تحديد التطور المستقبلي للأنواع من خلال الظروف السابقة والحالية للنسل بدقة تضاهي الدقة الفلكية؛ فالاستدلالات الداروينية تعيد مناقشة الماضي. يمكن - على نحو كاف - تفسير تنوع الحياة، وتكيف الكائنات الحية في بيئاتها من خلال ربط هذه الآثار الملحوظة ببعض الظروف السببية السابقة. ومن غير المرجح أن تشمل هذه المجموعة السابقة رابطا سببيا يمكن تتبعه. توجد الظروف السببية السابقة على مسار النسل الذي ينتمي إليه كل نوع. إن الوظائف ليست غامضة؛ فهي تحظى بتفسير طبيعي شامل (أيالا 1995). بل يمكن في الواقع اختزالها إلى تفسيرات سببية. (ج) النماذج السببية
عند دخول المنزل، تشغل الإضاءة. يسبب الضغط على الزر - كما يبدو - توهج المصباح الكهربائي. لا يمكنك أن ترى طريقة جعل التيار الكهربائي المصباح يتوهج. ولكن من الممكن دائما إنشاء دائرة في المختبر توضح طريقة إغلاق مفتاح الإضاءة للدائرة الكهربائية، والسماح للإلكترونات بالتدفق من خلاله ومقابلة المقاومة في السلك، الذي يبدأ بالتوهج. الشيء الجيد بشأن دائرة المختبر هو أن المجرب يستطيع السيطرة على جميع العوامل التي تدخل الموقف المادي. وهذه السيطرة تجعل من غير المحتمل كثيرا - وإن لم يكن مستحيلا منطقيا - أن تكون ثمة عوامل أخرى مسئولة عن الظاهرة المرصودة.
السببية قضية مهمة في الشئون الإنسانية بسبب آثارها العملية؛ فالسببية هي الغراء الذي يربط الأحداث معا. من المهم في الشئون الطبيعية والاجتماعية فهم سبب حدوث بعض الأحداث؛ فهذا يتيح لنا معالجة العلل الطبية والاجتماعية التي تحيق بنا، كما يساعدنا على السيطرة على البيئة والتأثير فيها. ومن المفهوم أن الفلاسفة كانوا مهتمين بتطوير بعض النماذج المفاهيمية التي تساعد على تفسير هذه المسألة. وكما هي الحال مع النماذج العقلية، فإننا سوف نقصر اهتمامنا على نماذج السببية، التي تعد ذات أهمية في المشكلات التي تواجهنا في الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية بعد ذلك (انظر بسيلوس (2002) لقراءة مناقشة حول النظريات الفلسفية للسببية).
تمثلت رؤية هيوم في أن السببية كانت مسألة تسلسل منتظم للأحداث: نتيجة تتبع سببا على نحو منتظم. كان السبب موجودا دائما قبل النتيجة، وكان السبب والنتيجة متقاربين مكانيا. من الواضح أن مثل هذه التوصيفات غير كافية، وذلك لعدة أسباب: (1) ليس من الصحيح أن كل نتيجة تنبع بانتظام من حدث ما - سبب - يمكن اعتبارها نتيجة للحدث السابق مباشرة؛ فالنهار يتبع الليل بانتظام، والجزر يتبع المد بانتظام، ومع ذلك ليس الليل سببا للنهار والمد ليس سببا للجذر. (2) بعض النتائج تتبع سببها فقط بتواتر إحصائي معين، قد يكون منخفضا للغاية. تأمل الحالة التي تسمى «تدلي الجفون». تصيب حالة تدلي الجفون كبار السن ولكن بتواتر منخفض. وفي حين أنه من الحقائق الإحصائية أن تدلي الجفون هو نتيجة للشيخوخة، فإنه ليس من الصحيح أن الشيخوخة هي السبب الدائم لتدلي الجفون.
أدت رؤية هيوم الأصلية إلى تعديلات أو بدائل، كما هي الحال في نظرية ماكي «للأسباب الضرورية غير الكافية» (ماكي 1980)، وكما هي الحال في تحليل لويس المناقض للواقع (لويس 1986). سنتناول أولا النهج المناقض للواقع، الذي لا يعتمد على مفهوم لويس للعوالم الممكنة ولكن على فكرة وودوارد للتدخلات الافتراضية. ثم نعمم نظرية ماكي بحيث تصير نظرية مشروطة للسببية ؛ وذلك لأسباب تتعلق بمدى قابلية تطبيق السببية على الحالات المطروحة.
نظرية التدخلات المناقضة للواقع
يؤكد وودوارد (2003) - وهو محق في ذلك - على أن النماذج السببية يجب أن تكون عملية؛ بمعنى أنها يجب أن تعكس ممارساتنا السببية. نحن نواجه السببية في الحوادث عندما تكون الحالة السببية خارجة عن إرادتنا، ولكن في محاولات الإنسان للتعلم من الحوادث ومنعها في المستقبل، تبرز سمة رئيسية للسببية. هذه السمة الرئيسية هي أننا نحلل المواقف السببية بعبارات مناقضة للواقع. تجيب التفسيرات السببية على أسئلة «ماذا لو كانت الأمور مختلفة» (وودوارد 2003، 12). وفقا لوودوارد، فإننا نتخيل تجارب أو تدخلات افتراضية، نجيب من خلالها على الأسئلة المناقضة للواقع: (1) «ماذا كان سيحدث للطائرة «لو» لم تشتعل محركاتها؟» (2) «ماذا كان سيحدث للكويكب «لو» كان مداره إهليجي الشكل على نحو أكبر؟» (3) «ماذا كان سيحدث لمجموعة السناجب الحمراء في بريطانيا «لو» لم يقحم السنجاب الرمادي بينها؟» وأخيرا، (4) «ماذا كان سيحدث للحياة البرية في بريطانيا «لو» لم تحدث إبادة للذئاب في هذا البلد؟» في وجهة النظر السببية المناقضة للواقع، سنكون قد استوعبنا الظروف السببية لوضع فعلي، إذا كان التغيير المتخيل في العوامل المختارة - بسبب التدخل الافتراضي - يبين لنا «كيفية ومدى» اختلاف الحالة السببية عن طريقة حدوثها الفعلية. وفيما يتعلق بأول سؤالين للمنهج المناقض للواقع: لو أن محركات الطائرة لم تشتعل فيها النيران، ولو كان مدار الكويكب إهليجيا على نحو أكبر، لم تكن الطائرة ستتحطم فوق الجبل ولم يكن الكويكب سيصطدم بكوكب المشتري. يستطيع علماء الفلك حساب مدى الاختلاف الذي يجب أن يكون عليه المدار الافتراضي للكويكب عن المدار الفعلي بحيث يصطدم مع المشتري. يمكن الإجابة على السؤال الثالث من خلال دراسة الدول القارية: لم تكن فصيلة السنجاب الأحمر في بريطانيا ستهلك لو لم يضف السنجاب الرمادي إليها، في ظل بقاء جميع الظروف الأخرى كما هي. يستطيع علماء الأحياء في بعض الأحيان حساب تأثير إدخال مفترس في بيئة جديدة إذا كان يمكن إجراء تجارب خاضعة للسيطرة.
16
ويشمل تقييم الأسئلة الأربعة المناقضة للواقع النظام البيئي برمته. إن العلاقات متنوعة الأنواع، بين سكان النظام الإيكولوجي والطبيعة الإحصائية لمبدأ الانتقاء الطبيعي، تجعل من الصعب للغاية الإجابة على هذا السؤال المناقض للواقع.
إذا تتلخص النظرية المناقضة للواقع في وجهة النظر القائلة بأن شرطا معينا يصير العامل السببي «ع»، وله تأثير معين «ر»، إذا كان يوجد اختلاف افتراضي محدد في العامل السببي يبين أنه من دونه لن يحدث التأثير أو كان سيحدث على نحو مختلف. يجب أن يكون هذا الاختلاف كبيرا بما فيه الكفاية وثابتا ليكون له تأثير على الوضع المناقض للواقع. إن التغيير البسيط، مثلا في الظروف البيئية، قد لا يهدد حياة الأنواع. حتى الحدث المناخي غير العادي، مثل ثوران بركان نادر، قد لا يقضي على نوع من الكائنات الحية. وفق نظرية وودوارد، السببية هي مسألة تبعية مناقضة للواقع بين ظروف سابقة ونتائج لاحقة، ومع ذلك، لا يمكن للعالم أن يسأل: «ماذا لو كانت الأمور مختلفة؟» قبل أن تتوفر إجابات معقولة عن الأسئلة السببية الفعلية. وما دامت لم تعرف أي حالات قياسية قوية، فستظل الأجوبة على الأسئلة المناقضة للواقع مجرد تكهنات؛ ومن ثم ينبغي أن يسأل العالم عن ماهية العالم الفعلي قبل أن يتمكن من أن يستنتج مما هو معروف عن العالم الفعلي عالما افتراضيا؛ فالحالات القياسية الفعلية تنطوي على حالات مناقضة للواقع.
كيف نقيم - على سبيل المثال - الأسئلة المناقضة للواقع في العلوم الاجتماعية؟ هل كان فرويد سيستطيع الإجابة على سؤال: «ماذا كان سيحدث لمريضي لو لم يمر بهذا الحدث المحفز عصبيا في طفولته؟» قال فرويد ذات مرة:
نجد أكثر ردود الفعل اختلافا لدى الأفراد المختلفين، ونجد لدى الفرد نفسه توجهات ذهنية موجودة جنبا إلى جنب مع عكسها. (فرويد 1931، 233)
لم يمنع هذا الاعتراف فرويد من الزعم بأن التحليل النفسي علم قادر على تقديم عبارات عامة عن الطبيعة البشرية. إذا كانت الحال هكذا، فكيف - على سبيل المثال - سيقيم المؤرخون الأسئلة المناقضة للواقع بشأن المواقف التاريخية؟ «هل كانت ستندلع الحرب العالمية الثانية لو قتل هتلر في مسيرة في 9 نوفمبر 1924؟» ما دامت لا توجد حالات قياسية، فمن الصعب تقييم هذه الأسئلة بدرجة من الثقة. سنشير في الفصل التالي إلى أن العلوم الاجتماعية يمكن أن تعتمد على أنماط الحالة القياسية في العالم الاجتماعي، ولكن من وجهة نظر فلسفية، فإن هذه الأنماط لها منزلة «النزعات» وليس منزلة القوانين، ومع ذلك، ما دام يوجد أنماط سلوك موثوقة نسبيا في العالم الاجتماعي، فسيصبح ممكنا إجراء بعض التقييم النوعي للأسئلة المناقضة للواقع على الأقل. وبالنظر إلى أنماط السلوك البشري والأدلة حول الأحداث التاريخية، فسيكون من الممكن للمؤرخين تقييم المواقف المناقضة للواقع، ولكن يختلف هذا التقييم عن المواقف الافتراضية التي يضعها وودوارد في الاعتبار.
يشير انشغال عالم الطبيعة وعالم الاجتماع بالحالات السببية الفعلية إلى وجود نهج مختلف إزاء موضوع السببية. إن ما سنطلق عليه نظرية السببية المشروطة يمثل تعميما وتعديلا لنظرية ماكي «للأسباب الضرورية غير الكافية» (ماكي 1980).
نموذج السببية المشروط
لنبدأ بالنموذج السببي الميكانيكي، الذي - وفقا له - يجب أن يوجد رابط قابل للتتبع بين السبب والنتيجة، وهو الأكثر إشباعا لحس التفسير لدينا. فنستبدل بفكرة هيوم، الخاصة بالتتابع المنتظم بين السبب والنتيجة، فكرة وجود علاقة سببية قابلة للتتبع بين سبب ما، مثل الضغط على مفتاح الإضاءة، وما يترتب عليه من نتيجة، إضاءة المصباح. إنه النموذج الأكثر إشباعا ولكنه أيضا النموذج الأكثر تقييدا (سالمون 1984؛ 1998؛ داو 2000؛ قارن وودوارد 2003، الفصل 8.1-8.5). وبالمثل بالنسبة لنظرية هيوم، تفرض ثلاثة شروط على الحالة السببية: أن يكون السبب «ع» سابقا للنتيجة «ر» مؤقتا، وأن يكون السبب «ع» قريبا مكانيا من النتيجة «ر»، وأن يوجد آلية قابلة للتتبع تربط السبب «ع» بالنتيجة «ر». تبين التحقيقات العرضية أن هذه الشروط تستوفى في كثير من الأحيان، ولكن ثمة أيضا العديد من الحالات الواقعية التي لا يمكن فيها إيجاد رابط قابل للتتبع. بينما تستلقي على شاطئ بحر في الصيف الحار، هل ترى كيف تهاجم الأشعة فوق البنفسجية خلايا جلدك؟ هل يرى علماء الأحياء كيفية انقسام السلالات؟ هل يمكن لعلم الأعصاب تفسير كيفية ظهور الوعي من العمليات المخية؟ هل رأى نيوتن كيف أن الجمع بين القانون الأول وقانون الجاذبية يبقي الكواكب في مدارها؟ الجواب هو «لا»، ولكن في كل هذه الحالات نشعر براحة بينما نتحدث عن حالة سببية. لماذا؟ لأننا قادرون على تحديد مجموعة من الظروف والشروط السببية الفعلية، التي يمكن اعتبارها كافية على نحو مشترك للتسبب في النتيجة، على الأقل بدرجة مقبولة من الاحتمالية؛ بمعنى أنه بالنظر إلى النتيجة، فإن احتمالية ألا تكون هذه الظروف والشروط مسئولة سببيا عن النتيجة احتمالية ضئيلة للغاية. في الحالات التجريبية في العلوم الطبيعية، يمكن في كثير من الأحيان استبعاد أي تأثيرات خارجية بدرجة يكاد ينعدم معها تأثيرها. ويمكن أيضا حساب التأثير المحتمل للعامل المستبعد. على سبيل المثال، إذا أطلقت نواة ذرة على ذرة أخرى، فإن «الانحرافات» المرصودة لن تكون ناجمة عن وجود الإلكترونات، بسبب الطاقات الموجودة في العملية. وفي البيئة الطبيعية، ربما يكون تأثير بعض الظروف على النتيجة المرصودة أيضا أمرا مستبعدا للغاية؛ فمن غير المرجح للغاية أن قهوتك الصباحية ستسهم في إصابتك بسفعة شمس. ويمكن بسهولة اختبار هذا الأمر؛ تناول القهوة في الصباح وابق بعيدا عن الشمس. لن تصاب بسفعة شمس. على النقيض من ذلك، فإن التعرض للأشعة فوق البنفسجية من المرجح كثيرا أن يسبب سفعة الشمس.
إن أي حالة - قد تكون نتيجة لظروف سابقة معينة - مغروسة ضمن عدد كبير من الظروف. وليست كل هذه الظروف ذات صلة سببية بها. تسمح ظروف الخلفية بحدوث الأشياء على نحو عادي؛ فالطيور تطير، والنباتات تنمو، والأنهار تتدفق. تحدث هذه العمليات وفقا لأنماط منتظمة، ولا نسأل عادة «لماذا؟» ولكن الطائرات تتحطم والنباتات تذبل والأنهار تفيض عن ضفافها. هذه الأحداث تتداخل مع الحدوث العادي للأشياء. وعادة ما نسأل عن أسباب حدوث هذا الاضطراب. ومن بين ظروف الخلفية العادية، نختار مجموعة من الظروف السببية (الضرورية والكافية).
يمثل النموذج الشرطي للسببية تعميما لنموذج ماكي من حيث الظروف الضرورية والكافية
17 (فاينرت 2004؛ 2007). ويتضمن هذه النموذج ثلاث سمات رئيسية؛ أولا: يدعي أن العلاقات السببية يمكن أن توجد بين بعض الظروف السابقة وبعض الظروف المترتبة عليها حتى عندما نفتقر إلى آلية سببية قابلة للتتبع، تسمح لنا بالانتقال من السبب إلى النتيجة والعكس. وربما نفتقر أيضا إلى ميزة التتابع المنتظم، حيث يعني التتابع المنتظم وجود قانون طبيعي (انظر الفصل الأول، القسم 6-5، ج). وكما سنرى في الفصل الثالث، يمكن أن تنشأ العلاقات السببية بين الأحداث الاجتماعية في العلوم الاجتماعية، رغم عدم وجود «قوانين» اجتماعية وآليات قابلة للتتبع إلا في بعض الأحيان. وثانيا: يهتم النموذج الشرطي بالظروف السببية الفعلية، التي يحصل عليها في المواقف السببية، لا المواقف المناقضة للواقع. وكما ذكرنا سابقا، فإن السيناريوهات المناقضة للواقع تمثل إسقاطات من الحالات القياسية الشرعية. ويبدو أن العلوم الطبيعية والاجتماعية تهتم في الغالب بالظروف السببية «الفعلية». وثالثا: يرى النموذج الشرطي العلاقات السببية على أنها أسئلة بشأن التبعية «الشرطية» بين الظروف السابقة والتالية.
وفي حالة عدم وجود آلية قابلة للتتبع ووجود تتابع منتظم، ربما نكون قادرين رغم ذلك على تحديد التبعية الشرطية بالتركيز على مجموعة الشروط (الضرورية والكافية) التي تكفي معا لتفسير النتيجة. يمكننا تسمية السبب الشرط السالف (أو السابق) والنتيجة الشرط التالي (أو اللاحق). وسوف نتناول بعض الأمثلة من عالم الفلك وعلم الأحياء، وسيحلل القسم الرابع في الفصل الثالث أمثلة من العالم الاجتماعي. (1) «حركة الكواكب»: سيكون من الصعب علينا أن نصف النموذج الكوبرنيكي بأنه تفسير سببي. لم يقدم كوبرنيكوس نظرية ديناميكية لمدارات الكواكب. ظل النموذج الكوبرنيكي وصفا حركيا حتى قدم نيوتن نظرية ديناميكية لحركة الكواكب. ويمكن إلى حد ما اعتبار هذه النظرية تفسيرا سببيا. فبطريقة ما، تفسر مدارات الكواكب عن طريق الحصول على حاصل ضرب القوتين الموجهتين في قانون نيوتن للقصور الذاتي وقانون الجاذبية. أشار نيوتن إلى أنه في عالم من دون قوى الجاذبية، فإن الكواكب ستتحرك بحركة مستقيمة ثابتة. يجعل تأثير سحب الجاذبية الكواكب تسقط باستمرار نحو الشمس. ويصنع مزيج الحركة المستقيمة والسقوط نحو الشمس المدارات الإهليجية للكواكب، ولكن الجاذبية ليست آلية سببية تسمح لنا بتتبع آثار الجاذبية الشمسية على الكوكب. اعتبر نيوتن الجاذبية قوة، لكنه كان متحيرا بشأن كيفية تأثير الشمس على كوكب بعيد. فسيكون عليها أن «تبسط» تأثيرها لمسافات هائلة في الفضاء الفارغ. وعلى الرغم من أن الجاذبية تفتقر إلى آلية سببية قابلة للتتبع، فإن التأثير المشترك لقانون القصور الذاتي وقانون الجاذبية أفسح المجال أمام تفسير السبب في تحرك الكواكب في مدارات إهليجية حول الشمس (شكل
2-12 )، ولكن رسخ هذا التفسير «اعتمادا مشروطا» للظروف التالية على الظروف السببية السابقة. ويمكن تقسيم الظروف السببية في هذا المثال على نحو أكبر إلى ظروف ضرورية وظروف كافية. تتمثل «الظروف الكافية» في الأجسام الجاذبة، وليس بالضرورة أن تكون كواكب؛ لأن الأقمار الصناعية تقع أيضا تحت تفسير نيوتن. وتوجد الظروف «الضرورية» في الحالة القياسية الشرعية التي تحكم الظواهر ذات الصلة.
شكل 2-12: حالة كلاسيكية للتفسير السببي؛ مدارات الكواكب المثالية. (2)
هل يمكن أن يصاغ تاريخ الداروينية، الذي قدمناه كاستنتاجات لمسار تحدر الكائن الحي من حالته الراهنة، بلغة الاعتماد المشروط؟ ربما توجد مشكلة، وهذه المشكلة سيكون حضورها قويا للغاية في العلوم الاجتماعية. ربما لا يكون ممكنا تحديد مجموعة محددة من هذه الظروف السببية السابقة. يستند التطور الدارويني على مبدأ إحصائي، مما يؤدي إلى تواريخ احتمالية. والظروف الضرورية للتكيف والتنوع هي وجود الأكسجين والموارد الغذائية للحياة القائمة على الكربون. ويبدو أن هذه الشروط الضرورية تافهة إلى حد ما، ولكن من الممكن أحيانا أن تكون أكثر تحديدا. على سبيل المثال، هل العزلة الجغرافية شرط ضروري لتقسيم السلالة، كما يعتقد داروين؟ إذا رصد حدوث انتواع تماثلي (بواسطة تفضيلات التزاوج)، فلا يمكن أن تكون العزلة الجغرافية شرطا ضروريا للانتواع. هل التدرج شرط ضروري للتطور؟ لا تزال الأهمية الحقيقية للتدرج أمرا خلافيا حتى اليوم. وعلى الرغم من أن ذلك جزء لا يتجزأ من الداروينية المتعصبة، فإن وضعها الخلافي في نظرية التطور يمنع اعتبارها ببساطة شرطا ضروريا. تشكل هذه الظروف تحديات للبحوث المستقبلية في علم الأحياء التطوري. ماذا عن الظروف الكافية؟ يوضح الداروينيون أنه في ظل وجود عدد من الظروف البيئية والكائنات العضوية، فإن تكيف الكائن الحي يمثل نتيجة محتملة. إن لمعرفة هذه الظروف الكافية أهمية كبيرة في المواقف التي يريد فيها البشر التدخل في النظام البيئي للأنواع. فقد أوقف انقراض نوع ما مثل ثعلب الماء؛ لأن شروط التناسل التفاضلي - النظرة الحديثة للانتقاء الطبيعي - معروفة على نحو كاف.
في سياق توافر مجموعة من الظروف الضرورية والكافية، فإن الداروينية في وضع مماثل لوضع عالم اجتماع أو مؤرخ تاريخ سياسي. وكما سنرى، يمكن للمؤرخ تحديد مجموعة من الظروف الاجتماعية والسياسية التي «من المرجح» أنها سببت حربا في بلد ما، ولكن من الصعب للغاية على عالم الاجتماع أن يحدد مجموعة من الشروط الضرورية والكافية التي يمكن اعتبارها ضرورية وكافية معا لحدوث حدث تاريخي أو اجتماعي معين، ومع ذلك، توجد تفسيرات سببية في العلوم الاجتماعية، كما سنرى. ولشرحها نحتاج إلى نموذج فلسفي معدل للسببية يتوافق مع العلاقات الاجتماعية. طور ماكس فيبر تفسيرا لما سماه «السببية الكافية». يمثل هذا التفسير نسخة من النموذج الشرطي، الذي تناولناه في هذا الجزء. ويعد كافيا للعلوم الاجتماعية لأنه يخلو من أي فكرة للتتابع المنتظم أو العلاقات السببية بين حدثين اجتماعيين. ويبين أن وظيفة عالم الاجتماع هي بناء نماذج سببية من البيانات الاجتماعية الموجودة بحيث يمكن موضوعيا اعتبار مجموعة من الشروط المسبقة ظروفا أكثر احتمالا لإحداث التأثير في العالم الاجتماعي.
على غرار بعض تفسيرات العلوم الاجتماعية، التواريخ الداروينية تفسيرية. ربما تفتقر إلى آلية سببية قابلة للتتبع بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ففي ظل الظروف المختبرية، يمكن رصد حدوث الطفرات الجينية في الفيروسات - مثل فيروس الإيدز - على نحو مباشر، ولكن خارج المختبر، لا يمكن رصد عمل الانتقاء الطبيعي إلا على نحو غير مباشر، كما هي الحال مثلا في حالة اسوداد الجلد الصناعي (اسوداد العث في المناطق شديدة التلوث في بريطانيا في القرن التاسع عشر). ويرجع هذا الافتقاد للرد «المباشر» إلى الفترات الزمنية التي تنطوي على التغيرات التطورية. تفشل معظم المسارات الداروينية في تحديد مجموعة محددة من الشروط الضرورية والكافية التي تحدد معا وقوع بعض الأحداث التطورية، ومع ذلك، فإن الاستدلالات الداروينية تعتبر بحق تفسيرية. ما نوع النموذج التفسيري الذي تستوفيه التواريخ الداروينية؟ لنقل إن الداروينيين يعتبرونها نماذج سببية مشروطة، لأن مجموعة الشروط الضرورية والكافية تشير إلى تفسير كاف للأحداث التطورية.
ولكن يمكن أيضا النظر إلى تفسيرات مركزية الشمس والتفسيرات التطورية من وجهة نظر «نماذج التفسير البنيوية»، التي ستعامل هنا كشكل من أشكال التوحيد. (د) التفسيرات البنيوية
في البحث العلمي، يسمح بابتكار أي فرضية، وإذا كانت الفرضية تفسر فئات متعددة كبيرة ومستقلة من الحقائق، فإنها ترقى إلى رتبة نظرية ذات أساس راسخ. (داروين، «تغاير الحيوانات والنباتات بتأثير تدجينها»، مقتبسة في سمولين، «حياة الكون» (1997)، 161)
لا يوجد نظرية تفسيرية تتميز بشيء متفرد. وسيتعين على مجالات واسعة من البحث العلمي أن تعمل من دون تحديد الآليات السببية. وبينما نقترب من العلوم التاريخية، فإننا نفقد القدرة على تحديد مجموعة محددة من الظروف الضرورية والكافية، ومع ذلك، فإن التوحيد المعزز يمثل سمة من سمات العلوم راسخة القواعد، مثل علم الفلك والفيزياء وعلم الأحياء. ويحدث التوحيد عندما تندرج الظواهر التي تبدو غير مرتبطة - مثل سقوط تفاحة ومدارات الكواكب أو الأوضاع البيئية المناسبة والتوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع - تحت مجموعة من المبادئ المؤكدة على نحو جيد. ومن خلال تتبع تاريخ التنادد إلى التحدر مع التعديل، مدفوعا بالانتقاء الطبيعي، تحقق التفسيرات الداروينية التوحيد. ويعزز التوحيد أيضا عن طريق تتبع تاريخ التناظرات الخاصة بالتطور المقارب. لقد تقدم النموذج الكوبرنيكي خطوة نحو توحيد الظواهر الأرضية والسماوية عن طريق إسناد بنية شمسية المركز إلى المشاهدات واعتناق نظرية الحركة المرتبطة بالزخم. ويمكن وصف التوحيد في سياق الدمج (فريدمان 1981؛ كيتشر 1989)؛ حيث تدمج الظواهر المرصودة في بنية نظرية أكبر مجردة نسبيا؛ فنحن نفسر الحركات الأرضية والسماوية من خلال دمجها في الميكانيكا النيوتونية. ونفسر الظواهر البيولوجية المختلفة عن طريق دمجها في نظرية التطور الداروينية. تمتلك هذه البنيات النظرية قوة موحدة كبيرة.
يعد التفسير البنيوي شكلا من أشكال التوحيد. وتشدد النماذج البنيوية على السمات البنيوية للتفسير. بالمعنى الأساسي، يحدث التفسير البنيوي عندما يمكن نمذجة خصائص أو سلوك نظام معقد؛ أي يمكننا بناء نموذج يمثل بنية النظام. فنحدد بنية أساسية للظواهر المرصودة (ماكمولين 1985؛ هيوز 1989، 256-258). والقول هنا أسهل بكثير من الفعل؛ فغالبا ما يكون لدينا مجموعة من المشاهدات، وينبغي وضعها في بنية متسقة لكي تكون منطقية. يمتلك النظام الشمسي بنية، وكذلك جزيء الحمض النووي. وتمثل النظم المادية عموما تجسيدا للبنية. وتتكون البنية من مجموعة من العناصر والعلاقات المنتظمة بينها. يتكون النظام الشمسي من تسعة كواكب وشمس مركزية، وهذه العناصر في حد ذاتها لم تشكل بعد بنية؛ فبمجرد جمع هذه العناصر، فإن السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بكيفية ترتيبها. رتب الإغريق الكواكب في نظام أرضي المركز، ورتبها الكوبرنيكيون في نظام شمسي المركز. للوصول إلى بنية، يجب الإجابة على السؤال: كيف ترتب هذه العناصر بعضها نسبة إلى البعض الآخر؟ يعبر عن العلاقات بين الكواكب والشمس بقوانين كبلر. وعادة ما نبحث عن علاقات قابلة للقياس الكمي. وفي النموذج الدارويني، العناصر هي الكائنات الحية وترتبط بعضها مع بعض عن طريق مسارات التحدر. وبمجرد أن نحدد عناصر البنية والعلاقات المنتظمة بين هذه العناصر، نكون قد حددنا بنية النظام. وتتمثل وظيفة نموذج في تمثيل بعض جوانب بنية النظام المادي. وكما رأينا في الفصل الأول، فإن هذه الملاحظة تثير تساؤلات عن الواقعية البنيوية والتمثيل العلمي. وعلاوة على ذلك، ميزنا بين البنية «الطوبولوجية» والبنية «الجبرية» للنماذج. وربما يكون التركيز في البداية منصبا على البنية الطوبولوجية، أي الترتيب المكاني للعناصر. دائما ما تثير النماذج مسألة كيفية ارتباط العناصر بعضها ببعض. واختيارنا للبنية الطوبولوجية له عواقب على الترتيب الجبري للعناصر.
شكل 2-13: النموذج الكوبرنيكي المبسط للنظام الشمسي: يركز النموذج على البنية الطوبولوجية، ولكنه يتضمن بعض العناصر الجبرية بسبب إدراج طول الفترات المدارية.
تضع البنية الجبرية مزيدا من التركيز على العلاقات الرياضية بين عناصر البنية. ويمكن ملاحظة هذا الانتقال من البنية الطوبولوجية إلى البنية الجبرية في الكوبرنيكية (الشكلان
2-12
و
2-14 ) والداروينية (الشكلان
2-9
و
2-11 ). إن نموذج مركزية الشمس ونموذج التطور التفرعي للحياة من النماذج الطوبولوجية. وهما يضعان تركيزا قويا على الترتيب الهندسي للعناصر (الأشكال
2-13
و
2-6
و
2-10 ).
شكل 2-14: قانون المساحات لكبلر. المنطقتان «أ» و«ب» لهما نفس المساحة. يقطع الكوكب في مداره حول الشمس مساحات متساوية خلال أزمنة متساوية. وكلما اقترب الكوكب من الشمس، تحرك بسرعة أكبر من سرعته وهو أبعد عنها.
ويمكن تعزيز البنيات الطوبولوجية من خلال قوانين الكواكب والمسارات الجينية، على الترتيب؛ فهي أكثر تفصيلا على المستوى الرياضي وتضيف بنية جبرية للنموذج. ويتضمن التفسير البنيوي تخصيص بنية نموذج لنظام في العالم الحقيقي. وكما هي الحال بالنسبة للتوحيد، فإن مجرد تخصيص بنية لا يكفي للوصول إلى مستويات تفسيرية حقيقية. فيجب أن تتلاءم بنية النموذج مع بنية النظام الحقيقي. فلا بد أن يفشل النموذج أرضي المركز؛ لأن البنية التي يخصصها للعالم الحقيقي لا تتناسب مع البنية الحقيقية لنظام الكواكب. وتفشل نماذج التصميم أيضا لأن البنيات الهرمية الغائية التي تخصصها للعالم العضوي لا تتوافق مع الحقائق. ويستند الشرط القائل بأن بنية النموذج يجب أن تمثل بنية النظام الخاضع للنمذجة إلى الافتراض الواقعي الذي يقضي بأن النماذج العلمية يجب أن تتضمن تشابها بنيويا معينا مع جزء من العالم الحقيقي. ماذا يعني أن النموذج يتلاءم مع العالم؟ يمكننا تناول هذا السؤال في سياق مفهومنا للقيود. يجب أن تفي بنية النموذج بالقيود في سياق المشاهدات والنظرية الرياضية والمبادئ النظرية. ويفي نموذج مركزية الشمس ونموذج التطور بالقيود على نحو أكثر تلاؤما من النماذج المنافسة لهما. ويعد النموذج أفضل تمثيلا للمجال التجريبي إذا كان يفي بقيود أكثر من النماذج المنافسة له و«إذا» كانت القيود مبررة.
تمثل النماذج البنيوية إجابات نموذجية للأسئلة البنيوية. وتمثل النماذج السببية إجابات نموذجية ل «أسئلة لماذا». في الحالة المثالية، يمكننا تتبع آلية سببية. وعندما نفشل في ذلك، فربما نظل قادرين على تحديد مجموعة من الظروف السببية. إن النماذج السببية والبنيوية متوافقة تماما بعضها مع بعض. يمكننا أن نسأل: لماذا توجد أنظمة كواكب؟ يبدو هذا السؤال وكأنه طلب للحصول على تفسير سببي. وعلى الرغم من أن النموذج النيوتوني غير قادر على تقديم آلية سببية قابلة للتتبع، فإن إجابته تأتي في سياق مجموعة من الظروف ، تشمل قانون نيوتن للقصور الذاتي وقانون الجاذبية. لماذا تتكيف الأنواع؟ يبدو هذا أيضا طلبا للحصول على تفسير سببي. مرة أخرى لا توجد آلية سببية قابلة للتتبع. ولا يزال بالإمكان استخلاص إجابة من النموذج الدارويني. فإذا حدث تغير في البيئة لا يهدد الظروف الحياتية للأنواع، واستوفيت شروط الاختلاف المتناحي، فإن الانتقاء الطبيعي يقدم إجابة سببية على هذا السؤال.
ربما لا نهتم بعلاقات السبب والنتيجة. ربما يكون تركيزنا على فهم بنية النظام. وهذا هو طلب التفسير البنيوي. سأل كوبرنيكوس: ما بنية النظام الشمسي؟ وبعد مائتي سنة سأل كانط: ما بنية المجرات؟ وما بنية الكون؟ يمكن للنموذج الكوبرنيكي النيوتوني أن يقدم تفسيرات بنيوية. سأل لامارك: ما بنية التطور؟ وأجاب - من منظور بنيوي - بنموذجه للتطور التدريجي، الذي يتضمن وراثة السمات المكتسبة. وأراد داروين أيضا أن يعرف ماهية البنية وراء تنوع الحياة. قدمت نظريته للتحدر مع التعديل تفسيرا بنيويا. وبمجرد أن تصل النماذج البنيوية إلى مستوى مرض من الملاءمة، فإنها توفر التوحيد.
ليس من المستغرب أن نماذج التفسير تعيدنا دائما إلى المسألة الفلسفية المرتبطة بالواقعية؛ فالعلم يتمحور حول العالم الحقيقي. وأي اشتراط، لبنية ما وآلية سببية وتوحيد، إنما يطرح مسألة التلاؤم بين البنية المشترطة وبنية النظم في العالم الطبيعي. علينا أن نعود في إيجاز إلى مسألة الواقعية. (6-8) عودة قصيرة إلى الواقعية
كثيرا ما أضفيت سمات بشرية على كلمة الطبيعة؛ لأنني وجدت صعوبة في تجنب هذا الالتباس، ولكنني أعني بالطبيعة فقط العمل والناتج الكلي للعديد من القوانين الطبيعية، وأعني بالقوانين فقط النتائج المؤكدة للأحداث. (داروين، مقتبسة في كرومبي 1994، المجلد الثالث، 1751؛ لمزيد من المراجع انظر إليجارد 1958، 181)
لقد تحدثنا عن القيم التفسيرية للداروينية، وهي تقبع في مقترح بنية توحد العديد من الظواهر التي لم تكن مترابطة حتى هذه الفترة. وكذلك قدمت نظرية داروين أيضا تفسيرا سببيا، في سياق الظروف الضرورية والكافية؛ فمن خلال الطفرات العشوائية والحفاظ على التعديلات المواتية، يمكن تفسير وجود السلالات والقدرة على تكيف الأنواع مع بيئاتها، ولكن تعاود الظهور الآن مسألة الواقعية والذرائعية المتعلقة بهذه الآلية.
كان داروين نفسه حذرا؛ فلم يكن ممكنا اختبار نظرية الانتقاء الطبيعي عن طريق الاستدلال المباشر من الأدلة (داروين 1859، مقدمة المحرر، 15؛ لويد 1983). لم يكن داروين في وضع يمكنه من إثبات أن التطور حدث على نحو قاطع؛ فحاول أن يثبت أن هذا هو التفسير الأنسب الذي يتلاءم مع الحقائق على نحو أفضل من النظريات المنافسة. كان الاستدلال المقبول الوحيد وفق قوة الأدلة المتاحة هو التحدر مع التعديل، ولكن عندما تعلق الأمر بالتفاصيل، لم يتمكن من إظهار كيفية حدوث الطفرات العشوائية، والسبب في تغير بعض الأنواع في حين لم تتغير أنواع أخرى، والمدى الدقيق لعملية الانتقاء الطبيعي. أضاف داروين الانتقاء الجنسي كمبدأ إضافي لتفسير التغير غير التكيفي الظاهر. بل إنه بدأ يتحدث عن وراثة السمات المكتسبة، معتقدا أنه بالغ في التركيز على دور الانتقاء الطبيعي (داروين 1871، الجزء الأول، الفصل الثاني، 81).
في بدايات القرن الحادي والعشرين، زال العديد من الصعوبات الأصلية التي قابلت داروين، كما اتسع نطاق النظرية لتفسير ظواهر متنوعة مثل التكاثر الجنسي واللاجنسي، ومشكلة النسبة بين الجنسين (لماذا توجد أعداد متساوية تقريبا من الذكور والإناث)، والميزة التطورية للإيثار. ويرى علم النفس التطوري نطاقا أكبر للنظرية، لأنه يريد أن يفسر الحقائق الذهنية بالرجوع إلى المبادئ التطورية (انظر الفصل الثالث، القسم 5-2).
كان نموذج الانتقاء الطبيعي في عصر داروين يمتلك «صلاحية تجريبية» وحسب؛ إذ يمكن استخلاص مجموعة نماذج من النظرية، وهذه النماذج تشترك في البنية الأساسية نفسها، وتوجد جميعها في الفضاء المقيد نفسه. تسمح هذه النماذج للاستدلالات الداروينية بمعالجة مشكلات محددة، مثل التوزيع البيولوجي الجغرافي للأنواع وأصنافها. تعطي النماذج نتائج تتفق مع البيانات التجريبية، وتقدم نظرية التطور توافقا جيدا بين نماذجها والبيانات. والنظرية صحيحة من الناحية التجريبية؛ لأن بنياتها الأساسية تقدم تفسيرا معقولا وتنفي التفسيرات المنافسة، ومع ذلك، نريد أكثر من توافق نماذجها مع البيانات التجريبية. ويظهر تاريخ الكوبرنيكية والداروينية أن العلماء كانوا يرغبون في معرفة هل كانت المبادئ الأساسية - البنيات الجبرية - صالحة أم لا. كانوا يطمحون إلى «الصلاحية النظرية». لا بد أن يوجد تمثيل دقيق لبنية النموذج مع بنية المجال التجريبي، ولكن في نهاية القرن التاسع عشر كان من الصعب الادعاء بأن النظرية كانت صحيحة من الناحية النظرية أيضا. فلم يكن قد ترسخ بعد أن الآلية والبنية المخصصتين للبيانات تمثلان أيضا الآلية والبنية المنطبقتين في الطبيعة. تذكر أن آلية داروين الأساسية - الانتقاء الطبيعي - كانت موضع شك؛ فكان مصدر التغاير الوراثي العشوائي والإطار الزمني اللازم لحدوث التطور التدريجي في موضع الشك. ولتحسين القيمة التفسيرية للنظرية، وللانتقال من الصلاحية التجريبية إلى الصلاحية النظرية، يجب أن تتوفر اختبارات مستقلة لكل من فرضيات النموذج (الاستقراء الخارجي، والتدرج، والتغير المتناحي) والآلية المفترضة كشرط سببي كاف. ولحسن الحظ بالنسبة إلى الداروينية، أكدت تقنيات التأريخ الجديدة سريعا أن عمر الأرض مليارات السنين، وقد أتاح اسوداد الجلد الصناعي - تكيف العث في إنجلترا في القرن التاسع عشر مع سواد لحاء الأشجار في المناطق الصناعية الملوثة بشدة - مؤشرات أولية على أن الانتقاء الطبيعي نشط في الطبيعة. واليوم، تعد الطفرات المرصودة لفيروس نقص المناعة المكتسبة - في ظل ظروف مختبرية - من أقوى الأدلة على أن الانتقاء الطبيعي يعمل في الطبيعة (جونز 1999). وللأسف بالنسبة للداروينية، فإن كل افتراضاتها النموذجية تعرضت للتحدي، سواء من قبل أولئك الذين يتبعون النهج الدارويني (جولد 2002؛ كوفمان 2004) أم أولئك الذين رفضوا استنتاجاتها ووصفوها بأنها غير ملائمة (بيهي 1996؛ ديمبسكي 1998). كانت الداروينية - على غرار الكوبرنيكية - في البداية متوافقة مع الذرائعية، وقد قبل التطور كحقيقة طبيعية، ولكن الانتقاء الطبيعي كآلية سببية حصرية وقع تحت سحابة من الشكوك، ومع ذلك، بدأت الداروينية ببطء في التخلص من شراك الذرائعية؛ فقد وفر اندماج علم الوراثة والداروينية وتطور البيولوجيا الجزيئية دفعات إضافية دفعت نظرية التطور نحو تفسير واقعي. (6-9) داروين والثورات العلمية
عندما تقبل وجهات النظر الموجودة في هذا الكتاب عن أصل الأنواع، أو عندما تقبل وجهات النظر المماثلة عموما، يمكننا أن نتوقع على نحو مبهم حدوث ثورة كبيرة في التاريخ الطبيعي. (داروين، «أصل الأنواع» (1859)، 455)
ثمة اتفاق بالإجماع على أن داروين كان سببا في حدوث ثورة كبيرة في العلوم؛ إذ يستوفي داروين معايير الثورية العلمية: «أولا»: غير داروين المنظور؛ فهو لم يفسر الظواهر البيولوجية المرصودة من منظور المصمم الذكي، بل فسرها من منظور مذهب الطبيعانية. وأدى تغيير المنظور إلى تغيرات هائلة في الشبكة المفاهيمية؛ منها رفض التصميم وثبات الأنواع، والتركيز الشديد على تأثير البيئة على مسار الأنواع، وأهمية الطفرات العشوائية والتأثير المفيد للانتقاء التراكمي. ولكي ينظر إليه بوصفه أحدث ثورة، فهناك حاجة إلى ما هو أكثر من مجرد تغيير المنظور، وما يصاحب ذلك من إعادة تنظيم الروابط المفاهيمية في النظرية الكامنة؛ فرغم كل شيء، غير لامارك أيضا المنظور فيما يتعلق بحجة التصميم. يكمن الفرق بين لامارك وداروين في قابلية الآلية الطبيعية المقترحة للاختبار؛ فقد قدم داروين الانتقاء الطبيعي كآلية قابلة للاختبار. «ثانيا»: يجب أن تكون النظرية الجديدة أيضا تفسيرية؛ إذ يجب أن تحل بعض المشكلات المعلقة. وهي تفعل ذلك من خلال تبني أساليب وتقنيات جديدة. بالتأكيد، قدم داروين حلا كافيا للمشكلة الأساسية في عصره: تنوع الأنواع، كما قدمت نظريته أيضا تفسيرا ممتازا للسجل الحفري لأشباه البشر. فشل لامارك في حل هذه المشكلات؛ لأن آليته المقترحة لم تستطع الحصول على مصداقية كبيرة. ربما لا يحصل النموذج الجديد في البداية على ما هو أكثر من الملاءمة التجريبية؛ أي إنه ربما يكون واحدا من بين عدد من التفسيرات النظرية التي يمكن أن تتوافق مع الأدلة، ولكن قابلية الاختبار تتطلب أن تكون بنية النموذج صالحة تجريبيا ونظريا على حد سواء؛ وهذا يعني أن النظرية تتناسب مع الأدلة، وأنها تخطت اختبارات مستقلة لمبادئها، واكتسبت هذه المصداقية عن طريق دحض نموذج منافس. غالبا ما يكون الالتزام بطرق بديلة للتفسير نتيجة لتغير النظرية. استخدم الداروينيون الاستدلالات التاريخية بكثرة، ومارسوا الاستقراء البيكوني، وذلك بمعناه الصحيح كاستقراء إقصائي. ليست الداروينية مثالا جيدا للاستنباطية الافتراضية؛ فليس صحيحا أن جميع العلوم المهمة يجب أن تتقدم عن طريق قابلية الدحض التي أشار إليها بوبر. هل نطلب أن تكون القوة التنبئية عنصرا ضروريا للتغيير الثوري في العلم؟ سيكون هذا أمرا شديد التقييد؛ لأنه سيستبعد ثورة داروين، ولكن ينبغي علينا أن نطلب ملاءمة الحقائق المعروفة بالفعل. يجب أن تلائم النظرية الجديدة بعض الحقائق المعروفة على نحو مستقل، ويجب أن يكون لها بعض النتائج الاستنباطية الجديدة، حتى لو فشلت في وضع تنبؤات دقيقة. استوفت الداروينية معيار الكمال هذا؛ فالملائمة يجب أن تنجح في الحالة التقييدية التي مفادها أن أي نماذج منافسة ستفشل في استيعاب الحقائق المعروفة. «ثالثا»: تظهر نظرية جديدة من خلال عملية تسلسل الاستدلال. بدأ داروين بالتأكيد تسلسل الاستدلال هذا، الذي أدى في نهاية المطاف إلى الداروينية الجديدة، ولكن «رابعا»: لم يحظ المنهج التطوري بعد بالإجماع. كانت تجري مناقشة نماذج أخرى في علم الأحياء في القرن التاسع عشر، هذه النماذج شكلت تطورات موازية (نظام «فلسفة الطبيعة» الألماني لبوفون). ترك تركيز «فلسفة الطبيعة» الألمانية (جوته، أوكن) على الشكل، وليس الوظيفة - «الشكل يصوغ الوظيفة» - أصداء في المناهج البنيوية الحديثة للتطور، وعارض نهج التصميم الذكي النهج الدارويني، وداخل هذا النهج لا يوجد توافق في الآراء حول جميع عناصر القالب المبحثي. ثمة عدد من النماذج المتنافسة، ولكن لا يوجد سوى عدد قليل من البدائل. في البداية، اتفق الجميع على التطور التفرعي وعدم ثبات الأنواع، ولكن الآلية الرئيسية - الانتقاء الطبيعي - إما أنها لم تكن مقبولة تماما أو تم التشكيك في مداها. وبالقرب من مطلع القرن، فضل بعض الداروينيين (هكسلي، دي فريس) «التطور القافز» على تدرج داروين. واليوم يقترح بعض الداروينيين أن يحل مفهوم «التوازن النقطي» محل فكرة التغيرات التدريجية غير المحسوسة (جولد 2002)، كما لم يوجد اتفاق على وحدة الانتقاء الطبيعي. عادة ما يعتبر الداروينيون الكائن الحي هو وحدة الانتقاء، ولكن اقترح المزيد من المرشحين: الجين (دوكينز 1976؛ 1988) وانتقاء الأنواع (جولد 2002؛ انظر ماير 2001). أيضا لا يوجد توافق عام في الآراء بين الداروينيين فيما يتعلق بمدى التكيف. لاحظنا بالفعل أن داروين قبل التغييرات غير التكيفية، خاصة في وجهات نظره حيال الطبيعة البشرية، ولكن كان بعض الداروينيين أكثر ثورية وتصوروا بدائل مثل البنيوية والقيود الداخلية. تقاوم هذه المناهج محاولة الداروينية المتعصبة تفسير أكبر عدد ممكن من الميزات قدر الإمكان؛ فيؤكدون بدلا من ذلك أن التكيفية ينبغي أن تعترف بوجود قيود، في شكل حدود مادية، على قدرة الكائنات على التكيف مع الضغوط البيئية الجديدة؛ فعلى سبيل المثال، ثمة حد مادي يقيد الطول الذي يمكن أن تصل إليه الكائنات الثنائية الأرجل والرباعية الأرجل (انظر جولد (2002) للحصول على لمحة عامة). إذن، لا يوجد عموما اتفاق حتى الآن بشأن تفاصيل النهج الدارويني كما هو الحال مع نموذج النظام الشمسي الكوبرنيكي-النيوتوني.
ليس بالضرورة أن تنجح الثورة من خلال شكل جديد للعلوم العادية، كما ادعى كون، وينبغي أن نلاحظ هذا الاختلاف مع الثورة الكوبرنيكية. وعلى الرغم من أن الداروينية تستوعب عددا من النماذج البديلة في فضاء قيود مشترك، فإنه لا يزال بالإمكان اعتبار عمل داروين ثورة حقيقية في العلم.
ولكن ثورة داروين لا تناسب صورة كون حقا (جرين 1980). لا يوجد كثير من الأدلة في الثورة الداروينية على «تحول جشطالتي» أو انقطاع في التواصل أو حتى فترة من العلم العادي. ركز داروين كثيرا من اهتمامه النقدي على نظرية الخلق الخاص، وبدرجة أقل على تطور لامارك التدريجي. درس داروين النماذج المنافسة بعناية ووجد أنها غير كافية، على أسس تجريبية ونظرية. كان لنموذج داروين خصومه ومؤيدوه، وقد تجادل بعضهم مع بعض، وخاض أصدقاء داروين مناقشات مع منتقدي داروين. ومن جانبهم، تداول المعارضون والمؤيدون إيجابيات النظرية وسلبياتها. وكما هي الحال في تاريخ الكوبرنيكية، ثمة توافق متفاوت بشأن المبادئ الأساسية والتحولات الاستدلالية (شابير 1966، 1989؛ كوهين 1985أ؛ تشن/باركر 2000).
أعاد هذا الفصل بناء تسلسل الاستدلال الذي يؤدي من مرحلة ما قبل الثورة إلى مرحلة ما بعد الثورة. إذا اعتبرنا عناصر النموذج وحدات، ترتبط في بنية من خلال علاقات محددة، يمكننا أن نتصور ممارسة الألعاب مع بنية النموذج. أضف بعض العناصر وارفض البعض الآخر، وانقل عناصر أخرى إلى مواقع مختلفة، وستغير البنية الجبرية والطوبولوجية للنموذج. إذا كنا على استعداد لتخطي قيود الفضاءات المنطقية، يمكننا التوجه للخلف من نموذج مركزية الشمس إلى نموذج مركزية الأرض، من نموذج التطور إلى نموذج التصميم. تؤكد هذه اللعبة المفاهيمية نقطة مفاهيمية: الثورات في العلوم هي أشبه بتحولات في تسلسل الاستدلال منها إلى الهدم وإعادة البناء؛ فتسمح لنا تحولات تسلسل الاستدلال بين فترتي ما قبل الثورة وما بعدها بتتبع التغيرات التي تربط بين القديم والجديد، وتستند التغييرات إلى حجج تؤدي إلى تعديلات في المناهج القديمة. يؤدي هذا الإجراء إلى خطوط قابلة للتتبع تربط بين النظريات والنماذج، وستشتمل هذه العمليات على عمليات إضافة وحذف واستبدال في الشبكة المفاهيمية. وتظهر تحولات تسلسل الاستدلال خطوط استمرارية وانقطاع خلال فترات الثورات العلمية، كما تهتم بإعادة بناء الموقف الإشكالي الراهن، وكذلك تقيم الحلول في ضوء المشكلة المقبولة. (أ) النتائج الفلسفية
ما النتائج الفلسفية للثورة الداروينية؟
18 (ديوي 1909؛ هيكل 1866، الفصل الرابع؛ دينيت 1995، 201-202) تتمثل النتائج الفلسفية عموما في «فقدان التصميم الرشيد». استبدل داروين الطبيعانية بالغائية؛ الانتقاء الطبيعي بالتصميم. لم يعتبر داروين الأنواع مواد أساسية، بل كانوا تجمعات سكانية من أفراد ذوي تغايرات طفيفة. يمكن أن تكون التغايرات مفيدة أو ضارة، ولا يمكن أن يحدث التطور إلا في إطار هذا الافتراض الأساسي للاختلاف المتناحي. حرر داروين علم الأحياء من عقيدة الجوهرية وأحل محلها التفكير في التجمعات السكانية. كانت المادية نتيجة أخرى من الداروينية، وإن لم تكن بالمعنى الصريح؛ فشدد داروين على أهمية الأدلة التجريبية في التفسيرات البيولوجية، ولم يشارك في الاعتقاد بالحتمية التي أقسم كل من هكسلي وهيكل بالولاء لها. تؤدي المادية واللاحتمية البيولوجية إلى رؤية سلسة للعالم البيولوجي. من المؤكد أن الداروينيين يعتقدون أن عالم الكائنات الحية في حالة من التغير.
كان للثورة الداروينية أيضا تأثير على فلسفة العقل. وبما أن الداروينيين ضمنوا البشر في عالم الطبيعة، فقد اضطرهم منطق حجتهم إلى تفسير التفوق الواضح للمخ البشري، وشمل ذلك تفسيرا طبيعانيا لوجود الظواهر العقلية.
ومن ثم، كان للداروينية تأثير كبير على علم النفس؛ لأنها تفسر ظواهر العقل بوصفها حقائق طبيعية (داروين 1859، 458؛ مجلة نيتشر 26، 1882). كان فرويد حريصا طوال حياته المهنية على تقديم التحليل النفسي كمجال علمي؛ فكان يرى أنه يستحق المصداقية العلمية نفسها مثل الفيزياء. في بعض الأحيان، يزعم أن داروين أتم «المرحلة النهائية من الثورة الكوبرنيكية التي بدأت في القرنين السادس عشر والسابع عشر تحت قيادة رجال مثل كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن» (الموسوعة البريطانية، المجلد 18، 1991، 856). اختلف فرويد مع هذا الادعاء؛ فكان يعتقد أن اكتشافه لما أطلق عليه «فقدان الوضوح» فتح مرحلة ثالثة من الثورة الكوبرنيكية، التي سننتقل إليها الآن، وكان يرى فيها هجوما آخر على نبل الجنس البشري.
أسئلة مقالية (1)
اشرح الاختلافات الرئيسية بين نظريتي «لامارك» و«داروين». ما الطريقة التي تجعل النظرية الداروينية تمثل تقدما عن نظرية لامارك؟ (2)
اشرح وقيم الفرق بين «حجج التصميم» و«حجج التطور». (3)
ناقش «الفرضيات» الفلسفية المتأصلة في الداروينية. ما الدور الذي تقوم به هذه الفرضيات؟ (4)
اشرح الفرق بين «التطور التدريجي» و«التطور التفرعي». (5)
لماذا شكلت «الثغرات» في «السجل الحفري» مشكلة لنظرية داروين؟ (6)
ما الطريقة التي شكلت بها «العصور القديمة للإنسان» مشكلة للمؤمنين بنظرية الخلق؟ (7)
كيف تغيرت فكرة ظهور «الأنواع» تحت تأثير الداروينية؟ (8)
اشرح ما يعنيه: أن «داروين» أنتج بنيات تفسيرية، ووضح ما حققته. (9)
ما الخطأ في الرأي الواسع الانتشار القائل إننا «ننحدر من القردة»؟ ما «الرأي الدارويني» الصحيح؟ (10)
ما بنية «الداروينية» و«التفسيرات الداروينية»؟ وتناول الفرق بين التفسير والتنبؤ. (11)
اشرح الإنجازات الرئيسية ل «الثورة الداروينية». (12)
ما الذي نفهمه من مصطلح «ثورة علمية»؟ وهل كانت الكوبرنيكية والداروينية ثورتين علميتين؟ (13)
ناقش على نحو نقدي قابلية تطبيق «نموذج كون الإرشادي» للثورات العلمية في سياق النموذج الدارويني. (14)
كيف يمكن أن تستخدم الداروينية لدعم «الذرائعية» و«الواقعية»، على الترتيب؟ (15)
اشرح كيف أدى كتاب «أصل الأنواع» إلى كتاب «أصل الإنسان». ما جوانب التطور ذات الأهمية الخاصة؟ (16)
ماذا يعني الداروينيون ب «تفسير مادي» للقدرات العقلية والأخلاقية للبشر؟ (17)
هل يمكن اعتبار الداروينية داعمة لنظرية «انبثاقية» للعقل؟ (18)
هل التمييز مبرر بين «قابلية الدحض» و«قابلية الاختبار» في سياق الداروينية؟ (19)
هل يجب أن توصف نظرية داروين بأنها تتبع منهج «الاستقراء الإقصائي» أم منهج «الاستدلال الافتراضي»؟ (20)
كيف تعتبر النظرية الداروينية «تفسيرا بنيويا» للعالم الطبيعي؟ (21)
كيف تعتبر النظرية الداروينية «تفسيرا سببيا» للعالم الطبيعي؟ (22)
هل يعد مفهوم «المسارات الداروينية» مفهوما منطقيا؟ (23)
ما «الاستدلالات الداروينية»؟ (24)
ما الحجج التي يستخدمها داروين ضد المؤمنين بنظرية «الخلق»؟ (25)
هل «التصميم الذكي » منافس جاد للداروينية؟ (26)
اشرح التركيز في «علم النفس التطوري» على الجوانب الخاصة والعامة للعقل البشري. (27)
كيف تفسر «الداروينية» نشأة العقل من المخ؟ (28)
كيف يطبق الداروينيون «الانتقاء الطبيعي» على الطبيعة البشرية؟ (29)
ماذا كان يعني داروين عندما كتب أن «علم النفس سوف يقوم على أساس جديد»؟ (30)
إذا كانت «النماذج» هي طرق تمثيل العالم الطبيعي والاجتماعي، فكيف يتحقق هذا التمثيل؟ (31)
يفترض النموذج الاستدلالي الطبيعي «تناظر التفسير والتنبؤ». استخدم أمثلة من علم الأحياء لتقييم مدى ملاءمة هذا الافتراض.
قراءت إضافية
Achinstein, P. [1985]:
The Nature of Explanation.
Oxford: Oxford University
Ayala, F. [1987]: “The Biological Roots of Morality,”
Biology and Philosophy
2 , 235-52.
Ayala, F. [1995]: “The Distinctness of Biology,” in F. Weinert
ed. [1995], 268-85.
Ayala, F. [2004]: “Design without a Designer,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 56-73.
Argyll, Duke of [1867]:
The Reign of Law.
London: Strahan.
Argyll, Duke of [1886]: “Organic Evolution,”
Nature
34 , 335-6.
Bachmann, G. [1995]: “Mechanische und Organische Denkformen im viktorianischen Zeitalter,” in
Die Mechanische und die Organische Natur.
Konzepte SFB 230 Heft 45 (März 1995), 9-32.
Bacon, F. [1620]:
Novum Organum.
L. Jardine/M. Silverstone
eds.
Cambridge: Cambridge University
Barlow, H. [1987]: “The Biological Role of Consciousness,” in C. Blakemore/S. Greenfield
eds. [1987], 361-74.
Barrow, J. D./F. J. Tipler [1986]:
The Anthropic Cosmological Principle.
Oxford: Oxford University Press.
Behe, M. J. [1996]:
Darwin’s Black Box.
New York: The Free
Behe, M. J. [2004]: “Irreducible Complexity,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 351-78.
Blackmore, S. [2003]:
Consciousness.
London: Hodder & Stoughton.
Blakemore, C./S. Greenfield
eds. [1987]:
Mindwaves.
London: Blackwell.
Boyle, R. [1688]:
A Disquisition about the Final Causes of Natural Things . London: John Taylor.
Braubach, W. [1869]:
Religion, Moral und Philosophie der Darwin’schen Artlehre nach ihrer Natur und ihrem Charakter.
Leipzig: Neuwied.
Browne, J. [2003]:
Charles Darwin-The Power of Place.
London:
Bradley, W. L. [2004]: “Information, Entropy and the Origin of Life,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 331-50.
Büchner,
L. [1868]:
Sechs Vorlesungen über die Darwin’sche Theorie von der Verwandlung der Arten.
Leipzig: Theodor Thomas.
Bunge, M. [1977]: “Emergence and the Mind,”
Neuroscience
2 , 501-9.
Bunge, M. [1980]:
The Mind-Body
Oxford: Pergamon.
Chalmers, D. [1996]:
The Conscious Mind.
Oxford: Oxford University
Chen, X./P. Barker [2000]: “Continuity through Revolutions,”
Science
67 , S208-S233.
Cohen, I. B. [1985a]:
Revolution in Science.
Cambridge, MA: The Belknap
Cohen, I. B. [1985b]: “Three Notes on the Reception of Darwin’s Ideas on Natural Selection,” in D. Kohn
ed. [1985],
The Darwinian Heritage.
589-607.
Clark, A. [1997]:
Being There.
Cambridge, MA: MIT
Crombie, A. C [1994]:
Styles of Scientific Thinking in the European Tradition
London: Duckworth, Vol. III.
Damasio, A. [1999]: “How the Brain creates the Mind,”
Scientific American (December), 74-9.
Darwin, Ch. [1859]:
The Origin of Species.
J. W. Burrow
ed.
London: Pelican Classics [1968].
Darwin, Ch. [1871]:
The Descent of Man.
Introduction by James Moore and Adrian Desmond. London: Penguin [2004].
Darwin, Ch. [1876]: “Sexual Selection in Relation to Monkeys,”
Nature
15 , 18-9.
Darwin, Ch. [1878-79]: “Fritz Müller on a Frog having Eggs on its Back,”
Nature
19 , 462-3.
Darwin, Ch. [1881]: “Inheritance,”
Nature
24 , 257.
Darwin, Ch. [1954/1892]:
The Autobiography of Charles Darwin and Selected Letters.
Francis Darwin
ed . New York: Dover.
Dawkins, R. [1976/
2
1989]:
The Selfish Gene.
Oxford: Oxford University
Dawkins, R. [1988]:
The Blind Watchmaker.
London: Penguin.
De Beer, G. [1971]: “Homology: an unsolved problem,” in M. Ridley
ed. [1997], 213-21.
De Vries, H. [1907]: “Evolution and Mutation,”
The Monist
17 , 6-22.
Dembski, W. A. [1998]:
The Design Inference.
Cambridge: Cambridge University
Dembski, W. A./M. Ruse
eds. [2004]:
Debating Design.
Cambridge: Cambridge University
Dennett, D. [1995]:
Darwin’s Dangerous Idea.
London:
Descartes, R. [1664]:
Traité de l’Homme,
in
Œuvre et Lettres.
807-73.
Dewey, J. [1909]: “The Influence of Darwin on
The Influence of Darwin on
Bloomington: Indiana University Press [1965], 1-19.
D’Holbach, P. Thiry [1770]:
Système de la Nature [English translation:
The System of Nature , London, 1817; German translation:
System der Natur.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp, 1978].
Dowe, Ph. [2000]:
Causation.
Cambridge: Cambridge University Press du Bois-Reymond, E. [1882-83]: “Darwin and Copernicus,”
Nature
27, 557-8.
Eiseley, L. [1959]:
Darwin’s Century.
London: Gollancz.
Edelman, G. [1992]:
Bright Air, Brilliant Fire.
London:
Ellegård, A. [1958]:
Darwin and the General Reader.
Göteburg: Acta Universitatis Gothoburgensis.
Evans, J. [1890]: “Anthropology,”
Nature
42 , 507-10.
Fisher, R. A. [1930]: “The Nature of Inheritance,” in M. Ridley
ed. [1997], 22-32.
Flower, W. H. [1883]: “The Evolutionary Position,”
Nature
28 , 573-5.
Friedman, M. [1981]: “Theoretical Explanation,” in R. Healey
ed. [1981]
Reduction, Time and Reality.
Cambridge: Cambridge University Press, 1-16.
Freud, S. [1905]:
Three Essays on Sexuality , in
The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud.
James Strachley
ed.
London: The Hogarth Press, Vol. VII [1953], 130-243.
Freud, S. [1931]: “Female Sexuality,” in
The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud.
James Strachley
ed . London: The Hogarth Press, Vol. XXI [1927-31], 221-43.
Geoffroy Saint-Hilaire, M. Isodore [1847]:
Vie, Travaux et Doctrine Scientifique d’Étienne Geoffroy Saint-Hilaire.
1968.
Ghiselin, M. T. [1969]:
The Triumph of Darwinian Method.
Berkeley, CA: University of Press.
Gillispie, C. G. [1958]: “Lamarck and Darwin in the History of Science,”
American Scientist
XLVI , 388-409.
Gillispie, C. G. [1959]:
Genesis and Geology.
New York: Harper & Row.
Gould, S. J. [1980]:
Even Since Darwin.
London: Pelican.
Gould, S. J. [1987]:
The
London:
Gould, S. J. [1988]:
Time’s Arrow,
Time’s Cycle.
London: Penguin.
Gould, S. J. [1991]:
Wonderful Life.
London: Penguin.
Gould, S. J. [2001]: “More Things in Heaven and Earth,” in H. Rose/St. Rose
eds. [2001],
Alas Poor Darwin.
London: Vintage, 85-105.
Gould, S. J. [2002]:
The Structure of Evolutionary Theory.
Cambridge, MA: The Belknap Press of Harvard University Press.
Greene, J. C. [1980]: “The Kuhnian Paradigm and the Darwinian Revolution in Natural History,” reprinted in G. Gutting
ed. [1980],
, 297-32. Notre Dame, IN: University of Notre Dame
Haeckel, E. [1866]:
Generelle Morphologie der Organismen
II. Berlin: Georg Reimer.
Haeckel, E. [1876]:
The History of Creation.
London: Henry S. King & Co. [Translation of
Natürliche Schöpfungsgeschichte , 1868].
Haeckel, E. [1877]: “Present Position of Evolutionary Theory,”
Nature
16 , 492-96.
Haeckel, E. [1878]: “Prof. Haeckel on the Doctrine of Evolution,”
Nature
18 , 509-10.
Haeckel, E. [1882]: “Professor Haeckel on Darwin, Goethe and Lamarck,”
Nature
26 , 534-41.
Haeckel, E. [1929]:
The Riddle of the Universe.
London: Watts & Co. [Translation of
Die Welträtsel , 1899].
Helvétius, C-A. [1758]:
Sur l’Esprit.
Hempel, K. [1965]:
Aspects of Scientific Explanation.
New York: The Free
Honderich, T. [1987]: “Mind, Brain and Self-conscious Mind,” in C. Blakemore/S. Greenfield
eds . [1987], 445-58.
Howson, C./P. Urbach [
2
1993]:
Scientific Reasoning-The Bayesian Approach.
Chicago: Open Court.
Hoyningen-Huene, P. [1993]:
Reconstructing Scientific Revolutions . Chicago: Chicago University Press.
Hughes, R. I. G. [1989]:
The Structure and Interpretation of Quantum Mechanics.
Cambridge, MA: Harvard University Press.
Humphreys, N. [1997]: “The Inner Eye of Consciousness,” in C. Blakemore/S. Greenfield
eds. [1987], 377-81.
Huxley, T. H. [1860]: “The Origin of Species,” in
Collected Essays.
Vol. II: Darwiniana [1907], 21-79.
Huxley, T. H. [1862]: “Geological Contemporaneity and
Collected Essays.
Vol. VIII [1894], 272-304.
Huxley, T. H. [1863a]:
Man’s
(Chicago: The University of Chicago
Collected Essays.
Vol. II. London: Macmillan 1910, 77-156.
Huxley, T. H. [1863b]: “On Our Knowledge of the Causes of the Phenomena of Organic Nature,” in
Collected Essays.
Vol. II: Darwiniana [1907], 303-475.
Huxley, T. H. [1864]: “Criticisms of “The Origin of Species”,” in
Collected Essays.
Vol. II: Darwiniana [1907], 80-106.
Huxley, T. H. [1874]: “On the Hypothesis that Animals are Automata and its History,”
Nature
X , 362-66.
Huxley, T. H. [1876]: “Lectures on Evolution,” in
Collected Essays.
Vol. IV [1898], 46-138.
Huxley, T. H. [1880-81]: “Professor Huxley on Evolution,”
Nature
23 , 203-4, 227-31.
Huxley, T. H. [1886]: “Science and Morals,” in
Collected Essays.
Vol. IX [1911], 117-46.
Huxley, T. H. [1888]:
Science and Culture and other Essays.
New York: Macmillan & Co.
Huxley, T. H. [1893]: “Evolution and Ethics,” in
Collected Essays.
Vol. IX [1911], 46-86.
Huxley, T. H. [1894]:
Collected Essays.
Vol. VIII. London: Macmillan & Co.
Huxley, T. H. [1894-95]: “Past & Present,”
Nature
51 , 1-3.
Huxley, T. H. [1898]:
Collected Essays.
Vol. IV: Science and the Hebrew Tradition. London: Macmillan & Co.
Huxley, T. H. [1907]:
Collected Essays.
Vol. II: Darwiniana. London: Macmillan & Co.
Huxley, T. H. [1909]:
Collected Essays.
Vol. V: Science and the Christian Tradition. London: Macmillan & Co.
Huxley, T. H. [1910]:
Collected Essays.
Vol. VII. London: Macmillan & Co.
Huxley, T. H. [1911]:
Collected Essays.
Vol. IX. London: Macmillan & Co.
Jacob, F. [1977]: “Evolution and Tinkering,”
Science
196 , 1161-6.
Jacob, F. [1981]:
Le Jeu des
Jaeger, G. [1869]:
Die Darwin’sche Theorie und ihre Stellung zu Moral und Religion.
Stuttgart: Julius Hoffmann.
Jones, S. [1999]:
Almost like a Whale.
London: Doubleday.
Kant, I. [1755]:
Allgemeine Naturgeschichte und Theorie des Himmels , in I. Kant,
Werkausgabe. Hrsg.
von W. Weischedel. Frankfurt a./M.: Suhrkamp. Band I, 226-396 [English translation:
General History of Nature and Theory of the Heavens ].
Kant, I. [1790/1968]:
Kritik der Urteilskraft.
Hamburg: Felix Meiner. [English translation:
The Critique of Judgement , 1952].
Kauffman, St. [2004]: “Prolegomenon to a General Biology,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 147-72.
Kaufmann, W. [
4
1974]:
Nietzsche.
Kepler, J. [1618-21]:
Epitome of Copernican Astronomy , in J. Kepler [1995], 5-164.
Kepler, J. [1619]:
Harmonies of the World , in J. Kepler [1995], 167-245.
Kepler, J. [1995]:
Epitome of Copernican Astronomy &
Harmonies of the World , transl. C. G. Wallis. Amherst, NY: Prometheus.
Kitcher, P. [1993]:
The Advancement of Science.
Oxford: Oxford University
Kitcher, P. [1989]: “Explanatory Unification and the Causal Structure of the World,” in P. Kitcher/W. C. Salmon
eds. [1989],
Scientific Explanation.
Minnesota Studies in the Philosophy of Science Vol.
XIII . Minneapolis: University of Minnesota Press, 410-506.
Kuhn, T. S. [
2
1970]:
The Structure of Scientific Revolutions.
Chicago: The University of Chicago Press.
LaMettrie, Julien Offray de [1747]:
L’Homme Machine.
Nuits 2000.
Lamarck, J. B. [1809]:
, transl. with an introduction by Hugh Elliot. New York: Hafner, 1963.
Lange, F. A. [
2
1873/
7
1902]:
Geschichte des Materialismus.
Leipzig: Verlag von J. Baedeker.
Leibniz, J. G. [1697]: “On the Ultimate Origination of Things,” G. H. R. Parkinson
ed. [1973],
Leibniz, Philosophical Writings.
London: Rowman and Littlefield, 136-44.
Lepenies, W. [1978]:
Das Ende der Naturgeschichte.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Lewis, D. [1986]: “Causal Explanation,”
II. Oxford: Oxford University Press [1986], 214-240.
Lipton, P. [
2
2004]:
Inference to the Best Explanation.
London: Routledge.
Lloyd, E. [1983]: “The Nature of Darwin’s Support for the Theory of Natural Selection,”
of Science
50 , 112-29
Lovejoy, A. O. [1936]:
The Great Chain of Being.
Cambridge, MA: Harvard University Press.
Lyons, W. [2001]:
Matters of the Mind . Edinburgh: Edinburgh University
Mackie, J. L. [1980]:
The Cement of the Universe.
Oxford: Clarendon
Marsh, O. C. [1896-97]: “Dinosaurs,”
Nature
55 , 463-6.
Maupertuis, P. L. Moreau de [1750]:
Essai de Cosmologie,
in
Œuvres.
New York: Georg Holms [1974], 4-78.
Mayr, E. [1986]: “The Philosopher and the Biologist,”
12 , 233-39.
Mayr, E. [2000]: “Darwin’s Influence on Modern Thought,”
Scientific American (July), 67-71.
Mayr, E. [2001]:
What Evolution Is.
New York: Basic Books.
McMullin, E. [1985]: “Galilean Idealization,”
Studies in History and Philosophy of Science
16 , 247-73.
Menand, L. [2001]:
The Metaphysical Club.
New York: Farrar, Strauss and Giroux.
Menuge, A. [2004]: “Who’s Afraid of ID? A Survey of the Intelligent Design Movement,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 32-49.
Meyer, St. [2004]: “The Cambrian Information Explosion,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 371-88.
Mill, J. S. [1843/1898]:
A System of Logic.
London: Longmans, Green & Co.
Miller, H. [1849, 1861]:
Footprints of the Creator.
London: Hamilton, Adams & Co., with Memoir by Louis Agassiz.
Miller, K. R. [2004]: “The Flagellum Unspun: The Collapse of 'Irreducible Complexity’,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 81-97.
Mivart, St. George [1871a]:
On the Genesis of Species.
London: Macmillan & Co.
Mivart, St. George [1871b]: “Ape Resemblances to Man,”
Nature
III , 481.
Mivart, St. George [1896]: “Are Specific Characters the Result of 'Natural Selection?’”
Nature
54 , 246-47.
Monod, J. [1974]: “On the Molecular Theory of Evolution,” in M. Ridley
ed. [1997], 389-95.
Müller, F. [1864]: “Für Darwin,” in Fritz Müller,
Werke, Briefe und Leben.
A. Moller
ed.
Jena: Gustao Fischer, 200-63 [English translation:
Facts and Arguments for Darwin.
London: John Murray, 1869].
Nietzsche, F. [1887]:
On the Geneology of Morals.
New York: Vintage, 1967 [Translation of
Über die Geneologie der Moral , 1887].
Nilsson, Dan-E./S. Pelger [1997]: “A Pessimistic Estimate of the Time Required for an Eye to Evolve,” in M. Ridley
ed. [1997], 293-301.
Norton, J. D. [1994]: “Science and Certainty,”
Synthese
99 , 3-22.
Norton, J. D. [1995]: “Eliminative Induction as a Method of Discovery: How Einstein Discovered General Relativity,” in J. Leplin
ed. [1995],
The Creation of Ideas in Physics.
Dordrecht: Kluwer, 29-69.
Nozick, R. [2001]:
Invariances.
Cambridge, MA: The Belknap
O’Hear A. [1999]:
Beyond Evolution.
Oxford: Oxford University
Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 130-45.
wissenschaftlicher Ideen,” in
Vorträge und Erinnerungen.
Darmstadt: Wissenschaftliche Buchgesellschaft, 1965, 270-84.
The Logic of Scientific Discovery.
London: Hutchinson [English translation of
Die Logik der Forschung , 1934].
Conjectures and Refutations.
London: Routledge & Kegan
Objective Knowledge.
Oxford: Clarendon
Scientific Realism.
London: Routledge.
Causation and Explanation.
Chesham: Acumen.
Raff, R. A. [1996]:
The Shape of Life.
Chicago: University of Chicago
Rice, W. R./E. E. Hostert [1993]: “Laboratory Experiments on Speciation,” in M. Ridley
ed. [1997], 174-86.
Ridley, M.
ed. [1997]:
Evolution.
Oxford: Oxford University Press.
Rolle, F. [
2
1870]:
Der Mensch, seine Abstammung und Gesittung im Lichte der Darwin’schen Lehre.
Tempsky.
Romanes, G. [1882-83]: “Natural Selection and Natural Theology,”
Nature
27 , 362-4, 528-9.
Romanes, G. [1883]: “Natural Selection and Natural Theology,”
Nature
28 , 100-1.
Rosen, E.
ed. [1959]:
Three Copernican Treatises.
Mineola, NY: Dover.
Rosenberg, A. [
2
1995]:
. Boulder, CO: Westview
Ruse, M. [2003]:
Darwin and Design.
Cambridge, MA: Harvard University
Salmon, W. C. [1984]:
Scientific Explanation and the Causal Structure of the World.
Salmon, W. C. [1998]:
Causality and Explanation.
Oxford: Oxford University
Seabright, P. [1987]: “The Order of the Mind,” in C. Blakemore/S. Greenfield
eds. [1987], 209-33.
Searle, J. [1984]:
Minds, Brains and Science.
London: BBC
Searle, J. [1987]: “Minds and Brains without Programs,” in C. Blakemore/S. Greenfield
eds. [1987], 209-33.
Searle, J. [2004]:
Mind-a Brief Introduction.
Oxford: Oxford University
Shapere, D. [1966]: “Meaning and Scientific Change,” reprinted in I. Hacking
ed., Scientific Revolutions.
Oxford: Oxford University Press, 1981, 28-59.
Shapere, D. [1989]: “Evolution and Continuity in Scientific Change,”
Science
56 , 419-37.
Smolin, L. [1997]:
The Life of Cosmos.
New York: Oxford University
Sober, E. [1999]: “Testability,”
73 , 47-76.
Sober, E. [2002]: “Intelligent Design and Probability Reasoning,”
International Journal for the
52 , 65-80.
Sober, E. [2004]: “The Design Argument,” in W. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 99-129.
Sperry, R. [1983]:
Science and Moral Priority.
New York: Columbia University
Tillyard, E. M. W. [1943/1972]:
The Elizabethan World Picture.
Harmondsworth:
Tyler E. B. [1881]:
Anthropology.
London: Macmillan & Co.
Vogt, C. [1864]:
Lectures on Man.
London: Longman, Green, Longman, & Roberts [English translation of
Vorlesungen über den Menschen , 1863].
Wallace, A. R. [1855]: “On the Law which has regulated the Introduction of New Species,” in A. R. Wallace [1891], 3-19.
Wallace, A. R. [1858]: “On the Tendency of Varieties to Depart Indefinitely from the original Type,” in A. R. Wallace [1891], 20-33.
Wallace, A. R. [1870]: “The Limits of Natural Selection as Applied to Man,” in A. R. Wallace [1891], 186-214.
Wallace, A. R. [1891]:
Natural Selection and Tropical Nature.
London: Macmillan and Co.
Wallace, A. R. [1893]: “Reason
versus
Instinct,” in
Nature
48 , 73-4, 267.
Wallace, A. R. [1903]:
Man’s
London: Chapman & Hall.
Weber, B. H./D. J. Depew [2004]: “Darwinism, Design and Complex Systems Dynamics,” in W. A. Dembski/M. Ruse
eds. [2004], 173-86.
Weber, M. [1948]: “The Social Psychology of the World Religions” (1913), in
From Max Weber , with an introduction by H. H. Gerth/C. Wright Mills
eds.
Boston, MA: Routledge & Kegan Paul [1948], 267-301.
Weismann, A. [1882]: “On the Mechanical Conception of Nature,” in
Studies in the Theory of Descent.
London: Sampson Low, Marston, Searle & Rivington. 2 vols. [1882], 634-718.
Weinert, F.
ed. [1995]:
Laws of Nature.
Berlin: Walter de Gruyter.
Weinert, F. [2000]: “The Construction of Atom Models: Eliminative Inductivism and its Relation to Falsificationism,”
Foundations of Science
5 , 491-531.
Weinert, F. [2004]:
The Scientist as Philosopher.
New York: Springer.
Weinert, F. [2007]: “A Conditional View of Causality,” in
Causality and Probability in the Sciences.
F. Russo/J.Williamson
eds.
London: College Publications 2007, 415-37.
Weinberg, St. [1993]:
Dreams of a Final Theory.
London: Vintage.
Wendorff, R. [
3
1985]:
Zeit und Kultur.
Opladen: Westdeutscher Verlag.
Williams, G. C. [1996]:
and Purpose in Nature.
London: Weidenfeld & Nicolson.
Williams, M. B. [1973]: “Falsifiable Predictions of Evolutionary Theory,”
Science
40 , 518-37.
Woodward, J. [2003]:
Making Things Happen.
Oxford: Oxford University
الفصل الثالث
سيجموند فرويد: فقدان الشفافية
سيستند علم النفس على أساس جديد، أساس الاكتساب اللازم للقوى والقدرات العقلية عن طريق التدرج. (داروين، «أصل الأنواع» (1859)، 458) (1) كوبرنيكوس وداروين وفرويد
يمتلك البشر ميلا غريزيا لدرء المستجدات الفكرية. (فرويد، «محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي» (1916أ)، 214)
كان فرويد يعرف أسلافه البارزين كوبرنيكوس وداروين على نحو تام. تعود الصورة الذاتية المهيمنة في القرن العشرين للبشر بأنهم «حالات نفسية» إلى حد بعيد إلى فرويد، الذي كان له تأثير كبير على لغتنا وفكرنا. اخترقت المصطلحات الفرويدية مفرداتنا، ووفرت لنا طرقا محكمة ل «فهم» الأحلام والزلات الفرويدية. على الرغم من طلبات فرويد بالاحترام على المستوى العلمي، فإن نظرية التحليل النفسي لم تقبل بالإجماع كمساهمة في الفكر العلمي. وثمة أسباب وجيهة لهذا التردد. ينتمي فرويد إلى مجموعة من المفكرين في العالم الغربي كان تأثيرهم على طريقة تفكيرنا مهما، لكن كان ينظر إلى إسهاماتهم في العلم بوصفها قليلة الأهمية. إذا كانت النظريتان الكوبرنيكية والداروينية ممثلتين مقبولتين للثورات العلمية، فإن نظرية فرويد مرشحة كثورة في الفكر؛ فقد ثارت الشكوك بشأن فرويد بانتظام في المقالات الرئيسية في مجلات الأخبار الدولية.
في ثمانينيات القرن التاسع عشر وصف إرنست هيكل وإميل دو بوا ريمون داروين بأنه كوبرنيكوس العالم العضوي. وفي عام 1877 أطلقت دورية جديدة في ألمانيا تدعى «كوزموس»، وكرست من أجل رؤية كونية موحدة قائمة على أساس نظرية التطور لداروين. وفي طبعتها الأولى ربطت كوبرنيكوس وداروين: فقد سلب كلاهما البشر مكانتهم المتميزة في الكون. وفي الطبعة الخامسة عشرة من الموسوعة البريطانية نجد الادعاء بأن داروين أتم الثورة الكوبرنيكية؛ لأن داروين أخضع تنوع وتعقيد الحياة لقوانين الطبيعة.
لم يتفق فرويد مع هذا التوصيف؛ إذ اعتبر فرويد أن إسهامه الخاص هو الجزء الأخير المتمم للثورة الكوبرنيكية. يفسر فرويد أنه على المستوى الظاهري، ترجع مقاومة التحليل النفسي إلى عدم معرفته:
ولكن من خلال التأكيد على اللاوعي في الحياة العقلية استحضرنا أكثر أرواح الانتقاد شرا ضد التحليل النفسي. لا تتفاجأ بهذا، ولا تفترض أن المقاومة التي نقابلها قائمة فقط على صعوبة اللاوعي أو عدم القدرة النسبية على إجراء التجارب التي توفر دليلا عليه. أعتقد أن مصدرها أعمق.
وهذا المستوى الأعمق هو الذي يفسر المقاومة؛ فالمستوى الأعمق له علاقة بالتاريخ الثقافي:
على مر القرون تعين على حب الذات الساذج لدى البشر التعرض لضربتين كبيرتين على يد العلم. كانت الضربة الأولى عندما علموا أن أرضنا ليست مركز الكون ولكنها فقط جزء صغير من نظام كوني ذي اتساع لا يمكن تخيله. يرتبط هذا الأمر في عقولنا باسم كوبرنيكوس، على الرغم من التأكيد على شيء مماثل بالفعل في علوم الإغريق. وجاءت الضربة الثانية عندما دمرت الأبحاث البيولوجية مكانة البشر المفترضة بين الخلق وأثبتت تحدرهم من مملكة الحيوان وطبيعتهم الحيوانية التي لا يمكن استئصالها. وأنجزت هذه الثورة في أيامنا على يد داروين ووالاس وأسلافهما، رغم المعارضة المعاصرة الأكثر عنفا.
ستعزز هاتان الضربتان - اللتان سميناهما «فقدان المركزية» و«فقدان التصميم الرشيد» - بضربة أخرى يضربها فرويد:
لكن جنون العظمة البشري سوف يتلقى الضربة الثالثة والأكثر ضررا من الأبحاث النفسية الحالية التي تسعى إلى أن تثبت للأنا أنه ليس المسيطر حتى على زمام الأمور في جسده، وإنما يجب أن يرضى بالمعلومات الهزيلة بشأن يجري في عقله على مستوى اللاوعي. لم نكن نحن - المحللين النفسيين - أول من طرح هذا الموضوع للنقاش ولسنا الوحيدين، ولكن يبدو أن مصيرنا هو منحه التعبير الأقوى ودعمه بالمواد التجريبية التي تؤثر على كل فرد؛ ومن ثم تنشأ الثورة العامة ضد علمنا، وتجاهل جميع اعتبارات الآداب الأكاديمية وتحرر المعارضة من كل ضوابط المنطق المحايد. (فرويد 1916ب، 284-285) «الأنا المسيطرة على زمام الأمور في جسده» - الأنا مدفوعة بدوافع اللاوعي، التي لا يعلم عنها شيئا. إن الدوافع ليست واضحة بالنسبة للاوعي، على الرغم من أن التحليل النفسي يدعي القدرة على كشفها؛ ومن ثم يعاني البشر من ضربة أخرى هي: «فقدان الوضوح».
كان أتباع فرويد سعداء للغاية على نحو مفهوم بهذا التسلسل من أفكار فرويد. سيمجد فرويد ليس لاكتشافاته التجريبية وحسب، ولكن أيضا لثورة الفكر التي سيحدثها:
على غرار كوبرنيكوس وداروين - الرجلين اللذين قارن نفسه بهما - سيحدث فرويد ثورة في نظرتنا لأنفسنا، ومثلهما قد ينظر إليه على أنه صائغ للفكر أكثر من اعتباره مكتشفا للحقائق. (براون 1962، 2)
المشكلة هي أن الكثير من الناس لا يتفقون مع ذلك. إن عدم وجود توافق في الآراء حول إنجازات فرويد العلمية دليل على أنه لا ينبغي معاملتها على أنها ثورة علمية من دون تحليل دقيق لنظريته. في عام 1946، عبر فيتجنشتاين بإيجاز عما سيصبح بعد ثلاثين عاما الرأي السائد:
من خلال تفسيراته الزائفة الخيالية (وتحديدا لأنها عبقرية) سبب فرويد ضررا كبيرا. (فيتجنشتاين 1980، 55)
بعد انقضاء مائة عام على كل من النظرية الكوبرنيكية والداروينية، حدث توافق كبير في الآراء حول مصداقية كل منهما العلمية، لكن بعد مائة عام من النظرية الفرويدية لا يزال يوجد خلاف كبير حول مصداقيتها العلمية. وتعزز الشكوك التي توجه لإسهام فرويد في العلم من خلال المقارنة مع كوبرنيكوس وداروين. وتمثل دراسة الوضع العلمي لنظرية فرويد، وخاصة من وجهة نظر الممارسات الاستدلالية التي لاحظناها من قبل، أحد أهداف هذا الفصل. وتتعلق الأهداف الأخرى بالمكانة المعرفية للعلوم الاجتماعية. وكما سنرى، فإن نظرية فرويد تتخذ موقفا وسطا على نحو غريب بين الالتزام بالتجريبية والتفسيرية. وعلى الرغم من رغبة فرويد في ممارسة التحليل النفسي كعلم طبيعي، كان عليه باستمرار أن يقترض تقنيات من العلوم الاجتماعية. وفي هذا الفصل تكون الفرويدية بمنزلة منصة انطلاق للدراسة الفلسفية للعلوم الاجتماعية. وكما هي الحال في الفصول السابقة، نستخدم المواد الملموسة من دراسة الفرويدية من أجل تناول القضايا الفلسفية التي تنشأ عن مواقفها الإشكالية. سوف نهتم بتوضيح أوجه التشابه والاختلاف بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، وسيكون من الضروري الذهاب إلى ما هو أبعد من فرويد ودراسة مساهمات فيبر في منهجية العلوم الاجتماعية، كما سنعود أيضا إلى مسألة الطبيعة البشرية، التي توفر رابطا حقيقيا بين داروين وفرويد، بين التطور وعلم النفس. (2) بعض وجهات النظر بشأن الجنس البشري
وهكذا فإن الإنسان لا يمكن الوصول إليه إلا من الجانب الفكري أيضا، بقدر ما هو قادر على توظيف الرغبة الجنسية نحو الأهداف (توظيف الطاقة النفسية) (...). (فرويد، «محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي» (1916ب)، 446)
لقد فسرنا زعم فرويد بإكمال الثورة الكوبرنيكية باعتباره فقدانا للوضوح. وبما أن البشر يبدو أنهم لا يملكون زمام الأمور في أجسادهم، فإن ادعاء فرويد يتفق مع الرأي القائل بأن السلوك البشري يستند إلى عقلانية أقل مما كان مفترضا حتى هذا الوقت. لا ينكر فرويد أن الدوافع العقلانية تلعب دورا في السلوك البشري، لكنه اعترف بأفكار عقلية للسلوك البشري بقدر أقل من فلاسفة عصر التنوير، الذين كانوا مهتمين كثيرا بالطبيعة البشرية، وقد عزا فرويد طوال حياته المهنية باستمرار إلى الدوافع دورا في السلوك البشري أكبر من دور الأفكار العقلية، فكتب في نظريته الأولى بشأن الميول الجنسية:
غالبا ما يكون سلوك الإنسان في الأمور الجنسية «نموذجا أوليا» لطرقه الأخرى للتفاعل مع الحياة. (فرويد 1908، 93)
وكرر هذا الرأي في محاضراته في فيينا عن التحليل النفسي:
ولكن المعقول هو جزء فقط من الحياة العقلية، فثمة عدد من الأشياء التي تحدث ليست معقولة (...). (فرويد 1916أ، 211)
وفي عمله المتأخر نسبيا عن تطور الثقافة ومستقبل المعتقدات الدينية، أكد مرة أخرى على ذلك:
لا يمكن الوصول للرجال عبر الحجج المعقولة، فالرجال تحكمهم الرغبات الغريزية تماما (...). (فرويد 1927أ، 47)
وبالنظر إلى اتساق وجهات نظره عن دور الدوافع اللاواعية في السلوك البشري ، فلا شك في أن فرويد خرج عامدا عن حركة التنوير في الفلسفة؛ ففي حين أنذر فرويد ب «فقدان» الوضوح، أكد فلاسفة التنوير على «اكتساب» الوضوح. لنتناول بإيجاز بعض وجهات نظر التنوير بشأن الطبيعة البشرية ونتناول نيتشه كسلف لفرويد. (2-1) وجهات نظر حركة التنوير عن الطبيعة البشرية
رأى ديفيد هيوم أن دوافع الأفعال الإنسانية هي رغبات في الغالب، لا يستطيع العقل تغييرها. وباستثناء هيوم، كان معظم فلاسفة التنوير يعتبرون البشر محكومين عن طريق العقل على نحو أساسي. لم ينكروا أن الرغبات تلعب دورا في السلوك البشري. على سبيل المثال، يعترف كانط أن البشر ممزقون بين الرغبات والمشاعر والعقل، ولكن العقل يستطيع التغلب على إملاء المشاعر. ومن المعروف أن كانط يعرف التنوير بأنه «الخروج من عدم النضج الذاتي.» ويمثل عدم النضج الفكري «عدم القدرة على استخدام العقل دون توجيه خارجي.» ويعتبر كانط عدم نضج الأفراد ذاتيا؛ لأنه غالبا ما يرجع إلى الكسل والجبن من جانبهم. واقترح كانط شعارا للتنوير هو: «لتكن لديك الشجاعة لاستعمال عقلك» (كانط 1784). ويعترف كانط بأن عدم نضج العامة غير المستنيرين يرجع أحيانا إلى أغلال يفرضها المجتمع. فربما يوجد افتقاد للحرية السياسية، كما في الديكتاتورية، أو قد تكبت الموانع الاجتماعية والثقافية، التي يفرضها الاستبداد الديني أو الأيديولوجيات، ازدهار النضج، ومع ذلك، يعتقد كانط أن حرية استخدام عقل المرء الخاص، بدلا من الثورة السياسية، «تسمح للعامة جميعهم بتنوير أنفسهم»، ولكن عمليات التنوير تلك تستغرق وقتا. على المستوى الشخصي، يجب على الأفراد اعتناق شعار «لتكن لديك الشجاعة لاستعمال عقلك». وعلى المستوى المجتمعي، فإن ازدهار التعليم والثقافة شرطان مسبقان لدفع المجتمع نحو عصر مستنير. وينظر كانط إلى عرقلة هذا التقدم الثقافي والسياسي عن طريق حاكم سلطوي على أنه انتهاك للطبيعة البشرية. إن تحقيق مشروع التنوير - التغلب على الجهل، وعرقلة التقاليد العمياء، وزيادة المعرفة - حق أساسي من حقوق الإنسان بالنسبة لكانط.
إيمانويل كانط (1724-1804).
تأتي تسمية عصر التنوير بهذا الاسم استغلالا لسمة من سمات الضوء. يعني تسليط الضوء على موقف ما أن الموقف يصير أوضح . والهدف العام من وراء التنوير هو أن اكتساب المعرفة يزيل الفرضيات المظلمة، التي تعرقل التقدم. تأمل مسألة المرض؛ فما دامت لا توجد معرفة تجريبية بما يسبب مرضا معينا، فإن علاج المرض يكون مسألة عشوائية، وتعتمد العملية كليا على افتراضات جامحة بشأن أسباب المرض، ولكن عندما اكتشف باستور في عام 1879 أن البكتيريا تسبب المرض، أصبح التطعيم وسيلة ضبط فعالة ضد أنواع معينة من الأمراض. ربما تكون الحالة التي تتطلب إضاءة أيضا سياسية أو مجتمعية أو دينية. يتطلب التنوير تسليط الضوء على سلطة غير مبررة، على افتراضات لا مبرر لها. إن المطالبة بمبررات السلطة السياسية أو الدينية هي المطالبة بأسباب وجودها. وطلب تبرير الافتراضات غير المبررة يعد طلبا للأسباب الكامنة وراء الافتراض. وتوفير الأسباب يجعل الافتراضات أكثر شفافية، كما رأينا، شككت المدرسة الباريسية في الافتراضات التي لا جدال فيها وراء نظرية الحركة الأرسطية، وشكك داروين في الافتراضات الكامنة وراء «سلسلة الوجود العظمى». في رأي كانط، تمنح سيادة العقل الوضوح للسلوك البشري. على المستوى الشخصي شجاعة المرء لاستخدام عقله ستجعل الدوافع وراء سلوكه أقل غموضا. وعلى الصعيد المجتمعي، سيجعل استخدام العقل الافتراضات التي تستند إليها حياة المجتمع أكثر شفافية، كما كان يعلم كانط، كان مشروع التنوير مفهوما فلسفيا مثاليا. لم يكن كانط يعتقد أن مجتمعه البروسي في القرن الثامن عشر قد وصل إلى عصر مستنير، ولكن وفق قوة تطور العلم وفلسفة التنوير كان يعتقد أنه عاش في عصر التنوير. اعتقد كانط - بسذاجة إلى حد ما - أن المسيرة العامة نحو عصر مستنير لا يمكن وقفها، ولكن ألقى فرويد بظلال الشك الخطيرة على الافتراض العقلاني للتنوير. يبدو أن الضوء لا يمكنه أن يخترق الأعماق المظلمة لفضاء دوافع الفرد. وفقا لفرويد، نحن مدفوعون بدوافع ديناميكية لاواعية. ويبدو أن العقول تلعب دورا صغيرا في إدارة شئوننا العقلية. إذا كان فرويد محقا بشأن القوى اللاواعية الكامنة وراء أعمالنا، فإننا نعاني من فقدان الوضوح كأفراد، ولكن ألا يسترد الوضوح بالمعرفة النفسية؟ ربما يكون صحيحا أن كل فرد لا يكون المسيطر على زمام الأمور في جسده، لكن ألا يملك علم النفس الفرويدي القدرة على إنارة الضوء؟ يعتقد فرويد، والفرويديون، والعديد من المعلقين الثقافيين ذلك. ومما يؤسف له أن هذه الادعاءات تثير الخلاف؛ فقد تعرض وجود قوى اللاوعي، والقيمة العلاجية للتحليل النفسي، وأساليب الدراسة الفرويدية كلها للهجوم. (2-2) وجهة نظر نيتشه بشأن الطبيعة البشرية
لم يكن علم النفس موجودا من قبلي. (نيتشه، «هو ذا الإنسان» (1888)، «لم أنا قدر»، الجزء 6)
تجنب فرويد - باعترافه - قراءة أعمال نيتشه. على الرغم من أنه كان يحترمه احتراما شديدا من أجل رؤاه النفسية الحاسمة، فإنه كان حريصا على تطوير وجهات نظره النفسية الخاصة دون انحياز (كوفمان 1974). صور نيتشه نفسه كمفكر نفسي وتاريخي هدفه الأخلاق المسيحية؛ قيمها ومثلها. ويصف نفسه بأنه «اللاأخلاقي الأول»، وهو المدمر بامتياز (نيتشه 1888، «لم أنا قدر»، الجزء 2). كان ما يهدف نيتشه إلى تدميره هو المثل العليا المسلم بها في مجتمعه. وكان يعتبر الأخلاق المسيحية أخلاقا منحلة، ورفض مثل السامري الصالح (نيتشه 1888، الجزء 4). واشتهر نيتشه بإعلانه موت الإله المسيحي. أصبح الإيمان بالأخلاق المسيحية مشكوكا فيه: فلا ينبغي اعتبار الخير والشر قيما مطلقة. تمثل هذه الأخلاق المطلقة طغيانا ضد الطبيعة، وقدم نيتشه ثلاثة اعتراضات ضد المسيحية: إنها عقيدة، وإنها تقلل من شأن حياة الإنسان على الأرض، وأنها تدعو لتبعية الإنسان للإله. من الخطأ أن نفكر أن نيتشه ينكر كل القيم، فهو يزدري القيم التقليدية فقط، والتي في رأيه سببت انهيار الإنسان الغربي. ويطالب نيتشه بإعادة تقييم القيم، وليس التخلي عن جميع القيم؛ فمهمة الفيلسوف هي «إيجاد» القيم. ولا ينبغي اعتبارها ممنوحة من الإله وغير قابلة للتغيير؛ فالأخلاق، في رأي نيتشه، وسيلة للراحة، وليست مثلا عليا. بل جميع القيم مشروطة. وينبغي للقيم الأخلاقية أن تعزز حياة البشر، ولا تعرقل وجودهم. يرى نيتشه - عالم النفس الفلسفي - أن شخصيات السامري الصالح والمسيحي الصالح ضعيفة وفاسدة. ويدعي أنه لم يوجد علم نفس قبله، لأنه يعتبر نفسه الفيلسوف الأول الذي يشكك في الأخلاق المسيحية والأنواع البشرية التي صنعتها:
لم يشعر أحد حتى الآن بالأخلاق المسيحية أدنى مرتبة منه، ولتحقيق هذه الغاية يلزم ارتفاعا، ونظرة من بعيد، وعمقا نفسيا شديدا، وهي الأمور التي لا يعتقد أنها ممكنة حتى هذه اللحظة. كانت الأخلاق المسيحية حتى الوقت الحاضر كالساحرة كيركا التي تغوي جميع المفكرين، فيعملون على خدمتها. من من الأشخاص قبلي نزل إلى الكهوف السرية التي يخرج منها الدخان السام لهذا المثال الأعلى؛ هذا الافتراء على العالم؟ من الشخص الذي تجرأ حتى على افتراض وجود كهوف سرية؟ هل كان أحد من الفلاسفة الذين سبقوني عالما نفسيا أصلا، ولم يكن نقيضا للعالم النفسي؛ أي لم يكن «دجالا بارعا»، «مثاليا»؟ (نيتشه 1888، «لم أنا قدر» الجزء 6)
فريدريك نيتشه (1844-1900).
من ناحية، كان نيتشه أقرب إلى تنوير كانط من التحليل النفسي لفرويد. فيكشف افتقادا للوضوح بشأن الأسس الأخلاقية للمجتمع الغربي في نهاية القرن التاسع عشر. ويدعو إلى إعادة تقييم النظام القيمي، الذي سيكون أقرب إلى الطبيعة البشرية (كما يراها نيتشه)؛ ومن ناحية أخرى، كان يرى نفسه صوتا وحيدا، أول عالم نفسي يمتلك رؤى فرويدية:
تقول ذاكرتي: «فعلت ذلك.» ويقول كبريائي: «لم أكن لأقدر على القيام بذلك.» ويظل عنيدا. وأخيرا، تستلم ذاكرتي. (نيتشه 1886؛ قارن جيلنر 1993، الفصل الأول)
وعلى نفس المنوال، رأى فرويد أن الثقافة تفرض أعباء الامتناع عن ممارسة الجنس التي لا يمكن تحملها تقريبا على البشر. وفقا لفرويد، جعلهم هذا يمرضون. وبينما نشأ نيتشه ككلاسيكي، نشأ فرويد كعالم؛ فكان يهدف إلى ترسيخ التحليل النفسي كعلم جديد. (3) العلموية والنموذج الفرويدي للشخصية
ربما يقال عن التحليل النفسي أنه إذا مد أي شخص خنصره نحوه، فإنه يجذب اليد بأكملها سريعا. (فرويد 1916أ، 193)
تلقى فرويد تدريبه الطبي في أواخر القرن التاسع عشر. لقد كان قرن العلموية؛ أي الاعتقاد بأن معظم المشكلات في العلوم الطبيعية والاجتماعية يمكن معالجتها باستخدام أساليب الفيزياء. ليس من المستغرب أن فرويد، منذ أول غزواته في مجال علم النفس، اعتنق توجها ذهنيا علميا لدراسة الظواهر العقلية؛ فمن «مشروع علم النفس العلمي» (1895) حتى كتاب «مخطط التحليل النفسي» (1938)، يقارن فرويد بانتظام التحليل النفسي بالعلوم.
1
ولكن لم يكن فرويد أول من صور علم النفس كفرع من العلوم الطبيعية. فقد رأى داروين وهيكل (1929، الفصل السادس) أن النظرية التطورية مهدت الطريق لظهور نهج علمي لعلم النفس. وصف فرويد في محاضراته في فيينا مذهب التحليل النفسي بأنه بنية فوقية، سوف تغرس يوما ما في أساس عضوي، لا يزال مجهولا (فرويد 1916ب، 389). سعى فرويد بطرق متعددة لمنح نظريته مصداقية علمية. وبمجرد تحمل مسئولية مثل هذا الالتزام، تبع ذلك بعض العواقب. ويجب أن تكون هذه العواقب متوافقة مع الالتزام الأصلي. إذا كان التحليل النفسي علما - وفقا لفرويد - فإننا نتوقع رؤية مادية معينة للعقل. ونتوقع تقديم نماذج ميكانيكية، وافتراض حالات قياسية شرعية، وكمية معينة من الحتمية بشأن الأحداث العقلية. كان فرويد ثابتا على مبدئه حيال قبول هذه العواقب المترتبة على التزاماته العلمية. ومع ذلك، بينما نلخص نموذج فرويد للعقل، نلاحظ أنه لم يتمكن من تجنب الأدلة الإنسانية في نظريته. وكما سنرى لاحقا، طالب فرويد بتفسير الظواهر العقلية لكنه لم يستطع التخلي عن الأفكار المتعمدة. (3-1) نموذج فرويد للعقل
الإنسان باحث لا يكل عن السعادة. (فرويد 1905ب، 126)
ترجع الصورة الذاتية المهيمنة في القرن العشرين ل «الإنسان على المستوى النفسي» إلى حد بعيد إلى تأثير عمل فرويد. ولد فرويد في 6 مايو 1856 في فريبيرج (مورافيا). وفي عام 1859، في السنة التي نشر فيها داروين كتاب «أصل الأنواع»، انتقلت العائلة إلى لايبزيج وبعدها بسنة استقرت في فيينا. مكث فرويد في فيينا حتى عام 1937، وهو عام الاحتلال النازي. كان فرويد يكره فيينا، ويرجع ذلك جزئيا إلى معاداتها للسامية، ولكنه تأثر أيضا بمجتمع فيينا وتوجهه الذهني حيال الحياة الجنسية. وفي عام 1873 بدأ فرويد عمله في مجال الطب وأصبح محاضرا في علم الأمراض العصبية في عام 1885. وفي أواخر 1885، ذهب فرويد إلى باريس للعمل تحت إشراف جان مارتن شاركو. عرف عمل شاركو على ما يسمى «الهستيريا» فرويد باحتمالية أن الاضطرابات النفسية ربما يكون مصدرها العقل، وليس المخ. اعتقد شاركو أنه أثبت وجود رابط بين الأعراض الهستيرية - مثل شلل أحد الأطراف - والإيحاء التنويمي. واشتمل هذا الرابط ضمنا على القوة العقلية. وفي وقت لاحق تصادق فرويد مع جوزيف بريور، الذي كانت مريضته برتا بابنهايم («آنا أوه») تعاني من أعراض هستيرية. استخدم بريور تقنية لفظية (تعرف أيضا باسم «العلاج بالحديث» أو «العلاج الحواري») لعلاج أعراضها. وفي عام 1896 صاغ فرويد عبارة «التحليل النفسي».
سيجموند فرويد (1856-1938). (أ) ملخص لنظرية التحليل النفسي
تخلى فرويد عن التنويم المغناطيسي وطور تقنية جديدة هي «تداعي الأفكار الحر» (فرويد/بريور 1895). تشجع هذه التقنية المرضى على التعبير عن أي أفكار عشوائية تطرأ ارتباطيا على أذهانهم. وتهدف هذه التقنية إلى الكشف عن المواد غير المعبر عنها حتى هذه اللحظة من عالم النفس. واتباعا للعرف القديم، سمى فرويد هذا العالم الخفي «اللاوعي». أشار فرويد إلى أن مرضاه واجهوا صعوبات في التداعي الحر للأفكار؛ فكان يحدث صمت مفاجئ، وتلعثم، ورفض لمواصلة جلسات التحليل النفسي. وأشارت هذه الأعراض إلى فرويد أن المادة التي تعاني من أجل التعبير عنها كانت مهمة. كانت لدى المرضى أيضا دفاعات قوية ضد التعبير عن المواد الخفية. وكان من الضروري تدمير هذه العوائق (أو المقاومة) من أجل الكشف عن الصراعات الخفية. وعلى النقيض من شاركو وبريور، توصل فرويد إلى استنتاج أن المصدر الأكثر إصرارا للمواد المقاومة كان جنسيا بطبيعته. والأهم من ذلك أنه ربط الأعراض العصبية بالصراع نفسه، بين المشاعر الجنسية والدفاعات النفسية. في رسالة مهمة إلى فيلهيلم فليس تخلى عما يسمى نظرية الإغواء (فرويد 1897). وخلص إلى أن المواد التي يجري تذكرها تحت التحفيز النفسي كانت أوهاما، وأمنيات بدائية خفية، وليست خبرات حقيقية. وهذا يعني أن الأوهام والتوق الغريزي للطفل يعد أصل الصراعات اللاحقة. وعلى مدى السنوات التالية، حسن نظام فرويد وعدل بعدة طرق:
رأى فرويد وفاة والده (1896) بمنزلة الصدمة التي سمحت له بالتعمق في نفسه، وقدم التحليل الذاتي لفرويد رؤى مهمة لنظرية التحليل النفسي.
قدم فرويد في كتاب «تفسير الأحلام» (1899) الأحلام كطريق ممهد لمعرفة اللاوعي.
ومن ثم تصبح دراسة الأحلام الوسيلة الأكثر ملاءمة للوصول إلى معرفة اللاوعي المقموع، الذي تشكل الرغبة الجنسية المنعزلة عن الأنا جزءا منه. (فرويد 1916ب، 456)
تفسر جميع الأحلام - باستثناء أحلام الأطفال - على أنها إرضاء لرغبات جنسية في الغالب. «من الواضح أن الحلم حياة عقلية أثناء النوم!» (فرويد 1916أ، 88؛ 1916أ، الفصل الثاني). ويقدم فرويد ادعاء سببيا : يمكن أن تعزى معظم أحلام البالغين إلى رغبات جنسية صبيانية (فرويد 1901ب، 682-683)، حتى إن جميع الميول نحو الانحراف لها جذورها في مرحلة الطفولة (فرويد 1916ب، 311). وبما أن الأحلام تعبيرات خفية عن إرضاء الرغبات، ميز فرويد بين المحتوى «الواضح» و«الكامن» للأحلام. ومحتوى الحلم الواضح هو تسلسل الصور الفعلي الغريب في كثير من الأحيان التي يراها الحالمون في أحلامهم. ويتضمن محتوى الحلم الكامن الدافع الخفي اللاواعي للحلم. ويشتبه فرويد في وجود صلة شرعية بين الطبيعة المربكة للأحلام الكامنة والصعوبات التي تواجه في التعبير عن أفكار الأحلام (فرويد 1901أ، 643). ويتمثل عمل الحلم في تحويل الأحلام الكامنة إلى أحلام واضحة، ومهمة التحليل النفسي هي عكس هذا التحول.
تضطر الأحلام لإخفاء أشياء وتتخلى عن أسرارها للتفسير وحسب (...). (فرويد/أوبنهايم 1911، 181)
يمكن أن يحول عمل الحلم الأحلام بعدد من الطرق: (1) التكثيف: مثلا، يكون الحلم الواضح شكلا مختصرا مكثفا للحلم الكامن. (2) الإبدال: ويعني أن المعنى الكامن للحلم يظل مخفيا، ويركز عمل الحلم على العناصر غير المهمة أو النائية، وتلمح الأحلام الواضحة عن معناها الحقيقي على نحو غامض، ويخفى المحتوى الكامن. (3) التمثيل: ويعني حدوث تحول للأفكار إلى صور (فرويد 1916أ، الفصل الحادي عشر).
يتناول كتاب «علم النفس المرضي للحياة اليومية» (1900) ما أصبح يعرف باسم «الزلات الفرويدية». وهذه ليست مجرد زلات اللسان ولكن أيضا زلات القلم، والقراءة الخاطئة للكلمات، ونسيان الأسماء.
في كتابه «ثلاثة مباحث في نظرية الجنس» (1904-1905)، نسب فرويد دوافع جنسية للأطفال، وشدد على القوة السببية للأوهام، وأثبت أهمية الرغبات المكبوتة. وسع فرويد في هذه المباحث مفهوم الحياة الجنسية لأبعد من استخدامه التقليدي كي يشمل مجموعة كبيرة من النزوات الشهوانية. وأصبحت الحياة الجنسية المحرك الرئيسي على الأقل - إن لم تكن المحرك الوحيد - لقدر كبير من الشئون الإنسانية، كما حدد فرويد أيضا ثلاث مراحل في التطور الجنسي للطفل: المرحلة الفموية، المرحلة الشرجية، الطور الوذري. ويحدد فرويد علاقة سببية مباشرة بين مكونات الغريزة الطفولية وسمات الشخصية البالغة:
يمكننا أن نضع صيغة للطريقة التي تتشكل بها الشخصية في شكلها النهائي من الغرائز التأسيسية؛ السمات الشخصية الدائمة هي إما امتداد لا يتغير للغرائز الأصلية أو تسام عن هذه الغرائز أو تشكيل ردود فعل ضدها. (مقتبسة في وبستر 1996، 288)
في عام 1908 تأسست جمعية فيينا للتحليل النفسي.
في أعماله اللاحقة، يحل نموذج العقل الثلاثي الأجزاء محل التقسيم الثنائي إلى وعي ولاوعي: تعمل «الهو» وفق مبدأ اللذة، وتعمل «الأنا» وفق مبدأ الواقع، وتمثل «الأنا العليا» تجسيدا للمعايير والقيم الاجتماعية المغروسة في عقل الطفل عن طريق التربية الثقافية. وفي أعماله اللاحقة، حدد فرويد أن الهو يتألف من جزءين: «أمنية الموت» بالإضافة إلى «الغريزة الجنسية» الموجودة (فرويد 1938؛ انظر وبستر 1996، 334-335).
تشغل دراسات فرويد الاجتماعية والثقافية المرحلة الأخيرة من أعماله. درس فرويد أصل الظواهر الثقافية، التي تتبعها حتى آلية التسامي. قال فرويد: إن تقدير أو إنشاء المنتجات الثقافية متأصل في الدافع الجنسي البدائي الذي تغير بطرق مقبولة ثقافيا. يعد التسامي حلا للقمع دون صراع، يؤدي إلى الأعمال الثقافية المتاحة على نحو مشترك. ويعبر فرويد في أعماله اللاحقة «الطوطم والحرام» (1913) و«علم نفس الجماهير» (1921) عن كمية كبيرة من التشكك تجاه المعتقدات الدينية. يمكن أن تعزى هذه المعتقدات في الألوهية في نهاية المطاف إلى الحاجة إلى عبادة أسلاف الإنسان. ولا يمكن لجميع الحضارات، مهما كانت جيدة التخطيط، أن توفر سوى راحة جزئية من الدوافع الجنسية؛ فالعدوان بين الرجال ليس بسبب علاقات الملكية غير المتكافئة أو الظلم السياسي؛ إذ يمكن إصلاح هذه المشكلات عن طريق الإصلاح الاجتماعي. بالأحرى هذا العدوان هو بسبب غريزة الموت عميقة الجذور. ويعد التوفيق بين الطبيعة والثقافة أمرا مستحيلا؛ لأن ثمن أي عملية حضارية هو إنتاج شعور بالذنب لدى أعضاء هذه الحضارة. إن أي حضارة تقيد الغرائز الجنسية البشرية، وهذا الكبت للمتعة سيخلف مشاعر استياء تجاه المجتمع.
لقد رأينا أن الصورة الكوبرنيكية للعالم ساهمت في ميكنة العالم؛ إذ شارك الكوبرنيكيون في الحركة التي تعاملت مع الطبيعة ككيان رياضي مجرد يتبع علاقات قابلة للقياس تشبه القوانين. إن الاعتقاد بأن جميع أشكال المعرفة يجب أن تقترب من الصورة المثالية للمعرفة الكمية يعرف باسم «العلموية».
كان نجاح العلم في نهاية القرن التاسع عشر مثيرا للإعجاب حتى إن العديد من الناس اعتنقوا «العلموية» كفلسفتهم الرسمية. وليس من المستغرب أن نرى فرويد يتبع الحجة نفسها. بل إنه ادعى في الواقع أن علم النفس يمكن وضعه على قدم المساواة مع الفيزياء. كيف برر هذا الادعاء؟ (ب) التناظر مع الفيزياء
بدأ فرويد بافتراض أن النفس يمكن صياغتها في صورة جهاز وظيفي موسع يحتوي على ثلاثة أجزاء: الأنا العليا، والأنا، والهو. ولكل مكون من مكونات العقل هذه وظائف محددة، شرع فرويد في وصفها.
لنحلل معقولية الرأي القائل بأن علم النفس علم محكم مثل الفيزياء. كتب فرويد:
لا يوجد في تعبيرات النفس شيء تافه، أو شيء اعتباطي أو فوضوي. (فرويد 1910، 22)
بعبارة أخرى، آمن فرويد أنه سيكون من الممكن اكتشاف قوانين التحليل النفسي (فرويد 1910، 19). وهذا هو أول افتراض له: (1)
حتمية الحياة النفسية: التي تنص على عدم حدوث أي أحداث عقلية غير مقصودة (براون 1962، 3). «الحتمية النفسية» هي افتراض فرويد أن كل ما نفعله أو نفكر فيه أو نشعر به له معنى وهدف. فجميع أحداث الحياة النفسية محتومة؛ فزلات اللسان والإيماءات، والأحلام والعصاب كلها لها معنى وأصول محددة في خبرة الفرد.
لا شيء في العقل اعتباطي أو غير مقرر. (فرويد 1901ب، 242)
ولكن، بالطبع، لا يوجد في العقل شيء يسمى حتمية اعتباطية. (فرويد 1901أ، 680) (بالمعنى الدقيق للكلمة، فإن معظم السلوك له محددات متعددة، وفقا لفرويد: تعد الدوافع خليطا من اثنين من القوى الأولية: الغريزة الجنسية وغريزة الموت.) (2)
الافتراض الثاني: هو أن اللاوعي قوة ديناميكية، وليس مجرد سلة مهملات مليئة بالأفكار والذكريات:
لم يعد «اللاوعي» اسما لما هو كامن في الوقت الراهن، فاللاوعي عالم عقلي محدد بدوافعه التواقة، وطريقة التعبير الخاصة به وآلياته الذهنية الغريبة التي لا تكون سارية في مكان آخر. (فرويد 1916أ، 212)
انتقل فرويد بهذا التأكيد لما وراء الفهم التقليدي للاوعي باعتباره وعاء سلبيا للمواد غير المرغوب فيها، كما تغلب أيضا على المطابقة التقليدية بين العقل والوعي، التي تتضح على نحو بارز في ثنائية ديكارت. وتعني نظرية فرويد الديناميكية للاوعي أن اللاوعي يلعب دورا مهيمنا في الحياة العقلية، فهو يضفي معنى على الأحداث التي تبدو عشوائية مثل الزلات الفرويدية والأحلام الغريبة. (3)
يتمثل الافتراض الثالث في أن جزءا كبيرا من السلوك البشري مدفوع بدوافع لاواعية. ويعبر «الدافع اللاواعي» عن اقتناع فرويد بأن جزءا كبيرا من سلوكنا وأفكارنا ومشاعرنا تتحدد بدوافع لا نعلم عنها شيئا. فلسنا المسيطرين على زمام الأمور في أجسادنا. عانى البشر من ضربة أخرى: فقدان الوضوح. وفقا لنظرية الغريزة الجنسية، توجه كل السلوكيات نحو تلبية الاحتياجات البيولوجية، إما بطريقة جنسية مباشرة أو بطريقة متسامية. ثمة العديد من دوافع السلوك البشري مدفونة في اللاوعي (الهو)؛ ومن ثم فهي خفية عن الشخص. وتتمثل وظيفة الأنا في توجيه هذه الطاقة إلى أشكال تعبير تكون أكثر انسجاما مع مطالب المجتمع (الأنا العليا). يمثل الهو الجزء العميق الذي لا يمكن الوصول إليه من الشخصية، وهو على اتصال مباشر مع العمليات الجسدية، كما يمثل مخزنا لكل شيء موروث وثابت في العالم الحقيقي. لا يتصل الهو بالعالم الحقيقي، ونتعرف على الهو من خلال تحليل الأحلام ومن خلال أشكال مختلفة من السلوك العصبي.
2
ثمة سبب لوجود الهو، وهو الإشباع الفوري للغرائز دون قيود. ويخضع الهو لمبدأ اللذة.
الأنا هي مدير الشخصية؛ فالأنا هي نظام الشخصية المنظم العقلاني المدفوع بالواقعية. وتعمل وفقا لمبدأ الواقع؛ فترجئ إشباع الدوافع الغرائزية حتى العثور على موضوع وطريقة مناسبين. وتعد الأنا نفعية تماما وبلا قيم. وبينما يتمثل هدفها في إرضاء الهو، فإنها لن تفعل ذلك إلا في سياق مطالب الواقع، كما أنها مكلفة أيضا بالحفاظ على استقامة الكائن الحي.
تنشأ الأنا العليا من الأنا نتيجة التحرر من عقدة أوديب. وهي تمثل أفكار المجتمع وقيمه كما تقدم إلى الطفل من خلال كلمات وأفعال الوالدين. (تؤدي العقوبات إلى الضمير، وتؤدي المكافآت على السلوك إلى الأنا المثالية). باختصار، فإن وظيفة الأنا العليا هي إعلام الأنا بقيمة الأخلاق، فبدلا من الاستسلام للشهوات أو النفعية، تذكر الشخص بالسعي نحو الكمال. (4)
الافتراض الرابع: هو أنه لا يمكن الكشف عن سبب أنماط السلوك الحالية للمرضى إلا باستخدام نهج تطوري أو تاريخي. يبدو أن الأعراض الحالية ترتبط بالتجارب السابقة (سواء كانت متخيلة أو حقيقية).
3
ويعد هذا الافتراض الرابع مهما لممارسات فرويد الاستنتاجية، لأن فرويد استنتج عمل اللاوعي من تجلياته الظاهرة في الحياة الحالية لمرضاه:
بالنسبة للطفولة، فإن مصدر اللاوعي والعمليات الفكرية اللاواعية ليس سوى تلك الأفكار - تلك الأفكار وحسب - التي أنتجت في مرحلة الطفولة المبكرة. (فرويد 1905ب، 170)
لم يكن فرويد مهتما بالكيفية التي عليها سلوك البشر وحسب، ولكنه كان مهتما أيضا بأسباب ذلك السلوك. يبدو أن أسباب السلوك البشري تكمن في تجارب الماضي، ولو كان الحال كذلك، فإن نظرية فرويد سوف تضطر إلى الاعتماد كثيرا على استنتاج بعض البنيات العقلية الكامنة من البيانات الرصدية الحالية (براون 1962، الفصل الأول). من أجل فهم علل مرضاه استدل فرويد على الأحداث الماضية من الأعراض الحالية، ولكن ليست كل أشكال السلوك البشري تؤدي إلى مثل هذه الاستدلالات. من خلال الإصرار على أن الأحلام هي المسار السهل للوصول إلى اللاوعي، يخبرنا فرويد أن أشكالا معينة وحسب من الأعراض - إضافة إلى الأحلام، تمنح الزلات الفرويدية والسلوك العصبي مكانة أفضل - تقدم لمحات بشأن الأعمال اللاوعية للعقل، كما يفترض أن السلوك العادي يقدم القليل من اللمحات بشأن الدوافع الخفية للسلوك البشري.
نحن مدينون بالفضل لدراستنا للاضطرابات العصبية في الحصول على المؤشرات الأكثر قيمة لفهم الحالات العادية. (فرويد 1930، 135)
على أساس هذه الافتراضات، يرى فرويد أن التحليل النفسي يقف على «قدم المساواة» مع الفيزياء. لنر كيف يجادل المحلل النفسي بالمقارنة مع الفيزيائي (مربع 3-1أ، 3-1ب).
تؤدي الفرضية الأولى في حجة المحلل النفسي إلى الاعتقاد بأن علم النفس كان فرعا جديدا من العلوم (فرويد 1938، 19، 52). هل هذه الفرضية صحيحة؟ من المهم أن نلاحظ أن فرويد يجادل بالقياس. وكما سنرى، كان التفكير التناظري في الواقع جزءا مهما من طريقة فرويد.
يبدو أن التناظر بين علم النفس والفيزياء يصمد في الخطوات القليلة الأولى، ولكن بينما توجد تشابهات توجد أيضا اختلافات، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. ومع افتراض فرويد لعدم معرفة الواقع في حد ذاته، تبدأ حجة التناظر في التداعي. وبينما يستطيع الفيزيائي مواصلة تقديم الحجة، وخاصة اللجوء لاختبارات مستقلة، فإن المحلل النفسي عادة ما يواجه صعوبة في تلبية معيار قابلية الاختبار المستقلة لفرضيات النظرية الأساسية (تذكر من الفصل الثاني، الجزء 6-5 أننا فسرنا قابلية الدحض على أنها قابلية الاختبار).
مربع 3-1أ: يناقش المحلل النفسي والفيزيائي الوضع المنهجي للتحليل النفسي
المحلل النفسي
الفيزيائي •
يخضع اللاوعي للقوانين. •
تخضع الأنظمة الفيزيائية للقوانين. •
يمكننا إعادة بناء هذه القوانين من الخصائص السلوكية، على سبيل المثال من الأشخاص الذين يعانون من العصاب. (فرويد 1938، 32، 40) •
يمكننا إعادة بناء هذه القوانين من المشاهدات والتجارب. •
يمكننا بناء نماذج للاوعي. •
يمكننا بناء نماذج للنظم الفيزيائية. •
لا يمكننا أبدا معرفة اللاوعي مباشرة. •
لا نستطيع أن نعرف «الواقع المادي» مباشرة، كما يقول فرويد.
مربع 3-1ب: يواصل المحلل النفسي والفيزيائي مناقشتهما حول الوضع المنهجي للتحليل النفسي
المحلل النفسي
الفيزيائي •
حتى لو لم نتمكن من معرفة اللاوعي مباشرة، فإن لدينا تقنيات لفحصه. •
لدينا أساليب مختلفة ومستقلة لتأكيد النماذج والقوانين. •
تشمل هذه التقنيات تحليل الأحلام والسلوك العصبي والزلات الفرويدية. •
على سبيل المثال، قطر شعر الإنسان يمكن قياسه مباشرة تحت المجهر، وعلى نحو غير مباشر من أنماط الانحراف التي يسببها عندما يوضع في مسار ضوء الليزر. «لكن سيحصل الفيزيائي على استثناء الآن.» •
هذه التقنيات لا تكشف اللاوعي على نحو فريد ومستقل. •
لدينا اختبارات مستقلة للنماذج. •
يمكننا تقديم تنبؤات عددية دقيقة. •
يمكننا تقديم تفسيرات حقيقية لسلوك النظم المادية. •
يمكننا أن نمتلك - ونحن نمتلك بالفعل - عددا وافرا من نماذج اللاوعي المتباينة، وأحيانا حتى تكون متناقضة •
كثيرا ما يكون لدينا دليل قاطع على أن نموذجا ما أكثر مصداقية من النموذج المنافس. •
كمثال على ذلك، يمكن للفيزيائي الاستشهاد بالكوبرنيكية والداروينية.
هل كان الفيزيائي ظالما للمحلل النفسي؟ أليس من الواضح أن الفيزياء تختلف عن التحليل النفسي؟ لا يجب أن نلوم الفيزيائي ولكن نلوم فرويد. ادعى فرويد طوال حياته العملية أنه يمكن وضع التحليل النفسي على قدم المساواة مع أي علم طبيعي؛ لذلك ربما لم يكن الفيزيائي يرغب في الانجرار إلى ذلك الجدال، لكن ادعاء فرويد هو الذي سبب المقارنة. رفض الفيزيائيون تلميح علم النفس أنه من الممكن استنتاج واقع اللاوعي من التقنيات المتاحة. ويؤكد الفيزيائي على الحاجة إلى قابلية اختبار «مستقلة». وعند هذه النقطة انهار التناظر. تمثل قابلية الاختبار المستقلة سمة مهمة من سمات التفكير العلمي، وهي طريقة لتجنب التفسيرات «المخصصة»؛ وهي التفسيرات التي تقدم فيها أداة توضيحية للتوفيق بين التفسير والمظهر الخارجي. على سبيل المثال، استخدم بطليموس أفلاك التدوير والمؤجلات والموازنات للتوفيق بين الافتراض المسبق بوجود حركة دائرية منتظمة والسرعات غير المنتظمة المرصودة للكواكب، ولكن لا يوجد دليل مستقل على وجود هذه الأدوات الهندسية. ويحافظ مذهب الخلق على نفسه من الدحض عن طريق الأدلة الحفرية الجيولوجية من خلال الادعاء بأن الخالق زرع الحفريات في لحظة الخلق منذ 6000 سنة. ويبدو أن فرويد عانى من المشكلة نفسها، فالدليل الوحيد الذي كان يمتلكه (على حد تعبير بوبر) للأسباب (اللاوعي) هو المفسر نفسه (الزلات الفرويدية والأحلام الغريبة والسلوك العصبي (انظر المربع 3-2)). وفقا لبوبر، فإن ما يجعل النظرية - المجموعة المتماسكة من البيانات - علمية هو قابليتها للدحض. يشترط بوبر أن يكون الشكل المنطقي للنظرية في صورة يمكن دحضها من خلال التجربة: فيجب أن يكون من الممكن لنظام علمي تجريبي أن يتعارض مع الحالة المادية للعالم.
مربع 3-2: نموذج بوبر للحجج «المخصصة»
إليك مثال بوبر للحاجة إلى قابلية الاختبار المستقلة:
إليك صورة مناظرة من التحليل النفسي:
البحر هائج اليوم.
يعاني المريض من أعراض عصبية.
لماذا؟
لماذا؟
لأن (الرب) كوكب المشتري غاضب!
لأن الخبرات الماضية قد أثرت على لاوعي المريض.
كيف تعرف أن المشتري غاضب؟
كيف تستطيع معرفة أن اللاوعي يؤثر على حياة المريض الحالية؟
ألا ترى أن البحر هائج؟
ألا ترى أن المريض يعاني من أعراض عصبية؟
ما نريده هو تأكيد تجريبي مستقل على أن كوكب المشتري في الواقع مسئول سببي عن حالة البحر، وسيكون من الصعب الوصول لذلك. للأسف، من الصعب أيضا الحصول على تأكيد مستقل لفكرة فرويد بشأن الحتمية النفسية. والجزء الرئيسي لهذا التفسير هو افتراض وجود اللاوعي وخصائصه. هذا الشرط بوجود اللاوعي يطرح العديد من المشكلات؛ أولا: يبدو مخصصا من وجهة نظر قابلية الاختبار. ثانيا: يفشل هذا في تخطي طريقة الاستقراء الإقصائي (انظر أدناه). وهنا ينهار تحليل فرويد مع حيث تشابهه مع الفيزياء على نحو محزن. وكما يقول أحد النقاد:
تظاهر فرويد وخلفاؤه بأنهم يستمعون إلى «لاوعي» مرضاهم. في الواقع قد جعلوه يتحدث كما جعل الآخرون الأرواح تتحدث. (بورش-جاكوبسن 2005، 388؛ ترجمة المؤلف)
لا يمثل هذا الفشل كارثة إذا كنا على استعداد للتخلي عن الادعاء بأن التحليل النفسي علم دقيق. يمكننا التعامل معه بطريقة تعامل أوزياندر مع مركزية الشمس ومركزية الأرض. يمكننا القول إن التحليل النفسي التقليدي يمثل نموذجا محتملا للحياة العقلية؛ فهو يقدم قصة متسقة، ولكن الاتساق ليس شرطا كافيا للتفسير الناجح. هذا الإقرار يساوي قبول وجود نماذج بديلة ومنافسة. ولسنا في وضع يسمح لنا بتحديد أي النماذج المتنافسة هو الأكثر ملاءمة في ضوء القيود المختلفة؛ فالأدلة التجريبية المتاحة متوافقة مع العديد من نماذج العقل المتنافسة، ولكن رغبتنا التي شعرنا بها بالفعل في حالة الكوبرنيكية، في أن نتحقق أكثر ونقيم نماذجنا من حيث مصداقيتها، يجب أن تظل دون إشباع؛ فمن الممكن أن تظهر في يوم ما أدلة من شأنها أن تساعدنا على إعادة توزيع المصداقية على مساحة النماذج النفسية، ولكن في الوقت الراهن، من الأفضل اتباع توجه ذرائعي واقعي. إذا كان لنموذج فرويد للعقل قيمة علاجية، يمكن استخدامه لإعادة الحالة النفسية للأشخاص للوضع الطبيعي. لا يهم هل كان النموذج صحيحا أم لا، ما دام الناس الذين يعانون من العصاب يظهرون تحسنا. ومن ثم فإننا نخلص إلى أن النموذج الفرويدي يتسم بالملاءمة التجريبية ولكن ليس بالصحة النظرية. فلا يمكننا الادعاء بأن النموذج «صحيح» أو «يفسر» الأعراض، ولكنه في أفضل الأحوال يساعدنا على فهم ما يحدث داخل المريض، فنعتبره نموذجا تماثليا. ونقول - على مستوى نفعي - إنه ناجح، ولكن لا يمكننا أن نحدد سبب نجاحه. ولو لم نفرض شروطا كثيرة على أدائه الجيد، فإن نموذج فرويد يمكن أن يقال إنه يشترك في منصة واحدة مع النموذج البطلمي للكون. فإذا لم نطلب الكثير من النموذج أرضي المركز، فإنه يساعدنا على فهم الظواهر الكوكبية على نحو مبدئي. وعلى نحو مماثل يمنحنا نموذج فرويد صورة لما يمكن أنه يحدث في عقل المصاب بالعصاب، ولكننا في كلتا الحالتين لا نحصل على أي تفسير حقيقي. وفي الحالات التي تدعي فيها النماذج المنافسة أنها تفسر الأدلة، ولا تستطيع الأدلة أن تختار بينها، لن يكون لدينا تفسير حقيقي. لنقرر إذن عدم اتباع فرويد في ادعائه الواثق بأن التحليل النفسي يمكن أن يكتسب المكانة السامية للعلوم الأساسية مثل الفيزياء. ينعكس هذا القرار سلبا على نموذجه للعقل إذا تمسكنا بعقيدة العلموية التي انتشرت في القرن التاسع عشر، ولكن ربما نكون مهتمين بهذا النموذج دون التفكير في أنه يجب أن يفسر بنية العقل البشري. (ج) فرويد كمفكر تنويري
كما ذكر فرويد في ادعائه الكوبرنيكي، كان يوجد رد فعل «عدائي» تجاه مذهبه في فيينا في أوائل القرن العشرين. أغضبت العديد من سمات هذا المذهب الناس: (1)
افتراض وجود الحياة الجنسية في الطفولة، كجزء من تطور الشخصية. (2)
افتراض وجود الدوافع الجنسية والعدوانية كدوافع رئيسية للسلوك البشري؛ أي الحتمية النفسية. (3)
افتراض وجود اللاوعي والدور الديناميكي الذي يلعبه في سلوكنا.
كان يرى أن فرويد يعمد إلى تقييد العقل المنطقي بدوافع غريزية. وافتراض وجود اللاوعي الديناميكي جعل العقل البشري غير واضح. لقد تحدث الناس عن «ثورة فرويدية». ولا بد أن تقتضي فكرته أن سلوكنا ليس نتيجة دوافع عقلانية (محضة). وهكذا يمكن اعتبار الثورة الفرويدية تقييدا لصورة عصر التنوير بشأن عقلانية البشر.
هذه الصورة للعقلانية يمكن أن تعزى إلى عدة عوامل، اثنان منها: (1)
تطور العلم ونموذج العقلانية الخاص به. (2)
إرث التنوير ورؤيته للطبيعة البشرية.
كان تطور العلم من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر مسيرة ناجحة للنيوتونية من الظواهر الميكانيكية، مثل حركة الكواكب، إلى ظواهر مثل الكهرباء والمغناطيسية والحرارة، وقد تسبب إضفاء الصبغة الميكانيكية والرياضية على العلم في رسم دوائر متزايدة باستمرار، بحيث أصبح العلم نموذجا إرشاديا للعقل. وبسط التنوير هذا النموذج إلى عالم المجتمع.
وكما رأينا مع كوبرنيكوس ونيوتن وداروين، فإن المعتقدات التقليدية قد صارت بالية بسبب اكتشافاتهم العلمية؛ أي معتقدات مركزية الأرض وسمو البشر على جميع الكائنات الأخرى. يؤكد النشاط العلمي على الجانب العقلاني للبشر؛ ومن ثم كان ثمة شعور بأنه مع زيادة العلوم، فإن البشر سيزيدون من سيطرتهم على العالم. وبينما دمر العلم المعتقدات التقليدية، فإنه أدى أيضا إلى المزيد والمزيد من سيطرة الطبيعة، على سبيل المثال في: (1)
الثورة الصناعية وتطوير المحركات البخارية. (2)
نظرية باستور الجرثومية للمرض، التي أدت إلى إنتاج أول لقاح للإنسان ضد داء الكلب.
وبهذا أكد نجاح العلم على أهمية العقلانية لدى البشر، وقد وجدت العقلانية بالفعل تفسيرا فلسفيا فيما سمي «عصر العقل» أو «عصر التنوير».
على الرغم من أن فرويد لم يبن أكثر من مجرد نموذج تماثلي للعقل، فلسنا بحاجة إلى أن نقلل من شأن إنجازاته. طبقا لبعض منتقدي فرويد، فقد وضع رؤية متينة داعمة لا تعتمد على التخمين (جيلنر 1993، 126). ورغم أنها لم تخضع لاختبار صارم، فإنها يمكن أن تخدم وظيفة ثقافية. كان لنظرية فرويد تأثير محرر على الثقافة الغربية (جيلنر 1993، 83؛ وبستر 1996، 283؛ سيوفي 2005، 46؛ ريلير 2005ب، 241). ومن خلال تناوله الصريح وغير المتحيز للحياة الجنسية، ساعد فرويد على تحرير البشرية من سلاسل القمع الجنسي. وبقدر ما ألقى الضوء على الدوافع البشرية المظلمة، أصبح شخصية تنويرية. أظهر فرويد في كتابه «ثلاثة مباحث في نظرية الجنس» (1905) صراحة وصدقا بشأن الممارسات الجنسية التي من شأنها أن تكون مصدر فخر لأي مفكر تنويري. فوصف أشكال الحياة الجنسية في الطفولة بتفاصيل كبيرة وصادمة للجمهور في فيينا، وناقش ممارسة الجنس «الطبيعية» و«الشاذة» بانفتاح رائع. وفي مقال سابق عن الأخلاق الجنسية قال بالفعل إن «ثقافتنا تقوم على قمع دوافعنا الغريزية» (فرويد 1908، 82). وأشار إلى أن الطاقات الجنسية يمكن توجيهها نحو أشكال إشباع غير جنسية. وشك في أن عملية تكمن في جذور الإنجازات الثقافية يطلق عليها «التسامي». ويعود في كتابه «مستقبل الوهم» (1927) إلى التعارض بين الطبيعة والثقافة. ويرى أن كل ثقافة تقوم على الإكراه والتخلي عن الغرائز (فرويد 1927أ، 7). الثقافة تحمينا من الطبيعة. ثمة أيضا قبول مدهش بالنسبة لطلاب فرويد. فطالما أكد على أهمية الدوافع الغريزية في الشئون الإنسانية، ولكنه الآن يطالب بمبرر منطقي للامتثال للثقافة. يمكننا وحسب أن نحتوي طبيعتنا الغريزية عن طريق ذكائنا. وتعد أولوية العقل مثالية نفسية؛ فعلى المدى الطويل لا شيء يمكن أن يصمد أمام العقل والخبرة. ويمكن تحسين شروط الوجود الإنساني من خلال توظيف المعرفة العلمية (فرويد 1927أ، الجزء التاسع).
كانت نظرية التحليل النفسي بالنسبة لفرويد جزءا من المعرفة العلمية. لقد رأينا بالفعل أن أحد ادعاءات فرويد لا أساس له؛ فالتحليل النفسي ليس على قدم المساواة مع الفيزياء؛ فالتناظر بين التحليل النفسي والفيزياء، الذي بناه فرويد، عبارة عن وهم. ولكن هذه الحجة التناظرية استندت إلى فهم خاطئ لكيفية عمل العلوم في المقام الأول. وعلم الأحياء التطوري كذلك - كما رأينا - ليس على قدم المساواة مع الفيزياء. فهل يوجد سياق آخر يمكن أن يبين هل كان التحليل النفسي لفرويد علميا أم غير علمي؟ ينبغي علينا تحليل إجراءات فرويد، وليس ادعاءاته البلاغية. ويجب أن نطبق منطق التقييم على مجموعة التحليل النفسي. (د) المكانة العلمية للنموذج الفرويدي
ليس من السهل التعامل علميا مع المشاعر. (فرويد 1930، 65)
كيف يمكن للفرويديين أن يبينوا أن التحليل النفسي علمي؟ وكيف يمكن لنقادهم أن يبينوا أن نظرية فرويد لا تفي بالمعايير العلمية؟ تأمل أولا أساليب فرويد ثم إجراء الاستقراء الإقصائي.
أساليب فرويد
نظرا لتدريب فرويد الطبي، يجب ألا نستغرب أنه كان على علم تام بالمسائل المنهجية. ولن يكون من الخطأ القول إن فرويد دافع - على الأقل دون وعي - عن شكل من أشكال الاستقراء الإقصائي كأفضل أسلوب للعلوم. كثيرا ما تحدث فرويد بالطبع عن «الاستدلالات» النفسية واللجوء إلى تفسيرات «بديلة». ويدعي أحيانا أن الاستدلالات التي يجب على المحلل النفسي تقديمها يجب أن تؤدي إلى استنتاجات حتمية:
مما يبعث على الارتياح أن نتمكن من إعلان أن الملاحظة المباشرة (للأطفال) قد أكدت تماما الاستنتاجات التي توصل إليها التحليل النفسي، وهذا يعد بالمناسبة دليلا جيدا على موثوقية هذا الأسلوب البحثي. (فرويد 1905أ، 193-194؛ راجع 201، 205)
تعد إمكانية منح معنى للأعراض العصبية من خلال التفسير التحليلي دليلا راسخا على وجود العمليات العقلية اللاواعية، أو ضرورة وجود فرضيتها، إذا كنت تفضل ذلك. (فرويد 1916ب، 279)
ولكنه في أوقات أخرى لا يقدم ادعاءات ديكارتية بشأن يقين المعرفة النفسية. حتى إنه أظهر استعدادا لقبول اللاوعي باعتباره مجرد فرضية (فرويد 1905ب، 177-178). وتذمر - مؤكدا مرة أخرى التناظر مع العلم - من أن الاستدلالات في الكيمياء تقبل بلا تشكك، ولكن الاستدلالات التحليلية النفسية تكون موضع خلاف. يقبل فرويد أنه لا توجد أدلة مباشرة على معنى الأحداث النفسية، ومع ذلك، ثمة «درجات من الاحتمالية» لتحليلات كل منها. ومن الواضح أنه يعتبر التحليل النفسي للأعراض أكثر احتمالا من التفسيرات المنافسة، وقد يتذكر القارئ من الفصول السابقة أن كوبرنيكوس وداروين ادعيا أيضا أنه من الممكن استخلاص استنتاجات لنموذج التفسير الأكثر احتمالا من الأدلة المتاحة. واعتبراها استدلالات مقبولة. ويعتبر فرويد أيضا - وإن كان على نحو أقل صراحة - أن الاستدلالات المستقاة من الأدلة الداعمة لنموذج التحليل النفسي للعقل بمنزلة أكثر الاستدلالات المقبولة احتمالا (انظر شكل
3-1 ).
تقدم الحياة العقلية للأفراد لنا - عندما يتعرضون للدراسة النفسية - التفسيرات التي يمكننا من خلالها حل عدد من الألغاز في حياة المجتمعات البشرية، أو على الأقل إظهار حقيقتها. (فرويد 1916أ، 168)
شكل 3-1: اتجاه الزمن، من اليسار إلى اليمين. يوضح هذا الرسم البياني المستويات المختلفة المذكورة في الاستنتاجات الفرويدية (جيلنر 1993، 224): 2 و3 لا يمكن ملاحظتها مباشرة؛ ومن ثم لا يمكن نظريا اختبارها على نحو مستقل؛ أولا: لأن النظرية تؤكد تفرد أداة الدراسة الخاصة بالتحليل النفسي، وثانيا: لأنها تخضع للتفسيرات التي لا يمكن التحقق منها على نحو مستقل مقابل البيانات الأولية. ليست 4 قابلة للاختبار بسهولة؛ فليست الأحداث العامة هي ما يهم ولكن معناها بالنسبة للمريض. ويمكن بسهولة بتر الروابط من 4 إلى 3 ومن 3 إلى 2 والتخلي عنها (المصدر: جيلنر (1993)، 224).
من ناحية، تساهم الاستدلالات في إضفاء بنية عقلية على الظواهر، كما هي الحال في أي علم طبيعي آخر (فرويد 1938، 196). ومن الناحية الأخرى، فإن الاستدلالات لا تمتلك جميعها درجات متساوية من الاحتمالات. يعتقد فرويد بوضوح أن بعض الاستدلالات أكثر احتمالا من غيرها في ضوء الأدلة. (فرويد 1916أ، 51، 238؛ 1916ب، 300-302)
أبدى فرويد على الأقل فهما جزئيا للحاجة إلى النظر في النماذج المنافسة؛ ففي خلال عمله على الأحلام والنكات والحياة الجنسية وزلات اللسان والمحرمات درس النماذج المنافسة ولكنه وجد أنها غير ملائمة. وفقا لفرويد، فإنها لا تفسر الأدلة على نحو كاف. وخلص فرويد، متعجلا، من هذا الرفض للنماذج المنافسة إلى أن نموذجه التحليلي النفسي لا بد أنه النموذج الصحيح. ولسوء الحظ فإن الأساس الإثباتي لادعائه محدود للغاية؛ فهو يتألف من تفسير الأحلام والزلات الفرويدية وتحليل نتائج التداعي الحر، الذي ألهمه بناء نموذج التحليل النفسي في المقام الأول (فرويد 1910، 17-18). لا يقبع النموذج الفرويدي من حيث الممارسات الاستدلالية على نفس مستوى النموذجين الكوبرنيكي والدارويني؛ فهو يخفق في استخلاص نتائج جديدة قابلة للاختبار من نموذج العقل. إنه منشأ بحيث يتوافق مع الحقائق المعروفة مسبقا على نحو مستقل، وهي السلوك العصبي وزلات اللسان والأحلام الغريبة. وعلى مستوى نموذج الاستقراء الإقصائي، لا يوجد شيء خاطئ في بناء نموذج يتلاءم مع الحقائق المعروفة، ولكن نموذج العقل لفرويد لا ينبغي أن يدعي أنها أدلة داعمة له. ولا يمكن أن تكون الأدلة المذكورة داعمة للأسباب التالية: (أ) الفكرة الأساسية للاوعي ليست قابلة للاختبار على نحو مستقل. (ب) لا توجد أي حقائق معروفة على نحو مستقل - بخلاف تلك التي تشكل أساس النموذج - متلائمة مع النماذج الفرويدية، ولم يبين فرويد قط أن نموذج التحليل النفسي مدعوم بوضوح بالأدلة المتاحة على حساب النماذج المنافسة، ولم يتبين أن النماذج المنافسة لا تتفق مع الأدلة. (ج) لا تنبع نتائج استنتاجية من النموذج الفرويدي بسبب عدم اتساقه.
تذكر وجهات النظر المنهجية لهيكل وهكسلي بشأن المناهج الملائمة في علم الأحياء التطوري. ربما نستخدم خطوات استقرائية من الأدلة المتاحة لبناء نموذج، ولكن هذا يجعل النموذج مجرد فرضية، ويجب اختبار هذا النموذج بعد ذلك، وقد تأخذ الاختبارات شكل تنبؤات دقيقة، أو نتائج استنتاجية أو استقرائية، أو ملاءمة حقائق معروفة على نحو مستقل. كان فرويد بارعا في صياغة نموذج معقول للعقل ولكنه كان سيئا فيما يتعلق باختبار النموذج. ادعى فرويد أن نموذجه كان استدلالا لأفضل تفسير، ولكنه ليس استدلالا لأفضل تفسير «مقارن» (انظر سولواي 2005أ، ب).
اعتقد فرويد أنه يستطيع تعزيز مصداقية التحليل النفسي من خلال التناظر مع الفيزياء، ولكن التناظرات تأتي دائما بالترافق مع الاختلافات، وقد أخفق منطق فرويد لأنه لم يول اهتماما كافيا للاختلافات مع الفيزياء.
إن نموذج فرويد للعقل نموذج تماثلي (في ضوء مناقشتنا السابقة لدور النماذج)، ولكن فرويد عامل نموذجه للعقل كنموذج ميكانيكي واقعي. كان في محاضراته في فيينا يرى أن المحلل النفسي يجب أن يعمل مع اللاوعي كما لو كان «شيئا ملموسا بالنسبة للحواس» (فرويد 1916ب، 279). ورسم نموذجه الثلاثي للعقل كبنية موسعة، جهاز عقلي، يحتل فيه الهو والأنا والأنا العليا مناطق محددة تحديدا تاما (فرويد 1916ب، 283؛ 1938، الفصل الثامن؛ انظر شكل
3-2 ). إن مفهوم الفرويدية للعمق، كما يصفه أحد الكتاب:
يؤدي إلى خطأ؛ لأنه يشجعنا على تحويل النزعات والآليات المعرفية والعاطفية إلى مواد. (ريلير 2005أ، 224، راجع 219، 228، ترجمة المؤلف)
شكل 3-2: تمثيل من كتاب تعليمي للنموذج الفرويدي للعقل (المصدر: مقتبس من فاريس (1988)، 80).
إن دور الاستدلال التناظري واسع الانتشار كثيرا في كتابات فرويد. على سبيل المثال، يدعي فرويد أن دراسة العصاب تقدم للمحلل النفسي أهم المؤشرات القيمة لفهم الحالة الطبيعية (فرويد 1930، 135؛ 1927ب، 165). لم يؤكد على دور التفكير التناظري بما فيه الكفاية في أعمال فرويد. لنلق نظرة على بعض الأمثلة: (1)
ثمة مقارنة بين «الاقتصاد النفسي» والمشاريع التجارية (فرويد 1905ب، 156). (2)
يوجد تناظر بين عمل الحلم وعمل النكات بسبب التشابهات في التقنيات (فرويد 1905ب، 165، 171؛ 1927ب، 165). (3)
يوجد تشابه بين الدين والعصاب لدى الأطفال؛ فيرى فرويد أن الطفل لا يمكنه أن يتطور نحو الثقافة دون المرور عبر مرحلة العصاب. وعلى نحو مشابه، لا بد أن تمر البشرية نفسها، في تطورها نحو الحضارة، عبر مرحلة دينية تشبه العصاب (فرويد 1927أ، 43، 53). (4)
يقارن نظام اللاوعي بقاعة استقبال كبيرة، حيث تتصادم الدوافع العقلية بعضها مع بعض مثل الأفراد (فرويد 1916ب، 295).
بالطبع لا شيء خاطئ في استخدام المنطق التناظري إذا كان يخدم أغراضا استكشافية، ولكن لدى فرويد ميل لبدء منطقه بتناظر يتحول خلسة إلى تأكيد. فيميل إلى نسيان أن المنطق التناظري ليس «بديلا» للإثبات.
طريقة الاستقراء الإقصائي، مرة أخرى
تذكر الإجراء العام للاستقراء الإقصائي؛ فمن بين عدد من النظريات التفسيرية المتنافسة، يختار الاستقراء الإقصائي النظريات التي تتفق على أفضل وجه مع القيود المتاحة. ويستند هذا إلى الفكرة الرئيسية القائلة بأنه ليس كل الحالات «الإيجابية» للنظرية تمثل أيضا حالات «داعمة» لتلك النظرية؛ فالحالات الإيجابية مجرد تطبيقات ملموسة للمبادئ العامة للنظرية، لكن النظريات المنافسة تدعي أيضا أنها يمكن أن تفسر هذه الحالات. إن أي بناء لجسر جديد يعد حالة إيجابية لميكانيكا نيوتن. وتختبر الحالات الداعمة ادعاءات النظريات. وبالنسبة لقابلية الدحض، يأتي ذلك في شكل تنبؤات من النظرية جديدة ودقيقة وقابلة للاختبار. تم التنبؤ بوجود كوكب نبتون من نظرية نيوتن. وعندما اكتشف الكوكب، اعتبر ذلك حالة داعمة لميكانيكا نيوتن للأجرام السماوية. تخيل أنه لا يمكن إجراء مثل هذه التنبؤات الدقيقة؛ لأن المتاح هو عدد قليل فقط من النماذج التقريبية. سيظل من الممكن لأحد النماذج أن يجد الدعم في الأدلة على حساب النماذج الأخرى. (يمكن تشبيه ذلك بقائمة للمشتبه بهم في قضية قتل، وغالبا ما تتجمع الأدلة المتزايدة حول أحد المشتبه فيهم وتقصي الآخرين جميعا.) قد تأتي الأدلة في صورة تجارب حاسمة، وتقيم مصداقية عدد من النماذج المتنافسة مقابل وزن الأدلة التجريبية المستمدة من التجارب الحاسمة. من الناحية المثالية، يتوافق نموذج واحد فقط من النماذج مع الأدلة، في حين لا تتوافق النماذج الأخرى. وفي هذه الحالة، يقال إن الأدلة «تدعم» النموذج المتبقي وتدحض النماذج المنافسة له. تدحض الأدلة نموذجا ما؛ لأنه لا يستطيع أن يفسرها، وتدعم نموذجا آخر؛ لأنه يستطع أن يفسرها. على سبيل المثال، إذا كانت توجد أدلة مؤكدة للغاية حول المدارات البيضاوية للمذنبات، فإن أي نماذج كوكبية، لا تستطيع تفسير هذه الأدلة، تعاني في مصداقيتها. وتعود هذه الأفكار الأساسية إلى فرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل.
ناقشنا مجموعة من «ملامح» هذا الشكل المتطور من الاستقراء في فصل سابق. وتتمثل السمات الرئيسية في:
التمييز بين الأدلة «الإيجابية» و«الداعمة».
استكشاف «فضاء الاحتمالات». وهذا هو المجال المفاهيمي للتفسيرات المتنافسة الفعلية أو المحتملة، التي يمكن أن تفسر البيانات التجريبية على نحو متساو للغاية، وربما تكون هذه النظريات غير متوافقة بعضها مع بعض.
مشكلة «ملاءمة الحقائق المعروفة» مقابل «التنبؤ بحقائق جديدة».
تصور لما يشكل «التفسيرات المتنافسة» التي تتضمن مساحات قيود مختلفة، مقابل «التفسيرات البديلة» التي توجد في مساحة القيود ذاتها.
لنقس معيار نظرية فرويد من خلال طريقة الاستقراء الإقصائي. ويمكننا أن نفعل ذلك من خلال دراسة بنيات القيود، التي تبدأ منها عملية الإقصاء. على سبيل المثال، تأمل طريقة تطبيق الجانب العلاجي من نظرية فرويد.
تذكر أن فرويد ادعى تحقيق بعض النجاح العلاجي على الأقل لطريقته، ولكن طريقة الاستقراء الإقصائي تمنعنا من دعم عبارة أن التحليل النفسي علاجي وحسب؛ لأن بعض المرضى يتحسنون بعد العلاج (جرونباوم 1977أ، 222؛ 1985). فلا يمكن إثبات هذا الادعاء القوي من خلال أسلوب الاستقراء الإقصائي. لا تقدم الحالات «الإيجابية» للمرضى الذين يتعافون من العصاب بعد تلقي العلاج؛ الدعم للقيمة العلاجية للعلاج الفرويدي، ربما يكون مجرد ارتباط وهمي، مثل ذلك الرابط بين تناول القهوة والتعافي من البرد. ولتجنب مثل هذه الارتباطات الوهمية علينا استبعاد النظريات المنافسة من بين مجموعة التفسيرات المحتملة؛ ومن ثم، فإنه من أجل إثبات التأكيدات القوية التي قدمها الفرويديون بشأن الفعالية العلاجية، ينبغي وضع عدد من إجراءات السيطرة موضع التنفيذ (جرونباوم 1977أ):
العلاج الوهمي في المجموعات الضابطة.
أشكال علاج غير التحليل النفسي (على سبيل المثال، استخدام الأدوية).
دراسة الشفاء العفوي.
لم يضع الفرويديون إجراءات الضبط هذه موضع التنفيذ. وإذا لم تستبعد هذه التفسيرات المحتملة، فلا يمكن للعلاج الفرويدي أن يدعي مصداقية أكثر من منافسيه. إن ميل فرويد إلى الاستدلال على دقة منهجه من فشل النماذج المنافسة أمر غير منطقي ما دامت لا توجد أدلة داعمة للتحليل النفسي.
أظهرت الدراسات السريرية أن موثوقية العلاج بالتحليل النفسي ليست مثيرة للإعجاب كما يدعي الفرويديون (انظر ماير (2005)، الجزء الثالث والرابع)، ولكن لن يكون علميا من خلال طريقة الاستقراء الإقصائي؛ لأن الحالات الإيجابية لنجاح العلاج لم يثبت أنها حالات داعمة (للتحليل النفسي)؛ ومن ثم لم تزد مصداقية النظرية العلاجية الفرويدية وتنخفض مصداقية منافسيها. فقط مجموعة من الحالات الإيجابية، مع حالات فشل طرائق العلاج الأخرى غير التحليل النفسي وعدم وجود حالات شفاء عفوي وعدم تحقيق حالات العلاجات الوهمية للنتيجة نفسها، يمكن أن تشكل حالات داعمة استقرائيا للنظرية العلاجية الفرويدية؛ ومن ثم فإن الاحتمالية المنطقية لهذه الحالات الداعمة تسير جنبا إلى جنب مع الاحتمالية المنطقية للحالات الداحضة (جرونباوم 1977أ، 232؛ جيلنر 1993، 199-203، 208-209).
يبدو أن فرويد قد نسي درسا أشار إليه بوضوح في بداية حياته المهنية:
أي شخص (...) يعمل علميا في بناء الفرضيات سوف يبدأ في أخذ نظرياته على محمل الجد فقط إذا كان يمكن ملاءمتها مع معرفتنا من أكثر من اتجاه واحد، وإذا كان يمكن تجنب «البناء المخصص» فيما يخص هذه النظريات. (فرويد 1895، 302)
ثمة نطاق آخر يغطي فيه المنطق التناظري الفرويدي البنية العميقة لنظامه بدلا من الكشف عنها. إن التفكير من خلال التناظر مع العلوم الطبيعية ساعد فرويد على إخفاء حقيقة أن نظامه لا يستطيع الاعتماد على الأدلة التجريبية وحدها؛ بل يجب أن يقترض من علاقات المعنى، وهي سمة من سمات العلوم الإنسانية. وتتضح هذه الحاجة إلى اقتراض العلاقات الرمزية من حقيقة أن الأعراض العصبية والأحلام وزلات اللسان تخضع للتأويل.
4
وتسترشد التأويلات ب «الصحة» المقبولة مسبقا لنظرية التحليل النفسي . (ه) فرويد بين النماذج التجريبية والتفسيرية
في عصر العلموية كان فرويد متحمسا على نحو مفهوم لترسيخ أوراق الاعتماد العلمية للتحليل النفسي، ولم يتوقف قط عن مقارنة التحليل النفسي مع العلوم ذات الثقل. وإذا لم تكن المقارنة مع الفيزياء، فهي مع الرياضيات:
التحليل النفسي في الواقع هو طريقة للبحث، أداة محايدة، مثل حساب التفاضل والتكامل. (فرويد 1927أ، 36)
إذن، وضع فرويد التحليل النفسي بقوة في جانب النماذج التجريبية للعلوم الاجتماعية؛ فهو علم - على غرار العلوم الطبيعية ذات الثقل - يعمل بالفرضيات، والأدلة التجريبية، والقوانين، والإثباتات. وفقا لفرويد، فإن هذا الوضع للتحليل النفسي ممكن؛ لأن علمه يعتمد على الحتمية النفسية باعتبارها واحدة من أركانه. «العشوائية النفسية لا وجود لها» (فرويد 1901أ، 680). إذا لم تكن العشوائية موجودة في الظواهر العقلية، يجب إذن أن نتوقع أنها خاضعة لقوانين الطبيعة، مثل الكواكب. وكما سنرى، فإن الاقتناع بأن السلوك البشري الذي تحكمه القوانين الاجتماعية والنفسية كان شائعا لدى الآباء المؤسسين للنموذج التجريبي للعلوم الاجتماعية؛ فمن كتاب «تفسير الأحلام» (1901) الشهير إلى كتابه الأخير «الموجز في التحليل النفسي» (1938)، يصر فرويد على أن الحياة العقلية تقوم على الانتظام القانوني؛ فمهمة التحليل النفسي هي اكتشاف القوانين النفسية، وقد تمثلت مشكلة فرويد في أنه لا الأحلام ولا زلات اللسان ولا أنماط السلوك تشكل بيانات موضوعية خاما؛ فيجب تأويل البيانات، والتحليل النفسي هو مجرد أداة واحدة لتقديم هذا التأويل. وتوجه الحاجة إلى تأويل المادة النفسية فرويد بوضوح نحو اتجاه النموذج التفسيري للعلوم الاجتماعية؛ ووفقا لهذا النهج، فإن السلوك البشري له أبعاد رمزية، الأمر الذي يتطلب الحاجة إلى الفهم. ما الشكل الذي يأخذه الفهم لدى فرويد؟ إنه يأخذ شكل الاستدلالات. يستدل فرويد من الأعراض الملحوظة على سبب كامن، يمثله نموذج اللاوعي (شكل
3-2 ). وعلى الرغم من أن فرويد يدعي أن اللاوعي موجود كجزء من جهاز أكبر، فإن هذا النموذج يمثل بالفعل تأويلا، ولكن:
التأويل لا يسكن إلى نواة أخيرة من المواد اللاواعية، التي تكشف عن المعنى الكامل للحلم الذي لا جدال فيه. (كوهين، 2005، 41)
واعترف فرويد بهذه المشكلة على مضض عندما أشار إلى أن:
التحليل النفسي يصبح صعبا من خلال حقيقة أنه لا يستطيع أن يصل إلى بياناته وكذلك استنتاجاته إلا باتباع طرق غير مباشرة. (فرويد 1905أ، 201)
تذكر أن فرويد يقارن الإجراء التحليلي بإجراء مماثل في العلوم المادية. وفي كلا المجالين نحاول الوصول إلى فهم لبعض الظواهر من خلال بناء نموذج. تتمثل المشكلة في أن الفرضية الأساسية للنموذج الفرويدي لا يمكن اختبارها على نحو مستقل؛ فهي بطبيعتها مخبأة في أعماق العقل. ولا يستطيع التحليل النفسي تقديم حقائق صلبة كدليل على وجود اللاوعي، بل يستطيع وحسب تقديم بيانات قبل تأويلها، كما تكشف عن نفسها في الأحلام والزلات الفرويدية والسلوك غير الطبيعي. كان فرويد محقا في الإشارة إلى أن العلوم الطبيعية أيضا تقوم باستدلالات لأشياء غير قابلة للرصد. على سبيل المثال، يستدل العلماء على العمليات النووية في الشمس من التحليل الطيفي لأشعة الشمس على الأرض. واستدل كبلر على المدارات البيضاوية من بيانات براهي. لماذا تجذب الاستدلالات الفرويدية هذا العداء؟ من ناحية، قدم فرويد عددا محدودا من التقنيات وحسب، وأخفق في توضيح الكيفية التي تدعم بها الأدلة نهجه، بينما تدحض في الوقت نفسه النهوج الأخرى. ومن الناحية الأخرى، لا يستطيع فرويد ترسيخ أوراق الاعتماد العلمية لنموذجه للعقل دون اقتراض تقنيات تنتمي إلى تحليل الكلام ذي المغزى في العلاقات الإنسانية، وقد استنتج هابرماس أن التحليل النفسي الفرويدي هو في الأساس مسألة تأويلية. إنه ليس علما تجريبيا ولكن مشروع تفسيري (هابرماس 1968، الفصل الثالث، 10؛ 1983، 214، 230)، ولكن، كما سنقول، فإن العلوم الاجتماعية عموما، وليس فقط منهج فرويد، تقبع في موضع وسط بين النماذج التجريبية والتفسيرية. (و) دور العقل في العالم الاجتماعي
مشكلة العقول الأخرى هي محور العلوم الاجتماعية. (هوليس 1994، 160)
أدى تقييم التحليل النفسي كعلم تجريبي إلى حكم سلبي؛ فبدلا من التوجه نحو العلوم الطبيعية، يتوجه التحليل النفسي نحو العلوم الاجتماعية؛ ففي العلوم الاجتماعية نواجه جوا فلسفيا مختلفا نوعا ما. يتمثل السؤال الأساسي هنا هل كانت العلوم الاجتماعية تشكل مجالا للدراسة من تلقاء نفسها - كما يدعي النموذج التفسيري - أم هل كان مجال الدراسة هذا يظهر بعض التداخل مع العلوم الطبيعية؛ كما يشير النموذج التجريبي؛ ولذلك فإننا نمتلك مبررا لدراسة فرويد في سياق العلوم الاجتماعية. وكما رأينا، لعب العقل اللاواعي دورا رئيسيا في رؤية فرويد للشئون الإنسانية، وساعد على تفسير السلوك البشري الفردي وكان أساس الثقافة. وسواء اعتمدنا نهجا تفسيريا أم نهجا تجريبيا في العلوم الاجتماعية، فمن الصعب إنكار أن الأبعاد الرمزية تلعب دورا مهما فيهما. وسواء كان الأمر يتعلق بإيماءات بسيطة في اللقاءات اليومية أو في أطر مؤسسية كاملة، فإن السلوك البشري يميل إلى أن يكون أكثر من مجرد فعل مادي؛ فهو ينحو إلى أن يكون ذا معنى بحيث يعمل الفاعل الاجتماعي باستمرار، ودون قصد، على تأويل سلوك البشر الآخرين. وكما يشير سيرل:
عندما ننخرط في أعمال إنسانية طوعية، نبدأ عادة على أساس المبررات، وهذه المبررات تعمل سببيا على تفسير سلوكنا، ولكن الشكل المنطقي لتفسير السلوك البشري في سياق المبررات يختلف جذريا عن الأشكال المعيارية للسببية. (سيرل 2004، 212)
بإدراك دور العقول الأخرى في العالم الاجتماعي فإنه يحين الوقت أيضا لتخطي فرويد. يتألف العالم الاجتماعي من الفاعل الرمزي الذي تمثل تفاعلاته موضوع دراسة التخصصات المتنوعة مثل الأنثروبولوجيا والاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع. وهي تشكل مجموعة التخصصات التي تسمى العلوم الاجتماعية. وعلى غرار العلوم الطبيعية تماما، فإنها تولد مشكلات فلسفية بارزة. (4) العلوم الاجتماعية بعيدا عن فرويد
أمور العقل هي أمور العالم، وهكذا فإن دراسة بنية العالم الغنية تمدنا بطريق ملحوظ بوضوح وممهد تجريبيا - إن لم يكن طريقا سهلا - للوصول لبلدان العقل الخفية. (توبي/كوزميدس، «الأسس النفسية للثقافة» (1995)، 72-73)
إن التوتر الذي يمر عبر عمل فرويد يميز تاريخ العلوم الاجتماعية؛ فعلى غرار التحليل الفرويدي، ظهرت العلوم الاجتماعية في مناخ العلموية في نهاية القرن التاسع عشر، وقد طرح هذا الموقف الإشكالي على الفور تحديا فلسفيا على متخصصي العلوم الاجتماعية. هل يجب أن تميل العلوم الاجتماعية - التي يتمثل موضوع دراستها في المجتمع - نحو العلوم الطبيعية أم العلوم الإنسانية؟ لا يزال هذا السؤال الفلسفي الذي لا مفر منه يحير العقول. ولكي نقدر الأبعاد الفلسفية للعلوم الاجتماعية، ونرى أوجه التشابه والاختلاف مع العلوم الطبيعية، من المهم أن نتجاوز التحليل النفسي ونلقي نظرة على آراء أخرى للحياة الاجتماعية. سنناقش جذور ومبادئ نموذجين معياريين في العلوم الاجتماعية، وهما نموذجان مفاهيميان وضعا تماشيا مع العلوم الطبيعية ومعارضين لها. وبعد هذه المناقشة سوف نوجه انتباهنا إلى بعض المشكلات الفلسفية النموذجية في العلوم الاجتماعية. (4-1) خلفية تاريخية لنموذجين معياريين للعلوم الاجتماعية
5
من الأمور الأساسية للعلم أن الآراء تكون مدفوعة بالأدلة. (إيرمان، «البايزية أو الإخفاق» (1996)، 201)
أصبحت العلوم الاجتماعية متحررة من الفكر الفلسفي قبيل نهاية القرن التاسع عشر؛ فكان المناخ الفكري في القرن التاسع عشر تهيمن عليه الفيزياء الكلاسيكية والداروينية وردود الفعل الفلسفية حيال التنوير. وتعكس النماذج الفلسفية للعلوم الاجتماعية - سماتها الأنطولوجية وأساليبها وأهدافها - هذه التيارات الفكرية. وبرز نموذجان متنافسان. (بين ثلاثينيات القرن العشرين وسبعينياته، ظهر نموذج ثالث هو النموذج النقدي، أو مدرسة فرانكفورت، الذي ربط بين المنهج الماركسي ومنهجية فيبر.) وسوف ندعو النموذجين المتنافسين «النموذج الطبيعي» و«النموذج التفسيري» على الترتيب. ويأتي كلاهما من أصول مختلفة. رأى النموذج الطبيعي - كان يطلق عليه في بعض الأحيان أيضا «النموذج التجريبي» - جذوره في الفيزياء الكلاسيكية، وقد رأى النموذج التفسيري - الذي كان يسمى أحيانا «النموذج التأويلي» - أصله في مجال التاريخ. وسنركز في هذا الجزء على جذورهما ومبادئهما الأساسية. (أ) النموذج الطبيعي
تكمن الجذور الفكرية للنموذج الطبيعي في فرنسا، في بداية القرن التاسع عشر (هايك 1955، الفصل الثاني). كانت فرنسا قد خاضت نسختها الخاصة من التنوير. وركز فلاسفة التنوير الفرنسيون على التجريب كمصدر لكل المعرفة، وتقسيم القوى السياسية، وأعربوا عن إعجابهم القوي بالفيزياء النيوتونية. فرضت الثورة الفرنسية انقلابا جذريا على الهيكل المؤسسي للمجتمع الفرنسي، وقدم اثنان من المفكرين الاجتماعيين في هذا المناخ أفكارهما بشأن نموذج فلسفي للعلوم الاجتماعية: هنري دي سان سيمون (1760-1825) وأوجست كونت (1798-1857).
ونجد في مخطط سان سيمون الخصائص الرئيسية لبرنامج طبيعي للعلوم الاجتماعية: «وحدة الأسلوب»: توحيد المعرفة العلمية والأساليب في إطار برنامج واحد. «المذهب الفيزيائي»: استخدام العلوم الفيزيائية وأدواتها كأدوات ملائمة للعلوم الطبيعية والاجتماعية. «وحدة المنهج»: منهج للطبيعة والمجتمع على أساس المنطق العلمي.
كان منهج سان سيمون جديدا: يجب أن تعامل مشكلة التنظيم الاجتماعي «تماما بالطريقة نفسها التي يعامل بها المرء الأسئلة العلمية الأخرى» (هايك 1955، 135). توقع سان سيمون بوضوح الموضوعات التي كانت ستهيمن على الفكر في العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر. وفي عام 1813 أشار سان سيمون بالفعل إلى أن جميع العلوم يجب أن تصبح «إيجابية». تحدث أوجست كونت لاحقا عن «الفلسفة الوضعية »، ووفقا لبرنامج الوضعية، كان ينبغي أن يصبح علم الاجتماع علما طبيعيا (هايك 1955، 138-142، 168-188؛ يوناس 1968، المجلد الثاني، 95-115). ويعني أن يصبح علم الاجتماع وضعيا أنه يجب أن يتعامل مع موضوعه كنظام من الحقائق الطبيعية. وعلى هذا النحو فإنه يجرد من النوايا والأغراض والقيم. كان أحد الموضوعات الرئيسية في هذه الحقبة هو البحث عن القوانين الطبيعية للسلوك البشري (جون ستيوارت ميل) أو التنمية المجتمعية (أوجست كونت، كارل ماركس، آدم سميث).
غير أن أوجست كونت يؤكد على أن الحقائق التي يشير إليها التفسير العلمي لا توجد إلا في ترتيب تاريخي معين. وفي إطار هذا الترتيب تشكل كحقائق. ويجب أن تضع الفلسفة الوضعية القوانين الأساسية للترتيبات ذات الصلة التي توجد فيها الحقائق. ومفتاح علم الاجتماع بالنسبة لكونت هو فلسفة التاريخ. وميز كونت بين جزءين من علم الاجتماع: الاجتماع الثابت والاجتماع المتغير، وهما معا يشكلان القانون الأساسي للنظام المجتمعي الذي يستند إليه التفسير الإيجابي (جدول
3-1 ).
ثمة علاقة بين الاجتماع الثابت والفيزياء الاجتماعية. يصبح علم الاجتماع علميا من خلال إظهار كيف أن النظام الاجتماعي الحالي يمثل نتيجة لتطور الحضارة. يرى كونت أنه «توجد قوانين واضحة تحكم تطور الجنس البشري مثل القوانين التي تحتم سقوط التفاحة» (كونت 1853، الفصل الأول؛ هايك 1955، 178، 138). وعلاوة على ذلك، فإن الطابع الأساسي في كل الفلسفة الوضعية هو اعتبار جميع الظواهر خاضعة ل «قوانين طبيعية ثابتة». ويجب أن تكون القوانين، بدورها، موحدة في أصغر عدد ممكن (هايك 1955، 171، 175)، ومع ذلك، لم يكن كونت يعتقد أن جميع العلوم يمكن أن توحد عن طريق اختزالها إلى الفيزياء، بل بدلا من ذلك، يوجد تسلسل هرمي وضعي بين العلوم. فظهور علم الاجتماع يفترض مسبقا تطور الرياضيات وعلم الفلك والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء بترتيب خطي. وهكذا، فإن علم الاجتماع يرتبط مع الأحياء على نحو أكبر من الفيزياء، كما قد يشير استخدام مصطلحي «الكائن الاجتماعي» و«التكافل العضوي» في جدول (
3-1 ). لا يتشارك كونت في رأي سان سيمون في المجتمع باعتباره آلة حقيقية على أساس صناعي. وفي شرحه للفلسفة الوضعية، يلجأ كونت على نحو متكرر للظواهر المرصودة. ويرفض البحث عن أسباب «نهائية» أو «رئيسية». فجميع العلوم تتعامل مع الحقائق المرصودة. وشكل هذا اللجوء بالنسبة لكونت تتويج علم الاجتماع كعلم وضعي. بيد أن هذا الرأي أصبح سببا للخلاف. هل يمكن التعامل مع موضوعات العلوم الاجتماعية كحقائق خارجية؟ هل الحقائق الاجتماعية متطابقة مع الحقائق الطبيعية؟ هل يمكن أن تكون الحقائق الاجتماعية مرتبطة بنفس طريقة ارتباط الحقائق المادية؟ هل تشرب العلوم الاجتماعية للعلوم المادية مناسب؟ يعتبر سايمون وكونت أنه من المسلم به أن هذه الأسئلة يمكن الإجابة عليها بالإيجاب، ومع ذلك، فإن هذه الأسئلة تخفي افتراضات، سرعان ما ستكون موضع شك. سعى النموذج التفسيري إلى جعل أساس العلوم الاجتماعية دراسة التاريخ، وليس فلسفة التاريخ. وغالبا ما أشار أنصار النموذج التفسيري في نهاية القرن التاسع عشر إلى العلوم الاجتماعية كعلوم أخلاقية أو دراسات بشرية أو علوم الروح. وتكشف هذه الدلائل البديلة رفض أنصار النموذج التفسيري معادلة الحقائق الاجتماعية مع الحقائق الطبيعية؛ ففي حين أن الحقائق الطبيعية خالية من المعنى والغرض والقيمة، فإن هذه الأشياء تمثل سمات جوهرية للحقائق الاجتماعية.
جدول 3-1: أوجست كونت: الاجتماع الثابت والفيزياء الاجتماعية.
الثبات الاجتماعي
التغير الاجتماعي أو الفيزياء الاجتماعية
مرحلة المجتمع
الحاضر
المواد الضرورية والتطور الفكري للبشرية
المبدأ الأساسي
التكافل العضوي
قانون المراحل الثلاثة
الوحدات الأساسية
الأفراد أو الأسرة أو المجتمع (كمجمل الأسر) أو الكائن الاجتماعي
المراحل: • «الدينية»: كل الظواهر تحكمها قوى خارقة للطبيعة. • «الميتافيزيقية»: الأشياء لها جوهر، والطبيعة تحكمها مبادئ غير قابلة للرصد. • «الإيجابية»: البحث عن القوانين الحقيقية للظواهر المرصودة.
الآلية الأساسية
تقسيم العمل
الخلافة أحادية الاتجاه للمراحل الثلاث
البنية الاجتماعية السياسية
الإذعان للسلطة الحكومية
من الوجود العسكري إلى الصناعي (ب) النموذج التفسيري
أعتقد أننا يجب أن نخلص إلى أن الفراغ التقنيني بين العقلية والمادية ضروري ما دمنا نتصور الإنسان حيوانا عقلانيا. (ديفيدسون 1970، 223)
لكي نتعرف على أصل النموذج التفسيري، علينا الانتقال من فرنسا إلى ألمانيا، حيث كان للتنوير تركيز مختلف. في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، كانت ألمانيا موطنا للمثالية . وفي منتصف القرن التاسع عشر، حدث نهوض للوعي التاريخي: فعارض ماركس المثالية الموضوعية الهيجيلية وانتقد نيتشه الإخلاص الأعمى للتقاليد. وشجع الوعي التاريخي على التفكير في دور اللغة والتاريخ في الشئون الإنسانية. وكان يتفق مع تقاليد التنوير الألمانية أن وضع الفلاسفة والمؤرخون الألمان تركيزا قويا على مسألة الأسلوب. يشير مصطلح «التفسير» في الأصل إلى فن الفهم، ولا سيما تأويل النصوص المقدسة والوثائق التاريخية، ولكن شرع المؤرخون الألمان أيضا في التفكير في طبيعة مجالهم. وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولادة «مذهب التاريخانية» في ألمانيا. أكدت التاريخانية على أهمية التطور التاريخي للأحداث، الذي كانت تراه فريدا من نوعه. اعتبرت الأحداث التاريخية والاجتماعية أحداثا خاصة، بسبب ارتباطها بالتقاليد الثقافية والسياقات القومية. وكانت الدراسات البشرية - كما كانت معروفة - منشغلة في ذلك الوقت بالمناقشات الفلسفية للطرق المناسبة لمجالها. وبالنسبة لفلسفة العلوم الاجتماعية، تبرز مساهمات رجلين؛ أولهما كان يوهان درويسن، الذي ربما كان أول من يميز بين مصطلحي التفسير والفهم (درويسن 1858؛ أبيل 1979، 15-16؛ جادامر 1975). عمل هذا التمييز على التفرقة بين العلوم الطبيعية - خاصة الفيزياء الرياضية التي كان يعد هدفها «التفسير» - والعلوم التاريخية التي كان يعد هدفها «الفهم». وفقا لدرويسن، يعد الفهم استدلالا من التعبيرات الخارجية على الأحداث الداخلية. اتبع فرويد، بطبيعة الحال، إجراء مماثلا؛ وهو أن البشر يعبرون عن أحداث عقلية بأقوال خارجية أو عامة بحيث إن كل «قول يعكس حدثا داخليا.» وتستخدم هذه الأقوال العامة وسيلة اللغة، تماما مثل الوثائق التاريخية. ويستدل عالم الاجتماع من التعبيرات العامة معناها المقصود. وتتضمن كل من الأقوال العامة والوثائق التاريخية أبعاد المعنى.
يوهان جوستاف درويسن (1808-1884).
ومع ذلك، يقع مؤول العبارات العامة في «دائرة تفسيرية»؛ إذ تفهم عبارة ما (أو «تشتق») من سياق كلي، ويستدل على معنى هذا السياق الكلي (أو «يستنتج») من هذه العبارة (أو عدد من هذه العبارات). وربما يشير «السياق الكلي» إلى ثقافة أو لغة أو حتى نموذج أو رؤية كونية. ومن ثم، يجب أن يفهم الرمز أو الإيماءة ضمن الثقافة المندمجة فيها، ويجب إعادة بناء «الثقافة » من تعبيرات مفردة عنها. ليست هذه الدائرة التفسيرية مجرد سمة غريبة لمنهج درويسن. إنها من السمات المهمة للظواهر العقلية، كما يقول ديفيدسون: «نحن نفهم معتقدات معينة فقط لأنها تتحد مع معتقدات أخرى، مع تفضيلات، مع نوايا وآمال ومخاوف وتوقعات وما إلى ذلك. (...) إن محتوى التوجه الافتراضي مستمد من مكانه في النمط» (ديفيدسون 1970، 221؛ راجع جادامر 1975، الجزء الثاني، الفصل الأول).
في معارضة مباشرة للوضعية، قدم درويسن ادعاء بالاستقلالية «المنهجية» للعلوم التاريخية؛ فالبحث التاريخي لا يسعى إلى التفسير؛ أي استنتاج الأحداث اللاحقة من أحداث سابقة بمساعدة القوانين «الضرورية». فلو أمكن اختزال البحوث التاريخية إلى التفسير، فإن الحياة التاريخية والاجتماعية ستكون من دون أبعاد أخلاقية، ومن دون حرية ومسئولية.
كان الرجل الثاني في فلسفة العلوم الاجتماعية هو فلهلم دلتاي. وهو الشخص الذي أثار نغمة نقاش التفسير-الفهم (دلتاي 1883؛ 1894؛ 1906). إن تفكير دلتاي في موضوع «الفهم» مهم لسببين: (1) تسعى فلسفة دلتاي لتبرير ادعاء الاستقلال للعلوم الاجتماعية. (2) تغير موقف دلتاي من وجهة نظر ذاتانية مبكرة إلى وجهة نظر موضوعية لاحقة بشأن مفهوم الفهم. ونتيجة لهذا التغير انتقل نموذجه للعلوم الاجتماعية من علم النفس الاستبطاني إلى التاريخ الموضوعي.
فلهلم دلتاي (1833-1911).
لنتناول أولا مبرر دلتاي لادعاء استقلال العلوم الاجتماعية. يرى دلتاي أن ثمة فارقا جوهريا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. ويمكن رؤية الفارق من خلال التفكير في العلاقات البنيوية التي يتمتع بها متخصصو العلوم الطبيعية والاجتماعية، على الترتيب، بموضوع دراستهم. وتقدم تفاصيل المصفوفة مبرر دلتاي لاستقلالية العلوم الاجتماعية (جدول
3-2 ).
جدول 3-2: مصفوفة دلتاي.
العلم
القائم بالدراسة
هدف الدراسة
العلاقة البنيوية
المنهج
العلوم الطبيعية
عالم الطبيعة
الكائنات الحية والجمادات
علاقة القائم بالدراسة-هدف الدراسة
التفسير
العلوم الاجتماعية
عالم الاجتماع
الشئون الإنسانية الرمزية
علاقة القائم بالدراسة-هدف الدراسة
الفهم
من ناحية، هناك علاقة القائم بالدراسة بهدف بالدراسة، التي تعتبر من سمات العلوم الطبيعية. يشكل عالم العلوم الطبيعية جزءا من مجموعة من الأشخاص الذين يتشاركون نموذجا فكريا مشتركا. وفقا لكون، يتكون النموذج الفكري من تعميمات رمزية، وحلول لمشكلات تمثيلية، ووجهات نظر معينة حيال الطبيعة والواقع، ونظام قيمي مرتبط بالعلم. وباستخدام النموذج الفكري، يدرس العالم العالم الطبيعي بمساعدة بعض الخرائط الرمزية من أجل وصف وتفسير العمليات الطبيعية. ويمكننا أن نفكر في جهد العالم كمحاولة ل «ملاءمة» الفكر الرمزي - الذي يعبر عنه في النظريات والنماذج والقوانين الرياضية - مع النظام الطبيعي. وكما نعلم من كبلر، فإن النظم الطبيعية تخضع لانتظام معين نسميه قوانين الطبيعة. يدرس العلماء هذا الانتظام ويعبرون عنه في صورة رمزية (على سبيل المثال، ). وهذه التعبيرات الرمزية هي قوانين العلم. ويدرس العلماء أيضا النظام السببي للطبيعة: لماذا تبقى النجوم مستقرة؟ ولماذا تتحرك الكواكب في مدارات؟ ولماذا يحدث تنوع الأنواع؟
وفقا لدلتاي، فإن ما يميز العلوم الطبيعية عن العلوم الاجتماعية ليس أنها «تغطي نطاقات حقائق مختلفة» (دلتاي 1906؛ 1883). يتناول علم الأحياء والكيمياء وعلم وظائف الأعضاء جوانب بشرية، مثل العلوم الإنسانية، ومع ذلك فهي علوم طبيعية. ليس الأمر أن العلوم الاجتماعية والطبيعية تتعامل مع أهداف دراسة متباينة تماما؛ بل إن طريقة ارتباط هذه التخصصات بأهداف الدراسة - حقائقها - هي التي تحدد الفرق.
ولا تنطوي دراسة العالم «المادي» إلا على جوانبه الخارجية، مثل دراسة انتظامه القانوني ونظامه السببي. ويسمي دلتاي هذه الجوانب «الواقع الخارجي» (دلتاي 1900، 247).
من ناحية أخرى، تنخرط الدراسات البشرية في علاقة قائم بالدراسة-قائم بالدراسة. فعالم الاجتماع يشكل أيضا جزءا من مجموعة من الأشخاص الذين يتشاركون نموذجا فكريا مشتركا، ولكن في العلوم الاجتماعية، تكون هذه النماذج أقل تجانسا بكثير وتفرض سيطرة أقل مما هي عليه في العلوم الطبيعية. يدرس عالم الاجتماع أيضا العالم الاجتماعي بمساعدة بعض الخرائط الرمزية (أنواع مثالية) من أجل وصف وفهم العمليات الاجتماعية. ويتأثر المنهج الذي يتبعه عالم العلوم الاجتماعية تأثرا شديدا بالموقف المنهجي المعتمد مسبقا. وتوضح هذه المواقف المنهجية في النماذج الطبيعية أو التفسيرية أو النقدية على الترتيب، ولكن في رأي دلتاي ترتبط العلوم الاجتماعية بالعالم الاجتماعي على نحو مختلف عن ارتباط العلوم الطبيعية بالعالم الطبيعي.
تتضمن دراسة «العالم البشري» جوانبه الداخلية؛ دراسة معناه الرمزي ونظامه الهادف. ويقصد دلتاي بالنظام الهادف «الواقع العقلي الداخلي » للبشر، الطبيعة المتعمدة للأفعال البشرية. حدد فرويد مكان كثير من النظام الهادف للسلوك البشري في اللاوعي الخفي. والهدف من الدراسات البشرية أو العلوم الاجتماعية يكمن في «فهم» الظواهر الاجتماعية. وتشمل هذه العملية فئات مختلفة تماما، منها المعنى والغرض والقيمة والتطور والمثل العليا (دلتاي 1906، 172، 235-236). يرى دلتاي الفهم «تقنية» جديدة ومهمة في العلوم الاجتماعية. أولا: ثمة سبب لاعتماد الدراسات البشرية على الفهم؛ ففي الفهم فقط يمكن استيعاب العلاقة بين الحياة الداخلية وتعبيراتها الخارجية؛ لأن الأفعال البشرية تتأثر - أو كما يقول فرويد «تتحدد» - من خلال بنية الحياة العقلية. ووفقا لدلتاي، فإن البنية العقلية هي ما يشكل الموضوع المنطقي للعلوم الاجتماعية. ويستخلص عالم الاجتماع «بنية الخبرات هذه من نمط حياة الإنسان» (دلتاي 1906). وبسبب كون الواقع الداخلي وراء التعبيرات الخارجية للحياة فإن العلوم الاجتماعية تنخرط في علاقة في قائم بالدراسة-قائم بالدراسة؛ فالمعنى الرمزي يقابل معنى رمزيا.
يتعامل متخصصو العلوم الطبيعية والاجتماعية على حد سواء مع النظام. ويحاول كلاهما ترتيب البيانات الرصدية في مخطط مفاهيمي (نموذج أو نظرية) (دلتاي 1906، 173-175). يظهر الفرق بينهما في هدف الدراسة (جدول
3-3 ).
يشكل إصرار دلتاي على عالم اجتماعي «عقلاني البنية» فارقا مهما بين العلوم الطبيعية والاجتماعية (دلتاي 1906، 191-195). واللجوء إلى عالم اجتماعي عقلاني البنية مهم لأهدافنا؛ ففي توصيف العالم الاجتماعي باعتباره عالما عقلي البنية، يكشف دلتاي عن تحول مهم من وجهة نظر ذاتانية إلى وجهة نظر أكثر موضوعية بشأن فكرة الفهم.
ادعى درويسن أن دراسة العالم البشري تنطوي على استنتاج الأحداث الداخلية من التعبيرات الخارجية . وهو يشير إلى «الجوانب الداخلية» من حياتنا العقلية، كما قال دلتاي. إذا كان ينبغي على العلوم الاجتماعية الاستدلال على البنية المتعمدة للفعل البشري، فإن فكرة الفهم تأخذ دلالة نفسانية (انظر أبيل 1948). أكد دلتاي في أعماله الأولى أن الدراسات البشرية وجدت مرسى ثابتا فقط في الخبرة الداخلية، في حقائق الوعي (دلتاي 1883، 161). واستند فهم الفاعلين الاجتماعيين الآخرين إلى الخبرة المكتسبة وفهم الذات (دلتاي 1927، 123)، ومع ذلك، خفف دلتاي في أعماله اللاحقة تركيزه على استبطان معرفة الذات كنموذج للدراسات البشرية (دلتاي 1906، 176). وبدلا من ذلك، يجب أن يفهم البشر من خلال ما هو مشترك بينهم وبفضل ترابطهم (دلتاي 1894، 131). يتخذ السياق المشترك، الذي يوجد فيه البشر، أشكالا موضوعية، وذلك بسبب استخدام اللغة الرمزية وإنشاء المؤسسات الاجتماعية. وتشمل الأشكال الموضوعية، التي يطلق عليها دلتاي «الروح الموضوعية» (دلتاي 1927، 126)، أنماط الحياة، وأشكال التفاعلات الاقتصادية، والإظهار العام للأخلاق، ووجود القانون، والدولة، والدين، والفن، والعلوم، والفلسفة. بعض هذه الأشكال أكثر موضوعية من غيرها؛ ربما يكون من الصعب تحديد طريقة الحياة الفرنسية ولكن يمكن ترتيب أشكال التفاعلات الاقتصادية على طول سلسلة متصلة من الأسواق الحرة إلى الاقتصادات الموجهة. وكثيرا ما تكتب اللوائح الأخلاقية والقانونية في صورة عامة دستورية، وتعمل الدولة والأديان والفنون والعلوم والفلسفة في أطر مؤسسية واضحة. ويحافظ على أشكال الحياة الجماعية هذه وتعدل في الوقت الحاضر ولكن جذورها تعود إلى الماضي ووجودها يمتد إلى المستقبل. يجب الإشارة إلى إن دلتاي لم يحرر نفسه تماما من وجهة النظر القائلة بأن «الفهم يعتمد على علاقة تعبيرات الحياة بالمعنى الداخلي، الذي يأتي معبرا عنه فيها» (دلتاي 1927، 137)، ولكنه لم يغرق في النزعة النفسانية. ويؤكد دلتاي أن العالم عقلي البنية هو نظام من التفاعلات يخلق قيما ويحقق أهدافا. وفي هذا الصدد، فإن العالم الاجتماعي ليس نظام طبيعة سببيا. إن كل حقيقة اجتماعية مصطنعة عن طريق البشر؛ فلها بعد تاريخي (دلتاي 1906، 192؛ راجع جادامر 1975). تكشف عملية الفهم «إضفاء طابع الشيئية» على الحياة؛ أي الجوانب الخارجية وليس الداخلية. ويمكن أن تصبح النوايا البشرية - «الجوانب الداخلية» للوجود البشري - خارجية . ويتضح إضفاء السمات الخارجية في العديد من أنواع النظم البنيوية؛ فالنظم الثقافية والاقتصادية والسياسية متضمنة في أطر مؤسسية واضحة.
جدول 3-3: الفرق بين العلوم الطبيعية والاجتماعية وفقا لدلتاي.
العلوم الطبيعية
العلوم الاجتماعية •
تتعامل مع عالم محدد مسبقا من النظم المادية المترابطة. •
تتعامل مع عالم عقلي البنية من النظم الاجتماعية المترابطة. •
تتعامل مع نظام سببي. •
تتعامل مع نظام هادف. •
تحدث التغيرات المادية نتيجة لقوى عمياء، وتوصف بقوانين العلم. •
تحدث التغييرات الاجتماعية نتيجة للتدخلات الإنسانية الواعية ولكنها لا تستند إلى قوانين.
توقع موقف دلتاي في العلوم الاجتماعية العديد من الموضوعات الرئيسية في فلسفة العلوم الاجتماعية في القرن العشرين. يؤكد العديد من الفلاسفة على استقلالية العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية بحكم طبيعة الوجود البشري القائمة على السبب (هوليس 1994، 160؛ ديفيدسون 1970، 223؛ سيرل 2004، 212)، ولكن بدأ علماء وفلاسفة الاجتماع التشكيك في رأي دلتاي بأن الفهم هو «التقنية» التي تحدد إجراءات العلوم الاجتماعية. وبدلا من ذلك، وصفوا الفهم ك «أسلوب» للوجود الاجتماعي (هابرماس، جادامر، جيدنز). ما العواقب المترتبة على ذلك بالنسبة للوضع المنهجي للعلوم الاجتماعية؟ ثانيا: كان عجز دلتاي عن إزالة الصفات النفسية لفكرته بشأن الفهم يرى أنه يؤدي إلى التهديد بظهور مذهب النسبوية في العلوم الاجتماعية (أبيل 1979، 36). هل مذهب النسبوية مشكلة لا يمكن التغلب عليها في العلوم الاجتماعية؟ وثالثا: طرح سؤال بشأن مدى كون تقسيم دلتاي للتفسير والفهم توصيفا مناسبا لأوجه التشابه والاختلاف بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. وفي ضوء هذه المناقشة يمكننا أن نرى أن فرويد لم يستطع تجنب محاولة الموازنة بين نموذج تجريبي ونموذج تفسيري. وبالنظر إلى الجذور التاريخية للعلوم الاجتماعية (في فرنسا وألمانيا، على الترتيب) لم يكن من الممكن تجنب محاولة الموازنة؛ فهي تكمن في منطق الموقف الإشكالي الذي توجد فيه العلوم الاجتماعية. وثمة عدد من الأسئلة «الكلاسيكية» نشأ عن هذا الموقف: (1)
هل يمكن القضاء على التوتر بين التفسير والفهم؟ (2)
هل يتعين على العلوم الاجتماعية أن تعتنق النسبوية أم أنها يمكن أن تتبنى الواقعية؟ (3)
هل يمكن أن تكون العلوم الاجتماعية نشاطا خاليا من القيمة؟ (4)
من أي وجهة نظر يجب أن تفسر العلاقات الاجتماعية (الفردية أم الشمولية)؟
إننا نتناول هذه الأسئلة من خلال دراسة السمات الأساسية للإصدارات الحديثة من النماذج الطبيعية والنماذج التفسيرية، على الترتيب. وبمجرد أن ننتهي من مناقشة هذه السمات الأساسية، تظهر أسئلة منهجية أخرى كعواقب للموقف الإشكالي للعلوم الاجتماعية: (5)
مسألة استقلالية العلوم الاجتماعية في ضوء دور العقل في العالم الاجتماعي. (6)
دور التنبؤات والتفسيرات في العلوم الاجتماعية. (7)
دور النماذج في العلوم الاجتماعية. (8)
مسألة وجود قوانين في العلوم الاجتماعية. (9)
مسألة نقص إثبات نماذج العلوم الاجتماعية بالأدلة فيما يتعلق بالأدلة التجريبية. (10)
وجود علاقات سببية في العلوم الاجتماعية. (4-2) السمات الأساسية لنماذج العلوم الاجتماعية
تلقت النظرة التفسيرية للتحليل النفسي دعما فلسفيا عن طريق التمييز بين الأسباب والعلل. (ستيفنسون/هابرمان، «عشر نظريات» (2004)، 170)
ظهرت النماذج الطبيعية والنماذج التفسيرية في مناخ العلموية، وهي ردود فعل لنجاح العلوم الطبيعية، لا سيما الفيزياء الكلاسيكية، وعلم الأحياء التطوري بدرجة أقل. ويشهد تذبذب موقف فرويد بين التفسير والفهم على هذه المشكلة. ويقع عالم الاجتماع الحديث في نفس موقف فرويد؛ فالالتزام الفلسفي بنموذج للعلوم الاجتماعية أمر لا مفر منه (روزنبرج 1995)، وهذا الالتزام يكمن في منطق العلوم الاجتماعية. إن موضوعها الرئيسي على نحو عام هو المجتمع، وبذا فإن مسألة كيفية التعامل مع هذه المسألة الكائنة تظهر على الفور. وكما رأينا، فإن السؤال سبب انقساما بين علماء الاجتماع من البداية. بالنسبة للنموذج الطبيعي، كان النهج الصحيح هو اتباع مسار العلوم الطبيعية واعتماد أساليب العلوم الطبيعية، مع إدخال تعديلات عليها. وبالنسبة للنموذج التفسيري، فإن أساليب العلوم الطبيعية لا تتفق مع الموضوع الرئيسي للعلوم الاجتماعية. تتطلب العلوم الاجتماعية أسلوبا مميزا، وصفه أنصار هذا النموذج بأنه «الفهم». وتلت جميع المشكلات الفلسفية للعلوم الاجتماعية على الفور هذا الاختيار الأساسي للاتجاه. وكما سنرى، حاول ماكس فيبر والكتاب اللاحقون مثل بوبر اتخاذ موقف وسط، وهو ما أدى إلى صورة ضعيفة من مذهب الطبيعانية. فمنهجيتهم الأساسية هي منهجية الأنماط المثالية. (أ) السمات الأساسية للنموذج الطبيعي
السمة الحاسمة «الأولى» للنموذج الطبيعي أو التجريبي هي الالتزام ب «وحدة الأسلوب». ونعني بهذا الاعتقاد أن أساليب العلوم الطبيعية والاجتماعية متشابهة. ويعني هذا التشابه ضمنا أن التعديلات المناسبة يمكن أن تحول أساليب العلوم الطبيعية إلى أساليب مناسبة للعلوم الاجتماعية؛ ومن ثم يشترط دوركايم، كقاعدة أولى وأساسية لعلم الاجتماع، اعتبار الظواهر الاجتماعية كأشياء، أي أشياء خارجية (دوركايم 1895، الفصل الثاني، 1). بالنسبة لدوركايم لا توجد حاجة لوضع الحالات المتعمدة للأفراد الفاعلين - دوافعهم وأسبابهم - في الاعتبار. يجب أن يكون تحليل المجتمع موضوعيا، ويجب استخدام مفاهيم موضوعية يمكن تحديدها كميا، كما يجب على عالم الاجتماع أن يسعى جاهدا لوصف المظاهر العامة للحياة الاجتماعية وليس المظاهر الفردية. وتشكل البنيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلا عن المؤسسات القانونية والدينية، أهدافا للأبحاث الاجتماعية. ويعد الالتزام بوحدة الأسلوب سمة مشتركة للعديد من مؤيدي النموذج التجريبي. ويؤكد بوبر أنه ربما توجد اختلافات في الدرجة بين العلوم الاجتماعية والطبيعية ولكن لا توجد اختلافات في النوع (بوبر 1957). ويتبنى كلاهما أسلوب الفرضية الاستنتاجية المستوحى من النموذج الاستدلالي الطبيعي أو النموذج الاستقرائي الإحصائي للتفسير.
لا يمكننا أن نفترض، كما فعل الآباء المؤسسون للنموذج التجريبي، أن العلوم الاجتماعية تمتلك تعميمات متاحة تشبه القوانين. غالبا ما تعمل العلوم الاجتماعية بتعميمات إحصائية؛ فعلى سبيل المثال، يمكن للاقتصاديين أن يحددوا النسبة المئوية للأسر في بلد معين تحصل على راتب متوسط وأن يحددوا متوسط الراتب. غالبا ما تكون هذه التعميمات محلية الطابع وتعج باستثناءات. تأمل - على سبيل المثال - تفسيرا طبيا تكون فيه الاحتمالية
p ، للتعافي
R ، للمرضى
S ، الذين يتعاطون البنسلين
كعلاج، مرتفعة للغاية
p(R, S.P) > 0.8 . تخيل فترتين زمنيتين:
T
1
وهي لحظة في
عام 1950 و
T
2
وهي لحظة في عام 2000. من المعروف أن احتمالية التعافي بالعلاج بالبنسلين انخفضت من
T
1
إلى
T
2 . يعزى هذا الانخفاض إلى تطور البكتيريا المقاومة للبنسلين. بينما في الفترة الزمنية الأولى توجد بالفعل علاقة احتمالية كبيرة بين
و
S
و
R ، فإن هذه الاحتمالية ربما تكون قد انخفضت بنسبة تصل إلى 50 بالمائة. توجد حالات مماثلة في العلوم الاجتماعية. غير أنها عبارات من نوع عام، مثل الدورات الاقتصادية، ومنحنيات إجمالي العرض والطلب، ونزعات الانتقال لدى السكان، وتصنيف الأسر وفقا للمعايير الاجتماعية والاقتصادية. وعلى أساس هذه التعميمات، يقدم علماء الاجتماع تنبؤات نموذجية. وهذه التنبؤات هي:
تنبؤات ببعض السمات العامة للبنيات التي ستشكل نفسها ولكنها لا تحتوي على عبارات محددة عن العناصر الفردية التي ستشكل هذه البنيات. (هايك، مقتبس في بارو/تبلر 1986، 140؛ راجع وودوارد 2003، الفصل 6.4)
ولكن يجب ترسيخ حالة هذه الأنماط: هل تشبه القوانين في العلوم الطبيعية؟
تتمثل السمة الحاسمة «الثانية» للنموذج التجريبي في إصراره على «التحليل السببي». أصر دوركايم - مؤسس علم الاجتماع الحديث - بالفعل على الحاجة إلى تحليل سببي. ويؤكد مؤيدو النموذج التجريبي على أن العلوم الاجتماعية يجب أن تكون قادرة على تقديم تفسيرات سببية للظواهر الاجتماعية تماما مثلما تقدم العلوم الطبيعية التفسيرات. تعامل فرويد بالتأكيد مع الأحلام وزلات اللسان والأعراض العصبية كآثار للظروف السببية الماضية في حياة الفرد. وبالمثل، يسعى علماء الاجتماع إلى شرح وجود تقسيم العمل في العديد من المجتمعات وأشكال التقسيم الطبقي الاجتماعي. يبني الاقتصاديون نماذج لتفسير سلوك المستهلكين وأنواع مجتمعات السوق، والغرض من هذه البنيات هو الإجابة على الأسئلة التي تبحث عن السبب. ويمكن للتحليل السببي في العلوم الاجتماعية أن يغطي ظواهر متنوعة للغاية. على سبيل المثال:
في عام 1999، توقعت وزارة الداخلية في بريطانيا أن عدد جرائم السطو والسرقات سيزداد بمقدار الثلث تقريبا في فترة قصيرة من سنتين إلى ثلاث سنوات. وسيكون الارتفاع المتوقع في الجريمة نتيجة لارتفاع عدد الشباب الذكور في بريطانيا. لدينا في هذه الحالة تحليل سببي وتنبؤ في عبارة واحدة. يعود السبب في زيادة عدد عمليات السطو والسرقات إلى زيادة عدد الشباب وتزايد كمية السلع القابلة للسرقة. وهذه العبارة الأخيرة هي الظروف السببية التي يقال إنها تؤدي إلى التأثير، إذا لم تتداخل أي ظروف أخرى.
ناقشنا في فصل سابق نماذج التفسير السببية، ولكن ما نموذج السببية الأكثر ملاءمة للعلوم الاجتماعية؟ يظهر التفكير للحظة أننا لا يمكن أن نفسر الأحداث الاجتماعية سببيا باستخدام نموذج السببية الميكانيكية للأحداث المادية. يسعى هذا النموذج إلى تتبع الظروف الفيزيائية التي تؤدي من الظروف السببية السابقة إلى التأثيرات الميكانيكية اللاحقة. ربما يفسر نموذج السببية الميكانيكية سبب دوران كوكب ما حول الشمس، ولكن لا يستطيع أن يفسر سبب وقوع الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك، فإن المثال السابق يوضح أن علماء الاجتماع يبحثون عن تفسيرات سببية للأحداث الاجتماعية. وتعد مسألة صياغة نموذج فلسفي سببي مناسب يمكن من خلاله التعبير عن هذه النتائج مسألة منفصلة.
قبل أن نتناول مثل هذه الأسئلة حول كون القوانين «الاجتماعية» موجودة أم لا أو كيف تحدث السببية في العالم الاجتماعي، يطرح سؤال آخر نفسه . فهل تنبع التغييرات التي نرصدها، نتيجة للتطورات التاريخية أو الاجتماعية الطويلة الأجل أو القصيرة الأجل، على المستوى الفردي أم الجماعي؟ توجهنا هذه السمة «الثالثة» إلى التمييز بين النزعة «الفردية» و«الشمولية». تبنى العديد من الباحثين موقف الفردية. وتتمثل الفرضية في وجود انتظام (سببي) كامن وراء الظواهر الاجتماعية، التي تعكس الحقائق بشأن الأفراد. تعبر هذه الحقائق بشأن الأفراد عن نواياهم وأسبابهم ودوافعهم. ويفترض بعض الباحثين، مثل جيه إس ميل وفرويد، أن «القوانين» النفسية موجودة على مستوى الأفراد، ولكن مناقشة أعمال فرويد جعلتنا نشك في مثل هذا الافتراض (انظر ديفيدسون 1970؛ ليتل 1991، 18). وتعد الفردية بالتالي نهجا تصاعديا. ويقال إن أي آثار اجتماعية واسعة النطاق يمكن أن تقتصر على الحقائق المتعلقة بأفراد المجتمع. وعلى المستوى الفردي، ربما تكون الآليات النفسية نافذة، مثل تجنب التنافر المعرفي أو رغبة الفرد في تحسين ظروفه الاجتماعية.
لم يعتقد دوركايم أن من شأن تفسير سببي فردي أن يكفي، واتخذ توجها شموليا. فرفض دوركايم فكرة أن جميع التغيرات الاجتماعية الكلية يمكن اختزالها إلى عوامل فردية، وأشار إلى أن النشاط الاقتصادي للمجتمع لا يمكن أن يقصر على رغبة الأفراد في اكتساب الثروة (دوركايم 1895، الفصل الخامس). لا يمكن تفسير الحقائق الاجتماعية بالرجوع إلى حقائق فردية أو حتى مجموعة من الحقائق الفردية. إذا لم يكن ممكنا تفسير الظواهر الاجتماعية واسعة النطاق «من أسفل إلى أعلى»، فإن الفردية لا يمكن أن تفسر الظواهر الاجتماعية. وفضل دوركايم نهجا من أعلى إلى أسفل. وأشار إلى أن الظواهر الاجتماعية تفرض ضغوطا على الأفراد؛ ومن ثم لا بد أن يكون لها طبيعة خاصة بها. ويجب التماس تفسير الحقائق الاجتماعية في طبيعة المجتمع؛ فالمجتمع يتجاوز الفرد في المكان والزمن، والكل أكبر من مجموع أجزائه. على سبيل المثال:
زعم وجود علاقة سببية بين انخفاض معدل الجريمة وتقنين الإجهاض (ساينتيفيك أمريكان، ديسمبر 1999). اقترح اثنان من الاقتصاديين الأمريكيين الفرضية السببية القائلة بأن الانخفاض السنوي في معدلات الجريمة، الذي لوحظ في جميع أنحاء الولايات المتحدة منذ أوائل التسعينيات، يرتبط سببيا بتقنين الإجهاض في عام 1973. أدى التقنين إلى خفض عدد الأطفال غير المرغوب فيهم، ووفقا للاقتصاديين، فإن الأطفال غير المرغوب فيهم أكثر عرضة لارتكاب الجرائم.
لجأ فرويد إلى تفسيرات مماثلة لفهم سلوك الجماعة. وبما أن الجماعة تمارس تأثيرا على سلوك الأفراد، فإن سلوك الجماعة يختلف نوعيا عن السلوك الفردي. ويرى فرويد أن الأفراد في الجماعة يظهرون «افتقادا للمبادرة وضعفا في القدرات الفكرية وافتقادا لضبط النفس العاطفي والتأخير والميل إلى تجاوز كل حد في التعبير عن العواطف.» و«الإنسان ليس حيوانا يعيش في قطيع، ولكنه يعيش في جماعات»؛ أي إن الأفراد يقودهم رئيس (فرويد 1921، 117، 121). ولا يزال يتعين مناقشة هل كان يجب أن تعامل الشمولية المجتمع والمؤسسات الاجتماعية ككيانات منفصلة أم لا (القسم 4-4، و). (ب) السمات الأساسية للنموذج التفسيري
في الحقيقة، ليس من الممكن تقديم وصف يتمتع بصلاحية عامة. فنجد أشد ردود الفعل اختلافا لدى الأفراد المختلفين، ويمتلك الفرد نفسه توجهات ذهنية معاكسة جنبا إلى جنب. (فرويد 1931، 233)
يقف النموذج التفسيري (أو التأويلي) - كما لاحظنا من قبل - في موقف معارض للنموذج التجريبي في العديد من الأمور المحددة، ويمكن أن تستمد هذه المعارضة - جزئيا على الأقل - من المعارضة العامة لوحدة الأسلوب. يرى مؤيدو النموذج التفسيري أن من الخطأ تحليل المجتمعات البشرية والعلاقات الإنسانية في سياق القوانين العامة والعلاقات السببية. وهذا أمر خاطئ لأن المفاهيم التي نفسر في سياقها الأحداث الاجتماعية لا تتفق منطقيا مع المفاهيم التي نفسر في سياقها الأحداث الطبيعية (وينش 1958، 95)، وقد أشار فلهلم دلتاي - أحد الآباء المؤسسين لهذا النهج - إلى أن الحياة البشرية لا يمكن فهمها إلا في فئات لا فائدة منها في معرفة العالم المادي. يجب فهم السلوك البشري في سياق فئات ذات معنى؛ أي «الغرض» و«القيمة» و«النمو» و«المثالية» (دلتاي مقتبسة في هوليس 1994، 17).
يمكننا استخلاص عدة نقاط من هذا الموقف العام، وهي تتعارض مع تلك التي قدمت لصالح النموذج الطبيعي: (1)
يجب ألا تعتبر الظواهر الاجتماعية بمنزلة أشياء خارجية، كما رأى دوركايم. فالعلاقات الاجتماعية علاقات داخلية، ويبني الفاعلون الاجتماعيون صورا ذهنية لسلوكهم في سياق المفاهيم الهادفة. ويجب على عالم الاجتماع تضمين هذه المفاهيم في وصفه للحياة الاجتماعية. ويعد مفهوم الفهم ضروريا في هذا الوصف. إذا لم تفهم معنى الفعل الاجتماعي، فإنك لن تفهم الحياة الاجتماعية. وينبغي تحليل الظواهر الاجتماعية في سياق النوايا والأسباب والقواعد الاجتماعية والمعايير والأعراف (وينش 1958، 42). وتمثل المفاهيم الرمزية التي يصف علماء الاجتماع الظواهر الاجتماعية من خلالها جزءا من العمل الاجتماعي نفسه، كما يعد مفهوم فعل اجتماعي معين، مثل التحية المتعمدة - وأيضا شبكة المفاهيم التي تحيط بمفهوم السلوك المدني - جزءا داخليا من الفعل الاجتماعي للأفراد، الذي يصف علماء الاجتماع وجوده بأنه «مدني». ومن ثم فلا بد من وجود تداخل بين مفردات عالم الاجتماع والفاعل الاجتماعي. يجب أن يكون عالم الاجتماع راصدا مشاركا؛ فالفاعل الاجتماعي يتصور فعليا الفعل الاجتماعي، بصرف النظر عن وجود أو عدم وجود عالم الاجتماع، ويجب على علماء الاجتماع التعرف على هذا التصور. (2)
في هذا الصدد، يؤكد مؤيدو النموذج التفسيري على مزيد من التمييز بين علاقات مثل السبب والنتيجة، وهي «خارجية»، من ناحية، وعلاقات مثل الدافع والفعل، وهي «داخلية»، من ناحية أخرى. ويقال إن الأحداث الطبيعية تحكمها علاقات السبب والنتيجة، في حين يقال إن السلوك البشري يحكمه علاقات الدافع والفعل. وتتمثل الفرضية في أن ما يحفز السلوك البشري هو الدوافع، وليس أسبابا ميكانيكية (ريان 1970، 117-122). إن العلاقة بين السبب والنتيجة في الأحداث الطبيعية تختلف تماما عن العلاقة بين الدافع والفعل. يساعد هذا التمييز مرة أخرى في التأكيد على الفرق بين النهج الطبيعي والنهج التفسيري. ووفقا للطبيعانية، فإن الرابط بين الدوافع (الرغبات والمعتقدات) والفعل رابط «سببي». ووفقا للتفسيرية، فإن الرابط بين العمل والدافع رابط «منطقي».
يربط الرابط المنطقي بين الدوافع والأفعال. وتعمل الدوافع على تفسير سبب حدوث الفعل: «رفعت ذراعها لأنها ترغب في تحية شخص ما.» «تحدث بوقاحة لأنه كان ينوي إهانة شخص ما.» إن تقديم الدافع يمثل إعادة وصف للفعل. يبدو أن الدافع والفعل ليسا مستقلين منطقيا أحدهما عن الآخر، كما يجب أن يكونا إذا كانا سببا ونتيجة، ولكن على الرغم من أنه قد يكون صحيحا أنه لا يمكن فصل الفعل عن محتواه المقصود؛ فعندما نعيد وصفه، لا يعني هذا أن الدوافع لا يمكن أن تلعب دورا سببيا في حدوث الفعل. يتسبب الدافع في قيام العنصر بالفعل. غالبا ما يكون في الدوافع عنصر سببي (روزنبرج 1995، الفصل الثاني؛ ديفيدسون 1963؛ ماكي 1980، 120-121، 287-296؛ ليفيسون 1974، الفصلان الرابع والخامس).
إن مؤيدي النموذج التفسيري محقون بشأن وجود اختلافات بين الدوافع والأسباب، ولكن لا ينبغي لنا أن نستنتج من هذه الاختلافات أن السلوك البشري لا يمكن تفسيره سببيا. تذكر أمثلة التفسيرات السببية المذكورة في الجزء الخاص بمناقشة النموذج التجريبي (العلاقة بين الارتفاع المتوقع في معدلات الجريمة والزيادة في عدد الذكور الشباب أو انخفاض معدل الجريمة وتقنين الإجهاض، على الترتيب). تضع التفسيرات السببية فرضيات بشأن العلاقات الاحتمالية، وليس العلاقات الحتمية، مشيرة إلى المجموعات الاجتماعية وليس العناصر الاجتماعية الفردية، ولكن يبدو أن لدينا مجموعة من الشروط الكافية، التي ربما تكون غير كاملة، وتعد مرشحة كشروط سببية سابقة تجلب نتائج مترتبة قابلة للرصد (انخفاضات أو ارتفاعات في معدلات الجريمة)، في ظل ثبات الافتراضات الأخرى. تشير الأمثلة إلى أنه من الممكن تماما في العلوم الاجتماعية أن تشير إلى شروط كافية، تميل إلى زيادة احتمالية النتيجة.
لدينا في الأفعال المتعمدة العادية شرطان ضروريان: (1) يجب أن توجد علاقة منطقية بين الدافع والفعل. فنية القيام بالفعل «س» والقيام بالفعل «س» يرتبطان منطقيا، ونصوغ هذه العلاقة في إعادة وصفنا للفعل، ولكن عزونا النية إلى العنصر يمكن أن يكون خاطئا . (2) يجب أن يكون الدافع قد لعب دورا سببيا في حدوث الفعل. وربما لا يكون هذا العنصر السببي في الدافع مطابقا للدافع المعلن من قبل العنصر الاجتماعي. في حالة حدوث الفعل، ثمة عنصر سببي في تفسير الدافع. وعلاوة على ذلك: (3) يمكن أن تكون لدينا نية للقيام بالفعل «س» ولا نفعله. «الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.» (4) يقوم الأفراد والجماعات الاجتماعية في كثير من الأحيان بالأفعال لأنهم ببساطة يتبعون المعايير والقواعد الاجتماعية (برايبروك 1987، الفصل 3؛ سالمون 2003). وهي توجد على نحو مستقل عن الفاعل الاجتماعي الفردي.
يخطئ نموذج دوركايم التجريبي الصارم في إهمال عنصر المعنى في التفسيرات السببية. ويخطئ النموذج التفسيري النقي أيضا في إهمال العنصر السببي في تفسيرات الدوافع. ثمة حاجة إلى نموذج للعلوم الاجتماعية مدروس على نحو أكبر، يكون قادرا على الجمع بين معنى العلاقات وإسناد الأسباب. سوف نقابل هذا النموذج التوفيقي في منهجية فيبر للأنواع المثالية.
ثمة بعض الاختلافات الملحوظة الأخرى بين المناهج الطبيعانية والتفسيرية. (3)
ينكر المنهج التفسيري وجود ظواهر اجتماعية عالمية أو مشتركة بين الثقافات، وهو يقر فقط بالتفاوت الثقافي للنظم الرمزية (ليتل 1991، الفصل الرابع). فبدلا من البحث عن وجود قوانين اجتماعية، أو انتظام اجتماعي، يصر هذا المنهج على أهمية القواعد المحلية. كثيرا ما يفسر السلوك الفردي بالرجوع إلى نوايا معينة، ولكن السلوك الاجتماعي يفسر بالرجوع إلى القواعد والمعايير والأعراف الاجتماعية، التي تخص كل مجتمع بمفرده؛ فعلى سبيل المثال، ربما يكون الفعل الاجتماعي حالة من اتباع القواعد (برايبروك 1987؛ ليتل 1991). تخلق هذه المعارضة تباينا بين الشمولية الكامنة في النموذج الطبيعي وخصوصية النموذج التفسيري. (4)
على الرغم من أننا أصبحنا الآن متفقين تماما بشأن جانب الفهم، فإنه لا يزال من الممكن التساؤل هل كان ينبغي أن يستند التحليل إلى المستوى الشمولي أم الفردي. والسؤال المطروح هو هل كان فهمنا للظواهر الاجتماعية ينبغي أن يرتكز على الأفعال الفردية أم المؤسسات الاجتماعية. يميز فيبر بين الفعل الهادف والفعل الاجتماعي، ويعتبر الفعل الاجتماعي مجموع الأعمال الهادفة للأفراد.
6
ومن الممكن أيضا اتباع النهج الشمولي ووصف السلوك الهادف بأنه اجتماعي بطبيعته. ولا يمكن أن يكون هادفا إلا إذا كان محكوما بقواعد، وتفترض القواعد وجود بيئة اجتماعية (وينش 1958، 116). وهكذا فإن التقسيم نفسه بين «الفردية» و«الشمولية» موجود كما هو موجود في المنهج التجريبي.
بالنظر إلى الاختلافات بين النموذج الطبيعي والنموذج التفسيري، فإننا نرى إلى أي مدى وازن فرويد بين هذين الموقفين؛ فمن ناحية، أظهر فرويد ميولا للطبيعانية؛ فالحقائق النفسية حقائق خارجية، تخضع لقوانين اللاوعي الديناميكي، ولكن هذا النهج لم ينجح لأن فرويد قام باستنتاجات خاطئة ولم يستطع الاعتماد على مجموعة من البيانات الخام الموضوعية؛ ومن ناحية أخرى، كان ينبغي على فرويد اللجوء إلى تقنيات التفسير. كانت نظرية فرويد للمعنى الخفي محاولة لتفسير السلوك الفردي - الأعراض العصبية والزلات الفرويدية ورموز الأحلام - في سياق الدوافع الجنسية الكامنة. ومن ثم يعكس العصاب القمع غير الصحي للهو من قبل الأنا. يجب أن تكشف الرغبات الجنسية للشخص في تحليل المعنى من أجل تفسير سلوكه الحالي. ووسع فرويد هذا النهج لتفسير وجود العديد من المؤسسات الاجتماعية والأشكال الثقافية. وفسر فرويد وجود المنتجات الثقافية - إضفاء طابع الشيئية لدلتاي - كنتيجة لفعل التسامي. وتوصف عملية التسامي بأنها القدرة على تحويل الطاقة الجنسية من الإشباع الجنسي المباشر إلى أشكال غير مباشرة من الإشباع. وتظهر هذه الأشكال غير المباشرة نفسها كمنتجات ثقافية.
من الواضح أنه توجد حاجة إلى موقف توفيقي يكون قادرا على نسج خيوط من النهجين التجريبي والتفسيري في نموذج متماسك للعلوم الاجتماعية. وبينما ننتقل إلى التساؤلات بشأن المنهجية، سنرى أن نهج فيبر المثالي للعلوم الاجتماعية يمثل حلا توفيقيا بناء. (4-3) تساؤلات بشأن المنهجية
من الأفضل في العمل العلمي مهاجمة كل ما هو أمام المرء مباشرة، وتوفير فرصة للبحث. (فرويد 1916أ، 27)
يظهر من مناقشتنا أن استخدام الخرائط الرمزية أمر ضروري لعالم الاجتماع كما هي الحال بالنسبة لعالم الطبيعة. إن العالم الاجتماعي معقد على نحو غير عادي، ولذلك يجب على عالم الاجتماع أن يستخدم إضفاء المثالية والفصل من أجل وصف الواقع الاجتماعي وتفسيره. تثير الخرائط الرمزية التي يستخدمها عالم الاجتماع عددا من الأسئلة المنهجية، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالعلوم الاجتماعية. يتعلق أحد الأمور بمحاولات توضيح فكرة «الفهم». وثمة مسألة أخرى يتعين تناولها هي نوع النماذج التي تستخدمها العلوم الاجتماعية. لقد أوضحنا بالفعل استخدام التفسيرات السببية في العلوم الاجتماعية، ولكن ما الشكل الذي يأخذه النموذج الفلسفي للسببية في العلوم الاجتماعية؟ يرتبط هذا السؤال ارتباطا وثيقا بمسألة القوانين الاجتماعية. ويؤثر وجود هذه القوانين من عدمه بدوره على دور التفسيرات والتنبؤات في العلوم الاجتماعية. وأخيرا، تطرح أسئلة حيال مسائل الواقعية والنسبية ونقص الإثبات بالأدلة، فضلا عن مسألة الوظيفية والاختزالية. (أ) ما الفهم؟
أوضحنا بالفعل أن الفهم في النموذج التفسيري يعني أنه يجب تحليل الفعل الاجتماعي بالرجوع إلى القواعد الاجتماعية (المعايير والأعراف) والفعل الفردي بالرجوع إلى النوايا (الدوافع والأسباب)، ولكن إذا كان الفهم منهجا في العلوم الاجتماعية، كما قصد دلتاي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: «ما هذه العملية التي تسمى الفهم؟» ثمة ثلاث طرق لتوصيف الفهم: (أ) في سياق التعاطف. (ب) وفي سياق الأنماط المثالية. (ج) وفي سياق الظروف الاجتماعية.
لنتناول بإيجاز هذه الطرق الثلاث لفهم «الفهم». إن نموذج التعاطف (أ) له جذوره في النظرية التاريخية للقرن التاسع عشر. وكما أكدنا، فإن التاريخية هي الرأي القائل بأن مختلف العصور والثقافات يجب أن تفهم وفق شروطها الخاصة. والطريقة الموصى بها لتحقيق هذا الهدف هي «التعاطف». التعاطف هو القدرة المفترضة على عودة المرء للماضي وغمر نفسه في ثقافة وحامليها وفهمهم من الداخل (أبيل 1948)؛ فنحن نفهم موقفا بشريا معينا - سواء كان فعلا فرديا أو ارتباطا بين أحداث عامة - إذا استطعنا أن نطبق عليه تعميما يستند إلى التجربة الشخصية. رأينا بالفعل ضعف هذا النهج من المرحلة المبكرة من فكرة دلتاي بشأن الفهم. والاعتماد على المعرفة الشخصية هو وجه القصور الأول لهذا النهج. فسيظل معظم التفسيرات مجرد تعبير عن الرأي، لا تخضع إلا ل «اختبارات» المقبولية. أما وجه القصور الثاني لهذا الاستخدام للفهم فهو أنه ليس وسيلة للتأكيد. وكما علمنا من تناولنا لفرويد، لا يمكننا أن نستنتج من تأكيد الاستدلال المسموح به أنه استدلال مقبول أيضا. يقدم فرويد وصفا متماسكا للظواهر النفسية، رابطا محتملا بين الأعراض الحالية والظروف السابقة، لكنه فشل في إيضاح أنه أيضا رابط محتمل. من وجهة نظر نموذج التعاطف، أي علاقة محتملة بين الدوافع والأفعال تميل إلى أن تكون رابطا مؤكدا. وعلى أي حال، فإن اختبار الاحتمال الفعلي للتفسير يستدعي تطبيق أساليب رصد موضوعية، مثل التجارب والدراسات المقارنة والحسابات الإحصائية (أبيل 1948).
وضع ماكس فيبر نموذجا مختلفا للفهم (ب)، لا يعتمد على التعاطف. غير أن ما يثير الاهتمام هو أن مفهوم الفهم لا يهجر ببساطة؛ ويصر فيبر على أن هذا المفهوم محوري للعلوم الاجتماعية. يبدأ فيبر بالقول إن الفعل الاجتماعي يتسم بالانتظام، ولكن ما يميز الانتظام في الفعل البشري هو أنه يظهر معنى رمزيا، يجب تفسيره، ولكن، كما يشير فيبر، عزو معنى للفعل البشري - وادعاء «فهم» هذا الفعل - لا يبين رغم ذلك أن له صلاحية تجريبية. فيمكن أن يستند نوعان متطابقان من الأفعال، يمكن رصدهما، إلى دوافع مختلفة تماما، ولا يكون الدافع الأكثر وضوحا بالضرورة هو الدافع الفعلي؛ لذلك يطالب فيبر بأن توازن طريقة الفهم عبر طريقة الإسناد السببي. وتتضمن هذه الطريقة وصف أنواع الدوافع العقلانية للفعل (فيبر 1913، 97). ولتحقيق هذه التفسيرات السببية، نحتاج إلى بنيات عقلانية أو أنماط مثالية مع الإشارة إلى الواقع التجريبي الذي تمت مقارنته (فيبر 1914، 303-304). تخيل على سبيل المثال خبيرا اقتصاديا يرغب في فهم السلوك الشرائي للعناصر الاقتصادية. سيضع الخبير الاقتصادي نموذجا استنادا لفهمه للسلوك البشري في مجتمع معين، الذي يفترض أن العناصر الاقتصادية العادية لها تفضيلات مستقرة، وتستفيد من المعلومات المثلى عن السوق، وأن هذه السوق في حالة توازن (بيكر 1986). تجدر الإشارة إلى أن نموذج العنصر الاقتصادي يقدم بيانا بشأن ما سيفعله المستهلكون النموذجيون في مثل هذه الحالات المثالية بافتراض ثبات العوامل الأخرى. وعالم الاجتماع يهدف إلى بناء بنيات مثالية افتراضية يمكن مقارنة الواقع التجريبي معها في سياق الانحرافات (فيبر 1914، 304-305). يجب تأكيد الافتراضات التي يقوم بها الخبير الاقتصادي لأنها قد لا تكون صحيحة في جميع الأسواق. باختصار، هذه هي منهجية فيبر للأنماط المثالية (انظر القسم 4-3، ب).
ماكس فيبر (1864-1920).
وفقا لفيبر، تحتاج العلوم الاجتماعية إلى فهم قواعد وقيم مجتمع معين، وعلى هذا الأساس تبني سلوكا مثاليا نموذجيا. ثم تقارن هذه الأنماط المثالية بالواقع التجريبي. إذا كانت تنحرف عنها كثيرا، فإن النماذج تحتاج إلى تعديل. ويقترح فيبر سلسلة من المثاليات التي يمكن من خلالها دراسة الحالات التجريبية. وهي تقدم «درجات فهم» للأفعال الاجتماعية (مومسن 1974، 221). تأمل واحدا من أهم أنماط مثاليات الفعل الاجتماعي (بصرف النظر عن السلوك العاطفي والتقليدي):
الفعل العقلاني المتعمد. وفي هذا النوع من الأفعال:
ربما يستخدم العنصر توقعاته لسلوك الأشياء الخارجية وغيره من البشر ك «شروط» أو «وسائل» لتحقيق أهدافه التي يلاحقها على نحو عقلاني ومحسوب. (فيبر 1978، 28؛ قارن فيبر 1968، 24-26)
وفقا لنظرية الاختيار العقلاني، فإن العنصر الاقتصادي يدرك بوضوح الأهداف ويختار الوسائل التي يعتبرها ذاتيا أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف. ويعامل سلوك الاستفادة القصوى لدى العناصر الاقتصادية أو الشركات الفردية في السوق المحددة كما لو كان يسعى بعقلانية لتحقيق أقصى قدر من العوائد المتوقعة (فريدمان 1953، 21). ووفقا لفيبر، يمتلك فهم الفعل البشري في سياق العقلانية الهادفة أعلى درجة من «الأدلة» (فيبر 1913، 107؛ مومسن 1974، 221).
تتمثل وظيفة الأنماط المثالية في فهم الفعل الاجتماعي في سياق هذه النماذج. ويجب تقييم السلوك الفوضوي للعناصر الاجتماعية الفعلية في ضوء الأنماط المثالية:
على سبيل المثال، عند تفسير حالة من الذعر في البورصة، يكون من المناسب أولا تحديد طريقة تصرف الأفراد المعنيين لو لم يتأثروا بدافع عاطفي غير منطقي، ثم يمكن دمج هذه العناصر غير العقلانية في التفسير كاضطرابات. (فيبر 1978، 9؛ 1968، 6)
يعد النمط المثالي بمنزلة نموذج افتراضي يمكنه أن يفسر الحالات التجريبية، عندما يحدث الفصل من الانحرافات، بسبب عوامل غير عقلانية (نزوات عاطفية، أخطاء. فيبر 1913). ولا يمكن للعلوم الاجتماعية، التي تهدف إلى وصف وتفسير الجوانب العامة للحياة الاجتماعية، أن تجمع ما يفعله الأفراد الفعليون؛ إنما يجب أن تصل لمعدل متوسط لما يفعله الأفراد العاديون ويفكرون فيه. وتهتم العلوم الاجتماعية بالمستهلك العادي، والسائق العادي، والناخب العادي ، الذي يصاغ في الأنماط المثالية.
يأمل فيبر في تحقيق الفهم التفسيري من خلال الجمع بين التفسير والفهم (فيبر 1913، 107-109؛ فيبر 1968، 8؛ قارن 1978، 11). ويتمثل الهدف من عمل فيبر في صياغة موقف وسط بين النماذج التجريبية والنماذج التفسيرية. يرفض فيبر التضاد بين التفسير والفهم الذي أشار إليه دلتاي، والذي كان من المفترض أن يكون الفرق المميز بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. تأمل فعلا اجتماعيا يحدث بتكرار معين، كدخول عدد كبير من الناس مبنى معينا ومغادرته بانتظام يمكن التنبؤ به. إن ذكر هذا التكرار من خلال الأعداد لا يساعد على فهم هذا الفعل. وبناء نمط مثالي من السلوك العقلاني الهادف لا يفسر شيئا بشأن تكرار الفعل في المجتمع. يجب على عالم الاجتماع الجمع بين كلا الجانبين. ويعتبر التكرار الإحصائي لفعل ما «مفسرا» عند فهم معناه وتوضيحه. ربما يكون المبنى المذكور جامعة، وهذا يحدد الإطار الرمزي الذي تكون فيه حركة الناس منطقية. إن تفسير السلوك الهادف، حتى عندما يبدو واضحا، يكون في البداية مجرد فرضية، تخضع للاختبارات (فيبر 1913، 108). ونحقق الفهم التفسيري للفعل الاجتماعي بطريقتين: إما في سياق الدوافع المنطقية التي يعزوها النموذج للأفراد والتي يصدق عليها على نحو عام، أو في سياق المعايير والقيم الاجتماعية التي تحكم المجتمع وتوجه الفعل الاجتماعي عادة. كتب فيبر:
يشير مصطلح «الفهم» في كل هذه الحالات إلى الفهم التفسيري لمعنى أو نمط من المعاني، يكون إما (أ) مقصودا حقا في حالة معينة (كما هو طبيعي في الدراسة التاريخية)، أو (ب) مقصودا من قبل العنصر العادي بدرجة من التقريب (كما هي الحال في الدراسات الاجتماعية للمجموعات الكبيرة) أو (ج) مبنيا علميا بغرض ملاءمة نوع «نقي» أو «مثالي» لظاهرة تحدث على نحو متكرر (وهذا يمكن أن يسمى معنى «مثاليا-نموذجيا»). (فيبر 1978، 12؛ 1968، 9) (ج) في الإسهامات الأخيرة في منهجية العلوم الاجتماعية، انتقل التركيز على الفهم من مفهوم دلتاي المبكر كطريقة كان من المفترض أن تكون مميزة للعلوم الاجتماعية، إلى تفهم جديد للفهم كطريقة عامة لجميع التفاعلات الاجتماعية (جيدنز 1993؛ هابرماس 1970 (1988)؛ 1981 (1984)؛ جادامر 1975). لا يزال هناك تباين بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ولكنه ليس تباينا في الأساليب، بل تباين بين تفسير منفرد ومزدوج.
إذا كان للفعل الاجتماعي معنى رمزي، يجب إذن أن تمتلك العلوم الاجتماعية سمات غائبة عن العلوم الطبيعية. تأمل التباين بين «الطبيعة» و«المجتمع» وعلى نطاق أوسع بين العلوم الطبيعية والاجتماعية (جيدنز 1993، 20-21، 9، 86-87؛ هابرماس 1970، 87 (1988، 13-14)). إذا كنا نفهم من مصطلح «الطبيعة» مجموعة العمليات الطبيعية التي تتطور بغض النظر عن الإرادة والتخطيط البشريين، فإن الطبيعة ليست منتجا بشريا؛ فهي لم تنشأ عن فعل بشري.
كتب داروين أنه كان يقصد بالطبيعة «العمل الكلي والناتج عن العديد من القوانين الطبيعية» (كرومبي 1994، المجلد الثالث، 1752). وإذا كنا نفهم من مصطلح «المجتمع» مجموعة العلاقات الاجتماعية التي يتمتع بها البشر، فإن المجتمع ينشأ ويعاد إنشاؤه من خلال المشاركين في كل علاقة بشرية. ويتضمن هذا الإنتاج للحياة الاجتماعية عن طريق الفاعل العادي إطارات للمعنى. وهذا المعنى الرمزي مستمد من التقاليد الثقافية في المجتمع، كما أنه يستمر أيضا ويتغير بتفاعل الفاعل الاجتماعي (جادامر 1975، الفصل الثاني).
وبالتالي فإن البيانات التي تتعامل معها العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، على نحو منفصل، ليس لها نفس البنية. تتعامل العلوم الاجتماعية مع عالم سبق تفسيره؛ فهي تكون في علاقة «قائم بالدراسة-قائم بالدراسة» فيما يخص «مجال دراستها». ويتمثل مجال دراستها في عالم الفاعل الاجتماعي الذي سبق تفسيره؛ فالفاعل الاجتماعي يدعم ويطور العالم الاجتماعي الرمزي، ويدخل العالم الرمزي للفاعل الاجتماعي في بناء وإنتاج هذا العالم. وبهذا المعنى، فإن بناء النظرية الاجتماعية ينطوي على تفسير مزدوج (جيدنز 1993، 154؛ هابرماس 1981، 159، 162 (1984، 107، 110)). ويجب على عالم الاجتماع أن يفسر العالم الاجتماعي الذي يظهر بالفعل معنى رمزيا. وبهذا المعنى يجب أن يصبح عالم الاجتماع راصدا مشاركا. تنشأ مشكلة الفهم بالفعل تحت عتبة إعادة البناء النظرية للبيانات. وتظهر هذه المشكلة على مستوى إنتاج البيانات والحصول عليها. إن حالة التفسير المزدوج، التي تواجهها العلوم الاجتماعية، لها تأثير على التوجه الذهني لعلماء الاجتماع تجاه موضوع دراستهم؛ أولا: يجب على عالم الاجتماع أن يرسم بنياته الرمزية (الأنماط المثالية) على أطر المعنى التي ينطوي عليها إنتاج الحياة الاجتماعية من قبل الفاعلين العاديين. ثانيا: يمكن إعادة طرح المفاهيم والنظريات التقنية التي اخترعها علماء الاجتماع بدورها مرة أخرى في العالم الاجتماعي. وتصبح عناصر أساسية في موضوع الدراسة ذاته الذي كانوا يصوغونه من أجل وصفه، ومن خلال هذه الرمزية، يغيرون سياق تطبيقهم (جيدنز 1993، 86)؛ أي إن المصطلحات التقنية (الطبقة الاجتماعية، العولمة)، التي اخترعها عالم الاجتماع لفهم الواقع الاجتماعي، يمكن أن تخصص في العالم الاجتماعي، لتصبح جزءا من التعاملات الرمزية للعوامل الاجتماعية. وتعتمد المفاهيم التي يستخدمها علماء الاجتماع على فهم مسبق لتلك التي يستخدمها الناس العاديون للحفاظ على عالم اجتماعي هادف (جيدنز 1993، 59، 155-162). ومن ثم، لا يمكن للراصد الاجتماعي بناء قاموس تقني للغة الاصطلاحية غير متصل بفئات اللغة الطبيعية (هابرماس، 1970، 202، 263 (1988، 105، 152)).
وفقا لجيدنز، لا يوجد لهذا التفسير المزدوج نظير في العلوم الطبيعية (جيدنز 1993، 154)؛ فهي تعتمد على علاقة القائم بالدراسة بهدف بالدراسة في مجال دراستها. والعالم الطبيعي ليس عالما مسبق التفسير مغمورا بالمعاني الرمزية. يتكون العالم الطبيعي من نظم طبيعية، وعمليات بيولوجية وفيزيائية، خالية من الأبعاد الرمزية. يحدد عالم الطبيعة ملامح البنيات الرمزية (معادلات ونماذج ونظريات) لهذا العالم. ولهذا السبب يمثل هذا التحديد «تفسيرا مفردا». وتعد المعادلات والنماذج والنظريات بنيات رمزية ولكنها ترسم على العالم دون أبعاد رمزية (الشكل
3-3
أ، ب).
شكل 3-3: (أ) التفسير البسيط. (ب) التفسير المزدوج.
إذا كان الفهم التأويلي ظاهرة كلية الوجود في الحياة الاجتماعية، وإذا كان هذا ينعكس على عمل عالم الاجتماع، فكيف يمكن أن تظل العلوم الاجتماعية موضوعية؟ يجب أن توازن الحاجة إلى دراسات موضوعية في العلوم الاجتماعية مع الحاجة إلى الفهم التأويلي. وكما يضيف فيبر، يجب أن توازن أيضا مع الفهم التفسيري. سنتناول في الجزء التالي أولا منهجية فيبر للأنماط المثالية، ثم نتناول مسألة توافق الفهم مع الموضوعية. (ب) منهجية فيبر للأنماط المثالية
إن «النمط المثالي» وفق فهمنا (...) ليس له أي صلة على الإطلاق بأحكام القيمة، ولا علاقة له بأي نوع من الكمال إلا من الناحية «المنطقية» البحتة. ثمة أنماط مثالية لبيوت البغاء وكذلك للأديان (...). (فيبر 1904، 98-99)
وفقا لفيبر، ينقسم الهدف من العلوم الاجتماعية إلى أربعة أهداف: (أ) دراسة الواقع الاجتماعي في سياقه الثقافي، وتفسير السلوك الاجتماعي بمساعدة الانتظام الافتراضي. يبدو أن فيبر ينكر وجود قوانين صارمة في العلوم الاجتماعية؛ لذلك فإن أي انتظام اجتماعي له طابع افتراضي فقط. (ب) من سمات الفعل الاجتماعي أن انتظامه ذو معنى. يمكننا أن نفهم الفعل الاجتماعي عندما نفهم معناه الرمزي، ومع ذلك، قد نخطئ في تفسير الفعل الاجتماعي؛ مثلا أن نعزو معنى أو نية خاطئة له. ويجب أن يخضع عزو المعنى عن طريق عالم الاجتماع، أو حتى فاعل اجتماعي عادي، لبعض الاختبارات التجريبية. وفقا لفيبر، من الممكن أن نفهم بعض الأفعال الاجتماعية من خلال عزو دوافع عقلانية لها. ويميز فيبر بين دوافع عقلانية عديدة، لكنه يرى أن العقلانية المقصودة تتمتع بأعلى قدر من الأدلة (فيبر 1913، 97؛ مومسن 1974، 221). إذا كان العزو يعين عقلانية مقصودة للفعل، بموجبها يسعى العنصر الاجتماعي إلى أفضل الوسائل لتحقيق غاية ما، ينبغي أن يكون من الممكن اختبار هذا العزو للمعنى. هذا هو مزيج فيبر للأنماط التجريبية والتفسيرية من العلوم الاجتماعية. ويفيد النمط التجريبي في تفسير الفعل الاجتماعي مع مساعدة من الانتظام الافتراضي المؤكد. ويفيد النمط التفسيري في تقديم معنى لهذا الانتظام الاجتماعي (فيبر 1904، 216؛ هابرماس 1970، 83-91 (1988، 10-16)). عمم هابرماس لاحقا هذه الفكرة بالادعاء بأن جميع الأفعال الاجتماعية ترتبط بادعاءات صحة (انظر ما يلي). (ج) ثمة هدف آخر للعلوم الاجتماعية هو تقديم تفسير تاريخي لظهور النظم الاجتماعية. وتمثل أطروحة فيبر الشهيرة للعقلانية محاولة لتفسير ظهور الرأسمالية الحديثة من اعتماد نمط الحياة البيوريتاني (فيبر 1904-1905؛ تاوني 1922). (د) أخيرا، يرى فيبر أن العلوم الاجتماعية قادرة على تقديم تنبؤات محدودة بشأن الآثار المستقبلية للأفعال الاجتماعية. يتنبأ علماء الاجتماع بارتفاع معدلات جرائم الأحداث، ويتنبأ الاقتصاديون بتأثير انخفاض أسعار الفائدة على الاقتصاد. إنها ليست تنبؤات طويلة الأجل، وتأتي مرفقة بشرط ثبات جميع العوامل الأخرى.
يرى فيبر بوضوح «الفهم» كشرط للحياة الاجتماعية، ولكن حتى إذا كانت الأبعاد الرمزية ترتبط بالحياة الاجتماعية مثل شبكة العنكبوت، يجب أن يكون الفهم أيضا عملية موضوعية، وهي ليست منهجا مقتصرا على العلوم الاجتماعية؛ فعمل عالم الطبيعة يتطلب بالفعل فهم الظواهر الطبيعية في سياق بناء النموذج (فاينرت 2004، الفصل الثالث). ويشارك عالم الاجتماع في بعد تفسيري مزدوج يرسم فيه المعنى على بنى رمزية موجودة مسبقا. يمنحنا محور التفسير المنفرد/المزدوج وسيلة لتفسير إصرار فيبر على الفهم «التفسيري». يجب أن نتصور الفهم كبنية نموذج. ونحن نجد استخداما واسع النطاق له في العلوم الطبيعية والاجتماعية على حد سواء، وفي العلوم الاجتماعية يتخذ شكل الأنماط المثالية.
يعتبر فيبر الأنماط المثالية بنيات نظرية؛ فهي «أنواع نموذجية» سواء من الناحية المنطقية أو العملية (فيبر 1904، 97؛ انظر الفصل الأول، القسم 6.5). ولا يقصد من الأنماط المثالية أن تكون وصفا للواقع الاجتماعي. ولا تكون بمنزلة مخططات يمكن بموجبها تصنيف موقف أو فعل حقيقي كحدث واحد (فيبر 1904، 92؛ فاينرت 1996). بل تعد بمنزلة نماذج تسمح لعالم الاجتماع أن يصرف نظره عن التفاصيل غير ذات الصلة أو الخاصة؛ من أجل التركيز على السمات الأساسية لظاهرة ثقافية أو اجتماعية. وهذه الأنماط تمثل إضفاء للمثالية من حيث التركيز على بنية الظاهرة الاجتماعية قيد الدراسة. ووفقا لفيبر، عالم الاجتماع مهتم بما هو نموذجي بشأن عنصر اجتماعي، أو موقف اجتماعي، أو نظام اجتماعي معين. يبرز النمط المثالي النواة الأساسية لظاهرة اجتماعية ما مثل السلطة أو الرأسمالية أو الإقطاعية. تسمح الأنماط المثالية بوضع توصيف منهجي لما هو مشترك بين العديد من الحالات الفردية في العالم الاجتماعي. وتبرز ما هو مهم بنيويا في الظواهر الاجتماعية. وتتميز الأنماط المثالية بالاتساق المنطقي والدقة المفاهيمية، وهي أنواع «نقية»؛ على سبيل المثال: «السلطة الكاريزمية» تشير إلى سيطرة على الناس، سواء أكانت سيطرة خارجية أم سيطرة داخلية، يخضع فيها الأشخاص المحكومون بسبب إيمانهم بالسمات الاستثنائية ل «الشخص» المعني. (فيبر 1915، 295-296)
يشير فيبر إلى أن استخدام الأنماط المثالية إلزامي لاستخراج المعاني الثقافية من التفاعلات الاجتماعية (فيبر 1904، 90-93)؛ ومن ثم فإن العملية التي تسمى «الفهم» تفهم على النحو الأمثل بوصفها عملية بناء للنماذج؛ ومن ثم يصبح النمط المثالي نوعا ما من «النماذج».
يميل فيبر إلى اعتبار الأنماط المثالية مجرد أدوات إرشادية، وهي محددة بدقة، ولكن نقاءها يأتي بتكلفة. فليس مهما هل كان الواقع التاريخي أو الاجتماعي يتوافق فعليا مع الأنماط المعنية أم لا؛ فالأنماط المثالية مقاييس يمكن من خلالها تقييم الواقع التاريخي أو الاجتماعي على أنه انحراف. ووفقا لفيبر، للأنماط المثالية أربع وظائف:
تسلط الضوء على العناصر الأساسية للظواهر التاريخية والاجتماعية («الإقطاعية»، «الإمبريالية»، «السلطة»، «العقلانية»، «العلمانية»).
تعمل كمفاهيم محددة. فتعد المجتمعات الغربية الحديثة «أسواقا حرة» أو لديها «بنية سياسية ديمقراطية» في حدود الظروف المثالية. ويمكننا أن نحدد نموذج المجتمع الديمقراطي بمبادئه الأساسية المتمثلة في الحرية والمساواة. ويمكن وصف المجتمعات الملموسة بأنها تقريب للمفهوم المحدد. وتقترب المجتمعات المختلفة من المفهوم المحدد بدرجات متفاوتة، ولكن لا يوجد مجتمع مطابق للنمط المثالي للمجتمع الديمقراطي.
تعمل على إعادة بناء «التسلسل التطوري» للأحداث في التاريخ. كرس فيبر الكثير من عمله لإعادة بناء نمو الرأسمالية الحديثة من الأخلاق البروتستانتية. وحاول ماركس إعادة بناء تطور المجتمع من الإقطاع مرورا بالرأسمالية ثم الاشتراكية. ورأى كونت تطور المجتمع من اللاهوتية إلى الميتافيزيقية إلى الموضوعية.
تساعد على تحديد مفهومي «السببية الكافية» و«الاحتمالية الموضوعية» في العلوم الاجتماعية. يعتقد فيبر، مع مؤيدي النموذج التجريبي، أنه كان من الممكن وضع تفسيرات سببية في العلوم الاجتماعية. ويسعى علماء الاجتماع إلى الوصول إلى تفسيرات سببية للأحداث الاجتماعية. وكما سنرى، فإن الاعتقاد بوجود تفسيرات سببية في العلوم الاجتماعية يعتمد على ملاءمة نماذج السببية الفلسفية. هل كانت دكتاتورية هتلر هي الشرط السببي الذي أسقط العالم في الحرب العالمية الثانية؟ كما سنذكر، فإن فكرة فيبر للسببية الكافية تغلف نموذجا فلسفيا للسببية في سياق الشروط الضرورية والكافية، التي تسمح للمؤرخ بالتحدث عن الشروط السببية التي دفعت ألمانيا نحو الحرب. بهذا المعنى، توضح الأنماط المثالية الحالات الممكنة موضوعيا.
كان فيبر يدرك جيدا الطبيعة المتغيرة للأنماط المثالية. وكما هي الحال في العلوم الطبيعية، يجب أن تكون النماذج في العلوم الاجتماعية قابلة للتكيف مع الأدلة الجديدة؛ ولذلك لا يمكن أن تكون الأنماط المثالية مجرد أنماط مفروضة على البيانات الاجتماعية من جانب عالم الاجتماع. وعلى غرار النماذج في العلوم الطبيعية، يجب أن تكون نماذج الفرضيات في العلوم الاجتماعية قابلة للتكيف مع العالم الاجتماعي المتغير. قد تكون الأنماط المثالية، مثل «المجتمع الطبقي»، ملائمة في بريطانيا الصناعية في القرن التاسع عشر، ولكن تغير العالم الاجتماعي إلى حد أن هذه المصطلحات لم تعد ناجحة في نمذجة المجتمع البريطاني على نحو ملائم (دهرندورف 1959). وعلى النقيض من ذلك، فإن ظاهرة جديدة مثل العولمة تتطلب بناء نمط مثالي جديد قادر على نمذجة تلك الظاهرة . تتغير الظروف الاجتماعية، وهذا يجب أن ينعكس في اختيار عالم الاجتماع للنموذج. وفي حين تمكن علماء الاجتماع في الماضي من وصف المجتمعات الأوروبية من حيث التسلسل الهرمي للطبقات الاجتماعية، فإن نظراءهم المعاصرين يفضلون وصف مجتمعاتهم من حيث التقسيم الطبقي الاجتماعي. ويعكس هذا التغير في المفاهيم تغيرا في الواقع الاجتماعي. ولا يختلف هذا من حيث المبدأ عن تعديلات النموذجين الكوبرنيكي أو الدارويني مع ظهور المزيد من الأدلة.
على غرار العلوم الطبيعية، تستخدم العلوم الاجتماعية عددا من النماذج المختلفة. يمثل منحنى العرض والطلب للاقتصادي نموذج «دالي»، لأنه يبين كيفية اعتماد متغير واحد (السعر) داليا على التفاعل بين متغيرين آخرين (العرض والطلب). وحيثما يلتقي منحنيا العرض والطلب، يحدد هذا التقاطع السعر (شكل
3-4 ). استخدم فرويد التفكير «التماثلي» ونماذج ميكانيكية «مصغرة» للعقل، كما رأينا، وجادل على أساس التماثل مع الفيزياء لصالح الصحة العلمية للتحليل النفسي، ولكن استخدم فرويد أيضا البنية الثلاثية للعقل كنموذج مصغر. ومن المفترض أن يكون نموذجا ميكانيكيا يتضمن روابط ديناميكية بين الأجزاء الثلاثة. وبما أن فرويد يتحدث غالبا عن الطاقة الجنسية، التي يجب على الجهاز النفسي أن يوجهها ويسيطر عليها، فإن التشبيه المناسب لهذا الجهاز هو المحرك البخاري (انظر ريلير 2005ج، 430؛ فرويد 1916ب، الفصل الثاني والعشرون).
أي نوع من النماذج تعد أنماطا مثالية؟ الأنماط المثالية نماذج بالمعنى الافتراضي؛ فهي نماذج من نوعية «كما لو». وهي ترسم ملامح الواقع الاجتماعي والاقتصادي «كما لو» كانت تتألف «فقط» من المتغيرات المدرجة في النموذج. «الكائن الاقتصادي» و«الكائن الاجتماعي» و«الكائن النفسي» جميعا «تختزل» البشر إلى عدد قليل من المتغيرات التي تعتبر ذات صلة بالأغراض الوصفية والتفسيرية لعالم الاقتصاد، أو عالم الاجتماع، أو عالم النفس؛ فهي جميعا مجردة من سمات البشر غير ذات الصلة، وتضفي المثالية على السمات ذات الصلة لدرجة تمنحها الأهمية، وتنظم المتغيرات ذات الصلة لتشكيل تفسير متسق لجوانب السلوك البشري. عند فهم الأنماط المثالية كنماذج فرضيات، ربما تعبر عن بنية جبرية، ولكنها تتعلق في الغالب بالبنية الطوبولوجية التي تشبه بنية الواقع التجريبي.
على الرغم من تأكيدنا على تشابه النماذج في العلوم الاجتماعية والطبيعية، فإن مشكلة الإغلاق في العلوم الاجتماعية تفرض بعض القيود على هذا التشابه؛ أولا: من الأصعب كثيرا الوصول إلى تمييز بين السمات الأساسية والسمات العرضية، بين الظروف ذات الصلة وغير ذات الصلة، في العلوم الاجتماعية. غالبا ما يكون الفيزيائي التجريبي في وضع يحدد فيه الظروف التجريبية ذات الصلة وغير ذات الصلة؛ فعلى سبيل المثال، اكتشف رذرفورد وزملاؤه في بداية القرن العشرين نواة الذرة، وفعلوا ذلك عن طريق قياس تبعثر ذرات الهيليوم المتأينة عبر ذرات الذهب الموجودة في رقيقة من الذهب. واستطاعوا افتراض أن وجود الإلكترونات داخل الذرات الذهبية ليس له أي تأثير على المسار المقيس لذرات الهيليوم المشتتة، وقد برر هذا الافتراض من واقع اعتبارات الطاقة في الفيزياء الكلاسيكية. ويؤكد فيبر أن وظيفة النمط المثالي هي «مقارنته بالواقع التجريبي من أجل تحديد الاختلافات أو أوجه التشابه» (فيبر 1914، 43)، ولكن أنماط فيبر المثالية ليست مفاهيم علمية كمية. لن يوجد في كثير من الأحيان أكثر من مجرد إجماع نوعي بين المؤرخين - على سبيل المثال - بشأن العوامل التي يرجح أن تكون ذات صلة بالحالات التاريخية الملموسة. وكما سنرى، فإن هذه المشكلة خطيرة على نحو خاص في الاعتبارات السببية في العلوم الاجتماعية، ومع ذلك، غالبا ما ستساعد الأدلة التاريخية المؤرخين على تحديد مجموعات العوامل المهمة، مع بعض التداخل بينها؛ ولذلك ينبغي أن نتوقع وجود بعض القيود التجريبية على مقبولية النماذج المثالية. ثانيا: من الصعب تحديد هل كانت بعض الانحرافات في النموذج عن الواقع التجريبي انحرافات حقيقية أم ظاهرية. عندما ترفع الرياح ورقة شجرة خلال نسيم الخريف، فمن الواضح للفيزيائي والشخص العادي، على حد سواء، أن مسار الورقة يمثل فحسب انحرافا واضحا عن قانون نيوتن للجاذبية. إن مسار الورقة متوافق مع قانون الجاذبية. لا تسمح القوانين المادية الحازمة باستثناءات حقيقية. وفي حين أن العلوم الاجتماعية تتعامل مع الانتظام الاجتماعي، فإنه ليس من الواضح إن كانت تشكل قوانين حقيقية أم لا. وكما سنتناول لاحقا، فإن هذا الانتظام الاجتماعي مجرد نزعة ، ولكن النزعات تتفق مع الاستثناءات الظاهرية والحقيقية. عندما يحدث استثناء من نزعة ما، يصعب القول ما إذا كان يشكل انتهاكا لنمط الانتظام أم لا. وأخيرا، فإن درجات المثالية والتقريب التي يمكن أن يحققها النموذج ترتبط بمدى إمكانية فصل العوامل ذات الصلة عن العوامل غير ذات الصلة. في مختبر الفيزياء، تخضع العوامل إلى حد بعيد لسيطرة مجري التجربة، بما في ذلك وجود «الضوضاء»، ولكن عالم الاجتماع لا يتمتع بهذا المستوى من السيطرة على العوامل. هذه هي مشكلة الإغلاق. وحتى في التجارب المختبرية التي تنطوي على البشر لا يمكن تحديد جميع العوامل التي تدخل في بيئة التجربة والسيطرة عليها. فللبشر في هذه الحالات تاريخ ويشكلون جزءا من تقليد لا يمكن تقدير آثاره على الحالة الراهنة بسهولة. تصور النماذج ما سماه فيبر الحالات «النموذجية». وفي غياب المعلومات الكمية، يصعب قياس درجات التقريب والمثالية؛ فعلى سبيل المثال، من المستهلك النموذجي؟ وكم ينحرف المستهلك الحقيقي عن المستهلك النموذجي؟
رغم عدم القدرة على القياس الدقيق في بناء النماذج في العلوم الاجتماعية، فإنه توجد طرق موضوعية - كما يؤكد فيبر - لبناء أنماط مثالية ونماذج أخرى في العلوم الاجتماعية. تعتمد النماذج الدالية على البيانات الإحصائية على نحو صرف، وقد بنيت نماذج الفرضيات عن طريق التجارب النفسية، وكذلك من خلال الأدلة الإحصائية، ومقارنة العمليات التاريخية والمعاصرة (شريف 1936؛ ميلجرام 1974؛ فيبر 1904-1905). يعتبر فيبر بناء النماذج عملية موضوعية؛ ومن ثم فإن الفهم التفسيري في علم الاجتماع التأويلي قابل للمقارنة مع منهجيات العلوم الطبيعية . وخلافا لنتائج النماذج التجريبية والتفسيرية، يجب أن نخلص إلى أن العلوم الاجتماعية تتسم ب «طبيعانية ضعيفة» (ليتل 1991، الفصل الحادي عشر؛ بوبر 1957، 121-123). وهي تعد طبيعانية ضعيفة لأنها (على عكس النموذج الطبيعي) لا تفترض وجود قوانين اجتماعية وانطباق النموذج الاستدلالي الطبيعي التفسيري والنموذج الاستقرائي الإحصائي التفسيري. ثمة بعض الترابط بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، على الرغم من الاختلافات الواضحة، وهو يكمن في استخدام بعض البنيات النموذجية المثالية التي تنطوي على انتظام افتراضي. وهي توفر للعلوم الاجتماعية الفرصة لتقديم فهم تفسيري للظواهر الاجتماعية. (ج ) الفهم والموضوعية
أنشأ فيبر علاقة منطقية بين الفهم والتفسير. عمل الفهم كوسيلة لبناء أنماط مثالية للفعل الاجتماعي، لا سيما الفعل العقلاني الهادف. يوفر الفهم تكوينا فرضيا، يجب تأكيده تجريبيا. ويجب الوصول إلى الحقائق الاجتماعية من خلال علم الاجتماع التأويلي (هابرماس 1970، 164 (1988، 73-74)). وبمجرد تأكيد النمط المثالي تجريبيا، فإنه يشير إلى انتظام اجتماعي، يكون بمنزلة تفسير للأفعال الاجتماعية (هابرماس 1970، 84 (1988، 11))؛ ومن ثم فإن الفهم ليس بديلا عن تفسير الفعل الاجتماعي (هابرماس 1970، 146 (1988، 59)).
إذا كانت المعاني الرمزية تتخلل الحياة الاجتماعية، فكيف يمكن للعلوم الاجتماعية أن تأمل في تقديم بيانات موضوعية عن العالم الاجتماعي؟ يجيب علم الاجتماع التأويلي بأن عالم الاجتماع يجب أن يضع افتراضات عقلانية، ويعبر عنها في التكوينات الفرضية، مثل فئات فيبر للأفعال الاجتماعية. ومن المفترض أن توضح دوافع ونوايا العنصر الاجتماعي «العادي». وفي توسيع لنهج فيبر، يربط هابرماس مختلف أنواع الفعل الاجتماعي بمختلف جوانب العالم. فيميز بين عالم «موضوعي» و«اجتماعي» و«ذاتي». تفترض الأنواع المختلفة للفعل الاجتماعي مسبقا أنواعا مختلفة من العلاقات مع العالم المعني. وتحدد طريقة ارتباط الفاعل الاجتماعي بجوانب العالم المختلفة جوانب العقلانية المختلفة وعقلانية تفسير هذه الأفعال عن طريق الباحث الاجتماعي (هابرماس 1981 (1984)، الفصل الأول؛ قارن فاينرت 1999).
على سبيل المثال، ينطوي الفعل الغائي/الاستراتيجي على علاقة بين الفاعل وعالم موضوعي من الحقائق. وثمة نوعان من العلاقات العقلانية لهذا العالم ممكنة: (أ) يمكن للفاعل أن يقدم تأكيدات بشأن هذا العالم، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، ويمكن الحكم عليها عقلانيا وفقا ل «صحتها ». (ب) يمكن للفاعل أيضا أن يتدخل في العالم الموضوعي لتحقيق أهداف محددة، ويمكن أن يفشل تدخله أو ينجح. ويمكن الحكم عليه وفقا ل «فعاليته». إن العقلانية التي ينطوي عليها هذا النوع من الفعل تذكرنا بفعل فيبر الهادف الموضوعي والهادف العقلاني، على نحو منفصل، ولكن أحد الانتقادات التي وجهها هابرماس إلى فيبر هو أن هذا الأخير قد ضيق أنواع العقلانية إلى العقلانية المقصودة أو عقلانية الوسيلة والغاية. ووفقا لهابرماس، فإن تصنيف فيبر للفعل الاجتماعي يقمع بعض جوانب العقلانية التي كانت جزءا من مشروع التنوير. وهكذا، فإن هابرماس يميز بين الأفعال المنظمة والدراماتورجية والتواصلية ويربطها بالصحة المعيارية والصدق الذاتي والتوافق الجماعي العقلاني كمعيار لصلاحيتها على الترتيب.
كيف يمكن لدور المشارك الافتراضي الخاص بعالم الاجتماع الإجابة على شرط الموضوعية في فهمه للتفاعل الاجتماعي؟ (هابرماس 1981، 168 (1984، 114)). يفترض هابرماس وجود صلة بين الأنواع الأساسية للفعل الاجتماعي ومنهجية فهم الأفعال الاجتماعية. ويقترح أن مشكلة العقلانية تطرح نفسها مع إمكانية الوصول التأويلي إلى مختلف أنواع العوالم (هابرماس 1981، 152، 157 (1984، 102، 106)). إن الجوانب العقلانية للأنواع الأساسية للفعل الاجتماعي - إحالة الأفعال الغائية/الاستراتيجية، والمنظمة، والدراماتورجية، والتواصلية إلى العوالم الموضوعية والاجتماعية والذاتية، على الترتيب - مفتوحة أساسا أمام حكم موضوعي من جانب الفاعل الاجتماعي والراصد الاجتماعي على حد سواء. من أجل فهم الفعل الاجتماعي أو الشكل اللغوي المعادل له، يجب على المفسر أن يفهم شرط صلاحيته. يجب أن يفهم الشروط التي في ظلها يكون ادعاء الصلاحية المرتبط بالفعل - الصحة الظرفية، والصحة المعيارية، والصدق الذاتي، والتوافق الجماعي - مقبولا. وهذا يعني أنه يجب على المفسر أن يفهم الأسباب التي يدافع بها الفاعل الاجتماعي عن صلاحية أي فعل إذا طلب منه ذلك (هابرماس 1981، 169 (1984، 115)). ويجب عليه أن يفسر الفعل الاجتماعي عقلانيا فيما يتعلق بادعاء الصلاحية المرتبط به؛ فعلى سبيل المثال، يمكن قياس فعالية الفعل الاستراتيجي مقابل الهدف الذي يسعى إليه. ولإبراز موضوعية الفهم أكثر، يدعي هابرماس أن أنواع العقلانية (الفعالية والحقيقة والصحة، وما إلى ذلك) لها أبعاد عالمية (هابرماس 1981، 188، 193، 197-198 (1984، 130، 134، 137-138))، كما يميز بين «عالمية» ادعاءات الصلاحية المستقلة عن السياق، والوسائل اللغوية الملموسة التي تعتمد على السياق والتي يصاغ من خلالها ادعاء الصلاحية (هابرماس 1988، 179، 182 (1992، 139، 142)). يجاهر الفاعل الاجتماعي بادعاء الصلاحية أو يضمره في مواقف ملموسة، وبأفعال كلامية ملموسة، وهذه الادعاءات تقبل أو ترفض على حد سواء في مواقف ملموسة، ولكن أيا كان السياق وأيا كانت وسيلة التعبير عنها، فإن ادعاءات الصلاحية هذه تتجاوز هذه المواقف الملموسة. وهذا أكثر وضوحا في ادعاءات الصحة: فأيا كانت الوسيلة اللغوية التي يعبر بها عن الحقيقة «ص»، فإن «ص» صحيحة أو خاطئة، وهذه الحقيقة تتجاوز الموقف الكلامي المحدد. وبهذه الطريقة يعارض هابرماس جميع أشكال النسبوية، وهي الأمر المقدس في التفكير ما بعد الحداثي. وهو يعيد التأكيد على التمييز بين سياق الاكتشاف وسياق التبرير؛ فادعاءات الصلاحية تنتمي إلى سياق التبرير. وكما سنرى، يستخدم هابرماس «عالمية المنطق في تنوع أصواته» كحجة ضد النسبوية.
بدأنا هذا الفصل بمناقشة ظهور نموذجين في العلوم الاجتماعية وعناصرهما الأساسية. وقد نبعت هذه المناقشة طبيعيا من دراسة التوازن بين التفسير والفهم في منهجية فرويد. أدت دراسة مفهوم الفهم من تجسيده المبكر بوصفه تعاطفا، إلى أحدث تجسيد له كشرط للحياة الاجتماعية لا مفر منه. وبمجرد أن تتضح كلية وجود البعد الرمزي للحياة الاجتماعية، فإن مسألة الموضوعية في معرفة العلوم الاجتماعية تفرض نفسها. ينبع جواب هابرماس بشأن ادعاءات الصلاحية من وجهة نظر التنوير حيال الطبيعة البشرية. وهو يلزم علماء الاجتماع بدراسة جوانب العقلانية في الأفعال البشرية، عندما يكونون مهتمين كثيرا بعواقب السلوك البشري غير العقلاني.
من المفترض أن يكون علم الاجتماع التأويلي قادرا على التعامل مع المشكلات التي وصفها دلتاي بتشيؤ الحياة الاجتماعية: عمل المنظمات المؤسسية وعجزها عن العمل، وعلاقات القوة، وكفاح الفئات الاجتماعية المختلفة ضد «السلطات» (جيدنز 1993، الفصلان الرابع والخامس). ربما يرى هابرماس أنواع العقلانية وادعاءات الصلاحية، المتأصلة في أنواع الفعل الاجتماعي، كأنماط مثالية (فيبر) أو طريقة الصفر (بوبر)، التي يمكن قياس الانحرافات بالمقارنة معها. وكثيرا ما ستكون هذه «القياسات» نوعية وليست كمية، بسبب انتشار البنيات الرمزية في الحياة البشرية. إن وجود عقول أخرى أو عناصر بشرية أخرى أمر أساسي في العلوم الاجتماعية؛ لأنه لا يؤثر فقط على النهج التأويلي للعلوم الاجتماعية في تناول الحياة الاجتماعية، بل يؤثر أيضا على بناء الأنماط المثالية وموضوعيتها، كما أنه يمد روافده، كما سنناقش الآن، إلى عدد من المسائل المنهجية الأخرى، التي تنشأ عن الموقف الإشكالي المحدد للعلوم الاجتماعية. إن مسألة كون البيانات في العلوم الاجتماعية صحيحة بالنسبة لعالم نموذجي وليس لعالم خاضع للنمذجة أكثر أهمية مما هي عليه في العلوم الطبيعية بالفعل. (4-4) السببية في العلوم الاجتماعية
كما لاحظنا سابقا ، فإن النموذج التجريبي أو الطبيعي يؤكد أن التحليل السببي للأحداث الاجتماعية ليس مرغوبا فيه فحسب، بل هو أساسي للعلوم الاجتماعية، وقد ناقشنا بعض الأمثلة على التفسيرات السببية، المعتمدة على افتراضي الفردية والشمولية على حد سواء. والسؤال هو: كيف يمكننا التفكير في السببية في العلوم الاجتماعية من وجهة نظر فلسفية؟ إذا كنا نعتنق وجهة النظر الميكانيكية بشأن السببية، التي تشكل وفقا لها عمليات الجذب والدفع المادية وآثارها السببية المناسبة القابلة للتتبع، فإن تقييمنا للتفسيرات السببية في العلوم الاجتماعية سوف يبدو قاتما إلى حد ما. يجب ألا نعتنق أفكار السببية الفلسفية التي تؤدي إلى نتائج خاطئة عند تطبيقها على أبحاث العلوم الاجتماعية. يبدو أن علماء الاجتماع لا يملكون أي شكوك بشأن ربط حدثين في التاريخ أو المجتمع - على سبيل المثال - بحيث يكون الحدث السابق الوقوع مؤهلا كسبب للحدث اللاحق الحدوث، الذي يكون مؤهلا لأن يعتبر نتيجة. قدم فيبر مساهمة كبيرة في هذا الموضوع من خلال مفهوم السببية الكافية كنموذج للسببية في العلوم الاجتماعية. (أ) أعمال فيبر حول السببية
كما أوضح فيبر، فإن إعادة بناء النظرية أو الأنماط المثالية في العلوم الاجتماعية يمكن أن تغطي ظواهر متنوعة مثل أنواع السلطة، وتسلسل الأحداث التاريخية، والسلاسل السببية للأحداث. وفي ضوء اعتقاده أن العلوم الاجتماعية يمكنها ترتيب بعض الأحداث في صورة تسلسل تفسيري، ابتعد فيبر كثيرا عن النموذج التفسيري الخالص للعلوم الاجتماعية، ولكن غالبا ما يكون التفسير مرتبطا بتوافر الانتظام. بعد ذلك تطرح أسئلة بشأن طبيعة هذا الانتظام في العلوم الاجتماعية، ووجود القوانين الاجتماعية، وتوافر التفسيرات السببية. وبمجرد أن نجيب على هذه الأسئلة، ستكون مناقشة طبيعة التفسير والتنبؤ في العلوم الاجتماعية أيسر. ويثير هذا الجانب المزيد من التساؤلات حول الواقعية والنسبوية، وكذلك الاختزالية والوظيفية.
يقترح فيبر فكرة «السببية الملائمة»، التي يعتبرها وجهة نظر مناسبة للسببية في العلوم الاجتماعية. تقوم هذه الفكرة بالنسبة إلى فيبر على منهجيته للأنماط المثالية، كما رأينا، يمكن فهم الأنماط المثالية على أنها نماذج افتراضية (أو نماذج «كما لو») في العلوم الاجتماعية (فيبر 1905؛ فاينرت 1996). ويؤكد استخدام الأنماط المثالية حاجة عالم الاجتماع لاستخدام الفصل وإضفاء المثالية في إعادة البناء السببية للحدث الاجتماعي. وفي حين أن هذه العمليات تجعل النماذج تشير إلى بنية عالم نموذجي، فإن النموذج يقدم أيضا ميزة ربط عدة عوامل على نحو قابل للإدارة. ويسعى النموذج السببي إلى ربط حدث ما في العالم الاجتماعي، يعتبر نتيجة، بظروف سببية سابقة. وبالنظر إلى عمل فيبر نفسه، فإن محاولته لتفسير ظهور الرأسمالية في الغرب نتيجة لاعتماد أنماط الحياة البيوريتانية؛ مثال واضح للتحليل السببي في العالم الاجتماعي، ولكن يسعى علماء الاجتماع أيضا إلى تفسير أمور مثل منشأ تجارة الرقيق، واندلاع الحرب العالمية الثانية، وجنوح الأحداث، والأداء التعليمي المتفاوت. يتمثل الهدف في كل حالة في عزل العوامل المحددة الفعلية بأكبر قدر ممكن، التي من المحتمل أنها تسببت في حدث ما في التاريخ أو في العالم الاجتماعي. غير أن النظم الاجتماعية ليست منغلقة. يواجه عالم الاجتماع مجموعة من العوامل المحددة المحتملة، التي يمكن أن تكون ظروفا سببية ممكنة. ومن بين مجموعة العوامل المحددة المحتملة، يجب على عالم الاجتماع أن يستخرج مجموعة من العلاقات السببية، التي «يجب أن تتطور إلى مجموعة سببية «حقيقية»» (فيبر 1905، 173). يتحدث فيبر عن «السببية الملائمة» عندما يلبي نموذج العلوم الاجتماعية عدة شروط: (أ) عزل عالم الاجتماع عددا من الشروط التي تعتبر ذات صلة إحصائية بالنتيجة المعنية. (ب) من المحتمل أن تعزل إعادة بناء الحدث الاجتماعي أو التاريخي، من جانب عالم الاجتماع، «السبب المحتمل لحدث تاريخي فعلي أو أحداث من هذا النوع.» ومن ثم، فإن نموذج الأنماط المثالية للتسلسل السببي للأحداث الاجتماعية يظهر احتمالية موضوعية؛ أي إنه من الممكن موضوعيا - وربما حتى من المرجح - أن تكون الظروف المعزولة مسئولة سببيا عن وقوع الحدث. ويقدم نموذج عالم الاجتماع، الذي يدعي بعض الاحتمالية، الظروف السببية الأكثر ملاءمة التي من المرجح أن تكون قد أدت إلى الحدث الاجتماعي المعني. كيف يمكن لعالم الاجتماع أن يكون متأكدا نسبيا أن النموذج السببي المقترح - على سبيل المثال، اندلاع الحرب العالمية الثانية - يقدم الظروف الأكثر ملاءمة التي من المرجح أن تكون قد سببت هذا الحدث؟ يصر فيبر على أنه «من الممكن أن نحدد، حتى في مجال التاريخ، الظروف التي من المرجح أن تؤدي إلى نتيجة ما أكثر من غيرها بدرجة معينة من اليقين» (فيبر 1905، 183). ويتمثل طريق تحقيق هذا الهدف في إخضاع نموذج النمط المثالي الخاص بتسلسل سببي ما إلى المعرفة الواقعية لحدث تاريخي أو اجتماعي. وهكذا يختبر فيبر النموذج مقابل الواقع. ويأمل فيبر بهذه الطريقة أن يلقي الضوء على «الأهمية التاريخية» للعوامل المحددة الفعلية في ظهور حدث تاريخي ما. من المعروف أن المؤرخين وعلماء الاجتماع يختلفون حول العوامل ذات الصلة التي يمكن أن تكون مسئولة عن بعض الأحداث في التاريخ أو المجتمع. وستكون بعض العوامل غير محتملة بحيث يمكن حذفها من التفسير السببي؛ فعلى سبيل المثال، من غير المعقول أن انفجار بركان كان له تأثير على اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ ومن ناحية أخرى، فإن البيانات التجريبية الجديدة المتعلقة باندلاع الحرب العالمية الثانية قد تثبت أن بعض العوامل عوامل ذات صلة وتنفي عوامل أخرى باعتبارها غير ذات صلة.
ناقشنا في القسم 6-7، ج، من الفصل الثاني السببية في سياق مجموعة من الشروط الضرورية والكافية. ومن المتوقع من طبيعة العلوم الاجتماعية والاهتمام بالعوامل المسببة الفعلية أن يهتم التحليل السببي في العلوم الاجتماعية غالبا بالشروط الكافية. هذه هي الظروف الفعلية التي وقعت قبل وقوع الحدث والتي يجب إعادة بناء التفسير السببي منها. غير أن فيبر رأى أن الأنماط المثالية يمكن أن توضح أيضا الشروط الضرورية للظواهر الاجتماعية مثل الإقطاع والسلطة. على سبيل المثال، في غياب الإيمان ب «الصفات الاستثنائية» للقائد، لم يكن فيبر ليتحدث عن «السلطة الكاريزمية».
على الرغم من إمكانية تفسير الأفعال الاجتماعية سببيا في سياق الشروط الضرورية والكافية، فثمة اختلافات بين التفسيرات السببية في العلوم الطبيعية والاجتماعية: (1)
في العلوم الاجتماعية نتعامل مع الدوافع بدلا من الأسباب الميكانيكية. والدوافع هي الأسباب، ولكن لا يمكننا أن نصوغ القوانين الحتمية أو حتى الاحتمالية التي تربط الدوافع بالأفعال (ديفيدسون 1974؛ ولكن انظر فاي 1994 للحصول على تقييم بديل). أي انتظام في العلوم الاجتماعية يأخذ شكل اتجاهات بدلا من كونه انتظاما يشبه القانون. (كما نذكر فيما يلي، ما الاتجاهات إلا أوجه انتظام تجريبي جرى توليدها على نحو استقرائي، وهذا يسمح بوجود استثناءات وانعكاسات على حد سواء). (2)
لا يسعنا أن نذكر مجموعة مغلقة من الشروط الضرورية والكافية اللازمة للتصرف على أساس من الأسباب. سيتفق علماء الاجتماع على عدد من الشروط «الكافية» التي تفسر على نحو معقول وقوع حدث اجتماعي، ولكن سيوجد خلاف حول القائمة «الكاملة» لهذه الشروط الكافية. سيكون من المستحيل إثبات أن جميع الشروط المتفق عليها كانت ضرورية وكافية معا لهذا الحدث، وتمنع مشكلة الإغلاق التقييم الكمي للعوامل التي تدخل في الحالة السببية. (3)
لنفترض أن علماء الاجتماع وافقوا على مجموعة من الشروط التي يعتبرونها التفسير السببي الأكثر احتمالا لحدث اجتماعي ما. تظل هذه الاحتمالات مختلفة عن الأحداث الاحتمالية في العالم الطبيعي. تمتلك مجموعة من ذرات الراديوم احتمال 50 بالمائة للتحلل خلال 1600 سنة. ليس من الممكن التنبؤ بالذرات المحددة التي سوف تتحلل في فترة زمنية معينة، ولكن من الممكن القول، وفقا لما يسمى قانون التحلل، إن نصف مجموعة الذرات سوف تتحلل خلال 1600 سنة، ولكن في العالم الاجتماعي لا توجد مثل هذه القوانين التي تسمح لنا بالقول إنه في ظل شروط معينة سابقة، فإن الحدث اللاحق سيحدث باحتمالية معينة. كل ما يمكننا قوله هو أن مجموعة معينة من الشروط تجعل الحدث الاجتماعي أكثر احتمالية على نحو كمي.
يمكننا أن نلخص نقاشنا بالقول إن علماء الاجتماع يحاولون عزل مجموعة من الشروط الضرورية والكافية التي يعتبرونها كافية لتفسير وقوع حدث معين في التاريخ أو المجتمع باعتباره نتيجة تعقب شروط سابقة. هذا النموذج يبين إمكانية موضوعية، وسيتأثر اختيار الشروط السابقة باهتمام عالم الاجتماع، لكن أصر فيبر على أن هذا الاختيار لا يجعل التفسيرات السببية في العلوم الاجتماعية ذاتية، ويسلم فيبر أنه ليس من الممكن إقامة علاقات عددية بين الشروط السببية ذات الصلة المختارة واحتمالية حدوث النتيجة، كما أنه ليس من الممكن تقييم تأثير الظروف المحيطة كميا، في المجال السببي، ومع ذلك:
نستطيع (...) تقدير درجة «الدعم» الذي تتلقاه نتيجة معينة من «شروط» معينة؛ رغم أننا لا نستطيع فعل ذلك على نحو لا لبس فيه تماما أو حتى وفقا لإجراءات حساب الاحتمالات. (فيبر 1905، 183)
في تقديرنا لدرجة احتمال أن تكون شروط سببية معينة مسئولة موضوعيا عن نتيجة ما، فإننا نسترشد بمعرفتنا التجريبية بوقائع حالة تاريخية أو اجتماعية معينة، ونحصل على مزيد من المساعدة من:
معرفة بعض القواعد التجريبية المعروفة، ولا سيما تلك المتعلقة بالطرق التي يكون البشر عرضة للاستجابة بها في ظل حالات معينة. (فيبر 1905، 174)
يشير فيبر بوضوح إلى قدرة عالم الاجتماع على «تفهم» السلوك البشري من خلال اللجوء إلى عملية «الفهم»؛ فهي تمكن عالم الاجتماع من فهم النوايا، وتحفيز السلوك الفردي، وفهم المعايير والقيم، وتحفيز السلوك الجماعي؛ حينئذ يمتلك البشر معرفة القواعد التجريبية العامة التي تسمح لهم باجتياز طريقهم عبر الحياة الاجتماعية. لدينا - كما أكد بالفعل دلتاي - توقعات استقرائية حول الثبات النسبي للعالم الاجتماعي من حولنا. ما البنية التي نتوقع أن تكون لهذه التعميمات التجريبية؟ هل هي مماثلة للانتظام القانوني في العلوم الطبيعية، أم أنها أشبه بالقواعد والأعراف الاجتماعية التي يلتزم بها الفاعلون الاجتماعيون؟ وبالحديث عن القواعد التجريبية العامة (فيبر 1905، 174، 187)، يبدو أن فيبر يميل نحو الرأي القائل بأن عالم الاجتماع يتعامل مع العموميات التجريبية بدلا من الانتظام «المجرد» (فيبر 1905، 168). والمسألة التي نحتاج إلى معالجتها هي هل كانت توجد قوانين اجتماعية أم لا. (ب) حول وجود قوانين اجتماعية
ثمة نهج قديم في الفكر الاجتماعي يلتزم بالرأي القائل بأن العالم الاجتماعي يخضع بالقدر عينه للانتظام القانوني شأنه شأن كواكب النظام الشمسي. أشار فرويد - كما رأينا - في «التعبير عن النفس» إلى أنه لا يوجد «شيء عبثي، ولا اعتباطي ولا فوضوي»؛ فالنفس تخضع لقوانين نفسية حتمية، وكان فرويد حريصا على اكتشافها. وقف فرويد وحسب في سلسلة طويلة من المفكرين - بدأت من عصر التنوير - الذين اعتبروا أن العالم الاجتماعي والفردي خاضعين لقوانين الطبيعة المتعددة. آمن ماركس وكونت بوجود تسلسل للأحداث التاريخية يشبه القانون، وكذلك فعل آدم سميث؛ ولذلك ليس التفكير هل كان من الممكن اعتبار الانتظام التجريبي الموجود في العالم الاجتماعي بمنزلة قانون من قوانين طبيعية مسألة تافهة. والعديد من الأسئلة الفلسفية الأخرى، التي تظهر في العلوم الاجتماعية، تطرح مسألة هل كان يوجد انتظام قانوني في العالم الاجتماعي أم لا. وهذا يؤثر على مسائل السببية، وعلى المنهجية، وعلى التنبؤات والتفسير.
تناولنا بالفعل الآراء الفلسفية بشأن قوانين الطبيعة في فصل سابق. وعلى وجه التحديد، ميزنا بين «قوانين الطبيعة» و«قوانين العلم»؛ فالأولى هي الانتظام القانوني في العالم الطبيعي، بغض النظر عن معرفتنا بها. والأخيرة تشكل التمثيل الرمزي لقوانين الطبيعة كما نجدها في كتب العلوم. ودافعنا عن أطروحة أن قوانين الطبيعة تشكل قيودا بنيوية على سلوك النظم الطبيعية. كان يطلق على هذا الرأي النظرية «البنيوية» للقوانين. ووفقا لهذا الرأي، فإن قوانين الطبيعة تصوغ السمات البنيوية للنظم الطبيعية (فاينرت 1993؛ 1995). تعبر «قوانين العلم» عن علاقات رياضية بين مترابطات الأنظمة، كما أشرنا أيضا إلى أن الأنواع المختلفة من النماذج تمثل البنية (الجبرية والطوبولوجية) للنظم الطبيعية. وكانت وظيفة النماذج فصل عوامل النظم وإضفاء المثالية عليها وتنظيمها. يمكن إذن اعتبار قوانين العلم بيانات محددة، فهي تعمل في ظل شروط مثالية معينة أو لنماذج مبسطة، وقد تفقد صلاحيتها لصالح أنظمة معقدة جدا ذات شروط غير ممثلة في النموذج. هل يمكن تطبيق هذا التوصيف على الانتظام الاجتماعي؟ الفكرة العامة هي أن القوانين الاجتماعية يجب أن تعتبر بيانات محددة (كينكيد 1994؛ ماكنتاير 1994؛ انظر فاينرت 1997). ربما نجد في كتاب اقتصادي مثل هذه الادعاءات:
تحاول العلوم الاقتصادية - على غرار العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية الأخرى - العثور على مجموعة من قوانين الطبيعة. (باركين/كينج 1992، 23)
تتمثل وجهة النظر في أن العلوم الاجتماعية قادرة على صياغة بيانات عامة مرشحة على نحو حقيقي لأن تكون بمنزلة انتظام قانوني في العالم الاجتماعي. وتعد هذه البيانات أكثر من مجرد تعميمات تجريبية أو اتجاهات إحصائية؛ فهي تعبر عن تعميمات شبيهة بالقوانين في العالم الاجتماعي، وإن كانت ذات شكل مثالي.
ربما تكون القوانين الاجتماعية بيانات محددة، ومع ذلك، فإن هذا لن يضمن أنها قوانين حقيقية. ثمة رأيان يناهضان الرأي القائل بأنه ينبغي قبول البيانات العامة في العلوم الاجتماعية كبيانات قانونية حقيقية: (1) ربما تكون «القوانين الاجتماعية» مجرد تعميمات تجريبية تصف عددا كبيرا من الحالات. ويمكن ببساطة أن تكون ناتجة استقرائيا من الشروط الأولية
7 (بوبر 1957؛ فاينرت 1997؛ قارن وودوارد 2003، الفصل الرابع). إذا كان من الممكن إيجاد هذه الحالة، فإننا سنشهد اتجاهات اجتماعية وليس قوانين حقيقية. من سمات الاتجاهات أنها تمثل تعميمات استقرائية على عدد من الحالات المرصودة. وإذا كانت تعتمد على الشروط الأولية، فلا ينبغي اعتبارها قوانين حقيقية. ثمة عدة مؤشرات على أن التعميمات الاجتماعية تحمل معالم الاتجاهات. ومن أمثلة هذه العلامات أن التداخل مع الظروف الأولية سيغير طبيعة الانتظام. إذا كانت هذه هي الحال، فإن هذا يشكل تناقضا صارخا مع القوانين المادية. عندما تختلف الشروط الأولية من بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى ثقافة، فإن الانتظام الاجتماعي يتغير معها. والقوانين الحقيقية، على غرار قوانين كبلر، لا تعتمد على الشروط الأولية؛ فالشروط الأولية تكون ببساطة مثالا عليها. استغل بوبر (1957، 128) اعتماد الانتظام الاجتماعي على الشروط الأولية كي يطرح أن هذا الانتظام اتجاهات وليس قوانين حقيقية. وينبع من هذا الاعتماد فرق آخر بين القوانين الحقيقية والاتجاهات الاجتماعية؛ إذ يمكن أن تتغير الاتجاهات، وربما حتى تنعكس، في حين أن القوانين الحقيقية لا يمكن تغييرها أو عكسها. ويمكن استخدام المعرفة بالظروف الاجتماعية في خدمة تغيير الاتجاه الاجتماعي؛ فعلى سبيل المثال، إذا كان من المتوقع حدوث زيادة هائلة في معدل الجريمة نتيجة لزيادة عدد الأطفال، يمكن استخدام الهندسة الاجتماعية لكسر هذا الرابط. قد يكون للفرص التعليمية وفرص العمل للشباب تأثير على سلوك الشباب الجانحين المحتملين. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن معرفة الاتجاهات الاجتماعية يمكن أن تستخدم لعكس هذا الاتجاه ذاته. وإذا وضع علماء الاجتماع علاقة بين الاستهلاك المفرط للكحوليات وزيادة الوفيات على الطرق، يمكن لصناع القرار السياسي أن يستخدموا هذا الرابط نفسه للتدخل في هذا الاتجاه وعكسه، ولكن لا يمكن لأي تدخل بشري أن يغير قانونا طبيعيا على نحو مادي. وفي حين أن قوانين الطبيعة تمثل قيودا بنيوية على سلوك النظم المادية، فإن الاتجاهات الاجتماعية تمثل قيودا «عملية» في معظم الحالات، ولكن الانتظام الاجتماعي يتأثر كثيرا بالأبعاد الرمزية والاجتماعية للحياة البشرية مثل تأثره بالعلاقات الاجتماعية الأخرى. وعلى وجه الخصوص، فإن الانتظام الاجتماعي يخضع للتفسير المزدوج. ومن ثم، فإن أي انتظام لا يكون مؤهلا لأن يمثل قانونا حقيقيا. (2) من المسلم به عموما أن التعميمات في العالم الاجتماعي «مليئة بالاستثناءات». وعلى غرار الاتجاهات، يتوافق الانتظام الاجتماعي مع الاستثناءات بطريقة لا تتوافق بها القوانين الحقيقية معها. لا تسمح القوانين الحقيقية إلا بالاستثناءات الظاهرية، التي يمكن تفسيرها من خلال انتظام آخر. (لا تسقط الريشة على الأرض بنفس سرعة سقوط الحجر لأن الأمر يخضع لمقاومة الهواء). يجب أن تظل استثناءات القوانين الحقيقية متوافقة مع القوانين، ولكن الاتجاهات تسمح باستثناءات حقيقية لا يمكن تفسيرها من خلال تعميمات أخرى. حافظ فرويد على وجود قوانين ديناميكية نفسية بين سلوك الشخص وحالاته العقلية. رغم ذلك، فقد قبل أنه «من الصعب تقديم وصف يتمتع بصلاحية عامة» (فرويد 1931، 233).
وبالتالي توجد اختلافات حقيقية بين العلوم الاجتماعية والطبيعية. ووفقا لجون سيرل:
عندما ننخرط في أعمال إنسانية طوعية، فإننا نشارك عادة على أساس من الأسباب، وهذه الأسباب تعمل على تفسير سلوكنا سببيا، ولكن الشكل المنطقي لتفسير السلوك البشري في سياق الأسباب يختلف جذريا عن الأشكال القياسية للسببية. (سيرل 2004، 212)
ومع ذلك، توجد أيضا أوجه تشابه كافية بين العلوم الطبيعية والاجتماعية للدفاع عن وجهة نظر «الطبيعانية الضعيفة»، كما هو موضح في الجزء التالي. وعلى الرغم من عدم وجود قوانين اجتماعية حقيقية، فإن العلوم الاجتماعية لديها القدرة على تفسير الأحداث الاجتماعية والتنبؤ بها. (ج) التفسير والتنبؤ في العلوم الاجتماعية
كما رأينا في القسم 6-6 من الفصل الثاني، من الممكن تفسير الأحداث دون التمكن من التنبؤ بها. وبالمثل، من الممكن التنبؤ بالأحداث دون التمكن من تفسيرها. وعدم وجود قوانين حقيقية في العلوم الاجتماعية سيكون له تأثير على قدرتها على تفسير الأحداث الاجتماعية والتنبؤ بها. وإذا لم يوجد أي انتظام تجريبي على الإطلاق، فإن التفسير والتنبؤ سيكونان مستحيلين تقريبا، ولكن ثمة اتجاهات وأنماط اجتماعية ذات موثوقية جيدة إلى حد ما. وعلى أساس هذه التعميمات الاجتماعية، يمكن للعلوم الاجتماعية أن تفسر وتتنبأ على حد سواء.
مثلما تعد الأنماط المثالية نماذج في العلوم الاجتماعية، فإن أنواعا مختلفة من التفسير متاحة لعلماء الاجتماع. يضع استخدام النماذج الوظيفية التركيز على التفسيرات «الوظيفية». ويوجد النوع الأكثر مباشرة من التفسيرات الوظيفية في الاقتصاد. ويعد تحديد الأسعار من خلال تقاطع منحنيي العرض والطلب أوضح مثال على ذلك (شكل
3-4 ). يوجد أيضا نماذج وظيفية للطبقية الاجتماعية في المجتمع، التي يؤدي التقسيم الطبقي الاجتماعي وفقا لها وظيفة إيجابية للحفاظ على المجتمع. تستفيد العلوم الاجتماعية أيضا من التفسيرات «النظرية» (أو تفسيرات كما لو). على سبيل المثال، أشار فيبر إلى تحليل السلطة في سياق الانقسامات المثالية إلى سلطة كاريزمية وتقليدية وعقلانية. تستند السلطة العقلانية إلى القواعد والأنظمة والبنيات المؤسسية. وفي هذه النماذج تعامل السلطة «كما لو» أنها تتألف فقط من العناصر التي ينسبها النموذج لهذا النوع. والعلوم الاجتماعية قادرة أيضا على استخدام التفسيرات «البنيوية»، التي تقوم على النماذج البنيوية. ما بنية مجتمع السوق الحرة، الرأسمالية؟ تهتم هذه الأسئلة بالبنية الطوبولوجية أكثر من اهتمامها بالبنية الجبرية. وبما أن البنية تتكون من العلاقات والمترابطات، فإن التفسير البنيوي للرأسمالية سوف يفسر كيفية ارتباط العناصر الاقتصادية أحدها مع الآخر في المجتمعات الرأسمالية. وإذا قبلنا فكرة فيبر عن السببية الكافية، يمكن للعلوم الاجتماعية أن تدعي وجود تفسيرات «سببية» للأحداث الاجتماعية. ويتحقق ذلك من خلال وجود اتجاهات موثوقة وأنماط عقلانية في العالم الاجتماعي. وعلى الرغم من التمييز المنطقي بين التفسير والتنبؤ، فإنه يوجد بالطبع بعض الارتباط بينهما؛ فتوافر التفسيرات يسهل القيام بالتنبؤات. إذا أظهر العالم الاجتماعي وفاعليه أنماط انتظام، فإن العلوم الاجتماعية تستطيع بناء ما سماه عالم الاجتماع روبرت ميرتون «نظريات المدى المتوسط» (ميرتون 1968، الجزء الأول، الفصل الثاني).
شكل 3-4: منحنى العرض والطلب .
تؤدي هذه النظريات إلى استنتاجات، مثل ما يمكن أن يطلق عليه «تنبؤات المدى المتوسط» المستمدة من أنماط الانتظام في الحياة الاجتماعية. على سبيل المثال، يتنبأ الاقتصاديون بدورات اقتصادية واتجاهات سوقية بقدر معين من الموثوقية على المدى القصير. وبهذا المعنى يمكن مقارنة القدرة التنبئية للعلوم الاجتماعية مع علم الأحياء التطوري. ليست التنبؤات دقيقة كميا، كما هي الحال في علم الفلك مثلا، ولكنها تؤدي إلى تنبؤات بأنماط ذات درجات متفاوتة من الموثوقية.
ولكن ينبغي على العلوم الاجتماعية أن تعالج مشكلة محددة، سماها بوبر مشكلة «التخطيط غير المخطط له» (بوبر 1957، الفصل 21). استخدم بوبر حجة التخطيط غير المخطط له كاعتراض على إمكانية التخطيط للاتجاه المستقبلي لمجتمع كامل؛ ففي سياق دفع المجتمع إلى اتجاه سياسي معين، مثلا تجاه مجتمع شيوعي، سوف تحدث مشكلات لم تكن متوقعة في الخطة الأصلية. تجبر هذه المشكلات غير المتوقعة السلطات السياسية على تعديل خطتها الأصلية لمراعاة الاضطرابات غير المتوقعة. وبطبيعة الحال، فإن الخطة الجديدة المعدلة ستواجه أيضا مشكلات التخطيط غير المخطط له، التي تجعل فكرة التخطيط الطويل المدى لتطوير مجتمع بأكمله غير مجدية، كما أشار بوبر. وضمنيا، فإن التنبؤات الطويلة المدى مستحيلة لنفس السبب؛ التداعيات المستمرة على الدوام للفاعلية الإنسانية. تأمل على وجه التحديد مشكلات مثل النبوءات «ذاتية التحقق» و«ذاتية النفي» وصنع القرار في غياب توازن مستقر. تحدث النبوءة ذاتية التحقق عندما يجعل التنبؤ الناس تتصرف بطريقة تجعل التنبؤ يتحقق. (الشائعة بأن أسعار الخبز سوف ترتفع تجعل الناس يشترون مزيدا من الخبز ونتيجة لذلك يرتفع سعر الخبز.) وتحدث النبوءة ذاتية النفي عندما يجعل التنبؤ الناس تتصرف بطريقة تجعل التنبؤ لا يتحقق. (يأمل معظم الناس في أن التحذيرات العلمية بشأن آثار الاحترار العالمي سوف تجعل الناس يتصرفون على نحو يمكن من تجنب الكارثة. ميرتون 1968، الفصل الثالث عشر). يمكن أيضا أن يكون لصنع القرار في غياب التوازن المستقر تأثير على التنبؤ بالسلوك. على سبيل المثال، عدم وجود خيارات أفضل واضحة بشأن أفضل استراتيجية لتحقيق هدف ما سيجعل التنبؤ بسلوك الإنسان صعبا . ويمكن أيضا أن تصير الخيارات العقلانية مبهمة، كما أشار فرويد، من خلال وجود دوافع غير منطقية في السلوك البشري (إلستر 1989، الفصل الرابع). تحدث هذه المشكلات بسبب عدم اليقين الكامن في الفاعلية الإنسانية؛ فهي تحدث لأن التنبؤات في العلوم الاجتماعية تقوم على الاتجاهات، وليس قوانين حقيقية، وتحدث بسبب التفاعل المعقد بين الراصد والمرصود في العلوم الاجتماعية. (د) نقص الإثبات بالأدلة
ناقشنا مشكلة نقص الإثبات في الفصل السابق، واقترحنا أيضا بعض الحلول لهذه المشكلة في سياق توافر القيود. وكما رأينا، كان فيبر مدركا تماما للحاجة إلى توفيق بنياته المثالية مع البيانات المتوفرة، ولكن تتضاعف مشكلة نقص الإثبات في العلوم الاجتماعية بسبب عدد من العوامل؛ أولا: توجد مشكلة التفسير المزدوج. يصوغ عالم الاجتماع النماذج على عالم موجود بالفعل، وهذا العالم مليء بالمعاني الرمزية. وعلاوة على ذلك، فإن انتظام العلوم الاجتماعية يعتمد على الشروط الأولية ومن ثم فهو يعتمد على محض اتجاهات. تتفق هذه الاتجاهات مع استثناءات غير قابلة للتعليل. وكما أظهر تناولنا لفكرة فيبر بشأن السببية الكافية، يجب على عالم الاجتماع فرض التفسير السببي الأكثر احتمالا على البيانات المتاحة دون أن يكون قادرا على التعامل مع النظم المغلقة. تعني هذه المشكلات أن العلوم الاجتماعية تعاني من درجة من نقص الإثبات بالأدلة أعلى من علم الفلك أو علم الأحياء التطوري على سبيل المثال. ثمة قيود أقل لإقصاء النماذج غير المناسبة. فلا توجد قوانين حقيقية في العالم الاجتماعي، ولن يتفق علماء الاجتماع إلا على قلة قليلة من المبادئ النظرية الأساسية. تنشأ القيود المفروضة على النماذج في الغالب من الأدلة التجريبية، ومع ذلك، فإن تقدم العلوم الاجتماعية يجب تقييمه على نحو تفاضلي؛ فهناك العديد من العلوم الاجتماعية، منها الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والاقتصاد. وفي علم النفس يتنافس العديد من النماذج المتباينة بعضها مع بعض دون أي علامة على التقارب. يبدو أنه في الذكرى المائة والخمسين لميلاد فرويد (6 مايو 2006)، أخذت الأفكار الفرويدية تستعيد مكانتها (انظر ساينتيفيك أمريكان 2006)، لكنها لا تزال بعيدة عن إجماع آراء الخبراء. ومن ثم، فإن التقدم المعرفي ضئيل فيما يتعلق بالوضع العلمي للتحليل النفسي في سياق الترجيح التفاضلي للأدلة، ومع ذلك، يمكن القول إن دراسة الظواهر الاجتماعية يمكن أن تشهد تقدما بسبب زيادة حجم الأدلة، التي يمكن مقارنتها مع النماذج المثالية للواقع الاجتماعي؛ ومن ثم فإن تراكم الأدلة سيؤدي إلى حد ما إلى التخفيف من الشكل المتطرف لنقص الإثبات بالأدلة لنماذج العلوم الاجتماعية. وكما هي الحال في مجالات العلوم الأخرى، فإن الأدلة المتزايدة تميل إلى توزيع المصداقية على نحو تفاضلي على النماذج المتنافسة. إن موضوع العلوم الاجتماعية، كما رأينا، قد يمنعها من تحقيق الحالة الموجودة في الفيزياء حيث يحدث إجماع بين الأدلة على نموذج محتمل واحد على نحو عام. تستكمل الأدلة التجريبية في الفيزياء بمبادئ نظرية قوية، مثل القانون الثاني للديناميكا الحرارية أو مبادئ النسبية. ويمكن رؤية هذا التقارب منطبقا في قصة الكوبرنيكية والداروينية، ولكن هذا لا يعني أن العلوم الاجتماعية يجب أن تتخلى عن موضوعية نماذجها تماما. يزداد الوضع تعقيدا جراء طبيعة العالم الاجتماعي، ولكن البنيات المثالية تخضع إلى حد بعيد للاختبار مثل النماذج في العلوم الطبيعية.
تؤثر مشكلة نقص الإثبات بالأدلة على مسألة الواقعية مقابل النسبوية، وذلك بسبب العوامل التي تسببها. لم يهرب دلتاي قط على نحو تام من النسبوية الكامنة وراء وجهة نظره، رغم إصراره على تشييء النظم الاجتماعية. وعلى الرغم من أن العلوم الاجتماعية أكثر عرضة لمشكلة النسبوية، فمن الممكن الدفاع عن وجهة نظر واقعية في العلوم الاجتماعية. (ه) الواقعية والنسبوية
تنشأ مشكلة النسبوية في العلوم الاجتماعية أساسا من خلال حقيقة أن الفاعلين الاجتماعيين يتشاركون معنى رمزيا؛ فهي تنشأ من التفسير المزدوج. وهذا يجعل عالم الاجتماع راصدا مشاركا، راصدا يشارك في التفسير المزدوج. ورغم أن دلتاي في وقت لاحق من حياته أكد على عمليات تشييء الحياة الاجتماعية، فإنه لا يزال ينظر لها ككيانات تحددها الثقافة. وأشار إلى أن لكل مجتمع «نقطة تركيز» خاصة به. ومن ثم، فإن المعنى في الحياة الاجتماعية يختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن عصر إلى عصر. يطرح تساؤل هنا هل كانت هذه المعاني الرمزية قابلة للترجمة، وقابلة للنقل، وقابلة للمقارنة مع السياقات الاجتماعية الأخرى أم لا. وتربط جميع أشكال النسبوية المعتقدات التي يعتنقها الناس بإطار أو خلفية غير عامة تعتبر هذه المعتقدات صحيحة.
يجب أن يحكم على صحة هذه المعتقدات في مقابل معتقدات الخلفية المحلية أو الإطار المحلي. ربما يكون هذا الإطار حقبة تاريخية معينة (العصور القديمة، العصور الوسطى) أو شكلا من أشكال الثقافة (المجتمع البدائي، المجتمع الصناعي). يوجد العديد من أشكال النسبوية (المفاهيمية والأخلاقية والإدراكية)، وتعد النسبوية المفاهيمية ذات صلة في السياق الحالي؛ إذ تنظم المخططات المفاهيمية العالم الطبيعي أو الاجتماعي وفقا لمعاييرها الخاصة، ولا يمكن الحكم على صحة هذه المعايير من خارج المخطط المفاهيمي. من وجهة نظر معاصرة، كان لداروين وجهات نظر عنصرية نوعا ما حيال التسلسل الهرمي للجماعات العرقية، وقدم فرويد آراء فيكتورية بشأن المرأة. وفي نظر النسبوية، سيكون من المفارقات التاريخية اعتبار هذه الآراء «خاطئة»؛ لأنها مستوحاة من الفرضيات المسبقة التي قبلها الناس في عصرهم. وهكذا، فإن معظم الناس قبلوا، من العصور القديمة وحتى التنوير، الرق وتجارة الرقيق بوصفهما «طبيعيين». وبالمثل، فإن ما يعتبر «حقيقيا» في ثقافة ما لا يمكن اعتباره «حقيقيا» في ثقافة أخرى، بل لا يمكن أن توجد أحكام مشتركة بين الثقافات بشأن ما هو «حقيقي». إذا كانت الأفلاك السماوية بالنسبة لأرسطو «حقيقية» فإننا نقبل حكمه. قد يكون هذا مثالا سيئا للدفاع عن النسبوية، حيث لم يكن هناك توافق بين الإغريق حول «واقعية» الأفلاك. وتعرض هذا الاعتقاد لانتقاد شديد من قبل الفلاسفة العرب، ومع ذلك، يقدم بيتر وينش (1964) الدفاع النسبوي التالي بشأن «الواقع» و«العقلانية»: ما يعتبر «حقيقيا» و«عقلانيا» يعتمد على السياق والثقافة.
موقف النسبوي من العقلانية هو أن معتقدات الثقافات الأخرى عقلانية وفق رؤية هذه الثقافات لها؛ لأن هذه الآراء تستند إلى مبادئ مرتبطة بالسياق. قارن هذا الرأي مع وجهة نظر الواقعي حيال عقلانية المعتقدات؛ فهي:
تخضع لقواعد المنطق (نظم البيانات يجب أن تكون غير متعارضة، ومتسقة، ومتماسكة، وصحيحة).
تخضع للاختبار والتأكيد التجريبي.
تخضع للتمييز بين عالم خارجي (طبيعي أو اجتماعي) مستقل عن العقل ومعرفتنا العرضة للخطأ بهذا العالم.
بنيات اجتماعية تمتلك استقلالية نسبية عن اعتقادات الأفراد، كما أكد دوركايم؛ لأن لديها سمة «الشيئية».
يختلف الواقعي والنسبوي في تقييمهما للمعتقدات الحقيقية والخاطئة، للمعتقدات العقلانية وغير العقلانية. بالنسبة للواقعي، ثمة تمييز مهم بين المعتقدات الحقيقية والعقلانية من ناحية، والمعتقدات الخاطئة وغير العقلانية من جهة أخرى، بغض النظر عن السياقات المحلية. وكلاهما يتطلب تفسيرات مختلفة. يمكن اعتبار المعتقدات العقلانية صحيحة؛ لأنه يمكن تبريرها بالأسباب. وربما تكون المعتقدات غير العقلانية ذات مصداقية بالنسبة لأولئك الذين يعتنقونها، ولكن معتقداتهم تتطلب تفسيرات نفسية أو اجتماعية. اعتقد فرويد بالتأكيد أن زلات اللسان والأحلام والسلوك العصبي يمكن تفسيرها من خلال اللجوء إلى الدوافع اللاواعية. بالنسبة لفرويد، كانت معتقدات مرضاه ذات مصداقية على خلفية سماتهم النفسية، ولكن الخوف المروع من المساحات المفتوحة أو الذئاب ليس سببا يبرر هذه المخاوف.
وبالتالي فإن الواقعي يميز بشدة بين سياق «الاكتشاف» وسياق «التبرير». يشمل سياق الاكتشاف الطرق العقلانية أو غير العقلانية التي قد تطرأ بها الأفكار في أذهاننا. ربما يوجد دور لجميع أنواع الدوافع غير المنطقية، التي تنتج أفكار الشخص، ولا يمكن تكرار هذه الدوافع. خرج أرخميدس من حمامه وصرخ: «وجدتها». كان هذا هو سياق اكتشافه. ولكن لا يمكن أن يكون حمامه مبررا لاكتشافه أن كتلة معينة من مادة ما تساوي الحجم المزاح. يتطلب التبرير سياق تدقيق عقلانيا، يكون متاحا من حيث المبدأ للجميع. هذا هو سياق التبرير. وكما رأينا، فإن هذا يفسر جزئيا الصعوبات التي تواجه نموذج فرويد للعقل. وبالنسبة للنسبوي، لا يوجد تمييز شديد بين سياق الاكتشاف وسياق التبرير. يجب التمييز بين المعتقدات الموثوقة والصحيحة في مقابل افتراضات خلفية محلية؛ فما هو مقبول ويعتبر أسبابا إنما يتحدد من خلال ما هو مقبول في السياقات المحلية. على سبيل المثال، فإن الإصرار على «قابلية الاختبار بين العناصر»، التي تعد سمة مميزة للعلوم الحديثة، يصبح حينئذ قيمة محددة في العلوم الحديثة، كما أن ما يعتبر دليلا إنما يستند هو ذاته إلى افتراضات محلية. على سبيل المثال، تأمل الثقة في الخبرات الشعورية عبر العصور. بالنسبة للإغريق، لدى الغالبية العظمى، كانت الرؤية العينية مصدرا جديرا بالثقة يدعم ثبات الأرض. وبالنسبة للاهوتيين الطبيعيين، قبل داروين، كشفت الحواس عن التعقيد البارع للعالم الطبيعي. إن سياق الاكتشاف - استخدام ملاحظات العين المجردة - يتداخل مع سياق التبرير؛ فيبدو أن ملاحظات العين المجردة شاهدة على ثبات الأرض ووجود الغرض الإلهي.
ربما لا يقنع الواقعي النسبوي المتشدد، ومع ذلك ثمة عدد من الحجج المؤيدة للواقعية. وثمة ملاحظة عامة ربما تكون مناسبة. إن تطور المعرفة عملية ديناميكية. وحتى داخل ثقافة معينة أو مجتمع معين توجد غالبا أصوات معارضة. لم يؤمن الإغريق بأكملهم بالرؤية الكونية القائلة بمركزية الأرض، كما لم يكن هناك توافق عام مناهض للتطور بين الأوروبيين في القرن التاسع عشر. يوجد دائما نماذج تفسير متنافسة، مما يؤدي إلى وجهات نظر متباينة إزاء الكون.
ثمة نقطة مناهضة للنسبوية هي «الحجة القوية». تمتلك كل الثقافات جوهرا مشتركا من المعتقدات الحقيقية وأنماط استدلال مبررة منطقيا. في دراسة حديثة، قارن علماء النفس في جامعة هارفرد القدرات الهندسية للأمريكيين مع قدرات القبائل البدائية. ووجد الباحثون أن الأحكام الهندسية للمجموعتين لا تختلف اختلافا كبيرا؛ فالاستدلالات الأولية حول الظواهر الطبيعية - الغيوم الكثيفة تبشر بهطول المطر - يجري التوصل إليها أيضا على نحو مستقل عموما عن السياقات الثقافية. توجد حقائق مستقلة بشأن العالم، مهما كان حكم الناس بشأنها. ومن المؤكد أن هذه الحقائق المستقلة ستؤدي إلى تلاقي أحكام الناس في جميع أنحاء العالم. يبدو أن الحقائق الاجتماعية تفتقر إلى الاستقلال عن الإرادة الإنسانية الذي يبدو أن الحقائق الطبيعية تتمتع به، ومع ذلك، فإن تشييء المؤسسات الاجتماعية يعني أنها تتمتع باستقلال نسبي عن الأفعال اليومية للعناصر الاجتماعية. تظل معظم المؤسسات الاجتماعية قائمة بعد شاغليها الحاليين. وتتمتع معظم المؤسسات الاجتماعية باستقلال نسبي عن الأفراد الذين يحافظون عليها في أي وقت معين (ساير 2000، 33-35).
تستند «حجة التطور» إلى وجود سلف مشترك لجميع البشر. ثمة استجابة مماثلة للضغوط البيئية تقدم المادة الأساسية التي تضمن التكافؤ بين الثقافات. فيكمن تشابه في تحدر اللغات الحديثة من اللغات القديمة. ونجد في أعمال داروين وهكسلي وتلر دفاعا عن فكرة أن المخ البشري تطور استجابة لظروف بيئية مماثلة. وتؤدي أحجام المخ الكبيرة إلى وظائف ذهنية أعلى، مثل تطوير لغات رمزية. وكما سنرى لاحقا، فإن علم النفس التطوري يشير إلى أن الأصل المشترك للجنس البشري أدى إلى بنيات مخية نموذجية عامة. وقد طور البشر قدرات حل المشكلات استجابة للبيئة المشتركة.
وأخيرا هناك حجة «ادعاء الصحة». فيشير الواقعيون إلى وجود تمييز أساسي بين «المقبولية الاجتماعية» و«الصحة العقلانية» للأفكار (هابرماس 1988 (1992)، الفصل الثالث). تأمل بعض الأفكار الرئيسية التي ناقشناها. اعتبرت مركزية الأرض صحيحة لمدة ألفي سنة، ويمكن أن تفخر «سلسلة الوجود العظمى» بتاريخ مماثل. ومع ذلك، فالمغالطة الأساسية (الاحتكام للأغلبية) هي الاعتقاد بأن بعض الأفعال أو الأفكار لا بد أنها صحيحة لأن غالبية الناس يؤيدونها؛ فمقبوليتها الاجتماعية لا تثبت صحتها العقلانية، وإلا سيكون من الصعب فهم كيف يمكن أن تحدث اكتشافات تتعارض مع التوقعات. تظهر استقلالية العقل عن العالم على وجه التحديد من خلال قابلية خطأ معرفتنا (ساير 2000، الفصل الأول؛ باسكار 1978، الفصل الأول). يضع الواقعي تمييزا أساسيا بين الحقائق والمفاهيم، بين العالم الخارجي ومعرفتنا به القابلة للخطأ. ودون هذا التمييز الأساسي سيكون من الصعب تفسير التحسينات المفاهيمية التي رأيناها في قصص الكوبرنيكية والداروينية. ويعترف الواقعي بأن مخططاتنا المفاهيمية توجه وجهات نظرنا إزاء العالم. وغالبا ما تحمل مخططاتنا المفاهيمية فرضياتنا الأساسية، التي قد لا تتعرض للتشكيك لفترات طويلة. ومع ذلك، فإن مخططاتنا المفاهيمية لا تحدد طريقة رؤيتنا للعالم؛ ففي نهاية المطاف واجهت مخططات ما قبل الكوبرنيكية وما قبل الداروينية تناقضات واسعة بين الحقائق والمفاهيم. صاغ هابرماس عبارة «المنطق الموقفي» لتسمية هذا التوجه غير الحاسم (هابرماس 1988، 179 (1992، 139))؛ فالمنطق يعتمد على السياق في استناده إلى اللغة وتكوين المفاهيم. يظهر نمو المعرفة العلمية أن الأدلة الجديدة كثيرا ما تتطلب مفاهيم جديدة (فاينرت 2004، الفصل الأول )، ولكن في خضم إثبات ادعاء الصحة، يجب اعتبار المنطق مستقلا عن السياق. «تكمن وحدة المنطق في تنوع أصواته.» وتعد بعض الادعاءات أكثر ملاءمة إدراكيا من غيرها في مواجهة الأدلة. ويتضح ذلك على نحو لافت للنظر في قصة الكوبرنيكية والداروينية. حتى العلوم الاجتماعية التفسيرية - كما دأب فيبر على تكرار ذلك - قادرة على تقديم بيانات موضوعية؛ فمطلوب من الأنماط المثالية أن «تتلاءم» مع البيانات التجريبية. وكما يشير هابرماس، فإن الملاءمة المعرفية للمخططات المفاهيمية تنعكس أيضا في الطريقة العملية للحياة (هابرماس 1981 (1984)، المجلد الأول، الفصل الأول). يجب أن يثبت المخطط المفاهيمي قدراته من خلال التعامل مع التباينات والتناقضات التي قد تواجهه على المستوى العملي.
إذا كانت الملاءمة المعرفية للمخططات المفاهيمية لها تأثير ملموس على الطريقة التي نعيش بها حياتنا، فينبغي أن تكون هذه حجة داعمة للواقعية في العلوم الاجتماعية. يمكن استخدام المعرفة التي تنتجها نظريات العلوم الاجتماعية للتدخل في الحياة الاجتماعية؛ فعلى سبيل المثال، ربما تساعد على عكس الاتجاهات الاجتماعية غير المستساغة؛ ولذلك فإنه من المهم تحديد هل كانت تفسر بالمعنى الواقعي أم الذرائعي. وبما أن نظرية فرويد للتحليل النفسي تفشل أمام نقد الرؤية الواقعية للعقلية، فقد نادينا بأنه ينبغي قراءتها على نحو ذرائعي، ولكن عموما، إذا كانت العلوم الاجتماعية تهدف إلى فهم تفسيري، يجب أن تقرأ نظرياتها بمعنى واقعي؛ فهي بيانات عن العالم الاجتماعي الحقيقي، وملاءمتها المعرفية مهمة للغاية من أجل القرارات المتعلقة بالسياسات.
ولكن ما دام التساؤل ظل مثارا عن استقلالية العلوم الاجتماعية، بالنسبة للنموذج التفسيري، فإن استقلالية العلوم الاجتماعية تفرض نفسها من خلال التفسير المزدوج. ولكن الأمور أقل وضوحا بالنسبة للنموذج التجريبي. توقع الداروينيون وضع علم النفس تحت مظلة علم الأحياء التطوري. لم يعتقد أنصار الوضعية - على غرار أوجست كونت - أن علم الاجتماع يمكن وضعه تحت مظلة الفيزياء؛ لأنهم يفترضون وجود تسلسل هرمي إيجابي بين العلوم.
بينما نظرنا في الأجزاء السابقة إلى الفردية والشمولية كمستويات توضيحية للتفسير، فإن الجزء التالي يدرس هل كان يمكن إخضاع العلوم الاجتماعية لاستراتيجيات الاختزالية أم لا . (و) الاختزالية والوظيفية
كان فرويد اختزاليا متطرفا، بمعنى مزدوج. اعتقد فرويد أن جميع السلوك البشري يمكن اختزاله ميكانيكيا إلى قوى الديناميكا النفسية الكامنة، كما آمن فرويد أيضا أن علم النفس يمكن أن يختزل في نهاية المطاف إلى علم الأحياء إن لم يكن للفيزياء. لقد ناقشنا بالفعل «حسد فرويد للفيزياء»؛ رغبته في وضع التحليل النفسي على قدم المساواة مع الفيزياء. حتى إنه اعتبره وسيلة تضاهي حساب التفاضل والتكامل للقيم متناهية الصغر (فرويد 1927أ، 136)، كما نجد أيضا في كلمات فرويد تكرارا لتنبؤ داروين إذ قال إن «علم النفس سوف يوضع على أساس جديد.» ومن ثم أشار في محاضراته في فيينا إلى أن:
البنية النظرية للتحليل النفسي (...) هي بنية فوقية، يجب أن توضع يوما ما على أساسها العضوي، لكننا ما زلنا جاهلين بذلك. (فرويد 1916ب، 389)
رأينا أنه من الحتمي أن تخفق اختزالية فرويد الصرفة؛ فلكي ينفذ فرويد برنامجه التحليلي النفسي، يجب أن يلجأ للنهج التفسيري. ونظرا لدور العقل في العالم الاجتماعي وفشل الإغلاق في العلوم الاجتماعية ووجود الاتجاهات البحتة، فإن أي اختزال للعلوم الاجتماعية إلى الفيزياء يبدو وكأنه علاقة يائسة. مع ذلك، فتأسيس علم النفس على أساس تطوري خيار يسعى إليه بنشاط برنامج علم النفس التطوري (انظر الجزء 5)، ولكن إذا كان مقدرا لهذا المشروع أن ينجح، يجب أن يفسر ظهور العقل في العالم المادي. رأى الداروينيون هذا التحدي بوضوح، كما أشرنا سابقا. وقبل أن نعود إلى هذه المسألة، ثمة شكل أكثر قابلية للاختزال يمتد موضوعه عبر العلوم الاجتماعية. إنه مسألة «الفردية» و«الشمولية».
تشارلز داروين، مطلقا لحية مثيرة للإعجاب مثلما كان شائعا في عصره.
كمحلل نفسي، يميل فرويد على نحو طبيعي نحو الفردية (ريلير 2005ج، 438). وبصفة عامة، فإنه يفسر الظواهر الجماعية في سياق ما يفعله الأفراد، ويختزل ما يفعله الأفراد إلى دوافعهم اللاواعية. على سبيل المثال، يفسر فرويد الإنجازات الثقافية كنتيجة لانحراف الدوافع الجنسية بعيدا عن الإرضاء المباشر. ويرجع هذا الانحراف إلى عملية التسامي، كما يتبع فيبر أيضا مذهب الفردية الذي يختزل «الظواهر الاجتماعية» إلى «الأفعال الفردية» (فيبر 1913، 110). وبالنسبة لمتبع الفردية، وباستخدام المصطلحات التي استخدمناها من قبل، فإن «الظواهر الاجتماعية تلي الأفعال والمعتقدات الفردية» هناك «قابلية تحقق متعددة» للظواهر الاجتماعية بسبب اعتمادها على الأفراد (إلستر 1989، الفصل الثاني والخامس عشر؛ ليتل 1991، الفصل التاسع؛ هوليس 1994، الفصل الخامس)، ولكن تحليل فرويد لعلم النفس الجماعي يظهر أيضا أنه ليس من السهل التعامل مع السلوك الجماعي كمجموع بسيط للسلوك الفردي؛ فالعديد من الظواهر الاجتماعية تختلف نوعيا عن السلوك الفردي. ويعترف دوركايم بأن الأفراد عناصر ضرورية ولكن ليست كافية لتشكيل النظم الاجتماعية. تتألف الكيانات الاجتماعية من الأفراد والعلاقات الاجتماعية بينهم. وتظهر ديناميات سلوك المجموعات أن السلوك الفردي يتأثر بشدة بسلوك المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. في الواقع، ما يفعله الأفراد ويفكرون فيه يتأثر أيضا بثقافتهم المحيطة. عكست آراء داروين الإمبريالية بشأن الأجناس البشرية ووجهات نظر فرويد القديمة إزاء الجنس الأنثوي ببساطة المواقف الثقافية السائدة في حياتهما. إن طريقة ظهور الناس وتقديم أنفسهم تعكس ثقافتهم. وفي كتابه عن علم النفس الجماعي، ينحرف فرويد عن النزعة الفردية؛ فيفسر السلوك الجماعي من خلال تأثير الجماعة على الاقتصاد النفسي للفرد (فرويد 1921، 117). ويشير إلى أن السلوك الجماعي يختلف نوعيا عن سلوك الأفراد، حتى لو نتج عن العديد من الأفراد. وتنتج طريقة تفاعل الأفراد بعضهم مع بعض فرقا في سلوكهم، يمكن ملاحظته كسلوك جماعي أو كسلوك للمجموعة. لا يختلف فرويد - مؤلف كتاب «علم نفس الجماهير» (1921) - على نحو أساسي مع دوركايم بشأن هذه النقطة. ويمكننا تفسير رأي دوركايم بالقول إن السلوك الجماعي «ينبثق» من السلوك الفردي. وهو يتبع قواعده الخاصة، ولا يمكن اختزاله إلى انتظام فردي. وهكذا فإن دوركايم يتبنى موقفا وسطا بين الفردية النقية وشكلا مشكوكا فيه من الشمولية الأفلاطونية.
يمكن أن توجد المؤسسات الاجتماعية والتقاليد والنظم القيمية مستقلة عن أي عناصر فردية معينة نتيجة التشييء. لاحظ أن المؤسسات الاجتماعية يمكن أن توجد حتى في غياب أي شاغل لها، على الأقل لفترة قصيرة. وتستطيع المؤسسات الاجتماعية مثل الديمقراطية البقاء في عالم الأفكار، من دون أي تفعيل من جانب العناصر في أي مرحلة زمنية معينة. ويرى دوركايم أن وجود مؤسسات اجتماعية أو سياسية يتطلب إيجاد تمثيل لها من جانب العناصر الاجتماعية الفردية. إن وجود العناصر الاجتماعية ضروري ولكن ليس كافيا لوجود نظم اجتماعية.
غالبا ما يقال إن نوعا غير مرغوب فيه من الشمولية يمثل التكلفة التي تدفع مقابل اعتناق الوظيفية (انظر ناجل 1961، الفصل الرابع عشر؛ هابرماس 1970، الفصل الثاني؛ هوليس 1994، الفصل الخامس؛ روزنبرج 1995، الفصل الخامس). وتؤكد الوظيفية على أن العناصر الاجتماعية - الأفراد والجماعات والمؤسسات - تسهم في عمل وصيانة المجتمع بأسره؛ فالعناصر أو المنظمات الاجتماعية التي لا تسهم في أداء المجتمع ككل تعتبر مختلة وظيفيا. تأمل، على سبيل المثال، التفسير الوظيفي للطبقية الاجتماعية أو تقسيم العمل؛ فهو يفسر التقسيم الاجتماعي لمجموعات الأفراد وفقا للدخل والسلطة والعوامل الأخرى كمساهمة مفيدة في عمل النظام بأكمله. وبهذا المعنى يبدو أن الوظيفية تتطلب وجود كيان يتخطى الأفراد يسمى «المجتمع»، يوزع الوظائف اللازمة لبقائه. ويفسر دوركايم (1897) معدلات الانتحار بالرجوع إلى مستويات التماسك الاجتماعي. يبدو أن وجود المجتمع يفرض المهام التي سيقوم بها الأفراد. ويبدو أننا نواجه نفس المشكلة، التي واجهناها في النقاش بين الربوبيين والتطوريين (الفصل الثاني، القسم 2-1، ب)؛ فقد اشترط الربوبي أن الوظيفة تأتي أولا من خلال الإرادة الإلهية، بحيث يصمم العضو خاصة لها، لكن تعين على التطوري أن يعتمد على آلية الانتقاء الطبيعي من أجل تفسير طريقة اضطلاع الأعضاء بوظائف معينة مع مرور الوقت.
هل التزمت الوظيفية بنوع ميتافيزيقي من الشمولية ، يفترض مسبقا وجود كيانات اجتماعية في عالم خاص بها؟ من وجهة النظر الدوركايمية، لا توجد الكيانات الاجتماعية كمجموعات مجردة من الأفراد؛ فالعناصر الاجتماعية ضرورية للكيانات الاجتماعية. وبدلا من التفكير في المجتمع ك «كائنات» يمثل أعضاؤها من الأفراد «أجهزتها»، فإن علم الأحياء يقترح التفكير فيها على أنها «أنظمة ذاتية التنظيم»:
يمكن التخطيط للمنظمات الاجتماعية وتوجيهها، ولكنها بعد ذلك تقوم بإعادة إنتاجها نفسها في صورة أنظمة ذاتية التنظيم. (...) وتوفر المنظمات الاجتماعية نموذجا للإطار النظري لأبحاث النظم. (هابرماس 1970، 170 (1988)، 77)
هذه الكيانات الاجتماعية، إذا أضفنا رؤية دلتاي الحاسمة ، يرتبط بعضها ببعض من خلال سلاسل رمزية. وبما أن الكيانات الاجتماعية رمزية إلى حد بعيد في طبيعتها، فإن متبع الشمولية لا يحتاج إلى اللجوء إلى تفسير تطوري لنمو المجتمعات من أجل تفسير خلق الوظائف المجتمعية؛ فالتفسير متأصل في البعد التفسيري. لا شك أن المؤسسات الاجتماعية تمارس وظائف مختلفة؛ فمهمة السلطة التشريعية (على غرار البرلمان) هي سن تشريعات، ووظيفة السلطة التنفيذية (مثل الشرطة) هي الحفاظ على عدم انتهاك القوانين، ووظيفة السلطة القضائية (مثل المحاكم) هي معاقبة مخالفي هذه القوانين. وعندما بدأ فلاسفة التنوير بالتفكير في تقسيم السلطة إلى أذرعها الثلاثة (لوك، مونتسكيو)، كانت هذه الوظائف المنفصلة موجودة فقط في أذهانهم، أو على الورق. إن العقل البشري يستطيع خلق سيناريوهات وهمية وتوقع المستقبل. احتاج الربوبيون إلى افتراض وجود كائن أسمى ملأت أعماله الإبداعية العالم الطبيعي بوظائف بيولوجية. يستطيع الفيلسوف الاجتماعي أن يعتمد على إبداع العقل البشري؛ فيخلق العقل البشري الوظيفة توقعا لتحقيقها. ويستطيع عالم الاجتماع رصد تركيب هذه الوظائف في المجتمع، ويبدو أن هذا سمة عادية من سمات الحياة البشرية؛ أولا: تخلق الأفكار مساحة احتمالات، ثم توضع الاحتمالات، التي يمكن توقع نتائجها، موضع التنفيذ. إذا أخذت الأبعاد الرمزية للوجود البشري في الاعتبار، فإن الوظيفية لا تحتاج إلى افتراض كل وظيفي موجود مسبقا. توجد الوظائف كخطط، ثم تنسب إلى الأدوار الاجتماعية. ولا تصبح الأدوار الاجتماعية فعالة إلا إذا قامت بها عناصر اجتماعية ملموسة. وخلال أداء أدوارهم الاجتماعية، تفي العناصر الاجتماعية بوظائفها. وبمجرد التخطيط للوظيفة - كما هي الحال في التشريع، أو تنفيذ القانون، أو القضاء، أو التدريس مثلا - وإنشاء الأدوار الاجتماعية للقيام بهذه المهام - البرلمان، ضابط الشرطة، القاضي، المعلم - تظهر حاجة إلى أفراد حقيقيين لتنفيذ هذه الأدوار الاجتماعية، ولكن لاحظ أن الدور الاجتماعي لا يعتمد على أي فرد بعينه. وتشير هذه المهام المتوقعة أو المخطط لها ضمنيا أيضا - وفقا لمشكلة بوبر الخاصة بالتخطيط غير المخطط له - إلى أن التخطيط ربما يفشل. فلا ترقى الأدوار الفردية أو المؤسسية إلى توقعات الوظائف المتوقعة. وإذا أريد الحفاظ على الوظيفة، فلا بد من إصلاح الأدوار الفردية والمؤسسية. يحدث كل هذا على مستوى الأفراد في المجتمع؛ مثلا أعضاء البرلمان، ولكن تتمثل وجهة نظر دوركايم في أنه بمجرد تحديد الوظيفة والدور الاجتماعي، فإنه يتجاوز بعد ذلك إرادة شاغله.
هل توجد المجتمعات على نحو منفصل فوق مكوناتها الفردية؟ بالنسبة لمتبعي الفردية، يوجد الأفراد وأفعالهم وحسب، ولكن كما توضح مقدمة فيبر للأنماط المثالية، تعاني الفردية البحتة من صعوبات في تفسير سلوك المجموعة، وتعاني بدرجة أكبر في تفسير المجتمعات الحديثة المعقدة. فلا يمكن تفسير البنيات الاجتماعية بسهولة على أساس الأفعال الفردية. بالنسبة لمتبع الشمولية، البنيات الاجتماعية موجودة إلى جانب الأفعال الفردية، ولكن في أي سياق توجد هذه البنيات الفردية الفوقية؟ يتحدث ماركس عن بنية فوقية على قاعدة مادية، ويستخدم دوركايم الروح الجماعية. وإذا كان تحليلنا صحيحا، فلا يمكن النظر لبنيات ماركس الفوقية ولا الروح الجماعية لدوركايم على أنها كيانات أفلاطونية. وتعد القاعدة المادية والعناصر الاجتماعية الفردية شروطا ضرورية لوجود الكل الاجتماعي. لاحظ أن الوجود الأفلاطوني للكل الاجتماعي في مجال فوق فردي لا يتفق مع استنتاجنا أن أوجه الانتظام الاجتماعي توجد فقط كاتجاهات. فيتطلب اعتمادها على الشروط الأولية وقابلية العكس تمثيلها عن طريق العناصر الاجتماعية. وبهذا المعنى فإن العناصر الاجتماعية الفردية ضرورية للحياة الاجتماعية.
في ضوء كره الشمولية الأفلاطونية، ثمة موقف فلسفي يطرح نفسه؛ خلط الفردية «الأنطولوجية» مع الشمولية «المنهجية». على الأساس الأنطولوجي، يوجد الأفراد وحسب. ولكن وجود الأفراد لا يكفي لتفسير الانتظام الاجتماعي؛ ولذلك، فإننا نعتنق شمولية «منهجية». يستحضر علماء الاجتماع التعميمات الاجتماعية لتفسير الحقائق الاجتماعية دون حشد التعميمات «الفردية» المناسبة. فشلت العلوم الاجتماعية في الارتقاء إلى حلم ميل وفرويد باكتشاف القوانين النفسية التي يفترض أنها تحكم السلوك الفردي، وقد أظهرت منهجية فيبر للأنماط المثالية كيف يمكن لعالم الاجتماع تقديم بيانات عامة عن السلوك الاجتماعي برغم ذلك، ولكن هذه التعميمات الاجتماعية المثالية تعتبر تعبيرا عن أنماط «نموذجية» أو «معيارية» للسلوك. ولا يوجد أي ادعاء بأن التعميمات الاجتماعية تعكس الكيانات الاجتماعية التي يمكن أن توجد إلى جانب الأفراد في المجتمع، ولكن وجهات نظر ماركس ودوركايم تسمح باعتماد شمولية «ناشئة». يمكن للأنظمة الاجتماعية، بحكم طبيعتها القسرية، أن تدعي بعض الاستقلالية عن أفرادها الذين يشكلون مترابطات النظام الاجتماعي. فلا يظهر النظام الاجتماعي إلا عندما يبدأ أفراد المجتمع في الارتباط والتفاعل فيما بينهم.
8
فالكواكب منفردة لا تشكل نظاما شمسيا حتى تدخل في علاقات تحكمها القوانين (كما هو معبر عنها رمزيا في قوانين كبلر). وبالمثل، فإن العناصر الاجتماعية منفردة لا تشكل نظما اجتماعية حتى تبدأ في ممارسة علاقات اجتماعية فيما بينها. ويمكن أن تترسخ هذه العلاقات في صورة عادات ومؤسسات واتجاهات وتقاليد؛ أي التشييء وفقا لدلتاي. وتظل النظم الاجتماعية معتمدة على أعضائها الأفراد ولكن فقط بوصفهم مكونات ضرورية. تتخذ الكيانات الاجتماعية أشكالا عديدة: جوهر اجتماعي (فرنسا)، وأنماط اجتماعية (رأسمالية)، وأحداث (انهيار وول ستريت في عام 1929)، وعمليات (ذبول الإمبراطورية الرومانية)، وحالات اجتماعية (عبودية) (روبن 1985، 8-9). ويمكن النظر إلى هذا على أنه أنظمة متداخلة (انظر مربع 3-3).
مربع 3-3: الأنظمة المتداخلة
من أجل إظهار عدم قابلية اختزال السمات الاجتماعية إلى سمات فردية، يوضح إتش دي روبن أربعة مكونات ضرورية وكافية على نحو متساو للنظم المتداخلة (روبن 1985، 105-107)، ويبدأ بادعاء أن:
الشرط الضروري والكافي للسمة العلائقية «ع» لكي تكون سمة علائقية اجتماعية يتمثل في أنه إذا كان «س» و«ص» يقفان في العلاقة «ع»، فإنه ينتج عن ذلك وجود نظام متداخل من المعتقدات والتوقعات المتشابكة.
وينتج عن ذلك أربعة عناصر ضرورية وكافية على نحو متساو لنظام متداخل: (1) إذا كانت توجد أي علاقات اجتماعية بين س وص، فإن س وص سيكون لديهما معتقدات وتوقعات متشابكة بشأن الأفعال. (2) توجد معتقدات وتوقعات من الدرجة الثانية.
هذان الشرطان كافيان لتفسير الفرق بين الجاذبية و«خوض حرب»، إذا عدنا إلى مثال وينش. إن سحب جاذبية الأرض للقمر لا ينطوي على معتقدات مشتركة بشأن الجاذبية ولا توقعات من الدرجة الثانية بأن الأرض ستواصل إبقاء القمر في مجال جاذبيتها، ومع ذلك، إذا كانت الدولة «س» في حالة حرب مع البلد «ص»، فستوجد توقعات بأعمال عدائية وتوقعات بإمكانية إحباط الفعل المتوقع، من خلال تدمير مواقع العدو مثلا. (3) بعض العلاقات التناظرية موجودة بين مجموعة من المعتقدات والتوقعات. على سبيل المثال، يتأثر سبب تصرف عنصر اجتماعي ما بطريقة معينة جزئيا على الأقل بالطريقة التي يتوقع الآخرون أن يتصرف العنصر وفقا لها. وتعد هذه الحالة نموذجية للتوقعات أو المعايير المرتبطة بالأدوار الاجتماعية. سيواجه العنصر الاجتماعي، الذي يمارس دورا اجتماعيا، توقعات اجتماعية بشأن كيفية التصرف في هذا الدور. وسيتوافق مع هذه التوقعات بأقصى درجة. وإذا فشل العنصر في الأداء وفقا للشكل المتوقع للسلوك المرتبط بالدور، كأب أو ضابط مثلا، فإن المجموعة الاجتماعية أو المجتمع سيفرض عقوبات على العنصر، يمكن أن تتراوح من اللوم الخفيف إلى السجن القاسي. (4) يعتقد «س» أن «ص» أحيانا يفعل ما يفعله بسبب اعتقاد «ص» بشأن ما يعتقد «س» أن «ص» سيفعله، ويعتقد «ص» أن «س» أحيانا يفعل ما يفعله لنفس الأسباب. وهذا يشير إلى توقعات الدرجة الثانية من جانب العناصر الاجتماعية. يتوقع العنصر الاجتماعي أن الآخرين يؤمنون ببعض المعتقدات بشأن كيفية تصرف العنصر والطريقة التي يجب أن يتصرف وفقا لها ويكيف سلوكه وفقا لذلك. وتعد معتقدات الدرجة الثانية هذه ضرورية للحفاظ على الثقة بين أعضاء المجتمع. (5) التطور والعلوم الاجتماعية
يرتبط علم الأحياء التطوري جوهريا بدراسة السلوك والفكر البشري؛ لأن نوعنا نتاج لعمليات أرضية طبيعية - عمليات تطورية - وليس خلقا إلهيا أو تدخلا من خارج كوكب الأرض. (توبي/كوزميدس، «الأسس النفسية للثقافة » (1995)، 50)
ظلت العلوم الاجتماعية غير متأثرة نسبيا بنشر كتاب «أصل الأنواع» (1859). تفاعل النموذج التفسيري سلبيا مع الطبيعانية الصارمة لهذا النموذج، لكنه ظل يتخذ الفيزياء كعلم نموذجي استرشادي. أكد مؤيدو النهج التفسيري على أهمية الأبعاد الرمزية في الحياة الاجتماعية. وكانت حجتهم من أجل استقلالية العلوم الاجتماعية تعني أنه لا يمكن الحصول على الإلهام من العلوم الطبيعية أو البيولوجية. في فرنسا، وضع النموذج التجريبي ثقته بالعلوم الفيزيائية. ويقر دوركايم بأن السمات العامة للطبيعة البشرية تلعب دورا في الحياة الاجتماعية، ولكن العقل عنصر ثانوي في الشئون الإنسانية :
لا تمتلك التمثيلات والعواطف والاتجاهات الجماعية في أسبابها حالات معينة للوعي لدى الأفراد، بل الظروف التي توجد فيها الجوانب الاجتماعية ككل.
هذا هو تأييد دوركايم للشمولية. إنه يوافق على أن هذه الأفعال الاجتماعية لا يمكن تجسيدها إلا «إذا كانت الطبيعة الفردية لا تعارضها.» ومن ثم فإن الأفراد شرط ضروري لتشكيل الكيانات الاجتماعية، ولكنه ليس شرطا كافيا:
ولكن تعد هذه الطبائع الفردية مجرد مسألة غير محددة يصوغها العامل الاجتماعي ويحولها. تتكون مساهمتها حصرا من حالات عامة للغاية، واستعدادات غامضة ومن ثم طيعة، لا تستطيع بحد ذاتها أن تتخذ الأشكال المحددة والمعقدة التي تميز الظواهر الاجتماعية إذا لم تتدخل عناصر أخرى. (دوركايم 1895، 131)
هذا الإهمال للطبيعة البشرية مفهوم إلى حد ما، حتى من قبل تجريبي مثل دوركايم. على الرغم من أن التجريبية توصي العلوم الاجتماعية باتباع نهج مستوحى من العلوم، فإنها لا تشكك في استقلال العلوم الاجتماعية. وطوال فترة القرن العشرين تقريبا، كانت العلوم الاجتماعية - بصرف النظر عن النهج الذي اتبعته - تدير شئونها كتخصصات مستقلة، ولم تلعب وجهات النظر التطورية دورا مهما في أبحاثها. صحيح أن هابرماس - إضافة إلى آخرين - تناول مسألة هل كان يمكن تفسير نمو المجتمعات الحديثة في سياق تطوري أم لا (هابرماس 1976، الفصل الثالث)، ولكن لم يقدم أي اقتراح، حتى وقت قريب، لتطبيق المبادئ التطورية على موضوع العلوم الاجتماعية التقليدية. تغير هذا فجأة في عام 1975، عندما نشر إدوارد أوسبورن ويلسون كتابه «علم الأحياء الاجتماعي». في كتاب «أصل الإنسان» (1871)، استخدم داروين مبادئ تطورية لتفسير السمات الأخلاقية والاجتماعية للمجموعات البشرية. سبب كتاب ويلسون ضجة كبيرة لأنه حدث أفكار داروين. (5-1) «علم الأحياء الاجتماعي»؛ هل هو الثورة الرابعة؟
أعاد كوبرنيكوس الحياة للفكرة التي آمن بها إغريقي وحيد - أرسطرخس الساموسي - بأن الأرض لم تكن محور الكون. وجادل داروين على نحو مقنع أن أبناء الأرض يشتركون في أصل واحد مع جميع الكائنات الحية الأخرى. وآمن فرويد أنه دمر صورة الإنسان العقلاني النابعة من التنوير. هل أظهر عالم الحشرات الأمريكي إدوارد أوه ويلسون أن كل السلوك الاجتماعي لدى الحيوانات والبشر له جذور بيولوجية؟ لو كان علم الأحياء الاجتماعي قد حقق هدفه، لكان قد أحدث ثورة رابعة. كان ادعاء فرويد الجريء بالتنافس مع الثورة العلمية سيصبح سابقا لأوانه، وكانت جائزة هذا الإنجاز ستذهب إلى ويلسون. وعلى الرغم من أن علماء الاجتماع يكتبون في ثقة كما لو أن الأساس البيولوجي للسلوك الاجتماعي قد أثبت بالفعل، فإن الواقع يبدو أقل طمأنة، وغالبا ما تحل التكهنات الجريئة محل الأدلة التجريبية الصلبة. يبدو أن مسألة كون علم الأحياء الاجتماعي فرعا من نظرية التطور الحديثة مسألة لا جدال فيها إلى حد ما (ويلسون 1978، 16-17؛ كيتشر 1985، 118؛ روس 1979، الفصل الثاني)، ولكن من غير الواضح هل كان هذا الفرع يستطيع أن يحمل التأكيد القوي الذي ألقي عليه. لا سيما أنه لم تحدد بعد الطبيعة الدقيقة للصلة التي يفترض وجودها بين السلوك الاجتماعي والبنية البيولوجية. ربما تعثر برنامج أبحاث ويلسون ولكن أفكاره تعيش في علم النفس التطوري.
وفقا لإدوارد ويلسون، فإن علم الأحياء الاجتماعي هو «دراسة منهجية للأساس البيولوجي (لجميع أشكال) السلوك الاجتماعي (لدى جميع أنواع الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان)» (ويلسون 1980، 4؛ 1978، 16). هذه عبارة عامة شاملة تحتاج إلى دعمها بتفاصيل تجريبية؛ فلا يمكن أن يعني ويلسون أن كل سلوك اجتماعي محدد وراثيا تماما أو على الأقل له جذور بيولوجية. إن الكثير من سلوكنا يتبع المعايير والتقاليد، وتلهمه قيم اجتماعية (سالمون 2003). وتميل هذه التقاليد والمعايير والقيم إلى الاختلاف من مجتمع إلى آخر. يتناول الإنجليز الحلوى قبل الجبن، ويقدم الفرنسيون الجبن قبل الحلوى، ولا يريد أحد أن يدعي أن هذا الاختلاف في العادات الثقافية محدد جينيا. قد يكون فرويد محقا في قوله إن بعض سلوكنا تسببه دوافع خفية، ولكن الكثير من السلوك البشري يقوم على التقييم المدروس للأفعال البديلة. إذا كان دافع الفعل هو أيضا سببه، فإنه ربما يكون سلوكا عقلانيا (ديفيدسون 1982). ولكي يحقق برنامج ويلسون النجاح، يجب أن يبقى بعيدا عن الحتمية البحتة، التي تقضي بإسناد جين محدد لكل نوع من أنواع السلوك، كما يجب على علم الأحياء الاجتماعي أن يتجنب الوقوع في الفرضية المبتذلة التي مفادها أن تشكيلنا البيولوجي يفرض قيودا على سلوكنا الاجتماعي (ستيرلني 1988، 539)؛ فبما أن البشر لا يستطيعون التسلق على نحو جيد للغاية، فإنهم يفضلون أكل وجباتهم تحت الأشجار وليس فوقها. يجب على علم الأحياء الاجتماعي القابل للتطبيق أن يشير إلى أكثر من تلك القيود البيولوجية. من الواضح إلى حد ما أن تشكيل كل كائن حي يضع قيودا على مجال أفعاله؛ فما الاتجاه الأكثر فائدة الذي ينبغي اتباعه؟
كرس ويلسون نفسه من خلال تعريفه لعلم الأحياء الاجتماعي لبرنامج قوي، يشير إلى أن الرابط الوراثي دائما أفضل من التفسير غير البيولوجي. وبناء على ذلك:
لا يمكن استبعاد تأثير العوامل الوراثية في تبني أدوار «كبيرة» معينة. (ويلسون 1980، 279)
على الرغم من وجود الكثير من التذبذب في كتابات ويلسون بشأن ثبات السلوك البشري، فإن التوصيف الأكثر تجانسا مع برنامجه يكمن في الفكرة الإطارية:
لا تملى التفاصيل الإثنوجرافية على نحو وراثي، مما يؤدي إلى قدر كبير من التنوع بين المجتمعات. ولا يعني هذا أن الثقافة تحررت من الجينات؛ فما تطور هو القدرة على صنع الثقافة؛ في الواقع، الاتجاه السائد لتطوير ثقافة واحدة أو أخرى. (ويلسون 1980، 284)
هذا التأكيد على «الفكرة الإطارية» لعلم الأحياء الاجتماعي يذكرنا بآراء داروين في «أصل الإنسان»:
يصاغ كل شخص من خلال التفاعل بين بيئته - لا سيما بيئته الثقافية - مع الجينات التي تؤثر على السلوك الاجتماعي. (ويلسون 1978، 18)
ويفترض ويلسون أنه على الرغم من العدوانية الفطرية (المفترضة) لدى البشر، فإنه يمكن عكس تطور الحرب وإخضاعها لسيطرة الإدارة العقلانية للصراع (ويلسون 1978، 119-120). وهكذا، يبدو ويلسون نفسه متوجها نحو منطقة وسط بين الطبيعة والتنشئة (انظر بينكر 2004؛ ريدلي 2003). ويصوغ هذا الموقف الوسط الجينات في دور الإطار العام المتوافق مع الأنواع المختلفة من المظاهر الثقافية. على سبيل المثال، جميع البشر قادرون على تعلم لغة ما، ولكن اللغة التي يتعلمونها تعتمد على الظروف الثقافية. لم يتتبع ويلسون عواقب هذا الموقف الوسط. كان هذا من شأنه أن يؤثر على فهمه للجذور البيولوجية للسلوك الاجتماعي. ومن شأنه أيضا أن يؤدي إلى تعديل أطروحاته المتطرفة بشأن دمج العلوم الاجتماعية في علم الأحياء الاجتماعي. يميل متخصصو علم الأحياء الاجتماعي المؤمنون بأفكار ويلسون إلى إساءة فهم موضوع العلوم الاجتماعية؛ إذ يفشلون على سبيل المثال في التمييز المناسب بين أنواع السلوك المختلفة.
تأمل التمييز بين السلوك «القهري» و«الاجتماعي»؛ فالسلوك الاجتماعي وحده له بعد أخلاقي ورمزي؛ لأنه يحتوي على عنصر اختيار الفعل. يستطيع البشر تقييم النتائج المحتملة لأفعالهم. وحيثما تؤثر اختياراتهم على رفاهية الآخرين، يمكن اعتبار أفعالهم صحيحة أو خاطئة أخلاقيا. ويعد السلوك الاجتماعي أيضا قابلا للتكيف مع البيئة الطبيعية والثقافية، ومن ثم يمكن تعلمه. بيد أن السلوك القهري يفتقر على نحو رئيسي إلى هذا البعد الخاص بالاختيار والقدرة على التكيف؛ فمن غير الصحيح الإشارة (كما هي الحال لدى روس (1979)) إلى أن الفصام والاكتئاب الهوسي أمثلة للسلوك الاجتماعي الذي يقدم دليلا إيجابيا لعلم الأحياء الاجتماعي. لا شك في امتلاك هذين المثالين للسلوك القهري مكونات وراثية قوية ولكنهما ليسا من أنواع السلوك الاجتماعي؛ فهما لا يتغيران بتغير البيئة ولا يمثلان موضوعين لعمليات التعلم، وهما ليسا جزءا من أنظمة داخلية.
بعد أن تدربنا على سرد حجج النهج التفسيري، يمكننا إعادة بناء رد عالم الاجتماع على علم الأحياء الاجتماعي. عارض عالم الأنثروبولوجيا مارشال سالينز علم الأحياء الاجتماعي مشيرا إلى أن الحدث الرمزي يمثل انقطاعا جذريا بين الثقافة والطبيعة (سالينز 1976، 12). يعرف البشر في سياق الصفات الرمزية، بحيث يوجد تداخل أساسي بين الطبيعة البشرية وتعبيرها الثقافي (سالينز 1976، 61). إذا كانت الثقافة عبارة عن «بيولوجيا بالإضافة إلى قدرات رمزية»، كما يقترح سالينز، فإن البيولوجيا ليست إلا شرطا ضروريا - وليس شرطا كافيا أبدا - للسلوك الاجتماعي لدى البشر (سالينز 1976، 65-67).
يبدو أن ويلسون في العديد من فقراته يستبق الموقف الوسط الذي يقترحه العديد من نقاده (انظر روس 1979، 8-2؛ ستيرلني 1988، 552-554؛ بينكر 2004؛ ريدلي 2003). الفكرة مقنعة؛ فالجينات لا تحدد السلوك الاجتماعي أو حتى أنواع السلوك الاجتماعي؛ بل توفر القدرات التي يمكن في إطارها ملاءمة مختلف مظاهر السلوك. يرى اللغوي نعوم تشومسكي أن البشر يمتلكون قدرات لغوية فطرية، تظهر نفسها بمئات من الطرق الملموسة المختلفة للتحدث بلغة بشرية. وهكذا، فإن الجينات تصوغ القدرات البشرية، في حين تحدد الثقافة السمات الفردية:
وهكذا يمكن النظر إلى السلوك البشري على أنه تكيف بيولوجي، وهو ما يريده متخصصو علم الأحياء الاجتماعي، ولكنه يتأثر سببيا على نحو حيوي بالتعلم، وهو ما يريده مؤيدو الثقافوية. (روس 1979، 160)
وتتكرر هذه العبارات في أعمال ويلسون؛ إذ يقول:
يتحدد شكل وشدة الأعمال الإيثارية إلى حد بعيد ثقافيا. ومن الواضح أن التطور الاجتماعي البشري ثقافي أكثر من كونه وراثيا. المغزى هو أن المشاعر الكامنة، التي تجلت بقوة في جميع المجتمعات البشرية تقريبا، هي ما يتطور عن طريق الجينات. (ويلسون 1978، 153)
تفرض الجينات قيودا على السلوك الاجتماعي البشري؛ لأنها «تربط الثقافة برسن طويل» (ويلسون 1978، 167). يجب فصل العام عن الخاص، مثلما تتمايز القواعد اللغوية العامة - التي يتشارك فيها جميع البشر المتكلمين - إلى قواعد لغاتنا الأم الخاصة. يكمن الضعف القاتل لبرنامج ويلسون الشامل في تذبذبه بين المواقف غير المتوافقة: هل تفرض طبيعتنا البيولوجية قيودا قوية أم ضعيفة على السلوك الاجتماعي؟ لنقل إن الفكرة الإطارية تظل قائمة: الجينات مسئولة عن القدرات، ولكن الجينات لا تحدد السلوك العقلاني. يمكن لعلماء الاجتماع التسليم بهذه النقطة دون الاعتراف بأن هذا القبول يقلل من أهمية العلوم الاجتماعية. على العكس من ذلك؛ فالقدرات تحتاج إلى صياغة، والعلوم الاجتماعية ستحتاج إلى توضيح جميع الشروط الكافية اللازمة لتحويل القدرات إلى أشكال ثقافية. وخلافا لاقتراح ويلسون (1980، 4) فالعلوم الاجتماعية ليست «الفروع الأخيرة لعلم الأحياء التي تنتظر أن تدرج في النظرية التركيبية الحديثة.» ومع ذلك، فإنه من المفيد متابعة مسألة هل كان السلوك الاجتماعي له جذور بيولوجية أم لا. في نهاية ثمانينيات القرن العشرين لم تكن ثورة «علم الأحياء الاجتماعي» بادية في الأفق. وسرعان ما فقد علم الأحياء الاجتماعي جاذبيته؛ فقد كان في العقلية الشعبية حافلا للغاية بالحتمية الوراثية، ولكن أفكار هذا البرنامج لم تذبل. وسريعا عاد البرنامج تحت مسمى جديد: علم النفس التطوري. وحمل مشعل الدفاع عن علم الأحياء الاجتماعي. وفي عملية التكيف هذه، قدم التزامات فلسفية أكثر اتساعا. (5-2) علم النفس التطوري (...) كل شيء - من أكثر الفروق دقة في أداء ريتشارد شتراوس الأخير للسمفونية الخامسة لبيتهوفن إلى وجود أملاح الكالسيوم في عظامه عند الولادة - محدد تماما وبالدرجة نفسها بالضبط وراثيا وبيئيا. (توبي/كوزميدس 1995، 83-84)
لم يكن لدى علماء الاجتماع أمثال دوركايم وفيبر مساحة لعلم الأحياء في نظرياتهم الاجتماعية. على النقيض من ذلك، يبدو أن فرويد استمع إلى تنبؤ داروين؛ فقد قدم التحليل النفسي كنظرية تستند في النهاية إلى أسس بيولوجية. يدين علم النفس التطوري بالفضل كثيرا للمبادئ الداروينية. ويسعى علم النفس التطوري إلى إنشاء رابطة وثيقة بين التطور والعلوم الاجتماعية. في الواقع، يلتزم كل من علم الأحياء الاجتماعي وعلم النفس التطوري بتوحيد العلوم الاجتماعية مع علم الأحياء التطوري. لا يزال حلم الثورة الرابعة حيا؛ فإذا أصبحت العلوم الاجتماعية فرعا متخصصا في علم الأحياء، فإن الاستقلال التقليدي للعلوم الاجتماعية سينتهي. هل ينجح علم النفس التطوري فيما فشل فيه برنامج ويلسون بسبب التذبذب؟ على المستوى الفلسفي، يستخدم علم النفس التطوري إجراء أكثر كفاءة، رأينا تطبيقه من قبل. يدعي علم النفس التطوري أن العلوم الاجتماعية التقليدية قد فشلت. ما الخطأ في نموذج العلوم الاجتماعية القياسي؟ كما رأينا، فإن الفرضية المركزية للعلوم الاجتماعية هي أن الحقائق الاجتماعية تصوغ طبيعة بشرية مرنة. بالنسبة لنموذج العلوم الاجتماعية القياسي فإن التنشئة أكثر أهمية بكثير من الطبيعة. ولا يلتزم نموذج العلوم الاجتماعية القياسي بالضرورة بوجهة نظر لوك التي تقضي بأن العقل البشري سجل فارغ، تترك الثقافة بصماتها عليه. تحت فكرة ويلسون الإطارية يستطيع نموذج العلوم الاجتماعية القياسي أن يقر بوجود آليات ذات أغراض عامة في العقل، ومع ذلك، فهذه القدرات الوراثية العامة لا تصرف الانتباه عن دور الثقافة، ولكن وفقا لعلم النفس التطوري، تواجه العلوم الاجتماعية التقليدية مشكلة لا يمكن التغلب عليها؛ فلا يستطيع نموذج العلوم الاجتماعية القياسي أن يفسر كيف تحل العناصر الاجتماعية مجموعة من المهام المعقدة. استخدم نعوم تشومسكي حجة مماثلة في نقده للتفسيرات السلوكية لتعلم اللغة. وقال تشومسكي إنه لا يمكن تفسير إتقان طفل صغير اللغة البشرية في سياق آليات التغذية الراجعة والاستجابة. وتتمثل العقبة التي تعترض سبيل آليات التعلم هذه في التعقيد النحوي والدلالي للغات البشرية. ويستنتج أنصار علم النفس التطوري من الفشل المزعوم لنموذج العلوم الاجتماعية القياسي الحاجة إلى نموذج جديد للعلوم الاجتماعية، ويطلقون عليه «النموذج السببي المتكامل». ما القدرات والملكات البشرية التي تمكنهم من حل المهام المعقدة في العالم المادي والاجتماعي؟ يذكر أنصار علم النفس التطوري (كوزميدس/توبي 1998، 9، 11؛ توبي/كوزميدس 1995، 121، 123) القدرات الآتية على سبيل المثال:
القدرة على تعلم اللغات الرمزية.
القدرة على التفكير واستخلاص الاستنتاجات.
القدرة على فهم العالم المادي.
القدرة على توقع المستقبل.
القدرة على تنظيم الحياة الاجتماعية.
القدرة على ممارسة تفضيلات التزاوج وتناول الأطعمة.
قدرة الرضع على التعرف على الوجوه.
يتمثل الادعاء المعرفي لعلم النفس التطوري في أن النموذج السببي المتكامل وحده هو الذي يستطيع تفسير المهام المعقدة التي يقوم بها البشر على نحو روتيني.
قبل أن نتناول الادعاءات الواقعية لعلم النفس التطوري، لنتناول بإيجاز نسخة «معدلة» من نموذج العلوم الاجتماعية القياسي. ينبغي أن نلاحظ أن ثمة مجالات واسعة من الحياة الاجتماعية يمكن دراستها بعيدا عن أي أسس بيولوجية للطبيعة البشرية (الحياة الاقتصادية، البنية الاجتماعية، المؤسسات الثقافية). تقبل هذه النسخة المعدلة - التي ظهرت بالفعل كرد فعل تجاه علم الأحياء الاجتماعي - أن الطبيعة البشرية ربما يكون لها دور أكبر في العلوم الاجتماعية من الدور الذي كان دوركايم على استعداد لقبوله . تخضع الحيوانات لسيطرة تامة من قبل طبيعتها البيولوجية (الغرائز)، ولكن السلوك البشري تحدده الثقافة إلى حد بعيد، وإن كان ذلك في حدود القيود البيولوجية. وفي هذا السياق، تعرف الثقافة على نحو فضفاض بأنها وجود نظم من القواعد والقيم والرموز مستقلة إلى حد بعيد. يكون بعض هذه المنتجات الثقافية محددا في سياق معين، ولكن كما أظهرت الحجج ضد النسبوية، تتشاطر الإنسانية أيضا مجموعة مشتركة من القدرات والممارسات؛ فالبنية الجينية للبشر تفرض قيودا، تقدم نفسها كقدرات ونزعات تتطلب مدخلات ثقافية كي تظهر نفسها. ثمة سبب للاعتقاد بأن وجهة النظر المعدلة تلك بشأن نموذج العلوم الاجتماعية القياسي يمكن أن تؤدي المهمة المطلوبة منها (ريدلي 2003).
هذه هي النواة المشتركة للقدرات البشرية التي تركز عليها ادعاءات علم النفس التطوري. يرى علم النفس التطوري أن العلوم الاجتماعية التقليدية فشلت بسبب إهمالها للأبعاد البيولوجية للوجود البشري؛ ولذلك ينبغي أن تستند العلوم الاجتماعية إلى نظرية التطور، ولكن بينما اعتنق علم الأحياء الاجتماعي التزامات فلسفية بالاختزالية غامضة إلى حد ما، يعد علم النفس التطوري أكثر دقة فلسفيا لسببين؛ أولا: يتبنى أنصار علم النفس التطوري التوجه الذهني الاستدلالي الصحيح؛ فمن وجهة نظر الاستقراء الإقصائي، الاستدلال على النموذج السببي المتكامل يمثل استراتيجية صحيحة، إذا فشل نموذج العلوم الاجتماعية القياسي بالفعل (شكل
3-5 )، ولكن فشل نموذج ما، مثل نموذج العلوم الاجتماعية القياسي، لا يعطي تلقائيا مصداقية للنموذج المنافس. يحتاج النموذج المنافس، مثل علم النفس التطوري، إلى تقديم أدلة مستقلة على ادعاءاته؛ أدلة لا تتفق مع النموذج المنافس. فرقنا في فصل سابق بين «الاستدلالات المقبولة والمسموح بها». واعتبرنا الاستدلال على التصميم الذكي استدلالا مسموحا به لكنه غير مقبول؛ لأنه لا يمكن أن يوجد دليل تجريبي على وجود مصمم ذكي. وبما أن علم النفس التطوري يستند إلى نظرية التطور، فإنه يسمح لنفسه باستدلال مقبول من السلوك «المرصود» إلى بنيات عقلية «غير قابلة للرصد». إذا كان يمكن إثبات أن الأدلة تنفي مصداقية نموذج العلوم الاجتماعية القياسي وتؤكد مصداقية النموذج المنافس - علم النفس التطوري - فإن هذا يمثل استدلالا مقبولا، ومع ذلك، فإننا نتذكر من المناقشات المنهجية لهكسلي وهيكل أن النموذج المفضل يجب أن يجد أدلة داعمة، على سبيل المثال في شكل نتائج استنتاجية أو استقرائية.
شكل 3-5: استدلالات من الأدلة للنماذج المتنافسة.
ثمة سبب آخر وراء كون علم النفس التطوري حل محل علم الأحياء الاجتماعي، وهو أنه يقر بفلسفة للعقل. وفلسفته للعقل افتراض مسبق، منفتح على النقد. ويمكن التعبير عن وجهة نظره إزاء العقل على أفضل وجه عن طريق القياس؛ وجهة نظر تعدد الاستخدامات حيال العقل (دينيت 1995). ووفقا لهذا الرأي، جهز المخ البشري بالعديد من الآليات ذات الأغراض المخصصة (دوائر عصبية)، وتسمى أيضا «وحدات». يؤيد علم النفس التطوري أيضا المادية القوية للداروينيين. ويدعي الداروينيون أن هذه الآليات تطورت لحل المشكلات التكيفية التي واجهها أسلافنا في ماضينا التطوري. تأمل على سبيل المثال غريزة التفكير. تطورت هذه الغريزة كاستجابة لمشكلات معينة في بيئة أسلافنا البعيدين:
العقل هو مجموعة من آلات معالجة المعلومات التي صممها الانتقاء الطبيعي لحل المشكلات التكيفية التي واجهها أسلافنا الذين عاشوا على الجمع والالتقاط. (كوزميدس/توبي 1998، 1؛ انظر روز/روز 2001 للاطلاع على هجوم مستمر على علم النفس التطوري من وجهات نظر مختلفة.)
شحذت الدوائر العصبية - أو الوحدات - المختلفة لحل مشكلات التكيف المختلفة. إن افتراض وجود شبكة من الدوائر العصبية في المخ أبعد ما يكون عن قبول الآليات ذات الأغراض العامة في النسخة المعدلة من نموذج العلوم الاجتماعية القياسي. بسبب بطء التطور، تأوي جماجمنا، الحديثة، عقلا من العصر الحجري؛ ولذلك فإن مؤيدي علم النفس التطوري يعتبرون أن بنيتنا الذهنية نصبتها القوى التطورية. إن تدرج الآلية التطورية يجعل الحضارة الغربية الممتدة على مدار ألفي عام مجرد طرفة عين في السياق التطوري. وفي استناد واضح لفرويد، يرى أنصار علم النفس التطوري أيضا أن معظم ما يدور في أذهاننا مخفي عن نظرتنا الواعية، ولكن اللاوعي ليس شيطانا شريرا، بل هو عبارة عن شبكة من الدوائر العصبية.
كان فرويد سيتعاطف مع العالمية المتأصلة في هذا الرأي؛ فكل الأنواع لديها بنية عالمية نموذجية متطورة . إنها بنية فطرية، بمعنى أن التطور هو الذي صاغها. إن علم النفس التطوري موقف يتبنى رأي كانط لكن في عباءة تطورية؛ لأنه يفترض وجود بنيات «فطرية» عالمية سابقة الوجود (انظر راتكليف 2005، 53-54)، ولكن يتجنب علم النفس التطوري شكلا صريحا من أشكال الحتمية. تتطلب البنية الذهنية العالمية خصوصية معينة لتنفيذها. وتؤدي الظروف الاجتماعية المختلفة إلى مظاهر ثقافية مختلفة لعلم النفس الأساسي الناشئ. إن علم النفس التطوري يتبع نهجا يسير من أسفل إلى أعلى، تكون فيه البنية الناشئة هي الأساس الذي تقوم عليه الخصائص السلوكية.
إن الإجراء المنهجي الذي اعتمده أنصار علم النفس التطوري يذكرنا بالممارسات الاستدلالية في تاريخ العلم. يدعى أن علم النفس التطوري استدلال لأفضل تفسير. وكما رأينا، توصل فرويد لاستدلالات مماثلة: من السلوك المعقد الظاهر إلى البنية الذهنية اللاواعية، كما أوضحت حجج فرويد أيضا الخطأ الكامن في الاستدلال لأفضل تفسير؛ فيجب ألا يكون استدلالا لأفضل تفسير وحسب، ولكن لأفضل تفسير مقارن.
يتأثر علم النفس التطوري على نحو خطير بمشكلة الكيانات غير المرصودة، مثل قريبه الفرويدي. وهو على شفا انتهاك مبدأ شفرة أوكام: «الكيانات لا يجب أن تتضاعف أكثر مما هو ضروري.» بعبارات حديثة، تتلخص شفرة أوكام في التوصية بأنه يجب على الباحثين اختيار أبسط فرضية تناسب الحقائق. ويضاعف المدافعون عن علم النفس التطوري الوحدات العقلية لتتبع القدرات البشرية. ربما كان صحيحا أنه لا يمكن فهم العقل دون علم الأحياء، ولكن ثمة طرق بديلة لقبول هذا الاكتشاف. يتورط علم النفس التطوري في مغالطة مركزية (دوبري 2005، 81-87). تذكر أن أحد الانتقادات الموجهة ضد التصميم الذكي - المستوحى من نيتشه - هو أننا لا نستطيع أن نستدل من وظيفة عضو بيولوجي اليوم على ما كانت عليه وظيفته الأصلية. وعلى نحو مماثل، لا يمكننا أن نستدل بسهولة من سمة «متكيفة» على التطور الجيني؛ فبالقيام بهذا الاستدلال نستبعد إمكانية التطور «الثقافي»؛ أي انتقال السلوك والصفات من خلال عمليات التعلم. ومن خلال تبني وجهة نظر وظيفية في فلسفة العقل كفرضية مسبقة، فإن علم النفس التطوري يفترض وجود تطابق بين الدوائر العصبية والقدرات البشرية الخاصة بحل المشكلات بنسبة واحد إلى واحد. المرء «يستطيع أن ينظر إلى المخ على أنه مجموعة من أجهزة كمبيوتر مصغرة مخصصة «تتكامل عملياتها وظيفيا» لإنتاج السلوك» (كوزميدس/توبي 1998، 8-9). ومع ذلك، هذا يستلزم وجود ثنائية العقل والمخ بدلا من حلها. يعرف البشر إلى حد بعيد في سياق الصفات الرمزية. ولا يمكننا ببساطة أن نفترض ربط جزء من الآلة العصبية بنوع معين من البنيات العقلية، مما يؤدي إلى سلوك اجتماعي هادف. يمثل علم النفس التطوري برنامجا بحثيا بديلا لا يزال مضطرا لتقديم أوراق اعتماده. (6) فرويد وثورات الفكر
هذا الرجل العجوز (...) كان لديه بصر حاد، فلم يخدعه إلا وهم الإيمان المبالغ فيه بأفكاره. (أينشتاين متحدثا عن فرويد، مقتبسة في بايز 1982، 515)
ثمة تناقضات مذهلة في استقبال الجمهور للأفكار الخاطئة في تاريخ العلم، ومن النادر أن تجتذب فكرة علمية منزوعة المصداقية انتباه الصحفيين، وقد تعرضت شخصيات مهمة في تاريخ العلم، مثل بطليموس ولامارك، للتجاهل لصالح أبطال العلم الرسميين. يظهر الاستعراض الأخير لأفكار فرويد - بمناسبة الذكرى المائة والخمسين لميلاده (6 مايو 1856) - أن فرويد اكتسب تاريخه الصحفي الخاص. لم يثن الوضع العلمي المشكوك فيه لأفكار فرويد الكتاب الصحيفين وفي المجلات عن الاحتفاء بإنجازات فرويد؛ فعلى مدى سنوات عديدة أخبرت المجلات الإخبارية الدولية - لو بوينت، ودير شبيجل، وداي زيت، وتايم - وصحيفة صانداي وساينتيفيك أمريكان القراء بثروات نظرية فرويد. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية كان الاتجاه العام هو إعلان زوال نظرية فرويد، وقد دفع نشر كتاب «الكتاب الأسود للتحليل النفسي» (ماير 2005) مجلة لو بوينت إلى طرح سؤال: «هل ينبغي أن نتخلص من فرويد؟» ولكن المقالات التي نشرت بمناسبة الذكرى المائة والخمسين لميلاد فرويد قدمت تقييما أكثر تفاؤلا. على ما يبدو أن أفكار فرويد أصبحت أكثر رواجا مرة أخرى. من المتفق عليه أن بعض أفكاره، مثل آرائه بشأن الحياة الجنسية للأنثى، منزوعة المصداقية، ولكن يقال إن بعض أفكاره الأساسية قابلة للاختبار (انظر سولمز 2004؛ كروز 1997؛ جرونباوم 1977أ، ب؛ 1979). على سبيل المثال، يرجع الفضل إلى فرويد في اكتشاف الآليات اللاواعية للكثير من سلوكنا. ويدعي بعض الباحثين، مثل مارك سولمز (2004)، أن نظرة فرويد للأحلام على أنها إشباع للرغبات ربما تكون صحيحة رغم كل شيء. ما أنقذ من فرويد هو إطار عام؛ نموذج. فعلى سبيل المثال، يتحدث علماء النفس التطوريون عن الآليات العصبية الكامنة وراء سلوكنا الواعي، لكن تفاصيل نماذجهم تختلف كثيرا عن أفكار فرويد الأصلية، والبعض الآخر لا يزال معاديا لفرويد كما كان دائما. بالنسبة لهم إعادة إحياء أفكار فرويد لا تستحق الجهد المبذول؛ فقد جردت من المصداقية وحري بنا أن نبدأ بداية جديدة .
أحدث نشر هذا الكتاب في عام 2005 تحولا كبيرا في فرنسا بعيدا عن القبول الأعمى للتحليل النفسي لفرويد.
مهما كان الموقف الذي يتخذه الفرد تجاه فرويد «العالم»، فمن المتفق عليه عموما أنه كان شخصية عظيمة في تاريخ الأفكار. أعلن توماس مان أن «فكرة التحليل النفسي فكرة مغيرة للعالم» (مان 1936، 150). ترك تأثير فرويد كصائغ للأفكار آثارا في عالم الفنون (جيمس جويس، وفيرجينيا وولف). لو أن فرويد أعاد رسم الخريطة النفسية للطبيعة البشرية، فهل سيعتبر - رغم كل شيء - ركيزة من ركائز فكر التنوير، وليس مخادعا بالعلوم الزائفة؟ (سيوفي 1970). عنون هذا الفصل بأكمله بعنوان فرعي هو «فقدان الشفافية». كان هذا العنوان الفرعي يشير إلى أن فرويد قلص مجال التفكير العقلاني - بوصفه مسرحا للفعل الإنساني - إلى حجم وجده العديد من فلاسفة التنوير غير مقبول، ولكن هابرماس والمعلقون الثقافيون غالبا ما يربطون إنجاز فرويد بمشروع التنوير (هابرماس 1968؛ 1970). تكمن أهمية نموذج فرويد بالنسبة لهابرماس في طريقة جمعه بين الفهم والتفسير؛ فمن ناحية، يوجد مستوى التأويل، الذي يدفعه المظهر الرمزي للدوافع اللاواعية؛ ومن ناحية أخرى، هذه الدوافع ليست متاحة للمريض على نحو واع؛ فوفقا لفرويد، تعد هذه الدوافع بمنزلة أسباب تتطلب تفسيرا (هابرماس 1968 (1972)، الجزء الثالث، الفصلان العاشر والحادي عشر؛ 1970، 297-298 (1988، 180-181)؛ 1983، 214). ليس «الفهم» في حد ذاته منهجا كافيا، بل إنه في الواقع ليس منهجا خاصا بالعلوم الاجتماعية على الإطلاق، ولكن التفسير لا يمكن أن يكون كافيا لموضوع العلوم الاجتماعية أيضا، بسبب كلية وجود التفسير المزدوج في العالم الاجتماعي (هابرماس 1970، 281، 289 (1988، 167، 174))، ولكن هابرماس يأخذ إصرار فرويد على الطبيعة العلمية لنموذج الشخصية الخاص به على محمل الجد كثيرا. وكما رأينا، فإن مستوى تفسير البيانات يسبب بالفعل مشكلات كبيرة؛ لأن تفسير الأحلام والأعراض الأخرى للاضطرابات النفسية ليس ثابتا، ولا تخضع الدوافع اللاواعية لعلاقات إثباتية غير مفسرة.
ولكن ربما يتواصل عزو الفضل إلى فرويد في أنه بين لنا كيفية إجراء حوار متحرر وخال من الشعور بالذنب بشأن الحياة الجنسية البشرية دون خجل، كما حررنا من أغلال القمع الجنسي، وقد فتح تحليله النفسي أعيننا على الدافع اللاواعي للسلوك البشري، الذي غالبا ما يكون دافعا جنسيا؛ فرغم كل شيء، كان تسليط الضوء على الأركان المظلمة في وجودنا هو التركيز الرئيسي للتنوير. بأي معنى إذا يمكننا أن نتكلم عن فقدان الشفافية؟ يوجهنا الجواب على هذا السؤال مرة أخرى إلى تقييم الوضع العلمي لنظرية فرويد. الفرويديون الجدد يعاملون نظرية فرويد على الأقل كنظرية إطارية جادة، كنموذج يقدم شيئا إضافيا من أجل تأمل الذات (هابرماس 1968 (1972)، الجزء الثالث؛ سولمز 2004). ويرى مناهضو الفرويدية أن جهود فرويد ليست سوى خداع مبني على علم زائف. من على حق؟ تجنبنا في هذا الفصل تقديم إجابة مسبقة على هذا السؤال. لقد درسنا ممارسات فرويد الاستدلالية ووجدنا أنها ناقصة. ذهب فرويد إلى أن دراسات حالته قدمت أدلة داعمة لنموذجه التحليلي النفسي، ولكن دلائله ضعيفة وغامضة على حد سواء؛ فالزلات الفرويدية، وتحليل الأحلام، والتداعي الحر ليست لاواعية ولا تحدث بين العقول الواعية، وبيانات الأحلام ليست حقائق تجريبية صلبة؛ فالحلم يظل في حاجة إلى تفسير. وإذا كان التفسير يقدمه التحليل النفسي، فإن بيانات الحلم لا يمكن أن تكون بمثابة تأكيد أو نفي. كان فرويد سيسهم في تحقيق اكتساب للشفافية بدلا من فقدان الشفافية لو كانت آراؤه قد حظيت بالمصداقية العلمية، ولكن كما يتضح، لم يقدم فرويد أي دليل داعم لنظريته. يمكن الحصول على مثل هذه الأدلة يوما ما في المختبر، ولكن ما دمنا لم نشهد هذا اليوم بعد، يبقى فرويد ثوريا في تاريخ الفكر وليس تاريخ العلم. (6-1) ثورات في الفكر مقابل ثورات في العلم
تناولنا في الفصلين السابقين بعض معايير الثورة العلمية، وتفي الفرويدية ببعض هذه المعايير؛ أولا: غير فرويد المنظور؛ فقال إن علينا أن ننظر إلى البشر من وجهة نظر دوافعهم اللاواعية، وليس من ناحية عقلانيتهم. وحقق ابتكارا مفاهيميا غير مسبوق، حيث أشار إلى أن اللاوعي يتسم بالدينامية. ثانيا: بالمعنى الواسع، يمكن القول إن فرويد قدم بعض التقنيات الجديدة في دراسة الظواهر العقلية، لكن بالحديث عن العلاج، فإن التداعي الحر والتفسيرات إجراءات نوعية محفوفة بالصعوبات. لا يبدو أن هذه التقنيات مستقلة عن النظرية التي تستخدمها لدعم ادعاءاتها. وفيما يتعلق بهذه المعايير، فإننا أشرنا إلى وجوب أن تكون النظرية الجديدة تفسيرية أيضا؛ فيجب أن تحل بعض المشكلات المعلقة، وتقدم بعض المكاسب التفسيرية. كانت قدرة نظرية فرويد على حل المشكلات هي التي جذبت الكثير من الانتقادات. وتؤثر ندرة الأدلة الداعمة لادعاءات فرويد على توزيع المصداقية على مساحة النموذج. تفشل الأدلة النوعية في إضفاء المصداقية على النموذج الفرويدي مع نزع المصداقية عن النماذج المنافسة. ولا يمكن أن يوصف نموذج فرويد بأنه نموذج تفسيري. ويتعلق الجانب الثالث من الثورة العلمية بظهور نهج جديد من خلال تحولات تسلسل الاستدلال، ومع ذلك، يفتقر هذا النهج الجديد إلى قدرات حل المشكلات التي تتمتع بها الكوبرنيكية والداروينية. رابعا: كان يوجد تقارب بين آراء الخبراء بشأن النهج الجديد. تختلف حالة فرويد عن حالة كوبرنيكوس وداروين؛ فبعد مائة وخمسين عاما على ميلاد فرويد، لا يزال العالم منقسما إزاء ادعاءاته، وهذا يعني أن الجانب الرئيسي لتقارب الآراء لا يزال مفقودا من تاريخ نظرية فرويد. ولا تجمع الأدلة على صحة نموذج فرويد ولا على صحة أي نماذج بديلة على الأقل في المجتمع العلمي. إذا فشل فرويد بوصفه صاحب ثورة علمية، فقد نجح بوصفه صاحب ثورة في الفكر؛ فقد اخترقت مصطلحات فرويد وأفكاره بالتأكيد المجال الثقافي، وأوجد فرويد «الإنسان النفساني».
أسئلة مقالية (1)
اشرح فرضية فرويد بشأن «الحتمية النفسية»، وقيم الآثار المترتبة على هذه الفرضية بالنسبة للمكانة العلمية للتحليل النفسي الفرويدي. (2)
هل يفي «النموذج الفرويدي» للعقل بأي معايير للمكانة العلمية؟ (3)
اشرح وقيم «ادعاء فرويد» بأنه أكمل الثورة الكوبرنيكية. (4)
اشرح بنية «الفرويدية». ما الذي يدعم النظرية وما الذي يناهضها؟ (5)
هل توصف الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية على نحو أفضل عندما توصف بأنها مثال على «قابلية الدحض» أم «الاستقراء الإقصائي»؟ (6)
ماذا يعني الالتزام ب «العلموية» بالنسبة لنظريات فرويد للتحليل النفسي؟ (7)
لماذا يوجد خلاف بشأن كون «نظرية فرويد» علمية أم لا؟ (8)
ألا يمكن أن نعتبر نظرية فرويد مجرد «نموذج»؟ ما الآثار المترتبة على هذا القرار بالنسبة لمكانة التحليل النفسي؟ (9)
ناقش على نحو نقدي «ادعاء فرويد» أننا «لسنا مسيطرين على زمام الأمور حتى في أجسادنا». (10)
ناقش على نحو نقدي فكرة «اللاوعي» في سياق نظرية فرويد. (11)
هل من المعقول التمييز بين «الثورات العلمية» و«الثورات الفكرية»؟ اشرح إجابتك. (12)
اشرح الإنجازات الرئيسية «للثورات الكوبرنيكية» و«الداروينية» و«الفرويدية»، على الترتيب. (13)
اشرح كيف تنشأ قضايا «الذرائعية» و«الواقعية»، على نحو منفصل، في الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية. (14)
لماذا تظهر قضية «الواقعية مقابل الذرائعية» في الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية على حد سواء؟ (15)
حلل التحدي الذي يطرحه النموذج الفرويدي للعقل على آراء «التنوير» بشأن الطبيعة البشرية. (16)
اشرح بنية «علم النفس التطوري». (17)
اشرح لماذا يؤكد «علم النفس التطوري» على عالمية العقل البشري. (18)
ناقش أوجه التشابه والاختلاف بين «علم الأحياء الاجتماعي» و«علم النفس التطوري». (19)
اذكر الاختلافات الرئيسية بين النموذج «التفسيري» والنموذج «التجريبي» في العلوم الاجتماعية، وقيم نقاط القوة والضعف في كل منهما. (20)
ناقش ووضح أهمية «الأنماط المثالية» كأداة في العلوم الاجتماعية. كيف ترتبط الأنماط المثالية بالنموذج «التجريبي» و«التفسيري»؟ (21)
استخدم أمثلة من علم الفلك وعلم الأحياء والعلوم الاجتماعية لتقييم مدى ملاءمة الاستقراء الإقصائي. (22)
ناقش مشكلة «نقص الإثبات بالأدلة» فيما يتعلق بثلاث ثورات في الفكر. (23)
كيف تنشأ مشكلة «النسبوية» في سياق العلوم الاجتماعية؟ هل هي مشكلة زائفة؟ أم أن لها تأثيرا على العالم الاجتماعي؟ (24)
ناقش على نحو نقدي التمييز بين «التفكير الذرائعي» و«التفكير الموضوعي» في «النموذج النقدي» للعلوم الاجتماعية. (25)
ناقش على نحو نقدي آراء فيبر بشأن «الموضوعية» و«حياد القيم» في العلوم الاجتماعية. (26)
هل سيكون صحيحا أن نقول، وفقا للشمولية: إن «المجتمع أكبر من مجموع أعضائه»؟ (27)
هل سيكون صحيحا أن نقول، وفقا للفردية: إن «المجتمع ليس سوى مجموع أعضائه»؟ (28)
هل من الممكن الإجابة على «الأسئلة السببية» في العلوم الاجتماعية؟ (29)
ناقش ما تعنيه «العلموية»، كما دافع عنها كونت ودوركايم. تناول مسألة ما إذا كانت نهجا مناسبا للعلوم الاجتماعية أم لا. (30)
اشرح منهج «الفهم» لدلتاي. (31)
ما الآثار التي قد تترتب على «النسبوية» في ممارسات العلوم الاجتماعية؟ (32)
تناول بالشرح المبادئ الرئيسية «للنموذج النقدي» في العلوم الاجتماعية وناقش هل كان بإمكانه تقديم مساهمات أكثر من النماذج القياسية. (33)
اشرح «النموذج الاستدلالي الطبيعي» و«النموذج الاستقرائي الإحصائي» للتفسير العلمي. هل يمكن استخدامهما في العلوم الاجتماعية؟ (34)
لماذا يجب أن يشعر علماء الاجتماع على نحو خاص بالقلق إزاء التمييز بين «الحقائق» و«القيم» في البحث الاجتماعي؟ (35)
هل يمكن أن توجد «قوانين» في العالم الاجتماعي؟
قراءت إضافية
Abel, Th. [1948]: “The Operation called
Verstehen ,”
American Journal of Sociology
54 , 211-18.
Apel, K. O. [1979]:
Die Erklären: Verstehen-Kontroverse in transzendetnal- pragmatischer Sicht.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Barrow, J. D./F. J. Tipler [1986]:
The Anthropic Cosmological Principle.
Oxford: Oxford University Press.
Becker, G. [1986]: “The Economic Approach to Human Behaviour,” in J. Elster
ed. [1986],
Rational Choice.
London: Blackwell, 108-22.
Bhaskar, R. [1978]:
A Realist Theory of Science.
Sussex: The Harvester
Borch-Jacobsen, M. [2005]: “La querelle de la suggestion,” in C. Meyer [2005], 381-8.
Braybrooke, D. [1987]:
Englewood Cliffs, NJ:
Brown, J. A. C. [1962]:
Freud and the Post-Freudians.
Harmondsworth:
Bunge, M. [1996]:
Finding
New Haven, CT: Yale University Press.
Cioffi, C. F. [1970]: “Freud and the Idea of a
Explanations in the Behavioural Sciences.
F. Cioffi/R. Borger
eds.
Cambridge: Cambridge University
Cioffi, C. F. [2005]: “Freud, était-il un menteur?”, in C. Meyer [2005], 42-6.
Cohen, J. [2005]:
How to Read Freud.
London: Granta Books.
Comte, A. [1853]:
Cours de
Bachelier.
Cosmides, L./J. Tooby [1998]: “Evolutionary Psychology. A Primer.” Available at (
http://cogweb.ucla.edu/ep/EP-primer.html ).
Crews, F. et al. [1997]:
The Memory Wars-Freud’s Legacy in Dispute.
London: Granta Books.
Crombie, A. C. [1994]:
Styles of Scientific Reasoning in the European Tradition.
3 vols. London: Duckworth.
Dahrendorf, R. [1959]:
Class and Class Conflict in an Industrial Society.
London: Routledge.
Davidson, D. [1963]: “Actions, Reasons and Causes,” reprinted in D. Davidson [1980], 3-19.
Davidson, D. [1967]: “Causal Relations,” reprinted in D. Davidson [1980], 149-62.
Davidson, D. [1970]: “Mental Events,” reprinted in D. Davidson [1980], 207-25.
Davidson, D. [1974]: “Psychology as Philosophy,” reprinted in D. Davidson [1980], 229-39.
Davidson, D. [1980]:
Essays on Actions and Events.
Oxford: Clarendon
Davidson, D. [1982]: “Paradoxes of Irrationality,” in R. Wollheim/J. Hopkins
eds. [1982],
Freud.
Cambridge: Cambridge University Press, 289-305.
Delanty, G./P. Strydom
eds. [2003]:
Social Science.
Dennett, D. [1995]:
Darwin’s Dangerous Idea.
London:
Dilthey, W. [1883]:
An Introduction to Human Sciences , in W. Dilthey [1976], 159-67. [Translated from
Gesammelte Schriften , Vol. I, xv-xix, 14-21].
Dilthey, W. [1894]: “Ideas Concerning a Descriptive and Analytic Psychology,” in
Descriptive
, transl. M. Zaner/K. L. Heiges. The Hague: Martinus Nijhoff [1977], 21-120 [Translated from
Gesammelte Schriften , Vol. V. 139-240].
Dilthey, W. [1900]: “The Development of Hermeneutics,” in W. Dilthey [1976], 247-63. [Translated from
Gesammelte Schriften , Vol. V. 317-37].
Dilthey, W. [1906]: “The Construction of the Historical World in the Human Sciences,” in W. Dilthey [1976], 168-245 [Translated from
Gesammelte Schriften , Vol. II, 79-88, 130-66, 189-200; Vol. VII, 228-45].
Dilthey, W. [1927]: “The Understanding of Other Persons and their Expressions of Life,” in
Descriptive Psychology and Historical Understanding , transl. M. Zaner/K. L. Heiges. The Hague: Martinus Nijhoff [1977], 123-44 [Translated from
Gesammelte Schriften , Vol. VII, 205-27].
Dilthey, W. [1976]:
Selected Writings.
H. P. Rickman
ed.
Cambridge: Cambridge University
Droysen, J. G. [1858]:
Grundriß der Historik.
Reprinted in
Historik.
R. Hübner
ed.
München: Oldenburg.
Dupré, J. [2005]:
Darwin’s Legacy.
Oxford: Oxford University
Durkheim, D. [1895/1982]:
The Rules of Sociological Method.
London: Macmillan.
Durkheim, D. [1897]:
Suicide.
Suicide.
London: Routledge & Kegan Paul, 1952].
Earman, J. [1996]:
Bayes or Bust? A Critical Examination of Bayesian Confirmation Theory.
Cambridge, MA: MIT Press.
Elster, J. [1989]:
Nuts and Bolts for the Social Sciences.
Cambridge: Cambridge University Press.
Elster, J. [2007]:
Explaining Social Behavior.
Cambridge: Cambridge University
Fay, B. [1994]: “General Laws and Explaining Human Behaviour,” in M. Martin/L. C. McIntyre
eds. [1994], 91-110.
Freud, S. [1953-74]:
The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud.
James Strachley
ed.
London: The Hogarth Press.
Freud, S. [1895]: “Project for a Scientific
Freud, S. [1897]: “Letter to Fliess” (September 21, 1897), Vol. I [1966], 259-60.
Freud, S. [1900]:
The Interpretation of Dreams , Vols. IV-V [1953], 1-338, 339-621.
Freud, S. [1901a]: “On Dreams,” Vol. V [1953], 631-686.
Freud, S. [1901b]:
The
, Vol. VI [1960], 1-279.
Freud, S. [1905a]:
Three Essays on Sexuality,
Vol. VII [1953], 130-243.
Freud, S. [1905b]:
Jokes and their Relation to the Unconscious , Vol. VIII [1960], 9-236.
Freud, S. [1908]: “'Civilized’ Sexual Morality and Modern Nervousness,”
Collected Papers
II, transl. J. Riviere. London: Hogarth Press [1957], 76-99.
Freud, S. [1910]: “The Origin and Development of
A General Selection from the Works of Sigmund Freud.
J. Rickman
ed.
New York: Liveright Publishing Corporation [1957], 3-36.
Freud, S. [1913]:
Totem and Taboo , Vol. XIII [1953], 1-161.
Freud, S. [1916a]:
Introductory Lectures on Psycho-Analysis , Part I, II, Vol. XV [1961], 9-239.
Freud, S. [1916b]:
Introductory Lectures on Psycho-Analysis , Part IIII, Vol. XVI [1963], 243-463.
Freud, S. [1921]:
Group
, Vol. XVIII [1955], 69-143
Freud, S. [1927a]:
The Future of an Illusion,
Vol. XXI [1961], 5-56.
Freud, S. [1927b]: “Humour,” Vol. XXI [1961], 161-6.
Freud, S. [1930]:
Civilization and its Discontents,
Vol. XXI [1961], 64-145
Freud, S. [1931]: “Female Sexuality,” Vol. XXI [1927-31], 221-43.
Freud, S. [1937]: “Constructions in Analysis,” Vol. XXIII [1937-39], 257-69.
Freud, S. [1938]:
An Outline of
, Vol. XXIII [1964], 144-207.
Freud, S./J. Breuer [1895]:
Studies on Hysteria , Vol. II [1955], 1-305.
Freud, S./E. Oppenheim [1911]: “Dreams in Folklore,” Vol. XII [1911-13], 180-203.
Friedman, M. [1953]: “The Methodology of Positive Economics,” in
Essays in Positive Economics.
Chicago: University of Chicago Press, 3-43.
Gadamer, H. G. [
4
1975]:
Wahrheit und Methode.
Tübingen, Germany: Mohr [English translation:
Truth and Method.
London: Sheed and Ward, 1979].
Gellner, E. [
2
1993]:
The
London: Fontana
Giddens, A. [1993]:
New Rules of Sociological Method.
Cambridge: Polity
Grünbaum, A. [1977a]: “How Scientific is
Lynes
eds. [1977],
Science and Psychotherapy.
New York: Haven Publishing Corp., 219-54.
Grünbaum, A. [1977b]: “Is Psychoanalysis a
Zeitschrift für philosophische Forschung
31 , 333-53.
Grünbaum, A. [1979]: “Is Freudian Psychoanalytic Theory
American Philosophical Quarterly
16 , 131-41.
Grünbaum, A. [1985]:
The Foundations of Psychoanalysis-A Philosophical Critique.
Berkeley: University of California Press.
Habermas, J. [1968]:
Erkenntnis und Interesse.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation:
Knowledge and Human Interests.
London: Heinemann, 1972].
Habermas, J. [1970]:
Zur Logik der Sozialwissenschaften.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation:
On the Logic of the Social Sciences.
Cambridge, MA: MIT
Habermas, J. [1976]:
Zur Rekonstruktion des historischen Materialismus.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Habermas, J. [1980]: “Rekonstruktive
versus
verstehende Sozialwissenschaften,” in J. Habermas,
Moralbewußtsein und kommunikatives Handeln.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp 1983, 29-51.
Habermas, J. [1981]:
Theorie des kommunikativen Handelns.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation:
The Theory of Communicative Action. Vol. 1: Reason and the Rationalization of Society.
Boston: Beacon Press, 1984).
Habermas, J. [1983]:
Die Neue Unübersichtlichkeit.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Habermas, J. [1988]:
Nachmetaphysisches Denken.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp [English translation:
Thinking.
Oxford Polity Press, 1992).
Haeckel, E. [1929]:
The Riddle of the Universe.
London: Watts & Co. [Translation of
Die Welträtsel , 1899].
Hayek, F. A. [1955]:
The Counter-Revolution of Science.
New York: The Free
Hollis, M. [1994]:
The
Cambridge: Cambridge University Press.
Jonas, F. [1968-9]:
Geschichte der Soziologie.
4 vols. Hamburg: Rowohlt.
Kant, I. [1784]: “Was ist Aufklärung?”
Berlinische Monatsschrift (Dezember 1784), 481-94 [English translation: “What is the Enlightenment?” in Immanuel Kant,
Writings.
Cambridge: Cambridge University Press, 1991].
Kaufmann, W. [
4
1974]:
Nietzsche: Philosopher, Psychologist, Antichrist.
Kincaid, H. [1994]: “Defending Laws in the Social Sciences,” in M. Martin/L. C. McIntyre [1994], 111-30.
Kitcher, Ph. [1985]:
Vaulting Ambition: Sociobiology and the Quest for Human Nature.
Cambridge, MA: MIT Press.
Levison, A. B. [1974]:
Knowledge and Society.
New York:
Little, D. [1991]:
Varieties of Social Explanation.
Boulder, CO: Westview
Mackie, J. L. [1980]:
The Cement of the Universe.
Oxford: Clarendon
Mann, Th. [1936]: “Freud und die Zukunft,” in S. Freud,
Abriß der Psychoanalyse/Das Unbehagen in der Kultur . Frankfurt a./M.: Fischer 1970, 131-51.
Martin, M./L. C. McIntyre
eds. [1994]:
Readings in the
Cambridge, MA: MIT Press.
McIntyre, L. C. [1994]: “Complexity and Social Scientific Law,” in M. Martin/L. C. McIntyre [1994], 131-43
Merton, R. K. [1968]:
Social Theory and Social Structure.
New York: The Free
Meyer, C.
et al. [2005]:
Le Livre Noir de la
Arènes.
Milgram, S. [1974]:
Obedience to Authority.
New York: Harper Torchbooks.
Mommsen, W. [1974]:
Max Weber: Gesellschaft, Politik und Geschichte.
Frankfurt a./M.: Suhrkamp.
Motley, M. T. [1985]: “Slips of the Tongue,”
Scientific American
253 (September), 114-8.
Nagel, E. [1961]:
The Structure of Science.
London: Routledge & Kegan
Nietzsche, F. [1888]: “Ecce Homo,” in
The Complete Works of F. Nietzsche.
O. Levy
ed.
Vol. 17. New York: Russell & Russell [1964].
Nietzsche, F. [1886]: “Beyond Good and Evil,” in
The Complete Works of F. Nietzsche.
O. Levy
ed . Vol. 12. New York: Russell & Russell [1964].
For Science in the Social Sciences.
New York: St. Martin’s Press.
Economics.
Reading, MA: Addison-Wesley.
Subtle is the Lord.
Oxford: Oxford University
2
1988]:
Introduction to Personality.
New York: HarperCollins.
Away,”
Dædalus (Fall), 1-13.
The Poverty of Historicism.
London: Routledge & Kegan
3
1971]: “Die Logik der Sozialwissenschaften,” in Th. W. Adorno et al.,
Der Positivismusstreit in der deutschen Soziologie.
Neuwied/Berlin: Luchterhand 1971, 103-23 [English translation:
The Positivist Dispute in German Sociology.
London: Heinemann, 1976, 87-104].
Ratcliffe, M. [2005]: “An Epistemological Problem for Evolutionary Psychology,”
International Studies in the
19 , 47-63.
Ridley, M. [2003]:
Nature via Nurture.
London: Fourth Estate.
Rillaer, J. van [2005a]: “La mythologie de la thérapie en profondeur,” in C. Meyer [2005], 216-33.
Rillaer, J. van [2005b]: “Psychanalyse populaire et psychanalyse pour initiés,” in C. Meyer [2005], 235-41.
Rillaer, J. van [2005c]: “Les mécanismes de défense de la psychanalyse,” in C. Meyer [2005], 414-41.
Rose, H./S. Rose
eds. [2001]:
Alas, Poor Darwin: Arguments Against Evolutionary Psychology.
London: Vintage.
Rosenberg, A. [
2
1995]:
Boulder, CO: Westview
Rosenberg, A. [2004]: “Lessons from Biology for
Sciences
35 , 3-19.
Ruse, M. [1979]:
Sociobiology: Sense or Nonsense?
Dordrecht: Reidel.
Ruben, D. H. [1985]:
The Metaphysics of the Social World.
London: Routledge & Kegan Paul.
Ryan, A. [1970]:
The Philosophy of the Social Sciences.
London: Macmillan.
Sahlins, M. [1976]:
The Use and Abuse of Biology. An Anthropological Critique of Sociobiology.
Ann Arbor, MI: University of Michigan
Salmon, M. H. [2003]: “Causal Explanations of Behaviour,”
70 , 720-38.
Sayer, A. [2000]:
Realism and Social Science.
London: Sage.
Searle, J. [2004]:
Mind.
Oxford: Oxford University
Sherif, M. [1936]:
The
New York: Harper Torchbook, 1966
Shils, E. A./H. A. Finch
eds . [1949]:
The Methodology of the Social Sciences: Max Weber.
Glencoe, IL: The Free Press.
Smith, M. J. [1998]:
Social Science in Question.
London: Sage.
Solms, M. [2004]: “Freud Returns,”
Scientific American (May), 56-63.
Sterelny, K. [1988]: “Critical Notice. Kitcher, Philip,
Vaulting Ambition
1985,”
Australasian Journal of Philosophy
66 , 538-55.
Stevenson, L./D. L. Haberman [
4
2004]:
Ten Theories of Human Nature.
New York: Oxford University Press.
Sulloway, F. J. [1979]:
Freud, Biologist of the Mind.
Cambridge, MA: Harvard University Press 1992.
Sulloway, F. J. [1991]: “Reassessing Freud’s Case Histories: The Social Construction of Psychoanalysis,”
Isis
82 , 245-75.
Sulloway, F. [2005a]: “Freud recycleur: cryptobiologie et pseudoscience,” in C. Meyer [2005], 49-66.
Sulloway, F. [2005b]: “Qui a peur de l’homme aux loups?” in C. Meyer [2005], 81-6.
Sulloway, F. [2005c]: “L’Homme aux rats comme vitrine de la psychanalyse,” in C. Meyer [2005], 95-100.
Tawney, R. H. [1922/1990]:
Religion and the Rise of Science.
London:
Thomas, D. [1979]:
Naturalism and Social Science.
Cambridge: Cambridge University
Tooby, J./L. Cosmides [1995]: “The Psychological Foundations of Culture,” in
The Adapted Mind.
J. H. Barkow/L. Cosmides/J. Tooby
eds . Oxford: Oxford University Press 1995, 19-136.
Weber, M. [1904]: “Die 'Objektivitat’ sozialwissentschaftlicher Erkenntnis,” in M. Weber [1973], 186-262 [English translation: “Objectivity in Social Science,” reprinted in E. A. Shils/H. A. Finch, 1949, 50-112].
Weber, M. [1904-5]:
Die protestantische Ethik und der Geist des Kapitalismus [English translation:
The Protestant Ethics and the Spirit of Capitalism.
London: Unwin University Books, 1930].
Weber, M. [1905]: “Objective Possibility and Adequate Causation in Historical Explanation,” reprinted in E. A. Shils/H. A. Finch, 1949, 164-88.
Weber, M. [1913]: “Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie,” in M. Weber [1973], 97-150.
Weber, M. [1914]: “Der Sinn der 'Wertfreiheit’ in den Sozialwissenschaften,” in M. Weber [1973], 263-310 [English translation: “The Meaning of Ethical Neutrality,” reprinted in E. A. Shils/H. A. Finch, 1949, 1-49].
Weber, M. [1915]: “The Social Psychology of World Religions,” reprinted in
From Max Weber: Essays in Sociology.
H. H. Gerth/C. Wright
eds . London: Routledge & Kegan Paul, 1948, 267-301.
Weber, M. [1968]:
Economy and Society.
New York: Bedminster Press [English translation of
Wirtschaft und Gesellschaft . Tübingen, Germany: J. C. B. Mohr,
5
1972].
Weber, M. [
5
1973]:
Soziologie, Universalgeschichtliche Analysen, Politik.
J. Winckelmann
ed . Stuttgart: Körner.
Weber, M. [1978]:
Selections in Translation.
W. G. Runciman
ed . Cambridge: Cambridge University Press.
Webster, R. [1996]:
Why Freud was Wrong.
London: Fontana
Weinert, F. [1993]: “Laws of Nature: A Structural Approach,”
30/2 , 147-71.
Weinert, F. [1995]: “Laws of Nature-Laws of Science,” in F. Weinert
ed. [1995],
Laws of Nature.
Berlin: Walter de Gruyter, 3-64.
Weinert, F. [1996]: “Weber’s Ideal Types as Models in the Social Sciences,” in A. O’Hear
ed. [1996],
Verstehen and Humane Understanding.
Royal Institute of
73-93.
Weinert, F. [1997]: “On the Status of Social Laws,”
Dialectica
51 , 225-42.
Weinert, F. [1999]: “Habermas, Science and Modernity,” in A. O’Hear
ed. [1999],
German Philosophy Since Kant.
Royal Institute of Philosophy Supplement: 44. Cambridge: Cambridge University Press, 329-55.
Weinert, F. [2004]:
The Scientist as Philosopher: Philosophical Consequences of Great Scientific Discoveries.
New York: Springer.
Wilson, E. O. [1978]:
On Human Nature.
Cambridge, MA: Harvard University
Wilson, E. O. [1980]:
Sociobiology.
The Abridged Edition.
Cambridge, MA: The Belknap
Winch, P. [1958]:
The Idea of a Social Science and its Relation to Philosophy . London: Routledge & Kegan Paul.
Winch, P. [1964]: “Understanding a Primitive Society,”
American Philosophical Quarterly
I , 307-24, reprinted in
Rationality.
B. R. Wilson
ed . London: Blackwell 1979, 78-111.
Wittgenstein, L. [1980]:
Vermischte Bemerkungen/Culture and Value.
Oxford: Blackwell.
Woodward, J. [2003]:
Making Things Happen.
Oxford: Oxford University
Wright, G. H. von [1971]:
Explanation and Understanding.
Ithaca, NY: Cornell University Press.
الملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
صفحه نامشخص