إن أكن مهديًا لك الشعر إنّي ... لابن بيت تهدى له الأشعار
أخذ هذا المعنى الصاحب بن عباد أخذًا حسنًا فقال مفتخرًا:
إنّ خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كلّ نادي
وقال مهيار الديلمي في أبي الحسن محمّد بن علي بن المزرع وقد بلغ النهاية في الحسن:
وحبّذا بين بيوت أسد ... بيت إذا ضلّ الضيوف هادي
أتلع طال كرمًا ما حوله ... تشرّف الربى على الوهاد
موضحة على ثلاثة ناره ... إن سرقوا النيران في الرماد
بيت وسيع الباب مبلول الثرى ... ممهّد المجلس رخص الزاد
إن قوّض البيوت أصل جائر ... طنّب بالآباء والأجداد
ترفع من محمّد سجوفه ... جوانب الظلماء عن زياد
فصل في كرمه وأخلاقه
أمّا كرمه: فإنّه ومنشىء البشر للكريم الذي صدق فيه المخبر والخبر، وشهد بجوده السمع والبصر، لا كمن كاصله أياديه، خبر يلفقه لسان راويه؛ قد حسن منظره وقبح مخبره.
إن يبلغنّك عن جود امرء خبر ... فكذّب السمع حتّى يشهد البصر
ولا يغرّنّك من راقت ظواهره ... فربّ دوح نظير ما له ثمر
كأنّما بعث في الجود وحده، مرسلًا لا نبيّ بعده، في زمن لا تندى صفاته، ولا تلين الإستعطاف حصاته، فلا يشار في صلة الأرحام والأواصر إلاّ إليه، ولا تنعقد الخناصر في تعداد الكرام إلاّ عليه، ويحقّ لي أن أُنشىء فيه:
توسّمت أبناء الزمان فشمتهم ... وبعضهم في لؤمه مشبه بعضا
فبين ضنين بالعطا متوقّف ... ولكنّه في المنع كالسيف بل أمضى
وبين شديد الحرص لو يبس كفّه ... على الأرض يلقى لحظة أمحل الأرضا
فلم أر للمعروف أهلًا سوى امرء ... يرى صلة الوفّاد يوم الندى فرضا
على أنّه إنّما يحسن إهداء الثناء إليه، مع غنائه عنه بما تثني ألسنة مكارمه عليه، من حيث أنّ المدح يذيع بنشره كما يذيع النسيم الغض بريا المسك على طيب نشره، كما قلت فيه - وفيه التضمين -:
محمّد الحسن استغنيت بالحسن ... من مدح مجدك عمّا قيل في الزمن
فكارم العرب في تلك الجفان وقل ... "هذي المكارم لا قعبان من لبن"
وفاخر الصيد في لبس الثناء وقل ... "هذي المفاخر لا ثوبان من عدن"
والتضمين المذكور في شطرين من بيتين لبعضهم وهما:
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
هذي المفاخر لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصًا فعادا بعد أسمالا
وممّا ورد في مدح الكرم وأربابه وذمّ البخل وأربابه: قال أميرالمؤمنين علي ﵇: الكريم لا يلين على قسر ولا يقسو على يسر.
وقال ﵇: من قبل عطائك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لم يكن من يجود.
وقال ﵇: من انتجعك مؤمّلًا فقد أسلفك حسن الظن.
وقال ﵇: أحبّ الناس إليك من كثرت عندك أياديه، فإن لم يكن فمن كثرت عنده أياديك.
وقال ﵇: الرغبة إلى الكريم تحرّكه على البذل، وإلى الخسيس تغريه بالمنع.
وقال الصادق جعفر بن محمّد ﵇: إنّ الحاجة لتعرض للرجل عندي فاُبادر بها خوفًا من أن يستغني عنها أو تأتيه وقد استبطاها فلا يكون لها عنده موقع.
وكانت أُمّ البنين تقول: أُفٍّ للبخل، لو كان ثوبًا ما لبسته، ولو كان طريقًا ما سلكته.
وقال المأمون: لئن أخطىء باذلًا أحبّ إليّ من أن أُصيب مانعًا.
وقال محمّد بن السماك: أهنىء المعروف ما لا مطل في أوّله ولا مَنٌّ في آخره.
ومدح نصيب الشاعر عبد الله بن جعفر فأجزل عطيّته، فقيل له: تسنع بهذا العبد الأسود مثل هذا؟ فقال: إن كان أسود فإنّ ثناه أبيض بقق، وشكره عربي ذو رونق، ولقد استحقّ بما قال أكثر ممّا نال، وهل هي إلاّ رواحل تنضى وثياب تبلى وما يفنى، استعضنا عنه مديحًا يروى وثناء يبقى.
وكتب رجلًا من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوّفه الفقر، فردّ عليه: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالفَحْشاء واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا واللهُ واسِعٌ عَليمٌ)، وأنا أكره أن أترك أمرًا قد وقع لأمر لعلّه لا يقع.
1 / 9