قال الحجّاج: فما تقول في أميرالمؤمنين؟ قال: رحم الله أباالحسن، قال: إنّما أعني عبد الملك بن مروان! قال: على الفاسق الفاجر لعنة الله، قال: ويلك بِمَ استحقّ اللعنة؟ قال: والله ما أنكر حقّه غير أنّه أخطأ خطيئة ملأت السّماء والأرض، قال: وما هي؟ قال: استعمالك على رعيّته تستبيح أموالهم وتستحلّ دمائهم، فالتفت الحجّاج إلى أصحابه وقال: ما تشيرون عَلَيّ في أمر هذا الغلام؟ قالوا: أسفك دمه فإنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة. فقال الغلام: يا حجّاج، جلساء أخيك خير من جلسائك، قال: أخي محمّد بن يوسف؟ قال: على الفاسق الفاجر لعنة الله، إنّما أعني أخاك فرعون حين قال لجلسائه: ماذا تأمرون في موسى؟ قالوا: أرجه وأخاه، وهؤلاء أمروك بقتلي، إذًا تقوم لله عليك الحجّة غدًا بين ملك الجبّارين ومذلّ المتكبّرين. قال الحجّاج: يا غلام قيّد ألفاظك وقصّر لسانك فإنّي أخاف عليك بادرة الاُمراء، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم تستعين بها. فقال الغلام: لا حاجة لي فيها، بيّض الله وجهك وأعلا كعبك. فالتفت الحجّاج إلى أصحابه وقال: هل علمتم ما أراد بقوله: بيّض الله وجهك وأعلا كعبك؟ قالوا: لا، قال: أمّا قوله: بيّض الله وجهك فأراد به البرص والعما، وأمّا قوله: وأعلا كعبك فأراد به الصلب والتعليق، ثمّ التفت إلى الغلام وقال: ما تقول فيما قلته؟ قال: قاتلك الله من منافق ما أفهمك، فقال للحرسيّ: أضرب عنقه. فقال رجل من القوم يقال له الرقاشي: هبه لي أصلح الله الأمير، قال: هو لك، لا بارك الله لك فيه، فقال الغلام: لا أدري أيّكما أحمق: الواهب أجلًا قد حضر أم المستوهب أجلًا لم يحضر؟ قال الرقاشي: إستنقذتك من القتل وتكافيني بهذا الكلام؟! فقال الغلام: هنيئًا لي بالشهادة إن أدركتني السعادة، يا عجباه، جئت من بلاد الضنك والضيق وأرجع إلى أهلي صفرًا، يا ليتني أُقتل أحبّ إليّ.
قال الحجّاج: قد أمرنا لك بمأة ألف درهم، وعفونا عنك لحداثة سنّك وصفاء ذهنك، وإيّاك والجرائة على أرباب الملك فتقع مع من لا يعفو عنك، ولئن رأيتك في شيء من عملي لأضربنّ عنقك. فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكوى إليه لا إليك، لا جمع الله بيني وبينك أو يلتقي السامري وموسى، ثمّ خرج، فابتدر الخادم على أثره، فقال لهم: دعوه فما رأيت أشجع منه قلبًا ولا أفصح منه لسانًا، ولا والله ما وجدت مثله وعسى أن لا يجد مثلي قط.
أقول: ونظير قوله: أفحفظت القرآن، أفجمعت القرآن، أو استظهرت القرآن، وهو ينحو بالجواب إلى غير ما قصده، الحكاية العجيبة التي ذكرها السيّد المرتضى في الدرر قال: من المعمّرين عبد المسيح بن بقيلة الغسّاني، ذكر الكلبي وأبو مخنف أنّه عاش ثلاثمائة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم وكان نصرانيًّا، روي أنّ خالد بن الوليد لمّا نزل الحيرة وتحصّن منه أهلها، أرسل إليهم: ابعثوا إليّ رجلًا من عقلائكم وذوي أحسابكم، فبعثوا إليه بعبد المسيح بن بقيلة، فأقبل يمشي حتّى دنا من خالد، فقال: أنعم صباحًا أيّها الملك، قال: قد أغنانا الله عن تحيّتكم هذه، فمن أين أقصى أثرك أيّها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي، قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أُمّي، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل لا عقلت؟ قال: إي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد. قال خالد: ما رأيت كاليوم قطّ إنّي أسأله عن الشيء وينحو في غيره. قال: ما أجبتك إلاّ عمّا سألت، فاسأل عمّا بدا لك. قال: أعرب أننتم أم نبط؟ قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا، قال: فحَرْبٌ أنتم أم سِلْم؟ قال: بل سلم، قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها لسفيه نحذر منه حتّى يجيء الحليم وينهاه، قال: كم أتى لك؟ قال: خمسون وثلاثمائة سنة، قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترقى إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تخرج وتضع مكتلها على رأسها لا تتزوّد إلاّ رغيفًا واحدًا حتّى تأتي الشام، ثمّ قد أصبحت اليوم خرابًا يبابًا وذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد.
1 / 25