علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
ژانرها
(1) حق الحياة
أول حق من حقوق الإنسان هو أن يعيش. وهو يكتسب هذا الحق من كونه شخصا اجتماعيا محتما عليه أن يكون عضوا في جسم المجتمع. وغاية المجتمع استمرار البقاء، فهو إذن ذو حق بالبقاء في مقابل حتمية عضويته هذه. بهذا الاعتبار يسوغ له أن يضحي بحياته لأجل بقاء المجتمع، وفيما سوى ذلك لا يسوغ؛ ولهذا يعد الانتحار في نظر بعض المفكرين جريمة، فلا يسوغ للإنسان أن ينتحر؛ لأن انتحاره لا يوافق مصلحة المجتمع، وهو لم يعط حق الحياة إلا على اعتبار أنه يستعمله لخير المجتمع العام كما تقدم القول.
ولما كانت غاية المجتمع استمرار البقاء كما علمت، واستمرار رقيه سنة له، وجب على المجتمع أن يكون ضنينا جدا بحياة الأفراد، فلا يسمح بتضحيتها إلا اضطرارا؛ لذلك لا يسوغ للدولة المتمدنة التي تشبعت بروح الأدبية أن تفرط بحياة أفرادها في الحروب، فلا تثير حربا لأي سبب سوى الدفاع عن سلامة المجموع إذا تعرض للخطر. فكل حرب سببها المطامع الاستعمارية ونحوها إنما هي بلا شك جريمة لا تغتفر؛ لأنها تفريط بحق مقدس، وهو حق الحياة، لأجل مطامع غير جائزة ولا هي حلال. ولو كانت الأمم جمعاء تعترف أنها بالحقيقة أعضاء لجسم المجتمع الإنساني الأعلى، لكانت تعترف بأن كل حرب على الإطلاق جريمة.
يبتدئ حق الفرد بالحياة منذ يتكون جنينا، وإن كان لا يعلم هذا الحق ولا يفهمه؛ لأنه منذ تكون طفق يصير عضوا في جسم المجتمع، كما كان غيره قبله، وينتظر أن ينضج ويصبح عضوا عاملا في المجتمع كما نضج غيره، وما تكون المجتمع من أعضاء كانوا ناضجين قبل أن يتألف منهم، بل من أعضاء نضجوا عن يده وبفضله وتحت حمايته؛ ولهذا يعد الإجهاض القهري لغير سبب صحي جريمة.
وربما توسع بعض الأدبيين في هذا الموضوع فجعل الامتناع عن الحمل تداركا لكثرة البنين جريمة أيضا، على أن هناك مبررا لهذا الامتناع، وهو ضيق دائرة الرزق، بحيث لا يتسنى للعدد الأوفر من أعضاء المجتمع أن يعيشوا معا أصحاء أقوياء كما تقتضي الحياة الاجتماعية.
هذا الحق يجلب معه واجبين مقابلين له؛ الأول: الواجب الشرعي، وهو المصوغ صياغة سلبية «لا تقتل»، بل يجب أن تحاذر من أن تقتل شخصا آخر، وأن تعرض حياة آخر للهلاك، وإلا تقاص أو تعاقب، فلا يسوغ لأحد أن يقتل آخر مهما كان الداعي، حتى ولو كان الآخر قاتلا، وإنما يسوغ للمجتمع فقط أن يقضي على القاتل بالموت لاعتبار أنه عضو مريض في جسمه، وقد يخشى أن يعرض حياة الجماعة كلها للخطر، فيبتر منه.
أما الواجب الأدبي: فهو أن يحافظ الفرد على حياته كأنها ليست ملكه وحده، بل هي وديعة عنده من قبل المجتمع، وعليه أن يحرص على نموها وتقدمها في العافية، وسلامتها من الأمراض، وأما تفريطه بحياته وصحته وسلامته فيعد إثما أدبيا، وفي بعض الأحوال يعد أيضا جريمة شرعية يعاقب عليها كما يعاقب شارب الخمرة في أميركا، ومستعمل المخدرات «الكوكايين والمورفين إلخ» في مصر. (2) حق الاسترزاق
ولا يخفى عليك أن واجب الحرص على الحياة وسلامتها وصحتها وعافيتها يستلزم واجب السعي والعمل؛ أي إن كل فرد مكلف أن يعمل لكي يعيش، وإلا فقد حقه بالحياة. وأحيانا طبيعة الاجتماع تحرم الكسول المتقاعد عن العمل حقه أو مركزه في الحياة، وتعزله منه لتحل المجتهد محله.
ولكن المجتمع - لعيوب فاضحة في أنظمته الشرعية - لا يطلق هذه القاعدة ولا يجعلها مطردة، بل يسوغ لفئة من الكسالى أن يعيشوا عالة على المجتهدين، بل يسوغ لهم أن يمصوا دماء هؤلاء. وسبب هذا العيب في الأنظمة الشرعية هو ضعف الروح الأدبية في المجتمع، فإذا لم تكن الشريعة معتمدة على أدب النفس فلا تسلم من التغرض والغبن والحيف وسائر العيوب.
فواجب السعي والعمل للقيام بأود الحياة يستلزم حق الفرد بالاسترزاق، وقد كان هذا الحق غامضا من قديم الزمان، ومنكرا حتى هذا الزمان الحاضر؛ لأن الرزق كان ولا يزال إلى اليوم متنازع الأفراد والأمم، فلا ينال الرزق إلا من يتيسر له تنازعه. ولما احتدم هذا النزاع في عهد تقدم الصناعة الآلية والتفنن المالي صارت وسائل الرزق نفسها متنازع الأفراد أيضا، وصار المتمول مالكا أعنة المسترزقات، فيمنحها لمن يشاء أو يمنعها عمن يشاء، ومتى شاء.
صفحه نامشخص