وكان بعد تفكير طويل ودراسة قد انتهى إلى حل سببه استحالة مواجهة ذلك النوع الجديد بالمساومة على الشراء سافرة، ووجوب اللجوء إلى أسلوب غير مباشر ينتهي إلى توريط، وأحد الاقتراحات التي فكر فيها أن يفتتح ناديا ثقافيا يضم إليه سناء ومثيلاتها وعضوات من صديقاته يستطعن بالاحتكاك والدعوات وغسل المخ والتلقين أن يفككن شخصيات هؤلاء الفتيات المتماسكة المترابطة ككتلة واحدة تضم قيمهن جميعا ... وكلها قيم متحدة واحدة، الحرام فيها حرام تحت مختلف الظروف والأحوال والحلال أيضا واحد، والعيب في العمل مثله مثل العيب في الشرف، وما يعيب في البيت يعيب أيضا في المصلحة، كتلة مترابطة واحدة فرق كبير بينها وبين قيم الرجال الموزعة على أدراج ودوسيهات، بحيث يحيا الرجل صادقا بأكثر من مقياس وأكثر من شرف وأكثر من حلال أو حرام، ويستدعي - إذا اضطرته الحاجة - المقياس الذي يناسبها ... إذا اكتشف أن ابنه يدس لأخيه عند أمه عاقبه بشدة، وإذا ضبط نفسه وهو يدس لزميله عند الرئيس برر وشرح وأفاض في الشرح ليخرج نفسه منها كالشعرة من العجين، أبدا ليس مثل الرجل الذي باستطاعته أن يفقد إحدى قيمه دون أن يؤثر هذا على غيرها من القيم ... باستطاعته أن يكون زئر نساء، لكنه في نفس الوقت تجده صادقا وشجاعا وأمينا، بل ربما تجده أيضا شاعرا، ومن هنا تنشأ الصعوبة، ومن هنا تعلم عبادة بك ألا يطبق على النساء - على عكس ما يفعله بالرجال - قاعدة واحدة، إذ قد ثبت له أن كل فتاة أو سيدة حالمة بمفردها لا تنجح معها القواعد، وحتى وهو يفكر في مشروع النادي كان غير واثق أبدا أن سناء بالذات ممكن أن يدب إلى نفسها من هذا الطريق.
كانت المسألة في رأسه مجرد مشاريع ودراسات لمشاريع، وكان مقدرا أن الأمر سيستغرق وقتا وأنه وطن نفسه على هذا، ومع أن مجيئه اليوم كان بمشورة الجندي ونصيحته كما سنعرف ، إلا أنه جاء ولا فكرة لديه عن خطوة ما يمكن أن يخطوها تجاه سناء، ماذا حدث إذن حتى جعله يقدم على هذا التصرف الذي كان كفيلا لو لم يكن متأكدا تماما من نجاحه، بإيداعه السجن بلا إبطاء؟ الحقيقة أنه هو نفسه لم يكن حتى تلك اللحظة يملك إجابة شافية، ولكنه مجرد شبح عن له وصوب تجاهه، وكان هو أول من فوجئ بالإصابة المباشرة، أما الشبح فقد كان في كلمات سناء الأولى تلك التي أخبرته بها عن سبب تغيب الآخرين، وليس في الكلمات الأولى بالضبط ربما قبلها بقليل، إذ كان يتوقع بعد الذي حدث في آخر مرة كان بها في المكتب أن تلقاه سناء مواصلة نفس الموقف منه، تلقاه باشمئزاز واضح أو خفي، ولكنه كان لا بد أن يكون موجودا، غياب هذا العنصر دفعه للتساؤل والشك، وجاءت الكلمات الأولى لا تحمل ضغينة واضحة أو خفية، إحساسه صحيح إذن! وحتى اعتراضاتها والعقبات التي أقامتها أحس أنها لم تقمها في وجهه هو بقدر ما أقامتها لنفسها ... لتمنع نفسها، كانت إذن تريد أن تتكفل ظروف خارجة عن إرادتها بالرفض، طيب! وحين نرفع هذه الظروف الخارجة ونترك إرادتها عارية بلا دروع هي والموقف وحدهما، ماذا يحدث؟ حدث الشيء الذي توقع بالضبط أن يحدث، وقفت إرادتها لا تملك الحركة إلى الأمام أو الخلف عاجزة عن التقدم وعاجزة في الوقت نفسه عن التراجع، واحتاج الوضع حينئذ لدفعة تحركها إلى الأمام قبل أن يفيق الوعي، قبل أن تستجمع نفسها المشتتة وتتخذ قرارا لا بد كان سيؤدي إلى التقهقر الحاسم المفاجئ، وجاءت هذه الدفعة حين أمرها صفوت أفندي رئيسها بكتابة التصاريح، حينئذ وبخطى وئيدة بدأت تتحرك إلى الأمام، ولكنها تتحرك في اتجاه أداء الواجب فقط وملء الخانات، ولكن من قال إن هذا الاتجاه ليس هو نفسه اتجاه بيع الذمة؟ وهل حدث لعبادة بك في كل تاريخه الحافل وثرائه، هل حدث أن تحرك موظف أو موظفة وتقدم واضعا بيع ذمته كهدف؟ على الإطلاق لم يحدث شيء من هذا، إنه دائما يتحرك موهما نفسه مؤكدا ومقسما ومؤمنا إيمانا لا يتزعزع أنه إذ يتحرك فإنما ليؤدي واجبه فقط ... لينجز عمله، عسكري المرور الذي يقبل القروش العشرة حتى لا يحرر لك محضرا يوهم نفسه، بأدلة يصنعها أو يصطنعها، أنك فعلا لا تستحق المحضر، وإنه بإلغائه إنما يؤدي واجبه الذي يمليه عليه ضميره، وما العشرة القروش سوى مبلغ تطوعت أنت بدفعه سذاجة منك وعبطا، إذ كان هو على أي الحالات لا ينوي تحرير محضر، كذلك الوزير الذي يقبل دعوتك وهو عالم أنك في حاجة غدا لتوقيعه، يقبلها وهو قد انتوى نية خالصة مخلصة أنه، وإن كان قد قبل، إلا أنه لن يوافق غدا ويوقع إلا إذا كنت فعلا قد استوفيت شروط الموافقة، وحين يأتي الغد وتعرض أوراقك مع أوراق الآخرين ويجد أنك مثلهم مستوفيا للشروط أو معظمها، يؤكد لنفسه أن اختياره لك دونا عن الباقين لن يخلو من حكمة، إذ هو يعرفك حق المعرفة ويعرف أنك لن تخدع الحكومة ولن تسف أموالها، بينما هو لا يعرف الآخرين ولا يضمنهم، حينئذ ولأجل مصلحة الدولة والحكومة، بدافع هذه المصلحة العليا وحدها يؤشر على ورقك بالموافقة وعلى الآخرين بالحفظ، مؤمنا أشد الإيمان أنه بهذا العمل قد أدى أكبر الخدمات وأجلها للبلاد وللوطن.
لمح الرجل سناء إذن وهي تشرع في الكتابة وعلى سيمائها ما يؤكد لنفسها أنها تؤدي الواجب الحلال الزلال الذي لا غبار عليه، علامة يعرفها جيدا إذ الخبرة قد علمته أن الشخص حين يبدأ في إقناع نفسه أن ما يفعله أمر لا غبار عليه، يكون فعلا وحقيقة قد بدأ يدافع عن الشيء الذي عليه غبار ... مؤكدا لنفسه أن لا غبار عليه البتة. حينئذ عليك أن تضرب بسرعة ضربتك القاضية التي تطبب كفة الميزان إلى الأبد، فليس من المصلحة بقاء الشخص طويلا في تلك المرحلة الحرجة التي «يحاول» «إقناع» نفسه فيها، إذ قد يحدث حينئذ - والأمر لا يزال نظريا محضا وهو لا يزال على البر - أن يتملكه خوف مفاجئ أو يتذكر حادثا أو موقفا أو شخصا كان يعتبره المثل الأعلى ويغير رأيه، وصعب بل أحيانا من المستحيل إذا «حرن» الشخص في تلك المنطقة أن تستخرجه منها أو تستطيع جره، لا بد حينئذ أن تشل حرجه بوضعه أمام الأمر الواقع و«تلبيسه» التهمة، ولكنها أيضا عملية في حاجة لحذق كبير، إذا زاولها الغشيم فمن المحتمل أن يفعلها بطريقة تفزع الشخص وتجعله يفر بجلده هاربا، أما في يد الخبير فلا خوف عليه، إذ كل المطلوب منه هنا أن يثمن الشخص بسرعة وحسم، يضاعف الثمن أو يجعله ثلاثة أضعاف بحيث «يغرق» الشخص فيه، بحيث ينتفي من عقله كل تفكير آخر ولا تبقى سوى الرزمة المهولة التي لم يتوقع أبدا أنها بهذه الكثرة والضخامة، والتثمين هنا لا يعني قيمة ما يستحقه الشخص ولكنه يعني على وجه الدقة قيمة ما يطمع هو في الحصول عليه؛ أي بمعنى آخر قيمة ثمنه في نظر نفسه، وعليك أنت أن تثمنه بأغلى ... أغلى بكثير مما توقع أو يستحق، ولا تخش الخسارة أو بعثرة نقودك فأنت لا تشتري إمضاء لمرة ... أنت تشتري شخصا بأكمله ووظيفة ونفوذا إلى زمن لا نهاية له؛ ولهذا فأي ثمن تحدده مهما بدا لك غاليا ومبالغا فيه فهو - لو كنت من العارفين العالمين كعبادة بك - رخيص جد رخيص، سوف يرتد إليك أضعافا وأضعافا مضاعفة.
بحكم الخبرة عرف أن خير ما يفعله أن يسكت هو الآخر ويدعي مثلها أن شيئا لم يحدث، وحين انتهت وتهيأت لمغادرة الحجرة للحصول على توقيع مدير الإدارة كفاها هو مئونة التعب، ونادى على خفاجة يكلفه بالمهمة، ولم ينتظر أن يعود، آثر أن يتابعه، بل الحقيقة آثر أن يغادر الحجرة وقد أدرك أن خير ما يفعله هو أن يتركها فورا ليقطع عليها آخر مراحل التردد من ناحية، ومن ناحية أخرى لتنفرد بنفسها إذ هي لا بد في شوق شديد لهذا الانفراد.
وبحرارة واحترام كبيرين سلم عليها وخرج، وحين عاد خفاجة بعد قليل وحاول أن ينتهز فرصة وحدتها ليفتح أبوابا للحديث ولم يجد منها تشجيعا يذكر، سألها إن كانت في حاجة لشيء من البوفيه تشربه؟ وحين أجابت بالنفي وهي تتفرس في ملامحه علها تلمح بارقة تدل على أنه أدرك أو يدرك شيئا يتعلق بالرزمة الضخمة التي لا تزال في درج المكتب ... ولم تلمح بارقة تدل على شيء، كان واضحا فقط أنه قبض هو الآخر، والنقود التي قبضها تعميه عن رؤية أي شيء آخر، وأدركت سر تلكئه حين قال لها في النهاية: أظن عبادة بك وصى حضرتك إنك ما تجيبيش سيرة لحد.
وابتسمت بافتعال، وأجابت بما يؤكد أنه وصاها وأنها ستعمل بالوصية، كل ما هنالك أنها تساءلت ببراءة عن السبب الذي يدفعه لهذا التكتم، وأجابها خفاجة بأنها لا تزال حسنة النية لا تعرف بعد أحوال المصلحة الخفية، وأن عبادة بك إنما يفعل هذا ليخفف عن كاهله ولو لمرة «الضرائب» الباهظة التي يدفعها للكل إذا عرف الكل.
وطمأنت هذه المحاورة سناء، وطمأنت كذلك خفاجة حتى أصبح وجوده في الحجرة غير ذي موضوع.
غادرها حينذاك وهو يدعو - بلا مناسبة - لسناء بأن يصلح الله أحوالها ويزرقها بعريس ابن حلال، وأغلق الباب وراءه.
أخيرا، ها هي ذي وحدها كما تمنت، ها هو الوقت أمامها ممتد متسع باستطاعتها أن تناقش فيه كل المشاكل والقضايا.
واستعجبت حين حاولت أن تجد شيئا يتعلق بالنقود، أي شيء يمكنها أن تفكر فيه بدون جدوى، بقي عقلها بلا تفكير، وبلا قلق أو إرهاق، بلا سعادة أو اكتئاب، بلا شيء على الإطلاق، بقي هكذا وقتا ما لا تدري كم طوله، وحين بدأ يعمل بدأ يفكر بطريقة لم تخطر لها على بال، من أدراها أن النقود ليست فخا نصب لها ... نصبه الجندي وزملاؤه من أجل الإيقاع بها وفصلها وسجنها كي يخلو لهم الجو؟
صفحه نامشخص