وأخيرا بدا أن المرأة قد انتهت من رحلاتها؛ إذ جاءت ووقفت قريبا منا، وقال عبد الله بتأنيب شديد: مش خلاص؟ الدكاترة مستعجلين، إحنا ورانا قومسيونات تانية كتير.
وأخفت فمها في جلبابها الطرحة وهي تقول: أيوه، حاضر، دقيقة واحدة بس.
وانفجر عبد الله: هي دقيقتكم إيه، ساعة؟ ولا باينها يوم!
وظلت المرأة واقفة لا تتحرك ولا تجيب، ثم بدا وكأن هذه الوقفة القصيرة قد أرهقتها؛ إذ ما لبثت أن سحبت جسدها إلى أسفل وجلست القرفصاء مسندة ظهرها إلى الحائط.
9
لم نكن نعرف لهذا الانتظار كله سببا واضحا، ولكن لا بد كان له سبب، والمحرج في الأمر كان هو الصمت الذي شملنا وامتد حتى ابتلع دقات الدجاجة وأنسانا إياها، ولأمر ما أحسست وكأني مسئول عما نحن فيه من حرج، وعن إزالة هذا الصمت الكئيب، وهكذا بدأت أتحدث إلى الزوجة وأسألها، حديثا لم أكن أقدر له أكثر من دقائق قليلة إذ كانت لهفتي الأساسية أن أرى «العسكري الأسود»، ورغم أنها بردها على أسئلتي بدأت تجيبني إجابات مقتضبة، لا تنطقها إلا بعد تفرس خجل سريع في ملامحي ونواياي، إلا أن إجابتها تلك بدأت تسترعي انتباهي، وليس انتباهي وحدي، شوقي الذي كنت أدرك رغم انعدام الكلمات بيننا أن لهفته لرؤية عباس لا تقل عن لهفتي، والذي وضح ضيقه من أول لحظة بأسئلتي وإضاعة الوقت بفتح مجال للحديث بدأ هو الآخر ينتبه، ويكاد لفرط متابعته يهم بإلقاء أسئلة أخرى، لولا أنه كان يتراجع قبل نطقها ويحجم، وهكذا امتدت الدقائق إلى ربع ساعة، وإلى مرحلة بدأت الأسئلة فيها تقلب المواجع على «نور» الزوجة فتبكي وتدمع وهي تجيب ، ولكني ظللت أتابع حتى تعدى الحديث مرحلة البكاء إلى مرحلة بدأت تجيب فيها الزوجة بصراحة وصدق، وقلب كأنما تريد فتحه وإفراغه وقد ناء بما يحتويه، أو ربما اعتقدت أنها بالصراحة قد تخفف الحكم الذي نوشك أن نصدره على زوجها.
وأصبح شغفي باستخلاص كل ما يمكن استخلاصه من «نور» يكاد يطغى على شغفي لرؤية زوجها، بل طغى، وأيضا لم أكن وحدي، وجدنا أنفسنا نحن الثلاثة ننسى اللهفة، والوقت، والرجل الراقد في الحجرة ونستمع إليها، وكأنما عداها هي الأخرى اهتمامنا ونسيت الحاضر والراقد، وراحت تعيش بكيانها كله فيما كان.
والقصة كما استخلصتها من «نور» الزوجة تختلف بطبيعة الحال كثيرا عن قصة «العسكري الأسود» كما تطوع بها عبد الله، وعن صورته كما رآها شوقي، وكل من كان في السجن وقدر له أن يقع تحت طائلته، قصة الفلاح حين يشب قويا أقوى وأصلب عودا من كل أقرانه، فتصبح له في البلدة شهرة، ويصبح لقوته سلطان ومستلزمات ليس أقلها جلبابا من حرير، و«لاثة» من السكروتة، وطقما يخطر به ساعة العصر، ويقتحم به السوق، ويتربع به في مجالس الرجال، ويزغلل به وبنفسه أنظار البنات والمطلقات، وأنظارها هي بالذات، بنت عمه وأحلى البنات، قصة الفتونة والمراهنات على حمل أكياس القطن وأجولة الكيماوي، والمعارك والنبابيت والخناقات، ومع هذا فما كان أسعدها - كما تقول - بالزواج به! واستعدادها لا لكي تنتظره أعوام «الجهادية» الخمسة، وإنما العمر كله! ولكنه جاء بعد مدة الجيش وأخذها وسكن بها في مصر، في نفس هذا البيت الذي لم يغيره الزمن، واشتغل في البوليس، ولم ترزق منه «صحيح» بأطفال، مشكلة كانت تلح عليه وتضايقه، ولكن فرحتها به كانت على الدوام أكبر من أي ضنك أو قسوة أو انعدام خلف، أخذها للدكتور مرة ولم يجد الطبيب فيها عيبا، وقال له ابحث عن نفسك أنت، ولكنه كان دائما مشغولا بالبحث عن السلطة والتسلط، دائم المشاحنات مع رؤسائه، دائم الثورة على وضعه وزملائه، حتى قدر له في النهاية أن يختاره الباشا، ويمسك بهذه الوظيفة التي بدا وكأنها باب السعد والهنا، فما من يوم يعود فيه إلى البيت إلا ومعه سبت خضار ولحمة، وضحك يجلجل في الصالة إلى ساعة النوم، والبيت يزدحم عليهم بالناس والزوار والسهرات التي تمتد إلى ما بعد منتصف الليل، و«الحتة» كلها قد عرفت سر الوظيفة الخطيرة، وكثيرون رأوه في جلسته الفاخرة أمام الباشا، بل لم تلبث عربة الباشا نفسه أن بدأت توصله إلى الحي، ويراها الجيران رأى العين مجعوصا فيها، حتى أم علي «الحسادة» تراه وتأتي لتصف لها ما رأته والشهقات التي كانت تتبعه أينما سارت به العربة، وأينما وضع قدمه، وتطلب منها أن ترقيه من عيون نساء الحي ورجاله، فترقيه «نور» أول ما ترقيه من «أم علي»، وتقوم من الفجر لتدعو وتطلب من الله أن يقيهم شر الناس، ويديم عليهم الستر، والناس في بيتهم الداخل لا يعرف الخارج، ومع الخارج والداخل والزائر والقريب والغريب عرائض وشكاوى وطلبات وظائف وترقيات، بل ويا للسخرية شفاعات ورجوات لعباس كي يتوسط لدى الباشا للإفراج عن معتقلين ومتهمين، كان يقبل ويخدم الكل، ما عدا طلبات الإفراج التي كان يضيق بها أشد الضيق، ويزجر أصحابها، وأحيانا يبلغ عنهم البوليس السياسي، حالة واحدة فقط هي التي قبل أن يتوسط فيها حين فوجئوا بعمدة بلدهم بنفسه، البيه الرسمي، أحمد بك مروان ومعه والده المسن ووفد ضخم من عائلة مروان يطرق باب بيتهم، نفس هذا البيت، ويشرب قهوتهم، ويخاطب «عباس» بقوله: يا فندم! وأحيانا يقول: البركة فيك يا عباس افندي. وأحيانا أخرى: يا حضرة الضابط، بل ويصل الأمر إلى درجة يقبل فيها يده، بعينها رأته «نور» من خلال الباب الموارب يتشبث بيد عباس وينحني عليها ويقسم يمين الحرام أن يقبلها، فلا يملك عباس إلا أن يوافق، وإلا بأن يعد أنه سيبذل كل ما في استطاعته لرجاء دولة الباشا والإفراج عن بسيوني شقيق العمدة؛ الطالب المعتقل، وينجح في الإفراج عنه ويهديه البيه خمسين جنيها وخروفا، نقود، وما أكثر ما دخل جيبه من النقود! مع كل عريضة تندس اليد في جيبه وتترك ما فيه القسمة ، ويصرف عباس ويبعزق، ولا يتحرك إلا في جمع من الحي والبلديات، على القهوة يحيطونه ويؤنسونه، وفي البيت، وفي نفس تلك الصالة الواسعة ينعقد مجلسهم كل ليلة، أيام حافلة عارمة، وإن كان كل ما يأتيهم فيها كان يذهب ويتبخر ولا يبقى منه، ولم يبق من أيام العز كلها سوى مائتي جنيه في صندوق التوفير بالبريد، أيام عامرة ولكنها قليلة، ولا تستطيع «نور» رغم الأسئلة الملحة ومحاولات التذكير أن تحدد بالضبط ماذا حدث، أو متى، كل ما لاحظته أول الأمر أن «عباس» كان حين يذهب عنه الأصدقاء والزوار ويصبح البيت خاليا إلا منه ومنها يذهب عنه المرح والضحك الذي كان غارقا فيه، ويستمر على جلسته المتربعة منكس الرأس إلى أسفل، سادرا في حزن مفاجئ لا تعرف سببه، يبقى هكذا بالساعة والساعتين، لا يتحرك ولا يحدثها، ولا يغير من وضعه، إنما كان يحدث بين كل حين طويل وحين أن يرفع رأسه فجأة مستلا من صدره تنهيدة عميقة قائلا: إيه، حكم! ثم يعود رأسه يسقط ويعود إلى الحزن الشارد الذي كان فيه، حتى إذا طال الأمر وواتتها الجرأة على سؤاله عما به لم تظفر منه بجواب، أو إذا رفع رأسه وأجاب لا يقول أكثر من: معلهش! كله منه، بكرة تتعدل، كانت واثقة أن ليس في الأمر زوجة أخرى، أو شاغل من شواغل المعيشة؛ ولهذا كانت لا تلح وتسكت، خاصة والحالة لا تحدث إلا نادرا، وكل بضع ليال مرة، ولكنها ما لبثت أن تكاثرت، حتى أصبحت تتكرر كل ليلة تقريبا وتطول، ويطول غياب عباس في «الشغل» ويعود إذا غاب مضعضعا مطحونا كالمضروب علقة، ينام بغير عشاء، وإذا تعشى استيقظت على صوته المخنوق يصرخ من كابوس، ثم بدأت محنة الأفيون، كانت تعلم أنه يأخذه، ولكنه كان يفعل هذا للمزاج ليس إلا، بتوالي النوبات والاستغراق في «الشغل» تعلق به وأدمن فيه، وأصبح يأخذه في كل وقت، قبل النوم، وفي منتصف الليل، وحتى في الصباح على الريق، وإذا فتحت فمها أو اعترضت رماها بنظرة تخلخل مفاصلها، وتدفعها إلى ابتلاع الريق والكلمات، وتغلي وهي صامتة، وتتمزق نفسها من الخوف منه وعليه، تضع أمامه الطعام وتعود لتحمله كما وضعته، وينام، أصبح لا يأتي إلى البيت إلا لكي ينام، ولا يحتمل أن يبقى فيه وحده مستيقظا، ينام ويطلب منها أن تصحيه في ساعة مبكرة، فإذا جاء الصباح ونادته ليستيقظ زجرها، فإذا مضت في محاولتها يكاد يقتلها ليسكتها وليستمر نائما، وجاء عليه اليوم الذي لم يذهب فيه إلى القهوة، وإذا حضر أصحابه وسألوا عنه أمرها أن توزعهم وتدعي لهم أنه غير موجود، كانت تقول لنفسها كلما ووجهت بجديد: إن هي إلا عوارض لن تستمر، وإنه لن يلبث أن يعود إلى نفسه، وإلى عباس الذي كان زمان. ولكن كل يوم يقبل كان يجيء معه بتغيير إلى أسوأ، حتى ليصبح منتهى أملها أن يعود مثل الأمس فقط، بل حين يئست من هذا أيضا أصبح كل ما تطلبه من الله أن يبقى على ما انتهى إليه، هو ذلك الشخص المكشر الملامح، الغاضب دائما، الضيق الخلق، الذي يثور لأتفه سبب، وبلا سبب، والذي لم يعد ينفق على البيت أو عليها، ورغم كل ما يكسبه فمحفظته تحت المخدة دائما خاوية، وكأنه يلقي بما يكسب في بلاعة لا تنسد، شخص سائر في طريق لا تدري إلى أين، ولكنه يبعد عنها، وعن الناس حتى أصبح لا يلقي السلام على أحد، وكأن السلام مشقة، ويتحاشى الناس وكأنهم أعداء، له كل يوم واقعة شتم أو سب أو تماسك وضرب، مع الجار، وصبي البقال، وراكب البسكليت إذا دق الجرس، حتى كاد يخاصم الناس كلهم، وأجمع الكل على أن البعد عنه غنيمة، فإذا ضاق بنفسه ووحدته مرة، وأرسل في طلب أصدقاء زمان وجاءوا، يأتون مكرهين، ويجلسون مكرهين، ويستمعون إلى حديثه الذي يفرضه عليهم فرضا، حديث مملوء بمواقف هو دائما فيها البطل، وبقصص لا بد كسر فيها ذراع واحد من الساسة بضربة، أو هشم أسنان آخر ببونية، وماذا قال له دولة الباشا، وماذا أعاد، حتى إذا لمح أي عطف في ملامح سامع، أو بدت كلمة نقد لما تفعله الحكومة، اندفع يتحدث بفظاظة عن الحكومة ودولة الباشا والعهد، وكأنه أحد أصحابه والقائمين به، وكثيرا ما يقول: إحنا عملنا، وإحنا كان لازم نسوي. أو يصف السياسيين والمعارضين بقوله: دول أعداءنا، لا تستمر الجلسة طويلا؛ إذ لا يلبث أفرادها أن يتسللوا واحدا وراء الآخر متذرعين بحجج، واهية في معظمها، ويظل بعد ذهابهم يلعنهم ويلعن الحي والناس، يلعنهم لنفسه وهو يحدث نفسه، وحديثه لنفسه كان طارئا أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن أصبح عادة، تكون في الصالة أو الحجرة الأخرى فتسمعه يتحدث، أو يزعق، أو يشتم، أو يزفر زفرة حارة ويتنهد قائلا بأعلى صوته: إيه، آه، أيوه، كله منه، حكم، ملعون أبو الدنيا، ملعون أبوهم كلك واحد واحد.
وأيضا لا تعرف «نور» كيف أو متى جاء اليوم الذي فطنت إلى الحقيقة التي دوخها اكتشافها، أن عباس لم يعد عباس، لقد أصبح رجلا آخر، لم تره أبدا، ولم تعرفه، رجلا آخر بطبائع أخرى ومزاج آخر، غريبا، لا تحس أبدا أنه زوجها الذي تزوجته، ومن الواضح أنه هو أيضا، وقد عادى كل من كان يعرفهم وتغير ولم يكن قد بقي سواها بجانبه، كان واضحا أنه هو الآخر يستغربها، وينكرها، ولا يرعى شعورا، ولا يهمه من أين تنفق، أو كيف تدبر الأمور، «أم علي الحسادة» تقول لها: إن الأفيون قد غيره، ولكنها هي العليمة الخبيرة به تعرف أن الأفيون، كضيق خلقه، كشروده ونفوره من الناس، عرض وليس سببا، السبب أكبر أو أبعد من أن تستطيع وحدها إدراكه؛ لقد كانا يحيون ككل خلق الله، فماذا حدث؟ قالت لنفسها إنها العين، وعين أم علي بالذات، وأخذت من «سملها» ورقت وبخرت وقالت إنه عمل، وذهبت لشيخ العمولات، ودفعت الأجر، وذبحت الديك الأسود، وجربت كل علاج ودواء، وحاله لا تسير إلا إلى أسوأ، خاصة هجره لها في الفراش، ذلك الذي طال وطال حتى اعتقدت أنه ممنوع عليها بسحر، التمست فكه وفكته، وظل مع هذا ذلك الشخص الغريب الذي لولا الشبه الذي لم يتغير لما عرفته ، وظل هو يبعد عنها ويبعد، ولا يكاد يحس بوجودها أو يأبه له.
وما كان أسودها من ليلة! قررت فيها أن تعتمد على نفسها وتنفض أقنعة الخجل وتواجهه، ليتها ما فعلت! فلقد ظل يسمع صامتا حتى أفرغت كل ما عندها، ولم يبق سوى الدموع فبكت، وبدلا من عباس رجلها وابن عمها الذي تعرفه، أطبق عليها وحش غرس أظافره في لحمها، ممسكا إياها بكلتا يديه مجيبا على ما قالت بأخس وأقبح ألفاظ سمعتها في حياتها، ألفاظ ما خرجت من فمه قبل ليلتها قط، وما كانت تعتقد أن باستطاعته أن يعرفها أو ينطقها، ولا تدري ماذا منعه من ضربها أو سحقها أو قتلها، فلأسباب أوهى وأقل لم يكن قد ترك إنسانا يعرفه دون أن يمد عليه يده، ماذا أبقى تلك اليد مغروسة الأظافر في لحم ذراعها لا ترتفع وتصفعها، ولا تهوي بقبضتها الحديدية عليها وتحطمها؟ إنها لا تعرف، ولكنها تؤمن عن يقين أنها قد كتب لها عمر جديد.
صفحه نامشخص