وكأنما كان ينتظر ليلة كتلك لينفلت عياره إلى آخر مدى، وليصل إلى درجة تدفعها للتفكير في الهرب والهيام على وجهها في الطرقات؛ إذ ما كان هناك حل آخر، فلو غضبت وسافرت إلى القرية فلن يكون عقابها أقل من القتل، فكرت ودبرت وأخذت تراقبه لكي تحدد الساعة وتنطلق، كان عباس يبدو كمن جن، يصحو صارخا مرعوبا إذا نام، وإذا انفرد بنفسه تجده فجأة قد انهال عليها - على نفسه - شتائم وسبابا، نفس شتائمه ذات الألفاظ الداعرة، بل رأته مرة ينهي شتائمه لنفسه بصفعة من يده يهوي بها على وجهه، وقررت يومها أن لا بد من التعجيل بالفرار.
غير أن الأيام كانت تدبر شيئا آخر، كان عباس قد عاد من العمل مبكرا على غير العادة في الضحى، ونام وظل نائما إلى اليوم التالي، وقبل أن يرقد سمعته يقول لها شيئا لم تفهمه، وخافت أن تستعيده ما قال، وفي أثناء نومه جاءتها أم ثابت والحاجة كريمة وأم علي وأخبرنها أن الباشا الذي يعمل معه عباس ترك الكرسي، وأنهم سيعملون انتخابات ليجيئوا بباشا آخر، وحين استيقظ عباس حاولت أن تفتح باب الحديث لكي تستطيع إخباره، ولكنه كان عازفا عن الحديث، ذوب قطعة المر وتجرعها، وأعطاها ورقة ووصف لها كيف تذهب بها، وعاد للنوم.
كانت ورقة طلب إجازة مرضية، الورقة الأولى من عشرات ومئات، لم تكن تدري أنها ستتوالى بعدها ولا تكف عن التوالي.
كانت «نور» لا تزال جالسة القرفصاء قريبا من الكنبة، وصوتها الصعيدي الناعم المحشرج يخرج على دفعات متقطعة يحكي، ويكاد يهز المكان بحرقته وصدق نبراته، وشوقي قد أرغمه تتبعه المحموم على الجلوس على طرف الكنبة، والهبوط برأسه قريبا من رأس «نور»؛ حتى لا تفوته الكلمة، وإحجامه قد ذهب وأصبح يسمع، ويشمل المرأة بنظرة نافذة كإبر بذل النخاع تحاول استخراج كل ما لا تستطيع المرأة قوله أو تملك القدرة على التعبير عنه، وبين الحين والحين ينطلق منه السؤال كالقذيفة التي لا يريدها أن تخطئ، والحديث استبد حتى بعبد الله التومرجي نفسه، إلى درجة جعلته يترك الرسميات جانبا، ويجلس القرفصاء أيضا بجوار المرأة يسمع، وبين الحين والحين يهش بيده دون أن يتلفت أو ينظر، يزجر الدجاجة ويخيفها في محاولات كثيرة فاشلة لإقصائها عن المكان تماما.
وقبل أن تكتمل القصة ونعرف منها كيف مرض مرضه الأخير، وماذا بالضبط حدث له، فوجئنا بشيء روعنا حقا، وأنا لا أذكر أني من وقت أن غادرت مرحلة الطفولة وكفرت بالجن والعفاريت والأماكن المسكونة، لا أذكر أني خفت حقيقيا، كثيرا ما اضطربت مثلا، أو دق قلبي بانفعال خائف، ولكن لم يحدث أبدا أن جزعت وذعرت، ولكني لحظتها خفت، بل بلغ رعبي حدا كاد يدفعني لترك المكان والجري بكل قواي، ما فوجئنا به كان صرخة، أو هكذا ظنناها أول الأمر، ولكنها لم تلبث أن طالت وتغير نوعها، وتحولت إلى ما يشبه العواء، ولو كنا في غابة أو حقل لما روعنا، ولحسبنا العواء لذئب، ولكنا كنا في قلب القاهرة، وداخل بيت، والعواء عواء ذئب، ولكنك تدرك أنه صادر عن رجل، وعن رجل لا يمزح أو يحاول إخافتك ، ولكنه يعوي حقيقة، ويعبر بعوائه عن أشياء مكتومة داخله، تتقطع نفسه وهو ينتزعها على هيئة عواء متصل مستمر لا يمكن أن تفرق بينه وبين العواء الحقيقي لذئب.
ولم أكن وحدي الذي خفت! حين عدت ألتقط أنفاسي وجدت أني كنت دون وعي قد وقفت، ووجدت أن الآخرين جميعا قد وقفوا، أعينهم مفتحة وفي حدقاتهم رعب، وكانت المرأة أول من تحرك، تركتنا واقفين مشلولين، واندفعت إلى باب الحجرة التي تصاعد منها العواء بلا خوف أو وجل، وكأن العواء صرخة طفل رضيع هي أمه، وما إن دخلت حتى تصاعد الصوت مرة أخرى، ولكنه لم يستمر، وما لبث أن انقطع، وكأنه فطم، وارتفع على أثره نحيب، لولا خشونته القليلة لحسبته نحيب طفل.
وقال عبد الله في رجاء يكاد يتحول إلى بكاء: ما نخليها يا دكتور للحكيمباشي، اعمل معروف.
ولمحت شوقي أصفر زائغ العينين يتطلع إلى الباب، ثم إلى عبد الله وإلي مترددا.
في تلك اللحظة بالذات كنت أمر بحالة الخجل الذي يعقب خوفنا من شيء، خجل لأننا ونحن رجال قد خفنا، ذلك الخجل الذي يدفع الإنسان في الحال لتحدي ما يخيفه والاستهانة به واقتحامه، ويبدو أن شوقي كان قرأ في عيني ما جعله يحاول باستماتة أن يؤكد لي أنه هو الآخر غير خائف، وأننا لا بد أن نمضي في المهمة إلى نهايتها.
وهكذا دخلنا الحجرة.
صفحه نامشخص