ذلك أننا نعيش في مجتمع اقتنائي يدعو إلى تنازع البقاء ويبعث الخوف والقلق من المستقبل، ويجعل التفوق أو التخلف ثمرة للمباراة، فهو مجتمع اقتنائي تحاسدي تنازعي، وفي كل فرد خوف من المستقبل لهذا السبب، وجميع أفراده في مباراة تملأهم شكوكا وشبهات يخافون الفقر ولا يجدون الطمأنينة، حتى الصبي في المدرسة يطالب بالمباراة والتفوق في الامتحانات.
فليتأمل القارئ ما يتفرغ من معنى المباراة ومعنى التفوق هنا في نفس الصبي؛ فإنه يخشى هذه المباراة وتمتلئ نفسه شكوكا عن الفشل في المستقبل، وهو يغار من المتفوقين ويكرههم، وهو يحسد ويلعن، ثم هذه الرغبة في التفوق تحمله على البغض والكراهية لغيره وحب السبق لنفسه، وجميع هذه العواطف كريهة تبقيه في قلق؛ فإذا ترك المدرسة وجد هذه الصفات أيضا في المجتمع في صورة أوضح، بل أبشع؛ لأنه ينتهي إلى أن يقيس ويزن بهذا الاعتبار التالي: «يجب أن أسبقك وأتفوق عليك، وأيضا أكرهك إذا سبقتني وتفوقت علي، وأنا أخشى الفشل؛ ولذلك أنا قلق خائف غير مطمئن إلى الدنيا.» ومثل هذه الحال تجعلنا جميعا مرضى، وهذا هو الواقع الآن، وإنما فقط تتفاوت في درجة المرض؛ أي: في درجة القلق والهم والخوف والشك.
وهذه الصفات تلصق بنا وتعود عواطف نعتقد أحيانا أنها طبيعية؛ فالزوج يعامل زوجته بروح الاقتناء، يريد أن يأخذ ولا يعطي، بل هو يفعل ذلك حتى في المواقف الجنسية الحميمة بينه وبينها، والخوف المستقر في نفوسنا من الفشل في هذه المباراة لأجل الاقتناء، اقتناء المال والوجاهة إلخ، هذا الخوف يحملنا على أن نتسلح بالتسلط والتجبر؛ لأنهما يوهماننا البعد عن الخوف. وهذا إلى مطامع خيالية بشأن الثراء والوجاهة والقوة، تتغلغل في نفوسنا وتحملنا على بذل مجهودات مضنية تفتت صحتنا الجسمية والنفسية.
وكل ما نؤمن به من عقائد، وكل ما ينبعث في نفوسنا من عواطف، نتيجة لهذه العقائد، إنما نأخذه من المجتمع الذي نعيش فيه؛ فالحسد والغيرة والخوف والقلق، والرغبة في التسلط (الاستبداد) والشك، كل هذا يعود كما لو كان عواطف طبيعية في نفوسنا، مع أنها أمراض نفسية نشأت عندنا من المباراة والاقتناء في المجتمع.
ولذلك نجد أن أعظم الأمم إيمانا بمذهب الاقتناء وممارسة للمباراة هن أيضا أعظمهن في الأمراض النفسية، وهذه الأمة هي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يزيد عدد الأسرة للأمراض النفسية في مستشفياتها على عددها للأمراض الجسمية؛ مباراة وتنازع وتحاسد وغيرة وخوف وقلق، تؤدي إلى انهيار في الأعصاب واختلال العواطف، ثم إلى انهيار واختلال في العقل.
وأمراضنا النفسية هي في النهاية عجز الفرد عن أن يعيش في المجتمع على أساليبه وأخلاقه وأهدافه، وجميع مشكلاتنا النفسية هي - لهذا السبب - مشكلات اجتماعية، ومما له دلالة كبيرة هنا أن المدارس الجديدة في الولايات المتحدة تمنع المكافآت والامتحانات، وتحمل التلاميذ على التعاون بدلا من المباراة، وتجعلهم يحلون مشكلة عامة متعاونين؛ وذلك لأنها عرفت ما تحدثه المباراة في نفوسهم من قلق وخوف، وما تبعثه فيهم من عواطف كريهة كالتحاسد والتباغض، ولكن ماذا يجدي التعاون في المدرسة إذا كان هؤلاء المساكين سيخرجون إلى مجتمع كله مباراة وممارسة للاقتناء، بل ممارسة للخطف وتنازع بقاء؟ «ولأم المخطئ الهبل» - كما يقول الشاعر العربي - أو للمتخلف الانتحار.
ولسنا قادرين على أن نغير هذا المجتمع التحاسدي إلى مجتمع تعاوني؛ أي: نغير أسلوب العيش من المباراة إلى التعاون؛ ولذلك ستبقى معنا الأمراض النفسية ما دام مجتمعنا قائما على أسلوبه هذا، وقصارى ما نستطيع أن نفعله أن نعالج حالة فردية بعد أخرى، ونحاول أن نرد المريض إلى وجدانه؛ أي: إلى التعقل، وبكلمة أخرى: نحاول أن نبين له أنه يجب عليه ألا يتطوح في الأخذ بأسلوب هذا المجتمع حتى يمرض ويجن.
وإلى أن يتغير مجتمعنا من المباراة والاقتناء إلى التعاون والاشتراك فإننا سنبقى مرضى، نهرب من عواطف القلق بالخمر، ونفر من الفشل بالانتحار، ونجهد الجسم والنفس في مجهودات لتحقيق مطامع خيالية، ونلجأ إلى المارستان كي نعيش في أحلام الغيبوبة؛ لأننا لا نطيق الواقع بكل ما فيه من مصاعب. (1)
اعتبر أيها القارئ موظفا في الدرجة السابعة في الحكومة، يتحكم فيه الرئيس ويتعنت، ويهدده من وقت لآخر بالغرامة وبمجلس التأديب، ويتربص به الأخطاء كي يوقع به، ففي هذه الحال يقلق هذا الموظف ويخشى فصله من الوظيفة، وهو يجسد أربعة أو خمسة أطفال مع أمهم عليه أن يعولهم، والقلق يحدث له أعراضا جسيمة مثل لغط القلب أو زيادة الضغط الدموي، أو اضطرابا معويا من إمساك إلى إسهال. (2)
واعتبر آخر يعمل في بورصة الأوراق، وهو بين ساعة وأخرى يرتفع سرورا أو ينخفض اغتماما لتقلب الأسعار. (3)
صفحه نامشخص