المقدمة
كلمات يجب أن يعرفها القارئ
عقل الإنسان وعقل الحيوان
العقل والمخ
الغرائز والعواطف
الغريزة الأصلية
الجسم يؤثر في العقل
العقل يؤثر في الجسم
طبيعة التفكير
طبيعة الذكاء
الذكاء والعبقرية
طراز الجسم ومزاج النفس
المزاج النفسي أيضا
الخطأ الأساسي في التفكير
اللغة والتفكير
الكظم والعقل الكامن
العواطف المكظومة تلد العمل الفني
الأحلام ومغزاها
الكابوس وأسبابه
الإيحاء والتنويم النفسي
الانتحار السيكلوجي
المركبات
مركب النقص
الضمير
المجتمع البشري
العائلة البشرية
التطور الاجتماعي للشخصية
مرض النفس هو مرض المجتمع
العاطفة والوجدان
الانعكاسات المعدولة
الذاكرة والتخيل
التفكير الناجع
الاتجاه الذاتي والاتجاه الموضوعي
الخصائص السيكلوجية للمرأة
الحياة الجنسية
الحياة الاجتماعية والحياة الحرفية
حياتنا الفراغية
السعادة
وسائل عملية للسعادة
النفس السليمة
المرض والصحة درجتان
الأمراض النفسية الخفيفة
الأسلوب النفسي
تربية الأطفال
سيكلوجية الدرس
التحليل النفسي
التأليف أهم من التحليل
الزيغ الجنسي
النظر السيكلوجي للإجرام
الشخصية السيكوبائية
إحدى الشخصيات السيكوبائية
النيوروز
السيكوز
الجنون الذي يطفئ نور العقل!
المقدمة
كلمات يجب أن يعرفها القارئ
عقل الإنسان وعقل الحيوان
العقل والمخ
الغرائز والعواطف
الغريزة الأصلية
الجسم يؤثر في العقل
العقل يؤثر في الجسم
طبيعة التفكير
طبيعة الذكاء
الذكاء والعبقرية
طراز الجسم ومزاج النفس
المزاج النفسي أيضا
الخطأ الأساسي في التفكير
اللغة والتفكير
الكظم والعقل الكامن
العواطف المكظومة تلد العمل الفني
الأحلام ومغزاها
الكابوس وأسبابه
الإيحاء والتنويم النفسي
الانتحار السيكلوجي
المركبات
مركب النقص
الضمير
المجتمع البشري
العائلة البشرية
التطور الاجتماعي للشخصية
مرض النفس هو مرض المجتمع
العاطفة والوجدان
الانعكاسات المعدولة
الذاكرة والتخيل
التفكير الناجع
الاتجاه الذاتي والاتجاه الموضوعي
الخصائص السيكلوجية للمرأة
الحياة الجنسية
الحياة الاجتماعية والحياة الحرفية
حياتنا الفراغية
السعادة
وسائل عملية للسعادة
النفس السليمة
المرض والصحة درجتان
الأمراض النفسية الخفيفة
الأسلوب النفسي
تربية الأطفال
سيكلوجية الدرس
التحليل النفسي
التأليف أهم من التحليل
الزيغ الجنسي
النظر السيكلوجي للإجرام
الشخصية السيكوبائية
إحدى الشخصيات السيكوبائية
النيوروز
السيكوز
الجنون الذي يطفئ نور العقل!
عقلي وعقلك
عقلي وعقلك
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
قبل خمس وعشرين سنة ألفت كتابي «العقل الباطن» فلقي إقبالا عظيما بين القراء وانتفع كثير منهم به؛ لأنه صادف حاجة في نفوسهم، وكان هذا الكتاب تأليفا ولم يكن ترجمة؛ لأني أوثر التأليف لما فيه من إيجاز هنا وإسهاب هناك بالقدر الذي أراه في الجمهور العربي القارئ واختلاف حاجاته، وهذه ميزات لا تتوافر في كتاب مترجم ولو كان مؤلفه من أعظم السيكلوجيين؛ إذ هو يكتب لمجتمع غير مجتمعنا.
وقد وجدت أن الحاجة تمس في الوقت الحاضر إلى كتاب أوفى وأكثر إسهابا؛ أولا: لأن الذين قرأوا «العقل الباطن» يستطيعون أن يفهموا وأن يطلبوا أكثر منه، وثانيا: لأن السيكلوجية قد سجلت كثيرا من التقدم؛ فالكاتب يسعه أن ينير ويفسر ويشرح كثيرا من التصرفات في الصحة أو المرض أو السلوك، أكثر مما كان يستطيع قبل 25 سنة، وخاصة بعد أن قام كثير من مؤلفينا في مصر بشروح سيكلوجية مطولة أو موجزة.
والتصرف البشري إما تصرف عاقل، وإما تصرف زائغ، والفرق بينهما هو فرق درجي وليس نوعيا. ومع أني قد التفت كثيرا إلى التصرف العاقل، فإني احتجت إلى أن أمس تصرف الزائفين لما يلقي هذا من ضوء على تصرف العقلاء؛ لأن الزيغ النفسي إنما هو في صميمه مبالغة في ناحية معينة من الاتجاه النفسي، وكما تعرف الصحة من المرض في أعضاء الجسم، كذلك تعرف النفس السليمة من اتجاهات وتصرفات النفس الزائغة.
وإذا كان الدجالون الذين يعالجون الأمراض أو الشذوذات النفسية قد تفشوا في أيامنا؛ فإنما يرجع هذا إلى شيوع الجهل بين الجمهور.
والسبيل إلى وقف هؤلاء الدجالين لن يكون إلا بنشر المعارف السيكلوجية الصحيحة التي يستطيع القارئ أن يسترشد بها في سلوكه، وأن يعرف بها زيف هؤلاء الدجالين.
وكل إنسان متعلم يجب أن يكون طبيبا نفسيا إلى حد ما. ولا يصح هذا القول على الناس من ناحية الطب العضوي؛ لأن الرجل المتعلم لا يأتمن نفسه على تناول جرعة من الزرنيخ كي يتقوى بها، ولكن هذا الرجل المتعلم يستطيع أن يعرف مقدارا كبيرا من السيكلوجية يسترشد به في سلوكه وتصرفه، وليس في الطب النفسي زرنيخ.
والطبيب النفسي الذي يطالب بمعالجة الطفل الزائغ، والزوجة الناشزة، والزوج النافر، والنزوة الانتحارية، واللياقة الحرفية، والإضراب عن الاهتمامات الدنيوية، والسرور أو الحزن في غير مناسبتيهما، هذا الطبيب يحتاج إلى دراسات واسعة متشعبة في فهم الطبيعة البشرية؛ إذ يجب أن يدرس البيولوجية والفلسفة والاقتصاد والاجتماع والدين والتاريخ والآداب؛ لأن الواقع أن مشكلاتنا النفسية هي في النهاية مشكلات فلسفية؛ أي إنها تتصل بموقفنا العالمي وما نرغب في تحقيقه في هذه الدنيا، وهل نحن نتجه إلى أهداف حسنة أم قد انخدعنا بأهداف زائفة؛ أي: ما هي الخارطة النفسية التي نرسمها لشئون هذا الكوكب الروحية والمادية؟
وبديهي أن العلم الأمثل هو الذي يستطيع أن نعبر عن حقائقه بالأرقام أو ما يقاربها في الصحة، ولا يمكن أن يقال هذا عن السيكلوجية في أيامنا. وإن كان مقدار كبير من المعارف السيكلوجية الآن يقوم على أساس من التجارب والأرقام. ولكن الطب العضوي نفسه كذلك لم يبلغ الكمال، بل هذا الكمال لم يبلغه أي علم، على أن الاتجاه التجريبي في السيكلوجية سوف يحقق شيئا كثيرا من الوصول إلى هذا الهدف.
وألغاز الحياة كثيرة. والسيكلوجية تحاول أن تسبر أعماقها وتنشد لها حلولا، وهي كل يوم تحقق نصرا بعد نصر.
وهذا الكتاب هو مجهود لنشر الحقائق، بلغة القرن العشرين العربية، عن السيكلوجية العصرية.
وقد اخترت ثلاث كلمات جديدة؛ فإني استبدلت بعبارة العقل الباطن كلمة: الكامنة؛ أي: العقل الكامن؛ وذلك لأن العبارة الأولى توهم الركود، أما الثانية ففيها معنى النشاط والتربص، وكلاهما من صفات الكامنة التي تتربص بنا، وأحيانا تتغلب علينا.
والكلمة الثانية هي الوجدان بدلا من الوعي؛ لأن الأولى أصح لغة من الثانية؛ لأن الوعي مشتق من فعل وعى، وليس فيه معنى غير الحفظ؛ ومن هنا الوعاء؛ أي: الإناء الذي نحفظ فيه شيئا، ولكن الوجدان مشتق من فعل وجد؛ أي: كيف تجد نفسك؟
والكلمة الثالثة هي الكظم بدلا من الكبت، وقد اخترتها لأنها أصح لغة، ولأن الجمهور يعرفها من عبارة كظم الغيظ. وقد يعاب عليها أننا نكظم ونحن على وجدان، وأن الكظم السيئ يحدث بلا وجدان. ولكن هذا التمييز يمكن أن نلتفت إليه في التفسير والإيضاح.
أما سائر الكلمات السيكلوجية مثل: السيكوز والنيوروز والهستيريا والنورستينيا والسيكوبائية، وما إليها؛ فقد أبقيتها على أصلها اللغوي الذي يتعارف به جميع السيكلوجيين على هذا الكوكب مهما اختلفت لغاتهم الوطنية، ولكل علم لغة يتعارف بها علماؤه، وهي تختلف من اللغات الوطنية؛ ولذلك لا يصح ترجمة هذه الكلمات، وقد وفيتها إيضاحا.
ورجائي أن أنفع القراء، فأثير اهتمامهم واستطلاعهم، وأستفز ذكاءهم إلى الاستزادة.
سلامة موسى
كلمات يجب أن يعرفها القارئ
بارانويا:
مرض نفسي يبدو فيه المريض سليما في كل شيء إلا في موضوع معين؛ إذ يعتقد بشأنه اعتقادا غير سليم.
باطن: «عقل باطن» هو ما نسميه الآن «الكامنة» أو العقل الكامن؛ أي: تلك الأفكار والدوافع المختزنة التي لا ندري بها، ولكنها تقرر - من حيث لا ندري - محابنا ومكارهنا وتعين تصرفنا؛ لأنها أقوى وأرسخ من وجداننا وأدوم منه.
تنويم نفسي:
الهبنوتية؛ أي: الإيحاء المركز الذي نستطيع به أن نوحي إلى آخر بالنوم فيسمع لنا ويخضع لأوامرنا، حتى بعد أن يستيقظ من هذا النوم.
سيكوبائية:
مرض نفسي بين النيروز والسيكوز لا يفرز صاحبه من سائر الناس، ولكنه يبدو في شذوذ جنسي أو إجرام أو نحو ذلك.
سيكوز:
مرض العقل حين يختل عقل المريض ويعجز عن التفكير الموضوعي المنطقي، ويستسلم لخيالات ذاتية.
شيزوفرينيا:
سيكوز؛ أي: مرض بالعقل يحمل المريض على الاستسلام للتفكير الذاتي، فينفصل عن العالم الموضوعي.
عاطفة:
الغريزة وقت احتدادها.
غريزة:
دافع نفسي طبيعي يحملنا على تجنب الخطر أو طلب الأنثى أو نحو ذلك.
كامنة:
العقل الكامن (وهو ما كنا نسميه قبلا: العقل الباطن).
كبت:
هو ما نسميه الآن الكظم؛ أي: حبس عواطفنا، وهي عندما تنحبس تكمن في الكامنة وتصوغ تصرفاتنا من حيث لا ندري.
كظم:
حبس العواطف سواء عن وجدان أم بلا وجدان، وهو في الحال الأولى أسهل في العلاج مما هو في الحالة الثانية.
مانيا:
سيكوز؛ أي: مرض عقلي يحمل صاحبه على التشاؤم والاغتمام في الأغلب، أو في الأقل على السرور والغبطة، مع عقائد وخيالات ذاتية.
نورستينيا:
توتر عاطفي يبدو في خفقان القلب والخوف والعرق والرعشة والتعب.
نيوروز:
هو مرض العاطفة حين تحتد احتدادا لا يطاق، كالشك أو الخوف أو الكراهية أو الاشمئزاز.
هبنوتية:
التنويم النفسي؛ أي: حين نحمل أحد الناس على النوم بحيث يستمع لنا ويطيع أوامرنا ويصدقها؛ أي إننا نوحي إليه ما نشاء أن يصدقه.
هستيريا:
سيكوز؛ أي: مرض عقلي يرافقه مرض وظيفي في أحد أعضاء الجسم.
وجدان:
هو ما كنا نسميه قبل الآن: «وعي»؛ أي: هو النظر الموضوعي المنطقي، لشئون الحياة.
وفي هذا الكتاب قد استغنينا عن كثير من الكلمات السيكلوجية؛ أولا: لأننا رأينا أن فيها إرهاقا للقارئ العادي، وثانيا: لأننا نعتقد أن كثيرا منها سيزول بعد التمحيص؛ أي: عندما يثبت أنها وضعت في ضوء تفسيرات غير صحيحة.
عقل الإنسان وعقل الحيوان
حين نقارن بين العقلين في الإنسان والحيوان يجب أن نميز بين الحيوانات؛ فإن القرد والسلحفاة والسمكة والنملة والإسفنج من الحيوانات، والاختلاف بينها في القوى «العقلية» من العظم بحيث يجعل المقارنة شاقة، بل مستحيلة. بل إن من الخطأ أن نقول: إن للإسفنج أو المحار عقلا؛ إذ ليس لهما دماغ، ولكنا نجد فيهما بداية الجهاز العصبي والإحساس.
اغرز إبرة في يد إنسان فيصرخ بعد ثانيتين.
واغرز إبرة في إسفنجة فتقفل فتحتها بعد عشر دقائق.
ومعنى هذا: أن الإحساس يسير بسرعة 255 ميلا في الساعة في الإنسان، أما في الإسفنج فلا يسير إلا بسرعة ثلاثة أميال ونصف ميل في الساعة.
لما ظهر الإسفنج على كوكبنا كانت الطبيعة مبتدئة تصنع آلات بطيئة، فلما وصلت إلى الإنسان بعد نحو 500 أو 600 مليون سنة استطاعت أن تصنع آلات سريعة، والإسفنج من أحط أنواع الحيوان، ليست له عين أو أذن أو أنف، وليس له دماغ؛ ولذلك لا تصلح المقارنة بيننا وبينه، ولكن المقارنة بين الإنسان والقرد الشمبنزي أو القرد الغوريلا معقولة، تنهض على أساس حسن؛ لأن الفرق بيننا وبينهما درجي وليس نوعيا.
وأصلنا مع ذلك من الحيوان، ولنا غرائزه التي تعمل بعواطف نضبطها بالعقل وأحيانا لا نضبطها، وامتيازنا على جميع الحيوانات هو الدماغ الكبير الذي يستطيع ضبط عواطفنا أكثر مما يستطيعه الحيوان، وليس معنى هذا أنه ليس للحيوان الباقي دماغ، إنما معناه أن دماغنا أكبر وأضخم يتسع للتفكير الذي لا يصل إليه أرقى الحيوانات دوننا.
ويمكن أن نقول على وجه الإجمال: إن أحط الحيوان كالإسفنج أو المحار يقتصر نشاطه العصبي على الرجع الانعكاسي، كما يحدث لأحدنا عندما تطرف عينه؛ فإذا ارتقى الحيوان على ذلك أصبح نشاطه عاطفيا؛ يغضب فيقاتل، أو يخاف فيفر، كما نرى في السمك؛ فإذا ارتقى على ذلك صار للعقل قوة الضبط - قليلا أو كثيرا - لهذه العواطف، وهذا الضبط على أكثره في الإنسان.
وضبط العاطفة يعود إلى الوجدان؛ أي إلى تلك الوقفة أو الحالة التي لا نستسلم فيها لعاطفة الغضب مثلا، فلا نندفع إلى ضرب الخصم؛ بل نقف ونتأمل، وندري أننا نقف ونتأمل، ونفكر في الخطة المثلى التي يقتضيها الظرف؛ أي وجدان يؤدي إلى التفكير الذكي، بل هو التفكير الذكي.
وكثير من نشاطنا العصبي رجع انعكاسي؛ كما نرى في طرفة العين عند لقاء النور الساطع وتحرك اللعاب عند رؤية الطعام، وكثير منه رجع عاطفي؛ كما نرى في الغضب والحزن والاشمئزاز والفرح. وأساس العاطفة مع ذلك هو الرجع الانعكاسي، والقليل من نشاطنا العصبي وجداني حين نحاول حل مشكلة فنزن الاعتبارات المختلفة، وقد نصل إلى قرار ضد عواطفنا، كالشاب يحس عاطفة قوية نحو الفتاة ثم يفكر في الزواج بها، ولكنه ينتهي إلى الإحجام لاعتبارات اجتماعية أو اقتصادية.
نحن نمتاز على الحيوان بضخامة المخ ووفرة أخاديده وزيادة الوجدان؛ أي: زيادة التفكير.
وبالطبع هناك اعتبارات أخرى كثيرة جعلت الإنسان يمتاز بالرقي العقلي على الحيوان قبل ضخامة المخ وكثرة أخاديده؛ منها مثلا: أننا اعتمدنا على النظر دون الشم في التعرف إلى الأشياء والحيوان والنبات، وتفكيرنا - أو بالأحرى وجداننا - هو وجدان الرؤية، حتى إننا نقول: «يرى رأيا» كما لو كنا نقول: «يفكر تفكيرا»؛ فنحن نعرف الدنيا بالعين، في حين أن معظم الحيوانات يعرفها بالأنف؛ أي: الشم.
والرؤية تجعلنا نفهم الدنيا - إلى حد ما - فهما موضوعيا منفصلا من عواطفنا، أما الشم فيجعل الفهم - إلى حد كبير - ذاتيا؛ فالدنيا عند الكلب، هي مجموعة من الانعكاسات العصبية في فمه وأنفه، أما العين عندنا فترسم لنا خارطة تكاد تكون صحيحة للدنيا، ولكن الأنف والفم لا يرسمان خارطة صحيحة للكلب؛ ومن هنا كلماتنا في معاني التفكير: الرأي، النظر، التطلع، الاستطلاع، الرؤية، الرؤيا، الروية، التبصر، التشوف؛ فإنها كلها كلمات تدل على تفكير العين.
ونستطيع أن نزيد في المقارنة بيننا وبين الحيوان، فنقول: إن تعقل الحيوان - مثلا - حسي، وتعقلنا تصوري؛ هو يحس ويسلك بمقتضى إحساسه فقط، ونحن نحس ونسلك بمقتضى تصورنا وتخيلنا. وهذا أيضا كلام مجمل؛ لأن كثيرا من الحيوانات العليا تتصور وتتخيل، وإن لم تبلغ درجتنا.
واللغة عندنا تجعل كثيرا من التعقل تخيليا تصوريا. والحيوان محروم من اللغة، فلا يجد ما نجد من رسم الصور في أذهاننا والتفاهم بالكلمات عن الأشياء حين تنتقل الصور، وتتغير الأخيلة في أذهاننا بالحديث.
ولننظر نظرة أخرى، هي النظرة التطورية:
أحط الأنواع في النشاط العصبي هو الرجع الانعكاسي؛ وبرهان انحطاطه أننا نحس هذا الرجع بلا حاجة إلى المخ؛ فإن حركة القدم من التجميش أو الوخز تحدث بعد قطع رأس الحيوان؛ لأن مركز الإحساس هنا هو الحبل الشوكي «داخل الفقار» وليس المخ.
وأعلى من الرجع الانعكاسي، العاطفة؛ أي: الرجع الغريزي.
وأعلى من هذين، هو الوجدان الذي يؤدي إلى التعقل.
وأقدم الحيوانات، وجميع الأحياء البدائية القديمة - مثل الإسفنج - انعكاسية السلوك، وأقل منها قدما الحيوانات العاطفية (الغريزية)، وأجد الحيوانات هي الوجدانية التي تتعقل ولا تستسلم للعواطف، وأعلاها هو الإنسان.
وهذا نراه في نومنا أو وقت التخدر بالخمر أو غيرها؛ فإن أقدم رجوعنا العصبية هو بالطبع أرسخها في نفوسنا، لا يتزعزع بالنوم أو الخمر، وأجدها هو أكثرها تزعزعا وزوالا في النوم أو الخمر، فنحن في هاتين الحالين نعجز عن التعقل بالوجدان. ولكن الرجع الانعكاسي يبقى حيا؛ كما إذا جمش أحد قدمنا فإننا نسحبها حتى ونحن نيام، بل أحيانا العاطفة تبقى حية فنجد نشاطا جنسيا في النوم، ولكن ليس هناك مكان للوجدان في النوم أو وقت التخدر.
تفكير العاطفة هو مثل الغضب والحسد والأنانية والشره والكراهة، وتفكير الوجدان هو مثل المنطق والهندسة والمروءة والواجب والتبصر والشرف. وحين تملكني العاطفة أكون منفعلا فلا أكاد أفكر كما يحدث عندما أجري من الخوف أو آكل وأنا جائع أو أتشاجر في غضب.
ولكني في الوجدان أوازن بين عاطفة وأخرى، فأقف وأتبصر وأعتمد على المنطق وأروي وأنتقد وأحلل وأؤلف.
الوجدان هو أن أفكر وأعمل وأنا أدري أني أفكر وأعمل، هو كما قال ديكارت، قبل أكثر من 300 سنة: «أنا أفكر؛ ولذلك أنا موجود.»
العاطفة هي أن أنساق في رغبة أو شهوة قسرا أو كالقسر، وأنسى نفسي فلا أكاد أفكر.
الحيوان عاطفي لا يدري بوجوده (= بوجدانه)، وهو ينفعل بعاطفته وينساق بها مضطرا أو كالمضطر في تصرفه. والدنيا مصورة في عقله تصويرا ذاتيا أملته العاطفة، وهو تصوير يخالف الواقع.
ولكن الإنسان وجداني، يدري بوجوده، يقف ويتأمل ويوازن بين الاعتبارات، والدنيا مصورة في ذهنه تصويرا موضوعيا؛ أي كما هي تقريبا في الواقع غير متأثر بانفعالاته أو متأثر قليلا.
وعندما نتأمل أنفسنا نجد أننا نختلف في الوجدان عما نكون عليه في العاطفة، ويكاد هذا الاختلاف يساوي الفرق بين اليقظة والنوم. والواقع أن كثيرا من الحيوانات - كالديدان والزواحف والحشرات - يعيش كما لو كان في حال النوم البشري؛ ينساق بغرائزه وعواطفه وانعكاساته؛ لأن هذا هو كل ما يملك؛ إذ ليس له وجدان.
وغاية الفلسفة والدين والعلم أن ينقلنا كل منها من العاطفة والنظر الذاتي التسليمي للدنيا إلى الوجدان بالنظر الموضوعي الانتقادي. ويمكن أن نقيس رقي المجتمع بقدر ما في زعمائه وأشخاصه ومذاهبه من وجدان. والرجل الحكيم هو الذي يرفض السلوك العاطفي الذاتي ويعمد إلى السلوك الوجداني الموضوعي. والمقياس السديد للسلامة النفسية هو الوجدان؛ إذ على قدر اعتمادنا في السلوك والتصرف على الوجدان بالنظر الموضوعي تكون سلامتنا، وعلى قدر بعدنا من الوجدان وانسياقنا وراء العواطف يكون المرض النفسي.
والوجدان يؤدي إلى الذكاء، وهو «الغريزة العالمية» التي تحملنا على ترك إحساسنا الخاص والتخلص من انفعالاتنا حتى نرى الدنيا رؤية موضوعية؛ أي: كما هي في حقيقتها وليس كما يصورها لنا غضبنا أو هوانا أو طمعنا أو خوفنا؛ أي: ليس كما تصورها لنا انفعالاتنا. بل يكاد الوجدان في البشر يكون عاطفة جديدة؛ لأننا بالوجدان نحس قيما ونتخذ مقاييس عالمية - بل كونية - نتساءل عن أصل العالم والنجوم والحيوان والنبات وأصل الكون ومنتهاه، ونبحث الحضارة الصينية وأجزاء الذرة وقيمة الفلسفة والدين والغاية من الوجود، وأصل الفضيلة، وننتقد الطبيعة ونصوغ المستقبل. أليس الوجدان هو الذي يحمل غاندي على أن يجمع بين الثورة والقداسة؟ ففي حين يرى الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب كلها قسوة وبطش وتقتيل، يعمد هو بوجدانه - أي بإحساسه الأفيانوسي - إلى الدعوة إلى حب الإنجليز، حتى وهو يرى بنادقهم مسلطة على الهنود.
ومع ذلك هذا هو وجداننا الآن في أسمى إنسان نعرفه في عصرنا. ولكنا لا نعرف ما سوف يكون هذا الوجدان بعد الألوف من السنين!
ووجداننا كما ورثناه من الطبيعة شيء عظيم في ذاته؛ أي إنه اختراع جديد يفصل ما بيننا وبين الحيوان، ولكنه أعظم بالمجتمع والثقافة.
انظر إلى فكرة الموت التي يعرفها البشر ولا يعرفها الحيوان؛ فإن هذه الفكرة الوجدانية قد جمعت حولها مركبات: اختراع الآلهة ومبادئ الدين، والفضائل والرذائل، وفكرة الحياة الفاضلة، كما أنها حركت الكثير من الصناعات والحرف، وزاد الوجدان بذلك زيادة عظمى.
وانظر إلى اكتشاف الزراعة التي أوجدت الحكومة وعلوم الهندسة والفلك وشتى المعارف الأخرى.
وكذلك لا ننسى قيمة اللغة في الوجدان، وكذلك النظريات الاجتماعية التي تعد كل منها محاولة لتفهم المجتمع تفهما وجدانيا، وأذكر مثلا قولنا: «ليس عند هذا العامل وجدان طبقي»؛ أي إن فهمه لحالته الاقتصادية مقصور على نفسه، ولم يتعمم إلى آلاف العمال في هذا العالم، وقس على هذا.
وغاية الوجدان كما نبصرها الآن في ضوء تكونه وتطوره الماضيين أن يكون حاسة كونية نعرف بها الأشياء في هذا الكون كما هي في حقيقتها.
العقل والمخ
كان هناك شيء في القرن التاسع عشر يدعى «علم الفراسة »، وكان أكبر دعاته رجل يدعى جول، وجد من الجمهور استعدادا لتصديق مزاعمه. وكان جول هذا يرسم للمخ خارطة يبين فيها الكفاءات، ويعين للناس أخلاقهم ودرجات ذكائهم؛ فهذا النتوء في خلف القحف، وهذا الغثور في الجبهة، وهذه الأبعاد في الجبين وما فوق الأذن وما يليها من الخلف أو الأمام، كل هذا يدل على كفاءات معينة في الشخص يمكن أن نتفرسها. وكانت أوروبا تشتاق إلى التفسيرات المادية التي تغنيها عن الغيبيات؛ ولذلك شاع مذهب الفراسة هذا وقتا غير قصير.
ولكن البحث العلمي أثبت أن نظرية الكفاءات هذه غير صحيحة؛ أي إننا لا نستطيع أن نعين بقعا خاصة في المخ تدل إحداها على الصدق والأخرى على الغدر أو الرذيلة أو الفضيلة. ولكن الحرب الكبرى الأولى، بما حدث فيها من إصابات مختلفة ومتعددة في المخ، أثبتت شيئا يقارب مزاعم جول؛ هو أن هناك مراكز معينة في المخ للنظر، أو حركة اليد، أو حتى حركة إبهام اليد، أو الكلام، أو غير ذلك، بحيث إذا أصيب المخ في إحدى هذه البقع عجز المصاب عن الكلام أو عن تحريك الإبهام أو عن الرؤية.
وأكثر من هذا؛ إذ ثبت أن المركز الحسي في المخ يتسع على الدوام، كي يتصل بمراكز حسية أخرى عن طريق الملايين من خلايا المخ التي تصل بين مركز حسي وآخر؛ ومن هنا الظاهرة التي كانت مألوفة في هؤلاء الجرحى في الحرب؛ فإن الإصابة المخية قد تعجز أحدهم عن القراءة ولكنها لا تعجزه عن الكتابة؛ لأن المركز المخي للسان جرح ولكن المركز الحسي لليد والإبهام لم يجرح؛ فهو يكتب ولا يقرأ. ولكن اتصال هذه المراكز الحسية بعضها ببعض يجعل الفهم مضمونا؛ لأن ما نفقده بحاسة لا يزال باقيا بالمراكز الحسية الأخرى.
ومن هنا قيمة المخ الكبير، أو بكلمة أصح، قيمة المخ في القحف الكبير؛ لأنه يكون مثلا كثير التلافيف؛ لأن هذه الخلايا تربط بقع الإحساس المختلفة، وتجعل التذكر قائما على جملة قواعد، إذا فسدت واحدة بقيت الأخرى؛ ومن هنا أيضا نفهم أن التذكر يحتاج كي يكون راسخا، إلى أن نربطه بجملة بقع حسية؛ فإذا أردنا أن نحفظ قصيدة، كان حفظنا لها أرسخ، إذا نحن تلوناها بصوت عال نسمعه (= بقعة السمع)، وإذا كتبناها (= بقعة اللمس باليد والإبهام)، ويزيد على هذين رؤية الحروف (= بقعة النظر)؛ فهذه البقع الثلاث ترتبط بالذاكرة فلا ننسى ما حفظنا. ويكون حفظنا أضعف إذا حفظناها من شخص نتلوها بعده؛ لأننا هنا نفقد رباطي النظر واللمس؛ وأقل ضعفا إذا لم نكتبها؛ لأن الكتابة تزيد رباط اللمس باليد والإبهام.
وبالمخ ملايين من الخلايا التي تتصل بالمراكز الحسية؛ ولذلك يحدث إذا نزعنا جزءا منه أن نجد أن الشخص قد عاد عقب النزع وهو لا يحس أي نقص في ذكائه؛ لأن الشبكة التي قطع جزء منها بالنزع لم تنقطع، بل ما زالت متصلة بملايين الخلايا إلى المراكز الحسية. وأحيانا يؤدي النزع إلى فقدان مهارة صغيرة معينة، ولكن الذكاء العام لا يفقد. وتفسير هذا أن المهارة الصغيرة المعينة مثل الخياطة أو الكتابة أو الرسم أو ركوب البسكليت كانت تتحيز مركزا حسيا معينا، فلما تلف هذا المركز فقدنا المهارة التي كانت متوقفة عليه، ولكن المخ - بملايين الخلايا التي فيه - لم يضره هذا الفقدان؛ فالذكاء العام لا يزال كما هو؛ ومن هنا قيمة المخ الكبير؛ لأنه في الأغلب يحوي تلافيف كثيرة تزيد الفسحة التي تنمو فيها الخلايا فيزيد الذكاء، ولكن ضخامة الرأس ليست مقياسا مؤكدا لصحة؛ لأن الرأس الكبير قد يعود إلى ثخانة القحف العظمي، وقد تكون ضخامة في المخ مع قلة في التلافيف.
على أننا يجب ألا ننسى أن ثلثي البلد يتسمون برءوس صغيرة، وأحيانا صغيرة جدا. وموكب التطور العام من الحيوانات الدنيا إلى الإنسان يحملنا على الاعتقاد بأن زيادة الذكاء قد رافقت زيادة المخ؛ لأن الإنسان أكبر الأحياء مخا من حيث المقدار المئوي. ولكن هناك الإنسان النياندرتالي الذي انقرض وقحفه يدل على أن مخه كان أكبر من مخنا؛ فإن قحفه كان يبلغ في تجويفه 1700 سنتيمتر مكعب، أما نحن فلا نزيد على 1350 سنتيمتر مكعب. ومن العجب أن نتغلب نحن على هذا الإنسان مع ذكائه هذا، وربما يكون التعليل الصحيح أنه لنقص عضوي لم يستطع الكلام، واللغة تزيد الذكاء أو تجعله بالأحرى أداة للخدمة؛ فإذا كان قد حرمها فإن ذكاءه لذلك لم ينفعه.
والدماغ طبقات أسفلها يقوم بأبسط الأعمال الغريزية، وأعلاها - وهو المخ - يقوم بالوجدان وما به من تذكر وتخيل. وقد نزع جولتز مخ كلب، فكانت العواطف لا تزال حية فيه؛ يحب ويكره، ويغضب ويشتهي الجنس الآخر. ولكن التعبير عن هذه العواطف أصبح طليقا، بل صارخا ليس له ضابط؛ فإذا حطت ذبابة على أنفه نبح نباحا عاليا، وإذا نقل من مكانه كي يأكل نبح أيضا، مع أن هذا النقل كان يجري كل يوم؛ ومن هنا نفهم أن التعلم يحدث بطريق المخ، وأن المخ أيضا هو مكان الوجدان الذي يضبط العواطف.
قلنا: إن ضخامة المخ تدل - في ضوء التطور - على زيادة الذكاء، ولكن ليس هناك برهان حاسم جازم على هذا الرأي. وربما يكون للذكاء أصل في توزع الشرايين ومرونتها في خلايا المخ؛ أي إن القدرة على الذكاء تحتاج إلى شبكة من الشرايين الصغيرة العديدة التي تغذي المخ بالدم؛ فإذا كانت هذه الشبكة حسنة انتظم غذاء المخ وزادت القدرة على التفكير، والعكس يحدث العكس.
الغرائز والعواطف
كلمة «غريزة» من الكلمات الغامضة، وقد أدى غموضها إلى أن كثيرين من السيكلوجيين يتجنبونها؛ فإن أي إنسان يستطيع أن يقول: إن المشي غريزة، وإنه متى أتم الطفل عاما شرع يمشي منتصبا على قدميه. ولكن هناك حادث الصبيتين الهنديتين اللتين خطفتهما ذئبة، فإنهما بقيتا إلى ما بعد العاشرة وهما تجريان كالذئاب على أربع، وتستيقظان في لحظة معينة في الليل وتعويان، وقد احتدت عندهما حاسة الشم دون سائر الحواس.
وأسوأ ما يقع فيه المفكر العلمي أن يتناول كلمة مألوفة لها ملابسات مختلفة، مثل عقل وروح ونفس وغريزة، فيستعملها لمعان علمية محدودة لا تتفق مع ملابساتها القديمة وما تراكم عليها من أعباء أو زخارف تقليدية وعقيدية. والعمليون الأوروبيون يقاطعون مثل هذه الكلمات ويعمدون إلى اللاتينية أو الإغريقية القديمتين فيشتقون منهما كلمات تؤدي المعنى الجديد بحدوده المعينة.
والاختلاف بشأن الغريزة كبير؛ فإن هناك من الحركة أو النشاط ما لا نستطيع الحكم الحاسم فيه هل هو غريزة وراثية أم عمل اكتسابي؛ فقد قبض على رجل كان يعيش في الغابات في أمريكا، فكان يأكل أطعمتنا المألوفة ما دامت جامدة، أما الأطعمة المتميعة فكان يشمئز منها ويصد، كما لو كان يكرهها بغريزته، مع أن الواقع أن بيئة الغابة هي التي جعلته يكره التميع، كما أن الفتاتين الهنديتين لم تسع كل منهما على أربع لغريزة موروثة، ولكن لتربية معينة في وسط الذئاب.
ولكن هناك من النشاط ما لا نستطيع أن نعزوه إلى تربية أو تعليم أو محاكاة، فنقرر لذلك أنه غريزة موروثة، كالطفل الرضيع يفز إذا فوجئ بصرخة، أو يبكي ويخاف إذا حرك جسمه بحيث يخشى السقوط، كذلك هو يرضع بغريزته. ولعاب الصغار والكبار يجري وقت الجوع بحركة انعكاسية عند رؤية الطعام، والشاب يلتفت إلى الفتاة بغريزته، وفي جميع هذه الانفعالات أو أمثالها لا يعرف الطفل أو الصبي - بل حتى الشاب أحيانا - الغاية من هذه الدوافع.
ومن أشق الأشياء أن نعرف الغريزة، وقصارى ما نقول فيها: إنها مركز بؤري يتشعع منه نشاط نفسي، وإن الغريزة حين تحتدم أو تلتهب نسميها عاطفة أو انفعالا، فغريزة التناسل قائمة في كل إنسان، ولكنها حين تحتدم نسميها: الغريزة الجنسية، وأذكر إلى جانبها عواطف الغضب والسرور والقتال والخوف.
ونستطيع أن نقول: إن الغرائز دوافع حيوانية قديمة لا تزال باقية في كياننا النفسي كبقاء اللحية والأظافر والشعر في كياننا الجسمي، وإنها «أجهزة» يراد بها سرعة العمل بلا تفكير، وتوجيه الشخص نحو السلامة في بيئة وحشية.
وهناك من يقول: إن الغريزة حركة انعكاسية بسيطة أو مركبة، فهي بسيطة حين نغمض العين لمفاجأة الضوء لنا، وهي مركبة حين نختبئ من العدو أو نذبح الخروف أو نبني المنزل. وجميع نشاطنا الذهني أو النفسي يعود في النهاية إلى مجموعة الغرائز التي تحتويها النفس. وقد تكون هذه الغرائز أربعا أو عشرا أو عشرين، ولكن أغلب الظن أنها أقل من ذلك، وإن كثيرا مما يسميه مكدوجال «غرائز بيولوجية» إنما هو مركبات نفسية اجتماعية على أساس من ثلاث أو أربع غرائز أصلية، كما أنه ليس شك أيضا في أن كثيرا مما نسميه نشاطا غريزيا إنما هو في الواقع نشاط اجتماعي، وهنا يجب أن نذكر 14 نوعا من النشاط يسميها مكدوجال «غرائز» وهي: (1)
الغريزة الأبوية، تؤدي إلى حماية الصغير والضعيف والإغاثة. (2)
الغريزة الجنسية، تؤدي إلى المغازلة والتزاوج. (3)
الغريزة للطعام، تؤدي إلى التجوال والمطاردة. (4)
الغريزة للخوف، تؤدي إلى الهرب والمطاردة. (5)
الغريزة للقتال، تؤدي إلى الهجوم والتدبير. (6)
الغريزة للبناء، تؤدي إلى صنع الأشياء وإقامة بيت. (7)
الغريزة للاستطلاع، تؤدي إلى الاكتشاف والتشمم والاستفهام. (8)
الغريزة للاشمئزاز، تؤدي إلى التجنب والبصق، إلخ. (9)
غريزة الامتلاك، تؤدي إلى الجمع والادخار وصيانة العقار. (10)
غريزة الاستغاثة، تؤدي إلى الصراخ والنداء والبكاء. (11)
غريزة الاجتماع، تؤدي إلى الرغبة في البقاء في مجتمع. (12)
غريزة الإعلان، تؤدي إلى القيادة والمنافسة والعرض. (13)
غريزة الخضوع، تؤدي إلى الاحترام والخشوع والانعزال. (14)
غريزة الضحك، تؤدي إلى الضحك.
ونحن نشاهد أن أدنى الحيوانات كالإسفنج يعتمد على رجع انعكاسي بسيط، ثم نجد السلوك الغريزي العام في الحشرات. وأرقى الحيوانات - وهو الإنسان - يعتمد في سلوكه على أسس فقط من الغرائز، ولكنه يبني عليها وينقحها بعقله. والوجدان الذي يحدث التعقل قد يكون في النهاية ترددا بين الغرائز أو تنقيحها أو مداورة لها. وهذا التنقيح في الغرائز يوجد في الإنسان أكثر مما يوجد في سائر الحيوانات العليا كاللبونات؛ أي: الرواضع.
والرجع الانعكاسي؛ مثل: إغماض العين لمفاجأة الضوء، ومثل: تحرك اللعاب عند رؤية الطعام، هو أبسط النشاط العصبي. وقد لا يختلف هذا الرجع في النهاية عن اتجاه الجذور في الشجرة نحو الرطوبة، أو اتجاه الورق نحو الضوء، أو اتجاه الفراشة نحو المصباح. وعند بافلوف الروسي أن جميع نشاطنا إنما هو رجوع انعكاسية مكيفة؛ أي: معدولة عن أصلها؛ فإن لعابي يتحرك وقت الجوع عند رؤية الطعام؛ فمن هذه الحركة الانعكاسية الحيوانية الساذجة نشأ فن الطهي وصنع الخزف وكرم الضيافة والتصدق. ومن الرجوع الانعكاسية الأبوية أو بالأحرى الأموية نحو الطفل نشأت الرحمة وكراهة القسوة، بل كراهة استيلاء الإنجليز على الهند. ومن الرجع الجنسي نشأت العائلة وفن البناء للبيوت وغيرها من النظم الاجتماعية التي تحمي الممتلكات.
وتجري العاطفة في كياننا النفسي على النسق التالي:
معرفة، ثم عاطفة، ثم حركة.
مثال ذلك أني قاعد أقرأ في مكتبي: (1)
فأسمع حركة كأنها خشخشة فأر = معرفة. (2)
يغمرني قلق وتوجس = عاطفة؛ أي: انفعال. (3)
أهب وأستطلع = حركة.
وهذا هو الشأن في العواطف، ولكن يجب ألا ننسى أن العاطفة والحركة تسيران معا في تصرفنا، ولا نكاد نستطيع الفصل بينهما، والعواطف - على ما تبدو لنا من السكون - إنما هي حركات؛ لأني أحس سرعة الدق في القلب حتى وأنا متجلد قاعد عند القلق، والفرق بين حركة القلب (= عاطفة) وحركة القدمين (= نهوض وبحث واستطلاع) ليس كبيرا.
ونحن نتحرك في هذه الدنيا بعواطفنا؛ أي: نسعى للعيش ونجد لتحقيق الطمأنينة، ونتزوج ونقتني العقار، ونؤيد النظم الاجتماعية، ونطلب العدل ونجحد الظلم؛ لأننا نستند إلى أربع أو خمس غرائز أصلية تكيفت وعدل بها عن أصلها، وترتبت إلى مئات من الدوافع الاجتماعية؛ فقد أقعد إلى مكتبي كي أؤلف كتابا عن الدين أو الفلسفة، فما هي العاطفة التي تدفعني إلى هذا الجهد؟ وما هي الغريزة الأساسية التي ترجع إليها هذه العاطفة؟
كلنا يسلم بأن الطفل الرضيع يخشى السقوط بغريزته، ومعنى هذا أنه يحب أن يطمئن إلى مكانه؛ أي: مهده، ونحن الكبار نعيش بهذه الغريزة أيضا ونتوخى الطمأنينة، وإنما مهدنا هو الدنيا أو حتى الكون كله. والجهد الذي أبذله في إيضاح الفلسفة أو الدين إنما هو عاطفة الخوف، تبعثني على أن أنشد الطمأنينة النفسية أو الذهنية على مسرح عالمي أو كوني. وبالطبع قد اشتبكت مع هذه العاطفة جملة عواطف أخرى، منها الرغبة في التقدير الاجتماعي لشخصي، والكسب المادي من بيع الكتاب، والانتصار على الخصوم الذين لا يوافقونني على فلسفتي، ولكن البؤرة الأصلية هي الرغبة في الطمأنينة.
والعاطفة هي القوة الموطرية للنفس البشرية، وهي التي تبعث على الجهد والمثابرة؛ ومن هنا نفهم كيف يسهل علينا تعليم الطفل الحساب بالنقود؛ نسلمه القروش والمليمات ونجعله يشتري ويميز بين الحلويات والمسليات التي يقتنيها؛ فإنه لا تمضي عليه أيام حتى يحذق غير قليل من الجمع والطرح، لا يحذق عشرهما إذا تعلم بأرقام مجردة على الورق؛ ومن هنا شجاعة الجندي البريطاني يدافع عن الإمبراطورية البريطانية، وفتور الجندي الهندي في دفاعه عنها. ومن هنا التعب يحسه العامل عند الساعة السادسة مساء بعد مجهود النهار، ثم نشاطه في هذه اللحظة بالذات عندما يعرض عليه العمل ساعة أخرى بأجر ساعة ونصف. ومن هنا أيضا هذا المجهود العظيم الذي تبذله الأم في الاستيقاظ أربع مرات لإرضاع طفلها في الليل، بل السهر عليه طوال الليل إذا كان مريضا دون أن تحس إعياء يذكر؛ ففي كل هذه الحالات أحدثنا قوة موطرية (عاطفة) تحرك النشاط الذهني والجسمي، سواء في الطفل بالحلوى، أو في الأم بالقلق على ابنها، أو في الجندي بوطنيته، أو في العامل بالكسب الزائد.
نحن نتحرك في هذه الدنيا بالعواطف التي ترجع إلى غريزة واحدة، أو إلى بضع غرائز كل منها مركز بؤري يتشعع منه النشاط النفسي أو الذهني أو الجنسي.
الغريزة الأصلية
ما هي الغريزة الأصلية التي تتحرك بها إلى النشاط والعمل والقتال والكفاح؟ أي: ما هي البؤرة الملتهبة التي يتشعع منها نشاطنا في مختلف نواحيه؟ أي: ما هي العاطفة أو العواطف التي تحمل ألمانيا على الحرب، كما تحمل حزب المحافظين في بريطانيا على كراهة الاشتراكيين، كما تحمل الرجعيين على كراهة الحرية في مصر، كما تحمل الكاتب الضعيف على البذاء والسباب، كما تحمل العمال على الإضراب، كما تحمل كافة الناس على جمع المال، كما تحمل التلميذ على الدراسة؟ وأخيرا: ما هي العاطفة التي تحمل المجنون على الدعوى بأنه ملك فيستقر مرتاحا إلى هذه الدعوى؟
هل هناك غريزة واحدة أو جملة غرائز تحرك فينا عواطف تبعثنا على بذل المجهود الجسمي والذهني والنفسي الذي نعيش به؟
كان فرويد يعزو إلى الغريزة الجنسية جميع ألوان النشاط البشري، وكان يتوسع في معنى هذه الغريزة، حتى كان يراها في الطفل وهو يرضع أمه بإيقاع، كما كان يراها في النشاط الفني الذي نتوخى به الجمال. ولا يستطيع أحد يعرف حقيقة التطور، أن ينكر قيمة الغريزة الجنسية؛ وحسبك نظرة عاجلة إلى ذكرين من الحيوان يتقاتلان على أنثى كي ترى قوة العاطفة الجنسية. كما أن آلاف القصص الشائعة بشأن الحب تبين لنا مقدار المجهود الذي تتحيزه هذه العاطفة في النفس البشرية.
وكان فرويد يعتقد أن كظم العاطفة الجنسية هو الذي يؤدي إلى جميع حالات الجنون؛ لأن هذا الكظم يسد القناة الأصلية للعاطفة، فتحتال للبروز بأساليب شاذة، وتخرج من هنا متسللة ومن هناك متفجرة.
وكان أدلر يعتقد أن غريزة التسلط أو الرغبة في السيطرة بجميع ألوانها كالتفوق، أو البروز المالي أو الاجتماعي أو الجنسي، أو الرغبة في التقدير من الأقران ونحو ذلك، هذه الغريزة هي الأصل للنشاط النفسي كله، وأن صد هذه الغريزة أو عرقلتها هما السبب، لجميع الأمراض والشذوذات النفسية.
ونحن نعيش في مجتمع يغرس فينا عادات نفسية وذهنية تجعلنا نخطئ التفسير لكثير من دوافعنا (= عواطفنا) التي قد تكون أحيانا اجتماعية، ولكنا - لأن لها حرمة كبيرة أو ممارسات مكررة - نحسبها طبيعية، ثم هناك أيضا من النظم الاجتماعية ما يحرمنا ممارسة نشاط نفسي معين، أو يجعل هذه الممارسة شاقة، فنجد أثر هذا الحرمان في صعوبات نفسية مختلفة، فتبرز قيمة هذا النشاط في وجداننا أكثر مما كان يجب، ففي عصر فرويد مثلا، حين تمخض بنظريته عن الغريزة الجنسية، كان القحط الجنسي عاما في جميع الأمم تقريبا، وكان كثير من الأمراض النفسية يعزى إليه ويعالج في ضوئه، ولكنا لا نجد هذا القحط الجنسي الآن في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، ومع ذلك نجد الأمراض النفسية على أفشاها وأخطرها.
وقد حدثت في أيامنا حربان قتل فيها نحو 30 مليون إنسان، وظهرت فيها آلاف الأمراض النفسية التي لا ترجع إلى أسباب جنسية، ثم ظهرت أيضا ونمت وزكت هذه الأمة الروسية التي جحدت مبدأ المباراة في العيش، واعتمدت على مبدأ التعاون، وكان من أعظم ما التفت إليه السيكلوجيون في هذا المجتمع الجديد خلوه تقريبا من الأمراض النفسية، والنظام القائم في روسيا يحول دون السيطرة والتسلط أو البروز أو التفوق، وإذن أين أدلر الذي يقول: إن غريزة التسلط هي أقوى غرائزنا، وإنها بؤرة النشاط التي يتشعع منها سائر دوافعنا الحيوية؟
الحق أن كلا من فرويد وأدلر كان ضحية العصر الذي عاش فيه، هذا العصر الذي حفل بالمباراة القاتلة التي كانت تبعث كل إنسان على توخي الطمأنينة بالتفوق والتسلط كما كان حافلا بالقحط الجنسي الذي حرم كثيرا من الفتيات والشبان من الزواج.
وحسبنا أن نرجع في تفسير البؤرة الأصلية للنشاط البشري إلى الطفل في أيامه وشهوره الأولى، فإننا نجد فيه غريزة لم يتعلمها؛ هي خوفه من السقوط؛ أي: رغبته في الاطمئنان على مهده، فلم لا تكون هذه الغريزة الأصلية لجميع ألوان نشاطنا مهما اختلفت هذه الألوان، بل إن الاعتماد على هذا التفسير يوضح لنا في بيان ناصع موقف فرويد وموقف أدلر.
فحيث يكون القلق والاضطراب والخوف والتوجس من المستقبل يكون البعد عن الطمأنينة، فيحس أحدنا كما لو كان طفلا على وشك السقوط، وقد يتخذ هذا القلق صورا مختلفة تتلون بألوان المجتمع الذي يعيش فيه كل منا.
ففي مجتمع تتأخر فيه سن الزواج وتكثر العوانس ويبدو المستقبل قاتما للكثير من الفتيات يعم الخوف كيانهن، ويعود هذا الخوف كأنه كل شيء في حياتهن، وتبدو العاطفة الجنسية كأنها بؤرة النشاط النفسي، وتجب أن تكون كذلك في مثل هذا الوسط، وهنا تفسير السيكلوجية الفرويدية.
وفي مجتمع تعم فيه المباراة في الكسب كما يعم الفقر، ويحدث التعطل وما يجلبه من تعاسة وحرمان وفاقة يتجه النشاط نحو التفوق والتسلط، والخوف من السقوط في هذه المباراة يكون هما لا ينقطع، وهنا تفسير السيكلوجية الأدلرية.
فبؤرة النشاط البشري كله هي الخوف، خوف الطفل من السقوط من المهد، ثم خوف كل إنسان بعد ذلك من الفقر والحرمان في المجتمع، وخوف الفتاة من أن تعيش عانسا، وخوف الجندي من القتل أو الطيار من السقوط، وخوف التلميذ من الرسوب، وخوف الرجعي من الحرية التي تحرمه وسيلة العيش، وخوف ألمانيا من تألب الدول المحيطة بها عليها، وخوف المحافظين من الإنجليز من المبادئ الاشتراكية التي تحرمهم امتيازاتهم، وخوف الساسة الإنجليز من استقلال الهند التي يستغلونها.
فالخوف هو المحرك الأصلي، وهو الذي يبعث على الشجاعة والمخاطرة، بل والاقتصاد والتدبر والحكمة، ولكن إذا زاد هذا الخوف ولم نجد له علاجا مرضنا، ولو بالكابوس في النوم، أو بانحرافات أخرى بسيطة أو خطيرة، وحيث يقل الخوف وتعم الطمأنينة تصبح الأمراض النفسية معدومة أو كالمعدومة، وهذا هو ما حدث في روسيا؛ حيث ألغيت المباراة، وصار جميع السكان كالمتساوين في الكسب والكرامة، ولم يعد هناك كظم للخوف من الفقر أو المرض أو السقوط الاجتماعي أو البقاء في عزوبة دائمة، بل لم يعد هناك خوف من ضياع الثروة؛ إذ ليس لأحد ثروة مكنوزة، وليست هناك بورصة للأوراق المالية التي ترتفع وتنخفض فيرتفع في إثرها ضغط الدم وينخفض، وتحدث الوفيات من النقطة والسكتة، كما تؤدي الصدمات إلى البول السكري.
فالغريزة الأصلية التي تحركنا نحن وجميع الحيوانات إلى النشاط هي الخوف، وما زلنا - بالمجاز - حيوانات مثل أسلافنا نعيش على الأشجار ونتعلق بالغصون ونخشى السقوط، وما زلنا نخشى الغول والعفريت في الغابة.
اعتبر هذه الحادثة التالية الواقعية:
زوجة مصرية في نحو الخامسة والثلاثين تحب زوجها، وهو صانع متيسر يكسب، ويقضي بعض أمسيته على القهوة، وهو ثرثار لا يتحفظ، وكانت هذه الزوجة نحيفة في مجتمع يقدر الجسامة والدسامة، وكان زوجها يتحدث من وقت لآخر عن هذه المرأة السمينة وهذه الأخرى الجميلة، فكانت تغار، والغيرة خوف متردد، وكانت هذه الغيرة تبعثها على التجمل وتحملها على اتباع الوصفات البلدية كي تسمن، ولكنها لم تسمن، فصارت الغيرة خوفا وقلقا، ولم تر علاجا، فكظمت، ففي ذات مساء دخل الزوج واقترب منها؛ فإذا بها تصرخ وتستغيث بالجيران، فلما اجتمعوا زعمت أن هذا الزوج يطلب منها نجاسة ورجسا، مع أن لها منه ثلاثة أولاد.
والتفسير: أن عجزها عن أن تسمن، وخوفها من أن يتزوج زوجها امرأة أخرى سمينة، وانسداد المستقبل في وجهها، حمل عقلها الكامن على أن تلجأ إلى أكذوبة ترتاح إليها وتطمئن إليها في الدنيا، وهي أنها «ولية» أي: قديسة، لا تحتاج إلى الأزواج (= العنب حصرم)، وأنها مستغنية عن زوجها الذي يطلب منها رجسا، ولبست بعد ذلك ثياب الأولياء والقديسين، ثم انتهت إلى المستشفى؛ أي إن نفسها القلقة احتالت بأسطورة كي تصل إلى السلامة والطمأنينة اللتين لم تجدهما في الحقيقة الواقعة.
إذا كانت الغريزة الأصلية هي الخوف، فإن لها ناحية إيجابية في الإنسان، هي أننا في مجتمعنا الحافل بالمخاوف والقلاقل ننشد القوة والوجاهة، فنجمع المال والرتب العالية، وأحيانا نستميت في طلب القوة ونموت؛ لأننا ننسى - مثلا - أن المال وسيلة للطمأنينة الاقتصادية فقط، فنجهد في جمعه حتى نمرض، أو نصل إلى الطمأنينة المنشودة منه ثم لا نكف عن جمعه، وأحيانا نبذل هذا المال للحصول على وجاهة زائفة.
وأحيانا تسيطر علينا عاطفة القوة أو الوجاهة أو الكرامة الاجتماعية؛ بحيث تنسينا حتى شهواتنا البدائية، انظر إلى الطفل حين نشتري له الشكولاتة؛ فإنه يحبس شهوته إليها ولعابه الجاري، ويحتفظ بها حتى يصل إلى البيت فيعرضها في كبرياء على إخوته ثم يأكلها، وكلنا تقريبا هذا الطفل في مجتمعنا، نحب أن نقتني كي نفاخر ونباهي قبل أن نستهلك ما اقتنينا، أو قد لا نستهلكه بتاتا؛ لأن لذة المفاخرة والمباهاة تبعد عنا الخوف وتشعرنا بالقوة، وحسبنا هذا.
الجسم يؤثر في العقل
السيكلوجية هي علم السلوك البشري؛ أي: كيف يسلك الإنسان في مجتمعاته المختلفة؟ وكيف ينبعث إلى النشاط؟ وماذا يجعله يفتر في عمله؟ ولماذا يحب أو يكره؟ وكيف يكون إنسانا سويا؟ ولماذا يشذ أحيانا؟ وما هي بواعث الإجرام أو الجنون؟ ثم ما هو الذكاء والعبقرية أو البلاهة والغفلة؟ وكيف يتصرف التصرف الحسن أو التصرف السيئ؟ وكيف يتكون عقله وينضج؟ وكيف تتكون نفسه وتنضج؟ وكيف تتكون شخصيته وتنضج؟
وشخصية الإنسان ونفسه وعقله هي ثمرة وراثته البيولوجية؛ أي: ما ورثه منذ ملايين السنين، كما هي ثمرة بيئته الاجتماعية التي نشأ وتعلم وتعود فيها عاداته واتخذ قيمها المختلفة.
وهذا الموروث البيولوجي قلما نستطيع تغييره؛ فالمخ الصغير الذي تقل تلافيفه لا نستطيع تغييره إلى مخ كبير كثير التلافيف، والشخصية الانطوائية نعجز عن إحالتها إلى شخصية انبساطية، وبنية الجسمية بأعضائها الداخلية تؤثر في المخ وتؤدي إلى ميزات أو مساوئ نفسية، فمن المعروف - مثلا - أن كلا منا يحمل عناصر نسوية، يدل على هذا الثديان في صدره ووجود رحم صغير في أسفل بطنه، وليس هذا ضرر، ولكن ماذا يحدث إذا زادت هذه العناصر على المألوف؟ وكذلك الشأن في كل امرأة؛ إذ هي تحمل عناصر رجلية إذا زادت فيها اختلت شخصيتها، وعندما ينقطع الحيض نهائيا حوالي سن 48 أو 49 تبدو هذه العناصر وتزداد وضوحا بمرور السنين، حتى إن بعض النساء يحتجن في سنة السبعين أو الثمانين إلى حلق شواربهن كالرجال.
وتأثير الجسم في العقل يعود إلى هورمونات الغدد الصماء؛ أي: إفرازات تلك الأجسام الصغيرة التي تفرز سوائلها في الدم مباشرة، وليست لها قنوات تحمل هذه السوائل، وأهم هذه الغدد التي تقرر للرجل رجولته هي الخصيتان؛ فإنه إلى جنب إفرازهما القنوي (أي: المني للتناسل) نجد إفرازا آخر يدخل الدم مباشرة، وهو الذي يكون مظاهر رجولتنا؛ مثل اللحية والشوارب وغلظ الصوت ونحافة الأليتين، ثم مع هذا حيوية الرجل وخفته وإقدامه، ومثل هذا يقال بشأن المبيضين في المرأة في إكسابها صفات النساء العضوية والمزاجية، واذكر كيف أن الخصيان الذين تقطع خصاهم يتخذون هيئة النساء، وكيف أن المرأة عقب قطع الحيض بعد الخمسين تعود فتتخذ شيئا من هيئة الرجال ومزاجهم، وهناك غدد أخرى مثل الغدة الدرقية في العنق، وهما اثنتان إلى يمين قصبة العنق ويسارها، ونقص الإفراز منهما يؤدي إلى تعطل النمو أو وقفه وإلى خمول الذهن أو الغفلة، وهما يزودان الجسم بقوة المثابرة على الجهد.
ثم هناك الغدتان الأدريناليتان فوق الكليتين، وهما لتزويد الجسم بالانبعاث الفجائي وقت الغضب أو الخوف؛ ولذلك تصل هذه الغدة إلى أكبر حجم في الأسد وسائر عائلته من الببرة والنمور والقطط؛ لأنها كلها تحتاج إلى حشد قوتها للوثوب، وكذلك تكبر في الحيوانات التي تحتاج إلى الفرار السريع كالغزلان والفئران، فغدتنا الدرقية أكبر من غدة الأسد، ولكن الغدة الأدرينالية عنده أكبر مما عندنا، والنتيجة أن الأسد حيوان الوثوب الانفجاري والحرب الخاطفة، أما الإنسان فحيوان المثابرة والصبر على المشاق.
وانظر إلى الفأر والفيل، فكلاهما حيوان لبون، ولكن حياة الفيل هادئة مستقرة، ولذلك فإن الغدة الدرقية عنده تكاد تساوي الغدة الأدرينالية، أما الفأر فيعيش في حرب خاطفة يثب ويفر؛ ولذلك فإن الغدة الأدرينالية عنده تزيد بمقدار تسعة أضعاف الغدة الدرقية، ويتضح هذا في دقات القلب في كل منهما، فهي في الدقيقة 27 عند الفيل و300 عند الفأر، ونحن نذكر هذه الحيوانات كي نقول: إنه إذا زاد إفراز الغدة الأدرينالية في الإنسان زادت دقات قلبه فكان سريع الغضب متفززا سريع الأجفال.
ثم هناك الغدة النخامية، وهي في أسفل المخ، وتأثيرها كبير جدا في تكوين الشخصية، حتى إن بعضهم سماها «رئيسة الجوقة الغددية» لأنها تؤثر في سائر الغدد، وتعين اللحن العام للسلوك.
وهناك أنواع من النقص الذهني الذي ينشأ من نقص في الغدد، وأحيانا تمكن معالجته بأن يحقن الجسم بالمفرزات التي تحضر من أجسام - أي غدد - الحيوانات، وكلنا يعرف أنه تمر بنا فترة في حياتنا «حوالي سن 15» نحس فيها بفورة جنسية تقارب الجنون، وهي ترجع في الأغلب إلى وفرة الإفراز الخصوي، ولكن هذا الميدان لا يزال إلى الآن بكرا ومستقبله أكبر من حاضره.
ونستطيع أن نرتب الناس بحسب أمزجتهم، فنقول: المزاج الأدرينالي للشخص الانفجاري المتفزز الذي يمتاز بالنزوة والاندفاع، ونقول: المزاج الدرقي للشخص الصبور المتجلد المثابر، ونقول: المزاج النخامي - على قلة معرفتنا هنا - للشخص الذكي المتزن.
ومن هنا يرى القارئ أننا لا نتصرف في هذه الدنيا بالعقل فقط، بل بكل الجسم؛ فإن حالة الدم ودرجة الحرارة ومعدل الفيتامينات وهورمونات (= إفرازات) الغدد الصماء وسلامة الحواس والمخ، كل هذا يؤثر في تفكيرنا وسلوكنا، والسيكلوجية هي لهذا السبب «علم النفس»؛ أي إنه يدخل في اعتبارها كل هذه الأشياء وليس العقل وحده، وفي مصر العظيمة المسكينة - حيث يعيش أحد الناس بألف أو مائة جنيه في اليوم ويعيش آخر بثلاثة قروش - يتفشى بين الفقراء مرض البلاجرا الذي ينشأ من نقص غذائي فيتاميني، ويؤدي إلى بلاهة ترى في كثير من الفلاحين الفقراء.
وسنرى في فصل قادم أن شكل الجسم يؤثر في الاتجاه الذهني؛ فالشخص النحيف، طويل الوجه (= الانطوائي) يختلف من الشخص السمين المتكتل القصير الذي يستدير وجهه (= الانبساطي) من حيث المزاج والتصرف والاتجاهات الذهنية.
العقل يؤثر في الجسم
في سنوات الحرب الماضية كنا نجد في القاهرة وقت الغارة أن سيفونات المراحيض يتكرر شدها؛ لأن الخوف من قنابل الطائرات كان يؤثر في الأمعاء ويحركها على غير ميعاد، وكلنا سمعنا عن بعض الناس يفجئون بخبر مزعج فيبولون، وأكثر من ذلك، فقد يؤثر الخبر المزعج في أحد الناس فيموت بسكته القلب أو بنزف في المخ، وأحيانا تؤدي الكارثة إلى مرض البول السكري، كالأم تسمع عن حادثة وقعت لابنها، أو المالي يبلغه خبر السقوط العظيم في قراطيسه المالية بالبورصة، أو نحو ذلك، فتؤدي الصدمة إلى إصابة بالبول السكري، وأحيانا نتأثر بحادثة فنصد عن الطعام؛ فإذا زاد التأثر حدث التهاب في الأمعاء فنتبرز مخاطا ودما مما يسميه عامتنا «التعنية»، وقد تحدث قرحة بالمعدة أو يلتهب الجلد بما يسمى «أورتيكاريا».
والهم هو في التعبير السيكلوجي «خوف متكرر» يتناوبنا من وقت لوقت، وهو يحدث هذه الأعراض التي ذكرناها أو أحدها، وقد زادت وفيات السكتة في أيامنا، وليس لها من سبب في الأغلب إلا زيادة الهموم؛ لأن تكاليف الحياة المادية والمعنوية زادت إلى حد لا يطاق، فنحن نفكر في مخاوفنا ونجترها ونقلق فيؤثر كل هذا في أجسامنا، في القلب والشرايين والبنكرياس والأمعاء، وربما في أكثر من ذلك؛ أي إن العقل يؤثر في الجسم، وقد كان آباؤنا يعيشون قانعين، وكان طموحهم «قرويا» لا يكلفهم كثيرا من الجهد فكانت همومهم معتدلة، أما نحن فنسرف في الطموح ونتعلق بالنجوم، فهمومنا كثيرة التكاليف والأعباء التي نعجز عن تحملها.
وليس منا من لم يعرف أن دقات القلب تسرع وقت الغضب أو الإزعاج، أو أن العرق يتصبب وقت الخجل أو الخوف ، والخطيب يحس جفافا في حلقه فيطلب الماء، ووقت الاضطراب يسرع تنفسنا وتصفر وجوهنا، وأحيانا يغمى علينا من الخوف، بل أحيانا نتجمد كما يحدث في الكابوس.
كل هذه الأعراض مألوفة واضحة، ولكن هناك أعراضا أخرى لتأثير العقل في الجسم تخفى علينا، مثال ذلك: شاب يعمل كاتبا في إحدى المصالح، وهو لا يكاد يقعد على كرسيه كي يشرع في العمل حتى يحس كأنه في إعياء قد فقد كل نشاطه ويود لو يضع رأسه على منضدته وينام، وقد يفعل ذلك، وليس جسمه متعبا، وإنما كل ما فيه أنه يكره عمله ويحب لو يستبدل به عملا آخر يهواه؛ ولذلك فإن إعياءه هو من إملاء عقله (= نفسه) وهو ليس إعياء، وإنما هو سخط وكراهة.
والهموم إذا كانت معتدلة صارت مفيدة؛ لأنها تحفزنا إلى العمل وتنشطنا، وهي عندئذ أولى بأن تسمى اهتمامات بدلا من هموم، والفرق بين الاهتمام والهم أن الأول يتناول موضوعا نعالجه فننجح أو لا ننجح، أما الهم الثقيل فهو اجترار لموضوع نخشاه، فنعاوده دون علاج، ومن هنا تأثيره السيئ، بل من هنا الحكمة القائلة: «إذا كنت تشك في شيء فخاطر فيه»؛ أي: انته منه بصورة ما.
وقد قلت الأمراض البكتيرية (المعدية) في الطبقة المتوسطة؛ لأن الغذاء تحسن وأساليب النظافة ارتقت، ولكن الأمراض العضوية زادت لازدحام الهموم وإرهاقها؛ لأن أفراد هذه الطبقة يعيشون في مباراة قاتلة، ويكنون في قلوبهم مطامع ترهقهم، فعقولهم تؤثر في أجسامهم أسوأ الأثر، وهم ليسوا في حاجة إلى عقاقير حسنة قدر حاجتهم إلى فلسفة حسنة يعيشون بها راضين؛ لأن التوتر النفسي من الهم يؤدي إلى توتر شرياني ثم إلى تصلب في الشرايين ثم إلى موت مبكر بالانفجار المخي.
وسنرى في فصل قادم عن «الإيحاء» كيف يؤثر العقل الأثر الحسن في الجسم، وأيضا كيف يؤثر الأثر السيئ، ولكنا نقول هنا: إن عامتنا يعرفون الكثير من أثر النفس (= العقل) في الجسم؛ فإن الفلاحين يعزون بحق مرض الجلوكوما في العين إلى ما يسمى عندهم «نزول» عقب حزن أو كمد، والأكزيما التي تطفح على الجلد في تعود إلى توتر نفسي، بل أحيانا يحدث الربو من مثل هذا التوتر، وقد كان الرومانيون يقولون: إن العقل السليم في الجسم السليم، ولكن عكس هذا القول صحيح أيضا، بل أصح؛ لأن الحاقد والحاسد والخائف والمتشائم يؤدي توترهم النفسي إلى توتر شرياني أو إلى مرض آخر مؤذ لأجسامهم.
قال الدكتور بارتي بروكس - الجراح الأمريكي المشهور:
إن الجراح الذي مرت به اختبارات كثيرة يذكر - بلا شك - إحدى العمليات التي أتمها في نجاح كما استأصل فيها المرض تماما ولم يجد عقب العملية أية علامة تدل على مضاعفات، ولكن المريض بعد ما بدا عليه من التقدم نحو النقه فقد الاهتمام بما حوله وبنفسه، ثم تدرج - في غير ألم، وكأنه لا يهدف إلى غاية معينة - إلى الموت ولم يكشف التشريح عقب الوفاة عن إيضاح مقنع.
وهذا المثل يدلنا على تأثير النفس في الجسم، وكلنا يذكر أمثلة أخرى تشبه ما رواه الجراح، كالأم المحتضرة تكافح الموت وتنتظر ابنها الغائب؛ فإذا حضر ماتت، ففي المثل الأول تضعضع المريض وفقد إرادة الحياة ومات، وفي المثل الثاني تشبثت الأم بالحياة وأرادت البقاء حتى رأت ابنها.
وهناك أمراض كثيرة نتوهم أنها عضوية؛ أي: في الجسم فقط، وأن النفس لا شأن لها فيها، ولكن قليلا من التأمل يدلنا على أنها في الأصل أمراض نفسية، تتصل بالإرادة والاتجاه كالخوف والقلق والهم والتشاؤم.
اعتبر رجلا يخاف المستقبل ويقلق على معاشه ويتشاءم؛ فإن هذه الحال النفسية تزيد ضغط الدم في شرايينه التي تتصلب بعد سنين من قوة هذا الضغط، ثم يتعب هذا القلب، فيكون المريض عرضة للسكتة في القلب أو «النقطة» بالانفجار في المخ؛ فالمرض هنا عضوي وقد انتهى بالوفاة، ولكنه كان في الأصل نفسيا؛ لأن المريض اتجه وجهة سيئة نحو الدنيا، وتحمل من الهموم أكثر مما كان يطيق فأرهق نفسه ثم أمرض جسمه.
في سنة 1934 عمد الدكتور ف. دونيار إلى 1300 مريض بمرض القلب ومرض الديابيطس؛ أي: البول السكري، وأيضا - وهنا المفارقة - بكسر العظام؛ فإن من البعيد على أي إنسان أن يقول إلى ذراعه كسرت أو ضلوعه تهشمت أو قدمه رضت لأسباب نفسية، ولكن الدكتور ف. دونيار وجد هو ومعاونوه أن نحو 80 في المائة من هذه الحالات؛ أي: ألف حالة تقريبا من 1300 حالة تعود في هذه الأمراض العضوية بما فيها الكسر العظمي إلى أسباب نفسية.
ونحن نسلم هذه الأيام بأن كثيرا من حالات الديابيطس يعود إلى القلق والانزعاج، وأن الهموم تفتت القلب والشرايين، ولكن كيف تؤثر النفس في تكسير عظامنا؟
اعتبر الخادمة الغاضبة التي تكسر الأطباق، وقد تنفث غضبها في كانون البترول فينفث هو غضبه فيها ويحرقها، واعتبر سائق الأتومبيل يسير مغيظا لسبب مالي أو عائلي، فيعمد إلى مصادمة المارة وكأنه يسبهم سبا عمليا، واعتبر العامل أمام الآلة التي تدور بعنايته فيهمل هذه العناية لأن قلقا ثقيلا يربك ذهنه فلا يكون بعد ذلك سوى تهشيم ذراعه أو قدمه.
ففي كل هذه الحالات نجد نفسا مرهقة ضائقة بالدنيا قلقة لا تستقر على تفكير متزن.
وأكاد أقول لهذا السبب: إن صداع الرأس يجب على الدوام أن يسبقه صداع القلب؛ أي إن هناك عواطف سيئة كالغضب أو الحسد أو الخوف أو الشك، تحدث في أجسامنا أمراضا سيئة.
وكثير من الأغنياء والمتوسطين لا ينقصهم المسكن الصحي أو الغذاء الحسن، ولكن تنقصهم الفلسفة الحسنة؛ لأنهم يتطوحون في أطماعهم، ويتورطون في مباريات اجتماعية أو ثرائية ترهقهم، وتجعلهم على الدوام عرضة للقلق والأرق، يجترون همومهم في الليل والنهار، ويتشاءمون بالمستقبل حتى تنتهي حالتهم النفسية هذه إلى أمراض جسمية حقيقية.
وأمراض الجسم التي تعود إلى أسباب نفسية تتحيز أولا، أو أكثر ما تتحيز، الأمعاء والمعدة، فالقرحة المعدية سريعة الحدوث عقب القلق والخوف، والبراز المخاطي الدموي كذلك يسرع إلينا من الصدمة النفسية، والاضطراب المعوي - بين الإمساك والإسهال - يعود كذلك في أغلب الحالات إلى قلق نفسي، ثم بعد ذلك ارتفاع الضغط الدموي، وكذلك لغط القلب، وجميع هذه الحالات تتناوبنا من وقت لآخر، وقد تزول بعد أيام أو أسابيع؛ فإذا كان القلق دائما والخوف من المستقبل ماثلا فإنها تدوم وتتفاقم، وقبل أن يعالج المريض جسمه بالعقاقير يجب أن يعالج نفسه، وهو - بمحض الوقوف على علته وإنها نفسية ناشئة من الخوف والقلق - قد يشفى؛ لأنه يتعقل العلة فيتسلط على عواطفه ويمنعها من السيطرة على جسمه.
ولأن العقل يؤثر في الجسم عن طريق العواطف، فكر بعض السيكلوجيين في البحث عن الجريمة بإيجاد آلة تقيس النبض ودقات القلب من حيث انتظامه وكذلك التنفس وضغط الدم؛ فإن جميع هذه الأعراض تظهر وقت الخوف، مثلا؛ فإذا قلنا لأحد المتهمين بسرقة ساعة ذهبية بسلسلة من الذهب كلمة ساعة؛ فإن هذه الكلمة تستدعي معاني أخرى كثيرة؛ لأنها تربط بعاطفة معينة ما؛ فالارتباط هنا عاطفي مثل الانعكاسات المكيفة.
فإذا كان هذا المتهم لم يسرق الساعة وطلبنا منه أن يذكر كلمات أخرى ترد إلى ذهنه، فإنه سيذكر الثمن أو الدكان أو أي شيء آخر، وخواطره ترد بلا توقف ويبقى نبضه وضغطه وقلبه في أحوالها الطبيعية.
ولكن إذا كان هذا المتهم هو السارق، فإنه ربما يقف فجأة عن الكلام ويطول وقوفه؛ لأنه يحب أن يتجنب الخواطر التي تثير الريبة، وهذا التجنب نفسه يدل على الريبة، ثم ما يخفيه هو بلسانه يدل عليه حينئذ نبضه وضغطه وقلبه؛ لأن الخوف قد أثارها جميعا، وإذا استسلم لخواطره فإنها لارتباطها ستدل على الجريمة، كما لو كانت كل كلمة حلقة في سلسلة متصلة.
ولكن هذه الآلات لم تبلغ الكمال، وخاصة إذا عرفنا أننا ما زلنا عاجزين عن التمييز بين الانفعال أيا كان وبين الخوف، ثم بين الغضب وبين السرور، ولكن النبض والضغط وحركة القلب لا تميز بين هذه العواطف التمييز المضبوط، ولكن هذه السطور القليلة تدل على تأثير العقل في الجسم، وتومئ إلى احتمالات مستقبلة.
طبيعة التفكير
التفكير البشري درجات ينزل بعضها إلى مرتبة الحيوان كالحركة الانعكاسية، كما يحدث حين أحس أن يدي اقتربت من النار فأسحبها؛ فإننا وأحط أنواع الحيوان سواء في هذا؛ فالعين تطرف من القذى، واللعاب يسيل عند رؤية الطعام، والجسم يرتجف للصوت المفاجئ، وغير ذلك مما يشبه هذا، بحركات انعكاسية نحن وجميع الحيوان سواء فيها .
ويقول بافلوف: إن كل تفكيرنا بعد ذلك، مهما ارتفع، إنما هو حركات انعكاسية، قد «تكيفت» بظروف جديدة؛ أي: قد نقحت فعدل بها عن أصلها مثلا، أو زيد فيها التنبيه أو أنقص، فكأن تفكيرنا ينهض على قواعد من الحواس الخمس أو العشر التي نولد بها، وحواسنا كثيرة ليست مقصورة على النظر والسمع واللمس والشم والذوق؛ فهناك الحاسة الجنسية التي يلتفت بها الذكر إلى الأنثى والعكس، وهناك حاسة الاتزان التي تجعلنا نعتدل فلا نسقط عند المشي أو الوقوف، وهناك الحاسة التي تجعلنا على وجدان بأعضائنا الداخلية، فنحس حركتها ونعرف منها الجوع أو الشبع أو الغثيان، إلخ، والسبب في أننا نجهل هذه الحواس الأخرى أننا لم نعين لها أسماء، وعند بافلوف: أن هذه الانعكاسات هي الأساس الأول لتفكيرنا، وأنها ساذجة عند الحيوان الأدنى، ولكنها مركبة عندنا وعند الحيوان الأعلى، فنحن والكلب سواء في أن لعابنا يجري إذا رأينا الطعام، ونحن والكلب سواء إذا رأينا المائدة قد أعدت بالأطباق، حتى ولو لم يوضع عليها الطعام؛ أي إن لعابنا ولعاب الكلب يجري؛ لأننا ربطنا وضع الأطباق باقتراب الميعاد لوضع الطعام، فما كنا نسميه «تداعي الخواطر» قد صرنا نسميه «انعكاسات مكيفة»؛ أي إن رؤية الطعام تحرك اللعاب، ثم رؤية الطبق بلا طعام تحرك أيضا اللعاب، ولكن الفرق بيننا وبين الكلب أننا نستطيع أن ننتقل من انعكاس إلى آخر، ولو بلغ عددها مائة، فنستطيع التفكير، أما الكلب فقصاراه انعكاسان أو ثلاثة.
مثال ذلك: شخص يخشى الغرباء، وكلما قابل رئيسه ارتجف، فهنا انعكاس مكيف؛ أي: عدل به عن أصله «والانعكاس المكيف هو ما يسمى أيضا مركبا»؛ لأن هذا الخوف يرجع إلى أن أباه كان قاسيا عليه في طفولته فكان يخشاه، ولما كان الرجال كلهم يشبهون أباه؛ فإنه صار يخاف كل الرجال، وقد نجد مثل هذا الانعكاس المكيف في الكلب، ولكنا لا نجد فيه الإعجاب الفني، حين نعجب بصورة تحوي منظرا ريفيا جميلا، أو بقصيدة تشيد بالحرية، أو بتمثال من الجبس للربة فينوس؛ فإن سرورنا هنا يرجع إلى انعكاس ابتدائي ساذج انتقل إلى انعكاسات أخرى، وكما أن الأصل نسي في حالة الشاب الذي يخشى رئيسه، كذلك نحن ننسى الأصول في حب أحدنا للهندسة الكهربائية، وحب الآخر للزراعة، وحب الثالث للتجارة، وانغماس آخر في الخمر، ولكن إذا كانت الانعكاسات المكيفة تبين لنا الأسباب والارتباطات التي تجعلنا نسعى لغرض ما، يختلف أحدنا فيه من الآخر؛ فإنها لا تبين أشياء كثيرة عديدة نختلف فيها، كالقدرة على التوهم، أي: التخيل، أو درجة الوجدان؛ أي إن الانعكاسات المكيفة تفسر لنا ميولنا واتجاهاتنا، ولكنها لا تفسر لنا كل التفكير البشري، ونعني بعبارة «التفكير البشري» شيئا أكبر مما نرى في الحيوان، وإن كنا في حالات كثيرة من هذا التفكير لا نجد فرقا بيننا وبين الكلب، ولا نذكر القردة العليا التي كادت تكون بشرا.
انظر مثلا إلى التوهم؛ أي: التخيل؛ فإن الكلب يحلم وينبح في نومه؛ أي إنه يتخيل، بل هو ينبح حتى في يقظته إذا خاف وتوهم شيئا، كما نرى في كلاب الريف، ولكن خيالنا نحن يتسع لأكثر من هذا، كما ترى حين يؤلف أحدنا قصة من 400 صفحة كلها توهمات وخيالات؛ فالأساس واحد ولكن الدرجة مختلفة.
أو انظر في الانفعال والوجدان؛ فإن 99 في المائة من تفكير الكلب انفعال، وواحد فقط أو أقل وجدان، بل هناك من ينكر على الكلب ميزة الوجدان، ولكن ما هو الوجدان؟
اذكر أما تحب طفلها المريض وتتألم لألمه ولا تطيق بكاءه، ثم ينصح لها الطبيب بإعطائه جرعة مرة من دواء تعرف هي أنه يكرهه ويبكي من مذاقه، فهي هنا في تردد بين عاطفة الحب الأموي وعاطفة التبصر لمستقبله، فهي تقف هنيهة تتدبر وتفكر، وتحاول أن تخترع أسلوبا يرضي الطفل ولا يفوت عليه فائدة الدواء، هي الآن في وجدان؛ أي: تفكير لا نكاد نجد مثله عند الحيوان، إلا في الأقل النادر، وهذا الوجدان هو أصل الضمير، هو أصل قولنا: ماذا أختار؟ هو أصل التفكير البشري؛ فالحيوان ينفعل؛ أي إنه ينساق بعاطفة الخوف أو الحب أو الشره أو الهجوم، وهو حين ينفعل لا يكاد يفكر؛ لأنه منساق بعاطفته قهرا، ولكنه إذا تردد بين عاطفتين أحس وجدانا، ولكن هل الأسد أو الببر أو الثعلب يتردد؟
ربما، وعندئذ هناك لمحة من الوجدان، بل لعلها لمحة زائلة؛ لأن أحد الانفعالات (العواطف) يتغلب على الآخر، ثم يصير الانفعال حركة للفرار أو الهجوم أو الافتراس أو الأكل، بل لعله كان حركة من الأصل، ونحن البشر حينما ننفعل وتسودنا عاطفة ما سيادة تامة نحس كأننا في غيبوبة، فلا ندري ما نفعل حتى لقد ننطق بكلمات أو نؤدي حركات نتعجب عقبها من قيامنا بها؛ لأن الوجدان قد جاء في الإفاقة من الانفعال، وصرنا نقارن بين عواطف مختلفة؛ أي: صرنا نفكر.
ولنعد إلى بافلوف والانعكاسات المكيفة التي يعزو إليها التفكير، وأحرى بنا أن نقول: إن هذه الانعكاسات إنما تقرر ميولنا واتجاهاتنا، أما التفكير (= الوجدان) فيقوم على المقارنة بين هذه الانعكاسات، ونحن نفكر أكثر وأبرع من الحيوان؛ لأن هذه الانعكاسات كثيرة عندنا، فالمقارنات أيضا كثيرة، وعندئذ يحدث التعقل والتأمل والتدبر والتبصر.
وكلنا يعرف أننا في النوم نحلم، ولكن من التسامح الكبير أن نسمي الحلم تفكيرا، وأحلامنا هي عواطف وخيالات، وأحيانا حركات، ولكن بلا وجدان، فنحن لا نقارن بين هذه العواطف (= الانفعالات) ونحتار ونتدبر، بل ننساق بالعاطفة، وهذا هو الأكثر الأعم في الأحلام، وإن كان قليل منا يقارنون ويحلون مشكلة ما في نومهم، والوجدان إذن من خواص اليقظة والانتباه.
وكلما قلت اليقظة أو الانتباه قل الوجدان؛ أي: قل التفكير؛ كما نرى مثلا عندما تتملكنا عادة فنؤديها بلا التفات كأنها حركة آلية.
والانفعال يرتبط مباشرة بالغرائز البيولوجية أو العادات الاجتماعية التي تشبه الغرائز، والوجدان يرتبط بهما أيضا، ولكن ليس مباشرة؛ أي إن الأساس «انعكاسات مكيفة» أي: مركبات من هذه الغرائز أو العادات، ولكن مجال الاختيار فيها كبير لأنها كثيرة.
ونشاطنا وقت الانفعال ذاتي؛ أي إنه ينبع وينساق مع إحساسنا فقط، ولكن نشاطنا في الوجدان موضوعي؛ أي إنه يخفت إحساسنا - وقد يلغيه - وينقل نشاطنا العقلي إلى الموضوع الذي يواجهنا، شخصا كان أو شيئا أو مشكلة ، فنفكر في منطق وروية.
وقد زادت اللغة الوجدان عندنا؛ لأن الحيوان حين يصرخ إنما يكون انفعاليا (= عاطفيا) ذاتيا، أما نحن حين ننادي ونستغيث ونعين أسماء وحوادث فإنما نكون موضوعيين إلى حد كبير.
وهناك في نشاطنا ما يتجاوز الوجدان مثل هذه الخاصة التليبائية التي أصبحنا جميعا أو معظمنا نسلم بها؛ أي: هذا الإحساس الذي نحسه عندما نكون بعيدين عن قريب نعزه أو صديق نحبه تقع به حادثة أو وفاة، فكأننا قد رأينا كل ما حدث، حتى لنبكي مع أن ما بيننا وبينه لا يقل من مائة أو ألف كيلومتر، ولم يعد شك في صدق هذه التليبائية؛ أي: الإحساس عن بعد، وهي بالطبع فوق الوجدان، هي انتقال تطوري جديد.
طبيعة الذكاء
نما المخ في الحيوان كي يدبر له الخدمة في إشباع غرائزه، وهو ينقل لنا - نحن البشر - صورة أكثر إتقانا وأقرب إلى الواقع مما ينقل دماغ الحيوان إليه، ولكن هذا النقل ليس فتوغرافيا، بل ولا كاليدسكوبيا فحسب؛ لأننا لسنا آلة ميكانية؛ إذ نحن أحياء نأخذ الصور من هذه الدنيا فنرتبها في طراز لا يناقض هذه الغرائز؛ فالعقل ليس قمرة فتوغرافية للتسجيل، بل هو أداة حية ترتب صور هذه الدنيا، فنحن نقيس بين الأشياء ونستطيع أن نعمم ونستنتج، وكل هذا يحتاج إلى الوجدان والمنطق.
وامتيازنا على الحيوان هو الوجدان والمنطق، وامتياز أحدنا على الآخر هو أيضا الوجدان والمنطق.
وهذا الامتياز نسميه ذكاء، فما هو تعريف الذكاء؟
الذكاء: هو القدرة على الانتفاع بالاختبارات، بحيث إذا وقع لي حادث فإني أستخرج المغزى منه وأسلك في المستقبل بمقتضى ذلك.
والذكاء: هو القدرة على التفكير المجرد؛ أي: التفكير في العلاقات البشرية كالمروءة والشهامة والجمال والرذيلة.
والذكاء: هو القدرة على زيادة القدرة؛ فإذا شرعت في درس التجارة أو الآداب أو الرياضيات استطعت أن أزيد فهمي لها بالدراسة.
والذكاء: هو القدرة على أن ألائم بيني وبين الوسط الجديد؛ أي: الكيفية التي أعالج بها الحالات الطارئة التي لم أتعودها، ولكني، بالتمثيل والقياس والاستقراء أسلك السلوك السوي.
ولكن كل هذا الذكاء هو في خدمة الغرائز، ولا تزال عواطفنا (= التهاب غرائزنا) مثل عواطف الحيوان، لم تتغير، ولو أنها كانت قد نقصت في حدتها لاستطاع ذكاؤنا أن يتحرر، وأن يسير على قواعد المنطق، ولكننا في اشتهائنا للجنس الآخر، وللطعام، وفي غضبنا وخوفنا وطمعنا، لا نختلف عن الحيوان؛ ولذلك تسوقنا هذه العواطف وتخفت ذكاءنا أو أحيانا تلغيه، فقد ألغت هذه العواطف ذكاء هتلر، فاندفع في عدوان قضى على ألمانيا، وهذه العواطف أيضا تلغي ذكاء تشرشل والمحافظين الإنجليز فتجعلهم لا يبالون مجاعة تعم الهند وتقتل مليون هندي كي يعيشوا هم في ترف.
ولكن هذه هي الناحية السيئة للعواطف، أما الناحية الحسنة فكلنا يعرفها؛ إذ لا قيمة للذكاء بتاتا بلا عواطف تحركه وتنشطه، والعبقري هو في النهاية ثمرة الذكاء العظيم والإرادة العظيمة، وذكاء بلا إرادة يركد ولا ينتفع به، ولكن الإرادة ثمرة الوجدان الذي يستخلصها من العواطف، والذكاء يتحيز المخ، أما العواطف فتتحيز الثلاموس.
وإذا تأملت الإنسان والقرد وجدت أن حيز المخ عندنا كبير جدا بالمقارنة إلى الغوريلا، ولكن حيز العواطف عندنا كبير أيضا لم يقل، بل يزيد على حيزه عند الغوريلا.
والذكاء قدرة عامة؛ أي إن الذكي الذي يتضح ذكاؤه في درس الأدب، كان يمكن أن يتضح ذكاؤه أيضا في درس الهندسة أو الطب أو التجارة أو الزراعة، ولكن إلى جنب هذه القدرة العامة نجد قدرات خاصة، كالمهندس العظيم الممتاز بالقدرة العامة في الهندسة ثم نجد له قدرات خاصة أخرى في العزف على الكمان أو في النجارة؛ فالعزف والنجارة لا يدلان على ذكاء عام، ولكن الهندسة تدل على ذكاء عام، وقد نجد سياسيا يحسن الخط أو الرسم؛ فالقدرة العامة هنا - أي الذكاء - هي السياسة، والقدرة الخاصة التي لا تحتاج إلى ذكاء كبير هي إحسان الخط أو الرسم، والنبوغ في السياسة أو الطب أو الهندسة أو الآداب يحتاج إلى ربط علاقات بشرية كثيرة تتحيز أكبر مكان من المخ، أما المهارة الصغيرة في الخط أو الرسم أو النجارة أو الموسيقى فلا تحتاج إلى شبكة كبيرة من الارتباطات ، وهي تتحيز مكانا صغيرا من المخ قد لا يدل النبوغ فيها على ذكاء عام.
وذكاؤنا موروث، وهو لا يختلف عن وراثتنا لأعضائنا كالأنف الأشم أو العين النجلاء أو الفم الصغير، ونمو الذكاء عندنا يستمر إلى السابعة عشرة، أو أنه يقف بين سن ال 16 أو سن ال 17، وما نرى من اختلاف عظيم بين متعادلين في الذكاء إنما يرجع إلى المهارة التي كسبها أحدهما بالتجارب والاختبارات، أو أن لأحدهم إرادة قوية تحت الذكاء، وللآخر إرادة ضعيفة.
وعلى كل حال يجب ألا نجزم؛ فإن هناك فريقا كبيرا بين السيكلوجيين في الولايات المتحدة يقول بأن الذكاء يزداد بالتعليم والاتجاه الثقافي الجدي، وهو يبني هذا القول على تجارب بين الذين اختبر ذكاؤهم في المدارس الثانوية وعرف، ثم اختبر بعد ذلك بنحو عشر سنين حين كان بعضهم قد اتصل بالجامعة ودرس، وكان البعض الآخر قد كف عن الدراسة ولم يدخل الجامعة، فوجد أن الذين دخلوا الجامعة ازداد ذكاؤهم.
وليس من الضروري أن يكون الذكي كبير المخ، ولكن يلاحظ أن رءوس البله صغيرة، كما أن اتجاه التطور نحو زيادة المخ، وربما كان صغير المخ ذكيا؛ لأن أخاديد مخه تتسع للخلايا التي يتوقف عليها الذكاء، وهذه الأخاديد لا نراها إلا بعد الوفاة، أو لأن الأوعية الدموية عنده حسنة، وهي تغذي خلايا المخ.
ولو شئنا أن نصف الأمارات العامة التي نعرف بها الصبي الذكي على وجه عام بصرف النظر عن التفاصيل، لقلنا إنها: (1)
القدرة على تناول الأعداد جمعا وطرحا وقسمة وتخيلا، بحيث يستطيع الذكي أن يحسب المشكلة العددية المألوفة في معاملات الناس دون حاجة إلى الكتابة، ولكن للعادة تأثيرا هنا يخل بهذا المقياس؛ فإن التاجر يصل إلى نتيجة حسابية سريعة إذا كان الحساب خاصا بتجارته، قد لا نصل نحن إليها إلا بعد مشقة؛ لأننا لم نألف هذه الحسابات. (2)
القدرة على تناول الكلمات بالتعبير المنطقي. (3)
القدرة على التخيل بالعين؛ لأن تفكير الإنسان هو تفكير العين، والرؤية الموضوعية والرؤية الذاتية كلتاهما تخدم التفكير الحسن. (4)
الذاكرة؛ أي: القدرة على الاستذكار. (5)
السرعة في الإحساس ، وهي تؤدي إلى الإدراك الذهني. (6)
القدرة على ربط العلاقات العامة، وربما كانت هذه الصفة الأخيرة أعظم ما يميز الذكي من غيره، وهي في النهاية قدرة على المقارنة والنقد.
الذكاء والعبقرية
لا نستطيع أن نعرف - على وجه الخصوص - الأسس المادية التي ينبني عليها الذكاء، وقصارانا أن نحدس أنها تقوم على: (1)
مخ كبير، وهذا القول نستنتجه من الموكب العام لتطور الحيوانات، باعتبار أنها اتجهت نحو أسمى حيوان وهو الإنسان الذي يمتاز بأكبر مخ، وكذلك نستنتجه من أن عامة البله يتسمون برءوس صغيرة. (2)
كثرة التلافيف في المخ، وهي تؤدي إلى أن تجد الخلايا الغبراء التي يتألف منها المخ مكانا أوسع تتوافر فيه، وهذه الخلايا تربط أجزاء المخ وتتيح لنا التفكير بأعلى أنواعه؛ أي: الوجدان، وهي أشبه الأشياء بلوفة الاستحمام في ارتباط خيوطها. (3)
نظام هورموني حسن في الجسم؛ أي إن السوائل التي تفرزها الغدد الصماء - مثل الخصيتين والأدريناليتين والنخامية والدرقية - لا تكون أكثر ولا أقل مما يحتاج إليه الجسم. (4)
أوعية دموية حسنة تنقل إلى خلايا المخ الغذاء الوفير.
وهذه الأربعة موروثة يحصل عليها كل منا بحق الميلاد، ويختلف أحدنا من الآخر باختلاف أبويه وأسلافه، ثم باختلاف الجديد الذي يولد كل منا به زيادة على موروثنا؛ فإننا لسنا مقيدين بالوراثة كما لو كانت قوالب تصوغنا؛ إذ لو كانت الوراثة بهذا الجمود لما ظهرت أنواع جديدة بعقول جديدة في الدنيا.
وإذا تركنا الأسس المادية للذكاء جانبا، وحاولنا أن نحدس بعض الأسباب التي تؤدي إلى زيادة الوجدان لقلنا: إنها اختلاف الأبوين بحيث يؤدي هذا الاختلاف إلى التناقض الداخلي، وإيجاد التقلقل والتوتر بين الغرائز والاتجاهات المختلفة، ولنضرب على ذلك مثلا بالكلب يكون أبوه من سلالة وأمه من سلالة أخرى، لكل منهما خصائصها التي تثبت بالاستيلاد عدة قرون، فنتاج هاتين السلالتين لا يخرج خالصا وليست له وجهة معينة، فهو مقلقل بين الأب الذي قد يكون من كلاب الرعاة والأم التي قد تكون من كلاب الطراد، وهذا التقلقل يحمله على التردد، فلا يندفع بغريزة خالصة نحو نشاط معين، بل يقف في تردد أو توتر، وهنا ينشأ الوجدان؛ أي: التفكير الذي يوازن بين عمل وآخر فيختار، وهو في اختياره يتأمل ويتدبر في روية قبل أن يعمل.
ولعل هذا المثل ينيرنا عن العبقرية الذهنية في الإنسان؛ إذ قد تكون هي أيضا نتاج عناصر وراثية متناقضة أو مختلفة، بحيث يؤدي تناقضها واختلافها إلى وقفة التأمل والتردد والتفكير، وليس من الضروري أن نعرض سلالتين في الأبوين كمثال الكلب؛ لأن الاختلافات قد تكون دون هذا، ولكنها تمتاز بقيمة عالية لظروف اجتماعية خاصة في فترة تاريخية معينة.
وإذا شئنا أن نعرض بكلام عام، لا تدخل فيه الشذوذات لأمارات الذكاء في الناس؛ فإننا نستطيع أن نقول: إن الشاب الموهوب أو الفتاة الموهوبة يبدوان جميلين إلى درجة تميزهما عن سائر الناس، ولعل هذا يرجع إلى أن سلوك الغدد الصماء حسن؛ لأننا نعرف أنه عندما يقل إفراز هذه الغدد أو يزيد على السواء يحدث تشوه في الجسم والتقاسيم، وكثير من البله يبدو عليهم هذا التشوه في رأس صغير أو ملامح مغولية أو غير ذلك.
وأمارة أخرى للأذكياء أنهم فيما بين 15 و17 سنة من العمر تتنبه أذهانهم تنبها عظيما فيسرفون في القراءة والاستطلاع، ونحن نعرف أن هذه السن هي نهاية النمو تقريبا في الذكاء، فنحن لا نزيد ذكاء بعد سن 16 أو 17 مهما طالت أعمارنا إلا مقدارا قليلا.
وقد قلنا: إن الذكاء يقاس، ومتوسطه 100 فما زاد على ذلك يتجه نحو العبقرية وما نقص يتجه نحو الغفلة ثم البلاهة، وقد وجد أنه في كل ألف تلميذ في الولايات المتحدة يوجد 4 أو 5 يزيد ذكاؤهم على 140 و10 يزيد ذكاؤهم على 130 و30 يزيد ذكاؤهم على 125، وإذا نقصت الدرجة عن 70 كانت برهانا على البلاهة.
والذكاء في الرجل لا يختلف عن الذكاء في المرأة، ولكن المرأة تميل إلى المتوسط، فليس فيها تطرف نحو العبقرية أو نحو البلاهة بقدر ما نرى في الرجال.
وامتحان الذكاء أدق الامتحانات، ذلك لأننا يجب أن نقيس القدرة العامة وليس المهارات الخاصة؛ فالصبي الذي نشأ في الريف مثلا يفهم أشياء كثيرة عن الحيوان والنبات لا يفهمها الصبي الذي نشأ في المدينة، وهذه مهارات خاصة عنده، ولكنه إذا دخل دارا سينمائيا اختلطت عليه جميع الأشياء التي يدركها ابن المدينة بأول لمحة، والصبي الذي عاش في فاقة يفتقر إلى الذوق الفني الذي يمتاز به صبي عاش في عائلة ثرية، وبدهي أيضا أن المعارف التي يتلقاها التلميذ في المدرسة يجب ألا تدخل في امتحانات للذكاء يشترك فيه صبي أمي.
ولذلك يجب أن يكون الامتحان في أشياء عامة لا تتوقف على معارف خاصة ببيئة معينة؛ ومن هنا الصعوبة في تعيين الأسئلة.
ويجب ألا ننسى أن قوة الذكاء وحدها لا تؤدي إلى عبقرية، وكذلك ضعف الذكاء وحده لا يؤدي إلى الجنون، وإنما العبقرية والجنون كلاهما يحتاج إلى الإرادة (= العاطفة) التي تحرك الذكاء إلى السواء أو إلى العبقرية أو إلى الانحراف، فلا بد من عاطفة قوية.
والمجنون خلاف الأبله؛ لأن الأول قد يكون ذكيا، ولكن عاطفة معينة قد حملته إلى الصخرة فحطمت ذهنه، أما الأبله الذي تنقص درجة ذكائه عن 70 فهو شخص في العادة هادئ ليس به جنون.
وتفكيرنا الوجداني يجري على ثلاثة طرز: (1)
طراز التمثيل: وهو أعم طراز بين الناس في تفكيرهم وأبسطه، وهو أن نفرض أنه ما دام شيئان يتماثلان في بعض الخصائص فإن الأرجح أنهما يتماثلان في الخصائص الأخرى؛ فإذا قلت: إن الفرس يرفس ويؤلم، فإن الحمار أيضا يرفس ويؤلم، ولكن خطأ التمثيل يتضح عندما نقارن بين صقر وحمامة أو بين دودة ويرقة. (2)
والطراز الثاني هو القياس: وهو أن نأخذ من التعميم فننزل إلى التخصيص، فنقول: إن للطيور جناحين، وعلى هذا تعد الدجاجة طائرا، ولكن خطأ القياس يتضح عندما أقول: إن الوطواط طائر؛ إذ هو حيوان لبون مثل الفيل والفأر، على الرغم من جناحيه. (3)
والطراز الثالث للتفكير هو الاستقراء: وهو أن نأخذ من التخصيص إلى التعميم، وهو أن أقول: إن البرتقالة تسقط من الشجرة إلى الأرض، والحجر يسقط ثانيا على الأرض إذا قذفت به إلى أعلى، ونحن نسقط إذا وثبنا، وإذن لا بد أن هناك قانونا للجاذبية؛ أي إن الأرض تجذب الأجسام إليها، وهذا الطراز من التفكير هو أعلى الطرز، ولا يقوم به إلا عبقري يجدد في المعارف البشرية مثل نيوطن.
وكلنا - مع التفاوت - نستعمل هذه الطرز الثلاثة في تفكيرنا؛ فإذا كنا عبقريين قد احترفنا الفلسفة أو العلم استعملنا الطراز الثالث، فنكشف عن قوانين الطبيعة المستورة، وإذا كنا دون ذلك استعملنا الطراز الثاني، ولكن كثرتنا تستعمل الطراز الأول على ما فيه من أخطاء كثيرة.
والاكتشاف تحليلي يجري على طراز القياس: من التعميم إلى التخصيص. والاختراع تأليفي يجري على طراز الاستقراء: من التخصيص إلى التعميم. (أحيل القارئ هنا إلى فصل «الشخصية السيكوبائية».)
طراز الجسم ومزاج النفس
يصح أن نسمي هذا الفصل «الفراسة السيكلوجية»؛ لأننا نستطيع بما نعرفه هنا أن نتكهن بسلوك الشخص - إلى حد ما - من النظر إلى قوامه وتقاسيم وجهه؛ أي: نعرف مزاج نفسه من طراز جسمه، والفضل في هذه المعارف التي لم تبلغ منتهاها للسيكلوجي السويسري يونج، ثم للسيكلوجي الألماني كريتشمر.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن الغدد الصماء تؤثر في بنية الجسم كما تؤثر في الذكاء، وقد يكون الطراز الذي ينبني عليه الجسم قائما أيضا على هذه الغدد؛ أي إن وفرة الإفراز من إحدى الغدد قد تؤدي إلى قامة مديدة نحيفة، أو إلى قامة قصيرة متكتلة، ثم إلى اتجاه نفسي معين وإلى لون خاص من الذكاء.
فهناك ثلاثة طرز من الجسم هي: الانطوائي، والانبساطي، والرياضي. (1)
فالطراز الانطوائي يتسم بوجه مستطيل ورأس صغير، ليس له نتوء في الخلف، والرأس والوجه يؤلفان شكلا بيضويا، والأنف طويل والوجه في العادة أصفر، وقد يبلغ الستين من العمر ولا يكاد الصلع يصيب شعره، وإذا تفشى فيه الصلع تفرق قليلا في الرأس بلا انتظام وبلا إسراف، وكثيرا ما يقع هذا الطراز في التدرن، وهو لا يسمن ولا يستكرش، وتبدو عليه أمارات الشيخوخة في سن مبكرة، ولكنه مع ذلك يعمر.
هذه هي هيئة الجسم، أما مزاج النفس عند الانطوائي فيعرف بحبه للانفراد وكراهة الاجتماع، فهو يعتزل ولا يختلط إلا مضطرا ، وهو صموت لا يتفتح للكلام، وكتوم سري يتجنب النادي والقهوة والمأتم والعرس، ولا يعرف ألعاب الحظ والمؤانسة، ويتحفظ ويخجل كثيرا، وأحيانا يكون كسولا متشردا.
والتشرد هنا نوع من الانفراد وكراهة الاختلاط بالناس، وهو يكظم ولا يعبر عن عواطفه بغضب أو فرح أو حماسة، وهو في سن المراهقة يقع بسهولة في العادة السرية، وانفراده يساعده على الإسراف فيها، وعجزه عن الاختلاط بالجنس الآخر يزيد هذه العادة خطرا عنده، وهو يبني قصورا في الهواء يتخيل ويحلم أحلام اليقظة، وهو في الثقافة والسياسة يلتفت إلى المبادئ ولا يبالي الأشخاص، وقد يتعصب للمبادئ ويكافح ويخاطر من أجلها، والشيزوفرينيا، وهي مرض الانطوائيين، وهي مرض العزلة التامة وجمود العواطف، والمجرم الذي لا يبالي قتل الناس هو في العادة انطوائي، وكذلك دعاة المبادئ والمذاهب والفلسفات والتعصب الأعمى الذي لا يبالي العقبات انطوائيون.
والانطوائي نراه في مجتمعنا منفردا، أو هو يختص بصداقة واحد أو اثنين يعتزل بهما جانبا، وهو أنيق فني في اختيار أثاث منزله وأدواته، قنوع في طعامه لا ينهم، ولكن تأنقه في الاختيار يتضح في اقتناء الآنية الصينية الفاخرة أو نحو ذلك، ويمكن أن يقال: إن زهرة حياة الانطوائي تتفتح إلى الداخل، وعقله الكامن (= الباطن) ينشط كثيرا، ولذلك يميل إلى الشعر ويؤلف القصائد والقصص الخيالية، ولكنه لا يحسن وصف الأشخاص، وهو يكتم عواطفه ويحقد وقد ينفجر، وهو أسلوبي السلوك أرستقراطي الحركة، والكاتم المخاصم هو في العادة انطوائي، ونعني المخاصم المثابر. (2)
والطراز الانبساطي يتسم بالسمن والتكتل، وأحيانا بالاستكراش، وله وجه مستدير أو كالمستدير حاضر الدم مورد، وهو يصلع مبكرا منذ العشرين أو الخامسة والعشرين، والصلع يسعى في رأسه في نظام، يبدأ من الجبهة ويسير متدرجا إلى الخلف في صف سوي لا تتجاوز قطعة منه الأخرى، وهو كثيرا ما يتعرض للبول السكري والرومتزم، وأحيانا يصاب بالغوطر، والترهل والاستكراش يتضحان فيه حتى قبل الخمسين.
والانبساطي سريع التعبير عن عواطفه، يحب المجتمعات، ويأنس إلى الناس، ويقدر أطايب المائدة، ويحب الشراب والطعام والمؤانسة وإخوان الانشراح، وهو متحدث يحفظ النكات والفكاهات، ويضحك في صراحة ولذة، وهو يغضب بسرعة، ولكنه أيضا ينسى غضبه بسرعة، وهو محبوب يوصف بين الناس بأن «قلبه طيب»، بخلاف الانطوائي الكتوم الحقود، ولكن الانبساطي على ميله إلى الابتهاج والانشراح تنتابه أحيانا موجة من الحزن أو الجمود، فهو يعيش في فترات، فترة للفرح وأخرى للكآبة، ولكنه في أكثر حياته اجتماعي باسم للدنيا.
ويمكن أن يقال: إن زهرة حياة الانبساطي تتفتح إلى الخارج، وأصدقاؤه كثيرون، وهو مسامر مختلط متوسع ينجح في الحب كما ينجح في التجارة والمال، ويترقى في الوظائف بسرعة؛ لأنه مبسوط النفس «واليد» ولا يكظم عاطفته، ولذلك يضحك ويبكي بسهولة، إذا شرب خمرا آثر شربها مع آخرين، في حين أن الانطوائي يشربها وحده، واتجاهه في الحياة إيجابي، يقول: نعم لكل ما فيها من أطايب ويقبل عليها، أما الانطوائي فيشيح عنها ويجتر نفسه، والمرض النفسي للانبساطي هو المانيا، مرض الحزن الشديد ثم الفرح الشديد، والانبساطي إذا غضب فار ثم انطفأ، والانطوائي إذا غضب كتم وحقد، ودموع الانبساطي تنهمر في حين تجمد عين الانطوائي حتى لا يكاد يعرف ما هو البكاء، ونباح الانبساطي أكثر من عضه، ولكن عض الانطوائي أكثر من نباحه، بل هو لا ينبح.
الانطوائي يقابل الأشياء والناس بالتعقل، والانبساطي يقابلهم بالانفعال.
ويمكن أن يقال على وجه عام: إن الإنجليز انطوائيون، والفرنسيون انبساطيون، وإن الأوروبي انطوائي، والصيني انبساطي، والرجل على وجه عام انطوائي، في حين أن المرأة على وجه عام انبساطية، هو يفكر في المبادئ والمذاهب أكثر منها، وهو يتنكر للمجتمع أكثر منها، وهي لا تبالي المذاهب والمبادئ، ولكنها تلصق بالمجتمع وتكبر من شأن القيم الاجتماعية. (3)
والطراز الرياضي يتسم بنمو العظام، ولكن بدون استكراش أو ترهل، وهو يقبل على الألعاب الرياضية ويحب الحياة العسكرية، وله رغبة في العدوان، يحب أن يحل مشكلاته أحيانا بقوة ذراعيه، وهو يؤثر حياة العمل والحركة على حياة التأمل والسكون، وهو ينجح في التجارة المتحركة، ولكنه لا يحسن القعدة في غرفة لإدارة عمل، ورؤساء الأعمال والمفتشون يكونون من هذا الطراز، والرياضي اجتماعي مثل الانبساطي يكبر من شأن القيم الاجتماعية .
وليس في الناس شخص انطوائي مائة في المائة، أو انبساطي مائة في المائة، أو رياضي مائة في المائة؛ إذ لو انقسم الناس مثل هذا الانقسام لما تفاهموا؛ لأن كل شخص يعود غريبا عن الآخر، وإنما كل منا يحوي عناصر من الطرازين الآخرين إلى جنب عنصره الأصلي الذي يمتاز به، انظر إلى هؤلاء الثلاثة:
هتلر:
رياضي انطوائي: يحب العدوان ويتعامى عن الواقع؛ لأنه يندفع في مبادئ يؤمن بها في تعصب.
تشرشل:
انبساطي عظيم يحب التدخين الفاخر والإمبراطورية ويقول: إن ميثاق الأطلنتي لا ينطبق على الهند؛ لأنه يعد الهند مسرحا للملذات.
روزفيلت:
انطوائي يخترع ميثاق الأطلنتي والحريات الأربع.
ومن الحسن أن يعرف كل منا طرازه الجسمي ومزاجه النفسي، ويختار العمل الذي يتفق وهذا المزاج، كما أنه من الحسن أن نميز الناس بوجوههم، وأن نعد الوجه بطاقة الزيارة للمزاج النفسي ولكن مع حفنة من الشك.
المزاج النفسي أيضا
في الفصل السابق قلنا: إن الأمزجة ثلاثة:
الانطوائي النحيف المستطيل الوجه: الذي ينطوي على نفسه ويجتر عواطفه وأفكاره، ويكره المجتمعات ويعتزل، وهو في العادة رجل الأخلاق والقواعد والنظريات.
والانبساطي السمين المستدير الوجه: الذي كثيرا ما يستكرش ويصلع، وهو أهوائي اجتماعي، يقبل على العالم الخارجي، ويحب الاستمتاع والمسامرة والطعام.
الرياضي: وهو يميل إلى الانبساطية.
ونستطيع أن نتوسع في الشرح بعد أن حذرنا القارئ بأنه ليس هناك أحد خالص غير ممزوج بقليل أو كثير من المزاجين الآخرين، ولكنا هنا نفرض المزاج الخالص لكي نستوفي صفاته، ونستطيع أيضا أن نستغني عن المزاج الرياضي؛ لأنه لا يبرز بروز المزاجين الآخرين.
والمزاج الانطوائي هو مزاج الفلسفة والأدب والغيبيات والمبادئ والمذاهب؛ فإن الشخص الانطوائي يعتزل المجتمع وينساق في تفكيره، فلا يبالي الواقع بل يتمادى في مذهبه، ونكاد لا نتخيل قديسا أو وليا أو داعية إلى مبدأ أو مذهب إلا ونفرض أنه انطوائي نحيف الجسم مستطيل الوجه، ومحال أن نفرضه انبساطيا، مستدير الوجه كثير اللحم مستكرشا يحب المجتمع ويقبل على ملذات الطعام أو الشراب؛ ولذلك نجد الانبساطي ينبغ في العلوم المادية كالبيولوجية أو الكيمياء أو الجغرافيا أو التاريخ؛ أي تلك العلوم التي تخدم المجتمع الخدمة المباشرة، والتي لا تصطدم فيها بقواعده ومبادئه.
وكلاهما يعالج الأدب، ولكنهما يختلفان فيه.
انظر إلى برنارد شو الانطوائي؛ فإنه يعالج في دراماته المبادئ والمذاهب.
ثم انظر إلى ولز الانبساطي؛ فإنه يعالج الأشخاص، بل يذكر طعامهم وشرابهم وملذاتهم الجنسية.
الانطوائي يتعصب لمذهبه، وهو رجل المثليات الذي لا يبالي العقبات، وهو لا يفور ولا يحتد، وكذلك لا يخمد، أما الانبساطي فيندفع ثم يسكن، وهو يحسن التنظيم؛ لأن نشاطه يتجه إلى الخارج وإلى الناس في مجتمعهم.
أنا أكتب هذه الكلمات في يونيو من 1945، وقد برز في الميدان السياسي أشخاص تولوا الحكومة هم:
المرحوم أحمد ماهر الانبساطي المصالح، الذي كان يلتذ مسرات القهوة والسباق وينسى أحقاده.
عبد الرحمن عزام بك أمين الجامعة العربية الانطوائي، الذي رسم مثلياته العربية منذ ثلاثين سنة ولم يحد عنها مهما كانت العقبات في طريقه.
مكرم عبيد باشا الانطوائي المخاصم، الذي لا ينسى خصومته.
النحاس باشا الانبساطي، الذي يحب الرفاهية وينسى الخصومة.
النقراشي باشا الرياضي الانبساطي، الذي يحسن التنظيم ولا يعنى كثيرا بالمثليات، وربما يعمد إلى العنف في أخذ الأشياء بالقوة.
وفي ميدان السياسة والحرب العالميتين نجد ولسون الانطوائي، الذي وضع الشروط الأربعة عشر لإصلاح العالم في الحرب الكوكبية الأولى، ثم نجد روزفيلت في الحرب الكوكبية الثانية يضع الحريات الأربع وميثاق الأطلنطي، وكلاهما انطوائي ينشد المثليات وقد يتعامى عن الواقع.
وفي تلك الحرب الأولى وقف لويد جورج وكليمنصو، وكلاهما انبساطي يطلب النصر فقط، وقد كان موسوليني في صف هتلر في الحرب الثانية، ولكن الأول كان انبساطيا يطلب الرفاهية لإيطاليا قبل كل شيء، أما الثاني فكان انطوائيا يحلم بالمثليات والمبادئ الجنونية.
كان الإمام محمد عبده انبساطيا؛ فنزع في الدين إلى العمل وأسس الجمعية الخيرية الإسلامية لترقية الشعب، وهو في تفسيره للقرآن ينزع إلى الحسيات لا الغيبيات ويتجه الاتجاه الاجتماعي.
وكان سعد زغلول انطوائيا، وهو صاحب الكلمة المثلوية: الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة.
وفي صحفنا كتاب انبساطيون يكتبون في القيل والقال عن الناس والطعام واللباس والملذات والفكاهات، ومعظم المجلات الأسبوعية انبساطية يحررها هؤلاء الانبساطيون.
وعندنا كتاب انطوائيون يتحدثون عن الاشتراكية ومبادئ ولسون وروزفيلت والوطن العالمي واللغة العالمية ومستقبل البشر.
والصينيون بوجوههم وأجسامهم انبساطيون، وكذلك بمزاجهم؛ حتى إن منهم كونفوشيوس يؤلف لهم عن قواعد الأكل واللباس ولقاء الضيف ومعاملة الأبوين والناس؛ أي إن اتجاهه اجتماعي.
ولكن الهنود - بالمقارنة - انطوائيون؛ ولذلك اتجهوا نحو الغيبيات في دياناتهم اتجاها يتجاوز خيالنا.
وفي أوروبا الجنوبية نجد المرح وملذات الطعام والشراب والجنس بين السكان الانبساطيين، وفي أوروبا الشمالية نجد الجد والصمت والقناعة في الطعام بين السكان الانطوائيين.
الخطأ الأساسي في التفكير
التفكير عام يشملنا نحن والحيوان، ولكن الذكاء خاص يكاد يقتصر علينا؛ فإن تحرك العواطف يؤدي إلى تفكير؛ أي: إلى نشاط ذهني، حين ينزع الحيوان للبحث عن الأنثى أو الطعام، ونحن - حين نشتهي - نفكر كالحيوان، فتبعثنا العاطفة مثلا على التفكير في الجنس الآخر.
ولكن هذا التفكير العاطفي هو أحط أنواع التفكير عندنا، ونحن حين ننساق في عاطفة ملتهبة لا نكاد نحس أننا نفكر؛ ولذلك ينصح للغاضب أن يعد مائة قبل أن يرتئي أو يحكم؛ لأن عاطفة الغضب تتسلط على وجدانه وتعطل ذكاءه.
ولكن هذا التفكير العاطفي المعطل للذكاء هو التفكير العام بين جميع الناس تقريبا، أما الوجدان الذي يؤدي إلى الذكاء بالمنطق والتبصر فقليل جدا؛ ومن هنا تعس الناس.
انظر إلى طبيب وصل - بعد أن وزن جسمه وقدر حالته الصحية - إلى الرأي بأنه يجب أن يتوقى النشويات في الطعام، فهذا هو وجدان؛ أي: منطق وتعقل ووزن للأشياء كما هي تقريبا في حقيقتها، ولكنه يقعد إلى المائدة فتحدث حركة انعكاسية بتحرك لعابه عند رؤية المكرونة، فتثار عاطفة الجوع فيغيب وجدانه ويهجم على المكرونة، ولكنه بعد أربع أو خمس ساعات يتذكر هذا الخطأ ويجدد العزم على تجنب النشويات.
أو انظر إلى أب يعرف قيمة الرقة والملاطفة والعدل مع الأطفال، يرى ابنه يلعب ولا يدرس، فيغضب وتلهب عاطفة الغضب، فينهره ويضربه، فهو هنا أخمد وجدانه وترك التعقل والاحتيال والروية وأحيا عاطفته.
كان سقراط يقول: «إن المعرفة تؤدي إلى الحكمة»، ولكن هذا خطأ، لأن المعرفة مع العاطفة تؤدي في أحيان كثيرة إلى الإجرام.
ولكن المعرفة مع الوجدان تؤدي إلى الحكمة.
حين نسلك سلوك العاطفة نكون حيوانات - نرى الأشياء رؤية ذاتية كما تصورها عاطفتنا، ونحكم ونحن منفعلون.
وحين نسلك سلوك الوجدان نكون حكماء - نرى الأشياء رؤية موضوعية كما يصورها المنطق والواقع؛ أي: كما هي تقريبا في الحقيقة، ونحكم ونحن متعقلون.
انظر إلى شاب ينوي الزواج ويعتمد على عاطفته الجنسية فقط، فهو هنا ليس بينه وبين الحمار أي فرق؛ إذ هو يلتفت إلى حمرة وجنتيها، أو إلى ابتسامتها، أو إلى توأمي صدرها البارزين، أو إلى أن كلماتها رخيمة، أو إلى أنها تشبه أمه أيام رضاعه؛ حين كان يظن أن ليس في الدنيا أجمل من أمه، فهو هنا عاطفي، والصورة التي في ذهنه عن هذه الفتاة قد صورها هو لنفسه كما يحب أن يراها، وليس كما هي في الواقع.
وانظر إلى شاب آخر ينوي الزواج ويعتمد على وجدانه، فهو يسأل: كيف تكون هذه الفتاة حين تصير أما بعد عشر سنوات؟ كيف يكون جسمها وعقلها؟ وهل هي من عائلة خالية من مرض الجسم أو العقل؟ وإذا كنت أحبها الآن فهل أحبها بعد عشر سنوات؟ وهل مستواها الاجتماعي يساوي مستواي أنا؛ بحيث نشترك كلانا في القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟
وواضح أن العاطفي الأول يخفق في زواجه، أما هذا الوجداني الثاني فإنه ينجح؛ لأنه قد صورها في ذهنه كما هي في الواقع تقريبا.
وقس على هذا؛ فإن أخطاء التفكير كلها تقوم على أساس واحد، وهو أننا نعتمد في تصرفنا على عواطفنا بدلا من الاعتماد على وجداننا، وإذا كانت كلمة «كلها» قد بولغ فيها فنقول: إن 99 في المائة من أخطاء التفكير تعود إلى الاعتماد على العاطفة دون الوجدان؛ أي: الاعتماد على السلوك الحيواني بدلا من السلوك الإنساني.
هذه العواطف (= غرائز ملتهبة) قد ورثناها عن الحيوان كما ورثنا اللحية، ولكننا نتخلص من اللحية بالموسى، أما العواطف فيشق علينا التخلص منها، وكما كانت اللحية تنفعنا وتخدمنا أيام الغابة ومصارعة الوحوش؛ لأنها كانت تحيط بالوجه كالهالة فيبدو مخيفا كما لو كان وجه أسد؛ فإن العواطف كانت أيضا تنفعنا وتخدمنا أيام الغابة؛ لأننا كنا نصل بها إلى قرار حاسم عاجل لمواجهة العدو أو الصديق.
العاطفة تفكير الارتجال والبديهة: التفكير الذاتي الأحمق: تفكير الثلاموس.
والوجدان تفكير الروية والمنطق: التفكير الموضوعي الذكي: تفكير اللحاء المخي.
والآن بعد أن أكدنا ضرر العاطفة بالتفكير نقول: إن موت العواطف أو انخفاض رنينها إلى ما يقارب الموت في النفس كما يحدث في الشيخوخة يؤدي إلى انخفاض الوجدان والذكاء، بل أكثر من هذا؛ فإننا نرى أنه عندما تتغلب عاطفة واحدة وتلغى سائر العواطف كما في الجنون ينخفض الوجدان أو يزول؛ أي: لا نجد في هذه الحال ذكاء.
وهذا يجعلنا نرجع إلى ما سبق أن ذكرناه، وهو أن الوجدان يعود إلى جملة عواطف مختلفة أو متناقضة، يؤدي اختلافها أو تناقضها إلى وقفة التردد، التي تجعل المتردد يحس أنه يفكر وأنه حر يختار من بين عواطفه أو يؤلف بينها، ولكن هذا التفسير لا يكفي، وكذلك لا يكفي أن يقال - كما هو رأي السلوكيين والبافلوفيين: إنه ثمرة الانعكاسات المكيفة؛ لأن الوجدان أكبر من هذا وذاك، وليس شك أن بذرة الوجدان في الانعكاسات والعواطف، ولكن الوجدان شجرة وليس بذرة فقط، ولم لا نجرؤ ونقول: إنه اختراع جديد في الحياة، أو حاسة جديدة لفهم الدنيا فهما موضوعيا؟
والخلاصة؛ أن الخطأ الأساسي في التفكير هو الاعتماد على العاطفة دون الوجدان في تصرفنا، وهناك أخطاء أخرى سوف نعالجها عندما نتحدث عن التفكير الناجح وعوائقه.
وقبل أن نترك هذا الفصل يجب أن نذكر أن القوانين تعترف بالفرق بين جريمة العاطفة
Crime
وبين جريمة الوجدان. الأولى تقع مفاجئة نتيجة الغضب أو الغيرة مثلا وعقوبتها خفيفة، والثانية تحتاج إلى «سبق الإصرار» أي: الروية والتأمل، وعقوبتها خطيرة.
ونحن نمزج في سلوكنا بين الوجدان والعاطفة، وليس فينا الوجداني الخالص أو العاطفي الخالص، ولو وجدا لكان الأول أعظم الفلاسفة، ولكان الثاني أعظم المجانين، ولكن على قدر بعدنا من العاطفة نوصف بأننا عقلاء.
وفي سلوكنا نعتمد إما على المنطق الوجداني وإما على العقيدة العاطفية، وكثيرا ما نلاحظ أن المؤمن بعقيدة معينة يكره المنطق كأنه يحب أن ينخدع، كما يحدث للرجل يتعلق بحبيبته ولا يطيق أن يسمع عنها خبرا يشككه في أمانتها؛ ومن هنا تعلق الناس بالعقائد والتقاليد.
اللغة والتفكير
يقول واطسون زعيم السلوكيين: إن التفكير هو كلمات غير منطوقة، كما أن الكلام هو تفكير منطوق، وإذا لم يكن هذا القول صحيحا مائة في المائة فإن مما يسلم به كل منا أن التفكير بلا لغة يكاد يكون معدوما، أو هو لا يزيد على درجة الأحلام في النوم؛ إذ لا بد للمعنى من علامة تربطه في أذهاننا، وقد تكون هذه العلامة إشارة باليد أو حركة في الحاجبين أو الشفتين، وليست الكلمات سوى علامات أيضا؛ أي: رموز تربط المعاني في أذهاننا، وكثير من امتيازنا على القردة العليا يعود إلى اللغة، ولو كانت هذه القردة تستطيع التعبير بنحو 300 أو 500 كلمة فقط عن تفكيرها، لكانت لها ثقافة تورث وتتجمع وتتيح إيجاد حضارة ما، ولكن خرسها يجعل مجهود كل فرد منها مقصورا عليه، فلا ينتقل تفكيره إلى ذريته، ولا يستطيع النابغة أن يعمم فكرة حسنة بين قبيلته، وقد ظهر الإنسان النياندرتالي وكان دماغه من دماغنا، ولكنا تغلبنا عليه وأبدناه، ولا نكاد نعرف سببا لهذا إلا أننا كنا ناطقين وكان هو أخرس.
للحيوان صوت ولكن لنا نحن لغة؛ فإذا وقعنا كلانا في ورطة عمد هو إلى الصراخ الذاتي الانفعالي وعمدنا نحن إلى النداء الوجداني الموضوعي، والدنيا مصورة في ذهنه تصويرا ذاتيا؛ أي: كما يحسها بعواطفه، والدنيا مصورة في ذهننا تصويرا موضوعيا؛ أي: كما يرتبها وجداننا، وفضل كبير من هذا التصوير عندنا يرجع إلى اللغة.
اللغة جعلت الزمن تاريخيا والمكان جغرافيا، فأنا لا أعيش هذا اليوم فقط، بل أنظر إلى الماضي بعين تاريخية، قد تمتد إلى عشرة آلاف سنة، بل وألف مليون سنة، كما أنظر بعقل مستقبلي مثل هذا الزمن، والفضل لهذا الوجدان يعود إلى اللغة التي اتسعت بها آفاق تفكيرنا بأن زادت ذاكرتنا وفسحت خيالنا.
حاول أيها القارئ أن تتخيل فهم هذه المعاني، مع الفرض بأنك ولدت أخرس وعشت بين خرس ليس لهم لغة: (1)
بعد خمسة أيام من الآن. (2)
على بعد 35 كيلومترا من هنا. (3)
هذا الرجل يكذب كثيرا ولكن أكاذيبه بيضاء. (4)
لون الحائط أحمر يضرب إلى الصفرة.
ويجب ألا تفرض أنك أخرس تعيش بين ناطقين؛ لأنك في هذه الحال تسمع الكلمات وتعرف أنها رموز لهذه المعاني، ولكن افرض أنك أخرس بين خرس لم تسمع قط كلمة ولم تنطق بها، ففي هذه الحال يستحيل عليك تخيل هذه المعاني؛ ومن هنا نعرف أن اللغة إذا لم تكن هي التفكير نفسه فهي التي تربط معانينا وتسهل تفكيرنا، وهي التي جعلت الوجدان مستطاعا إلى أقصى حدوده الحاضرة في أذهاننا.
و999 في الألف من تفكيرنا؛ أي: من نشاطنا الذهني هو ثقافة موروثة؛ أي: كلمات موروثة. ونحن إزاء المجتمع كالطفل إزاء عائلته، ينشأ رضيعا فيها، ويتعلم منها كلماتها ويتعود عاداتها الذهنية والنفسية من أفرادها، وهو أيضا يعطيها كلمات طفلية، ولكن ما يأخذه من عائلته يزيد ألف ضعف على ما يعطيها من كلمات الطفولة، وهذا شأننا أيضا في المجتمع، قد يعطيه أحدنا كلمة هي ثمرة تفكيره الخاص ولكنه يأخذ من هذا المجتمع نحو عشرين ألف كلمة؛ أي: عشرين ألف معنى.
وهنا أرجو القارئ أن يقرأ كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية»، فقد أوردت هناك قصة فتاتين خطفتهما ذئبة، ولكن بدلا من أن تتحرك في الذئبة عاطفة الجوع فتأكلهما، تحركت عاطفة الأمومة فأرضعتهما، فنشأت كلتاهما خرساء، وسلكتا سلوك الذئاب. حتى المشي على الساقين لم تعرفاه، وبعد أن قبض عليهما بقيتا سنوات قبل أن تتعلما السلوك البشري بالكلمات البشرية، فكانت كل كلمة رمزا لسلوك معين.
ومن هنا ندرك أنه ليس تفكيرنا فقط قائما على الرموز اللغوية (الكلمات) التي تحدد وتعين المعاني، بل أيضا سلوكنا الاجتماعي؛ لأن الكلمات التي تتكرر لنا تعين لنا اتجاهات نفسية يتقرر بها سلوكنا.
ومع كل هذا الذي قلنا ليست اللغات كاملة؛ فإن نقائصها - بل رذائلها - كثيرة، وليس هذا عجيبا؛ لأننا ما زلنا في القرون الأولى لاختراعها؛ فهناك مثلا الكلمات الوجدانية الموضوعية، وهناك الكلمات العاطفية الذاتية؛ فإن الأولى نتفق عليها ونفهمها، والثانية نختلف فيها ولا ندري المقصود منها، انظر إلى المتنبي:
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
فالمرارة هنا تعود إلى الحال الانفعالية في شارب الماء؛ فإذا كان أحدنا سليما وجد الماء الزلال زلالا، ولكنه إذا كان مريضا صار هذا الماء مرا مع أنه ليست به مرارة، وإنما علة المرارة هنا صحته السيئة.
فالكلمات إما موضوعية تعين لنا شيئا ليست له بعواطفنا علاقة، مثل: كرسي وسحاب وخمسة وشارع وحمار، وإما ذاتية نحكم عليها بعواطفنا، مثل: جميل وقبيح وشريف وشجاع ومتهور وعاقل؛ فإن كلا منا يختلف مع الآخر في معاني هذه الكلمات.
والكلمات هي - بعد كل هذا - رموز، كما أن النقود رموز للقوة الشرائية، وكما تكون النقود سوية أو ممسوحة أو زائفة كذلك تكون الكلمات، وكثير من الالتباس يعود إلى بعض الكلمات قد انمحت معانيها بالتقادم؛ لأنها نشأت في مناخ ثقافي قد باد، ونحن نحس هذا عندما نقرأ كتابا قديما مضى عليه ألف سنة مثلا، وكثير من الكلمات زائف كما نرى في عصابة اللصوص حين تصف أحد أفرادها بأنه «شهم»، والشهامة هنا معناها أنه فاتك، وعندما تجد اثنين يختلفان في جدال عن الخلق والتطور، أو عن الاشتراكية والمباراة، أو عن العلم والدين، فإنك موقن بعد التأمل أن كثيرا من الخلاف يرجع إلى كلمات ذاتية لا يتفقون على معانيها؛ حتى إنك لتجد أحدهم يسأل: ماذا تقصد بالمساواة؟ أو ماذا تعني بالقوة؟ وغير ذلك.
ومهمة العلوم أن تنقل المعاني من الذاتية إلى الموضوعية؛ فإن السيكلوجية علمتنا مثلا أن نقول: إن درجة الذكاء في هذا الصبي 118؛ أي: عدد معين نتفق عليه كلنا بعد امتحان، بدلا من أن يقول أحدنا: إنه ذكي أو متوسط الذكاء أو ناقص، وهو يعتمد في ذلك على عاطفته نحوه، وكذلك المعاني : حر وبرد، وثقيل وخفيف، وسريع وبطيء، وسمين ونحيف؛ فإنها جميعها مما نختلف بشأنها باختلاف نظرتنا الذاتية، ولكن العلم ينقلها من الذاتية إلى الموضوعية بالأرقام.
وكثير من الكلمات يحرك انفعالاتنا كما لو كنا نهتز بمسة كهربائية؛ فإن كلمة «مروءة» تحرك وجداننا إلى الخير، وكلمة «عرض» أو «دم» عند الصعايدة في قنا وجرجا تحرك العواطف إلى القتل.
وإذا شئنا أن نفاضل بين لغة وأخرى، فإن قياس المفاضلة يتخذ أساليب مختلفة، فنستطيع أن نقول مثلا: هل هذه اللغة علمية موضوعية أم أدبية ذاتية، أو هل الكلمات الذاتية كثيرة والكلمات الموضوعية قليلة بحيث يصير تفكير المتكلم عاطفيا بدلا من أن يكون وجدانيا؟ وبكلمة أخرى:
هل اللغة في أكثرها وجدانية أم عاطفية، وهل البلاغة التي يتبع أساليبها الكتاب بلاغة العاطفة أم بلاغة الوجدان؟
وكثير من الضرر ينشأ من التعبير العاطفي في مناقشات السياسة والاجتماع والدين، والمفكر الحسن يحاول أن يتجنب الكلمات العاطفية الذاتية، ويستعمل بدلا منها الكلمات الوجدانية الموضوعية، ولكن ليس هذا مستطاعا على الدوام؛ لأن الكاتب مقيد بالكلمات.
وكي يدرك القارئ، تأثير اللغة في السلوك الشخصي والتفكير النفسي والذهني، يجب أن يذكر كلمات: عفريت وبعبع وأبو رجل مسلوخة والقطة السوداء، في سلوك الطفل الذي يخاف الظلام لأثر هذه الكلمات، وهو حتى عندما يبلغ الخمسين والستين من العمر سيخشى الظلام أيضا، ولو أنه لا يؤمن بالعفاريت وغيرها، لا، بل أكثر من ذلك؛ فإن كثيرا من البحث عن الأرواح يعود إلى هذه الكلمات التي تعلمناها في الطفولة، بل إني أعتقد أن الإيمان بالأرواح عند الكبار هو استمرار للإيمان بالعفاريت عند الأطفال.
وللكلمات: مروءة ووطنية وعرض وبر وشرف وشهامة وثأر ورشاقة وغيرها أثر في نفوسنا يعين سلوكنا الاجتماعي للخير أو للشر، كما يتعين سلوك الطفل في الظلام بكلمة عفريت وغيرها.
فالإنسان حيوان لغوي، وعلى قدر ارتقاء لغته بالكلمات الموضوعية الوجدانية يكون ارتقاء تفكيره، وأيضا ارتقاء سلوكه الاجتماعي، وإلى حد ما وفي ظروف معينة يصح أن تكون اللغة مقياسا للذكاء، بل أيضا قد تكون الكلمات سببا لأمراض نفسية ؛ لأن بها شحنات عاطفية قوية تسري كالسم في النفس، والمتعصب الذي يقتل من يخالفه مثلا في الدين إنما يقتله من أجل كلمات.
الكظم والعقل الكامن
كلنا يعرف أن المغيظ الكاظم يعد خطرا؛ لأنه قد ينفجر في أي وقت، والحقد هو غضب محتقن؛ أي: مكظوم، والمعنى الواضح أن عاطفة الغضب لا يمكن أن تموت بالكظم؛ إذ هي تبقى تحت الرماد، ثم تعود عندما تحين الفرصة فتضطرم.
وليس هذا شأن عاطفة الغضب وحدها؛ فإن جميع العواطف تبقى حية متربصة تفور بنا فجأة أو تتحايل للبروز بشكل مستور نحتاج إلى بحثه حتى نكشف عنه ونعرف أصوله.
اعتبر طفلا يسمع نداء المثلجات في الشارع، فيطلب من أبيه قرشا كي يشتري قطعة، فيرفض أبوه، فيكظم الطفل غيظه، وبعد دقائق يحادثه أخوه الأصغر حديثا بريئا، ولكن هذا الطفل المغيظ الكاظم يرد عليه بصفعة صاخبة على وجهه.
أو اعتبر نفسك قد خرجت من البيت في الصباح وأنت غاضب لسلوك الأولاد أو الخادمة، فيطب منك كمساري الترام ثمن التذكرة في كلمات عادية، ولكنك تجد أنك تنهره وتتشاجر معه؛ لأن غيظك الذي كظمته في البيت قد كمن وتربص حتى وجد الفرصة، لا، بل هو قد خلق الفرصة من لا شيء تقريبا للتنفيس.
وحياتنا الحضارية تكاد تكون كلها كظما إذا قورنت بحياة الحيوان، وهي كذلك؛ لأننا نعيش في مجتمع متمدن كثير الزواجر، فنحن نكظم الشهوة الجنسية ونكظم الرغبة في التسلط أو السيطرة ونكظم الخوف، ونعيش جميعا في مباراة للكسب والوجاهة تجعلنا نكظم كثيرا من عواطفنا.
وهذه العواطف المكظومة لا تموت كما رأينا في الطفل المحروم من الحلوى المثلجة أو في ذلك الشخص الذي يخرج غاضبا من بيته، ولكن في هذين المثالين رأينا تفريجا سريعا بمشاجرة مختلقة مع الكمساري أو بإيذاء الأخ الأصغر، ولكن في حياة الحضارة التي نعيشها لا نجد مثل هذا التفريج السريع؛ ولذلك تكمن هذه العواطف في «العقل الكامن = الباطن» أي في الكامنة.
والعقل الكامن هو مجموعة عواطفنا المخزونة المكظومة، ونحن ننسى الحوادث أو الظروف التي أحدثت الكظم ، كما أن الطفل حين ضرب أخاه لم يكن يعرف أن الإساءة الأصلية لم تكن من أخيه بل كانت من أبيه الذي حرمه القرش لشراء الحلوى، وكذلك الآخر الذي تشاجر مع الكمساري لا بد أنه دافع عن نفسه وحسب نفسه بريئا؛ لأنه نسي أن الإساءة جاءته من البيت قبل أن يبارحه في الصباح.
وقد تثقل وطأة الكظم فتؤدي إلى الإجرام أو الجنون، كالغيرة في الزوجة تحملها على ارتكاب الجريمة، وكالخوف الدائم، أو المتردد، يصير هما لا يطاق حتى يحمل صاحبه إلى الفرار منه بالخمر، أو أحيانا بالنسيان التام، كما حدث لهيس في محاكمته في نورمبرج بألمانيا.
وهذه العواطف المكظومة تؤثر في سلوكنا وتعين تصرفنا في الحياة من حيث لا ندري؛ أي: إنها تتغلب على وجداننا وترسم لنا اتجاهات وميولا لا نستطيع أن نقف على مأتاها ومصدرها إلا بالتحليل النفسي أو ما يسمى «سيكلوجية الأعماق»؛ لأنها تسير نفوسنا وتحللها، وفي حياتنا - منذ نولد - نصادف مخاوف ووساوس ومخازي وانهزامات تقع بنا في السنوات الخمس أو الست الأولى من العمر، حين لم نكن قد شببنا، وصار لنا وجدان نجابه به الدنيا ونتدبر ونفكر فيها بروية، أو قد تقع بنا حوادث خطيرة رهيبة حتى ونحن كبار قد بلغنا العشرين أو الثلاثين، وهذه الحوادث - كالقتال في الحرب أو انهيار منزل في غارة جوية أو إفلاس لا رجاء فيه، أو شك لا يطاق - تلغي وجداننا وتثير فينا عاطفة الخوف التي نكظمها؛ لأننا مضطرون إلى أن نتخذ موقف الشجاعة والتمالك والتجلد، وعندئذ ينحدر الخوف إلى العقل الكامن ويتخذ أسلوبا معينا يظهر به.
اعتبر الأمثلة التالية: (1)
شاب تشاجر مع آخر وتغلب عليه هذا الآخر، وهو لا يطيق هذه الحالة التي يرى نفسه فيها مهزوما مهانا، فهو يستسلم لأحلام اليقظة حيث يتخيل مواقف يضرب فيها هذا الخصم أو ينتصر عليه بالحجة الدامغة.
ثم اعتبر هنا جميع الخواطر التي تمر برءوسنا في أحلام اليقظة حين يخمد الوجدان فنتخيل مواقف لذيذة نرتاح إليها، فإنها جميعها تدل على عواطف مكظومة وأمان محبوسة، ننفس عنها بهذه الأحلام في اليقظة، وهذه الخواطر تعويضية، أي: تعوضنا من آلام حياتنا. (2)
وأحلام اليقظة لا تكفينا؛ فإننا في النوم نحلم الأحلام التي تجري على مبدأ «الجائع يحلم بالخبز» أي إن الذي كظم عاطفة الجوع في الصحو يتخيل الطعام في النوم، وهذا هو المبدأ العام للأحلام: تفريج عن عاطفة مكظومة. (3)
وأحيانا حين يتردد علينا خوف - أو هم - مكظوم نعمد إلى الهرب منه بالخمر حتى ننساه، بل أحيانا نهرب بألوان مختلفة من السلوك كالنسك والرهبنة، ونشوة الشراب هي في النهاية انتصار للذاتية على الموضوعية؛ أي: انتصار للعاطفة على الوجدان، والرهبنة هي هرب من مجابهة الواقع في الدنيا. (4)
وأحيانا يكون الهرب من الكظم؛ أي: التفريج عنه بالزيغ الأخلاقي كالعادة السرية عند المحروم من التعارف الجنسي السوي، بل قد يلجأ هذا المحروم إلى ألوان من التعارف الجنسي الشاذ. (5)
وأحيانا يؤدي الكظم إلى الإجرام الصريح، بل إن جميع الجرائم تعود إلى كظم؛ لأن الجريمة هي في لبابها تفريج لكظم سابق، ويجب ألا ننسى أن ما نسميه «جرائم» قد لا يكون كذلك في اعتبار آخر؛ فإن الشهداء كانوا مجرمين في أعين قاتليهم، وقد كظموا الإيمان طويلا ثم باحوا. (6)
ولكن هناك ألوانا من السلوك تستتر، كالرجل لا يباشر عملا - أي عمل - إلا ويخيب فيه، وعند التحليل نجد أنه يخيب؛ لأنه في كامنته يكره زوجته ويرغب في الخيبة حتى لا تنتفع هي بنجاحه، وكالشاب المدلل يقدم على الانتحار كي ينتقم من أبويه. (7)
وأحيانا نجد جنديا في الجيش قد شلت ذراعه حتى لتقطع لحمها فلا يحس وهذه هي الهستيريا، وعند التحليل نجد أنه كظم الخوف في المعركة، ولكنه لم يطق حاله فاحتال له عقله الكامن على هذا الشلل، حتى يجد فيه الراحة بترك المعركة؛ لأنه - من حيث لا يدري - كان يتمنى سببا يمنعه من القتال. (8)
وأخيرا نجد المجنون الذي يصرح بأنه ملك أو أمير أو مدير لإحدى الشركات؛ لأنه كان تاجرا وأشرف على الإفلاس أو أفلس فلم يطق حاله، فانتهى به عقله الكامن إلى هذه السعادة الخيالية التي استقر عليها ووجد فيها راحته وهربه من مخاوفه.
ولكن اذكر أيها القارئ أننا كلنا هذا المجنون، والفرق بيننا وبينه درجي؛ لأننا نتخيل في أحلام اليقظة وأحلام النوم هذا الثراء الفاحش والوجاهة العظيمة، واذكر أن التلميذ الذي يكره المدرسة يدعي المرض كالجندي الذي يجد المرض؛ الأول يدعيه بوجدانه والثاني يحسه بكامنته، والحضارة في السلم والحرب تحملنا على أن نكظم عواطفنا، ولكن العاطفة قوة كالبخار المحبوس إذا لم يخرج من الأنابيب الأصلية المعدة له فتش عن مسارب نفسية أخرى يتسلل منها؛ حتى ولو اتخذ هذا التسلل صورة الأدب أو الشعر؛ فإن كتاب ألف ليلة وليلة هو في صميمه أحلام الجائعين المحرومين من الطعام الفاخر والمرأة الجميلة والقصر الفخم، وأشعار أبي العلاء المعري هي زهد المحروم من الدنيا الذي يجد الحصرم عنبا، والنكات الجنسية التي يتمازح بها الشبان وقت عزوبتهم تدل على كظم جنسي.
والإصرار على التفاؤل قد يكون أحيانا مهربا من التشاؤم المفرط الذي تصرخ به ظواهر الأحوال؛ لأننا - لفرط ما نخاف - نؤمن بالفرج ونجد الراحة في هذا الإيمان.
وقد سبق أن قلنا: إن كل الالتواءات في التفكير تعود إلى أننا نجابه الدنيا ونعامل الناس بعواطفنا بدلا من وجداننا، ولكن هذه العواطف إما سافرة فنعرفها، وإما مستترة فنجهل أصولها لأنها في العقل الكامن، وهي - لأننا نجهلها - ننساق في تيارها، ونجد لنا منها ميولا واتجاهات وتصرفات ندافع عنها بالوجدان ونبررها بالمنطق حتى ولو كانت سيئة، وقليل جدا من تصرفنا يعود إلى الوجدان، و99 في المائة من تصرفنا يعود إلى العواطف السافرة أو المستترة في العقل الكامن.
انظر مثلا إلى سلوكنا حين نتعصب ضد أشياء أو نستعرض أشياء نكرهها ولا ننفك نشنع عليها؛ فإن أغلب الظن أننا في كامنتنا نحس ميلا مكظوما نحو هذه الأشياء نفسها كما يقول برنارد هارت، ويعلق ولز في كتابه «علم الحياة» على هذه الحقيقة بقوله في صفحة 911:
قلما يكون أولئك الذين يمنعون الاستحمام المختلط على الشواطئ أو الذين يعارضون في اتخاذ النساء لملابس لا تتفق مع الحياء - في زعمهم - قلما يكونون من الحكماء الذين استطاعوا أن يضبطوا رغباتهم في تعقل، وهم في العادة بعض أولئك الذين كظموا غرائزهم العنيفة، وكأنهم على إحساس غامض بأن هذه الدوافع التي لم يضبطها العقل ويقومها، توشك على أن تجمح بهم وتقذفهم من موقفهم الأخلاقي.
فمن هذا المثال يرى القارئ أن هناك ألوانا من النشاط تبدو بريئة ولكنها تدل على أعماق مستورة.
أو انظر مثلا إلى ازدواج الشخصية حين يسلك أحدنا كأنه في يوم جيكل وفي يوم آخر هايد؛ فإن هذا الازدواج يعود إلى أن الكامنة قد احتبست فيها شهوات ورغبات يحملنا المجتمع على إنكارها، فإذا بها في يوم ما تطغى علينا فننسى شخصيتنا الاجتماعية التي نعيش بها ونبرز في شخصية أخرى هي التي كنا نتمناها في أحلام النوم واليقظة.
ويجب أن نعرف أربع حقائق عن العواطف وأثرها في الكامنة:
الأولى:
أننا حين نكظم، ونحن على وجدان بالكظم، نحس قلقا وتزعزعا، ولكننا نبصر بالأسباب ونستطيع لذلك العلاج، ولكن إذا كانت العاطفة مجهولة قد اندست إلى الكامنة، فإننا لا نبصر بالأسباب فنحس قلقا وتزعزعا لا ندري أصلهما، ولذلك نحتاج إلى التحليل، وبكلمة أخرى نقول: إن الكظم مع معرفة السبب يسهل التخلص منه، ولكن الكظم مع جهل السبب يصعب التخلص منه.
والثانية:
أن العاطفة المكظومة قد تبقى في نوم أو خدر سنوات، ثم تنتبه بالعدوى، كالأم التي فقدت ابنها، قد تعود إلى ذكراه بعد عشر سنوات؛ لأنها سمعت أن قريبة أو صديقة لها قد فقدت ابنها.
والثالثة:
أن الكوارث مهما فدحت لا تؤثر في النفس كالحوادث اليومية المتكررة الطفيفة؛ ولذلك تستطيع الأم أن تفقد وحيدها وتكظم حزنها وتستبقي عقلها، ولكن الزوجة الشابة تفقد عقلها؛ لأن حماتها توبخها كل يوم وتناكدها في مسائل تافهة، أو لأنها تجد المناكدات الصغيرة من زوجها أو ضرتها.
والرابعة:
أن الكظم إذا خف، صار بخارا محبوسا؛ أي: قوة تدفع قاطرة الشخصية دون أن يؤدي إلى الانفجار، ولكنه إذا اشتد أدى إلى الانفجار، وبكلمة أخرى نقول: إن القليل من السخط يحفز على العمل، والكثير منه يؤدي إلى الإجرام.
العواطف المكظومة تلد العمل الفني
يختلف الأدباء والشعراء والفنانون في أساليبهم وأهدافهم، ونستطيع أن ننتفع بما يؤلفون دون أن نعرف الجهود التي ترجع إليها هذه الأساليب والمناهج.
ولكن المؤلف لا يؤلف في الفن، حيث الميدان يتسع للعواطف والأذواق والاتجاهات والأخلاق، إلا إذا كان قد وجد في حياته ما يحمله على اتخاذ خطة دون أخرى، وهدف دون آخر.
ولذلك نحن نفهم الكتاب أو القصيدة أو الرسم أو اللحن أكثر إذا عرفنا حياة المؤلف والتفاصيل الخاصة بما لقي من أفراح أو أتراح، وبما نزل به من كوارث أو مصادمات، وبما كان له من علاقات اجتماعية أو عائلية؛ لأنه وهو يؤلف إنما يتوسع بشخصيته، وينقل إلى الجمهور إحساساته؛ إذ هو يتخيل الخيال أو يحلم الحلم الذي يسد عنده نقصا في حقائق الواقع.
وليس من شك إذن في الارتباط بين حياة الكاتب وفنه، فقد نجد كاتبا يدأب في الدفاع عن الحرية وينضوي إلى الحركات التحريرية ويسرف ويضحي، بحيث نكاد نحس أنه يشذ عن المألوف، وهو في شذوذه هذا يتأنق ويتفوق؛ لأن غرامه بدعوته يحمله على العناية حتى يصل إلى غايته، وهذه العناية هي الفن.
اعتبر صبيا نشأ في بيت يتسلط عليه أب قاس محافظ يمنع ابنه من الاستمتاع بالمسرات المألوفة، أو هو يحمله على اتخاذ أساليب من السلوك المرهق بدعوى الوقار، أو اعتبر صبيا آخر قد لقي طغيانا وهو صبي من شقيقه الأكبر، بحيث لم يكن ليستطيع الدفاع عن نفسه لحداثة سنه، أو اعتبر تلميذا وجد من معلمه في السنوات الأولى من الدراسة الابتدائية عنتا بلا مبرر، ففي كل هذه الحالات نجد هؤلاء الصبيان، عندما يبلغون سن الرجولة، كارهين لكل أنواع السلطة الحكومية أو الاجتماعية أو الدينية، أو هم على الأقل يتوجسون منها.
وهم في هذه الكراهية أو هذا التوجس يبحثون هذه السلطة ويحاولون الوصول إلى رذائلها ونقائصها؛ كي يبرروا موقفهم منها، وهو موقف الكراهة أو التوجس.
وهنا نجد إذن ذلك المؤلف الذي يسرف في الدفاع عن الحرية وينضوي إلى الحركات التحريرية؛ لأن دفاعه عن حريته الشخصية قد استحال إلى دفاع عن حرية الشعب كله، وكراهته للحاكم المستبد أو القانون الجائر هي - في صميمها - كراهة للأب القاسي الذي عرفه في طفولته، أو لقواعد الوقار التي قيدت نشاطه وهو مراهق.
وليس الفن الذي يتجسم في قصة أو رسم أو أبيات من الشعر أو ألحان من الموسيقا، أو حتى في مقال عابر، ليس الفن سوى التفريج عن عواطف محتبسة؛ أي: مكظومة، لم يكن في مستطاع الفنان أن يفرج عنها في الواقع فأفرج عنها في الخيال، وهو إذا لم يكن قد فعل ذلك في الخيال، لكان قد أدى به الكظم إلى التفريج عنها بالخمر أو الجريمة أو الجنون.
وقد قال فرويد: «كلنا مرضى»، وهو يعني بهاتين الكلمتين أن لكل منا كظومه واحتباساته وكروبه، التي تحتاج إلى التفريج، وقد يكون الانتقام تفريجا، ولكن الأخلاق المتمدنة التي نأخذ بها، والاعتبارات الاجتماعية التي يجب أن نراعيها، تحول بيننا وبين الانتقام، وإذن نحن نحلم ونتخيل حالا أسعد من الواقع.
فإذا كنا على شيء من القدرة على التأنق على التعبير، استحالت أحلامنا إلى أعمال فنية كالشعر أو الرسم أو القصة أو المقالة، ثم اتجهت حياتنا الفنية تلك الوجهة التي اقتضتها ظروفنا العائلية الأولى أيام الطفولة، وأيضا مركزنا الاجتماعي.
والعواطف المكظومة هي التي تلد العمل الفني؛ فإذا لم نكظم الحب فإننا لن نؤلف عنه الشعر، وإذا لم نحس العجز في حياتنا الشخصية فإننا لن ننشد التفوق الاجتماعي أو الفني، وإحساسنا بالضعف يحملنا على أن نتقوى بالرياضة البدنية أو الذهنية.
ولذلك يجب - إذا استطعنا - أن نعرف حياة المؤلف وظروفه العائلية، كي نصل إلى الجذور التي جعلته يتخذ أسلوبا دون آخر؛ لأن هذا الأسلوب هو أخلاقه التي تعلمها أو اضطر إلى اتخاذها منذ صباه، والأغلب أيضا أن الهدف الذي نصبه لنفسه قد تعين منذ صباه، ولا بد أن الصورة التي اتخذها هذا الهدف قد اختلفت من الصورة التي كان يرسمها لنفسه أيام الصبا، ولكن هذا الاختلاف لم يكن في النوع، وإنما كان في الدرجة واللون فقط؛ أي: كان الاختلاف فنيا.
ومن هنا قيمة الترجمة الذاتية يكتبها المؤلف عن حياته، وهو بالطبع لن يقول كل شيء، ولكنه يرسم لنا المراحل الزمنية والبيئية التي تنتمي إليها مبادئه وأهدافه، وقد تكون القصة التي يؤلفها بخياله أصدق من ترجمته التي يذكر فيها حقائق حياته؛ ذلك لأنه يحس من حرية البوح والاعتراف في القصة الخيالية ما لا يحس في الترجمة الذاتية.
إن سيكلوجية فرويد تسمى «سيكلوجية الأعماق» لأننا نتعمق الشخصية ونحاول أن نرد ما فيها من تفوق أو تخلف، أو اتجاه سديد أو انحراف سيئ، إلى العوامل الأولى أيام الطفولة، وإلى المركبات النفسية الخاصة، وإلى محاب ومكاره قد رسخت، حتى لم يعد في المستطاع التخلص منها، ويمكن أن نتعرف أسلوب الكاتب وهدفه إذا تعمقنا نفسه وهبطنا على المشكلات القديمة التي كانت تشغله أيام صباه.
ونستطيع مثلا أن نعرف كثيرا عن المؤلف إذا نحن تأملنا الكلمات التي تتكرر في مؤلفاته؛ لأن هذا التكرار لا يأتي عبثا، ذلك أننا حين نحب شيئا نلهج به، ولهجتنا تدل على اتجاهنا.
وكذلك نستطيع أن نعرف الكثير عنه، حين نتأمل المجازات والاستعارات التي يؤثرها على غيرها؛ لأنها أحلامه التي تنبع من نفسه، وليست أحلام النوم عندنا سوى مجازات واستعارات مقلوبة، بحيث نكسب الهدف المعنوي تعبيرا ماديا كأن أطير نحو السماء عندما أعبر عن تشوقي إلى الرقي أو إحساسي به، أو أسقط من الشرفة حين أعبر عن سقوطي الاجتماعي.
فنحن هنا إزاء رموز تجري في الأحلام وتدل على مشكلاتنا الشخصية، ولكن للأديب أيضا رموزا تجري على قلمه وهي تنبع من أعماق نفسه، وتكراره لها يدل على سلوكه ونظرته للمجتمع والحياة.
ثم النزعة العامة في مؤلفاته توضح لنا موقفه من المشكلات الاجتماعية والسياسية.
ولكن هذه «الأعراض» لن تكشف لنا شخصية المؤلف، ولن تفسر لنا اتجاهاته؛ إلا إذا عرفنا حياته العائلية الأولى وموقفه الاجتماعي.
هل كان فقيرا في طفولته وقد عذبته الفاقة؟
هل شقي في معيشته العائلية، وهل كابد قسوة من أبويه؟
هل هو ينتمي إلى الأقلية أم إلى الأكثرية في الشعب؟
هل نجح أم خاب في حياته المدرسية؟
مثل هذه الأسئلة تنيرنا، إذا استطعنا أن نحصل على الإجابات الصحيحة عنها؛ أي: عن كثير من البواعث التي تبعث الفنان على اتخاذ اتجاه أو أسلوب معين.
وهذا التعمق السيكلوجي للفنانين والمؤلفين، ودلالة حياتهم العائلية الأولى في إنتاجهم الأدبي أو الفني، وفي مذاهبهم الاجتماعية أو السياسية، لا يمكن أن نحققه إلا إذا كان هؤلاء قد اعتادوا التأليف عن حياتهم الشخصية، ومما يؤسف عليه كثيرا أن قليلين من أدباء العرب قد عرفوا الترجمة الذاتية، ولو أنهم كانوا قد عرفوها ومارسوها لأنارونا عن عصرهم وبيئتهم وأوضحوا لنا العوامل التي كونت مؤلفاتهم وفنونهم.
وفي عصرنا وبيئتنا المصرية لا تزال «الترجمة الذاتية» بعيدة عن الوجدان الأدبي، وهذا نقص عظيم نأسف عليه نحن، كما سوف يأسف عليه أكثر، أجيالنا القادمة.
الأحلام ومغزاها
تضطرنا الحضارة إلى أن نكظم عواطفنا، فتنحدر هذه العواطف في كياننا النفسي إلى أعماق لا نسبرها، ومجموعة هذه العواطف المكظومة نسميها «الكامنة» أي: العقل الكامن؛ لأن هذه العواطف المكظومة ليست راكدة، ولكنها كامنة متربصة، وهي - من حيث لا ندري - تؤثر في سلوكنا وتصرفنا وتوجهنا وجهات في الحياة نعجز عن تعليلها إلا بعد التحليل الشاق.
ومهما ظننا أننا نعيش الحياة الوجدانية الموضوعية المنطقية فإننا في الواقع ننساق ببواعث هذه الكامنة فنعيش حياة عقيدية استغراضية؛ أي: قائمة على هوى معين، فنؤثر أشياء ونبرر سلوكنا بالوجدان، وقليل منا - بل قليل جدا - من يستطيع أن يكشف عن بواعث هذه الكامنة، ويسلط وجدانه على سلوكه.
وهذه العواطف المكظومة تبدو لنا سافرة أو كالسافرة وقت الاسترخاء؛ أي: حين يزول عنا التوتر النفسي الذي يطالبنا به الواجب والفضيلة والشرف والمروءة؛ أي: حين يزول عنا الوجدان الذي نكظم به عواطفنا، فبعد الغداء مثلا حين نقيل، أو حين نأوي إلى الفراش قبل النوم في الليل، نسترخي ونفرج عن عواطفنا المحبوسة، فنجد أننا نتخيل خيالات نسعد بها - وقد يكون بعضها فاسقا - وعندما يتم هذا الاسترخاء في النوم نحلم أحلاما تجد فيها العواطف المكظومة أوسع المجال للتعبير - بل العربدة - أي إن ما لا نجيزه لأنفسنا بالوجدان في صحونا نستبيحه بالحلم في نومنا.
ونحن ننحدر في النوم إلى درجة التطور الحيواني، حتى إننا في الأحلام نجد التفكير يجري بصور متتابعة خالية من الكلمات إلا قليلا جدا؛ لأن اللغة طور جديد راق في البشر، والحلم هو ردة إلى العواطف التي لا تحتاج في تعبيرها وعربدتها إلى لغة.
ولما كان الحلم خاليا - في الأغلب - من الحديث والكلمات فإنه يسير بالرموز؛ ومن هنا الصعوبة في تفسيره، كما أننا نستطيع أن نستنير به في الوقوف على نشأة التفكير عندنا؛ فإننا ننظر إلى الدنيا في الحلم «كما لو كانت كذلك»؛ أي إن الإنسان البدائي حين واجه الدنيا وهو عاجز عن فهمها صار يحاول هذا الفهم «كما لو كانت كذلك» فالسماء سقف تقعد عليه الآلهة، والرعد إله غاضب يزمجر، وصار يظن أنه يستطيع أن يقتل الحيوان بأن يرسم صورته على الصخر وفي بطنه حربة، فهو لم يكن يستطيع الوقوف على كنه الأشياء، فصار يحاول فهمها بأن يفرض أنها على حال مشبهة من ممارساته اليومية، ونحن حين نرى الحلم مقنعا حافلا بالرموز التي تحتاج إلى تفسير؛ إنما نرى في الحقيقة محاولة بشرية بدائية للتفكير، ومن الحلم نعرف كيف نشأت اللغة بكلماتها؛ أي: رموزها كما نعرف البواعث الخفية في كياننا النفسي، هذه البواعث التي ننكرها في صحونا؛ لأن وجداننا يطالبنا بالمنطق في وسط الحضارة فتثب هي في نومنا.
وليست هذه الرموز مع ذلك سهلة، انظر إلى رجل يحلم أن ثعبانا عظيما يهجم عليه، فهنا كابوس يدل على خوف مكظوم، وانظر إلى امرأة تحلم أن ثعبانا ينساب تحتها؛ فالرمز هنا جنسي يدل على اشتهاء الجنس الآخر؛ فالرمزية هنا واحدة ولكنها تدل على حال نفسية مختلفة بين الاثنين؛ هي الخوف عند الأول، والشهوة عند الثانية.
أو انظر إلى زوجة تحلم حلما متكررا بأنها تعود طفلة تلعب مع إخوتها وأمها، فهنا نفس كارهة للحاضر؛ أي: لبيت الزوجية ، تود لو تعود إلى أيام الصبا ، وتفهم من هذا الحلم عاطفة سيئة مكظومة نحو الزوج أو الحياة الزوجية عامة بما فيها من حماة أو غيرها.
أو انظر إلى رجل يحلم أنه قد بنى بيتا من الخشب، ولكنه ركيك يصعد إليه فتصطك أجزاؤه ويترنح، كما لو كان يوشك على السقوط، وبعد حديث قصير نجد أنه كان في يقظته يفكر كثيرا في مشروع يرغب في القيام به، ولكنه يخشى الخيبة والفشل، فهنا خوف مكظوم قد رمز إليه في الحلم ببيت ركيك متخلع.
كلما كانت العاطفة مكظومة في الصحو يكون الانفراج بالحلم في النوم؛ أي: على قدر الكظم والتوتر يكون الانفراج والتنفيس، وفي الحضارة القائمة يكثر الكظم للعاطفة الجنسية؛ ولذلك تتجه معظم الأحلام هذا الاتجاه في التفريج وخاصة عند الشبان والفتيات.
انظر إلى فتاة تحلم هذه الأحلام الثلاثة: (1)
عجل يثب على بقرة. (2)
شاب وفتاة يتغازلان. (3)
ترى والدها يصب البنزين في الأتومبيل.
ففي الحلمين الأولين الرمز واضح يدل على جوع جنسي مكظوم يخفف برؤية هذين المنظرين، ولكن الرمز مستتر في الحلم الثالث، وهو يحتاج إلى أن نقول: إن الفتاة تنظر إلى والدها باعتباره يمثل الذكورة، وصب البنزين في الأتومبيل عمل مشبه (كما لو كان كذلك) للتعارف الجنسي بين الرجل والمرأة.
وقد قلنا: إن تصرفنا أو سلوكنا في الحياة يتأثران بالكامنة؛ أي: بهذه العواطف المحبوسة الكامنة، انظر إلى الحلم التالي:
كان أحد الأطباء الشبان يرفض الزواج ويتعلل بأن حالته المالية لن توفر له المعيشة الهنية في الزواج، وحدث ذات مرة أنه كان يفحص صبيا مريضا بالسل، فلما خلع الصبي ملابسه أحس الطبيب أنه قذف، وحملته هذه الحالة المفاجئة على أن يقصد إلى سيكلوجي ويقص عليه ما حدث، وبعد التحليل أفهمه هذا السيكلوجي أنه مصاب بشذوذ جنسي، وأن هذا الشذوذ هو العلة الحقيقية التي تمنعه من الزواج.
فهنا طبيب في مركز اجتماعي يطالبه بالوقار والاستقامة قد حبس عاطفة شاذة ونجح في إخفائها حتى على نفسه، ولكنها في لمحة غاب فيها الوجدان وثبت وحققت وجودها، وكان يتعلل بعلل كاذبة للامتناع عن الزواج، فلما اتضحت له الحقيقة رأى الحلم التالي:
رأى أنه على باب مرقص معين، وقد خرج أحد مرضاه ومعه خطيبته، وكان هذا الخطيب مدينا له، فوقف الاثنان يحدثان الطبيب، ورفع الخطيب صوته بقوله: إنه سيؤدي دينه.
والتفسير أن الطبيب بعد أن عرف علته استخدم وجدانه في يقظته وحدث نفسه بضرورة الزواج، وارتضت عاطفته الجنسية هذا الانقلاب بعض الشيء، ووقف الخطيب يقول للطبيب ما معناه: «لا تخف الزواج من الناحية المالية التي تتعلل بها كذبا؛ فإني مدين لك وسأؤدي ديني، وسيفعل مثلي كثيرون هنا.»
ومعظم الأحلام ننساها عقب اليقظة، ولكنا إذا تركنا الاسترخاء يطول قليلا، وتركنا الخواطر المطلقة تتداعى بلا ضابط استطعنا أن نستعيدها، فنفهم معناها؛ أي إننا نستعيد الحلم بأن نستعيد حال النوم أو ما يقرب منه باسترخاء الأعضاء، ونترك الخواطر مطلقة بلا ضابط كما لو كانت حلما، والعادة الغالبة أن تكون هناك علاقة بين الحلم وبين حوادث اليوم السابق، ولكن ليس هذا محتوما.
وفي الحلم تبرز العواطف المكظومة ولكن على مستويات قديمة ربما تعود إلى حال الإنسان قبل أن يخرج من الغابة، كما ترى في الطفل يسقط في الحلم من مكان عال كأنه يعيش على شجرة؛ فإن خوفه هنا من صبي يضربه أو رجل ينهره قد اتخذ هذا المستوى القديم حين كان الإنسان لا يزال مع القرود يعيش على الشجر ويخشى السقوط، أو انظر إلى تاجر يخشى الإفلاس؛ فإنه يرى في الحلم أنه يغرق في البحر، أو انظر إلى زوجة تكره حماتها وتخشاها؛ فإنها تجد كابوسا في حلمها هو لبؤة أو كلبة تريد نهش لحمها.
ومن الأحلام التي رأيتها في شاب متدين يستمتع بطرب العقيدة ونشوتها أنه في الحلم يجد هذا الطرب قد استحال إلى طرب جنسي ساذج، وهذا هو ما ننتظر بعد التأمل القليل؛ لأن الأحلام تعبر عن العواطف المكظومة وتنحدر إلى المستويات القديمة، وأقدم ألوان الطرب عندنا هو الطرب الجنسي.
لا، بل أكثر من هذا؛ فإن الطرب الجنسي عام عند جميع الشبان، وهو ما نتسامى به كي نصل به إلى الطرب الفني أو الديني؛ فإذا كان موضوع الحلم فنيا أو عقيديا انحدر إلى المستوى الأصلي وهو الطرب الجنسي، فصار التعبير جنسيا؛ ومن هنا تفسير الاستهتار الذي وقعت فيه بعض الفرق الدينية القديمة؛ ومن هنا اتصال البغاء ببعض المعابد الوثنية قديما وحديثا.
والأحلام مفيدة؛ لأنها تفريج وتنفيس رخيصان للكظم والتوتر، والحلم هنا كالخمر، فنحن نأوي إلى فراشنا متوترين منقبضين فنلعب ونمرح في الحلم بخيالات سارة نضرب فيها خصمنا، أو نشبع فيها جوعا جنسيا، أو نربح فيها ورقة حظ، أو نحو ذلك، فنستيقظ في الصباح مرتاحين منبسطين قد تجدد نشاطنا، وأحيانا تجدنا مغتمين بغم لا نعرف سببه، وقد يرجع هذا إلى أننا حاولنا كظما في مشكلة معينة، والكظم هو ربط وضبط وحبس للعاطفة؛ ولذلك يعم هذا الكظم أحيانا سائر نشاطنا، فنكره الحركة والعمل ويشملنا جمود، ولو كنا قد وفقنا إلى حلم تفريجي لاستيقظنا نشطين سعداء، وبالطبع ليس الحلم تفريجا كاملا؛ لأننا في الصباح نعود إلى المشكلة، ولكنه يعطينا بعض الراحة بعض الوقت، أما التفريج الكامل فهو التحليل؛ أي إننا نضع المشكلة أمام الوجدان ونحلها الحل الموضوعي المنطقي.
وأحيانا يؤدي الحلم إلى حل مشكلة شاقة؛ لأن الكظم الذي نمارسه في الصحو يتشعع إلى كياننا كله فتجمد خواطرنا فنعجز عن التفكير، كما نرى في الخائف الذي تجمد من الخوف، ولكن الحلم يفكك روابط هذا الكظم وقيوده فتنطلق الخواطر وتتداعى فنهبط على حل. «وهنا يجب أن ننصح للقارئ بألا يروي حلمه - مهما ظنه بريئا - لأحد، إلا إذا وثق من أخلاقه؛ لأن أبسط الأحلام قد يكشفه كما لو باح بسر كان يحب أن يخفيه.»
وحالة الحالم عندما يقص حلمه تدل على معنى الحلم، اعتبر مثلا رجلا يقص عليك أنه رأى في نومه أنه ينتحر، وأنه كان في النعش والجنازة خلفه، ثم آخر يقص عليك مثل هذا الحلم؛ فإذا كان أحدهما يقصه وهو يضحك فرحا فهو - بلا شك - ينوي الانتحار؛ لأن الموت لا يرهبه بل يغريه، أما إذا يقص كان الحلم وهو متألم يتضرر من التفاصيل التي يسردها فحالته هذه تبعث على الطمأنينة؛ أي إنه فكر في الانتحار ولكنه لا يزال يخشى الموت، والأغلب عندئذ أنه لا يجرؤ على الإقدام عليه.
وأحيانا تفور بنا الكامنة وتتغلب على وجداننا، فنهب من الفراش ونحن لا نزال في النوم ونؤدي أعمالا مختلفة في البيت، أو حتى نخرج إلى الشارع، ونؤدي حركات رمزية، وكثيرا ما يقع بعض الناس في أخطار هذه الحالات.
وأحيانا تفور الكامنة أيضا وتتغلب على وجداننا؛ فإذا كان أحدنا يكره زوجته فإنه ينسى البيت ولا يعرف الشارع الذي يقع فيه، وقد يبقى على ذلك شهورا أو سنوات، ثم يعود إلى وجدانه، ولهذا تزدوج شخصيته: الشخصية الأولى التي يعرف بها بيته وزوجته وأولاده، شخصية الوجدان الأصلي عنده، ثم شخصية أخرى تتغلب فيها كامنته حين ينسى بيته وزوجته وأولاده.
وأخيرا تتغلب الكامنة أحيانا تغلبا تاما على الوجدان بالسيكوز؛ أي: الجنون.
وقد آثرنا عبارة العقل الكامن على عبارة «العقل الباطن»؛ لأن الكمون ينطوي على معنى التربص والنشاط، وهما صفة الكامنة، ولكن عبارة العقل الباطن توهم بالركود والخمود وليسا هما من صفات الكامنة.
الكابوس وأسبابه
قل منا من لم يعرف الكابوس، وهو حلم مثل سائر الأحلام يدل على أننا كظمنا عاطفة، فلما نمنا وزال عنا الوجدان برزت وحققت وجودها، والمبدأ العام في الأحلام هو أنها تحقق شهوة أو رغبة مكظومة يتضح في الكابوس كما يتضح في أي حلم آخر.
فالحضارة التي نعيش فيها تمنعنا من التعبير عن مخاوفنا؛ فالتلميذ مثلا يكره الامتحانات ويخشاها ويود لو يفر منها، والجندي يخشى المعركة، وهو يتخذ موقف الشجاعة مضطرا، والموظف الذي تلاعب بأموال الحكومة يخشى الافتضاح، والأم تخاف الأخطار العديدة التي يلقاها ابنها في الشارع، والمالي يخشى الإفلاس، وهو دائم الهم بشأن الأسعار والأسهم، والمريض يخشى الموت أو مشرط الجراح.
وكل هذه الهموم نكظمها ولا نتحدث أو نفصح عنها، وكأنها أسرار مقفلة في نفوسنا لا نحب أن أحدا يعرفها، حتى لا يعيرنا بالجبن أو بغير ذلك من الرذائل؛ فإذا نمنا استباحت عاطفة الخوف طريق الانفراج ؛ ولذلك يصرخ التلميذ والجندي والموظف والأم والمالي والمريض، وهم في صراخهم لا يحلمون بالمشكلة التي كانت في صحوهم سببا لهذا الكابوس في النوم؛ لأن الأحلام تتخذ أساليب قديمة؛ فالمشكلة العصرية بشأن الامتحان عند التلميذ، أو البورصة عند المالي تتخذ أسلوبا قديما يمثل الإنسان (بل الحيوان) البدائي في الغابة، أو ما يقارب هذا في الرمزية؛ ولذلك نجد هؤلاء جميعا يبكون أو يصرخون في النوم؛ لأنهم يرون وحشا يتربص بهم الموت، أو ما يرمز إلى هذا الوحش من رجل يحمل سكينا يطلب قتلهم، أو لصا تحت السرير يستعد للوثوب.
وقد سبق أن قلنا: إن الإنسان في نومه يلغي وجدانه وتبقى عواطفه وانعكاساته، فهو في حال تفكيرية وقت النوم تشبه الحال التفكيرية للزواحف والسمك وقت الصحو، واستجاباته تشبه استجاباتها؛ ولذلك تجري الأحلام على منطق قديم، وإن كانت البواعث التي أثارتها عصرية.
ونحن في معاملتنا للأطفال كثيرا ما نقول: «ما تخافش. ما تصرخش. ما تعيطش. خليك شجاع»، والطفل يخضع ويطاوع ويكتم خوفه، ولكن الصراخ كان شهوة طبيعية عند الطفل، فلما كظمها وجدت الانفراج في النوم بما نسميه الكابوس، وكذلك يفعل الجندي الذي منع من الهرب، والأم التي منعت من البكاء. إلخ.
وإلى هنا لا نرى اختلافا بين الحلم العادي والكابوس، كلاهما يعبر عن عاطفة أو شهوة كانت مكظومة، ولكن القارئ يعرف أننا كثيرا ما نستذكر في يقظتنا المواقف الحسنة التي استمتعنا بها أو طربنا بها، كي نستعيد الاستمتاع واللذة، ثم تأخذ أحلام اليقظة في التوارد خاطرا بعد آخر كلها طرب ولذة، نفعل ذلك عندما نسترخي بعد الغداء أو قبيل النوم، ثم إذا نمنا رأينا الأحلام اللذيذة التي تتصل بهذه المواقف، فكيف نفسر هذا؟
نفسره بأنه أيضا - أي هذه الأحلام في اليقظة والنوم - تعبر عن رغبات مكظومة؛ لأننا لم نشبع من «المواقف الحسنة التي استمتعنا بها أو طربنا بها» فنحن نجوع إليها ونستعيدها، وكأننا نحب أن نملأ كل ساعة من حياتنا بها.
ثم هناك مواقف سيئة أوذينا فيها بالألم أو بالخزي والهوان، ونحن في خواطر اليقظة نستعيدها ونجترها مع التنقيح الذي يجعلنا في موقف المنتصر، ثم في الحلم أيضا نستعيدها مع هذا التنقيح؛ أي: إذا حدث لنا أن اصطدمنا بحادث مهين لنا فإننا نحلم بأننا قد التقينا بالشخص الذي أهاننا وضربناه، أو عاملناه بما يخزيه ويهينه، ثم نستيقظ من النوم مرتاحين لهذا الاتزان الذي حققه لنا الحلم في عواطفنا: انتصار في النوم عقب هزيمة في اليقظة.
وهذا هو سلوك النفس السليمة، ومنهجنا في النوم هو نفسه منهجنا في اليقظة؛ فإن أحدنا الذي يلقى ظرفا سيئا يحاول معالجته أو نسيانه، وهو في النوم يسري عن نفسه بحلم يخفف من وقعه؛ لأنه يرغب في سلوك سوي.
ولكن إذا كانت النفس مريضة فإن السلوك هنا يتغير، فقد يكون أحدنا تاجرا ثم يفلس، أو قد يكون هانئا بزواجه ثم يتضح له أن زوجته خائنة وأنها قد فرت منه إلى آخر، فهو يجتر هذا الحادث فلا ينسى إفلاسه أو لا ينسى خيانة زوجته، ولا يفكر في بناء جديد يبني به ما تفرق من كيانه النفسي، فهو هنا يحمل هما يجتره بلا تدبير للمستقبل؛ أي: بلا أمل؛ فإذا نام رأى في الحلم كابوسا كأنه يسقط من بناء عال، والسقوط هنا رمز للإفلاس المالي، أو كأن وحشا قد شق صدره وخطف قلبه، وهذا رمز لغريمه الذي انتزع زوجته؛ فالكابوس هنا يمثل جرحا في النفس يحس صاحبه أنه غير قادر على لأمه.
وفي مثل هذه الظروف يتكرر الكابوس حتى يعود المريض إلى حال سوية؛ أي: حتى يبرأ من جرحه النفسي.
وفي حياتنا المحفوفة بالمخاطر تمر بنا أوقات نسلك فيها سلوك المرضى؛ فإننا مثلا قد نسرف في تخويف الفتاة من الاختلاط بالشبان حتى تختلط الشهوة الجنسية عندها بالخوف العظيم على بكارتها، فهي ترى - مثلا - فيلا يهجم عليه بخرطومه، فهنا كابوس يرمز «بالخرطوم» إلى الخوف من الاتصال الجنسي، أو هي ترى لصا يطعنها بخنجر أو يطلق عليها مسدسا؛ فالمسدس والخنجر والخرطوم كل منها رمز إلى عضو التناسل الذي تخشاه لفرط ما سمعت عن قيمة الطهارة وضرر الاختلاط، واذكر هنا رمزية الثعبان (الحية) في تعريف آدم وحواء بالأسرار الجنسية.
ومثل هذا الكابوس يزول عقب الزواج، وسببه أننا بالحضارة وزواجرها الكثيرة قد أحلنا حلما لذيذا إلى كابوس مزعج.
والآن قد ذكرنا ثلاثة أنواع من الكابوس هي: (1)
كابوس نرغب فيه ونشتهيه؛ لأنه ينفس عن عاطفة الخوف التي كظمناها. (2)
كابوس يدل على جرح نفسي لا يستطيع صاحبه أن يتخلص منه، فهو يجتر نكبته في يقظته ثم تعود كابوسا في نومه. (3)
كابوس ثالث يختلط بالرغبة الجنسية.
وثم كابوس رابع نستطيع أن نسميه «الكابوس البيولوجي» قد اقتضاه تطورنا، فكلنا يعرف أن كثيرا من الحيوانات لا ينام، أو أن نومه خفيف جدا كالفرس أو الحمار، وبدهي أن نوم الوحوش أخف من نوم الفرس أو الحمار، وعلة هذا أن الأخطار كثيرة جدا في الغابة والحياة الوحشية؛ ولذلك فإن الكابوس ينبه ويوقظ؛ أي إنه يأتي إلى النائم كي يحفزه على اليقظة حتى لا يقع فريسة لوحش ينسل إليه في الظلام.
ونظامنا النفسي مؤسس على الأخطار العديدة التي مرت بنا في مئات الألوف من السنين الماضية؛ فالنفس تطالبنا باليقظة وألا نستسلم للنوم كما لو كنا سكارى.
ومعظم أنواع الكابوس يتخذ شكل العبء الذي يجثم على الصدر حتى يضيق النائم بالنفس ويصرخ، والعادة أننا نقول: إن الأكلة الثقيلة السابقة للنوم قد ضغطت وأثقلت، وقد تكون هذه الأكلة هي السبب المباشر، وإن كان كثير من الكابوس يحدث حتى عندما ننام بلا عشاء، ولكن هذا الثقل هو نفسه رمز إلى حيوان جاثم يوشك أن يمزقنا؛ فالنفس تتنبه كي تستيقظ، وهو لهذا السبب مفيد - أو كان مفيدا، بل مفيدا جدا - أيام الغابة والوحوش حولنا، والصراخ مفيد؛ لأنه يوقظ من حولنا من الجماعة.
انظر إلى هذا الكابوس: رجل يحلم أن يده وذراعه قد صارتا مومياء، واللحم والجلد يتناثران منهما، فما المعنى؟
عندما يستيقظ يجد أنه كان قد توسد ذراعه فخدرت، فهنا يعد الكابوس تنبيها؛ إذ كيف يجوز لأحد أن ينام في الغابة ويده خدرة ؟ ألا يتعرض بهذا لأعظم الأخطار إذا كبسه نمر أو ضبع؟
وبدهي أنه إذا كثرت الهموم التي نعجز عن حلها كثر الكابوس، وفي حضارتنا نتحمل هموما كثيرة ونخاف كثيرا ونكظم مخاوفنا كثيرا فلذلك يكثر الكابوس، والمجتمع السليم الذي يربي الشخصيات المتفائلة التي تنظر إلى المستقبل راضية، يكاد يخلو من الكابوس.
الإيحاء والتنويم النفسي
كان التنويم النفسي الذي فشا بين الجمهور باسم «التنويم المغنطيسي» من الأسباب الأولى لدراسة السيكلوجية الحديثة، وكان بابا ينفتح على ميادين رحبة وآفاق واسعة جعلتنا نملك من هذا العلم معارف جديدة زادتنا فهما للطبيعة البشرية.
والتنويم النفسي (الهبنوتية) على الرغم من الادعاءات التي نسبها إليه الدجالون، هو في نهايته «الإيحاء» لا أقل ولا أكثر، ولكنهم استطاعوا أن يثيروا استطلاع الجمهور؛ لأنهم أطلقوا عليه اسم «التنويم المغنطيسي» مع أنه ليس فيه أي مغنطيس، وكل ما في الأمر أن هناك أشخاصا أكثر تأثرا من غيرهم بالإيحاء، بحيث إذا أوحينا إليهم أنهم في حر لا يطيقونه سال العرق من وجوههم، وإذا أوحينا للأم أن طفلها مريض بكت؛ فالوجدان يزول وتعود النفس وكأنها لوحة مسحاء نكتب عليها ما شئنا، والنائم يصدق كل ما نقوله ويستسلم لكل عقيدة نغرسها فيه، ولا يعارض إلا قليلا جدا؛ أي: يزول منه الوجدان إلا أقله، وطريقة التنويم النفسي أن نجعل الشخص يقعد، أو بالأحرى ينطرح منسطحا في استرخاء، ويجمع نظره في شيء لامع لا يتحول عنه ولا يفكر في غيره، ثم نتدرج به في الإيحاء بالإيهام: أنت ستنام الآن، أنت بدأت تنام، جفونك تسترخي، ستتثاءب، أوشكت أن تنام، لقد نمت ولكنك ستسمع كل ما أقوله لك، إلخ.
وبمثل هذه الكلمات المكررة ينام ويسمع ويصدق كل ما يقال له، بل هو ينفذ ما يقال له، حتى بعد أن يستيقظ دون أن يدري البواعث التي تحمله على تنفيذه، كأن نقول له: غدا في الساعة الخامسة ستذهب لزيارة فلان صديقك، فهو ينفذ هذه الزيارة دون أن يعرف أنه قد أوحي إليه بها في اليوم السابق.
والمعنى الذي نستنتجه من ظاهرة التنويم النفسي أن قوة الإيحاء كبيرة الأثر في حياتنا الاجتماعية، وأن العقائد التي نغرسها في العقل الكامن (الكامنة) تبقى حية توجهنا وتعين لنا أهدافا نسير نحوها دون أن نعرف مأتاها، وقد سبق أن قلنا: إننا لا نسلك ونتصرف بالوجدان إلا قليلا جدا، وإن 99 في المائة من أخطاء التفكير يعود إلى أننا ننظر النظر الذاتي العاطفي دون النظر الموضوعي الوجداني.
وبتعبير آخر: نحن نعيش بعواطفنا في الأكثر الأعم، وبوجداننا في الأقل الأخص؛ أي إن مرجع سلوكنا هو الثلاموس وليس المخ، ونحن والحيوان سواء في هذا، والإيحاء لهذا السبب أسهل في بعض الحيوان مما هو في الإنسان.
انظر إلى سرب من البط رأت واحدة منهن شيئا يخيفها فصاحت وطارت، فما هو أن تفعل هذا حتى تطير نحو مائة أو ألف بطة خلفها، فقد تحركت عاطفة الخوف بإيحاء البطة الأولى، ولم يكن هناك وجدان للتساؤل والبحث، وطرن جميعهن وكن في ما يشبه التنويم النفسي عندنا.
وكثير من ظواهر النشاط البشري يشبه هذه الحركة البطية، اذكر جنكيز خان وهتلر ونابليون؛ آلاف البط الآدمي يخرج من آسيا إلى أوروبا، أو من أوروبا إلى أفريقيا، للقتل والتدمير بقوة الكلمات الإيحائية التي تشبه صيحة البطة دون أن يقف واحد كي يتساءل: ما القيمة من هذه الكلمات وهذا القتل والتدمير؟
ومن هنا قوة العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية في توجيه الجماهير؛ فإن جميع العقائد عاطفية، وهي تنحدر إلى العقل الكامن وتحركنا إلى النشاط بإيحائها، وقد تكون هذه العقائد كلمات لا أكثر. مثل وطنية وإمبراطورية (عند الإنجليز) وشرق وغرب وتاريخ ومجد، والدم والأرض عند هتلر؛ فإن هذه الكلمات وأمثالها تحيل الأمة إلى ما يشبه النوم النفسي، فتصغي خاضعة لكل ما تتطلبه منها من مجهود.
والإيحاء يصدمنا بأنواعه المختلفة؛ فإن للكلمات العاطفية في اللغة أثرا لا ينقطع للخير أو للشر، فللكلمات: شرف وإخاء وإنسانية ورحمة إيحاء للخير، وللكلمات: نجاسة وشماتة وكفر وانتقام إيحاء للشر، وللقصة التي نقرأها في المجلة والصورة التي نراها على الحائط أو في الجريدة إيحاء يوجهنا ويكون مزاجنا ويؤثر في سيرتنا الشخصية أو الزوجية أو الاجتماعية، وإيحاء الإعلانات في الذين يشترون الأدوية المسجلة واضح؛ فإنهم يدفعون عشرين قرشا فيما لا يزيد ثمنه على خمسة مليمات للإيحاء الذي بعثه الإعلان في نفوسهم من الفائدة المزعومة لهذه الأدوية بإثارة مخاوف وآمال عن صحتهم.
وأغاني المذياع وأغانيجه توحي إلى الفتيات والشبان بالكلمة والنغمة سلوكا جنسيا قد يصل أحيانا إلى الدعارة في الإحساس، وفي بعض المعابد يتخذ الكاهن من الألحان والتراتيل في الجو المعتم للمعبد مع البخور ما يزيد التقبل للإيحاء فتثبت العقائد، ومثل هذا الجو السيكلوجي تحدثه الفائدة لحفل الزار وتسرف فيه حتى ينقلب الإيحاء إلى تنويم نفسي تام فيغيض الوجدان وتبرز الكامنة (العقل الكامن) فنجد أن المرأة ترقص وتترنح بحركات جنسية سافرة، أو هي تطلب التسلط بأن تركب خروفا أو نحو ذلك.
وعندما يقعد اثنان لبحث موضوع يلجأ كلاهما إلى وجدانه فيقدم البراهين الموضوعية يدعم بها حجته، وبعيد أن يصلا إلى نتيجة يتفقان عليها إذا كان الموضوع يمس العواطف؛ ولذلك فإن أبرعهما يعمد إلى الإيحاء ويترك المنطق، والمجرم القارح العائد الذي تدرب على المحاكمة يعرف أن أفضل ما يؤثر به على القاضي هو أن يبكي ويتذلل، ويذكر زوجته وأولاده الذين سيموتون من الجوع إذا حبس وحرم الكدح لهم؛ لأن حركة عواطفه هذه تحرك بالمحاكاة ما يضارعها عند القاضي فيتحنن ويتلطف، أما إذا جادل القاضي وقرع الحجة بالحجة فإنه سيسيء بانتصاره المنطقي، وقد يجد من القاضي رغبة في الانتقام لهذا الانتصار عليه.
هل سمعت أحدا يقول لك: إنه أرق في الليلة الماضية لأنه شرب في الساعة السابعة من مساء أمس فنجانا من القهوة؟ وهل فكرت في هذا الأرق هل كان سببه الحقيقي فنجان القهوة بالذات أم كان إيحاء هذه الفكرة؛ أي إن القهوة مؤرقة، في نفس هذا الشخص؟
والقدوة؛ أي: المحاكاة من أعظم وسائل الإيحاء، وهما أقوى أثرا من الكلمة، فإننا نتثاءب عندما نرى أحدا يتثاءب، ونبكي في الجنازة عندما نرى البكاء حولنا، والحمار يأكل أو يجري عندما يرى زميلا له يأكل أو يجري، والأم المحجبة التي تخشى فتح الباب توحي الجبن والخوف من الغرباء عند أولادها؛ ومن هنا قيمة القدوة في الأب والمعلم، وقيمة العائلة الحسنة في الأطفال.
والإيحاء يحدث بالكلمة والصورة والفكاهة والقصة والأغنية والقدوة، وهذه كلها تتسلط علينا في حياتنا الاجتماعية، وتغرس فينا عواطف نكاد نحسبها - لفرط إحساسنا بها - طبيعية؛ فالمسلم يشمئز من لحم الخنزير، وكلنا - باستثناء الصينيين - نشمئز من لحم الكلب، ونكاد نعتقد أن هذا الاشمئزاز طبيعي ولو دعانا أحد إلى أن نأكل لحم الكلب لعددناه أسفل إنسان في الدنيا، إن لم نعده مجنونا، والواقع أن هذه العواطف اجتماعية تعود إلى الإيحاء؛ أي: إيحاء المجتمع بالقدوة والكلمة، كلمة نجس للخنزير والكلب، وليس فيها شيء طبيعي.
انظر إلى الإيحاء السيئ في مصر للمسنين؛ فإن الموظف يحال على المعاش في سن الستين وكأن هذه الإحالة توحي إليه بأنه لم يعد مفيدا، ثم نحن نوحي إليه الوقار، فلا يجري ولا يلعب، فإذا تقدمت به السن إلى السبعين طالبناه بزيادة الوقار، فيجب أن يقعد ويقل من الحركة، أي: يجب أن يركد ويتعفن ويموت، وهذا بخلاف ما يلقاه المسن في أوروبا من الإيحاء بالشباب والصحة، حتى إنه يكون في السبعين ويلبس الشورط ويلعب، بل ويرقص؛ فهناك إيحاء للصحة والقوة، وهنا إيحاء للمرض والضعف.
الإيحاء هو تنويم نفسي مخفف، وكلنا عرضة له متأثرون به؛ لأن معظم سلوكنا - بل كل سلوكنا إلا القليل جدا جدا - عاطفي يخضع للإيحاء.
الإيحاء يخاطب العاطفة ويحدث العقيدة، وإذا تسلطت العقيدة والعاطفة ضعف الوجدان (= التعقل المنطقي والنظر الموضوعي).
وفي النفس البشرية طاقة من نوع آخر، هي هذه الخاصة التي أصبح جميع السيكلوجيين يسلمون بها، وهي «التليبائية»؛ أي: شعور أحدنا بما يحدث لآخر، ولو كان بعيدا عنا بنحو ألف كيلو متر؛ أي: الشعور على بعد بدون الحواس المألوفة، فقد يحدث أن يكون أحد الشبان في برلين، فإذا به يضيق ويغمره كرب عظيم، ويرى في خياله صورة أبيه في القاهرة، وفي هذه اللحظة بالذات يجد عند التحقيق أن أباه كان في النزع ولم تمض دقائق حتى يكون قد مات، وقد يكون أحدنا مريضا قد فنيت قواه الجسمية - أو كادت - فيرى عزيزا له - ابنا أو صديقا أو أخا - وهو في ضيق عظيم؛ فإذا حقق وجد أنه في هذه اللحظة كان عرضة لخطر فادح قد قضى عليه أو كاد، ومن المجازفة العقيمة أن يتقدم أحد بتفسير هذه الظاهرة، وقصارانا أن نقول: إنها كفاءة جديدة في النوع البشري تظهر في بعض الأشخاص المهيئين لها، وسوف تعم جميع الناس - مع غيرها من الكفاءات المجهولة - في المستقبل، ولكن من المؤكد أن التليبائية هذه لا تنتمي إلى الغرائز القديمة في الإنسان؛ أي إنها ليست بعثا لإحدى كفاءاتنا القديمة، وإنما الأغلب أنها ارتقاء جديد في الوجدان لا نفهم كنهه إلا عن طريق التشبيه، كأن نقول: إن لكل منا موجته «الراديوفونية» المخية التي تنطلق منا حول الأرض؛ فإذا لقيت جهازا استقباليا حدث الاتصال، وما دام الأب يشبه ابنه بحكم الوراثة في نظام الأعضاء وقوتها واتجاهها؛ فإن الموجة تتصل بين الأب والابن ولو كانت المسافة بينهما آلاف الأميال، وكذلك الشأن بين الأشقاء والأقرباء، ثم إذا كانت الموجة عنيفة حدث اتصال مشوش حتى ولو اختلفت الجهازات، وهذا يفسر الاتصال بين غريبين في النظام العضوي للجسم تربطهما صداقة حميمة مثلا.
الانتحار السيكلوجي
كلنا يعرف هذا الانتحار المادي، وكلنا يقرأ عنه في الجرائد، عن الفتاة التي كرهت زوجها أو ضرتها ثم أشعلت النار في ملابسها، وعن الشاب الذي رفض أبوه أن يعطيه ما طلبه من نقود فألقى بنفسه في النيل، وعن التاجر الذي كان يخشى الإفلاس فأطلق المسدس على صدره.
ونحس كأن هؤلاء المساكين كانوا عقلاء أذكياء، ثم طرأ عليهم هذا الطارئ الذي أفقدهم عقولهم، فانتحروا.
ولكن لا؛ فإنه ليس هناك مجرم يرتكب جريمة بيديه إلا كان قد سبق له أن ارتكبها جملة مرات بعقله، بخياله، بأحلامه. ولم يكن الارتكاب بالفعل سوى نتيجة الارتكاب بالفكر في شهور سابقة، في سنين سابقة.
وهذا المنتحر بالسكين أو المسدس أو بمياه النيل قد سبق ارتكابه بالفعل ارتكاب بالفكر، فانتحر جملة مرات قبل ذلك انتحارا سيكلوجيا؛ أي إن نفسه انتحرت قبل أن ينتحر جسمه.
ولو أنك كنت قد رأيته قبل أن يستحيل جسمه إلى جثة، لرأيت رجلا أو امرأة أو شابا أو حتى صبيا قد كره الحياة، فهو لا يحب عمله ولا يهتم بوسطه، ولا يعبأ بثراء أو وجاهة أو ثقافة، هو كاره للدنيا قد سئم العيش فيها.
بل هو أحيانا يسلك السلوك المعين الذي يعمل لفنائه بدلا من بقائه، كذلك الموظف الذي أحيل على المعاش؛ فإذا به يجد نفسه سدى لا يسأل عنه أحد ولا يربطه بالمجتمع رابط؛ لأنه لم يكن يعرف من هذا المجتمع سوى وظيفته، فلما انتهت انتهى هو أيضا، هو ضائع، هو سدى؛ ولذلك يكره الدنيا، ويعمد إلى النوم قبل الظهر وبعد الظهر وفي الليل، والنوم رمز إلى الموت، هو اعتكاف، هو استقالة من الحياة، والسرير قبر.
أو هو يعمد إلى الشراب، ويقول لك: إنه يسري عنه السأم، وهو هنا لا يكذب ولكنه لا يتعمق نفسه، ولو فعل لعرف أنه يشرب كثيرا كي يموت؛ لأن الشراب يسممه، ويعجل وفاته؛ أي: انتحاره.
أو اعتبر «مي» الأديبة المصرية التي انتحرت؛ لأنها لم تطق أن تعيش بلا شباب وبلا تلألؤ فصامت عن الطعام حتى ماتت، أليس هذا انتحارا؟
قد تقول: إنه جنون، وهو كذلك من حيث إنها خالفت المألوف، ولكن الواقع أنها كرهت الحياة قبل ذلك بنحو عشر سنوات، وانتحرت سيكلوجيا جملة انتحارات، واندس هذا الحب للموت في أعماق عقلها الكامن، ثم استسلمت له بالانقطاع عن الطعام.
إن فرويد العظيم يقول: «إن في كل منا غريزة للحياة، وغريزة أخرى للموت.» أي: كما نحب أن نحيا، نحب كذلك أن نموت.
نحب أن نحيا بالاستطلاع والاقتحام والارتزاق والتجوال والحركة والبناء، ونحن عندئذ إبجابيون نضحك للحياة ونقول لها: نعم، وعندئذ نحس القوة والفرح وندعو إلى الحرية والسعادة ونقتحم المستقبل.
وأحيانا نرغب في الموت، فنعتكف ونجمد فلا نستطلع، ونكف عن الارتزاق ونكره البناء - بناء الشخصية، بناء المنزل، بناء الدنيا - ونقعد عن السعي، ونعود سلبيين نقول للحياة : لا، وعندئذ نحس الضعف والحزن، ونأخذ بفلسفة الشك، ونلتزم قواعد الفعل الماضي فنقول كنا وكانوا.
وهذا الانتحار السيكلوجي يصيب بعض الأفراد الذين دللوا في الطفولة، أو لم يتعودوا مجابهة الصعوبات، أو لم يتعلموا السعي والجهد؛ فإذا أرهقتهم الظروف وثقلت عليهم تكاليف الحياة آثروا الموت عليها؛ ولذلك تراهم يبدون مشعثين، يلبسون الرث من الملابس، ليس لهم طموح أو سعي إيجابي. •••
هل الدنيا كئيبة إلى الحد الذي يدفعنا إلى هذا الانتحار السيكلوجي؟
ننتحر بالاعتكاف والتعطل، ونتناول الخمور والمخدرات، وبالتجمد حين لا نقرأ ولا نستطلع، وبالقناعة حين نرضى بالتافه من الطعام والرث من الثياب، وبالانفصال عن المجتمع، فلا صداقة ولا اهتمام بالسياسية ولا عناية بالثقافة ولا سعي وراء مكانة؟
قص علي تاجر أنه فيما بين 1931 و1933 عم الكساد التجارة، فكان المتجر الذي يبيع بنحو عشرين جنيها في اليوم لا يكاد يبيع بجنيهين اثنين، وكان متجره في شارع الموسكي، ولم تكن المتاجر الأخرى تفضل متجره، وكان الكساد يخيم عليها جميعا، والذباب يعكف على موظفيها وأصحابها، والجو مشبعا بالتشاؤم، ولم يعد شعاع واحد من الشمس ينفذ إلى نفوسهم.
وبينما هذا التاجر يسير في شارع إبراهيم، خطر بباله أن يذهب إلى جسر قصر النيل كي يتنسم هواء الصباح وكي يبعد عن متجره - الذي صار يكرهه - ساعة أو ساعتين، وكان الشارع يكاد يكون خاليا؛ لأن الوقت كان مبكرا، وبينما هو في هذا السأم، في هذا الجمود، في هذا الانتحار السيكلوجي، إذا برجل قد بترت ساقاه يسير على عربة صغيرة، بأن يدفع الأرض بيديه خلفه، قد نظر إليه وهو يقول: نهارك سعيد.
قال لي التاجر إنه عندما سمع هاتين الكلمتين من هذا الكسيح العاجز، فزع وتنبه، وكان نهارا جديدا قد طلع عليه؛ لأنه تأمل نفسه؛ إن هذا الرجل المسكين يضحك للصباح على ما به من عجز، فما لي أنا أحزن؟
كانت غريزة الحياة قوية في هذا المسكين، كان نهاره على الدوام سعيدا.
وكانت غريزة الموت عند هذا التاجر قوية، فكان نهاره كئيبا .
وهنا وقفة نتلبث عندها!
إن هذا التاجر كان يعتقد أنه كان ينوي التنزه على جسر قصر النيل، ولكنه كان جاهلا لا يعرف ما أراده من هذه النزهة.
إنه كان يريد الانتحار بإلقاء نفسه في مياه النيل، وكانت نزهته استطلاعا للموت (عمل مقايسة)؛ ولذلك «فزع» وطلع عليه «نهار جديد» عندما حياه هذا المسكين الذي كان يسير بيديه بدلا من ساقيه، كأنه قد نبهه إلى ضلاله.
لا، ليست مسرات الدنيا هي التي تجعلنا سعداء، وإنما هي الفكرة التي نعيش بها، والأهداف التي نهدف إليها، والفلسفة التي نعتمد عليها، وفي كل هذا كان هذا «المسكين» الذي يسير بلا ساقين أنضج عقلا وأصح فلسفة وأعرف بالحياة من هذا التاجر. •••
إن جميع المنتحرين - ولو بلغوا الخمسين أو الستين من العمر - أطفال قد تجمدت أخلاقهم على أسلوب الطفولة، وهناك علامات واضحة للطفولة في سلوكهم حين تراهم يأكلون، أو يشتمون أو يرفسون وقت الغضب، أو يسرقون حتى أصدقاءهم، كما أنهم يجبنون عن مواجهة الصعوبات، ويعتمدون على غيرهم الذي يأخذ - في مقاييسهم - مقام الأبوين، وهم - في الأغلب - قد دللوا تدليلا سيئا أيام طفولتهم.
اعتبر «مي» الأديبة التي صامت نحو عشرة أيام في منزلها حتى ماتت.
لقد كانت وحيدة أبويها اللذين دللاها، وكانا يلبيان كل ما كانت تطلبه، فقد كانت في الأيام العشرة الأخيرة من عمرها تتبول وتتبرز على أرض الغرفة وعلى سريرها وعلى سائر الأثاث، والتبول والتبرز هما نداء للأم، هما صيحة الاشتهاء للعودة إلى الطفولة، وكثير من الأطفال الذين يجدون إهمالا وتركا من أمهاتهم يتبولون في الفراش حتى تأتي الأم وتنظفهم وتعنى بهم، ولا يبالي الأطفال المتبولون أن يضربوا في سبيل ذلك؛ لأن الالتصاق بالأم - حتى مع الضرب - لذة حميمة عندهم.
ونشطت الكامنة - العقل الكامن - في «مي» في أيامها الأخيرة، فطلبت أمها بأسلوب الأطفال، وكان هذا بعض جنونها. •••
كيف نتقي هذا الانتحار النفسي الذي يؤدي في النهاية إلى انتحار جسمي، وكيف نعالجه عندما يقع أحد فيه؟
نتقيه بأن نربي الناس على أن يشبوا عن الطوق وأن يتركوا الطفولة ويصيروا رجالا ونساء ناضجين؛ أي: يجب أن يعرفوا أن في الدنيا صعوبات وعقبات، وأن الرجل الناضج يجب ألا يقابلها بالبكاء والرثاء كما يفعل الأطفال؛ إذ عليه أن يتلقاها بالتحدي والكفاح، والرجل الناضج يحس أنه ما دام حيا فإنه يجب عليه أن ينهض ويسعى ويبني، وليس عليه أن يقعد ويستسلم.
عليه أن يستطلع ويدرس ويعمل، ويستمتع بجمال الطبيعة والفن، ويخطط مشروع حياته.
ماذا أقول؟
إني أكره بول سارتر وما يسميه «الفلسفة الوجودية»، ولكني أجد في دعوته الأخلاقية ما يغريني؛ فإنه يقول: «إن الحياة هي مشروع يشرعه كل إنسان لنفسه، هي خارطة يرسمها بيديه، هي مجموعة ما يختار من الدنيا، هي تحفة يصنعها بيديه.»
إن سارتر يطالبنا بأن نكون ناضجين لا نعتمد على غيرنا، وهذا حسن منه؛ لأن المنتحرين أطفال غير ناضجين يعجزون عن الاعتماد على أنفسهم.
يجب أن نقبل الوجودية على أنها «أكذوبة» اجتماعية، مثل الأكاذيب القانونية، نهدف منها إلى أن نجعل من أبنائنا وبناتنا، رجالا ونساء ناضجين.
يجب أن نقول لهم: أشرعوا مشروع حياتكم وأنتم في الشباب، وارسموا خارطة السنين القادمة، ورتبوا برنامجكم لخمسين أو ستين سنة؛ فإن حياتكم هي بيت تبنونه فأحسنوا البناء، وتجنبوا العادات التي تهدم هذا البيت، وأقبلوا على الاستطلاع والاختبار، وتعلموا من الكوارث دروسا، ومن الأمراض صحة، واكسبوا حكمة، وليسأل كل منكم نفسه عندما يضعف: ألا أزال طفلا؟
المركبات
كلمة «مركب» من الكلمات التي خرجت من الميدان السيكلوجي إلى ميادين أخرى في الأدب والاجتماع بل في الحديث العام، وهذا يدل على أنها قامت بمهمة فسيولوجية كنا نحتاج إليها في لغتنا، وواضع هذه الكلمة هو يونج السيكلوجي السويسري، وهو يقصد منها إلى مجموعة من الأفكار العاطفية تندس في الكامنة (العقل الباطن) ثم توجهنا بميول واتجاهات تخفى علينا، وقد استعمل هذه الكلمة فرويد فيما أسماه «مركب أوديب» واستعملها أدلر فيما أسماه «مركب النقص».
ويرى القارئ لهذا الكتاب فصلا مستقلا فيه عن «مركب النقص»، ولذلك نحتاج هنا إلى أن نتحدث في إيجاز عن المركبات وعن مركب أوديب خاصة .
فالمركبات هي في صميمها رجوع مكيفة أي : معدولة، مثالها: الرجوع التي أحدثها بافلوف في الكلاب؛ فالكلب يجرب لعابه إذا رأى أو إذا شم اللحم؛ فإذا قرع جرس مع رؤية اللحم أو شمه، ثم كرر القرع والجمع بين الاثنين - أي اللحم والجرس - نشأ في نفس الكلب رجع انعكاسي مكيف؛ أي: معدول، حتى إننا إذا قرعنا الجرس وحده دون رؤية اللحم أو شمه سال لعاب الكلب؛ لأن هنا «مركبا» مؤلفا في نفس الكلب من الجمع بين الجرس واللحم، ومركبات الإنسان تزيد على ذلك بالطبع؛ أي إنها ليست بهذه البساطة، وهي مركبات لغوية واجتماعية وعائلية؛ أي إن المجتمع واللغة والعائلة كلها يكفينا ويعين لنا - بما غرسه فينا من مركبات - ميولا واتجاهات وتصرفات ننساق فيها مندفعين بعواطف لا ندري مأتاها؛ لأنها غرست - في الأغلب - ونحن أطفال، لم نكن نتنبه إلى منطقها أو نعارض في تأثيرها.
فالهندوكي ينشأ على تقديس البقرة، فقداسة البقرة عنده «مركب» يشتبك بعواطفه، وهو يعده حتى للموت في سبيل الدفاع عن البقرة، وكلمة «الدم» في بعض قرى الصعيد «مركب» يؤدي إلى الأخذ بالثأر وارتكاب الجرائم للانتقام، وعندئذ نجد أن هاتين الكلمتين اللتين تردان على ألسنتنا في بساطة، البقرة والدم، تحدث كل منهما مركبا إجراميا في نفس الهندوكي بالهند ونفس الجرجاوي أو القناوي بالصعيد.
كان أحد الأشخاص - وهو الآن في الستين - قد عصى وهو طفل ورفض الذهاب إلى المدرسة، وكان الخادم قد طلب إليه حمله أو جره إلى المدرسة، وبينما هو في هذا المأزق العاطفي يبكي ويرفس ويضرب كان ديك قريب يصيح، فاقترن صياح الديك بعواطف الكرب والخوف (اذكر اللحم والجرس)، فهو إلى الآن - أي بعد نحو خمسين سنة - لا يسمع صياح الديكة إلا ويحس كربا وضيقا، فهنا مركب قد استقر في كامنته ولم يبرحه حتى بعد نصف قرن من عمره.
ونحن نعيش؛ أي: نسلك في الوسط المتمدن بمركبات حسنة وسيئة؛ أي إن رجوعنا الانعكاسية ليست أولية كما هو الشأن في الحيوان؛ إذ هي ثانوية أو ثالثية أو حتى عاشرية؛ أي إن الرجع الانعكاسي قد كيف، انتقل من اللحم إلى الجرس، ثم انتقل بعد ذلك إلى رجع آخر ثم آخر، فالذكر من الحيوان يرى الأنثى فيشتهيها وينتقل من الإحساس الجنسي إلى العمل، وأنا أنظر إلى المرأة فأنتقل من الرجع الجنسي الساذج (قل الغريزة) إلى تأمل الملابس وتقدير مكانتها الاجتماعية منها، ثم أتذكر فضيلة العفاف، ثم الدين، ثم مكانتي الاجتماعية، وكل هذه رجوع مكيفة أبدو بها متمدنا، أو قل: إني تعلمت كظوما ودربت عليها حتى أخذت في الوسط المتحضر الذي أعيش فيه مكان النزوة الانعكاسية الأولى، ونستطيع أن نقول: إن النفس البشرية بهذا الاعتبار ليست بشرة طبيعية حساسة، بل أديما مدبوغا صقيلا يجمد عند اللقاء ولا يتحرك بالأنثى أو الطعام أو الخوف أو الغضب، أجل؛ هي نفس كاظمة، والآن ننظر فيما يسميه فرويد «مركب أوديب».
فإن فرويد يقول: إن الطفل حين يرضع أمه في السنة الأولى من عمره يجد لذة جنسية معممة في الرضاع والالتصاق بأمه، وهو ينشأ بعد ذلك على علاقة غير وجدانية، تربطه برباط جنسي بأمه؛ ولذلك فإنه يكره أباه ويعد وجوده بالبيت خطرا عليه، بل هو يخشى أن تؤثر أمه أباه عليه؛ فإذا شب وحدث له تزعزع نفسي فيجب أن ننشد البؤرة لهذا التزعزع في «مركب أوديب»؛ أي إن الطفل قد عاش في طفولته وهو يخشى أن يفصل من أمه، التي يعدها - من حيث لا يدري - زوجته، ومواقف القلق التي يقفها بعد ذلك إنما هي صراع خفي في نفسه، موضوعه هو حبه لأمه من ناحية، ثم تغلب الأخلاق الاجتماعية من ناحية أخرى، وهذه الأخلاق تقول بضرورة الرجوع عن هذا الحب؛ لأن أمه لأبيه وليست له من الناحية الجنسية، مثال ذلك: قد يجد هذا الطفل - وهو شاب في العشرين أو الثلاثين - أنه عندما يقف في البلكون يحس دوارا وكأنه سيسقط مغشيا عليه، فعند فرويد أن مرجع هذا الدوار هو ما استقر عند هذا الشاب من أنه مذنب يريد أن يقترف الاتصال الجنسي بأمه، وأن هذا الذنب هو «السقوط» الروحي أو الأخلاقي ؛ أي: السقوط الذي أحس به وهو في البلكون.
وقصة أوديب من القصص الإغريقية القديمة. خلاصتها أن أوديب هذا قد تزوج أمه وهو لا يدري، حتى إذا عرف الحقيقة فقأ عينيه، أما أمه فتنتحر، وقد نقلها فرويد وجعلنا جميعا متهمين بحب أمهاتنا، وأن ما يصيبنا من نيوروز؛ أي: قلق نفسي في المستقبل إنما يرجع إلى أننا لا نطيق هذا الصراع بين الأخلاق الاجتماعية التي تقول باحترام الأم، وبين هذه الرغبة الطفلية المستقرة في الكامنة، التي تقول بأننا يجب أن نستأثر وحدنا بحب أمهاتنا دون الآباء.
وكثير من السيكلوجيين يؤمن بأن مركب أوديب هذا من الحقائق السيكلوجية التي لا يمكن تجاهلها أو إهمالها، ولكن أكثر منهم، بل أكثر كثيرا جدا يقولون بأن هذا الفرض لا أصل له بتاتا، وأنه اختراع سخيف، وقد حاولت أنا طوال السنين العشرين الأخيرة أن أجد أصلا لهذا المركب، على النحو الذي يقول به فرويد، فلم أجده، وكل ما أستطيع أن أفهمه من علاقة الطفل بأمه هو أن هذه العلاقة كبيرة القيمة في التوجيه الجنسي في المستقبل، بمعنى أن الطفل يحب أمه ويتعلق بها كثيرا مدة الرضاعة وعقبه، وهو بالطبع في هذا الحب يعتقد أن أمه جميلة تثير الحب في نفسه لقامتها ووجهها وصوتها وأسلوب حركتها؛ فإذا بلغ المراهقة لم يستجمل من الفتيات سوى أولئك اللائي يشبهن أمه في كل هذه الأشياء؛ ولذلك يختار الشبان - في العادة الغالبة - فتيات يشبهنهم حتى ليظن من ينظر أحيانا إلى زوجين أنهما شقيقان، والسبب أن الشاب اختار فتاة تشبه أمه؛ أي إنها تشبهه هو؛ لأنه هو يأخذ كثيرا من ملامح أمه.
وعلى كل حال قد نبهنا فرويد بما أسماه «مركب أوديب» إلى القيمة العظمى لسني الطفولة التي يقضيها كل إنسان مع أبويه، وقد أفاض أدلر في هذا الموضوع.
مركب النقص
للشاعر المعري بيت كبير المعنى يدل على بصيرة هذا العبقري هو:
لو لم تكن في القوم أصغرهم
ما بان منك عليهم كبر
ذلك أن الرجل الصغير في جسمه أو الدميم في وجهه أو الحقير في مقامه، أو الذي يحس صغارا لعيب فاضح، يتخذ أسلوبا تعويضيا كي يستر هذا النقص الذي ركب فيه وولد معه أو أحدثته ظروف اجتماعية مدة طفولته، والنقص أنواع مختلفة، فقد يكون أنفا ضخما أو قصرا مفرطا، أو نحافة تشبه الهزال، أو فوها بالغا أو أي شوهة جسمية أخرى، وقد تكون هذه الشوهة اجتماعية في حادث فاضح أو معيب ترك أثرا نفسيا سيئا.
وفي كل هذا تحاول النفس - على غير وجدان؛ أي بلا دراية - أن تعوض من هذا النقص كمالا، وعلى قدر الظروف الاجتماعية والفرص التعليمية، وأيضا على قدر الذكاء الموروث، يكون هذا التعويض.
والطفولة نفسها من أطوار النقص؛ لأن الطفل يجد أن كل من حوله أكبر منه وأقدر؛ ولذلك يفرح كثيرا حين يقف على كرسي ويجد أنه أعلى من هؤلاء الكبار، ويفرح كثيرا حين يضرب أحدا فيجري منه؛ لأن هذا الانتصار يوهمه قوة تجوع إليها نفسه؛ فإذا كان بالطفل عشاوة أو عرج أو لعثمة أو حول، أو أي نقص آخر، زاد شذوذه وطلب الكمال التعويضي بسبل غير طبيعية، أي: غير سوية، وعندئذ يصير التعويض نفسه شذوذا، لأنه يفرط فيه، وقد يستقر على نوع من التعويض السخيف الذي لا يخدمه في ارتقائه الاجتماعي، بل يؤذيه. كالتكبر مثلا؛ فإن المتكبر يجد أنه في النهاية مبعد عن المجتمع يتوقاه الناس ويكرهون ملاقاته.
وهناك أفراد قليلون ورثوا كفاية ذهنية ممتازة إلى جنب النقص، فلم يؤخرهم هذا النقص، بل وجدوا فيه حافزا للتبريز والنبوغ، فهم في موقف سقراط الفيلسوف الإغريقي حين ألف عنه أرستوفان درامة «السحاب» فهزأه ورسمه في صورة كاريكاتورية، وحضر سقراط هذه الدرامة ورأى الجمهور يضحك من تهزئته، فلم يغضب، بل وقف يعرض وجهه الدسم وجسمه المتكتل كي يزيد الجمهور ضحكا! وهذا معقول؛ لأن سقراط كان قد بلغ مركزا اجتماعيا ساميا، فلم يكن يبالي أن يعيره أحد بدمامة وجهه.
وحدث قبل سنوات أن اشترك شاب أمريكي في مباراة رياضية فانهزم الفريق الذي كان هو أحد أعضائه، فكتب إلى أبيه يقول: «وجد الفريق الآخر ثغرة خطيرة في فريقنا، وكنت أنا هذه الثغرة.»
فنحن هنا إزاء إحساس بالنقص، ولكنه بدلا من أن يحدث هوانا وضعة، أحدث عند سقراط سرورا، وأحدث عند هذا الشاب اعترافا يدل على قوة العزيمة والاستعداد للانتصار القادم، ولكن يجب أن نذكر أن النقص هنا أحس به سقراط وهذا الشاب وهما على وجدان ويقظة، فقاومه كلاهما بالتعقل والنظر الموضوعي.
ولكن مركب النقص يتكون في العادة أيام الطفولة والصبا، حين لا يكون الوجدان قد تكون وارتقى؛ ولذلك فإن المقاومة له في أغلب الأحيان تكون طفلية سخيفة يشقى بها الناقص ويتعس غيره، وفي حياتنا العامة تجابهنا في سلوكنا ظروف تجعلنا نحس بنقصنا، وليست أحلام اليقظة سوى معالجة لذيذة لهذا النقص، وأحيانا إذا كان النقص يغمر الشخصية بفداحته فإن الناقص يعمد إلى الخيال ويستسلم لأحلام اليقظة حتى يكاد يقطع ما بينه وبين الواقع.
وهناك ضروب من المقاومة للنقص نراها في حياتنا العامة، كالمرأة الدميمة تسترجل إلى حد الفظاظة، وهناك الشاب المهين يرفع صوته في الحديث ويؤكد رجولته بإيماءات لا ضرورة لها، وهناك الشاب القميء الذي لا تلتفت إليه فتاة يتحدث عن اقتحاماته الجنسية، أو هو يعود «فاضلا» يعزف عن النساء ويذكر خيانتهن وإيثار العزوبة على الزواج، أو هو حين يتزوج يضرب زوجته كي يؤكد رجولته الناقصة.
وفي أمثال هذه الحالات نكاد نرى مركب النقص سافرا، ولكنه في أحوال أخرى يتخذ ألوانا من التعويض تخفي علينا، كتلك العانس التي تقدمت بها السن فلم تتزوج، ولكن غريزة الأمومة لا تزال حية في كيانها، فتعمد إلى تربية القطط، وهذا حمق وسخف، أو هي تعمد إلى تبني الأطفال ومساعدة الملاجئ، وهذا عقل وحكمة، وقد نجد شابا يؤثر العزلة ويتجنب المجتمع لأنه أعور، أو هو يخجل كأنه بنت في سن العاشرة، وهو يستضر بهذا السلوك ويتأخر عن النجاح، وكان يجب التعجيل في تزويده بعين صناعية لإزالة هذا النقص، أو بالأحرى لتخفيفه، ثم انظر إلى ذلك الرجعي الذي يكره الحضارة الأوروبية؛ إذ يجد أنها تناقض وتكافح كل ما نشأ عليه حتى إنها تكاد تطارده في عيشه ، فهو ينعى على العصر الحاضر تهتكه، ويعود بمزاجه وذهنه إلى التمدح بالقديم قبل ألف عام، والدعوة إلى جحد القرن العشرين، بل هناك في هذا الوقت أدباء قصرت بهم كفايتهم عن تفهم الحضارة القائمة، أو عجزوا عن حمل الجمهور الجامد على اعتناقها فشرعوا يتمدحون بالعرب قبل ألف عام ويؤلفون الكتب في ذلك، كما أن هناك كتابا حملهم مركب النقص على السباب والبذاء حتى صار هذا حرفتهم.
وأحيانا يؤدي الخوف من النساء - لعيب صحيح أو موهوم - إلى الزيغ الجنسي، وأعظم العلامات لمركب النقص هو الرغبة في الانعزال، وهذا الانعزال ثلاثي؛ إذ هو يتم بالجسم والعاطفة والذهن، والناقص يقيم الجدران التي تفصل بينه وبين المجتمع، في حين أن الشخص السوي يهدم هذه الجدران، الأول يخاصم لأوهى الأسباب ويتجنب ويعتزل، والثاني يصالح ويختلط وهو يتفاءل ويحس الغيرية والمسئولية الاجتماعية كما يحس شجاعة اجتماعية يقدم بها على الأعمال والمشروعات، في حين أن ذاك يتشاءم ويحس الأنانية التي يتوهم أنه يغذوها بالاعتزال، وهو يشقى بهذا كل الشقاء؛ لأنه يعتقد في أعماق نفسه أن الاجتماع يكشف عيوبه أمام الناس، مع أن هذه العيوب كثيرا ما تكون وهمية، أو حتى حين تكون حقيقية لا تلفت انتباه الناس إلى الحد الخطير الذي يعتقده.
وأسوأ الأشياء في مركب النقص أن يرافقه تدليل؛ فإن الناقص المدلل نكبة على نفسه وعلى الناس، وهو ينشأ عاجزا عن كسب قوته، وأنت قد ترى في المدينة رجلين كلاهما أحدب، أولهما يعمل في صناعة قد يربح منها خمسين أو مائة جنيه في الشهر، وقد أنساه النجاح هذا النقص، فهو يسير وكأنه ليس به أي حدب، حتى لقد اعتدل قوامه بعض الشيء، فهذا الأحدب لم يدلل، ولكن انظر إلى هذا الآخر الذي احترف الشحاذة؛ فإن أمه دللته وأعجزته بهذا التدليل عن كسب قوته، فهو شحاذ يسير وقد زادت حدبته للذلة التي يمارسها كي يستجدي العطف.
وأعظم ما يؤخر أو يعطل نمو الشخصية وإيناعها هو مركب النقص بألوانه الظاهرة والخفية، ونحن في حياتنا العامة لا نصاب بمركب واحد للنقص؛ فإن هناك مركبات عديدة توالينا إلى سن الشباب، ولكن مركب النقص يتكون - في العادة - أيام الطفولة، حين لا يكون الوجدان قد نشأ ونما واستطاع المقاومة.
انظر إلى شاب قد وصل إلى العشرين وخاب في حياته المدرسية؛ فإن هذه الخيبة قد تحمله على التواكل والرضا بالمركز الوضيع الذي لم يستطع أن يرتفع إلى أعلى منه مع الحقد على الناجحين، ولكن من جهة أخرى قد تحمله هذه الخيبة على أن ينبغ في علم أو فن بمجهوده الشخصي حتى يعوض ما فاته.
ولكن يجب أن نذكر أن مركب النقص إذا أدى مرة إلى نبوغ وإقدام فإنه يؤدي عشر مرات إلى انكفاف وانعزال وضعة، وفي كل منا نقطة حساسة ترجع إلى مركب النقص، ولكننا ننساها بالنجاح.
وعلامة البراءة من مركب النقص هي قدرة الشخص على أن يتهكم على نفسه وأن يسلك - في غير تكلف - وألا يبالي أن يعرض عيوبه مثل سقراط، وأن يتحمل الإساءات الصغيرة التي لا يتحملها غيره، وأن يختلط بالمجتمع في يسر.
وكثيرا ما نتعوض من مركب النقص بأن نتخذ اتجاها معينا في الحياة يحملنا على ألوان من السلوك الشاذ أو المستغرب أو الغامض؛ فإن الناقص كي يدافع عن نفسه - من حيث لا يدري - يتنقص غيره؛ فالجاهل يستجهل الآخرين ويهجم عليهم في عنف وصخب، والمرأة الدميمة يزداد حياؤها وهي تتقلص أمام الرجال، ولا تطيق صراحة الإيماءة أو اللغة، والرجل الذي لم يتعلم في الجامعة يصر على أن يتعلم أبناؤه في الجامعة، والمرأة التي تزوجت رجلا مسنا تصر على أن تتزوج بناتها شبانا، كأن الأب والأم قد نقلا نقصهما إلى الأبناء وعمدا إلى التعويض فيهما.
وأخيرا يجب أن نذكر أننا أحيانا نحدث أنفسنا عجزا كي نزيد كفاءتنا؛ فإن دميسي - الملاكم المشهور - كان وقت التدريب يربط يده اليمنى إلى ظهره، ثم يلاكم بيده اليسرى فقط رجلا له يدان حرتان للملاكمة، وكان ديموستين الخطيب الإغريقي ألكن، ولكنه كان يزيد مركب النقص هذا؛ أي: اللكنة بأن يضع الحصا في فمه ثم يخطب وهو على شاطئ البحر، حتى يسمع صوته من خلال اصطخاب الأمواج - على الرغم من الحصا وعلى الرغم من اللكنة.
أجل، إن العجز أحيانا يؤدي إلى الكفاءة، اذكر عنترة الشاعر الأسود، وتيمورلنك الأعرج، بل كافور الخصي، واذكر المئات من أمثال هؤلاء.
الضمير
يجب أن نميز بين الوجدان والضمير؛ لأن بعض الكتاب أوجدوا تميعا سيئا بين الكلمتين، فالوجدان هو أن أجد نفسي؛ أي: أفكر، وأحس أني أفكر، فلا أنساق كالنائم أو الذاهل في عاطفة غالبة، فتفكير الحيوان هو تفكير العاطفة التي تسوقه، حتى لا يدري ما يفعل، كالكلب يضع أنفه إلى الأرض ويطلب الطعام، كأنه نائم أو حالم، أو كالذكر من الحيوان يطلب الأنثى فيجري خلفها كالمجنون لا يبالي أية عقبة.
فهنا نجد عاطفة تحرك الحيوان ولا نترك له مجالا للوجدان؛ أي إنه لا يدري ما يفعل، ونحن أحيانا نسلك هذا السلوك حين يطرأ علينا ما يغضبنا فننفجر ونثور؛ فإذا هدأنا وشرع أحد الحاضرين يلومنا على ما فعلنا أجبنا: «كنت متهيجا، لم أدر ما فعلت.»
وهذا السلوك العاطفي نراه كثيرا في الأم عند وفاة ابنها، فإنها تهذي كأنها نائمة أو حالمة؛ فإذا ذكرناها بما فعلت بعد ذلك بمدة لم تذكر شيئا.
ففي كل هذه الحالات وأشباهها نسلك سلوكا ذاتيا أعمى كالحيوانات بلا وجدان؛ أي: لا ندري ما نفعل، ولا نفكر التفكير المنطقي الموضوعي الذي هو ميزة الإنسان الكبرى، وإن تكن هذه الميزة مقصورة على أوقات قليلة من حياتنا الفكرية، وبدهي أن الوجدان يؤدي إلى شيئين: (1)
التفكير الحسن القائم على اعتبارات موضوعية منطقية. (2)
الضمير؛ أي إننا نحس المسئولية الاجتماعية ونتقيد باعتباراتها.
نقول: إن الوجدان يؤدي إلى المنطق وإلى الضمير.
والمنطق تفكير محض قد لا يداخله أي اعتبار أخلاقي.
ولكن الضمير تفكير اجتماعي تداخله الاعتبارات الأخلاقية.
ونحن حين نعيش في مجتمع ننتهي إلى الأخذ بمقاييسه ومثلياته بإيحاء القدوة وباللغة التي يتكلم بها أفراده؛ إذ تتعين لنا القيم بكلمات هذه اللغة، ولهذا السبب لا يزيد الضمير على مستوى المجتمع الذي نعيش فيه، إلا إذا كان الشخص فذا يستقل في تفكيره ويرى رؤيا لا يراها الأفراد العاديون، كما هي الحال في الثائرين والمصلحين والأنبياء والقديسين؛ فإن ضميرهم يسمو على المجتمع؛ لأنهم يتخيلون مجتمعا راقيا له مقاييس أخرى.
والضمير هو في جميع الحالات صراع يضعف أو يقوى بين عاطفتين أو أكثر، فهو صراع بين الأنانية والغيرية؛ أي: هل نؤثر مصلحتنا الذاتية وإن يكن بها ضرر لغيرنا، أو نؤثر مصلحة هذا الغير أيضا فنسلك السلوك السوي بين المصلحتين؟ أي إن الضمير صراع بين الأنانية الذاتية وبين واجبات المجتمع، وبدهي أن رجلا يعيش وحده بعيدا عن الناس لا يمكن أن يكون له ضمير؛ لأننا بالضمير نطالبه بأن يكون صادقا نبيلا كريما مغيثا للملهوف تقيا يعرف المروءة ويتجنب الغش والفسق والخداع والكذب، ولكن ما دام يعيش وحده كيف يمكنه أن يمارس ما نطالبه به ولمصلحة من يفعل هذا؟
فالضمير اجتماعي؛ أي إنه الصورة التي يقدمها المجتمع لنا كي نعيش ونسلك على رسمها؛ ولذلك يختلف الضمير من أمة لأخرى، فضمير المرأة في سيلان أو تبت لا يؤلمها عندما تتزوج جملة رجال في وقت واحد، في حين نحن نشمئز من هذا السلوك، بل إن الضمير يتغير عندما تتغير الظروف؛ فإننا نستنكر القتل في الشارع أو البيت، ولكنا نجيزه للجندي في المعركة أو للطيار فوق المدينة.
ومع أن المجتمع الذي نعيش فيه يعمم بيننا قيما اجتماعية وأخلاقية؛ فإننا ننقسم طبقات وطوائف دينية أو ثقافية؛ ولذلك تختلف ضمائرنا؛ فالفلاح الأجير لا يدرك من معنى الحرية ما يدركه عضو في هيئة سياسية مكافحة، وفي مديريتي قنا وسوهاج نجد أفرادا بضمائر يدوية تنشد الفضيلة بالانتقام والثأر، ويحس هؤلاء الأفراد وخزا في ضمائرهم عندما يهملون الانتقام والثأر.
وحين نقول: «رجل ليس له ضمير» إنما نعني بهذا القول أن غرائزه الانفرادية قد تغلبت على غرائزه الاجتماعية، وكثير من الإجرام يعود إلى هذا الاتجاه، والغرائز الانفرادية؛ أي: تلك التي تبعثنا على أن ننشد مصالحنا الخاصة دون مراعاة لمصالح المجتمع، هي أقدم غرائزنا وأثبتها في كياننا النفسي؛ أي إنها الحيوان الذي لا يزال حيا فينا، وهي فطرية لا تحتاج إلى تعليم وتربية، أما الغرائز الاجتماعية فجديدة، ولذلك نتعلمها من المجتمع بالقدوة والدين والعادات واللغة والكتاب والمدرسة، ولهذا السبب نجد أن الحيوان الاجتماعي يمتاز بضمير ما؛ لأن الاجتماع يضعه بين اختيارين يحدثان له وجدانا - هو بالطبع دون وجداننا بكثير، ولكنه؛ أي هذا الوجدان - يحمله على أن يقدر مسئوليته أمام المجتمع كي يقدر مصلحته الذاتية.
انظر إلى الكلب وأنت تأكل؛ فإنه يشره إلى الطعام ولكنه يحجم لأنه يخاف، وهو في هذا التردد بين الشره والخوف يحدث له وجدان يحرك ذكاءه ويجعله يحس بالمسئولية، والكلب حيوان اجتماعي يعيش معنا ويصادقنا، ونحن - في منطقه الكلبي - كلاب مثله، ولكن انظر إلى القط الذي لا يتأخر عن خطف ما في الطبق إذا جاع، والقط بالطبع حيوان انفرادي، يعيش في بيوتنا ولكنه لا يشترك معنا في عواطفنا؛ فإذا خرجنا لم يتبعنا، وإذا دخل علينا غريب لم يهاجمه كما يفعل الكلب؛ ولذلك نحن نعجز عن تعليم القط السلوك الاجتماعي الذي يوافقنا، ولكنا ننجح مع الكلب في هذا التعليم.
ونحن والكلب من الحيوانات الاجتماعية التي نجد فيها بذرة الضمير، ولكن يجب ألا نفهم من هذا أن الضمير يتكون بالفطرة؛ فإن نظرة عاجلة في أنحاء العالم تدل على أنه ليس كذلك، وأنه يكسب بالتعليم، وأن ما نعده رذيلة في أمة قد يكون فضيلة في أخرى، كظاهرة الضمد (زواج المرأة جملة رجال) التي قلنا إنها شائعة في سيلان وتبت.
والضمير مؤلف من ثلاث ذوات: (1)
الذات البيولوجية؛ أي: ما ورثنا من الحيوانات في الملايين من السنين الماضية، وهي أحط ذواتنا التي نطلب بها حاجتنا البدائية؛ كالطعام والأنثى والسيطرة، ولكنها مع انحطاطها أثبت ذواتنا ودوافعها أقوى الدوافع عندنا؛ لأنها غرائز وشهوات، وهي كامنة في الأكثر وجدانية في الأقل. (2)
الذات الاجتماعية، وهي مؤلفة من التقاليد والعادات والأفكار الاجتماعية التي نستخدمها لمصلحة الذات البيولوجية السابقة دون مخالفة للمجتمع الذي نعيش فيه، وهي وجدانية في الأكثر كامنة في الأقل. (3)
الذات العليا التي تتألف من الدين والأخلاق والمثليات، التي تحملنا على أن ننكر على أنفسنا بعض المباهج، ونحن نكسبها في الطفولة من الأبوين، ولكننا ننقحها بعد ذلك.
وضميرنا مؤلف من هذه الذوات الثلاث، ولكن الذات الأولى تتغلب في المجرم وتجعله أنانيا لا يبالي المجتمع، في حين أن الذات الثانية تتغلب في الإنسان العادي الذي لا ينحط ولا يرتفع، أما الذات الثالثة فتمتاز بها الصفوة في الأمة، ووخز الضمير هو في النهاية الألم الذي نحسه للصراع القائم بين هذه الذوات الثلاث في أنفسنا، والضمير السليم هو الذي تتغلب فيه الذات الثالثة على الذاتين الأوليين، أو على الأقل تتغلب فيه الذات الثانية على الأولى.
ونستطيع أن نقول بعبارة أخرى:
إن ضمير المجرم في الأغلب مؤلف من الذات الأنانية العاطفية التي يجري نشاطها الأكبر في الكامنة.
ضمير الرجل العادي في الأغلب مؤلف من الذات الاجتماعية العاطفية أو الوجدانية.
والرجل السامي مؤلف من الذات الوجدانية المثقفة، وإن كانت جذور هذه الذات ترجع إلى الإعجاب بالأب أيام الطفولة واتخاذ أسلوبه باعتباره البطل الذي نحب أن نقتدي به.
ولكن ليس فينا واحد، ولا واحد، إلا وهو مؤلف من الذوات الثلاث التي تتداخل وتندغم في نفسه وتكون له ضميرا، وإذا اختلف أحدنا من الآخر فالاختلاف درجي، وليس نوعيا، في تغلب أو زيادة إحدى الذوات على الأخرى.
وهنا يجب أن نعرف كلمة هي «التسويل»؛ فإن النفس تسول؛ أي: تسوغ أحيانا، نوعا من السلوك المنكر بتعليلات وتدليلات وجدانية، حتى يهدأ الضمير ونقبل على عمل، ما كنا لنقبل عليه لو كان وجداننا سليما وكانت ذاتنا العليا متغلبة على الذاتيين الاجتماعية والأنانية، كما نفعل مثلا حين نقول: إن الغاية تبرر الوسيلة، فنعذب الحيوانات كي نصل إلى استنتاج علمي، أو حين يعمد الطيار في الحرب إلى إلقاء القنابل على المدينة في ظلام الليل فيقتل الرجال والنساء والأطفال، وهو يبرر هذا بأن الوطنية تقتضيه وأن السلم سيتم في النهاية، وكثيرا ما نعمد نحن إلى التسويل في حياتنا العائلية، كما نفعل حين نضرب الأطفال بحجة تعليمهم، مع أن الضرب قد لا يعني في هذه الحال أكثر من تغليب عاطفة الغضب على تعقل الوجدان.
والضمير الحسي عام لا يخلو منه - بل لا يخلو تماما - إلا المجرم المجنون؛ أي: الذي نستطيع أن نعلل جريمته بالنيوروز أو السيكوز، ولكن الضمير العقلي قليل جدا، وهو يحتاج إلى الذات العليا التي ذكرناها؛ فإن أي واحد منا لو طلب إليه أن يقتل إنسانا لرفض، ولكنا لا نبالي قتل الجماهير في الهند، وعندما نقرأ هذا الخبر في الجرائد ننساه بسرعة؛ لأن ضميرنا في الحال الأولى يقوم على الحس، أما في الحال الثانية فيقوم على التصور بالعقل؛ ولذلك يمكن أن نقول: إن هناك الضمير الذكر الذي يتأثر ويتفرز للحوادث البعيدة الغائبة عن الحس، كما أن هناك الضمير البليد الذي لا يتحرك إلا عندما تتحرك الحواس.
المجتمع البشري
كان الناس في فجر البشرية يعيشون في مجتمع بيولوجي؛ أي: غايته سد الحاجات الأولى من طعام وأنثى ومأوى، ولا يزال بعض المجتمعات البشرية يعيش على هذا المستوى، كأولئك الذين يقطنون الغابات ولما يهتدوا إلى الزراعة، وأولئك القانعون بالصيد في بيئة نائية عن الحضارة، وفي مثل هذه المجتمعات يعيش الناس بلا تاريخ؛ أي: يعيشون على المستوى الجغرافي فقط، لم يصلوا إلى المستوى التاريخي، ولا تتجاوز معيشتهم الأعمال التكرارية اليومية، وليس عندهم مما يجمعون ما يمكن أن يتوافر حتى تختزن للجيل القادم، فهم من اليد إلى الفم في جميع حاجاتهم.
ولكن بعد الاهتداء إلى الزراعة وتوافر المحصولات شرع الإنسان ينتج أكثر من حاجاته، وعلى هذا نشأ الرق؛ لأنه ما دام الإنسان لا ينتج أكثر من طعامه فلا فائدة من استرقاقه؛ إذ ماذا نكسب منه؟
ولكنه حين يشرع في الإنتاج بحيث يؤدي عمله في الزراعة مثلا إلى توفير الطعام لشخص ونصف، حينئذ فقط، يصير الرق مفيدا؛ لأني عندئذ أستعبد شخصين وألزمهما العمل فينتجان طعامهما وطعامي، دون أن أحتاج أنا إلى مشقة العمل.
والآن نسأل: هل مذهب الرق نشأ قبل ممارسة الرق أم العكس هو الذي حدث؟ أي إن الناس مارسوا الرق ثم وضعوا نظامه ودافعوا عن مذهبه؟ نظن أن القارئ يسلم بالفرض الثاني؛ أي إن الأفكار تأتي بعد الحوادث، والتفسير السيكلوجي لهذا أننا حين نملك عبدا نحس عاطفة الاقتناء والتسلط، ومن العاطفة تنشأ العقيدة، وهي أن الرق نظام حسن.
وعلى هذا القياس نقول: إن الناس امتلكوا الأرض قبل أن ينشأ «مذهب» الامتلاك؛ فالأحوال المادية التي نمارسها في الوسط هي التي تقرر لنا عقائد؛ لأنها تحدث لنا مكاره ومحاب، ومن هذه العقائد تنشأ الأنظمة الاجتماعية.
وليس شك أن الأسس التي ينبني عليها المجتمع هي غرائز الفرد؛ فالرغبة في الجنس الآخر قد أحدثت أنظمة الزواج والعائلة والمواريث، إلخ، والرغبة في الطعام قد أحدثت أنظمة الصناعة والزراعة والتجارة.
والرغبة في الطمأنينة قد أحدثت أنظمة الحكومة والديانة.
والرغبة في التسلط (= الطمأنينة الإيجابية) قد أحدثت امتلاك الأرض واسترقاق الأفراد.
ولكن كل هذه الرغبات قائمة أيضا عند الإسكيماوي في القطب الشمالي وعند رجل الغابات، ولكن لم تنشأ منها عندهما عائلة أو صناعة أو تجارة أو حكومة أو ديانة؛ لأن الوسط المادي لا يتيح هذا التفكير لهما؛ إذ ماذا يستفيد الإسكيماوي مثلا من استرقاق رجل آخر يعرف أنه لن يصيد أكثر مما يكفيه؟ أو ماذا ينتفع من الحكومة وهو لا يخشى أحدا إذ ليس عنده شيء يسرق؟ أي: إنه بعد أن اجتمع الناس بالزراعة وبعد أن استعبدوا الأسرى شرعوا يسوغون امتلاك الأرض والرق بأنظمة نتوهم أنها هي الأصل؛ مع أنها هي الثمرة.
ونحن نعيش في مجتمعنا بعقائد أملت العواطف، ونحن نسوغ سلوكنا في المجتمع - سواء كنا نسير على قواعده أم نشذ - بتفسيرات أو حتى تخريجات لا تصطدم بعواطفنا، وسلوكنا الاجتماعي ينبني لهذا السبب على أسس عاطفية وليست وجدانية، وقليل منا - بل قليل جدا - من يحاولون النظر إلى نظم المجتمع بالوجدان؛ أي: هذا النظر الموضوعي المنطقي التعقلي الذي لا يستسلم للعاطفة.
وجميع عقائدنا عاطفية، حتى ولو كان لها أصل وجداني؛ فإن المسلم لا يحرم لحم الخنزير فقط، بل يشمئز منه؛ أي إن العقيدة عنده تستند إلى عاطفة، وكذلك كان الشأن عند آبائنا عندما طلب إليهم تحرير عبيدهم؛ فإن اقتناء العبيد أحدث عندهم عاطفة لذيذة هي الامتلاك والتسلط، وهذه العاطفة أحدثت عقيدة الرق وأنظمته.
والتفسير الاقتصادي للتاريخ أو النظر المادي للتاريخ هو نفسه وجداني لأنظمة المجتمع وتغيراته؛ ولذلك يكرهه بعض الناس أشد الكراهة؛ لأنهم يؤمنون بعقيدة الامتلاك التي أوجدتها - في زعمهم - «غريزة» الاقتناء والادخار.
ومن هنا الصعوبة الكبرى في تغيير الأنظمة الاجتماعية؛ لأن هذه الأنظمة قد أحدثت في نفوسنا عواطف، وهذه بعثت عقائد نكاد نظن أنها طبيعية، وهذا يفسر لنا كيف أن فيلسوفا عظيما مثل أرسطوطاليس لم يجد في الرق ما يستحق الانتقاد، بل إن الأنبياء أنفسهم لم يعترضوا على نظامه ولم يفكروا في الانتقاد.
وخلاصة القول أن البيئة المادية التي تحيط بنا تحدث لنا عواطف وعقائد نسلم فيها بطبيعتها ونكره ذلك الوجداني الذي يرفض العواطف ويحاول أن يغير ويبدل في الأنظمة، ومن هنا الاضطهاد أو على الأقل الكراهة للاشتراكيين والبشريين ودعاة ضبط التناسل ونحوهم؛ لأنهم يشذون على قواعد المجتمع التي يمارسها أفراده بقوة العواطف.
فنحن مثلا نلبس ملابسنا على الزي الذي يرسمه لنا المجتمع، ونتحمل المشاق في سبيل الخضوع لقواعده هنا، حتى إننا في أشد الأيام الحارة وأجسامنا ترشح العرق من جميع أجزاء البشرة نلبس ملابسنا الكاملة بلا نقص، بل نحن أيضا نأكل - كما يطالبنا المجتمع - على آنية يرسمها لنا بنظام يجب ألا نخالفه فيه، ونحن نساير المجتمع في كل ذلك بإيحاء المحاكاة فنحب ألا نخالف.
وليست هذه المحاكاة مقصورة على اللباس والطعام؛ لأن العقائد العامة نفسها تجري مجرى اللباس والطعام؛ بحيث إننا ننظر إلى الرجل الذي يشذ عن قواعد الدين نظرتنا إلى رجل يسير في الشارع بلا رباط رقبة أو يأكل البصل على المائدة كما يأكل التفاح؛ فالمجتمع يكسبنا - بإيحاء المحاكاة - أزياء في اللباس والطعام كما يكسبنا أزياء في الأخلاق والعادات، ونحن نشمئز من المخالفة هنا كما لو كنا نخالف غريزة طبيعية، والحق أن الغرائز الاجتماعية مثل اجتناب لحم الخنزير أو التبول جهرا أو تحدي العادات الاجتماعية، هذه «الغرائز» تؤلمنا مخالفتها كما تؤلمنا مخالفة الغرائز الطبيعية، بل إن هناك من يعجز عن التبول في المراحيض العامة، أو في الفراش حين يكون مريضا؛ لأنه منذ طفولته درب على اجتناب التبول إلا منفردا متسترا، فهنا تتغلب «الغريزة» الاجتماعية على الرجع الانعكاسي الطبيعي للبول، وقس على هذا كثيرا من سلوكنا الاجتماعي الذي نعتقد أنه طبيعي.
وليس هناك ما يدل على أن الإنسان من الحيوانات الاجتماعية؛ أي: التي ترث غريزة الاجتماع بفطرتها كما هي الحال في الخرفان والغزلان والجاموس؛ لأن أبناء عمومتنا - القردة العليا - لا تزال إلى الآن انفرادية عائلية أو حتى غير عائلية، ولكن نشأتنا الاجتماعية تحملنا على الأخذ بالمقاييس والقيم الاجتماعية والتأثر بالإيحاء الاجتماعي، حتى إننا نتألم لمخالفة المجتمع كما نتألم لكظم عاطفة طبيعية.
والآن يصح أن نسأل: ما هو المجتمع الحسن؟ (1)
هو ذلك المجتمع الذي يحاول أن يجعل الوجدان (بالنظر الموضوعي والمنطق) فوق العاطفة في إيجاد الأنظمة، ولكنه لا يهمل قيمة العواطف. (2)
وهو الذي يجعل الأنظمة الاجتماعية بحيث يقل الكظم في الأفراد إلى أقل مقدار، ولكن مع ذلك لا يصح أن يزول الكظم تماما؛ لأنه إذا كان خفيفا فإنه يعد قوة محركة. (3)
وهو الذي يلغي الأقليات بأن يعاملها بالسواء كالأكثرية بلا أدنى فرق. (4)
وهو الذي ينتظم بحيث تكون «للذات العليا» الوجدانية القيادة في التفكير للذات الاجتماعية والذات البيولوجية (الحيوانية) عند الأفراد. (5)
وهو الذي يحاول جهد المستطاع أن يعالج الأخلاق والاقتصاد والسياسة بالروح العلمي الموضوعي (الوجداني) الذي نعالج به الإنتاج الصناعي أو الزراعي أو المخترعات في القطر المتمدن، وكما أن الاختراع لا يرتقي بالتزام التقاليد، كذلك الأخلاق والاجتماع لا يرتقيان بالتزام التقاليد. (6)
وهو الذي يجعل التعاون يأخذ مكان المباراة في أسلوب الكسب والعيش، حتى يقل الكظم من التحاسد والغيرة والمطامع. (7)
ولكنه - مع أنه يجعل مصلحة المجتمع هي العليا - لا ينسى أن غاية المجتمع الأمثل في النهاية هي إيجاد الشخصية المثلى للفرد. (8)
وبكلمة عامة نقول: إن المجتمع الأمثل هو الذي يجعل الذكاء الوجداني الموضوعي التعقلي فوق العواطف الذاتية؛ لأن الذكاء ارتقائي يطلب التغيير، أما العاطفة فراسخة جامدة.
العائلة البشرية
إذا كان مجتمعنا هو ثمرة العوامل الاقتصادية التي جمعت أفراده برعاية الماشية أولا، ثم بالزراعة والصناعة وبناء المدن والقرى ثانيا؛ فإن العائلة تعود إلى أصل طبيعي؛ أي: لو لم نكن نعيش في مجتمع لعشنا في عائلة كما يفعل إلى الآن ذكر الغوريلا مع أنثاه وأولاده، ذلك أن العائلة تعود إلى الرغبة الجنسية أي: العلاقة الفسيولوجية التي تحمل أحد الجنسين على طلب الآخر، ثم وجود الأولاد والتصاقهم بأمهم، والمجتمع البشري هو في النهاية ثمرة هذا المجتمع العائلي؛ أي إن الأولاد الذين يرتبطون بالأم، أو الأم والأب معا، يبقون على هذا الارتباط حتى بعد وفاة أبويهم، ولكن هنا نجد البذرة فقط، أما شجرة المجتمع فنمت بعد ذلك بالعوامل الاقتصادية حين احتاج الإنسان إلى الاجتماع للصيد، ثم إلى الاحتماء من الضواري التي كانت تفترس ماشيته مدة الرعاية، ثم احتاج بعد ذلك إلى الاحتماء من الغاصبين مدة الزراعة.
وفي مجتمعنا الحاضر تعد العائلة أساس المجتمع؛ لأنها تغرس فينا عواطف وتعين لنا اتجاهات مختلفة حين نكون في سن نتقبل فيها هذه العواطف والاتجاهات بلا معارضة؛ لأن العقل الوجداني لم يكن قد اكتمل نموه، وللعائلة أثر في الأولاد وفي الأم وفي الأب.
ولكن يجب أن نوضح هنا أن كلمة عائلة في مجتمعنا من الكلمات المسيبة المائعة.
فالرجل مع زوجته وأولاده يكونون عائلة.
والرجل مع زوجته وأولاده وأمه يكونون عائلة.
والرجل المطلق من زوجة سابقة مع زوجة أخرى وأولادها يكونون عائلة.
والمرأة المطلقة من زوج سابق مع رجل آخر وأولاده يكونون عائلة.
والأرملة مع أولادها تكون عائلة.
والأرملة التي تزوجت بعد وفاة زوجها مع أولادها منه تكون عائلة، إلخ، إلخ.
وهذا الاختلاف في تكوين العائلة يؤدي إلى اختلاف في عواطف الأطفال واتجاهاتهم في الحياة، ومن حق كل طفل أن يكون له أبوان يجد فيهما الطمأنينة قبل كل شيء.
فإذا وقع الطلاق أو إذا كان الزواج حافلا بالشجار بين الزوجين تزعزعت هذه الطمأنينة عند الطفل وعاش سائر حياته بنفس مكوية ، وقد يبرأ من هذا الكي أو لا يبرأ؛ لأن هذا المسكين الذي نشأ في الجو العائلي المزعزع المضطرب تمتلئ نفسه وساوس من المجتمع فيخافه، ثم يدفع عن نفسه هذا الخوف بالانعزال أو العدوان.
من حق كل طفل أن يكون له أبوان، ومن واجب كل زوج أن يرتبط بالزواج على ما فيه من مصاعب لأجل أولاده، أما الفرقة بالطلاق أو بلا طلاق فيجب أن تكون آخر ما يلجأ إليه أحد الزوجين.
وأثر العائلة السيكلوجي في الأولاد كبير جدا؛ لأن الطفل يأخذ أوزانه وقيمه الاجتماعية من عائلته؛ أي: أبويه وإخوته والضيوف، ومن اللغة التي تستعمل والسلوك الاجتماعي لكل فرد داخل البيت؛ فإذا وجد الطفل أباه مجرما فإن من أشق المشقات ألا يكون هو مجرما.
والسعادة العائلية للأطفال تبعث الطمأنينة في نفوسهم بعد ذلك، حتى إذا مات أبواهم بقيت هذه الطمأنينة، وقد وجد عند إجلاء الأطفال عن لندن مدة الغارات في الحرب الكوكبية الأخيرة أن الذين سبق أن سعدوا منهم بوسط عائلي حسن تحملوا الغربة أكثر مما تحملها الذين لم يسعدوا بمثل هذا الوسط؛ وذلك لأن الوسط العائلي الحسن بعث الطمأنينة في الأطفال فواجهوا الغربة مطمئنين، ولكن الوسط العائلي القلق جعل الأطفال الذين نشئوا فيه يزدادون قلقا بالغربة، وإذا أعطينا للطفل مدة الطفولة في العائلة الصداقة والحب والطمأنينة أعطى هو مثل ذلك للمجتمع، وإذا أعطيناه الشجار من أبويه أو الاضطهاد من زوجة أبيه أو زوج أمه نشأ مقلقلا يخاف المجتمع ويعاديه.
وقد يفسد الطفل لأن أمه دللته وحمته أكثر مما يجب، فينشأ وهو يحس الحاجة إلى من يحميه ويجهل الاستقلال، ويطالب المجتمع بأن يدلله أيضا، والمجتمع بالطبع يرفض هذا التدليل، فتكون النتيجة أنه يحس أنه مظلوم، وقد يحمله هذا الإحساس على الإجرام أو الاعتزال.
وكذلك قد يفسد الطفل لأنه مضطهد؛ إما لأن زوجة أبيه تؤثر أبناءها عليه، وإما لأن أمه لا تحبه كما تحب إخوته، وهذا الاضطهاد العائلي يحمله بعد ذلك على كراهة الناس والتوجس منهم، وتلك الحيل التي كان يمارسها وهو طفل كي يحصل على حقه في وسط غير ودي تحيا معه، فيعامل بها المجتمع فيسيء إليه ويساء إليه، ولهذا السبب نجد أنه من حق كل طفل: (1)
أن يكون له أبوان صديقان. (2)
وألا يجد بينهما شجارا أو انفصالا. (3)
وأن يكون كل منهما شخصا فاضلا. (4)
وألا يجد منهما أو من أحدهما تدليلا أو اضطهادا.
وهذه بالطبع هي الحال المثلى التي قلما نبلغها، ولكن يجب أن ننشدها حتى يهنأ الأطفال بطفولتهم، وحتى ينشئوا مطمئنين إلى المجتمع.
وهناك أثر سيكلوجي للعائلة في الزوج؛ أي: الأب، هو تكبير شخصيته بالمسئولية العائلية وحمله على اهتمامات اجتماعية وأخلاقية ما كان ليليها لولا الارتباط العائلي؛ فإن مسئوليته لزوجته وأولاده تحمله على الاستقامة والشرف والحذر والأمانة، وقل أن تجد زوجا له أولاد يفكر في الانتحار، وقليل من الأزواج من يميل إلى الإجرام.
وكذلك هناك أثر سيكلوجي للعائلة في الزوجة؛ أي: الأم؛ لأنها تجد الكرامة الاجتماعية بالزواج، وتكبر شخصيتها بتربية الأولاد وتحمل المسئوليات لهم، وهم - قبل كل شيء - منفذ عاطفي لها، كثيرا ما نعرف قيمته في أولئك العوانس اللاتي يشكون نيوروزا لانسداد عاطفة الأمومة عندهن لأنهن لم يتزوجن.
والمجتمع الحسن هو ذلك الذي ييسر تكوين العائلات وتربية الأطفال في بيوت جميلة مزودة بوسائل الراحة حتى لا يتشتت أعضاء البيت، ومناخنا في مصر بحره لا يجمع أعضاء العائلة كما يجمعهم الجو الأوروبي البارد حول المدفأة للاصطلاء؛ فإن هذه المدفأة وسيلة للاجتماع العائلي الذي لا نعرفه في مصر.
وفي أوروبا تبنى المنازل الحسنة الرخيصة للعائلات، كما يربى الأطفال بالمجان، ونظام الضرائب يتيح للعائلة المتوسطة أن تعيش في رفاهية، بل يتيح ذلك أيضا لعائلات العمال، وكل ذلك تشجيعا لتكوين العائلة التي تعد نواة المجتمع، وليس الطلاق مباحا للزوجين إلا بعد الاقتناع التام بأن اشتراكهما في المعيشة قد أصبح محالا، وأن انفصالهما خير للأطفال من بقائهما، والطلاق في مصر هو الكارثة التي يجني الأطفال ثمرتها المرة في فوضى حياتهم.
ومن أحسن ما قامت به روسيا لتوثيق الرباط الزوجي لمصلحة الأطفال؛ أنها جعلت كل ما يقتنيه أحد الزوجين بعد الزواج ملكا لهما دون أحدهما، وهذا الاشتراك في الملك يثبطهما عن الانفصال والطلاق، وواضح أنه لا يجوز في روسيا امتلاك العقارات التي تحتاج لاستغلالها إلى عمال.
والآن اعتبر الأمثلة التالية وتأثيرها السيكلوجي في الزوجين والأطفال: (1)
أرملة تربي أولادها الذين ينشئون معها، فلا يعرفون الضيافة وواجباتها؛ لأن الزائرين (دون الزائرات) قليلون أو معدومون؛ فالأولاد ينشئون انفراديين منعزلين، يخشون المجتمعات ولا يحسنون الكياسة الاجتماعية. (2)
زوج أتوقراطي يعتقد أنه لا يحق للزوجة أن يكون لها رأي، فينشأ الأولاد نشأة غير ديمقراطية، وهذا كثير في مصر معدوم في أوروبا؛ حيث الزوجان زميلان ليس أحدهما رئيسا على الآخر. (3)
الأم المحجبة التي تخشى الغرباء وتتجنب فتح الباب، فينشأ أبناؤها بالقدوة وهم يخافون الغرباء. (4)
الزوجة التي عملت وكسبت قبل الزواج، وأدى مراسها للعمل والكسب إلى زيادة وجدانها بالمجتمع وحرصها على مصلحة زوجها في عمله، وأثر هذا في تربية الأولاد. (5)
الزوجة التي لم تتعلم شيئا لا من أبويها ولا من زوجها، فلما مات الزوج انهارت، وأصبحت كالمعدومة، فصار الأولاد يتامى من الأب والأم معا.
نحتاج إلى كلمات موجزة عن موقف العائلة من المجتمع: (1)
ذلك أن الفرد، حين ينتقل من العزوبة إلى الزواج يحقق ارتقاء وانحطاطا اجتماعيين، فأما الارتقاء فلأن «واحديته» وأنانيته تنبسطان إلى «ثنائية» وغيرية، فهو يعنى بزوجته وأولاده، وقد كان قبلا يعنى بنفسه فقط، وتبعاته العائلية تحمله على ترقية نفسه وانتظامه في الحياة. (2)
ولكن العائلة تعارض المجتمع من حيث إن أعضاءها يتجمعون كتلة تكاد تكون منفصلة عن المجتمع لها أنانية خاصة، والزوج يجد أنه عقب الزواج قد نقصت اتصالاته الاجتماعية؛ أي إن الإحساس الاجتماعي يتعارض مع الإحساس العائلي، وكثيرا ما نجد لهذا السبب أزواجا لا يعرفون العواطف الاجتماعية السخية كالوطنية وحقوق الجمهور ونشر التعليم وتعميم الصحة؛ لأنهم محدودون بالعواطف العائلية الضنينة؛ أي: «أنا وعائلتي فقط». (3)
التوسع الاجتماعي في نشاط الزوجة يؤدي إلى تفكك عائلي، كما أن التماسك العائلي يؤدي إلى تفكك اجتماعي. (4)
عندما عملت المرأة الأمريكية وكسبت وارتزقت تقهقرت العائلة، كما يتضح من كثرة الطلاق وتأخر السن للزواج، ولكن هذا التفكك العائلي قد رافقه تماسك اجتماعي أو وجدان اجتماعي جديد. (5)
بما أن أعمال البيت قد صارت آلية؛ أي: تقوم بها الآلات في البيوت الأمريكية وبعض الأوروبية، قلت الروابط التي تربط الزوجة بالبيت، وزادت الروابط التي تربطها بالمجتمع. (6)
الطوالع السيكلوجية الحاضرة تدل على أننا نسير نحو التوسع الاجتماعي والتضيق العائلي؛ ذلك لأن المرأة تتعلم كالرجل وتتكسب مثله وتحترف، وقد صارت لها كرامة اجتماعية تعنى بها وترعاها إلى جنب كرامتها العائلية، بل هي أحيانا - مثل الرجل - تضحي بمركزها العائلي لأجل مركزها الاجتماعي، فلا ترضى مثلا بأن تترك حرفتها كي تتزوج، ثم هي إذا تزوجت كان اتجاهها خارجيا اجتماعيا وليس منزليا داخليا.
وهذا الاتجاه يزيد بزيادة الحضارة الصناعية، ونحن هنا نقرر الحقائق فقط كما نرى أماراتها.
التطور الاجتماعي للشخصية
غاية المجتمع الأمثل هو إيجاد الفرد الأمثل؛ أي: الفرد الذي يمتاز بالشخصية المثلى؛ ولذلك نحتاج إلى أن ننظر في الأطوار التي ترتقي إليها أو تتغير فيها الشخصية التي هي جماع النمو النفسي والذهني والجسمي.
تمر الشخصية في عشرة أطوار يتداخل بعضها في بعض، وهي تبلغ إيناعها قبيل الخمسين وتستقر على ذلك إلى الشيخوخة. (1)
فمن الميلاد إلى إتمام سنتين ينحصر النشاط في طلب الطعام والرفاهية. (2)
ومن سن سنتين إلى خمس سنوات يواجه الطفل أخطار المشي والمصادمات، فينشد الاحتماء. (3)
ومن سن 3 سنوات إلى 7 يشرع الطفل في التحفظ وضبط عواطفه. (4)
ومن سن 5 سنوات إلى 13 سنة يتفتح ذكاؤه فيتكلم ويفكر ويحتال. (5)
ومن سن 7 سنوات إلى 15 سنة ينافس ويغار. (6)
ومن سن 13 سنة إلى 30 سنة يلتفت إلى الجنس الآخر. (7)
ومن سن 15 سنة إلى 30 سنة يفكر في كسب العيش. (8)
ومن سن 30 سنة إلى 40 سنة تبرز فيه الرغبة في النمو والطموح. (9)
ومن سن 40 سنة إلى 50 سنة تنتظم له قيم ومقاييس روحية واجتماعية. (10)
ومن سن 50 إلى 70 ترسخ هذه القيم والمقاييس فيكره التغير.
ونعني أنه في هذه الفترات من العمر تبرز صفات كل فترة أكثر من غيرها من الصفات التي قد تضعف ولكنها لا تزال موجودة؛ فالالتفات إلى الجنس الآخر (رقم 6) قد يبقى إلى سن الستين أو بعد ذلك، ولكنه يبرز ويطغى على الشخصية فيما بين سن 13 و20 سنة.
وعندما نتأمل هذه الانتقالات والتغيرات نعرف أن كلا منا يمتاز بشخصية متطورة، وأن أحدنا في سن الثلاثين قد يكون شخصا آخر في سن الخمسين.
والشخصية تتكون بالمجتمع، والإنسان بلا مجتمع حيوان بيولوجي لا يختلف عن الحيوان إلا من حيث الذكاء الفطري، وهذا الذكاء الفطري لا قيمة له ما دام الإنسان منفردا؛ إذ هو يبقى خاما أخضر غشيما حتى يعتمله المجتمع ويقومه ويوجهه، وحتى تنبهه كلمات اللغة وتوجهه.
وفي حياتنا الاجتماعية تمر بنا ظروف تقرر لنا شخصيتنا، حتى كأنها قد صبغت في قالب أو جملة قوالب عينت لها الكم والكيف، وصحيح أنه عندما نقترب من سن العشرين يشرع كل منا في تكوين شخصيته بوجدانه، وقد ينجح في بناء نفسه وتصحيح الأخطاء السابقة وتعيين الأهداف الحسنة التي يتجه إليها، ولكن هذا الوجدان يتوقف على ظروف كثيرة مؤاتية أو معاكسة، ونحن نجمل هذه الظروف فيما يلي: (1)
عند الميلاد يتقرر ذكاؤنا من حيث المقدار، كما يتقرر مزاجنا من حيث الاتجاه، فقد يولد أحدنا ذكيا أو بليدا أو متوسطا، وقد يتقرر له منذ ميلاده عمر طويل أم قصير، وصحته قوية أم ضعيفة، ثم هو يولد بعاهة تحدث له مركب نقص، أو قد يولد سويا، ثم هو قد يولد انبساطيا اجتماعيا أو انطوائيا انعزاليا.
ولكل من هذه الحالات أثر في الشخصية. (2)
ثم هناك التربية التي نحصل عليها في البيت منذ الميلاد؛ فإنه يتوقف شيء كبير من الأخلاق على الرضاع؛ هل هو بمواعيد يتعلم منها الطفل ضبط نفسه، أم هو يجري اعتباطا، فينشأ هو بعد ذلك نزويا عاطفيا لا يضبط نفسه، ثم هو يتأثر تأثرا مختلفا إذا كان قد دلل أو اضطهد أو عومل بالإنصاف، ومركب أوديب (صورة أمه في نفسه) سيؤثر في علاقاته الجنسية المستقبلة، ثم معاملة أبويه أحدهما للآخر، ثم مكانه بين إخوته هل هو الأكبر أم الأصغر؟ وهل عاش مع بنات أو أولاد ، وهل كانت أمه مع أبيه أم مطلقة منفصلة ، ففي كل هذه الحالات تتأثر الشخصية وتنمو في قالب معين. (3)
ومن هذه الظروف التي تقرر شخصيتنا أيضا ظرف المراهقة، حين تلتهب العاطفة الجنسية وتغمر كياننا، فبعضنا يقضي هذه الفترة في يسر؛ يختلط بالفتيات ويجتاز مراهقته وهو سوي سليم، وبعضنا يقضيها في عسر وضنك فيعجز عن التصرف السليم ويقع في العادة السرية ويسرف فيها ويخرج منها مثخنا، وقد يحدث في هذه الفترة شذوذ سيئ. (4)
ثم هناك المدرسة وما تحدث من مزاملة أو مزاحمة، وما يصيب الصبي ثم الشاب من نجاح أو فشل؛ فإن لكل هذا أثره الحسن أو السيئ في الشخصية. (5)
ثم هناك الزواج، وهل كان موفقا قام على الحب والاحترام، أم اتضح أنه غلطة، وأن قصارى ما يرجى منه تسوية، وهل هو بلا أولاد أو بأولاد، وهل الزوجان في خلاف وعربدة أم في وفاق وزمالة؟ فلكل هذا أيضا أثره في الشخصية. (6)
وأخيرا هناك سنتان أو ثلاث سنوات تقع عند المرأة عند الثامنة والأربعين أو حواليها، وعند الرجل في الثامنة والخمسين أو حواليها، ونعني بها الركود أو الضعف الجنسي، وهي الوقت الذي نسميه خطأ بسن اليأس، وفي هذه التسمية أثر سيكلوجي سيئ في المرأة؛ لأن هذه السن هي سن الحكمة وليست سن اليأس، وهذا الانتقال من الشباب إلى الشيخوخة كثيرا ما يؤذي الشخصية، بل أحيانا تكون أخطاره عظيمة - وخاصة عند المرأة.
وكلنا يعرف أمارات الشخصية السيئة في الفتاة الصامتة السمينة التي لا تعرف الرشاقة، بل تعتمد على جمال تمثالي، أو في ذلك الشاب البارد الذي يسكت طويلا وينطق سخيفا، ونعرف ذلك «البارد» الذي نتجنبه ونتوقى لقاءه؛ لأننا نحس جموده كأنه قد صيغ من خشب إذا لطمناه لم يرن.
وللشخصية أساس من بناء الجسم، وخاصة من الغدد الصماء التي تقرر المزاج والقوام والنحافة والقد، إلخ، فنحن نستظرف القد النحيف والتقاسيم المتناسبة، ونستثقل الجسم المتكتل الذي يسعى وكأنه يسير القرفصاء، ولكن 90 في المائة من الشخصية نفسي وليس جسميا، والظرف والرشاقة والبشر والخفة والروح من صفات النفس، وهي ثمرة المجتمع أكثر مما هي من صفات الجسم، أو ثمرة الغدد، ولو كانت الشخصية من صفات الجسم فقط لكان من العبث الكلام عنها والبحث عن ترقيتها، وأنا أرجو القارئ الذي يبغي التوسع في هذا الموضوع أن يقرأ كتابي: «الشخصية الناجعة» و«محاولات سيكلوجية».
وإني ألخص هنا الشروط التي يجب أن تتوافر لإيجاد الشخصية المثلى: (1)
أن يكون للإنسان اهتمامات متعددة تشغل ذهنه ونفسه وتزيد صلاته بالمجتمع، فيجب أن تكون له حرفة يحسنها، يكسب منها العيش ويكسب الكرامة الاجتماعية، ويجب أن تكون له هواية يقضي فيها فراغه، ونعني هواية يرتقي بها ويستغل بها الوقت، لا أن يقتله. ثم يجب أن تكون له اهتمامات اجتماعية في عمل البر أو الاشتغال بالسياسة أو الدفاع عن مبدأ أو نحو ذلك، وهذه الاهتمامات هي شرط أساسي للسعادة الفردية وللطيبة الاجتماعية. (2)
ويجب أن يؤثر الحياة الزوجية على العزوبة؛ لأن مسئوليات العائلة والزواج تربي شخصيته؛ فالمسئولية هي فيتامين الشخصية. (3)
يجب أن يمرن نفسه على تغليب وجدانه بالمنطق والنظر الموضوعي على عواطفه، ويتجنب النظر الذاتي في المشكلات. (4)
يجب أن ينشد فلسفة صالحة ويستقر عليها. (5)
يجب أن يجعل المستقبل جزءا من الحاضر، ولكن يجب أيضا ألا يضحي بالحاضر من أجل المستقبل.
وبالطبع هناك الشخصية المريضة التي لم نذكرها؛ لأننا خصصنا لها فصولا أخرى.
مرض النفس هو مرض المجتمع
المجتمع المريض يبعث الأمراض في نفوس أفراده، وأمراضنا النفسية جميعها من السيكوبائية البسيطة كإدمان الخمر أو التشرد أو الزيغ الجنسي، إلى النيوروز حين تحتد العواطف وتلتهب حتى لا تطاق، وقد تبعث على الانتحار، إلى السيكوز حين يختل العقل ولا يرى الأشياء على حقائقها الموضوعية، جميع هذه الأمراض تعود إلى مجتمع مريض.
ذلك أننا نعيش في مجتمع اقتنائي يدعو إلى تنازع البقاء ويبعث الخوف والقلق من المستقبل، ويجعل التفوق أو التخلف ثمرة للمباراة، فهو مجتمع اقتنائي تحاسدي تنازعي، وفي كل فرد خوف من المستقبل لهذا السبب، وجميع أفراده في مباراة تملأهم شكوكا وشبهات يخافون الفقر ولا يجدون الطمأنينة، حتى الصبي في المدرسة يطالب بالمباراة والتفوق في الامتحانات.
فليتأمل القارئ ما يتفرغ من معنى المباراة ومعنى التفوق هنا في نفس الصبي؛ فإنه يخشى هذه المباراة وتمتلئ نفسه شكوكا عن الفشل في المستقبل، وهو يغار من المتفوقين ويكرههم، وهو يحسد ويلعن، ثم هذه الرغبة في التفوق تحمله على البغض والكراهية لغيره وحب السبق لنفسه، وجميع هذه العواطف كريهة تبقيه في قلق؛ فإذا ترك المدرسة وجد هذه الصفات أيضا في المجتمع في صورة أوضح، بل أبشع؛ لأنه ينتهي إلى أن يقيس ويزن بهذا الاعتبار التالي: «يجب أن أسبقك وأتفوق عليك، وأيضا أكرهك إذا سبقتني وتفوقت علي، وأنا أخشى الفشل؛ ولذلك أنا قلق خائف غير مطمئن إلى الدنيا.» ومثل هذه الحال تجعلنا جميعا مرضى، وهذا هو الواقع الآن، وإنما فقط تتفاوت في درجة المرض؛ أي: في درجة القلق والهم والخوف والشك.
وهذه الصفات تلصق بنا وتعود عواطف نعتقد أحيانا أنها طبيعية؛ فالزوج يعامل زوجته بروح الاقتناء، يريد أن يأخذ ولا يعطي، بل هو يفعل ذلك حتى في المواقف الجنسية الحميمة بينه وبينها، والخوف المستقر في نفوسنا من الفشل في هذه المباراة لأجل الاقتناء، اقتناء المال والوجاهة إلخ، هذا الخوف يحملنا على أن نتسلح بالتسلط والتجبر؛ لأنهما يوهماننا البعد عن الخوف. وهذا إلى مطامع خيالية بشأن الثراء والوجاهة والقوة، تتغلغل في نفوسنا وتحملنا على بذل مجهودات مضنية تفتت صحتنا الجسمية والنفسية.
وكل ما نؤمن به من عقائد، وكل ما ينبعث في نفوسنا من عواطف، نتيجة لهذه العقائد، إنما نأخذه من المجتمع الذي نعيش فيه؛ فالحسد والغيرة والخوف والقلق، والرغبة في التسلط (الاستبداد) والشك، كل هذا يعود كما لو كان عواطف طبيعية في نفوسنا، مع أنها أمراض نفسية نشأت عندنا من المباراة والاقتناء في المجتمع.
ولذلك نجد أن أعظم الأمم إيمانا بمذهب الاقتناء وممارسة للمباراة هن أيضا أعظمهن في الأمراض النفسية، وهذه الأمة هي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يزيد عدد الأسرة للأمراض النفسية في مستشفياتها على عددها للأمراض الجسمية؛ مباراة وتنازع وتحاسد وغيرة وخوف وقلق، تؤدي إلى انهيار في الأعصاب واختلال العواطف، ثم إلى انهيار واختلال في العقل.
وأمراضنا النفسية هي في النهاية عجز الفرد عن أن يعيش في المجتمع على أساليبه وأخلاقه وأهدافه، وجميع مشكلاتنا النفسية هي - لهذا السبب - مشكلات اجتماعية، ومما له دلالة كبيرة هنا أن المدارس الجديدة في الولايات المتحدة تمنع المكافآت والامتحانات، وتحمل التلاميذ على التعاون بدلا من المباراة، وتجعلهم يحلون مشكلة عامة متعاونين؛ وذلك لأنها عرفت ما تحدثه المباراة في نفوسهم من قلق وخوف، وما تبعثه فيهم من عواطف كريهة كالتحاسد والتباغض، ولكن ماذا يجدي التعاون في المدرسة إذا كان هؤلاء المساكين سيخرجون إلى مجتمع كله مباراة وممارسة للاقتناء، بل ممارسة للخطف وتنازع بقاء؟ «ولأم المخطئ الهبل» - كما يقول الشاعر العربي - أو للمتخلف الانتحار.
ولسنا قادرين على أن نغير هذا المجتمع التحاسدي إلى مجتمع تعاوني؛ أي: نغير أسلوب العيش من المباراة إلى التعاون؛ ولذلك ستبقى معنا الأمراض النفسية ما دام مجتمعنا قائما على أسلوبه هذا، وقصارى ما نستطيع أن نفعله أن نعالج حالة فردية بعد أخرى، ونحاول أن نرد المريض إلى وجدانه؛ أي: إلى التعقل، وبكلمة أخرى: نحاول أن نبين له أنه يجب عليه ألا يتطوح في الأخذ بأسلوب هذا المجتمع حتى يمرض ويجن.
وإلى أن يتغير مجتمعنا من المباراة والاقتناء إلى التعاون والاشتراك فإننا سنبقى مرضى، نهرب من عواطف القلق بالخمر، ونفر من الفشل بالانتحار، ونجهد الجسم والنفس في مجهودات لتحقيق مطامع خيالية، ونلجأ إلى المارستان كي نعيش في أحلام الغيبوبة؛ لأننا لا نطيق الواقع بكل ما فيه من مصاعب. (1)
اعتبر أيها القارئ موظفا في الدرجة السابعة في الحكومة، يتحكم فيه الرئيس ويتعنت، ويهدده من وقت لآخر بالغرامة وبمجلس التأديب، ويتربص به الأخطاء كي يوقع به، ففي هذه الحال يقلق هذا الموظف ويخشى فصله من الوظيفة، وهو يجسد أربعة أو خمسة أطفال مع أمهم عليه أن يعولهم، والقلق يحدث له أعراضا جسيمة مثل لغط القلب أو زيادة الضغط الدموي، أو اضطرابا معويا من إمساك إلى إسهال. (2)
واعتبر آخر يعمل في بورصة الأوراق، وهو بين ساعة وأخرى يرتفع سرورا أو ينخفض اغتماما لتقلب الأسعار. (3)
ثم آخر - فتاة مثلا - تخشى أن تفوتها سن الزواج، لأن الخاطبين يطلبون فتاة ثرية وهي فقيرة. (4)
ثم آخر، قد نكبه الزمن بزوجة مسرفة، فهو مهما جد لا يستطيع أن يسدد مطالبها، وهي دائمة التقريع له على تخلفه، تضرب له الأمثال عن غيره الذين ينجحون ويقتنون لزوجاتهم إلخ.
ففي كل هذه الحالات نجد أمراضا نفسية تعود إلى المجتمع الذي نعيش فيه، هذا المجتمع الذي يطالبنا بالمباراة، ولا يؤمننا من الفاقة والمرض.
العاطفة والوجدان
نستطيع بعد أن بلغنا هذه المرحلة من الكتاب أن نعود إلى هذا الموضوع بزيادة في التوسع.
فنحن البشر نواجه هذه الدنيا بثلاثة رجوع تؤدي إلى التفاهم بيننا وبين الوسط: (1)
الرجع الانعكاسي: كالضوء يفاجئني بعد الظلام فأغمض عيني، أو النار تلامس يدي فأجذبها، فهنا رجع يحملني على تصرف معين هو الإحجام أو الهرب، كما أني أرى الطعام وأنا جائع فيجري لعابي، فهنا استجابة تحملني على الاقتراب والأكل.
وهذا الرجع قد يكون مباشرا أو معدولا؛ أي: مكيفا، قد نقل من أصله إلى شيء آخر يتصل بالأصل، ونحن في هذا الرجع المباشر نشترك مع أحط الحيوانات كالإسفنج، ولكننا نمتاز بأننا - وبعض الحيوانات العليا - نستطيع نقله من أصله كالجرس يدق فيجري لعاب الكلب لأنه تعود وضع الطعام له مع دق الجرس، فصار الدق وحده يجري لعابه ويذكره بالطعام.
وهناك السيكلوجيين، مثل بافلوف وواطسون، من يقول: إن كل نشاطنا الذهني (النفسي) هو رجوع معدولة؛ أي: مكيفة، ولكن هذا القول يعني في النهاية أن كل تفكيرنا إنما هو ذاكرة لا أكثر. (2)
ثم هناك الرجل العاطفي حين اشمئز من منظر يغثي النفس في الشارع، وهناك الاستجابة العاطفية حين أدخل الدار السينمائية وألتذ برؤية الاقتحامات والأشخاص.
وقد يقال هنا: إن العاطفة هي الرجع الانعكاسي، ولكن قليلا من التأمل يبين أن الرجع الانعكاسي مفاجئ سريع زائل كطرفة العين عند وقوع القذى بها، ولكن العاطفة بطيئة مثابرة كما يحدث حين أرى فتاة جميلة أتأملها ثم أذكرها بعد رؤيتها بيوم أو بشهر.
وليس شك مع ذلك في أن أساس الرجع العاطفي هو الرجع الانعكاسي، ولكني في الرجع الانعكاسي أتحرك بسرعة، وأفر أو أقبل فلا أفكر، ولكني في الرجع العاطفي أتريث، وفي تريثي أجد الفرصة للرؤية والتفكير.
وصحيح أننا عندما نتأمل حيوانا حتى من الحيوانات العليا يواجه أنثى لا نعرف هل هو يستجيب إليها استجابة انعكاسية أو عاطفية، وحياتنا الحضارية قد أفسدت علينا هذا التمييز؛ لأن رجوعنا العاطفية والانعكاسية قد صارت بالحضارة معدولة، أي: مكيفة؛ أي: صارت مركبات، ولكن يجوز لنا أن نقول - دون أن نبتعد كثيرا عن الحقيقة: إنه كلما انحط الحيوان صارت مواجهته للدنيا انعكاسية؛ فإذا ارتقى صارت هذه المواجهة عاطفية تتيح ببطئها ومثابرتها شيئا من التفكير.
والمقارنة هنا تشبه المقارنة في شأن الذاكرة؛ فإن لنا ذاكرة بدائية نحس بها حين نتأمل مصباحا مشتعلا ثم نغمض العين، فتبقى صورته مائلة لا نندثر إلا بعد دقيقة أو نصف دقيقة، وواضح أن ذاكرة كثير من الحيوانات لا تزال في الغالب باقية على هذا المستوى أو تزيد قليلا، ولكن ذاكرتنا نحن قد تجاوزت هذا المستوى إلى أني أستطيع أن أدرس العلوم والفنون، وأذكر حادثا مضى عليه أربعون أو خمسون سنة.
فالذاكرة البشرية - على مثابرتها السنين الطويلة - تعود مثلا إلى الذاكرة الضفدعية أو السمكية على زوالها بعد دقيقة، وكذلك الرجع العاطفي في الإنسان يعود مثلا إلى الرجع الانعكاسي في السمك.
أجل. إن الأصل واحد، وما زلنا نتلمس هذا الأصل فنجده، ولكن ما أعظم الفرق! ثم هذا الفرق لم يعد كميا فقط، بل صار نوعيا؛ لأن الانتقال من الرجع الانعكاسي السريع الزائل إلى الرجع العاطفي المثابر الباقي قد أتاح التفكير. (3)
ثم نحن البشر نواجه الدنيا بشيء ثالث؛ ليس هو الرجع الانعكاسي، وليس هو الرجع العاطفي، بل هو الوجدان.
وهنا يثب علينا بافلوف وواطسون ويقولان: ما هو الوجدان؟ أليس هو جملة رجوع انعكاسية معدولة؟ ألغوا هذه الكلمة «وجدان»؛ لأننا ليس عندنا ما نواجه به الدنيا سوى الرجوع الانعكاسية.
ولكن هل نستطيع إلغاءها ؟
إني أؤلف هذا الكتاب الذي تقرأه بوجدان اجتماعي ثقافي، وأستطيع أن أحلل البواعث التي وصلت بي إلى مقعدي هنا أمام مكتبي، وأقف على الرجوع الانعكاسية أو العاطفية المعدولة؛ أي: المكيفة التي بعثتني على التأليف، ولكن ماذا في هذا؟
إن القول بأن وجداني هو مجموعة من الرجوع الانعكاسية، كالقول تماما بأني لست مؤلفا من لحم وشحم ودم وعظم، إنما أنا مؤلف من كربون وهيدروجين وأوكسجين وحديد وفسفور وصوديوم، إلخ.
إن الماء مؤلف من هيدروجين وأكسجين، ولكن خصائص الماء ليست خصائص هذين العنصرين، ونحن هنا لسنا إزاء إضافة وجمع يساويان كما، وإنما نحن إزاء إضافة وجمع يساويان كيفا؛ أي: انبجاسا جديدا لم يكن للحي به عهد من قبل.
في الأصل رجوع انعكاسية موضعية لا تتيح التفكير لسرعة زوالها.
ثم رجوع انعكاسية قد صارت عواطف عامة بطيئة مثابرة فأتاحت التفكير وهذا انبجاس جديد، وهو تفكير ذاتي انفعالي ولكنه تفكير نشترك نحن والحيوان فيه.
ثم عواطف مباشرة أو معدولة قد تجمعت في الإنسان، فلم يكن حاصل تجمعها زيادة الكم، بل كانت انبجاسا جديدا في الكيف فأحدثت الوجدان.
والخطأ الأصلي عند بافلوف وواطسون أنهما يخلطان بين العادات الجسمية والنفسية وبين التفكير الوجداني، فأنا أشرب الشاي كل يوم برجوع انعكاسية كونت عندي عادة ليس فيها تفكير، ولكني أكتب هذا الكتاب بوجدان أحاول فيه أن أتخلص من عواطفي وأن أفكر التفكير الموضوعي المنطقي، وهناك بلا شك عادات ذهنية كثيرة، غير العادات النفسية، تعود إلى انعكاسات أو عواطف، وكذلك ليس شك في أن كثيرا بل كثيرا جدا من تفكيرنا يعود إلى عواطفنا ورجوعنا الانعكاسية، وهذا هو التفكير الذاتي أو الانفعالي.
وقد سبق أن قلنا: إن معظم أخطائنا في التفكير يعود إلى أننا ننظر ونفكر بالنظر والتفكير العاطفيين، ومن شأن التفكير العاطفي أنه يتحيز جزءا من كل فإذا تغلبت على عاطفة الجوع فكرت في الطعام فقط، فأنا هنا ذاتي انفعالي في تفكيري، ومجال هذا التفكير صغير، ولكن التفكير الوجداني يحملني على خمسة أو ستة اعتبارات، مثلا قيمة الإقلال من الطعام حتى لا يثقل علي فأنعس، ومثل تجنب اللحم لأن أحماضه كثيرة، ومثل تجنب الملح لأنه يزيد الضغط، ومثل ضرورة البطء في الأكل للمؤانسة، ومثل تأمل الآنية الجميلة للذة الفنية، إلخ.
فكل هذه اعتبارات اتسع بها مجال التفكير، وصحيح أنها مؤلفة من عواطف مختلفة، ولكن تجمع هذه العواطف لم يؤد إلى جمع وإضافة فقط، بل أدى إلى تفكير كيفي هو الوجدان، فصار تفكيري موضوعيا منطقيا واسعا بدلا من أن يكون عاطفيا انفعاليا فقط، كما أن تجمع الأكسجين والهيدروجين لم يؤد إلى جمع وإضافة فقط، بل أدى إلى تغير كيفي بإيجاد الماء.
حين تسودني العاطفة يكون تفكيري تسليميا. كالمحب يسلم بجمال حبيبته تسليما أعمى، وكالجائع يأكل أي شيء، ولكني حين تسودني الوجدان أنتقد وأحلل، والاختراع والاكتشاف كلاهما من الوجدان.
التفكير العاطفي يسير عفوا، بل أحيانا قسرا لا تملك رده كما يحدث في أحلام اليقظة؛ أي: الخواطر السائبة، أما التفكير الوجداني فيسير بإرادتنا، نوجهه كما نريد، وعندما تمرض النفس يغيب الوجدان، وترتد إلى التفكير العاطفي القهري الذي لا تستطيع التخلص منه، ونحن نرث غوغاء من الشهوات والعواطف نتعلم في المجتمع كيف نتسلط عليها وننظمها ونعبئها جنودا في خدمة الوجدان، وعلى قدر نجاحنا في هذا التسلط أو التنظيم تكون سلامتنا النفسية وتصرفنا الحسن.
الانعكاسات المعدولة
الرجع الانعكاسي هو أقدم الرجوع العصبية في الإنسان، وهو مثل العطاس وانطراف العين وسحب اليد من النار ونحو ذلك، وهو - لبدائيته - قد ظهر في فقار الحيوان قبل أن يظهر المخ؛ ولذلك نحن في أحيان كثيرة نحس الرجوع الانعكاسية بأعصابنا التي لا تصل إلى المخ، وإنما تصل إلى النخاع الشوكي في صلب الظهر فقط، ونحن سواء في هذا الرجع مع الإسفنج والسمك والنمل والجنبري والكلب والفيل، وغيرها من أدنى الحيوانات إلى أعلاها، التي تمتاز بمخ أو ليس لها مخ، ونحتاج هنا إلى قليل من التوسع مع المخاطرة بالتكرار.
فقد يكون هذا الرجع الانعكاسي مباشرا، كما يحدث عندما أكون جائعا وأرى اللحم المشوي أو أشمه فيجري لعابي، وقد يكون معدولا ؛ أي: عدل به عن أصله إلى شيء آخر له علاقة به، كما يحدث عندما أكون جائعا وأسير في الشارع فأرى كلمة «مطعم»، أو عندما أسمع حديثا عن الطعام، أو عندما أرى مائدة عليها أطباق فارغة ليس عليها طعام، ففي هذه الحالات يجري لعابي أيضا؛ لأني أقرن هذه الأشياء بالطعام، وقد استطاع بافلوف أن يجعل لعاب الكلاب يسيل عندما يدق جرسا؛ لأنه عودها أن ترى الطعام عقب دق الجرس، أو بكلمة أخرى: غرس في الكلاب عادة جديدة لم تكن تعرفها في فطرتها، هي اشتهاء الطعام والابتداء في عملية الهضم بالفم عند سماع الجرس دون رؤية الطعام، وواضح أن مثل هذه العادة لا تعرفها الكلاب التي لم تتعودها.
وإلى هنا نجد كلاما حسنا ومفهوما، ولكن بافلوف يزيد على هذا بأن كل تصرفنا في الحياة وتفكيرنا وفلسفتنا ومثلياتنا وما عندنا من دستور للدولة وما نعرف من الكيمياء أو الفلك؛ إنما هو كله - وأكثر منه - رجوع انعكاسية معدولة لا نفطن إلى أصولها؛ لأنها تسللت إلينا رويدا نقطة بعد أخرى، حتى صرنا نسلك سلوكنا المدني أو الثقافي، وننبعث إلى هذا العمل أو هذا التفكير ونحن لا ندري أننا نندفع برجوع انعكاسية معدولة.
ومثل هذه الدعوى كبيرة جدا، وإن كانت لها قيمتها التي لا تنكر في تصرفاتنا السليمة والمريضة، فنحن مثلا لا نستطيع أن نعزو نظرية النسبية التي قال بها أينشتين إلى الرجع الانعكاسي المعدول، بل كذلك لا نستطيع أن نعزو اهتداء الصبي - وهي في الثامنة من عمره - إلى العمليات الحسابية؛ كالضرب والقسمة والمبادئ الهندسية الأولى، إلى الرجع الانعكاسي المعدول.
ولكن في حياتنا المدنية الحاضرة نعيش ونسلك بكثير من المركبات التي هي في لبابها رجوع انعكاسية معدولة، فأخلاقنا مثلا إنما هي عادات عملية، وعقائدنا إنما هي أيضا عادات اتجاهية، وكلتاهما ترجع إلى رجوع انعكاسية معدولة؛ أي: مركبات، وهذه المركبات يبلغ من ثباتها في النفس أنها تغير الوضع الأصلي للرجع الانعكاسي، كما نرى في الرذائل التي تؤذي صاحبها، ومع ذلك لا يستطيع التخلص منها، كما هي الحال في المتعلق بالخمر أو بالمخدرات أو بالشهوة الجنسية الشاذة، فنحن هنا إزاء رجع انعكاسي قد عدل به عن أصله إلى شيء آخر فصار مركبا نفسيا؛ أي: عادة متأصلة تضر صاحبها وهو عاجز عن التخلص منها.
انظر إلى امرأة تشكو مرضا نفسيا، هو أنها لا تطيق رائحة السمن، ولما كانت جميع أطعمتنا تقريبا تطهى بالسمن فإنها أصبحت تكره الطعام وتشمئز منه، وكأنها تنوي أن تموت جوعا، والأصل لهذه الحال أن زوجها ضربها وأسرف في الضرب حين كان رأسها منكبا على إناء السمن، فحدث لها وقت الضرب هذا الرجع الانعكاسي المعدول، فصارت تنفر من رائحة السمن الذي قرن بالضرب والألم، فهنا مركب نفسي مريض، كذلك المركب الذي أحدثه بافلوف في كلبه بإجراء لعابه عندما يسمع الجرس.
وكثير من التربية إنما يقوم بإيجاد مركبات؛ أي: رجوع انعكاسية معدولة، فنحن نعود الصبي أن يضبط عواطفه أمام الغرباء، وأن يستحي من بعض أعضاء جسمه، وأن يوزع الشكولاتة بينه وبين إخوته بالسواء، ونحن بهذا نغرس فيه مركبات مدنية اجتماعية تخالف الرجوع الانعكاسية الأصلية، ومن مثل المرأة التي كانت تشمئز من رائحة السمن نستطيع أن نكف السكير عن عادة السكر بأن نمزج الخمر بمقيئ ليس له طعم أو رائحة، ولكن بعد أن يشرب قليلا أو كثيرا يجد أنه يقيء، وعندئذ ينفر من الخمر، كما نفرت تلك السيدة من السمن.
إن نظرية بافلوف مفيدة جدا بشرط أن نقف بها عند حدودها، والقارئ لهذا الكتاب قد عرف مما قرأ إلى هنا أننا نؤمن بأن سلوكنا في الحياة إنما هو في الأكثر سلوك العاطفة، والفرق بين الرجوع الانعكاسية والرجوع العاطفية ليس كبيرا؛ لأن العاطفة في منتهاها مجموعة من الرجوع الانعكاسية الموروثة تسير في بطء وتريث فتتاح الفرصة بهذا البطء والتريث للتفكير، ولكن التفكير الناجع يحتاج إلى أكثر من هذا، يحتاج إلى وجدان.
الذاكرة والتخيل
في الفصل الأسبق حاولنا أن ننتقل من تفكير العاطفة الحيواني إلى تفكير الوجدان البشري، وقلنا: إن الوجدان يشبه أن يكون مجموعة من العواطف تحملنا على مواقف التردد والاختيار، فتنتقل بهذا الموقف من الانفعال إلى الوجدان.
ولكن هنا ثغرة تستحق الملء هي الذاكرة، وقد سبق أن أومأنا إلى منشأ الذاكرة حين أشرنا إلى رسم المصباح يبقى في العقل بعد إغماض العين نحو دقيقة أو أكثر، فنحن: (1)
نذكر المصباح دقيقة أو أكثر بعد إغماض العينين. (2)
ونتخيل المصباح دقيقة أو أكثر بعد إغماض العينين.
فمن هنا نعرف أن الذاكرة هي الأصل للتخيل، وما دمنا نذكر ونتخيل فإننا نفكر؛ أي إننا ونحن في خلوة نستعيد الصور؛ أي: نتذكرها ونتخيلها، ولكننا لا نتذكرها كما لو كانت صورا فتوغرافية طبق الأصل؛ لأننا نسلط عليها عواطفنا، فنختار منها ما نحب استعادته لأنه يسرنا مثلا، ونستبعد ما نكره منها لأنه لا يسرنا؛ ولذلك نحن نهدف من التذكر والتخيل إلى غاية، فنختار هذه الصورة وننبذ تلك الأخرى، وهذا نوع من الاختراع؛ لأننا نؤلف صورا مختارة نجد فيها خيالات نرغب في استدامتها، ونحن نحرك هذه الصور ونخلطها، أو نغير ما فيها طبقا لغاية.
ونكاد نقول: إن التذكر هو الأصل في الحياة؛ لأننا ننمو - سواء أكنا من الحيوان أم من النبات - بالذاكرة، ولا عبرة بأننا ندري بهذه الذاكرة أو لا ندري؛ أي: لا عبرة بأننا على وجدان بهذه الذاكرة، أو هي كامنة فينا لا ندريها، إنما الواقع أننا لا نستطيع أن نفر من الفرض الذي يحتم علينا بأننا ننمو من الجنين إلى الطفل إلى الصبي إلى الشاب إلى الشيخ بذاكرة عضوية موروثة، كذلك نحن نرضع في الطفولة بذاكرة؛ أي: ما نسميه غريزة إنما هو ذاكرة، بل إن قصة التطور هي في النهاية قصة الذاكرة النوعية؛ أي: ذاكرة النوع البشري أو غيره من أنواع الحيوان والنبات.
فالوراثة والغريزة البيولوجيتان في الحيوان والنبات كما نراهما في النمو والسلوك إنما هما ذاكرة كامنة غير وجدانية.
والذاكرة البشرية التي نتعلم بها إنما هي أيضا من هذا الطراز؛ أي: لا تختلف من الوراثة والغريزة، والذاكرة عندنا - كما قلنا - تؤدي إلى التخيل والتوهم؛ أي إنها تؤدي في النهاية إلى التفكير بالعاطفة أو بالوجدان ، ونحن نعرف من اختباراتنا أننا حين نستلقي مثلا بعد الغداء، ونسترخي ونشرع في الخواطر؛ أي: أحلام اليقظة، إنما نبدأ هذه الخواطر أو الأحلام باستذكار حادثة سابقة تتسلل لنا منها خيالات وصور فنأخذ في تحسينها؛ أي: تحسين هذه الخيالات والصور، وهذا يدلنا على أننا نستذكر حادثة ماضية دون غيرها؛ لأن لنا هدفا منها، هو هذا التحسين. كأننا نقول: ما هو السلوك الأمثل الذي كان ينبغي في هذه الحادثة؟ وإذا ترجمنا هذا إلى الغاية الهدفية فنقول: ما هو السلوك الأمثل لي إذا عادت مثل هذه الحادثة؟
وقد سبق أن قلنا: إن الوجدان هو مجموعة من العواطف المتضاربة التي تحملني على وقفة التردد والاختيار، فلا أنساق منفعلا في عاطفة واحدة، والآن نقول: إن أداة الوجدان في الاختيار هي الذاكرة التي تحملني على التخيل والتوهم، فأحقق هذا الاختيار بالمقارنات بين ماضي اختباراتي وبين الظرف القائم، ولي هدف في كل ذلك هو التزام ما يسرني وتجنب ما يؤلمني.
ولكننا هنا نحتاج إلى التنبيه بأن الذاكرة ليست كالعادة؛ لأني وأنا أمارس العادة لا أحتار، ولكني في الذاكرة أحتار، والعادة آلية جامدة لا تقبل التنقيح والتغيير، ولكن الذاكرة حيوية هدفية؛ أي: ترمي إلى غاية.
العادة مثل غسل الوجه أو شرب الشاي مجموعة من الرجوع الانعكاسية أو العاطفية التي تتكرر بلا تنقيح أو اختيار.
ولكن الذاكرة تخيل وتوهم وخواطر تؤدي جميعها إلى تفكير يختار هذا وينبذ ذاك من الخيالات والخواطر، وقد يكون هذا التفكير عاطفيا، ولكنه قد يكون أيضا وجدانيا موضوعيا.
ويمتاز الإنسان على الحيوان امتيازا عظيما؛ لأن ذاكرته أطول وتخيله أوسع باللغة التي تزود الفرد بذكريات ثقافية تتسع بها آفاق وجدانه الزمني والجغرافي.
وعندما نتأمل الخيالات والصور التي نؤلفها من ذكرياتنا الماضية نجد أنها تأليف جديد لا يتقيد بالرجوع الانعكاسية «التي يقول بها واطسون وبافلوف»؛ ذلك لأننا نؤلف ونخترع ونزيد وننقص وننقح ونغير، ويجري كل هذا على أسلوب كلي غير تفصيلي؛ أي إننا في التخيل نأخذ بالكليات لا الجزئيات.
وهنا نذكر كوهلر صاحب مذهب الكلية الطرازية أو «جيشتالت» الكلمة الألمانية التي يتبعها لهذا المعنى، فقد وجد أن السيكلوجية التي تقول بأن الفهم ينشأ من مجموعة الانعكاسات ليس صحيحا؛ فالطفل الذي يرى الكلب لا يجمع اختباراته له ويكون فهمه له جزءا بعد جزء، فيعرف الذنب ثم الوجه ثم الأقدام ثم يتحسس الشعر، ويجمع هذا كله إلى الصوت والرائحة، إلخ، وإنما هو يدرك صورة كلية مجموعة من الكلب لأول ما يراه، وهذه «الكلية» هي شرط أساسي في الفهم، فنحن عندما نسمع لحنا لا نأخذ في تحليله إلى أنغامه المؤلف منها كي ندركه كلا كاملا، والصورة التي نراها لا نحاول عندما نريد تفهمها إلى تقسيمها أجزاء نفهم منها الجزء بعد الجزء، وإنما نفهمها كلها.
وهذه هي طبيعة الفهم عندنا، حتى إنه إذا رسم أحد منا مثلثا ناقصا أكملناه - ونحن ننظر إليه - في ذهننا، فطبيعة أذهاننا أن نفهم الأشياء بكلياتها وليس بأجزائها.
وهنا نجد فرقا واضحا بين «جيشتالت» وبين التحليل الذهني؛ فإن «جيشتالت» تقول: إن تحليل الفكرة إلى أجزائها خطأ؛ لأننا عندما نفكر نعمد إلى ذلك بالكليات وليس بالأجزاء، ثم بين «جيشتالت» وبين السلوكية فرق آخر، وهو أن الثانية تقول: إن كل ما نتعلمه هو استجابات ميكانية نخطئ ونصيب فيها، حتى نقع على الصواب فنلزمه ونتجنب الخطأ، ثم يتكرر الصواب فيصير عادة، ولكن «جيشتالت» تقول بأننا نفهم المسائل بطبيعة أذهاننا؛ لأننا نستحضر منها كلا منظما فنحل المسألة الواقعة أمامنا بالعودة إلى ما يتوهمه ذهننا من «تنظيم كلي».
وقد أجرى كوهلر وغيره تجارب مع القردة العليا تثبت هذا «التنظيم الكلي» فقد وضع موزا خارج القفص، وكان بالقفص قرد وعنده عصوان قصيرتان، ولكن يمكن إذا تداخلتا أن تطولا وتعودا عصا واحدة، فعدما حاول القرد أن يصل إلى الموز بالعصا ووجد قصرها جمع العصوين وقعد بعيدا عن الموزة، ثم لعب بالعصوين حتى أدخل طرف الواحدة في طرف الأخرى فطالت، واستطاع بذلك أن يجذب الموزة من خارج القفص.
فهنا نجد أن القرد لم يفكر تفكيرا ميكانيا عن عادات واستجابات سابقة قد تعلمها بطريقة الخطأ والصواب ، وإنما هو تخيل المسألة أمامه كاملة تامة، ثم شرع يخترع الطريقة التي يحقق بها خياله، وهذا هو ما نفعله نحن أيضا كلما فكرنا في حل مسألة، نتوهمها محلولة ثم نعود فنتوسل إلى الحل بذرائع مختلفة، وهذه بالطبع خلاصة قصيرة جدا لجيشتالت، ولكنها تعطي القارئ فكرة عامة عن هذه السيكلوجية التي يجب أن توضع جنبا إلى جنب مع التحليل النفسي ومع السلوكية في فهم التخيل (التصور) أي: التفكير الذهني.
التفكير الناجع
كي نصل إلى التفكير الناجع في تصرفنا يجب أن نتجنب: (1)
تفكير العاطفة، وقد سبق أن قلنا: إن تسعين في المائة - بل أكثر - من أخطاء التفكير تعود إلى سيطرة العاطفة، ونحن - لأننا نرغب في إشباع هذه العاطفة - نسوغ هذا التفكير بضروب من المكر والاحتيال، حتى نقتنع بأننا وجدانيون ولسنا عاطفيين، كما يحدث كثيرا عندما نؤجل عملا يتطلب السرعة في الإنجاز، ولكن نسوغ هذا التأجيل بألوان مختلفة من المنطق، أو كما يحدث للشريب عندما يعزم على الكف عن الخمر ثم يؤجل هذا العزم بقوله: «هذا اليوم فقط» وتجديده في الغد. (2)
كذلك يجب أن نفطن إلى ميول وأهواء قد أحدثتها الكامنة (العقل الكامن)، وهي جميعها مقنعة بالوجدان، تبدو كأنها منطقية ليس فيها ما يشوبها، كما يحدث عندما نكره أو نحب لأسباب يشق علينا توضيحها، ولكنها تعود إلى ما انغرس في نفوسنا أيام الطفولة، كالخوف من العفاريت يحملنا على الاعتقاد بأن الأرواح حقيقة واقعة، حتى لنستطيع أن نخاطبها. أو - لأننا نحب أمهاتنا أيام الرضاع وبعده - ننشأ ونحن لا نستجمل سوى تلك الفتاة التي تشبه أمنا في الوجه أو القوام أو الصوت، ويؤدي هذا إلى أن نتجاهل جميع عيوبها، وكثير من التعصب الطائفي يعود إلى مكاره غرست فينا أيام طفولتنا، أو حدثت فيها حوادث كظم فيها غيظنا أو خوفنا ثم اصطنع تعصبا أفسد وجداننا وتفكيرنا الموضوعي. (3)
كذلك يجب، حين أعالج موضوعا أو أعامل شخصا، أن أنظر هل أنا معتمد على العقيدة (عاطفة) أم على المعرفة، وكثير من الناس يفسد تفكيرهم؛ لأنهم يعتمدون على عقائد ليس لها أقل أصل من الحقائق، ويسوء تصرفهم لهذا السبب، وكثير من الأمهات في مصر يقضون على أطفالهم بالمرض أو الموت؛ لأنهم يختارون الدواء عن عقيدة وليس عن معرفة. (4)
كذلك يجب ألا ننسى أن اتجاه الانطوائي يختلف عن اتجاه الانبساطي؛ فإذا كان أحدنا انطوائيا وتزوج فتاة انبساطية فإن الأغلب أنه سيختلف معها كثيرا؛ لأنها اجتماعية وهو انفرادي، وقس على هذا اختلافه حتى مع أصدقائه وأولاده، وإذا تجاهلنا هذه الميول بين المزاجين فإننا نتورط في مغاضبات يسوء بها تصرفنا وقد تؤدي إلى شقائنا. (5)
وكثير من كلمات اللغة تحدث لنا التباسا في التفكير واتجاها سيئا أيضا؛ فإن هناك كلمات ذاتية؛ أي: عاطفية تحملنا على التفكير العاطفي، وهناك كلمات كاذبة كقولنا: «سن اليأس»، للمرأة التي تبلغ سن الحكمة، وإيناع الشخصية حوالي 48 أو 50؛ فإن هذا التعبير السيئ يملأ نفسها تشاؤما ويهيئها لأمراض أو تصرفات خطيرة، أو انظر إلى عبارة «الحكم العرفي» فإنها وصف حسن للحكم السيئ؛ إذ هو ليس عرفيا؛ لأن المعجم يقول: «العرف: هو ما استقر في النفوس من جهة شهادات العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول» فأين هذا التعريف من حرماننا حقوقنا الدستورية مثلا مدة 15 سنة فيما بين 1914 و1945؟
وكلمات اللغة تسيء إلى تفكيرنا الوجداني كثيرا كما يرى القارئ في كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية»، بل كثير من الأمراض النفسية وكثير من الجرائم يعزى إلى اللغة السيئة التي تحفل بكثير من الكلمات العاطفية. (6)
وهناك بالطبع التفكير النيوروزي، وهو تسلط العاطفة تسلطا قهريا على النفس، وفي بعض الأحيان يقع فيه فيلغي وجداننا بعض الوقت أو كله.
والآن وقد عرفنا ماذا يجب أن نتجنب؛ أي: ما هي الوسائل السلبية للتفكير الحسن يجب أن ننظر فيما يجب أن نأخذ به؛ أي: ما هي الوسائل الإيجابية للتفكير الحسن. (1)
وأول ذلك أن نعتمد على الروية؛ أي إن نعطي الوجدان الفرصة كي يتغلب على العاطفة، وكل من عانى التفكير يعرف أنه يحتاج إلى الحصانة كي ينضح ويخصب، كأن الذهن حين يمتد به الوقت يأخذ في التذكر والتخيل والمراجعة والمقارنة حتى ينتهي إلى الصورة المثلى، وعندي أن الحصانة هي الاستسلام للكسل والاسترخاء واللعب مدة قد تكون أسبوعا أو شهرا. (2)
العاطفة المحزنة تبطئ التفكير كما تبطئ حركة الجسم، كما نرى حول الجنازة حين يصمت الحاضرون ويجمدون، ولكنهم في العرس يتحدثون ويزأطون، والحزن يجمد الذهن، والعواطف السارة محركة؛ ومن هنا كان كثير من المؤلفين يعمدون إلى الشراب القليل كي يغمرهم سرور خفيف يحرك أذهانهم، ولكن لهذه الوسائل الصناعية أضرارا أكيدة في النهاية، وقصارى ما نحتاج إليه أن نتجنب ما يثير حزننا أو اغتمامنا وقت التفكير. (3)
نستطيع أن نقسم الناس من حيث التفكير والتصرف إلى عاطفيين ووجدانيين، ولكن هذا التقسيم غير معين بحدود؛ إذ ليس هناك إنسان عاطفي مائة في المائة إلا إذا كان في المارستان، وليس هناك إنسان وجداني مائة في المائة، وكذلك نستطيع أن نقسم الناس من حيث مرجعهم في التفكير ثلاثة أقسام: (أ)
أولئك الذين يرجعون فيه إلى العقيدة كما كان الشأن في الأمم القديمة وكما هو الشأن في العامة من الشعب في عصرنا، والمتوحشون والمتأخرون في الحضارة على وجه إجمالي. (ب)
أولئك الذين يعتمدون فيه على المعرفة وهم خاصة الأمم والعلميون، مهما يكن العلم الذي يمارسونه. (ج)
أولئك الذين يعتمدون فيه على الحكمة، وهي فوق المعرفة، فقد يعرف أحدنا أشياء كثيرة ولكنه ينحيها ويبعدها في تصرفه ولا يعتمد عليها، ويقنع بالحكمة التي يتطلبها الظرف القائم.
وأفضل أنواع التفكير - ونعني هنا التفكير للتصرف - هو تفكير الحكمة. (4)
هناك عادات تفكيرية نتعودها، كالصمت في المشكلة، وهو يؤدي إلى إخماد العاطفة وإيجاد المجال للوجدان فالروية، وكالمصالحة والمحاولة بدلا من التحدي والخصومة، وكالتأليف والبناء بدلا من النقد والهدم، وهذا هو تفكير التصرف الحسن في الحياة، وهنا نذكر غاندي الذي يصوم عن الكلام يوما في الأسبوع. (5)
مع كل ما قلنا عن ضرر التفكير العاطفي الذاتي يجب ألا ننسى أن خمود العواطف - كما يحدث في الشيخوخة - يؤدي إلى خمود الذهن.
واليقظة الفكرية في الشبان تعود إلى يقظة العواطف، ولعل لهذه الحال سببا فسيولوجيا يتعلق بالغدد الصماء، ونحن نرى أن الخواطر تتوارد بسرعة وقت التهيج أو التعجل أو الغضب بشرط ألا تغمر الشخصية بقوتها فتحول دون التفكير، كما قد يؤدي فنجان القهوة أو الشاي إلى تثبيت العواطف. (6)
يحتاج التفكير الحسن إلى استخدام الكامنة (العقل الكامن) بالاسترخاء والحضانة حتى تستثار العواطف الكامنة فتنتفع بما فيها من اختبارات، وأيضا بما فيها من توترات وكظوم تفتق التفكير وتكسبنا البصيرة والوصول إلى نتائج قد لا تتفق مع المنطق القائم، ولكنها صحيحة في ضوء اختباراتنا؛ ولذلك كثيرا ما يؤدي المرض والتزام السرير شهرا إلى تفكير جديد يقارب الاختراع وتغيير الشخصية. (7)
نجد أحيانا جمودا في التفكير ووقفة لا نتحرك منها، وفي أكثر الأحيان يرجع ذلك إلى عقدة ذهنية خفيفة غابت عنا، ولكنها اندست واستكنت. والتهيج الخفيف يعيد إلى الذهن حركته، كأن نمشي بسرعة؛ فإن حركة المشي تحدث حركة في الذهن فتتوارد الأفكار، ويتفكك الجمود. (8)
الإرادة تحدث الخيال وتنظمه، كما أن الرغبة في الطعام تحدث خيالات الأطعمة سواء في اليقظة أم في النوم، وإذا تركنا الذهن حرا صارت الخيالات عابثة لا قيمة لها؛ ولذلك يجب أن نسيرها ونوجهها بالإرادة. (9)
الطمأنينة التامة والعواطف المشبعة التي لا تجوع أبدا، كلتاهما تحدث ركودا في التفكير، كأن النفس تقول: «لماذا التفكير؟ كل شيء على خير ما أحب، وليس هناك ما يدعو إلى الجهد.» ولذلك نجد أن الصعوبات والتوترات تثير التفكير، والاختراع الذي يكثر مدة الحروب يرجع إلى القلق الذي تحدثه، وقد عزي الجمود الأدبي في عصر الملكة فيكتوريا في إنجلترا إلى النجاح المالي المستمر؛ لأن الطمأنينة المالية التامة حالت دون التفكير، وهذا حق، ونحن في حاجة دائمة إلى قليل من القلق نتذبذب به ونصحو ونتنبه.
الاتجاه الذاتي والاتجاه الموضوعي
كثيرا ما نرى أن الاتجاه السلوكي يعين لنا نوع الكفاءة الذهنية أو يكاد، ونحن نختلف في اتجاهنا باختلاف الحرفة التي تمارس فتختلف بذلك أنواع الكفاءة الذهنية، ولا عبرة بأن يقال: إن ذكاءنا - مثل طول قامتنا أو لون بشرتنا - موروث محدود؛ فإن الحياة النفسية والفكرية للفلاح تختلف مما هي عند المحامي أو المهندس، كما تختلف عند هذين مما هي عند الكاهن المسيحي أو الفقيه المسلم.
وأحيانا نجد عند أحد الناس اتجاها استبشاريا بالدنيا، أو اتجاها تشاؤميا أو اتجاها انبساطيا مزاجيا، أو اتجاها تسلطيا عدوانيا، وهذه الاتجاهات تعين الحياة النفسية والفكرية لكل منهم، حتى التفكير يجد حدودا أو أمدادا تحده أو تمده.
ولكن هناك اتجاهين نفسيين لكل منهما قيمة كبيرة، بل كبيرة جدا في الحياة النفسية لكل منا؛ وهما الاتجاه الذاتي حين يكون بؤرة نشاطي ذاتيا «أنا»، والاتجاه الموضوعي حين يكون بؤرة نشاطي العمل الذي أعمله. وبالطبع ليس هناك إنسان ذاتي مائة في المائة إلا إذا كان في المارستان مجنونا كاملا لا غش فيه. وليس هناك إنسان موضوعيا مائة في المائة، إلا إذا كان أرسطوطاليس أو أفلاطون. ولكن هناك من تغلب عليه الذاتية، وهناك من تغلب عليه الموضوعية.
الذاتي، إذا كان مهندسا قد قام ببناء منزل حسن، يقول: أنا نجحت، وإذا لم يكن البناء حسنا فإنه يقول: أنا فشلت.
الموضوعي، إذا كان مهندسا قد قام ببناء منزل حسن، يقول: هذا المنزل حسن، وإذا لم يكن البناء حسنا فإنه يقول: هذا البناء غير حسن.
الذاتي يحزن كثيرا؛ لأنه يجعل الحسن والسوء في البناء حسنا وسوءا في ذاته؛ في نفسه. والموضوعي لا يحزن؛ لأن الحسن والسوء خارجان عنه؛ أي: في الشيء الذي صنعه، الذاتي ينظر نظرة نفسية، والموضوعي ينظر نظرة موضوعية.
عندما يسوء البناء يحزن الذاتي ويغتاظ، ويتذبذب من الغيظ؛ كالأتومبيل يدور موطره وهو واقف مكانه، ولكن الموضوعي يفكر في إصلاح الخطأ بلا حزن أو غيظ؛ لأنه لا يعالج عواطفه كالذاتي، بل يعالج الحجر والخشب والحديد.
لنفرض أن اثنين قصدا إلى محطة العاصمة للسفر إلى الإسكندرية، فلما بلغاها وجدا أن القطار قد قام؛ فالذاتي يغضب لأنه تعود أن يجعل ذاته مصدرا أو موردا لكل ما يقع حوله، وغضبه هنا عقيم، فقد يسب أو يضرب الأرض بقدمه، ولكن القطار لن يعود. أما الموضوعي فيتأمل الساعة، ثم يبحث عن ميعاد القطار الثاني، ثم يهيئ نفسه لقضاء ثلاث ساعات قبل قيام القطار، وهو يقضيها في تعقل .
والفيلسوف، وهو أعلى طراز للشخصية الموضوعية، يبحث الشئون البشرية، وهو يحرص على ألا يكون لعواطفه - لذاتيته - أي أثر في بحثه، والمجنون يصبغ كل حركة حوله بصبغة ذاتية؛ فالناس الذين يتحدثون على مسافة منه إنما يتكلمون عنه، وأنت حين تسأله سؤالا ساذجا إنما تحاول الوصول إلى سر معين يخفيه، وهو لهذا متعب معني بعواطفه.
وهذه الذاتية - وكلنا بلا استثناء تقريبا ذاتيون إلى حد كبير - تنشأ فينا منذ الطفولة، إذ كانت الأم حين تؤدي عملا حسنا تقول: أنت أحسنت، أو أنت أسأت، أو أنت ذكي، أو أنت بليد، وكان يجب أن تقول بدلا من هذه الكلمات: هذا العمل حسن، هذا العمل سيئ يمكنك أن تصلحه من هنا ومن هنا.
ذلك أنها في الحال الأولى توجه الطفل وجهة ذاتية في كل شيء يحدث في هذه الدنيا؛ إذ يقاس عنده بما يجلب له من سرور أو يحدث له من حزن، فهو عاطفي يحب ويكره، ولا يحاول فيحسن، أما في الحال الثانية فإنها توجهه وجهة موضوعية، بؤرة الاهتمام عنده ليست نفسه، بل هذا الشيء الذي يصنع.
الموضوعي يتكيف بسهولة ويجعل نفسه ملائما للوسط، ولكن الذاتي جامد لأنه عاطفي، الأول يتعقل ويجتهد ويحاول، والثاني عاطفي يجمد ولا يحاول، ولكنه يفرح أو يغضب.
ومركب النقص هو في النهاية أننا نعالج شئون الوسط المحيط بنا - بشريا أم ماديا - بالأسلوب الذاتي، كأن حوادث الدنيا إنما هي صدى لذاتيتنا لا أكثر، وكأننا نقيس واجباتنا الاجتماعية ليس بالعمل الذي نؤديه بل بقيمة شخصيتنا.
وهذه الذاتية تشقينا كثيرا، لأنها تفتأ تنبه عواطفنا بدلا من الموضوعية التي توقظ ذكاءنا، فنحن نسلك في الحياة بالعواطف الجامدة العمياء بدلا من التعقل النير البصير.
ويجب علينا في كل مأزق يقابلنا أن نسأل: هل أنا هنا ذاتي أسير العاطفة؟ أم موضوعي أفكر وأتعقل؟ كما يجب علينا أن نذكر أننا كلنا قد ساءت تربيتنا في الطفولة، وأننا نشأنا لذلك ذاتيين إلى حد كبير، والطفل المدلل أكثر ذاتية من الطفل الذي عومل بجد وعدل، وقد ينتهي الأول إلى أن يجعل كل همه واهتمامه في الدنيا أن يجذب إلى نفسه الأنظار؛ فإذا وجد اهتماما تعب، بل قد يعزو هذا الإهمال إلى مؤامرة، وأحيانا، وهو يحاول جذب الأنظار إلى نفسه، يتورط في سلوك غير اجتماعي.
الخصائص السيكلوجية للمرأة
تختلف المرأة وراثيا وبيئيا عن الرجل، وصحيح أنهما يعيشان في مجتمع واحد، ولكن هذا القول تعميمي أكثر مما هو تفصيلي، وهو أشبه بقولنا: إن الإخوة في البيت يعيشون في بيئة أو وسط واحد.
ونحن نجد في الحالتين أن الوسط ليس واحدا للرجل والمرأة، وكذلك ليس واحدا للإخوة في البيت، ذلك أن الرجل ينشأ على حرية لا تجد مثلها المرأة؛ إذ هي تطالب بالكظم أكثر منه، وتجد من الزواجر ما لا يجد، وهو يتطلع إلى النشاط الاجتماعي على آفاق واسعة في التجارة والوظيفة والسياسة وغير ذلك، في حين هي تمنع تقريبا من كل هذا.
وكذلك الشأن في الإخوة في البيت؛ فإنهم فيما يبدو على السطح سواء في الوسط، ولكن اعتبر الفروق التي تنشأ من اختلاف الوسامة بينهم وتعلق الأبوين أو أحدهما بشخص دون آخر منهم، واعتبر الابن الأكبر الذي لا يجد مزاحما مع سائر الأبناء والبنات الذين زاحم بعضهم بعضا للحصول على «المجال الحيوي» في البيت، واعتبر الابن الأصغر المدلل، والبنت الوحيدة بين خمسة أبناء، أو الابن الوحيد بين خمس بنات، فكل هذه الظروف تثبت لنا أن بيئة البيت مختلفة للأبناء، وهذا الاختلاف يؤدي إلى خصائص سيكلوجية لكل منهم.
وكذلك الشأن في المرأة التي تعيش في مجتمعنا نحن الرجال؛ فإننا نحوطها بما يفصلها عنا نفسيا؛ ولذلك نحتاج إلى أن نسهب قليلا في شرح الخصائص السيكلوجية التي تتسم بها بسبب هذا الفصل، والأثر السيكلوجي لهذا الحال أيضا في الرجل.
كلنا يعرف أن الرجل أقوى عضلات من المرأة، ونحن في هذا لا نشذ عن الحيوان؛ لأن الذكر على الدوام أقوى من الأنثى، كما نرى في الديكة إزاء الإناث من الدجاج، أو في الأسد إزاء اللبؤة، أو ذكر الجاموس إزاء أنثاه؛ فإنه وحش وهي وديعة، ثم يجب ألا ننسى أن الأنثى تحمل وتلد، وكلا هذين العملين يعجزها مدة طويلة فتضعف أمام الذكر، بل هي تحتاج إلى معاونته، وكثيرا ما يعاونها.
والروح العدواني واضح في الذكور، وليس واضحا في الإناث، وشيء من هذه الشهامة التي نجدها بين البشر في علاقة الرجل بالمرأة نجد مثله أيضا بين الحيوان؛ فإن الذكر يقاتل الذكر، ولكنه لا يقاتل الأنثى، وكثيرا ما ينسحب أمامها، مع أنها قد تكون هي المعتدية.
وضعف المرأة واحتياجها إلى معونة الرجل في الحمل والولادة، كلاهما قد زاد ضعفها وجعل السيادة للرجل في الحضارة القائمة، وحضارتنا إلى الآن هي حضارة الرجال؛ أي إن أوزانها وقيمها هي أوزان الرجل وقيمه، والأغلب أن هذه الحال ستتغير قريبا؛ لأن الوسط الصناعي يقرر الاستقلال الاقتصادي للمرأة، وهذا الاستقلال الاقتصادي يؤدي بدوره إلى استقلالها النفسي.
والمرأة، بعد هذا الذي ذكرناه، ترث تراثا بيولوجيا يختلف عن تراث الرجل؛ فإن الحيض يأتيها كل شهر، وهذا الحدث الشهري يحملها على المسارة والمواربة؛ لأنها لا تحب أن تصرح به، وهي حين تكتمه وتختلط بنا تغشى نفسها حال لا نعرفها نحن الرجال، فإن هذا الحيض يحدث تزعزعا هورمونيا، حتى إنها تتقزز وتضيق قبل انطلاق الدم.
ثم كلنا يعرف أن كظوم المرأة كثيرا أكثر من كظوم الرجل؛ لأننا نتسامح مثلا في الانزلاق الجنسي للصبي أو الشاب، ولكننا لا نتسامح بتاتا للفتاة بمثل هذا الانزلاق لخطورته عندها، وفي تربية الأبناء والبنات من المألوف أن نجد الأم تقول لابنتها: «لا تفعلي هذا، هل أنت ولد؟»
وهذه الكظوم العاطفية الكثيرة تحدث توترات نفسية كثيرة عندها، ثم لها أثر آخر، هو أنها؛ أي: الفتاة، تصد عن كثير من النشاط النفسي أو الذهني الذي يمارسه الشاب، وقد يعزى تأخر الفتاة في العلوم والآداب والتجارة والاختراع إلى كثرة هذه الزواجر التي تتلقاها في صباها وشبابها: «أنت لست مثل الولد، لا تفعلي هذا، لا تفعلي ذاك» لأن كل هذا يؤدي في النهاية إلى أنها - هي نفسها - تقيم لنفسها سدودا تحد من نشاطها، فلا تفكر في هذا الموضوع ولا تمارس هذا النشاط.
ومن هنا نفهم أن الصدمات العاطفية للمرأة أكثر من صدمات الرجل، وأن كظومها في الكامنة أكثر؛ ولذلك أيضا نجد أنها كثيرا ما تتزعزع وتقع في النيوروز؛ أي: جنون العاطفة، أو في السيكوز؛ أي: جنون العقل، ولكن العجب أنها أسرع من الرجل في الشفاء والرجوع إلى الحال السوية.
ولكن هذا الشفاء أو هذه القدرة على التحمل هما صفة عامة في المرأة دون الرجل، وقد سبق أن قلنا: إن الرجل أقوى من المرأة، ولكن إذا اعتبرنا الأمراض والتعمير وجدنا المرأة أقوى من الرجل؛ فإنها تعمر أكثر منه، والأمراض لا تقتلها كما تقتل الرجال، وهذه المتانة الجسمية ترافقها أيضا متانة نفسية إزاء التوترات والمآزق.
اعتبر مثلا الانتحار؛ فإنه برهان على أن النفس قد أفلست أمام الظروف القائمة، ومع ذلك نجد من الإحصاء الذي أصدرته حكومة الولايات المتحدة في 1938 أن عدد المنتحرين كما يلي:
من الرجال
من النساء
أقل من 15 سنة
42
7
بين 15 و19 سنة
259
175
بين 25 و29 سنة
940
410
بين 30 و39 سنة
2319
944
بين 40 و49 سنة
2954
1020
وواضح أن المجتمع يكلف الرجل أكثر مما يكلف المرأة، ويعرضه للأزمات النفسية التي تتصل بالنجاح المالي والكرامة الاجتماعية أكثر مما يكلف المرأة التي كثيرا ما يؤدي انفصالها واحتجازها في البيت إلى «انفصال» نفسي من أوزان المجتمع وقيمه؛ ولذلك هو عرضة - اجتماعيا - للانتحار أكثر منها، ولكن حتى مع هذا الاعتبار لا تتمالك الإحساس بأنها أقدر على تحمل الصدمة العاطفية والتغلب عليها.
والجريمة مثل الانتحار في التقدير السيكلوجي، ولكن في الجريمة أيضا لون العدوان وهو من خصائص الذكر في الحيوان والإنسان أكثر مما هو من خصائص الأنثى، فجرائم الاغتيال في الولايات المتحدة (1399-1940) بلغت من الرجال 1955 ومن النساء 143، والسرقة من الرجال 5273 ومن النساء 69.
وهناك خصائص بيولوجية تعين الجريمة؛ فإن الاغتصاب مثلا جريمة لا تستطيع المرأة أن ترتكبها في الرجل؛ لأنه إذا لم يكن في حال التهيج الجنسي فلا يستطيع أن يخدم المرأة، ولكن المرأة على العكس تخدم الرجل وهي مغتصبة، ولذلك فشت الدعارة الحرفية بين النساء دون الرجال.
وقد ذكرنا أن المسارة والمواربة تسودان أخلاق المرأة، وعللنا ذلك بأن المرأة تطالب بكظوم كثيرة لا يطالب بها الرجل، ثم إن الحيض يحملها أيضا على التخفي وتجنب الصراحة، وهذه الحال تغشى كل حياتها النفسية وتجد في إثرها مركبات من الحياء إلى الميل إلى التبصر والتكهن.
وللاتصال الجنسي أيضا أثره في أخلاق الرجل والمرأة؛ فإن العاطفة الجنسية تغشى حياتنا رجالا ونساء، والوضع الذي نتخذه وهو الاستعلاء المادي للرجل والخضوع والاستلقاء من المرأة، كما أن المبادأة من الرجل والاستجابة من المرأة، وكل هذا يؤدي إلى أن الرجل يسير في الحياة بروح عدواني يبادئ المشكلات ولا يتراجع، ويطلب التفوق والسيادة، في حين أنها هي تطلب في الحياة السرور ولا تبادئ بل تتلقى وتستجيب، ثم هذا الوضع نفسه مسئول إلى حد ما عن النظرة المتعالية التي ينظر بها الرجل إلى المرأة، ويجب ألا ننسى هنا أيضا أن الاشتهاء الجنسي في الرجل يختلط بالروح العدواني، وقد يتفاقم هذا العدوان فيؤدي إلى «السادية» أي: الرغبة في إيلام المرأة وقت اللقاء الجنسي حتى يجرحها أو يقتلها.
الحياة الجنسية
كي نعيش الحياة السعيدة، أو على الأقل الحياة السليمة، يجب أن نعنى بأربعة أشياء هي:
الحياة الجنسية؛ أي: علاقتنا السليمة بالجنس الآخر.
والحياة الحرفية؛ أي: العمل الذي نكسب منه.
والحياة الاجتماعية؛ أي: علاقتنا بالمجتمع والأخذ بمقاييسه وقيمه.
والحياة الفراغية؛ أي: الوسائل التي نقضي بها فراغنا، والهواية أو الهوايات التي نتعلق بها.
وكل نقص في واحد من هذه الأربعة يشقينا إلى حد ما، وبعض الشقاء الذي نعانيه منها قد يفدح حتى يحدث لنا شذوذا أو جنونا.
وفي مجتمعنا المصري الذي يقضي بحجز المرأة في البيت ويمنع اختلاطها بالمجتمع إلا قليلا، كما يمنع تكسبها واستقلالها، في هذا المجتمع تغدو الحياة الجنسية والزواج بؤرة الاهتمام عندها، أما الرجل فيجد اهتمامات عديدة أخرى، بل هو يستطيع أن يفكر في طمأنينة في أن يعيش أعزب، ولكن من المحال أن تفكر فتاة مصرية مثل هذا التفكير؛ ولذلك تعنى المرأة كثيرا بالتزين، كما أن البيت تكبر قيمته جدا عندها، ويتبع هذا الحمل والولادة، وربما كانت أعظم الكوارث التي تقع بالفتاة عندنا بعد العزوبة القهرية هي العقم التناسلي.
وحفلات الزار تحتاج إليها المرأة دون الرجل، وهي في لبابها محاولة خرقاء لمعالجة الحرمان الجنسي أو الغيرة من الضرة «أو غير الضرة»، أو الرغبة في السيطرة دون الحماة، وجميع هذه الظروف تقريبا خاصة بالمرأة المصرية دون المرأة الغربية التي لا تحتاج إلى الزار.
وواضح من سلوك المرأة في تزينها وتوالي الأزياء لزينتها أو تجميلها، اهتمامها الذي يشبه الهم والمرض بالحياة الجنسية، وفي مجتمع آخر مثل المجتمع الأوروبي؛ حيث تكسب فيه المرأة عيشها، لا يرتفع هذا الاهتمام إلى المقام العظيم الذي يرتفع إليه عندنا؛ ذلك لأنها تقضي يومها وهي عاملة تشغلها شئون عدة، كما أنها تجد الكرامة في هذا العمل، فلا تجوع إلى مقام اجتماعي بالزواج، وكلنا يعرف الثمرات المرة - بل الثمرات العفصة - التي ينتجها الحرمان من الحياة الجنسية في الشذوذات الكريهة التي يقع عندنا فيها الرجل والمرأة معا، وهي تبدأ من العادة السرية إلى حب أحد الجنسين لجنسه دون الجنس الآخر.
ولكل أمة ممارساتها الخاصة بالشئون الجنسية قبل الزواج وبعده، فنحن في مصر نختن الأطفال، وإذا تم هذا الختان قبل إتمام السنة الأولى من العمر فإنه لا يضر النفس، ولكنه بعد هذا السن يجرح الطفل بجرح نفسي؛ إذ هو يتخذ عنده صورة التمزيق لأعضائه، وقد يحدث له في المستقبل مركب نقص، أو اختلال في الوظيفة الجنسية، أو خوف من التعارف، وخاصة إذا عرفنا أنه ترافق الختان أحيانا كلمات وعبارات تؤلم الطفل وتخيفه، وبعض النساء يلححن في ضرورة الختان للصبيان، حتى ولو لم يكن مسلمات، بروح الانتقام؛ أي: انتقام الصبية من الصبيان الذكور قبل الرابعة أو الخامسة من العمر، وهذا الروح يبقى حتى بعد أن يصرن أمهات، وحتى ولو كان هذا الصبي ابنهن.
وليس هذا مكان البحث في الضرر الذي يصيب الصبية من الختان حين تصير زوجة، ولكن يجب ألا ننسى أن كل تأخير في إتمام التعارف الجنسي بسبب ختان يؤدي إلى ضرر نفسي بالزوجين، وقد منع إخواننا السودانيون عملية جراحية معينة للبنات كانت تؤدي إلى مثل هذه الحال؛ ولذلك يجب على الذين يمارسون الختان أن يكونوا من الأطباء، وأن يبصروا بمستقبل الفتاة حين تصير زوجة.
ويجب ألا يفهم الصبي، إذا كان الختان قد تأخر إلى السنة الثانية أو الثالثة من العمر، أننا ننوي قطع عضو التناسل، ويجب ألا تقال له كلمة يشم منها هذا المعنى؛ لئلا ينغرس في كامنته (عقله الكامن) هذا الوهم، فيصاب بالعنة وقت الزواج، ويجب ألا نثير اهتمامه أو نحدث له ألما في هذه العملية، حتى لا يلتفت كثيرا إليها فيذكرها، ويكون بمثابة من أجريت له عملية في الكبد أو الكلية يفتأ يذكرها ويتحسس مكانها ويفكر في حالها.
وهناك عادات نمارسها وقت العزوبة؛ فإذا تزوجنا عجزنا عن التخلص منها، مثال ذلك ما أشار إليه ليون بلوم الرئيس السابق للوزارة الفرنسية في كتاب له حيث يقول: إننا وقت العزوبة نشتري اللذة الجنسية بنقودنا من المومسات، فلا نبالي أن نتفق نحن وشريكتنا في ميعاد الإتمام للقاء الجنسي، ثم تثبت هذه العادة؛ فإذا تزوجنا لازمتنا وأحدثت تنافرا جنسيا.
الحياة الجنسية تحتاج إلى الاستعداد لها منذ الطفولة، ويجب أن نهنأ بها، فلا يوقعنا أهلونا ولا نقع نحن في أسلوب نفسي سيئ يكون أسلوبنا الجنسي بعضه، وهذه الشذوذات مثل السادية؛ أي: القسوة مع الجنس الآخر وقت التعارف، أو المازوكية؛ أي: حب التألم مع الجنس الآخر وقت التعارف، كلاهما أسلوب جنسي هو بعض الأسلوب النفسي الذي نتبعه في العائلة والمجتمع، والعادة أننا نتخذ وجهتنا الحرفية من الأب فيتكون لنا مزاج ذهني مثل مزاجه الذهني، ولكن القيم والعادات الاجتماعية كثيرا ما نتخذها من الأم، وكل هذا يتم تقريبا في السنوات الخمس أو الست الأولى من العمر؛ ومن هنا الصعوبة في تغيير عاداتنا ووجهاتنا ومزاجنا وقيمنا ومقاييسنا وعقائدنا، ولكل منا حظه في هذا؛ إن شقاء وإن سعادة.
والحياة الجنسية الصالحة يجب أن يكون هدفها الزواج السعيد، وهذا الزواج يحتاج إلى أن ينشأ على المساواة بين الجنسين، وإلى أن يحس الزوجان أنهما متكافئان، وكل هذا يستدعي إشعار الأطفال بالمساواة والتكافؤ منذ السنين الأولى من العمر، لا فرق بين طفل وطفلة، ويجب أن يكون التعليم لهذا السبب مشتركا في جميع المراحل تقريبا، ويحتاج إلى أن تكون وجهة الحياة للمرأة كوجهتها للرجل سواء، ليس هذا للكسب والعمل وتلك للبيت والمطبخ؛ لأن الغاية الأولى لكل منهما يجب أن تكون تكوين الشخصية وترقيتها.
ويجب ألا يتعود الشاب عادة جنسية سيئة؛ لأن مثل هذه العادات تثبت ويشق الإقلاع عنها بعد ذلك في الزواج؛ ومن هنا الضرر الفادح من البغاء؛ لأن الشاب لا يتعارف بالبغي ولكنه يفسق بها، وهو بهذا يفسق بغريزته الجنسية وبالحب وبجنس النساء عامة.
والتعارف الجنسي يجري بين الآدميين وجها لوجه، وليس كما هو بين الحيوانات وجها لظهر، ويجب أن يكون في هذا الوضع البشري الخاص عبرة للمساواة والتكافؤ، وأن التعارف الجنسي ليس شهوة نارية، وإنهما هو تحاب ومؤانسة ومساواة وتعاون.
وكي نسعد بالحياة الجنسية والمعيشة الزوجية يجب أن: (1)
نتعلم فن الحب والتعارف الجنسي، فكما أن المائدة ليست لالتهام الطعام فقط؛ بل للمؤانسة والمباسطة، كذلك يجب ألا يكون الحب شهوة فائرة سرعان ما تنطفئ، فلهذا يجب أن يكون أساس التعارف الجنسي التعاون، هذا التعاون الذي لا يمكن مجتمعا صغيرا كالعائلة أو كبيرا كالأمة أن يعيش بدونه إلا مع الضرر العظيم. (2)
يجب أن يبتعد الزوج عن اعتبار الزواج كأنه مسرة له خاصة، ويجب ألا يمارس أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى هذا. (3)
يجب أن يتجنب المباراة بينه وبين زوجته، ونعني المباراة بأنواعها المختلفة في أولوية الرأي أو غير ذلك؛ لأن الزواج تعاون وزمالة بين متكافئين، وليس شركة بين رئيس ومرءوس. (4)
يمكن أن يكون الحب ثمرة الزواج وليس سببا للزواج، وعندئذ يصير الحب كالصداقة ينمو ويزداد؛ أي: يجب عندما يختار الشاب خطيبته ألا يتساءل: هل أنا أحبها الآن؟ بل يسأل أيضا: هل أستطيع أن أحبها بعد سنتين ويزداد حبي لها أم يتناقص ؟
الحياة الاجتماعية والحياة الحرفية
يحدث لنا المجتمع الذي نعيش فيه عادات تقارب أو تشبه الغرائز الطبيعية، وأغلب الظن أن الإنسان ليس اجتماعيا بفطرته؛ أي إنه لم يكن وقت بداوته يعيش جماعات كما نرى في جماعات البقر والجاموس والفيلة والغزلان، ولكنه تطبع بالاجتماع عقب الزراعة أو قبل ذلك بقليل؛ ولذلك فإننا نتألم من مخالفة العادات الاجتماعية واعتقادنا بأن المجتمع يحتقرنا، بل أحيانا تصير العادة الاجتماعية - كما قلنا - قريبة جدا من الغريزة الطبيعية، حتى إننا لنشمئز أو ننفر من المخالفين لعاداتنا، أو نقاتلهم إلى الموت، وليس التعصب الديني مثلا سوى عادة اجتماعية انقلبت إلى عقيدة تشبه الغريزة.
تأمل حال سيدة اتضح لها أن فستانها لا يتفق مع الزي الجديد، أو حال أحدنا نحن الرجال، إذا كان قاعدا في الترام أو القطار، واتضح له بعد نظرات مؤسفة من القاعدين أن زر طربوشه يتدلى من الأمام، أو حال أحد شيوخنا حين يطل من النافذة في القطار وتطير عمامته، أو حال الصعيدي في قنا إذا قيل له: إن بنت خالته تحب فلانا، أو حالنا إذا علمنا مثلا أن الجزار الذي كنا نشتري منه اللحم كان يبيعنا لحم الحمار باعتبار أنه من الضأن، أو حالنا حين نسمع أحد البوذيين وهو يعظ ويقول: إن ليس هناك نعيم أو جحيم، أو تأمل دهشة المستر تشرشل زعيم حزب المحافظين في بريطانيا، بل ألمه وحنقه حين يقال له: إن الهنود بشر ولهم الحق في الاستقلال مثل الإنجليز.
فنحن هنا إزاء عادات اجتماعية قد شابهت الغرائز الطبيعية وصارت لها قوتها، بل أحيانا تزيد قوة العادة الاجتماعية على الغريزة الطبيعية، كما نرى مثلا في عجز كثيرين من الناس عن التبول في المباول العامة؛ لأنه غرس في نفوسهم منذ الطفولة أنهم حين يحتاجون إلى التبول يجب عليهم أن يعتزلوا وينفردوا، وأن يخجلوا من رؤية أحد لهم.
فالمجتمع الذي نعيش فيه يحوطنا بعادات نفسية وذهنية حتى ننتهي بأن نطلب الكرامة الشخصية باسترضائه والنزول على جميع عقائده وعاداته ونخشى المخالفة ونتجنبها، وصحيح أن هناك مخالفين ، ولكن هؤلاء ثائرون، وهم يعرفون أنهم قد خالفوا عادة أو عقيدة؛ لأنهم رسموا لأنفسهم صورة أعلى من الصورة التي رسمها لهم المجتمع، وهم بالطبع يقبلون الاضطهاد عن رضى لهذا السبب.
والمجتمع يرسم لنا صورة نحافظ عليها ونصونها من التغيير، وهذه الصورة هي أعظم الأسس للضمير الشخصي، فنحن لا نسرق أو نغتال أحدا ولا نزور ولا نزني، لا لأن القوانين تعاقبنا فقط إذا فعلنا هذه الأشياء؛ بل لأن لكل منا صورة اجتماعية عن نفسه قد ارتسمت في نفسه، فهو يرى نفسه محترما له كرامة إذا نزل على رأي المجتمع وعقائده، ومحتقرا إذا خالف.
فنحن نعيش في مصر في مجتمع اقتنائي يطالب كل فرد بأن يقتني شيئا؛ أي: يدخر مالا أو يشتري عقارا، بل وحتى يقتني زوجة؛ ولذلك نجد لتحقيق هذه الأهداف، مع أن كثيرا منها غير طبيعي؛ أي: غير بيولوجي، بل نستطيع أن نقول: إن بعض الناس يتزوجون لا لحاجة بيولوجية، بل لحاجة اجتماعية؛ لأنهم يرون أن العزوبة لا تهيئ لهم الكرامة الاجتماعية التي يهيئها لهم الزواج، وكثير من أطماعنا - إن لم نقل جميعا - اجتماعي وليس بيولوجيا، وأحيانا حين نخيب في تحقيقها نصاب بشذوذ أو حتى جنون، كما يحدث لرجل كان يملك ألف جنيه فقد نصفها في البورصة، أو لفتاة خاب رجاؤها في الزواج، أو لشاب لم يحصل على الوظيفة المتمناة، أو لشاب آخر رسب في الامتحان المدرسي أو الجامعي.
فهنا قيم ومقاييس اجتماعية صارت لها قوة الغرائز الطبيعية، وهي تحدث لنا إحساسا وتفكيرا واتجاها تعين جميعها سلوكنا ونتحمل المشاق، بل أحيانا الإفلاس كي نتمتع بها، كما يحدث مثلا عند أحد الآباء، يستدين ويسرف على زواج ابنته كي «يظهر» وينال إعجاب المجتمع، وقد يؤدي هذا «المظهر» إلى إفلاسه، ونحتاج إلى وجدان يقظ وعادات موضوعية في التفكير؛ كي نخالف هذه العقائد الاجتماعية، ونحن لا نسعد تماما بهذه المخالفة.
فحياتنا الاجتماعية السوية ضرورية لسعادتنا، ووصفها بالسوية هنا ليس له من المعنى أكثر من النزول على القيم والمقاييس والصور التي رسمها لنا المجتمع، أو بالأحرى: طبقة المجتمع التي ننتمي إليها.
وحياتنا الحرفية كذلك تكسبنا الكرامة الاجتماعية، والشاب الذي يخيب في الحصول على عمل منظم يكسب منه يحس هوانا عظيما لا يقل عما تحسه الفتاة التي تخيب في الحصول على زوج، وفي مجتمع اقتنائي كالذي نعيش فيه يجد الوارث الكرامة التي يجدها الموظف؛ بل أكثر. ولكن للحرفة ميزات سيكلوجية أخرى؛ لأنها تكسب النفس نظاما وأخلاقا، وهي تكون شخصية للمحترف المسئول، وكل هذه الفصائل لا يجدها الوارث إلا إذا كان يستغل عقاراته بنفسه، وهو عندئذ لا يكون وارثا فقط؛ بل يكون محترفا أيضا.
وخلاصة القول: إنه كي نعيش على وفاق مع أنفسنا وعلى وفاق مع المجتمع يجب أن نعنى: (1)
بحياتنا الجنسية التي يجب أن تكون سليمة من الشذوذات، كما يجب أن يكون هدفها الزواج، هذا الزواج الذي ننشد فيه الرفيقة الصديقة كي يصير الحب بين الزوجين متكافئا، ليس فيه استغلال أحدهما للآخر. (2)
بحياتنا الاجتماعية، فننزل على قيم المجتمع ومقاييسه ونجري في مضماره، وهذا بالطبع كلام للعاديين، ولكن هناك الفذ الذي لا يباليه، لأنه فذ، ولأنه يرسم صورة أخرى للمجتمع أرقى من الصورة القائمة، وهو يضحي بكراهة هذا المجتمع أو باحتقاره له. (3)
بحياتنا الحرفية، ويجب أن نختار الحرفة التي نحبها ونستطيع الارتقاء المالي أو الاجتماعي أو الذهني عن سبيلها؛ أي: يجب أن تكون الحرفة ارتقائية، نتحرك بها إلى الأمام ونرتقي فيها بتقدم السن، ولا نقف فيها جامدين نخرج منها في الستين أو السبعين كما دخلنا فيها أيام الشباب. (4)
وأخيرا؛ يجب أن نعنى بحياتنا الفراغية؛ أي: بفراغنا؛ لأن لكل منا فراغا يستطيع أن يستغله لترقية شخصيته ويعوض عن سبيله ما لم يتحقق في حياته الجنسية أو الاجتماعية أو الحرفية، واستغلال الفراغ يقتضي تعدد الاهتمامات بالتعلق بهواية ما، أو بالاستطلاع الدائم للمعارف واكتسابها، ومعظم نسائنا يتعسن أنفسهن بالقيل والقال وأكل اللب؛ لأنهن لا يستمتعن بالاهتمامات الكثيرة التي تشغل الرجال!
حياتنا الفراغية
في وسطنا المتمدن يكثر الفراغ، حتى إن موظف الحكومة في القاهرة مثلا يستطيع أن يجد كل يوم بعد طرح ساعات العمل والنوم والغذاء والرياضة نحو ثماني ساعات هو فارغ فيها لا يجد ما يشغله، وهناك بالطبع غير الموظفين ممن يعملون مستقلين في التجارة أو الصناعة، وقد يجدون مثل هذا الفراغ أو أقل أو أكثر.
ونحن ننظر إلى الفراغ هنا من الناحية السيكلوجية فقط؛ أي: من ناحية استعماله للتعويض من النقص في حيواتنا الثلاث: الجنسية والاجتماعية والفراغية، ذلك أننا - على الرغم مما نبذل من عناية وجهد كي ننتفع ونستمتع بهذه الثلاث - نجد فيها ألوانا من النقص تحدث لنا كظوما ترهقنا وتؤذينا وتؤخرنا؛ فإذا استخدمنا فراغنا فيما نرتاح إليه من هواية نتعلق بها، كدراسة لموضوع مفيد، أو صناعة يدوية ننفس بها عن كظم ونجد فيها فنا يرقى بنا أو نحو ذلك؛ فإننا لن نضيق بما نجد من معاكسات وصدمات في الوظيفة التي نحترف، أو في متاعب البيت أو في المجتمع.
ولهذا يجب أن يكون لكل منا هواية تخفف عنه هذه الكظوم، وفي الوقت الحاضر كثيرا ما نجد الزوج يهرب من بيته؛ لأنه يجد زوجة راكدة لا تماشيه في نشاطه ومثلياته، أو يهرب من المنزل لضوضاء الأطفال، بل أحيانا يهرب لأن له جارا لا يبالي أن يملأ الجو المحيط بصخب المذياع وأغانيجه ونهيقه، وواضح أن العلاج الأصلي هو العلاج المباشر بترقية الزوجة وتنشيط ذهنها واختيار منزل حسن في بقعة راقية يعرف سكانها قيمة السكينة، وتربية الأطفال وإيجاد السلويات والملاهي الحسنة لهم، ولكن إذا اتضح بعد مجهود معين أن هذه المحاولات لم تنجح النجاح الكامل، فإن الزوج يجب أن يخلو إلى نفسه من وقت لآخر؛ أي: مدة فراغه، وأن يمارس عملا يهواه فتنفرج توتراته، هذه التوترات التي لا يصح أن تنفرج بالخمر أو بألعاب الحظ السخيفة في القهوة.
ولكن الخيبة في الحياة الزوجية يجب ألا تؤدي إلى الفرار منها إلا وقتيا، ويجب الاستمرار على معالجتها بإحالة البيت إلى مجتمع راق يكثر فيه الضيوف من الأصدقاء والصديقات الذين يستطيعون أن يحركوا أعضاء البيت الراكدين إلى الرقي الثقافي والاجتماعي.
وكثيرا ما يخيب أحدنا في حياته الحرفية؛ لأن الحرفة وقعت له بالمصادفة فكانت كالشر اللازم يحترفها لما فيها من كسب فقط، وقد يجد من ممارستها مضضا كما يجد ألما من غطرسة الرؤساء، وبعيد أن يستطيع هو إصلاح هذه الحال، وهو إذا استخدم فراغه في عمل يحبه، أي: هواية يتعلق بها، فإن توتراته التي تحدثها له الحرفة وما يجد من كظوم في نفسه لأنه يمارس عملا يكرهه تنفرج؛ لأنه يمارس بهوايته عملا يرغب فيه بنفسه وعقله، ومثل هذه الهواية ينتفع بها كثيرا عندما يبلغ سن الستين ويحال على المعاش؛ لأنه لا يجد نفسه عندئذ عاطلا، بل يجد في هذه الهواية عملا يبعث نشاطه ويصون كرامته ويشغل كل وقته تقريبا، بل تصير هذه الهواية عندئذ كأنها عمر جديد.
وما نجد من نقص في حياتنا الاجتماعية كذلك نستطيع أن نصححه بحياتنا الفراغية، كأن ننتمي إلى حزب سياسي، أو نتابع دراسة معينة، أو نتخير الأصدقاء ونحرص على صداقتهم ونمارس نوعا من البر أو الكفاح نعرف قيمته ونرتاح إليه، وكثيرا ما يكون مرجع النقص في الحياة الاجتماعية جهلنا للسياسة العامة وأميتنا الصحفية؛ حتى إننا نقرأ الجريدة ولا ندري مغزى الأخبار؛ ولذلك يجب أن يكون لقراءة الجرائد والكتب الشأن الأكبر في رقينا الاجتماعي، كما يجب أن تكون بيوتنا بأثاثها متاحف يجد فيها الضيف الصورة الحسنة والآنية الجميلة الأثاث الفني، كما يجد الضيافة المستنيرة التي لا يحشد فيها الطعام والشراب، كأن البيت مطعم، بل يكثر فيها الفن والثقافة، وإذا لم يكن هذا مستطاعا حتى مع المثابرة في إيجاده؛ فإن الهواية تستطيع أن تعوض هذا النقص.
والمهم أن نعرف أن حياتنا النفسية السليمة تقتضي منا العناية بالبيت؛ أي: الزوجة والأولاد والحياة الجنسية، كما تقتضي العناية بالمجتمع وبالحرفة، ثم العناية بالفراغ.
السعادة
يختلف معنى السعادة عند الناس باختلاف ذكائهم وثقافتهم؛ فالسعادة عند العامي هي أن يجد - على الدوام - الإشباع لعواطفه؛ أي: طمأنينة من الخوف والمرض وشبعا من ناحيتي الطعام والجنس وما يتبع هذا من توافر المال والسلطة والوجاهة.
ولكن السعادة في لبابها هي الوجدان ؛ أي: زيادة الفهم لأنفسنا ولغيرنا من البشر وللدنيا وللكون، وكلما ازددنا وجدانا ازددنا سعادة، حتى ولو كان هذا الوجدان مؤلما؛ لأننا ننظر عندئذ بعقل حساس وقلب ذكي، نعقل لأننا نحس، ونحس لأننا نعقل، وفي كلتا الحالتين نستمتع بالفهم، وعندئذ يصير للحياة معنى لا يجده ولا يقاربه من يقنع بإشباع عواطفه.
وفي الاعتبار السيكلوجي نقول: إن السعيد هو السوي الوجداني.
وفي الاعتبار السيكلوجي أيضا نقول: إن الشقي هو النيوروزي العاطفي.
وفي مجتمعنا الحاضر نحتاج إلى العناية بالزواج (والعائلة) وبالمجتمع وبالحرفة، وأخيرا بالفراغ، ومتى عنينا بهذه الأشياء الأربعة وجدنا فيها جميعها الوسيلة إلى التوسع الثقافي، فتتسع بذلك آفاقنا ويزداد وجداننا.
والسعيد هو الذي يرتبط بالمجتمع بروابط كثيرة فيحس مسئوليات اجتماعية تحمله على أن يكون مفيدا للمجتمع، كما تحمله على تقبل الصعوبات، وعلى أن يدرس المجتمع، وعلى أن يمتاز بشجاعة اجتماعية، وهو لهذه الأسباب يجب أن يكون غيريا يؤثر مصالح الغير.
والشقي هو الذي يبتعد عن المجتمع ويكره خدمته لأنه أناني، وهو يجبن عن تحمل المسئوليات، فيغدو عقيما انعزاليا لا ينفع أحدا، وهو في انعزاله وكراهته للمجتمع لا يفكر في ترقية ذهنه بالثقافة؛ لأن الثقافة في لبابها اجتماعية فينقص عنده الوجدان وتزداد عاطفيته.
والسعيد ينمو؛ لأنه اجتماعي يحوي ما حوله بالذهن والعمل والدراسة والخدمة، ونظرته مستقبلية تطورية ينسى الهموم؛ لأنه يحلها أو يهملها.
والشقي لا ينمو؛ لأنه انعزالي قانع بعواطفه يجترها ويتغذى بها، وهو لا يدري ولا يعمل ولا يخدم، ونظرته إلى الماضي تقف عند حادثة في حياته، فيلصق بها ويجعل منها بؤرة للهم الدائم العقيم، يفتأ يذكرها ويعطل بها جميع مواهبه بذكرها، السعيد نشيط وجداني موطري متفائل، له هدف مستقبلي، دائم الحركة الذهنية والجسمية، والشقي راكد عاطفي ساكن متشائم، لا يتحرك إلى المستقبل؛ لأنه مقيد بالماضي، وهذا القول يصح عن الأمم كما يصح عن الأفراد.
والسعيد صريح سافر مستقيم الأخلاق في ضوئه النفسي.
والشقي متستر سري معوج ماكر، له وجهان أو ثلاثة وجوه.
والسعيد مجاهد يطلب ترقية ذهنه ونفسه وعائلته ومجتمعه، يؤمن بديانة ما قد استقر عليها بوجدانه.
والشقي جامد لا يرقي نفسه أو مجتمعه أو عائلته، ليس له دين، أو هو لا يعرف من الدين سوى الممارسات العقيدية اليومية المألوفة.
وقليل من التحليل للأخلاق ينير بصيرتنا؛ فإن الصراحة مثلا تخدم الصحة النفسية؛ لأننا لا نتحمل مجهود الإخفاء الذي يتحمله المنافق الموارب، والرقي والتطور بالدراسة والخدمة يملآن النفس سرورا، وهما يحركان النشاط ويصونان الصحة النفسية والجسمية؛ ولذلك فإن الكذاب والغشاش والمنافق والماكر، كل هؤلاء يتعبون؛ لأنهم يتحملون مجهودا في ستر أشياء لا يحتاج إلى سترها الأمين المخلص، والجامد الذي لا يرتقي ولا يتطور يحس تشاؤما ملازما؛ لأنه لا يجد مغزى لحياته.
والمتدين الذي سكن إلى ديانة حسنة وصل إليها بمجهوده - وليس بتقاليده - ينتقل في سلوكه وتصرفه من العاطفة إلى الوجدان، فهو يفكر أكثر مما ينفعل، في حين أن ذلك الآخر الذي لم يسكن إلى ديانة حسنة، قد وصل إليها بمجهوده، بل قنع بالممارسات المألوفة، يبقى على المستوى العاطفي، يكره أكثر مما يحب، ويتعصب ويغالي بلا روية.
والتدين كالغناء واللحن؛ إما عاطفة وإما وجدان؛ فالرجل الذي ربي نفسه وارتقى يحب الأغاني والألحان الوجدانية التي لا تكاد ترتبط بعاطفته، أو هو يرى على الأقل أن هذه العاطفة ليست جنسية؛ فالأغاني والألحان عنده ليست أغانيج، ونحن حين نستمع إلى باخ أو بيتوفن لا نحس أية يقظة جنسية، ولكننا نحس هذه اليقظة عندما نستمع إلى العامة، أو بالأحرى الغوغاء من المغنين والموسيقيين في أوروبا، ونحسها في جميع المغنين والموسيقيين في مصر تقريبا، بل إني لأستمع أحيانا إلى مغن مصري في المذياع فأجد أنه يغنج كالنساء، وهكذا الشأن في جميع الفنون؛ فإنها تخاطب العواطف عند العامة، وتخاطب الوجدان عند الخاصة المثقفة، وقد شرع الرسم يتجه نحو الوجدان في السنين الأربعين الأخيرة.
والمتدين كذلك قد يعتمد على العواطف؛ لأن له عقائد جامدة كثيرا ما تؤدي إلى الفساد الروحي كالتعصب مثلا، ولكن المتدين الذي يعتمد على الوجدان إنما ينمو بالمعارف والتفكير ولا ينقطع نموه طوال الحياة.
ويرى القارئ أني هنا أؤكد قيمة الوجدان في السعادة، وأعزو الشقاء إلى تسلط العواطف، وهذا هو ما انتهيت إليه، ولكن ربما يحتاج القارئ إلى رأي آخر؛ ولذلك أعرض عليه تفسيرات أخرى وضعها السيكلوجي العظيم أدلر يجد أنها تحليلية أو توضيحية للسعادة، وهي: (1)
نحن في طفولتنا يغمرنا عجز ونقص كلاهما يعين لنا طرازا من السلوك يلازمنا طوال حياتنا، كما يعين أهدافا نتجه إليها بنشاطنا. (2)
إذا كانت هذه الأهداف التي تكونت لنا في الطفولة بعيدة التحقيق، فإننا نشقى بها طوال حياتنا؛ لأننا لن نحققها. (3)
وواضح أن الهدف وطراز السلوك يتكونان - مدة الطفولة على سبيل التعويض - من نقص الطفولة وعجزها قبل اكتمال القوى العقلية الناقدة؛ ولذلك يرسخان ويشق التخلص منهما. (4)
إذا كان هذا الهدف وهذا الطراز للسلوك مخالفين لقواعد المجتمع فإننا نشقى بهما. (5)
يحدث أحيانا أننا ننقح الهدف أو الطراز، ولكن من الشاق جدا التخلص منهما؛ لأن جميع عواطفنا معبأة لخدمتهما. (6)
مجموع الوسائل التي نتخذها في تحقيق الهدف والطراز يكون شخصيتنا. (7)
كل إنسان ينشد السعادة يحتاج إلى المجتمع، فيجب أن تكون حياته اجتماعية. (8)
كي نأتلف مع المجتمع ونسعد به يجب أن نحل ثلاث مشكلات هي: المشكلة الجنسية بالحب والزواج والعائلة، والمشكلة الاجتماعية بالاتصال بالمجتمع والاهتمام بشئونه وخدمته وترقيته، والمشكلة الحرفية التي نكسب منها عيشنا «وقد زدنا نحن هنا مشكلة الفراغ». (9)
السعادة هي أن يكون الإنسان كاملا (وقد يصح التنقيح هنا بأن نقول: إن السعادة ليست الكمال، ولكنها محاولة الكمال).
وليس المعنى من كل ما ذكرنا أننا لن نشقى إذا اتبعنا هذه القواعد، وإنما نعني أننا نكون أقرب إلى السعادة إذا اتبعناها، وفي هذه الدنيا شقاء لا يستطاع استبعاده بأية قواعد، كالأم تفقد ابنها، أو أي إنسان تقع به حادثة تحرمه من أعضاء ثمينة، أو المعيشة في مجتمع فاسد يؤمن بعقائد سيئة أو يخضع لسلطان فاجر أو نحو ذلك، فنحن هنا نشقى، ولكن هذا الشقاء يخف إذا تلقيناه بالوجدان، ويثقل إذا تلقيناه بالعاطفة، وقد نستطيع معالجته وإصلاحه في الحال الأولى، أما في الحال الثانية فلا علاج، ثم ماذا نقول في عامل يعول نفسه وزوجته وأولاده ثم تزدحم السوق بالبضائع فيقفل المصنع ويطرد عماله أو بعضهم؟ فيجد هذا العامل نفسه عاطلا عاجزا عن شراء القوت، هل نوهمه بالسعادة وهو في أشقى الشقاء؟
وفي مثل هذه الحالات لا تتعلق السعادة بالفرد وإنما تتعلق بالمجتمع؛ ومن هنا صار أدلر السيكلوجي العظيم اشتراكيا يطلب توفير العمل والكسب لجميع الناس.
وأخيرا نقول: إن السعادة تختلف عن السرور، الأولى فكرية والثاني مادي، فنحن نسر بالطعام أو الشراب أو المسكن أو الأتومبيل أو المنصب العالي أو الأبهة، ولكن كل هذه الأشياء لا تسعدنا؛ لأننا إنما نسعد بالفكرة؛ أي حين نكافح من أجل تحقيق غاية نعتقد أنها سامية نافعة، أو حين نخدم شأنا له قيمة تتجاوز ذواتنا كالأم تخدم طفلها وتنشد فيه رجلا، وكالمؤمن بدين يحاول نشره على الرغم مما يعترضه من صعوبات، وكالداعية إلى إصلاح اجتماعي معين، فكل هؤلاء سعداء يرضون عن ألوان من الحرمان والبؤس لا يطيقها غيرهم؛ لأن سعادتهم في الفكرة التي يخدمونها.
وسائل عملية للسعادة
كلمة السعادة من الكلمات المشتبهات التي يختلف كثيرون في معناها، فهي عند البعض ثراء يغني عن الكد، وعند آخرين قناعة تغني عن الثراء والكد معا، وعند فريق ثالث شهوات لا تنطفئ، إلخ.
ولكن عندما نتأمل الأحوال الاجتماعية التي نعيش فيها، نجد أننا مرتبطون بتبعات يلقيها علينا المجتمع من حيث لا يأمر بالتنفيذ ولا يعاقب عند الإهمال ولكنه؛ أي: المجتمع، يندس في قلوبنا ويعين لنا ميولا واتجاهات، ويخلق في ضمائرنا رغبات وشهوات نحس الابتئاس العظيم إذا نحن أهملناها أو عجزنا عن تحقيقها.
ولكل مجتمع أهدافه التي يعين بها معاني الكرامة والضعة، والعظمة والخسة، والتفوق والتخلف.
فقد كان مجتمعنا - إلى وقت قريب - يجعلنا أو يجعل الكثيرين منا يبتئسون لأنهم لم يحصلوا على رتبة بك أو باشا، كما كان هناك كثيرون من أثرياء الأرض الذين كانوا يحسدون أثرياء آخرين غيرهم؛ لأنهم هؤلاء يملكون ألف فدان، أما هم فلا يملكون سوى ثمانمائة فدان.
وقد تغير مجتمعنا وتغيرت أهدافنا، فليس منا من يقول: إنه لن يكون سعيدا إلا إذا حصل على ألف فدان؛ لأن قصارى ما يصبو إليه هو مائتا فدان.
ونعني بهذا المثل أن المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان يعين له أهدافه ووسائله، بل يحددها، وهو بهذا التغيير أو التحديد، يعين أخلاقه ونوع السعادة التي ينشدها أيضا، بل يعين رذائله وفضائله.
ولكن هناك مبادئ عامة لكل المجتمعات، تتطلب من الفرد أخلاقا معينة وهي - كما قلنا - لا تفرض عقوبة للمخالفين، ولكنها - لقوة الجو الاجتماعي الذي نعيش فيه - تجعل هذه الأخلاق أو الاتجاهات حتمية، حتى لقد ينتحر أحدنا إذا أحس عجزا عن تحقيقها.
وهذا التحقيق هو السعادة، وعلى قدر ما نحقق من هذه الأهداف والأخلاق يكون مقدار سعادتنا.
وكيما نسعد في حياتنا يجب أن تتحقق هذه الأهداف الأربعة: (1)
مرتزق نعيش منه بما ننتج للمجتمع. (2)
كرامة اجتماعية أو مقام اجتماعي نحس به أننا محترمون. (3)
حياة زوجية سليمة. (4)
تجدد؛ أي: تطور.
هذه هي الأهداف الأربعة التي يقول بها السيكلوجيون، وأيما نقص فيها قد يؤدي إلى انحرافات خطيرة أو خفيفة، وقد تكون هذه الانحرافات جريمة نقع فيها، أو شذوذا نفسيا قد يصل بنا - أو لا يصل - إلى الجنون؛ فإن العاجز عن الارتزاق قد يسرق ويأثم، وأحيانا نجد من ينتحرون لأن كرامتهم الاجتماعية قد أهينت، وكذلك الحياة الزوجية إذا فسدت فإنها تؤدي إلى ضروب من الشقاء، من الطلاق إلى الهجران، إلى غير ذلك، وأخيرا نجد أن الرجل الراكد الآسن الذي يرفض التطور يعاني سأما، ويجد كل شيء ماسخا في الحياة.
وهذا كلام موجز عام نحتاج إلى شرحه. •••
فإما الارتزاق فيعد في أول الشروط للسعادة، ونعني القدرة على الارتزاق بالإنتاج، وهذا يطالبنا بأن نكون على شيء من المهارة الفنية التي يحتاج إليها المجتمع.
ولكل مجتمع مهاراته المختلفة التي يحتاج إليها، فقبل نحو خمسين سنة حين كنت صبيا كنت أعرف أحد الأثرياء المحترمين الذين جمعوا ثراءهم لمهارة فذة هي ركوب الخيل والحمير وتعليمها، وقد تغير مجتمعنا فلم تعد تصلح هذه المهارة لضمان الكسب والثراء، وكذلك الشأن في مهارات مختلفة عبثت بها حكومتنا، أو هي دعت إليها وعلمت الشبان في الجامعات الأوروبية لتحقيقها، حتى إذا نجحوا في تحقيقها لم تجد فيم تستخدمهم، واضطرت لذلك إلى أن ترزقهم من حيث لا يمتازون بمهارة خاصة، فابتأسوا.
ولكن العبرة أن نتعلم مهارة خاصة تكون وسيلتنا للعيش الشريف الذي لا نحتاج فيه إلى الرجاء أو التوسل، ثم هذه القدرة على أن ننتج عملا يحتاج إلى مهارة، هي في النهاية وسيلتنا إلى الكرامة الاجتماعية التي نتوخاها، بل هي مقياسنا الذي نقيس به صلاحنا وسعادتنا.
والكرامة الاجتماعية هي شيء كبير جدا في سعادتنا، وهي بالطبع تختلف بين بيئة وبيئة وبين مجتمع ومجتمع؛ فهناك ما يملكه أحدنا من أفدنة، أو ما يحوزه من ألقاب علمية، أو ما يؤلفه من كتب، أو ما يشفي من مرض إذا كان طبيبا، أو ما يكسب من قضايا إذا كان محاميا، إلخ.
وأعظم رجل في مصر في أيامنا محمد نجيب، لا يملك قيراطا من الأرض، ومع ذلك ترتفع كرامته إلى أعلى مستوى، وهو بذلك سعيد؛ إذ هو قد وجد ميدانا آخر للكرامة لا يمت إلى ثراء أو وجاهة أو لقب.
ولكن مع جميع اختلافاتنا، نحتاج إلى أن نحس أن المجتمع يحترمنا وأننا غير محتقرين، وعندما نسمع عن أحد التجار أو أحد الطلبة أو أحد الموظفين أنه قد حاول الانتحار؛ فإن السبب الخفي لهذه المحاولات هو خوفه من الاحتقار؛ فإن التاجر يخشى الإفلاس، والطالب يخشى الرسوب، والموظف يخشى الفضيحة لأنه اختلس، وهذه الخشية هي في النهاية خشية الاحتقار الاجتماعي.
وإنما يكفل لنا الكرامة الاجتماعية مرتزق حسن نبدي فيه مهارة تعود علينا بكسب يكفل لنا العيش الكريم، بحيث لا نحتاج أو لا نضطر إلى انحراف أو شذوذ يجلب علينا احتقار المجتمع.
وإحساسنا بالكرامة الاجتماعية هو أيضا وقاؤنا من الانحلال والإسراف والشطط، بل من الشذوذ والإجرام.
وما زلت أذكر مع الضحك أحد المجرمين، وكان ذكيا، قعد إلي يحدثني عن جريمته، فكان ما قاله أن كل الناس يحبون أن يرتكبوا الجرائم لولا أنهم يخجلون، والخجل هنا هو الإحساس الاجتماعي بالاحتقار الذي يعود عليهم إذا شذوا أو سقطوا.
وهذا الإحساس بالكرامة يعم الناس في جميع الأعمار تقريبا ويحسون ضرورته، فإن الصبي الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة قد يبتئس، ويحس أن الدنيا كلها حالكة إذا كانت أمه تهينه أو تحتقره أمام إخوته، وقد يضحي بكل شيء في سبيل استرداده لكرامته المجروحة، ومما يؤسف له أنه يفعل ذلك أحيانا بأساليب طفلية، كأن يؤكد شخصيته وكرامته عن سبيل الإيذاء أو المغامرة.
والحياة الزوجية السليمة هي أحد الأركان الذي يدعم السعادة؛ لأنها تكفل لنا نفسا سليمة من الكظم المؤذي، كما أنها - إلى حد بعيد - تجعلنا نحس الكرامة الاجتماعية التي تنقصنا ما دمنا في العزوبة، وهناك آلاف من الناس يتزوجون لتحقيق الكرامة الاجتماعية فقط.
وفي مجتمعنا الحاضر الذي يحفل بالطوارئ الاقتصادية والتفاوت الاجتماعي والأمراض المختلفة، يحتاج كل منا إلى هذا الحصن المأمون، وهو البيت الذي نجد في نظامه العائلي تضامنا كما لو كان شركة تأمين عامة لجميع أعضائه، وهناك أرقام لا يتطرق الشك إليها، تدل على أن المنتحرين من العزب أكثر جدا من المنتحرين من المتزوجين، ودلالة هذه الحقيقة تحملنا على الاعتقاد بأن الأعزب لا يستمتع بحياته، ولا يجد لها جذورا تربطه بالدنيا كما يجد المتزوج؛ ولذلك يسهل عليه تركها بالموت.
وعائلة حسنة هي شيء كبير في السعادة.
ولكن العائلة الحسنة هي تلك التي تنبني على الحب، وليس بعيدا أن ينمو الحب بعد الزواج إذا لم يكن قد نما قبل الزواج، ولكن السعادة تكون مكفولة أكثر إذا كنا نجعل الحب أساس الزواج، ولا نتزوج إلا بعد تعارف طويل نثق منه أننا نحب هذا الشريك الآخر الذي ننوي أن نعيش معه ونعاشره طيلة العمر.
وقد أعجبت بقول الإمام ابن حزم في «طوق الحمامة» أنه لا يمكن إنسانا أن يحب امرأتين، وإنما هو يشتهيهما فقط، وفرق عظيم بين الاشتهاء والحب؛ ولذلك يجب أن يعنى الشاب أكبر العناية قبل الزواج بهذه الفتاة التي يخطبها، وأن يهدف من زواجه منها إلى العمر كله بلا حاجة إلى طلاق أو ضرار.
وليست عائلاتنا سعيدة لتفشي الضرار والطلاق فيها، بل إن هذا التفشي هو الأصل للأمراض النفسية التي تعانيها زوجاتنا أو كثيرات منهن، وهي الأمراض التي يحاولن معالجتها بالزار.
ومما يفسد الزواج أن يحتوي البيت الحماة سواء أكانت أم الزوج أم الزوجة، وقد تكون هذه السيدة من فضليات النساء، ولكن موضعها العائلي - باعتبارها حماة لأحد الزوجين - يحيل البيت إلى جهنم. •••
قلنا: إننا كي نسعد بحياتنا، نحتاج إلى مهارة فنية تتيح لنا الارتزاق بالإنتاج الشريف، ثم نحتاج إلى مركز اجتماعي يكفل كرامتنا، ثم إلى عائلة حسنة نعيش فيها آمنين، نلجأ إلى بيتنا كما لو كان حصنا لا تستطيع الكوارث أن تدخله.
ولكن السعادة تحتاج إلى شرط رابع ربما كان أخطرها جميعها، وهو أن نتطور ونتجدد بأية صورة، فقد تكون السياحة تجددا من حيث إنها تنقلنا من وسط إلى آخر، فنحس كما لو كنا نعيش عمرا آخر، حتى ولو لم تزد مدته على شهور نزور فيها باريس أو أسوان أو لبنان.
وقد تكون فنا جديدا نتعلمه ولو كنا في آخر العمر؛ لأننا نحس ونحن نمارس هذا الفن الجديد أننا في ارتقاء، في صعود، وأننا نحيا الحياة الحيوية التي لا تعرف الركود.
وأولئك الذين جعلوا الثقافة عادتهم يحسون هذا الارتقاء المتوالي؛ لأنهم يجدون في تجدد الموضوعات التي يدرسونها تجددا شخصيا لهم، بل هم يتطعمون الحياة التي تمسخ عند غيرهم من الذين لا يدرسون، وإني لأعرف أحد هؤلاء المثقفين في الخامسة والستين من عمره، يدرس هذه الأيام الذرة بكل ما فيها من ارتباكات ومشكلات، وهو سعيد ملتذ بجهده هذا.
ولكن ربما كان أعظم ما يكفل السعادة أن يندغم الإنسان في كفاح إنساني للخير والبر والشرف؛ فإن هذا الكفاح يكسبه الكرامة السرية التي يتحدث بها إليه ضميره، كرامة السيف في غمده، قد تنظر إليه أنت فلا تجد ما يؤهله للسعادة، ولكنه هو يعرف من نفسه، ومن قلبه، ومن هدفه، أنه سعيد، بل أعظم السعداء، وأن ما ينزل به من كوارث المرض أو الفقر أو الإهانة الشخصية ليس شيئا في جانب الكرامة التي أضفاها عليه كفاحه الإنساني في خدمة البشر.
وهذا الكفاح هو ما نجد عند القديسين والأبطال والأحرار الذين قاوموا الطغاة؛ فإننا حين نقرأ سيرتهم نعتقد أنهم ضحوا بالكثير من سعادتهم كي يحققوا الغاية التي نصبوا أنفسهم لتحقيقها، ولكن الحقيقة أنهم كانوا سعداء بتعبهم وعرقهم وحرمانهم من أجل الكفاح الذي خدموا به الإنسانية.
وحبذا هذا الكفاح نملأ به حياتنا الفارغة، ونندغم به في التيار الإنساني للخير والشرف؛ فإننا حين نفعل ذلك لا نبالي أن نحيا على كسرة من الخبز في كوخ من الطين، بل لا نسأل عن معنى السعادة؛ لأننا لا نحتاج إلى هذا السؤال؛ إذ نحن فيها نؤدي رسالة ونقصد إلى هدف.
النفس السليمة
في الاتجاه السيكلوجي الذي نتبعه هنا نعتقد أن النفس السليمة هي نفسها النفس السعيدة، وأن السعادة هي الوجدان، وما نذكره هنا إذن إنما هو إرشادات تفصيلية توضح لنا كيف نتجنب المرض النفسي؛ أي: كيف نتجنب الشقاء.
أول شرط للسلامة النفسية أن نتجنب الهموم، وهذه هي السلامة السلبية، أما السلامة الإيجابية فتقتضي تقبل الاهتمامات، والفرق بين الهم والاهتمام أننا نجتر الأول اجترارا؛ لأنه يتصل بعاطفة قد انفعلنا بها انفعالا شديدا، ونحن في هذا الاجترار لا نمل هذا الهم، بل نجد أنه قسري شأن العواطف الطاغية فلا نملك التخلص منه، وقد يكون لالتصاقنا بالهم هدف، كما يقول أدلر، هو أنه؛ أي: الهم يمنعنا من تحقيق الغايات الاجتماعية كالنجاح في الحرفة أو التفوق في المجتمع أو الدراسة أو نحو ذلك، وعند أدلر أن جميع الأمراض النفسية - والهم أولها وأخفها - تعود إلى أننا نبغي بها غاية هي الهرب من الواجبات الاجتماعية ومن مواجهة الحقائق اليومية، كأننا نقول أمام المجتمع وأمام ضمائرنا: «كيف تطلبون مني النجاح وتأدية الأعمال الحرفية وأنا مثقل بهذا الهم؟ اعذروني.»
فنحن نلصق بالهموم وكأنها الدواء الذي نرفض تركه؛ ولذلك نجد أن هذه الهموم قسرية نتعلق بها على الرغم من إرادتنا الوجدانية، نفتأ نفكر فيها ونجترها كما يجتر البهيم طعامه يجره إلى فمه ثم يرده، بل نفكر فيها بالليل ولا ننام، ونبقى على هذه الحال الشهور والسنين لا نؤدي عملا مفيدا لنا أو للمجتمع، وعندما يتغلب علينا الهم يسودنا، بل يتسلط علينا فتور، بل جمود فكري وجسمي، فلا ننشط إلى دراسة أو عمل.
أما الاهتمام فليس كذلك؛ إذ هو يبعث النشاط والحركة، وقد يكون الاهتمام خاصا أو عاما، ولكن الميزة التي تفصله من الهم أنه وجداني إرادي وليس قسريا عاطفيا مثل الهم؛ ولذلك يجب أن نلجأ إلى الاهتمامات نعالج بها الهموم إذا كان هذا مستطاعا، ويجب أن نذكر أن حركة العضو تؤدي إلى حركة العاطفة؛ فإذا وجدنا مثلا أن الاهتمام بالدراسة والتفكير شاق؛ لأن عاطفة الهم طاغية قد ربطت العقل ومنعت حركته؛ فإننا نستطيع أن نحرك الجسم بالعمل الذي يشعرنا بالكرامة ويثير إحساساتنا الاجتماعية، كأن نتكلف أي عمل نافع للمجتمع؛ فالمرأة المهمومة تمارس التمريض أو خدمة اليتامى أو التعليم في مدرسة للفقراء أو جمع التبرعات لعمل خيري، والرجل المهموم يعالج مثل هذه الأعمال التي تتفق وقدرته ومكانته، وتحريك الجسم أسهل جدا عند الذين طغى عليهم الهم من تحريك العقل.
والشرط الثاني للسلامة النفسية أن نجد على الدوام فترات نستطيع أن نتخلص فيها من التوترات المختلفة، حتى ولو لم تكن هذه التوترات هموما مرهقة، والنوم بالطبع يخلصنا إلى حد بعيد من هذه التوترات، ونعني بالتوتر هنا أن النفس تكون مشدودة يقظة متنبهة قلقة، كما هي الحال عندما تحملنا واجباتنا على مواجهة المشاكل والصعوبات التي لا تخلو منها الحياة، والنوم بعد الظهر هو علاج حسن لمثل هذه التوترات.
والنوم هو استرخاء تام، ولكن إذا كانت أعمالنا تطالبنا بمجهود كبير نحس أنه يثقلنا، فإننا يجب - من وقت لآخر - أن نلجأ إلى الاسترخاء الجسمي الذي يؤدي إلى استرخاء نفسي، ويمكن أن يكون هذا الاسترخاء بالقعود على كرسي في فترات قليلة متكررة، أو بالحديث مع صديق على قهوة، أو ملاعبة في أحد ألعاب الحظ، إلخ؛ فإن الاسترخاء هنا يعيد إلى البندول النفسي اتزانه.
ولكن يجب ألا ننسى أن التوتر الذي قد يحسه أحدنا قد لا يرجع إلى أن واجبات العمل ثقيلة في ذاتها؛ إذ ربما يرجع إلى كراهة العامل فيها لعمله.
وظني أن معظم السبب للأمراض النفسية عند الأمريكيين يعود إلى التوتر البليغ الذي تبعثه فيهم المباراة الاقتصادية وإيمانهم بإنجيل النجاح، وبالطبع نحن لا ننسى أن كثيرا من التوتر عند الشبان يعود إلى الحرمان الجنسي، وهذا التوتر كثيرا ما يحول بين التلميذ أو الطالب «بين 14 و19 سنة» وبين الدراسة، ولا نستطيع أن نصف علاجا عاما لهذه الحالات، وإنما هي تحل حلا يتفق مع الظروف الخاصة لكل فرد.
والشرط الثالث للسلامة النفسية أن نكون طيبين قانعين؛ أي: لا نتهور في مطامع بعيدة نتعب في تحقيقها ولا نحققها، وهذه المطامع تتكون أحيانا في الطفولة وهي تسوقنا سوقا، بعناصر تختفي في الكامنة (العقل الكامن) وهي ترهقنا بمجهود قد لا نتحمله، كما أنها تحملنا على أن نكون أنانيين غير اجتماعيين، والأنانية أسوأ الرذائل السيكلوجية؛ لأننا لن ندرس ولن نصادق ولن نستمتع بتلك الاستمتاعات الاجتماعية العديدة ما دمنا أنانيين، بل إن الأنانية تضرم في أنفسنا غليلا لا ينطفئ، يجعل التوتر عادة نفسية نصبح ونمسي بها ونحن في تعب وإرهاق.
وقد سبق أن عرفنا أن السعادة، وهي عندنا السلامة النفسية، تقتضي من كل منا أربعة أشياء هي: (1) التلاؤم العائلي بالزواج الذي يكفل البيت الحسن، وتجنب التوتر الجنسي بالحرمان، وأيضا وجود العش الذي نأوي إليه. (2) المقام الاجتماعي الذي نكسبه بالاختلاط النفسي «بالثقافة» والجسمي بالاختلاط والاشتراك في النشاط الاجتماعي المختلف. (3) الكرامة الاجتماعية من الحرفة التي نكسب منها عيشنا. (4) الفراغ الذي يجب أن نقضيه في نظام ونجد فيه الهواية نمارسها عن حب وتعلق؛ لأنها تعوضنا من النقص الذي لا نستطيع تجنبه في الزواج أو الحرفة أو المقام الاجتماعي.
وإلى جنب هذه الأشياء الأربعة يجب أن نتجنب الهموم والتوترات والمطامع البعيدة التي لا تتحقق.
والوجدان وحده يكفي للعلاج؛ أي إننا نلجأ إلى النظر أو التأمل المنطقي الموضوعي، ولكن المريض الذي تغلبت عليه الهموم كثيرا ما يعجز عن هذه المعالجة الوجدانية الموضوعية، وهو يحتاج إلى من يحلله ويسبر أعماقه ويصف دواءه. •••
هذه الشروط الأربعة للسعادة هي لأولئك العاديين من الناس، الذين يقنعون بالنثر دون الشعر، وبالسعي على القدمين دون الطيران بالجناحين.
أما العبقريون من الناس فيعرفون - دون أن نعرفهم نحن - أن السعادة هي كفاح يلتهم العمر كله لخدمة البشر ومكافحة المستبدين والمستعمرين، ومحو الفقر والجهل والمرض، ورفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية، وتعميم المعارف العلمية كي تمحو العقائد الخرافية، وهم سعداء على أعلى مستوى من السعادة؛ لأنهم لا يعيشون سدى، وإنما يعيشون عن قصد ويرمون إلى هدف.
المرض والصحة درجتان
المرض والصحة في النفس درجتان وليسا نوعين مختلفين، فنحن الذين نعيش أحرارا نجول في الشوارع بلا مانع ونكسب عيشنا، لا نختلف عن المرضى المحجوزين في المارستانات إلا في الدرجة فقط؛ أي إن هؤلاء المرضى قد اتجهوا الوجهة التي نتجهها نحن كل يوم، بل كل ساعة، ولكنهم أسرفوا وبالغوا.
نحن الأصحاء نضبط عواطفنا بالوجدان، وكلمة «نضبط» هي كلمة تقريبية غير مطلقة؛ إذ من هو منا ذلك الذي يستطيع أن يقول: إنه يملك عواطفه ويضبطها؟ أما المريض فلا يملكها بتاتا، بل ينساق فيها.
أنا العاقل عندما تتملكني عاطفة الغضب أهب إلى من أغضبني وقد أضربه بيدي أو أقول: يا ابن الكلب، يا حمار، أو قد أكتم هذا الغضب فأجد أن يدي ترتعش، أو أن العرق يسيل من وجهي، وهذا السلوك يدل على مرض نفسي، ولكنه وقتي سرعان ما يزول.
أما المريض فإذا تملكته عاطفة الغضب عمد إلى خصمه فخنقه وقتله، أو هو يضبط العاطفة بجهد كبير، فلا بد من أن ترتعش يده كما ارتعشت يدي، يجد شللا في ذراعه، وهذا الشلل نفسي نسميه هستيريا، ولكن ارتعاش يدي كان من مبادئ هذه الهستيريا، وكذلك هذياني بأن خصمي ابن كلب أو حمار هو شذوذ وقتي لو طال؛ أي: لو احتقنت عاطفة الغضب، لصار مرضا.
وامتيازي على هذا المريض درجي، فكلانا قد غضب، ولكني أنا السليم قد استيقظت قليلا من وجداني وقنعت بقولي: يا ابن الكلب، أو كظمت غيظي، فأدى هذا الكظم إلى ارتعاشي أو ارتشاح عرقي، أما هو فقد استسلم لعاطفته وقتل الخصم، أو هو قد كظم غيظه أيضا، ولكن؛ لأن عاطفة الغيظ عنده كانت فادحة، فقد أحدثت له في جسمه شللا.
نحن نمرض لأن في النفس عاطفة مختنقة لا نعرف كيف نتخلص منها ولا نملك هذا التخلص، واحتقان العاطفة يشبه احتقان الكبد على التقريب، فهي غيظة مكظوم، أو حزن يائس أو غدة مضطرمة، أو خوف متردد، أو نحو ذلك من العواطف الطاغية التي لا تبرح النفس، ولو كان للمريض وجدان يسود تصرفه وكان قد تدرب على التعقل والمنطق والنظر الموضوعي لاستطاع أن يتغلب على هذه العواطف، ولكن حتى مع الوجدان السليم تطغى أحيانا بعض العواطف علينا ويعجز وجداننا عن التصرف بها؛ ولذلك نجد أحيانا فيلسوفا قد انتهت حياته بالجنون أو الانتحار، وقد يعزى هذا إلى أنه يعرف من فساد الوسط الذي يعيش فيه أكثر مما يعرفه غيره، كما أنه يعرف من وسائل العلاج ما لا يعرفه غيره، فلا يطيق هذه الحال: فسادا عاما وعلاجا ميسورا بلا محاولة للإصلاح؛ ولذلك ينهار وجدانه.
وسنرى أن انهيار الوجدان هنا هو إحدى الوسائل إلى راحته النفسية، ذلك أن هذا الوجدان قد أقلقه وأتعبه كثيرا؛ لأنه عرف أن تفكيره ومجهوده عقيمان، فهو يلجأ إلى أحد الأحلام تخترعها نفسه كي يرتاح، كما رأينا في تلك الزوجة التي لم تطق تقريع زوجها لها بأنها هزيلة لا تسمن، فعمدت إلى أسطورة ارتاحت إليها، وهي أنها امرأة طاهرة وزوجها رجل نجس، وأنه لا يجوز له أن يقربها.
وقد كان أفلاطون يقول: إن ما يحلم به العقلاء في النوم يعمله المجانين في اليقظة، فحياتنا وقت النوم هي حياة العواطف العارية، وهي تقارب هذه الحال في خواطر اليقظة؛ فإذا غاظني أحد وأهانني فإنني أتخيله في خواطر اليقظة مهانا مضروبا، وقد أقتله في الحلم، وأجد في هاتين الحالين تعويضا يريح النفس ويرفه عنها مما لاقته في الواقع، ولكن سرعان ما أعود إلى وجداني وأترك هذه الخيالات.
ولكن المجنون يستسلم كل وقته، أيامه ولياليه، لهذه الخواطر وهذه الأحلام حتى ينسى الواقع ويلغي وجدانه؛ فالفرق بيني وبينه هو فرق في الدرجة.
وأنا في النوم أحلم بالكابوس كنتيجة للمخاوف المترددة في ساعات اليقظة وظروف المعيشة، وقد أصرخ وأنا نائم، ولكن عاطفة الخوف التي أحدثت عندي هذا الكابوس تحتقن وتقدح عند المجنون فتحدث كابوسا دائما يزعجه بألوان مختلفة من المخاوف لا يستيقظ منها إلى الوجدان.
ونستطيع أن نذكر الأمراض النفسية كي نرى بذورها في أنفسنا، فكلنا نسمع كلمات نيوروز، سيكوز، هستيريا، شيزوفرينيا، مانيا، بارانويا.
وكل مريض بأحد هذه الأمراض يستحق الحجز أو العلاج.
ولكن نحن العقلاء، ليس فينا واحد، يخلو منها، أو بالأحرى من بذرتها كما نرى فيما يلي: (1)
النيوروز هو احتداد أو توتر العاطفة وملازمتها، كأن يتسلط علينا الخوف من الإفلاس أو الموت أو المرض، أو يتسلط على الزوجة الغيرة، أو يتسلط علينا هم لا يبارحنا، فهنا نيوروز يجعل حياتنا عظيمة وهو يبدد قوتنا النفسية ولا يخف بخواطر اليقظة أو الحلم، كما أننا لا نستطيع تسليط الوجدان على العاطفة هنا؛ لأنها طاغية فتعجز عن معالجة الموضوع بالمنطق والتعقل والنظر الموضوعي؛ لأن تسلط العاطفة يجعلنا ننظر النظر الذاتي، والنيوروز يتسم بأنه قسري.
ونحن العقلاء نجد ألوانا من هذا النيوروز المخفف في عواطف تتملكنا التملك القسري في وقت ما، حين نستسلم لخواطر الغضب أو الخوف، والهم إذا طغى صار نيوروزا، وإذا خف لم يعد شيئا يؤبه به؛ لأن كلا منا إلى حد ما يجده.
وقد يقدح النيوروز؛ أي: تتفاقم العاطفة وتثقل، وعندئذ نخترع؛ أي: نتخيل علاجا زائفا هو السيكوز.
فأنا السليم الذي منع عني الطبيب الطعام أضيق بعاطفة الجوع، وأخفف عن هذا الضيق بأن أتخيل - في خواطر اليقظة والأحلام - أني آكل وأشبع على مائدة حافلة بالألوان، وإذا استيقظت لم أصدق أني أكلت.
ولكن المريض الذي يضيق بعاطفة الغيظ المكظوم يخترع ويتخيل أنه قد قتل خصمه واستولى على ممتلكاته، وتثبت عنده هذه الدعوى فلا يرجع عنها في يقظته، وهو هنا قد انتقل من النيوروز - مرض العاطفة - إلى السيكوز - مرض العقل - وارتاح إلى هذا المرض الجديد؛ لأنه أنقذه من توتر العاطفة. (2)
السيكوز هو مرض العقل؛ أي إن المريض يؤمن بأنه ملك أو ثري أو وزير، أو تعتقد المريضة أنها أم كلثوم أو جريتا جاربو، ونحن في أحلامنا نعيش في سيكوز نحلم بأننا نطير، أو بأننا في حضن امرأة جميلة، أو أننا قد سافرنا إلى الصين، ولكن إذا استيقظنا رجعنا إلى حقائق الواقع، أما المريض فلا يرجع إلى الواقع، وفي خواطر اليقظة أحيانا نستسلم لمثل هذه الخيالات اللذيذة ونرتاح إليها بعض الوقت، ولكن المجنون يلصق بها كل الوقت؛ فالفرق بيننا وبينه درجي، نحن نترك العاطفة تطغى بعض الوقت (= نيوروز) أو نخترع ونتخيل حالات وصورا ذهنية نرتاح إليها (= سيكوز) فإذا عدنا إلى وجداننا زال كل هذا، أما المجنون فتطغى عليه العاطفة (= نيوروز) أو هو يسكن إلى الخيالات والصور التي اخترعها كي يرتاح إليها من غليل العاطفة المتأجج ولا يعود إلى وجدانه (= سيكوز). (3)
الهستيريا هي مرض جسمي له أصل نفسي، وأوله عندنا نحن العقلاء عاطفة مكظومة تتسلل إلى الخروج بشتى الطرق، كالعرق يصيبني وقت الخجل، أو جفاف الريق والحلق إذا وقفت على المنبر للخطابة، أو ارتعاش اليد للخوف، وقد يفدح قليلا كالإسهال من الهم، ولكنه في المريض يتفاقم أكثر، كأن يحس المريض فالجا يمنعه من مبارحة السرير، أو هو يعمى، أو يحس صمما.
تأمل رجلا يعيش مع زوجة من الأبالسة في الشر والعنت والإيذاء، يكره الدنيا لأنه كرهها، ولكنه بدلا من أن ينتحر كما يفعل غيره في مثل هذه الظروف يجد نفسه أعمى، والعمى هنا في التفسير النفسي مرادف للانتحار؛ إذ هو يعبر عن كراهته لها وللدنيا من أجلها، وهو علاج مثل علاج السيكوز في اختراع وتخيل حالة حسنة تفرج عن الغيظ أو الحزن أو الهوان المكظوم. (4)
الشيزوفرينيا هي مرض يحمل المريض على تجنب الناس، وهو يعتزل ويستسلم لخواطره شهورا بل سنين، فينقطع ما بينه وبين العالم انقطاعا تاما، ويستسلم لخواطره وعواطفه، حتى يخترع لنفسه عالما كاملا يسكن إليه، وكلنا إلى حد ما نجد مثل الشيزوفرينيا حين نأوي إلى غرفتنا وننفرد ونكره لقاء الناس، ونستسلم لخواطر لذيذة تعوقنا من الشقاء الذي نحسه في الحياة الاجتماعية، ولكنا نحن الأصحاء نقنع من هذه العزلة بوقت قصير، أما المريض فيلتزمها طوال حياته، والانطوائيون كثيرا ما يقعون في الشيزوفرينيا؛ لأنها تتفق ومزاجهم الانفرادي الانعزالي. (5)
المانيا هي الحزن الفادح أو الطرب العظيم، وهي في المريض تلازمه طوال الحياة أو معظمها، وقد يطرب شهرا ثم يحزن سنة، وقد يضحك ويبكي في يوم، وتتناوبه نوبات من السرور والغم، ومن منا ينكر أن هذه النوبات تنتابه أيضا؟ ولكن في درجات خفيفة لا يحس أنه يحتاج فيها إلى علاج.
والانبساطيون كثيرا ما يقعون في المانيا؛ لأنها تتفق ومزاجهم الاجتماعي؛ إذ هم يفرحون كثيرا ويغتمون كثيرا، ويجب ألا ننسى أن الفرح والغم قطبان لعاطفة واحدة، وعندما نلاحظ الضحك في أحد نجد أنه لا يختلف من البكاء في حركة الأعضاء، وكثيرا ما يختلط علينا الصوت هل هو بكاء أم ضحك، ولا ننسى قولهم: «من فرط ما قد سرني أبكاني» لأن الدموع تنهمر في الحزن والسرور معا. (6)
البارنويا هي اعتقاد راسخ في شيء ما، مثل أن الأرض مسطحة أو أن هتلر حي، أو أن الأرواح تتحدث إلينا من تحت المائدة، أو أن اللصوص يكمنون لقتلي إذا تأخرت في المساء، أو أنه يمكن الوصول إلى القمر على الأشعة، أو أن ألمانيا يحق لها أن تسود الدنيا.
والعادة أننا نعد المخترع بارانوئيا إذا خاب في اختراعه، ونعده عبقريا إذا نجح، فلو أن هتلر نجح في التسلط على العالم، أو لو أنه كان قد سبق الولايات المتحدة في اختراع القنبلة الذرية وتغلب عليها؛ لصار اسمه مخلدا في التاريخ باعتباره العبقري الأول.
ولكنا نعده الآن مجنونا؛ لأنه كان فريسة اعتقاد راسخ بشأن تسلط ألمانيا على العالم.
وهذا المثل وحده يدلنا على أن الفرق بين الصحة والمرض في النفس هو فرق درجي أو اعتباري لا أكثر؛ لأن كليهما ؛ أي: المخترع والبارانوئي، يجمع نشاطه في بؤر مفردة، الأول يحقق غايته والثاني يخيب فيها .
الأمراض النفسية الخفيفة
كلنا تقريبا يصاب بالرشح أو الزكام في وقت ما، ولكنا لا نباليه، بل نعتمد على أننا سنتخلص منه بلا معالجة بعد بضعة أيام، ومثل هذا يحدث لنا بالأمراض النفسية الكثيرة التي تنتابنا من وقت لآخر، وكلنا بلا استثناء يقع في أحد هذه الأمراض التي لا نباليها؛ لأن الإصابة خفيفة لا تكاد تلحظ، وهي تزول في أيام، ونحن نذكر قليلا من هذه الأمراض.
الشك، النسيان، الاشمئزاز، الخوف من الظلام أو من الأمكنة المستشرفة العالية، غياب الذهن، الحياء، البكاء، الوجل، أخطاء الكلام، التلجلج، أحلام اليقظة، الكابوس، كثرة الأحلام، الإحجام عن المشروعات، العزلة، حب الخمر، الشره إلى الطعام، السأم، التشرد الحرفي، التشرد الجنسي، التعب، وفرة العرق، الخوف من الغرباء، الإجرام، إلخ.
وإذا وقع لنا بعض هذه الأمراض في فترات متباعدة مددا قليلة فإننا لا نباليها، ولكنا نلتفت إليها إذا لازمتنا أو إذا تكررت، أو إذا لاحظها علينا صديق أو قريب، فكثير منا مثلا يشرب الخمر مع صديق للمؤانسة، وقد يحتاج في توتر نفسي إلى أن يعمد إلى التفريج بكأس أو كأسين، ولكن إذا صار الشراب عادة لا يطاق الإقلاع عنها فإن المسألة تحتاج إلى علاج، ولن ينجح العلاج بمحض الأمر بالإقلاع؛ لأن الشراب هنا ليس داء وإنما هو نتيجة لداء: هو التوتر النفسي للكظم الذي أحدثته كراهة للعمل الذي يرتزق منه، أو للبيئة العائلية المنغصة، أو للهوان الاجتماعي الذي أدى إليه مركب نقص قد استقر واستتر، أو لطموح بعيد لا يستطاع تحقيقه، ولكن الكامنة لا تزال تثيره وتحض عليه، فكل هذه الأشياء تقلق النفس وتحدث لها توترا تخفف عنه الخمر، والخمر هنا سبيل للهروب من المشكلة، ويجب أن يكون العلاج بالبحث عن العلة المستترة وتحليلها، ومطالبة المريض باستعمال عقله؛ أي إننا ننقله من العاطفة العمياء في الكامنة (العقل الكامن) إلى الوجدان، حتى يتعقل ويوازن الاعتبارات بالتفكير الموضوعي.
أما إذا كانت عادة الشراب قد استقرت ومضت عليها سنوات، فإننا نحتاج إلى معالجة العادة بتأليف جديد للشخصية أكثر مما نحتاج إلى معالجة الأصل البعيد بالتحليل النفسي.
أو انظر إلى الكابوس فإنه قل منا من لم يصب به، ولكنه إذا تكرر وأزعج دل على مخاوف مستترة قد حاولنا كظمها، وهي تنفرج في النوم حين يخمد وجداننا، وقد ترجع هذه المخاوف إلى الماضي؛ لأن حادثة معينة قد وقعت لنا؛ فالصبي الذي أجريت له عملية جراحية كان يخافها، وقد عومل بغلظة ولم يتلطف معه الأطباء، يهب بعد هذه العملية بأسابيع أو أشهر صارخا، ونحن نعالجه هنا بأن نشرح له الشرح المقنع بأن العملية قد تمت بنجاح، وأنه ليس له حق في هذا الخوف، وقد يكفي الإيحاء الخفيف قبيل نومه؛ أي: وقت النعاس لشفائه، ولكن هذه المخاوف قد ترجع إلى هم يتملكنا بشأن الحاضر والمستقبل، كالموظف الذي يخشى رئيسا سافلا معاكسا يتصيد أغلاطه وينوي إيذاءه، والمعالجة هنا أشق؛ لأن الهم لا يبرحه، وكل ما نستطيعه أن نطالبه بمحاولة هذا الرئيس حتى يعامله بالحسنى، وكما سبق أن قلنا: إن المشكلة التي تبعث على الحلم «والكابوس» قد تكون عصرية، ولكنها تتخذ أسلوبا بدائيا في النوم؛ أي إن الخوف من الرئيس الذي يريد قطع رزقنا يتخذ لنا صورة الخوف الذي يتمثله الطفل في وحش يبغي افتراسه أو قتل إخوته أو نحو ذلك، وأستطيع أن أؤكد أن في مصر كثيرا من الموظفين يعانون الكابوس من سفالات رؤسائهم، وقد يفدح الهم والخوف فينتقل من الحلم في النوم إلى فترات الانزعاج الخاطفة تمر بالرأس وقت اليقظة، فيدق القلب ويسيل العرق ويغيب الوجدان لحظات، ولا يدري المريض أنها تعود إلى المشكلة القائمة بينه وبين رئيسه، وهذه هي النورستينيا.
أو انظر إلى الخوف من الظلام أو الخوف من الأمكنة المستشرفة مثل البلكونات، أو الخوف من الصعود في اللفت فهنا نجد خوفا بدائيا؛ أي: لا يصح أن يحسه رجل متمدن يعرف بوجدانه أنه ليس هناك عفاريت أو ثعابين أو وحوش في الظلام، ويعرف أنه ليس قاعدا على شجرة تترنح غصونها في الريح ويخشى السقوط منها، ولكن هذه الإحساسات تتملكه لأنها تعبر عن خوفه من المستقبل المالي المظلم، أو توقعه لكارثة مقدرة، أو خوفه من الفشل، أو نحو ذلك من المشكلات العصرية التي تتخذ صورة نفسية طفلية أو بدائية كما يحدث في الكابوس، والفرق أن الخوف هنا قد انتقل من اليقظة، وهذا يدل على أنه قد فدح وتفاقم، وقد سبق أن قلنا: إن الطفل لا يخاف سوى شيئين في الشهور الأولى من عمره هما السقوط والصوت الصاخب؛ فالخوف هو أعظم الأشياء استقرارا في نفوسنا، وعندما يضعف وجداننا أو يزول بالنوم أو التعب نعود إلى طراز الخوف الأول الطفلي البدائي، فنخاف الظلام والسقوط من البلكون، ونحلم بالوحوش المفترسة واللصوص القتلة.
أو انظر إلى السمن يصيب كثيرا من النساء، وأحيانا من الرجال عندنا؛ فإن الإنسان السليم الذي ينشط ويعمل يجب ألا يسمن إلا إذا كان به اختلال غددي، وهذا لا يحدث لواحد في الألف، ولكن السمن كله تقريبا يعود إلى سأم النفس الذي يؤدي إلى كسل الجسم وفتوره؛ لأن النفس لا تجد من الاهتمامات ما يشغلها ويبعث نشاطها، وفي مثل هذه الأحوال يعمد الكسول السئم المتثائب إلى أن يرفه عن سأمه بالطعام، فلا ينقطع فكاه عن مضغ اللب أو الفول طوال النهار، وهو حين يقعد إلى المائدة يحب ألا يتركها؛ لأن لذة المضغ تخفف عنه السأم، وأحيانا يؤدي القلق إلى مثل هذا النهم للطعام؛ لأن الملذات الصغيرة من الألوان المختلفة على المائدة تبعث سرورا للنفس التي تتعب من السأم أو الهم.
فالطعام هنا كالشراب سواء؛ أي إنه فرار من الواقع، وعلينا ألا ننسى أن التلميذ الذي يجد مشقة في الدروس ويرسب كثيرا يعمد إلى العادة السرية فيرفه بها عن نفسه ألم الهم والرسوب؛ لما يجد فيها من سرور وقتي، فهو هنا يهرب من صعوبات الحياة بهذه العادة.
وأحلام اليقظة؛ أي: الأماني المسرفة، قد تكون أيضا مهربا من صعوبات الحياة مثل الخمر، ومعظم من يقع فيها أولئك الشبان الذين يجدون الواقع شاقا تصعب مجابهته وحل مشكلاته من دروس ثقيلة إلى العجز عن الاهتداء إلى عمل للكسب؛ فإن أحدهم يستسلم للخواطر اللذيذة ويقضي فيها الساعات وهو يستمتع بلذتها، والعادة أنه يقع أيضا في العادة السرية، وليست إحداهما سببا للأخرى، ولكن الشاب يلجأ إليها لأنه يتناولها بسهولة، وقد تفدح هذه الحال، وخاصة إذا كان هذا الشاب انطوائيا، فيقع في الشيزوفرينيا؛ أي: مقاطعة المجتمع نفسا وجسما، فيستسلم لخيالاته ولا يغادر غرفته، بل هو أحيانا ينسى طعامه وشرابه، وهذا بالطبع نادر.
أو اعتبر مثلا شخصا قد استغرق في نفسه مركب نقص، كأنه يكون قد أوهم منذ طفولته بأنه ضعيف أو أنه دميم، وربما يكبر هذا الوهم عندما يبلغ سن العشرين، بل لعله يجد ما يؤيد هذا الوهم في نفسه من ظروف سابقة، فيعمد إلى نشاط جنسي شاذ، أو يعمد إلى التشرد الجنسي بين النساء كثيرا كي يؤكد رجولته التي شك فيها مثلا، وأمثال هؤلاء لا يفتئون يتحدثون عن اختباراتهم الجنسية التي قد تكون كاذبة أو صحيحة، وهذه الأحاديث هي ستائر يستترون بها نقصا مستقرا في نفوسهم.
أو اعتبر الشك؛ فإننا كلنا نشك إلى حد ما، ولكن قد يزداد أحيانا الشك إلى أن يصير عادة نفسية مرهقة، بحيث يترك أحدنا مكتبه ويخرج إلى الشارع ثم يعود إلى المكتب كي يستوثق من أنه قد أقفل هذا الدرج أو تلك الخزانة، ثم يرتقي الشك إلى الظن السيئ بالناس حين يتحدثون بالقرب منا أو نحو ذلك، والشك عند التحليل يعود أيضا إلى الخوف؛ لأن النفس غير مطمئنة لا تجد الثقة فهي في تقلقل وتبلبل.
ففي كل هذه الحالات وأشباهها نجد أمراضا نفسية خفيفة تكاد تصيب كل إنسان بدرجة منخفضة حتى إنه لا يأبه بها، ولكنها تفدح في بعض الناس وتعود خطرة، والعلاج الصحيح هو اليقظة الوجدانية؛ أي إننا لا نستسلم لعواطفنا وننساق فيها قسرا وغصبا، بل نقف ونتعقل ونبحث المشكلة بحثا موضوعيا، كما أننا يجب ألا نبالغ ونسرف في كظم عواطفنا.
وللكظم النفسي لغة رمزية بكلمات الجسم؛ فالدوار الذي يحسه أحد الشبان إنما يدل على أنه «تائه» لا يدري ماذا يفعل؛ فالدوار يرمز إلى العجز عن تبين الطريق، والزوجة قد تكره التعارف الجنسي مع زوجها، كما تكره الطعام «مشمئزة»، ونحن نعبر أحيانا عن توتر النفس بقبضة اليد، وفي تعبيرنا ما يدل على الجمع بين لغة النفس ولغة الجسم: فأنا لا أستطيع أن «أهضم» هذا الرجل، و«ماهوش قادر يبلعني»، إلخ.
الأسلوب النفسي
لكل منا أسلوبه النفسي الذي يعين سلوكه وتصرفه، وهذا الأسلوب نكتسبه أو نكتسب نحو 90 في المائة منه أيام الطفولة؛ أي: قبل سن الخامسة أو السادسة، وقلما نستطيع التغيير بعد ذلك، إلا إذا برز وجداننا وأوضح لنا الأغلاط التي وقعت بنا أيام طفولتنا وحملتنا على إيجاد الإرادة للتغيير، وهذا الأسلوب يرسخ في الطفولة لأننا - كما سبق أن كررنا - نتقبل الدنيا ممن حولنا، ونقبل المقاييس والقيم الأخلاقية بلا نقد أو رفض، وهذه المقاييس والقيم تنحدر إلى الكامنة (العقل الكامن) وتستقر كأنها العقائد التي استحالت إلى عواطف؛ أي إن لها قوة القسر؛ فإذا كان أحدنا قد تعلم من أمه بالقدوة أو الأمر أو النصيحة أو الإرشاد (والقدوة أهمها كلها) إن الجبن أو السمك طعام سيئ؛ فإنه يعيش سبعين أو تسعين سنة وهو يكره الجبن أو السمك؛ لأن هذه العقيدة غرست فيه وهو طفل حين كان يعجز عن المعارضة والانتقاد.
وقس على هذا سائر الاستجابات والرجوع للدنيا والأشخاص في السنوات الخمس الأولى؛ فإنه كما ينشأ الطفل وهو يكره الجبن أو السمك، كذلك ينشأ وهو يكره اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ويشمئز من كفرهم اشمئزازا عاطفيا حقيقيا، وكذلك قد ينشأ وهو يطمح إلى أن يكون جزارا أو طبيبا أو لصا أو شرطيا، كما قد ينشأ على أسلوب الصراحة أو المواربة، يهجم على المشكلة أو يحاولها، وقد تصير العجلة أو التأني أسلوبه، فيصمت للتفكير أو يثرثر بالبديهة، وقد يتعلم - حتى منذ طفولته - أن يعتمد على وجدانه بدلا من عاطفته؛ لأنه يرى هذا الأسلوب سائدا في البيت، وإن كان هذا بالطبع قليلا جدا.
ونحن نعيش في ممارستنا اليومية بالعادات، ومن شأن العادات أن لها صفة قسرية تشبه صفة العواطف؛ بحيث إذا خالفناها تألمنا أو أحسسنا المضض، وهي تشبه العواطف أيضا من حيث إنها عفوية؛ أي: تسير عفوا بلا مشقة، وقد تكون العادة حركية أو اتجاهية.
وعاداتنا الحركية كثيرة مثل التدخين، أو ركوب البسكليت، أو الإيواء إلى الفراش في ساعة معينة، أو النوم بعد الظهر، أو المشي السوي أو الشاذ (بغمزة معينة في القدم أو الكتف أو نحو ذلك)، ولا نستطيع تغيير هذه العادات، حتى إن راكب البسكليت لا يعرف كيف يخطئ في سيره بها.
وهناك عادات اتجاهية تعين لنا عقائدنا، مثل نوع الطموح الذي نهدف إليه، أو الإيمان الذي نؤمن به، أو سائر عقائدنا الاجتماعية؛ كالتعصب والتسامح والمروءة والاستقلال والتواكل، إلخ.
وممارساتنا اليومية هي عادات في الحركة.
وعقائدنا واتجاهاتنا هي عادات في الطاقة.
وكثيرا ما تنقلب عادة الطاقة إلى عادة الحركة؛ فإن التعصب طاقة، ولكنه كثيرا ما انقلب إلى قتل اليهود فصار حركة، والوطنية عادة في الطاقة وقد انقلب في أيامنا إلى عادة في الحركة بالحرب الكبرى.
وكلنا - ما دمنا نعيش في وسط اجتماعي واحد - نتعود العادات المتقاربة، سواء أكانت بالعقيدة والطاقة؛ أي: الاتجاه النفسي، أم بالعمل والممارسة؛ أي: بالحركة والاتجاه الجسمي، ومن هنا ينشأ الأسلوب النفسي الذي نعيش به كأمة، ولكن مع هذا التقارب، لكل منا اختلافاته التي تميزه، فهو أمين أو غادر، أناني أو اجتماعي، مروئي أو استغلالي، شجاع أو جبان، طموح أو قنوع، إلخ.
وقد يشقى أحدنا بعاداته النفسية، عادات الحركة وعادات الطاقة؛ لأنه تسلمها من عائلته في طفولته ورسخت فيه، ثم عاش في مجتمع يكرهها، أو يجعل العيش بها شاقا أو مضرا مثل أولئك الآلاف من الأمهات اللاتي يعمدن إلى الزار كي يشفين أبناءهن من أمراض تحتاج إلى البنسلين أو السولفا نيلاميد أو الكينين، ذلك لأن عقيدتهن قد صارت لها قوة العاطفة، وهي تصدها عن الوجدان الطبي العصري.
والعادات النفسية جميعها تنحدر إلى الكامنة وتصير لها قوة القسر، وتعين لنا أسلوب الحياة بالعمل والعقيدة ، وهي كذلك في الأمة كما هي في الفرد، وكثيرا ما تتعس الأمة وتشقى مر الشقاء؛ لأنها ورثت عادات نفسية معينة لا تعرف كيف تتخلص منها؛ لأنها ترتبط بعواطفها، كما ترتبط الكراهة لأكل الجبن بعاطفة الطفل الذي تعلم هذه الكراهة من أمه، وتحتاج الأمم إلى الكثير جدا من المناقشة المنطقية والنظر الموضوعي كي تترك هذه العادات النفسية، وحتى هذا لا ينجح في معظم الأحوال؛ ولذلك رأينا كمال أتاتورك يعمد إلى العنف والبطش كي يغير النفس التركية ويحيلها من نفس شرقية إلى نفس غربية.
للأمم - كما للأفراد - مركبات نفسية لها قوة القسر، وهذه المركبات هي عادات نفسية صارت لها صفة عاطفية؛ ولذلك تحس مرارة ومضضا عندما يدعونا عبد العزيز فهمي مثلا إلى اتخاذ الخط اللاتيني، كما سبق أن أحسسنا مرارة ومضضا عندما دعانا قاسم أمين إلى اتخاذ السفور وجحد الحجاب.
وواضح أن الأسلوب النفسي الانطوائي يختلف من الأسلوب النفسي الانبساطي، وأن هذا الفرق يعود إلى الميزات الوراثية لكل منهما، ولكن حتى هنا نجد أن للأسلوب المكتسب الذي ينشأ عليه الطفل أثرا في المزاج الموروث، فقد يعتدل الانطوائي بعض الشيء ويتجه نحو العادات الاجتماعية إذا كان قد عاش في عائلة انبساطية، ويتضح العكس كذلك في الطفل الانبساطي، وكذلك قد يتألف مركب في نفس الطفل ويعين له أهدافا ووسائل ويتكون له منها أسلوب نفسي لا يعرف كيف يتخلص منه في المستقبل، ونكاد نقول: إن الأسلوب النفسي كله يتألف في الكامنة، ويرسخ ويتخذ صورة العواطف، ولذلك يشق علينا تغييره؛ ولذلك أيضا يعرف كل منا ويتسم بأسلوب نفسي خاص، حتى إننا - إذا كنا نعرفه بالاختلاط - نكاد نتكهن بسلوكه وتصرفه في أي حادث معين.
انظر إلى الأسلوب النفسي لطفل مدلل قد أحبه أبواه وعمي كلاهما عن مستقبله لفرط الحب، وكان وحيدهما بعد أن كابدا موت من سبقوه وكانوا كثيرين، فلم يكن يشتهي شيئا إلا ويجده؛ ولذلك لم يجد الفرصة لضبط عواطفه، وأرسل إلى المكتب كي يتعلم فضربه ذات مرة المعلم، فلما وصل إلى منزله بكى واستبكى أمه التي أرسلت إلى المعلم وأغرته على الجثو، وجاءت بابنها كي يضرب معلمه وينتقم، ولما انتهى الطفل من تنفيذ العقوبة من معلمه كافأت هذا بأن نقدته جنيها للتعويض، وقد عرفت هذا الشخص وهو في السبعين من عمره وهو يكره الجبن؛ لأنه كان يكرهه في طفولته، ولم يستطع استعمال وجدانه في الانتفاع بعد ذلك بهذا الغذاء، وكان يعيش مع زوجته كما لو كانت أمه التي تدلله، وبقي إلى سن السبعين وهو طفل كبير لا يحسن قراءة جريدة ولا يدري بتطورات العالم، ولازمه أسلوب الطفولة، حتى دعي مرة إلى غداء عند أجنبي، فصرخ على المائدة بأنه لا يحب هذا اللون المعروض، وكان أقصى طموحه أن يلبس ملابس فاخرة باهرة لأنه لا يزال طفلا.
فهذا طفل مدلل لازمه أسلوب التدليل الذي تعلمه في طفولته طوال حياته، وانظر الآن إلى طفل آخر مضطهد؛ فإن هذا المسكين ماتت أمه فتزوج أبوه غيرها التي قست عليه وحرمته ما يحتاج إليه الأطفال أو يشتهونه، وأدت هذه المعاملة إلى أن يستنبط لنفسه أسلوبا للدفاع والهجوم كان يتألف من الخبث والوقيعة والغدر والخيانة إلى التبصر والتمهر، فكان باهرا في المدارس حاذقا في كسب حقوقه، ولكنه كان إلى جنب هذا يفسد بين إخوانه حتى نبز باسم «المسيو فسادة» وهو بعد تلميذ بالمدرسة الابتدائية، وكثيرا ما أدى إفساده إلى إيذاء زملائه حتى تجنبوه، ولازمه هذا الأسلوب طوال حياته، حتى غش أباه وحمله على تمييزه في الميراث على سائر إخوته، وقضى هذا الأسلوب؛ أي: الخبث والغش، مع أبنائه فهجروه وتركوه وحيدا فمات وحيدا.
هذان الشخصان أحدهما مدلل والآخر مضطهد، هما أسوأ الأمثلة للأخلاق السيئة التي تفشو في أوساطنا المتمدنة، ولهذا السبب يجب أن نقول: إن الآباء ليسوا على الدوام خير الأشخاص الذين يمكن أن يوكل إليهم تربية أبنائهم في السنين الخمس الأولى من العمر؛ لأن تربيتهم لهم هي عدوان على نفوسهم وتعويج لأخلاقهم.
وقد يؤدي التدليل للطفل إلى أن يقع في جنون الشيزوفرينيا؛ أي إنه يطلق الدنيا ويعتزلها قانعا بأحلامه التي تعيد إليه راحة التدليل، وقد يؤدي الاضطهاد للطفل إلى الإجرام؛ أي إنه يعامل الناس كما لو كان ينتقم منهم.
تربية الأطفال
عندما نجد في عائلة واحدة خمسة أو ستة أطفال يتفاوتون في الذكاء أو يختلفون في المزاج، نبدي استغرابنا لاختلافهم هذا، مع أنهم إخوة يعيشون في بيت واحد؛ أي: وسط واحد ولهم كفايات وراثية واحدة.
ولكنا عند التحقيق نجد أنهم أولا يختلفون في كفاياتهم الوراثية كما يعرف أي إنسان قد درس قوانين مندل في الوراثة، ثم ليس الوسط واحدا لا يختلف بينهم؛ فإن الطفل الأكبر؛ أي: البكر يجد من التدليل ما لا يجده الثاني أو الثالث؛ لأن الأول ينفرد بعناية الأبوين وحبهما، وهو يصادف قبل ميلاده شوقا إليه من أبويه لا يصادف مثله سائر إخوته، والأغلب أن تدليله يؤدي إلى فساده في المستقبل، حتى إن الأوروبيين يؤلفون الآن الكتب في الأصول التي يجب أن تتبع في تربية «الابن البكر» خاصة.
ثم يختلف الأطفال أيضا من حيث إن أحدهم قد يكون وسيما والآخر دميما، فيحب الأول ويكره الثاني، على الرغم من المحاولة النزيهة من الأبوين لمعاملتهما بالسواء، وقد تكون هناك طفلة وحيدة بين أربعة أطفال ذكور فتحب أيضا لأنها وحيدة، وقد يعامل الابن الأصغر بالتدليل الذي كان يعامل به الابن الأكبر، ثم قد يموت الأب أو الأم فيعيش بعض الأطفال يتيما مع أمه فقط أو مع أبيه فقط، أو مع زوجة الأب أو زوج الأم، وفي كل هذه الحالات يتغير الوسط ويختلف، بين طفل وآخر من الإخوة، وتتغير الأخلاق وتختلف أيضا، وخاصة في السنين الأربع أو الخمس الأولى من العمر.
وقد يدلل أحد الأطفال لأن أبويه يقصران عنايتهما عليه لأنه وحيد، ثم يأتي آخر أجمل منه أو مثله، فيتزحزح الأول عن مكانه بعد أن يكون قد اتخذ أسلوبا قد تعين له بسابق تدليل أبويه له، وهو يطالب عندئذ من أبويه بأن يتغير ولكنه لا يستطيع، وعندئذ يصطدم بأبويه وبأخيه الجديد، وهو يقاوم بأساليب الأطفال؛ أي: يعاند أو يشاغب أو يمرض، أو حتى يبول في فراشه كي يجذب أمه إليه بعد أن أهملته والتفتت إلى أخيه الآخر، ثم ترسخ هذه العادات فيه عندما يشب؛ لأنه يحس أنه مظلوم، وأنه لا يجد العناية التي يستحقها من الدنيا، كما لم يجدها من أبويه؛ لأنه يعامل المجتمع كما كان يعامل أبويه.
وأحيانا تكره الأم بعض أبنائها أو بناتها؛ لأن الطفل قد يأتي وهو غير مطلوب حين لا تجدي الموانع للحمل، أو حين تكون قد أهملت الأم في اتخاذها؛ فالطفل الجديد عبء اقتصادي مكروه، أو هو قد يكون دميما، أو هو قد يجد نفسه منذ السنة الأولى مع زوجة الأب الغريبة؛ لأن أمه ماتت أو طلقت، وفي هذه الحالات يكره الطفل - بدرجات مختلفة - ممن حوله، بل أحيانا يضطهد، ويقاوم هو هذه الكراهة وهذا الاضطهاد بأساليب الأطفال أيضا، فيعمد إلى المكر الصغير أو الإضراب عن الدرس أو الاحتجاز؛ لأنه يجد الانفراد أروح لنفسه من الاختلاط بوسط كله كراهة، ثم ترسخ هذه العادات فيه عندما يشب، وأحيانا يؤدي الاضطهاد والقسوة إلى أن ينكسر الطفل ويرضى بالهزيمة والضعة، ويعيش على هذا الأسلوب.
وهناك شيء نستطيع أن نسميه الفراسة السيكلوجية، ذلك أننا بتأمل الرجل في الخمسين من عمره نعرف هل كان مدللا أم مضطهدا في طفولته، وهل عاش مع زوجة أب تكرهه أم مع أم تحبه وترعاه، كما أن من السهل أن تعلل الشكاسة أو الوقاحة، بل أحيانا البراعة والتنبه والنشاط بمركب نقص، وكثير من الناس يسهل عليهم تعليل بعض الأخلاق بنوع التربية.
ونعني بالتربية هنا جماع ما يحصل عليه الطفل من قدوة في الأبوين ومن إرشاد بالإغراء أو الزجر، ومن تدريب على اتخاذ سلوك معين، ونعني السلوك النفسي قبل السلوك الاجتماعي؛ لأن الأول أثبت؛ إذ هو يحدث للنفس ما يضارع أو يقارب الغرائز الطبيعية كالتفاؤل أو التشاؤم، والشجاعة أو الجبن، وكراهة بعض الأطعمة، والعقائد الدينية، فقد وجد مثلا بالتدريب أن الفأر الذي يعود الانتصار على خصمه في القتال تثبت فيه عادة الشجاعة فيجابه خصومه من الفئران مهما كانت قوتها، وكذلك العكس ؛ أي إن الفأر الذي يدرب على الهزيمة تثبت فيه عادة الجبن فلا يقوى على مجابهة خصومه حتى ولو كانت دونه جرما وقوة، فللتدريب؛ أي: تمرين الطفل على عادات معينة، عادات الطاقة بالاتجاه، وعادات الحركة بالعمل، قيمة لا تنكر في تكوين أخلاقه، بل سلوكه النفسي؛ لذلك يجب في التربية ألا ننسى أن نعوده النجاح في الشئون الصغيرة.
وهنا نذكر العقوبة وقيمتها للطفل، فهل يجوز لنا أن نضرب وننهر؟
الصحيح الذي تثبته السيكلوجية أن الطفل ينزجر إذا عوقب؛ أي إننا نستطيع أن نكفه ونمنعه عن عمل شيء بالعقوبة، ولكنا لا نستطيع أن نغريه بالعقوبة على أن يؤدي عملا؛ ومن هنا تجدي العقوبة في منع الطفل من ضرب إخوته، أو من اللعب في التراب مثلا، ولكنها لا تجدي في حمله على المذاكرة.
ثم اذكر مركب النقص في الأطفال؛ فإنه إذا كان في الطفل بارزا كحدبة الظهر أو العور في العين أو الساق القصيرة أو الشوه الفاضح، احتاج إلى عناية كبيرة، ومن الحسن أن يستشار خبير سيكلوجي في هذا النقص، أما إذا كان دون ذلك فلا يستحق الالتفات.
ومن الحسن أن تتعدد الاهتمامات عند الطفل، وأن تكون له هواية أو هوايات يتعلق بها وينفق عليها من فراغه ويرضى أبوه بأن ينفق عليها أيضا من ماله؛ فإن في هذا تفتيقا لكفاياته وتوسيعا لآفاقه النفسية والذهنية، وهو عندما يبلغ المراهقة ويواجه الضغط الجنسي، مع الحرمان الذي يطالبه به المجتمع، يستطيع أن يجد في هذه الهوايات والاهتمامات ما يخفف عنه هذا الضغط، فيجتاز هذه الفترة الخطرة بسلام.
ويجب أن يذكر الآباء أن التربية تكتسب من البيت؛ لأنها عادات نفسية ومرانات اجتماعية، فلا يمكن المدرسة أن تعود الصبي أو الشاب الشجاعة أو الكياسة، ولكن الآباء يمكنهم هذا بالقدوة والتدريب، وقد ينتظر القارئ أن نقول: إن المدرسة للتعليم، وهي كذلك إلى حد ما، ولكن التعليم أكبر من المدرسة والجامعة، فكلتاهما تعطي المواد والمعارف، ولكنها لا تغرس عادة التعليم بالذهن الحر المفتوح، ولا تبسط الآفاق التي يجب أن يأخذ أحدها مكان الآخر عند الإنسان المتطور في مجتمع متطور؛ لأننا يجب أن نتعلم طوال حياتنا وأن نتخرج كل عام تخرجا جديدا من جامعة الحياة إلى أن نموت، والآباء هم خير من يغرس هذه العادة.
وليس هنا مقام النقد للمواد في المدارس أو الجامعات؛ فإن هذا الموضوع يستحق كتابا مستقلا، ويستطيع القارئ أن يقرأ كتابي «التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا» إذ يجد هناك الإسهاب الذي يحتاج إليه هذا الموضوع.
وأخيرا، لو قيل لي: ما هي الجملة التي يمكن أن تعد شعارا للتربية الحسنة؟ لأجبت: أعط أطفالك أقصى ما تستطيع من حرية مع أقصى ما تستطيع من رعاية الحب الوجداني، ولكن تجنب التدليل كما تتجنب الاضطهاد؛ لأن كليهما يؤدي إلى الفساد، بل إلى الإجرام، وتجنب القسوة لأنها تمنع الطفل من الابتكار والاختراع وتغرس فيه الجبن، ثم تحيله في المستقبل قاسيا مع أبنائه.
تجنب التدليل لأن الطفل المدلل كثيرا ما ينتهي إلى الانتحار؛ لأنه لم يدرب على مواجهة الصعوبات؛ ولذلك سرعان ما تخور عزيمته أمام المجهود الشاق، وتجنب ضرب الطفل؛ لأن الضرب يحيله جبانا ذليلا ينشأ في إحجام وتردد وخجل، وهو يعرف فيك أنت الأب الرجل الأول، وسوف يقيس الرجال على ما لقيه منك؛ فإذا كنت قد أخفته فإنه سيخاف الرجال ويخجل ويتراجع، ولا يجرؤ ولا يقتحم، ولا تخش عناد الطفل، فقد يرجع إلى التدليل، ولكن اذكر أن العناد برهان على الإرادة القوية، فلا تقتل هذه الإرادة التي ربما تكون في المستقبل سبب نجاحه. وقد يكون في عناد الطفل بذرة المثابرة عندما يبلغ الشباب.
وأخطاء الأمهات في تربية الأطفال كثيرة:
فإن الأم - بطبيعتها - تحب أن تربط أطفالها بها، فتبالغ في حمايتهم وهي لا تدري أنها بهذه المبالغة تؤذيهم؛ لأنهم يتعلقون بها أكثر مما يجب، ويكرهون الخروج والاقتحام، ويخشون الغرباء، وينشئون على عادة الاتكال على غيرهم بدلا من الاستقلال.
ومن المألوف كثيرا أن يعيش الطفل مع أمه نحو خمس أو ست سنوات وهو يأخذ دون أن يعطي، وينشأ على هذه العادة كأن من حقه في المجتمع أن يأخذ فقط، والمجتمع يصده ويصدمه؛ لأنه يطالبه بأن يعطي، وهو يبتئس ويعد نفسه مظلوما بهذه الحال؛ ولذلك يحتاج الأطفال جميعهم إلى أن يكلفوا عملا أو خدمة لقاء ما يعطونه، حتى ينشئوا على الأخذ والعطاء معا، وليس على الأخذ فقط.
والأم عادة تطري طفلها عندما يؤدي عملا حسنا وتوجهه بذلك وجهة ذاتية، فيزداد أنانية ويقيس الأشياء والاعتبارات والقيم بما لها من سرور أو ألم في نفسه، ويجب على الأم لذلك أن تطري العمل أو تذمه بدلا من أن تطري الطفل نفسه؛ لأنه بذلك يتجه وجهة موضوعية سديدة. «أسلوب الحياة». من العبارات التي يجب أن نذكرها دائما في تربية الأطفال؛ فإن لكل منا أسلوبا يتبعه حين يكون في الخمسين أو الستين من العمر، هو في الأغلب امتداد لذلك الأسلوب الذي تعلمه من أبويه أو زوجة أبيه في السنوات الأربع الأولى من العمر؛ فإذا رأيت مثلا زوجة كثيرة الغيرة تلتهب وتحتدم عندما تجد زوجها يخاطب سيدة أخرى، فثق أن هذا الأسلوب قد تعلمته وهي طفلة قبل أن تتم الرابعة من عمرها، تعلمت أن تلتهب وتحتدم عندما كانت تجد أمها تلتفت إلى أخيها وتعنى به بدلا من أن تعنى بها هي، وكانت أمها تستطيع أن تعالجها من هذه الغيرة لو أنها مثلا كانت تعطيها الرياسة وتوزيع الحلوى، وتكسبها بذلك كرامة تغنيها عن الأنانية والاستئثار.
والطفل المدلل الذي تعود العدوان بلا خوف سيبقى على هذا الأسلوب وهو في الستين من عمره، يمارس العدوان والخطف ولا يبالي مصلحة الغير.
والطفل المضطهد الذي ضرب وحرم في طفولته، من زوجة أبيه، سينشأ وهو يعامل كل فرد من أفراد المجتمع كما لو كانوا جميعهم يمثلون زوجة أبيه، يعاملهم باللؤم والخبث والوقيعة والدس والكراهة، أو هو قد ينكسر ويرضى بالهوان وينفصل من المجتمع.
وقس على هذا، أسلوب الحياة الذي سرنا عليه في السنوات الأربع الأولى من أعمارنا يبقى سائر حياتنا، ولا نستطيع أن نغيره إلا بمشقة كبيرة جدا.
سيكلوجية الدرس
نحتاج في عصرنا إلى الدرس، والإنسان الذي يجهل القراءة ولا يقتني الكتب ولا يعرف نحو عشرين ألف كلمة؛ أي: معنى، هو إنسان بدائي يقف في نصف الطريق بيننا وبين القردة، بل لعله أقرب إليها منا.
نحن نتعلم في عصرنا لا لكي نحترف ونرتزق، كما هو الاعتقاد العام، بل لكي نقرأ الجريدة كل يوم، ونقرأ الكتب ونتصل بأصدقائنا بالرسائل، ونجادل بلغة الكتب التي تزودنا بآلاف الكلمات للتعبير، فنحن نتعلم لكي نعيش، لا لكي نرتزق، ولكي ننمو، وأخيرا لكي ننقل ما تعلمناه إلى الحياة بحيث ترتبط المعارف الجديدة بالنمو النفسي.
وهناك التعلم الآلي الذي نراه في الطفل القبطي يستظهر التراتيل القبطية في الكنيسة ولا يدري معناها، وفي الطفل الهندي المسلم يستظهر القرآن ولا يفهم كلماته، وهذا الدرس آلي، ويجب أن نحذر حتى لا تكون سائر معارفنا من هذا الطراز، والواقع أنه ليس قليل منها يعد في هذا الطراز.
فهناك معارف لا تتصل سيكلوجيا بحياة الشخص الذي يدرسها وليس لها مغزى في حياته، وهي لذلك عبء عليه، تحمله على كراهة الدرس أو إهماله، وإليك هذه الأمثلة: (1)
اللجاة أو السلحفاة البحرية تبيض على الساحل. (2)
السرطان الذي يتسلق نخيل الجوز يبيض في الماء. (3)
للقيطس خمس أصابع. (4)
لحشرة الخشب في جزيرة كريستماس 19 زوجا من الأرجل.
فهنا أربع حقائق يقرأها القارئ فيقول: ما المغزى؟! ولماذا أهتم إذا كانت لهذه الحشرة 19 أو 18 زوجا من الأرجل.
وهو صادق في هذا الاعتراض، وهذه المعارف لو كلفناه استظهارها لكانت آلية لا ينتفع بها، ولكني أنا أهتم بها؛ لأني اهتممت بنظرية التطور منذ أربعين سنة، ولكل حقيقة من هذه الأربع مغزى في هذه النظرية؛ لأن اللجاة كانت من حيوان اليابسة الذي نزل إلى البحر، ولا تزال أولادها تحتاج إلى اليابسة، والسرطان بحري الأصل، ولذلك لا يزال يبيض في الماء، والقيطس على الرغم من أنه يعيش في الماء إنما هو حيوان يابسة في الأصل، له خمسة أصابع مثل جميع حيوانات اليابسة؛ كالإنسان والبقرة والغزال. وأخيرا هذه الحشرة التي تأكل الخشب في جزيرة كريستماس كانت في الأصل كالجنبري الذي لا تزال له 19 زوجا من الأرجل، وجميع هذه الحقائق توضح نظرية التطور وتبين الاشتراك العضوي بين الأحياء فلها قيمتها الكبرى عندي، ولكن ليست لها مثل هذه القيمة عند غيري.
وعلى هذا الأساس يجب أن تكون كل دراسة عضوية، وعلى هذا الأساس أيضا يجب أن ننقد البرامج والكتب التعليمية في المدارس والجامعات والثقافة عامة، فيجب أن نسأل: ما هي القيمة العضوية في مجتمعنا الحاضر لهذا الكتاب أو لهذه المادة الدراسية في المدارس الابتدائية الثانوية أو الابتدائية، أو لهذا الاتجاه الثقافي في إحدى الكليات؟
فالفائدة الأولى التي نتبعها في كل دراسة للفرد أو للمجتمع هي أن تتصل هذه الدراسة اتصالا عضويا بهذا الفرد أو بهذا المجتمع.
كي ندرس يجب أن نهتم، والاهتمام هو ثمرة هذا الاتصال العضوي الذي ذكرناه، وإليك هذه الأمثلة: (1)
شاب في سن المراهقة يهتم بقراءة كل ما يتصل بالنمو الجنسي، ورجل في سن الأربعين أو الخمسين لا يهتم بهذا الموضوع. (2)
شاب يخشى عدوى التدرن لضعف حقيقي أو وهمي في رئتيه يقرأ كتابا عن الدرن، وغيره السليم يرفض قراءته. (3)
في مدة الحرب نتهافت كلنا على قراءة الصحف، وقد يقرأ بعضنا الكتب عن هتلر وتشرشل، وفي أيام السلم لا نجد مثل هذا التهافت. (4)
في الأزمات السياسية الاقتصادية تكثر النظريات، ويعود كل منا اقتصاديا أو سياسيا، وفي غير الأزمات تؤدي الطمأنينة إلى ركود.
فهنا ظروف أزمة جعلتنا نهتم، وأدى الاهتمام إلى الدرس؛ أي إنه وجدت عندنا عاطفة الاستطلاع فأوجدت الرغبة في الدراسة.
ولكن ماذا نفعل إذا وجدنا شابا راكدا لا ينبعث للدرس؟
يجب أن نثير إحدى عواطفه؛ أي: نبحث عن شيء مكظوم في نفسه ثم نرشده إلى دراسة تتصل اتصالا عضويا بهذا الشيء، ولكل منا كظوم مختلفة تجد الحل أو التخفيف في الدراسة، القاعدة الثانية للدرس هي أن نهتم؛ أي: نجعل الدراسة تتصل بعواطفنا وكظومنا.
وكما أننا لا نأكل ونهضم تماما إلا إذا اشتهينا الطعام، كذلك يجب ألا ندرس إلا إذا اشتهينا الدراسة؛ لأن كل شيء ندرسه بلا اشتهاء سرعان ما ننساه فتكون دراستنا عقيمة، وليست النفس لوحة فتوغرافية يكتب فيها كل ما يمر بها؛ إذ هي في الواقع اختيارية؛ فإني أستطيع أن أذكر حادثا مضى عليه ثلاثون سنة ولا أذكر ما حدث أمس؛ لأن الحادث الأول قد أثار عاطفة قوية فثبت، بل أحيانا يثبت أكثر مما نحب، كما يحدث في ذلك المريض النيوروزي الذي يفتأ يذكر مظلمة قديمة قد مر عليها ربع قرن، أما الحادث الثاني فلم ألتفت إليه لأنه لم يتصل بعاطفتي، والنسيان هو نشاط إيجابي يراد منه ألا تزدحم الذاكرة بأشياء ليس لها قيمة عضوية للنفس.
فالقاعدة الثالثة للدرس هي أن نشتهيه كما تشتهي المعدة الطعام.
وما دمنا قد ذكرنا المعدة والهضم، فيجب أن نذكر أن الذهن يتخم كما يتخم المعدة؛ ولذلك تحتاج صحتنا النفسية أن تكون الوجبة الذهنية خفيفة حتى نجد الوقت للهضم أو التمثيل. وكما أننا لا نستطيع أن نأكل في يوم ما يكفينا أسبوعا، كذلك يجب ألا ندرس في يوم ما كان يجب أن ندرسه في أسبوع.
وعلى هذا المبدأ يكون من الأفضل؛ إذ أردنا مثلا استظهار قصيدة تحتاج إلى ساعتين، أن نقسم هاتين الساعتين على يومين بدلا من جمعها في يوم واحد؛ لأننا بهذه الطريقة نتيح للذهن الهضم والتمثيل.
فالقاعدة الرابعة للدرس هي أن نجعل الوجبة الذهنية خفيفة، وألا نجمع بين وجبتين حتى لا نتخم.
ويجب أن نعرف أنه ليست لنا ذاكرة واحدة بل ذاكرات عديدة، فلنا ذاكرة للأرقام وأخرى للوجوه، وأخرى للأسماء، وأخرى للغة العربية وأخرى للغة الفرنسية، إلخ، وهذه الذاكرات لا تتبادل؛ فإذا نبغنا في المرانة الحسابية فلن يكون لهذا أي أثر في المرانة اللغوية؛ ومن هنا لا نستطيع أن نقوي الذاكرة بمادة معينة كأن نقول: إن الرياضيات تعلمنا التفكير الحسن؛ لأننا عندما ننتقل منها إلى الطب أو الاجتماع أو الجغرافيا أو الكيمياء لن نجد لهذه المرانة أية فائدة، وقد يحدث قليل من التداخل في هذه الذاكرات، ولكنه قليل جدا لا يؤبه به.
وهذا حسن؛ لأنه إذا كان هناك تداخل لما استطاع الشاب الذي تعلم الكتابة بالكتاب أن يعرف على البيان؛ لأن أصابعه التي تعلمت الدق على الآلة الأولى يجب أن ننساه عندما تدق على الآلة الثانية.
فالقاعدة الخامسة للدرس أن المرانة التي نحصل عليها في مادة ما لا تنتقل إلى مادة أخرى.
وعندما نتعلم لغة أجنبية أو حتى لغتنا نعرف أننا نقرأها بسهولة ولكنا نكتبها بصعوبة، فالقراءة هنا معرفة راكدة سلبية، والكتابة معرفة عاملة إيجابية.
فإذا قرأنا كتابا فلن تكون معرفتنا بالقدر الذي نعرفه به إذا عمدنا إلى تلخيصه مثلا، فلكي ندرس يجب أن نكتب الملخصات، وتفسير هذا سهل، فأنا حين أقرأ أستعمل عيني ولساني، ولكني حين أكتب أستعمل عيني ولساني ويدي، ثم حين أقرأ لا أبذل أي مجهود للاستذكار، ولكني حين أكتب أستذكر.
فالقاعدة السادسة للدرس هي أن أزيد الكتابة على القراءة.
والتشتت الذهني في الدرس أو العجز عن حصر الانتباه في بؤرة يعود إلى أسباب مختلفة، منها:
أننا شرعنا في الدرس وبين يدينا موضوع لم يتم، كأن يحدث أننا نوينا كتابة خطاب ولم نكتبه أو نريد مقابلة لم نتمها، أو كنا نقرأ قصة ونشتاق إلى متابعة فصولها؛ أي إن في النفس كظما يحتاج إلى التفريج، ولكن يجب ألا نخلط هذا التشتت بالصدود الذي نحسه أحيانا في بداية الدرس؛ لأنه يكاد يكون عاديا في كل شخص، وعندما نشرع في الدرس يزول.
وأحيانا نحس تقلقلا على مقعدنا، وهو يدل على أننا نرغب في الحركة أو الرياضة؛ أي إنه قوة مدخرة كالحصان الذي يتقلقل في مربطه يريد العدو والانطلاق، وهذا التقلقل كظم، وهو كثير عند الشبان.
فالقاعدة السابعة للدرس أن نتخلص من الكظم المانع.
وما هي أحسن الوسائل للدرس؟ (1)
أن نجعل الدرس عادة في أوقات معينة حتى لا نعتمد على مجهود الإرادة ولكن على ميعاد الساعة. (2)
أحسن الأوقات للدرس هو الصباح؛ لأن القوة متوافرة، ولأن أحلام الليل قد خففت الكظوم المانعة بالأحلام حتى حين لا نذكر هذه الأحلام. (3)
أحيانا يكون الدرس مفيدا في المساء؛ لأنه يجمع إيحاءات النهار، ولكن ليس هذا لكل الناس؛ لأن هذه الإيحاءات قد تكون مثبطة. (4)
نوم القيلولة يفيد في الدرس؛ لأننا نكسب به صباحا آخر توافر فيه القوة. (5)
أسوأ الأوقات للدرس هو بين الساعة الأولى والساعة الرابعة بعد الظهر؛ لأن النفس والجسم في استرخاء. (6)
يجب أن نحذر النفس الأخير في الدرس؛ أي: يجب ألا نحمل أنفسنا على النشاط بعد التعب والإعياء؛ فإننا ننجح في تحقيق هذا النشاط ولكن العاقبة انهيار نفسي سيئ.
فالقاعدة الثامنة للدرس هي أن يكون عقب النوم صباحا أو عصرا، وأن نجعله عادة مع تجنب التعب.
كل درس جدي متعب يحتاج إلى حضانة هي مدة الهضم والتمثيل، وإذا كانت المشكلة التي ندرسها شاقة فقد تبلغ الحصانة أسبوعا أو شهرا، وفي هذه المدة الطويلة نستعين بالكامنة (العقل الكامن) الذي يستشير اختباراتنا الماضية فننتفع بها، وكأننا ننظر إلى المشكلة من نواح مختلفة، أو كأن جملة أشخاص يعالجونها معنا.
فالقاعدة التاسعة للدرس ضرورة الحضانة لكل درس جدي.
من شأن المواد التي ندرسها أن تتحيز مكانا معينا، فقد ندرس قواعد النحو مثلا، ومع أننا جميعا نسلم بأن الغاية منها هي الكتابة الصحيحة، فإننا لا ننتفع بها مهما أتقنا أصولها ما لم ننقلها إلى المرانية الكتابية.
وهكذا الشأن في كل دراسة يجب أن ننقلها من حيزها التعليمي الضيق إلى الحياة، ويجب أن يكون هذا النقل الامتحان الحمضي لكل مادة تدرس، هل هي تنقل إلى الحياة؟ أم تبقى معارف محنطة في رءوسنا، ويصدق هذا على الفرد في تثقيفه الذاتي وعلى المدرسة والجامعة.
فالقاعدة العاشرة للدرس هي ضرورة الاتصال بين العقل والعمل؛ أي: بين الدرس والحياة، ولا قيمة لأي تعلم بغير هذا النشاط.
التحليل النفسي
مبتدع التحليل النفسي هو فرويد، وكان يلتفت إلى الأمراض النفسية التي تحدث أعراضا جسمية، ولكن بؤرة الاهتمام انتقلت الآن إلى أمراض النفس فقط مثل: الخوف، الشك، الخجل، كراهة العمل، التشرد، الحب الشاذ، إدمان الخمر، إلخ، كأن السيكلوجية قد قنعت بمعالجة الأخلاق وأغفلت - إلى حد ما - تلك الأمراض التي تحدث أعراضا في الجسم كالفالج الكاذب وغيره.
ويجب على كل إنسان أن يعرف كيف يحلل نفسه؛ أي: يجب أن يعرف نفسه وأن يسبر الأعماق التي تحرك نشاطه أو تمنع هذا النشاط، ولكن يجب مع ذلك أن نذكر أن التحليل هو تحليل؛ أي: تفكيك وتفتيت، فقيمته سلبية ننتفع بها وقت المرض النفسي؛ ولذلك نحن في حاجة - بعد التحليل والوقوف على العلة التي تمرضنا - إلى أن نؤلف شخصيتنا من جديد، التأليف هنا هو البناء؛ أي: هو العمل الإيجابي؛ أي إننا نشفي أنفسنا بالتحليل، ثم يجب أن نعود إلى التأليف لكي نكون شخصيتنا من جديد تكوينا سليما.
ويجب أن نذكر أن خير من يحللنا هو شخص آخر محايد، ولكن إذا تعذر هذا فلا بأس من أن نحلل أنفسنا، والطبيب العضوي لا يعالج مرضه، بل لا يعالج مرض زوجته أو ابنه إذ يلجأ إلى طبيب آخر ينظر بوجدانه؛ لأني عندما أعالج نفسي أو ابني يشق علي أن أنظر بالوجدان الصحيح، وكثيرا ما أنساق في تيار العاطفة أو المركبات النفسية السابقة.
ما هو الأساس للاختلال النفسي؟
هو أن تيار العواطف والدوافع والكظوم - ومعظمها مخاوف مكظومة - يصطدم بالواقع.
وهذه العواطف والدوافع والكظوم تخفى علينا وتحتبس في الكامنة؛ أي: العقل الكامن، ثم تصوغ سلوكنا وتوجهه وجهات فاسدة، أو هي تثور بنا ثورة الانفجار الذي يؤذينا.
والفرق بين السليم والمريض يخفى على كثير من الناس، ويخفى أكثر على المريض نفسه؛ لأن كل ما يجد أن عواطفه حادة، وأن أقرانه لا يبالون أشياء يباليها هو كثيرا، وأن الهم الذي ينتاب صديقه ساعة يلازمه هو أياما، بل شهورا، وقد لا يلاحظ هو كل ذلك.
اعتبر مثلا هذه الأشياء: الشك، التكمل، الخوف، الطهارة، الاحترام، القلق، الاغتمام، التشاؤم، الذكريات البعيدة.
فإن الشخص السليم يشك، وقد يعاود عمله لكي يثق بأنه على ما أراد أن يكون، ولكن المريض يلازمه الشك في كل ما يعمل تقريبا، وهو يجد أن المعاودة للوثوق والطمأنينة، هذه المعاودة قهرية متكررة.
أو انظر إلى التكمل؛ إذ من منا لا يحب أن يؤدي عمله كاملا؟ ولكن المريض يرفض عملا ما؛ لأنه يخشى ألا يكون كاملا، فيعود عقيما، وهذا العقم يصغره عند نفسه فيحس الهوان والاحتقار.
أو انظر إلى الطهارة؛ فإننا جميعا نحب النظافة، بل أحيانا نغسل أيدينا إذا سلمنا على أحد نشتبه في نظافته، ولكن المريض يجد رغبة قهرية في أن يغسل يده نحو عشرين أو ثلاثين مرة في اليوم بل في الساعة.
وكذلك الشأن في القلق والهم والتشاؤم؛ فإن السليم يحس كل هذه الأشياء من وقت لآخر، وهو يتغلب عليها بوجدانه، إما لأنه يحلها، أو لأنه يهملها إذا لم يجد لها حلا، ولكن المريض يجد أنها تلازمه ملازمة قهرية لا يستطيع التخلص منها، وهذه الصفة القهرية تحيله إلى شخص عقيم لا ينفع نفسه ولا غيره ولا يؤدي عملا مفيدا.
وهذا هو النيوروز؛ أي: احتداد العواطف السيئة وملازمتها بصفة قهرية. وعندنا أن أصلها يرجع إلى الرغبة في الطمأنينة؛ أي إن الخوف، وهو العاطفة الأصلية في الطفل، قد اتخذ صورة أخرى اجتماعية فصار عاطفة محتقنة لا تبرح المريض، وهي تتخذ صورة التشاؤم أو الهم أو الشك أو الطهارة، إلخ.
والشخص النيوروزي هو صورة كاريكاتورية للشخص السليم، انظر إليه وهو يغسل يديه للمرة العشرين لأن أحد الناس قد صافحه؛ فإن يديه قد تهرأتا بالصابون، ومع ذلك لا يزال يحتاج في زعمه إلى التنظف والتطهر، أو انظر إليه وهو يقص عليك أن فلانا قد أهانه في 1925 وأنه قال له كيت فرد عليه بكيت، وأن الحق عليه، وأنه قد عمل كل ما يجب على الرجل المستقيم الشريف، وأن وأن، مع أن هذا الحادث قد مضى عليه أكثر من عشرين سنة، وأن هذا الشخص الذي يتحدث عنه قد مات، فكل ما نستطيع أن نقوله هنا: إن عاطفة الغضب قد احتقنت عنده وصارت ملازمتها قهرية.
ولكن ما الغاية من هذا الاحتقان وهذه الملازمة؟ لماذا لا يترك هذه الحادثة ويلتفت إلى عمله ويجد كي يقيت أطفاله؟
ليس بعيدا - كما يقول أدلر - أنه يعمد بهذه الذكريات العقيمة إلى أن يجد سببا، يقنع به نفسه ويظن أنه يقنع به غيره، كي يبرر تعطله؛ أي: هربه من العمل والارتزاق، فالنيوروزي الذي يشكو الهم أو التشاؤم أو الذكرى العقيمة يبغي - من حيث لا يدري - أن يجد الراحة الزائفة في التعطل بأن يقيم من هذه الأشياء عائقا عن العمل، فهو يفر ويلجأ كما يفر السكير إلى الخمر، أو كما يفر أحدنا من وقت لآخر إلى أحلام اليقظة.
فإذا شاء أحدنا أن يحلل نفسه فعليه أن يجيب على هذه الأسئلة: (1)
ما هي الغاية التي أقصد منها إلى الخمر؟
هل هي أن أهرب من همومي؟ ولماذا، بدلا من ذلك، لا أحل هذه الهموم بوجداني؟ (2)
ما هي الغاية التي أقصد منها إلى التطهر وإضاعة وقتي في غسل يدي؟
هل هي أن أهرب من العمل الذي أرتزق منه؟ ولماذا أريد الهرب؟ هل لأني أكره زوجتي وأطلب لها الجوع والبؤس؟ أو هل لأني وقعت هذا العمل المكروه وفي أعماق نفسي حب لعمل آخر؟ (3)
لماذا أضيع وقتي في التشاؤم، وما هي الغاية التي أقصد إليها منه؟
هل هي أن أعتذر لنفسي وأقيم الحجة أمام إخواني بأني لولا هذا التشاؤم لأديت عملا مفيدا؟
ونحن بهذه الأسئلة نحاول أن نجعل الوجدان (= التعقل والمنطق والنظر الموضوعي) يأخذ مكان العاطفة المحتقنة؛ أي: النيوروز، واللغة الموضحة تأخذ مكان الغموض العاطفي.
ثم يجب أن نزيد على هذا بأن نبحث: (1)
أحلامنا في النوم وأحلامنا في اليقظة كي نقف على الاتجاهات النفسية التي نتجهها على غير دراية منا؛ أي: تلك الكظوم المخبوءة في كامنتنا؛ لأن الحلم يوضح مكارهنا ومخاوفنا ومحابنا، ويكشف لنا عن سريرتنا التي تنطوي عليها الكامنة. (2)
الأسلوب الذي تعلمناه في طفولتنا، هل كان أسلوب الخوف والجبن والتراجع، أم أسلوب الشجاعة والتفاؤل؟ هل كانت زوجة الأب التي عشنا معها قد اضطهدتنا فجعلتنا نواجه الدنيا بالحذر المسرف والخبث والزيادة في التوقي؟ ثم اندغمت هذه الصفات فصارت تشاؤما عاما أو إيجاسا من المجتمع أو أسلوبا للحياة؟ (3)
لعل هذا الأسلوب كان تدليلا من أم قد أسرفت في الحب وأساءت إلينا به، حتى إذا كبرنا وجدنا أن المجتمع لا يعاملنا كما كانت تعاملنا هذه الأم بالتدليل فجزعنا، وصار هذا الجزع كأنه حق لنا على المجتمع ، حتى صرنا نتهمه باستصغار شأننا، وبأنه لا يقدر نبوغنا، إلخ. (4)
هل أنا انطوائي أميل بطبيعتي إلى الانفراد، ولكني مضطر إلى الاجتماع فأجد على الدوام ظروفا مكروهة أنفر منها؟ أو هل أنا انبساطي يعالجني السرور أو الحزن بلا مبرر؟ (5)
ما هو مركب النقص المختفي عندي، والذي ربما كان يوجه سلوكي من حيث لا أدري؟
وبعد أن أعرف كل هذا وانتهي من التحليل يجب أن أعود إلى التأليف؛ أي: يجب أن أؤلف شخصيتي من جديد فأضع برنامجا لترقية نفسي شهرا بعد شهر وعاما بعد آخر، وعلي أيضا أن أعتمد على الوجدان دون العاطفة، وأن أداوم التساؤل عند كل مشكلة، هل أنا وجداني أم عاطفي؟ فإذا لم ينجح كل هذا فعلي أن ألجأ إلى سيكلوجي مؤتمن ماهر.
وعلى القارئ أن يذكر أن المسيحي الذي يعترف في الكنيسة على الكاهن يجد الراحة عقب الاعتراف؛ لأن هذا الاعتراف قد أفرج عن كظم لم يكن سعيدا به، كأن يكون قد ارتكب خطيئة عظمت وطأتها على ضميره فلما اعترف انفرج الكظم، وعلى هذا الأساس نجد أن المريض النفسي حين يقصد إلى الطبيب السيكلوجي يقعد إليه في استرخاء ويبوح بكل همومه، ويقول ما شاء من القصص القديمة المختبئة، وهو يرتاح بهذا البوح.
وإذا لم يجد هذا المريض، السيكلوجي الذي يستطيع أن يبوح له بكظومه، فعليه أن يكتب تاريخ آلامه ويعدد الحوادث التي يعتقد أنها كانت سببا لمرضه ويشرحها، وهو في هذا العمل يجد الراحة؛ لأنه وهو يكتب يعترف، ثم وهو يعترف تنفرج كظومه، والكتابة هنا تنقل الكظم من ميدان العاطفة الغامضة إلى ميدان المنطق الواضح فتتفكك الكظوم.
التأليف أهم من التحليل
شخصية فرويد هي أضخم شخصية في السيكلوجية العصرية؛ إذ هو كولمبس الذي كشف الأرض المجهولة وخططها ورسم معالمها، وهناك عشرات من الكلمات التي تجري على ألسنة السيكلوجيين تعزى إليه في معانيها ومبانيها، ولكن؛ لأن هذه الشخصية ضخمة؛ فإنها تلقي ظلها على كثير من حقائق هذا العلم الجديد وتحول دون النور الذي يزيد الفهم والمعرفة، ذلك أن كثيرا من الباحثين في هذا العلم يحسون رهبة عند مجرد ذكر اسم فرويد، ويسلمون بكل ما قال، كما لو كانوا يسلمون بعقيدة موروثة وليس برأي يبحث ويناقش، فمن ذلك عقيدة مركب أوديب، ومن ذلك أيضا هذا الاهتمام الكلي بالتحليل النفسي دون التأليف النفسي.
وليس هناك من يشك في قيمة التحليل وضرورته كي نعرف الكظوم والتوترات والمخاوف المختبئة في النفس حين تلتوي وتتسلل في طرق مموجة إلى الخروج والبروز فتشوه الشخصية وتؤذيها، والفضل في كل ذلك لفرويد، ولكن فرويد في تأكيده للضرر الفادح الذي يحدث من الكظم قد حملنا على أن نكبر من شأن الحرية والانطلاق بالاستسلام للرغبات والشهوات والنزوات، وهذا الاتجاه يؤدي في النهاية إلى إيثار الفوضى على النظام، والنزوة الطارئة على التعقل البصير، والاستهتار على التحفظ. وبدهي أن فرويد لم يقصد إلى هذا، ولكن تأكيده لضرر الكظم كثيرا ما يحمل قارئه على هذا الاستنتاج.
ولكن الكظم، في حدود معقولة، مفيد؛ لأنه بخار محبوس إذا أحسن صاحبه التصرف به استطاع توجيهه للعمل النافع على أنه عاطفة تحرك وتدفع وتنشط، وليست المطامع والآمال سوى كظوم يبعثها فينا الوسط الذي لا نرتضيه.
وعندما نتأمل التحليل النفسي نجد أن قيمته كبيرة للباحث الذي يقوم بالتحليل؛ ذلك لأنه يزداد توسعا وفهما كلما تعمق في التحليل، ولكن قيمته للمريض؛ أي: للكاظم المتوتر الملتوي الشاذ، ليست كبيرة، إلا إذا كان هو أيضا قد استحال إلى هاو للسيكلوجية مشغوف بالبحث، ذلك أن المريض يحتاج إلى التأليف أكثر مما يحتاج إلى التحليل، بل تستطيع أحيانا أن نهمل التحليل ونعمد مباشرة إلى التأليف.
اعتبر رجلا يدمن التدخين أو الشراب، أو هو قد انحرف في سلوكه الجنسي، أو قد وقع في أسطورة اخترعتها كامنته كي يكافح بها الواقع ويلغيه، ففي كل هذه الأحوال نحسن كثيرا إذا أخذنا من التحليل بأقله ومن التأليف بأكثره؛ أي: بدلا من أن ننظر للعواطف باعتبارها مريضة معوجة لحادث سابق إذا نحن كشفنا عنه للمريض تنبه إلى وجدان جديد وتخلص من اعوجاجه، وبدلا من هذا التحليل المضني ، نعمد مباشرة إلى هذه العاطفة المعوجة نقومها؛ أي: إننا ننظر إلى الاعوجاج النفسي باعتباره عادة عاطفية سيئة أو اتجاه نفسي غير سليم، ونقنع بأن نغير العادة السيئة بعادة حسنة؛ أي: نطلب من المريض الشاذ؛ أي: المعوج أن يتغير في أسلوبه النفسي.
ونحن في سلوكنا العاطفي نتعود عادات معينة، وكما أن هناك رجلا يسوق أتومبيله سياقة حسنة بعادات رسخت فيه وآخر يسيء في سياقته بعادات سيئة رسخت فيه، كذلك هناك من يسلك في الدنيا بعواطف اعتادت عادات حسنة أو سيئة، والتربية الحسنة هي في النهاية غرس العادات العاطفية الحسنة.
اعتبر هذه العادات التي تعين لنا سلوكا نفسيا:
السكينة وقت الاضطراب وضد هذا التهيج وقت الاضطراب.
التمالك عند الغضب وضد هذا الاندفاع عند الغضب.
الشجاعة في المواقف الخطرة وضد هذا الجبن في المواقف الخطرة.
التعاون والحب في المعاملة وضد هذا المباراة والتحاسد في المعاملة.
الجلد على التعب والسأم وضد هذا الفرار من التعب والسأم.
البشاشة عند الحديث وضد هذا التجهم عند الحديث.
حب الترتيب والنظام وضد هذا الميل إلى الفوضى.
الاستبشار بالدنيا وضد هذا التشاؤم بالدنيا.
وصحيح أننا حين نربي عواطفنا نحتاج إلى الكظم، ولكنه كظم غير مرهق؛ لأنه يقيد حريتنا بعض الشيء، ونحن نعتاده ونرتاح إليه؛ لأن المجتمع لا يطيق منا أن نعامله بمطلق حريتنا؛ أي: بعواطفنا الحرة، ونحن نكسب بهذه القيود الصغيرة اتزانا عاطفيا ييسر لنا العمل في مجتمع متمدن كثير القيود؛ أي: مجتمع غير فطري؛ إذ أننا لا نعيش في الغابة ولا نستطيع أن نستسلم لعواطفنا الحرة.
ولذلك يجب أن نجعل التأليف النفسي في المقام الأول نهدف منه إلى إيجاد عادات عاطفية جديدة لا تصطدم بالمجتمع، والهدف الأخير من التربية هو تكوين الشخصية التي تتألف من عادات عاطفية اجتماعية حسنة، وخير لنا أن نقول للمريض أو الشاذ أو المعوج: إن حالته السيئة هذه ترجع إلى عادات عاطفية سيئة تحتاج إلى التغيير، من أن نقول له : إنها ترجع إلى مركبات سيئة تحتاج إلى التحليل المتعب الذي يتطلب وقتا طويلا وبحثا في الأعماق، ولنضرب على ذلك مثلا.
رجل قد اعتاد الشراب في المساء حتى كاد أن يتلف صحته ويفقر أهله، وعند التحليل نجد أن الذي أوقعه في هذه العادة زوجة منافرة لجوج قد جعلت البيت حافلا بألوان العذاب المادية والمعنوية لهذا الزوج، بحيث صار عندما تحين عودته في المساء إلى البيت يحس ضيقا وكراهة واغتماما منشؤها بالطبع تلك الكظوم التي بعثتها فيه هذه الزوجة، وهو يجد في طريقه الدواء، أي: الخمر، التي يفرج بها عن هذه الكظوم، فينهض من الكأس وهو مرتاح ويدخل بيته مسرورا.
فإذا عمدنا إلى التحليل النفسي اضطررنا إلى أن نوضح لهذا الزوج مقدار التعاسة النفسية التي أحدثتها زوجته له، وقد يكون لهذا الإيضاح عاقبة سيئة في العلاقات الزوجية بينهما، ولكن إذا تركنا التحليل وعمدنا إلى التأليف فإننا نعجل له الشفاء دون أن نغرس فيه مركبات سيئة ضد زوجته، كأن نبحث له عن عمل أو نشاط في المساء يصح أن يكون، أو يقارب، هواية يشغف بها وتشغله عن الخمر، كالانضمام إلى أحد الأندية، أو تنشيط الضيافة في منزله حتى يجد من الزائرين المحبوبين ما يربطه بالبيت، أو نحمله على أن يتناول غداءه في الساعة الخامسة من المساء، حتى إذا شبع كانت معدته ممتلئة في ميعاد الشراب فتغنيه عنه، ونحن هنا نعوده عادات جديدة تبعث فيه عواطف جديدة يرتاح إليها دون الحاجة إلى الخمر، وهذا بالطبع لا يمنع النصح للزوجة وتبصرتها على انفراد بعواقب سلوكها.
أو اعتبر شابا مراهقا قد وقع في العادة السرية وانغمس فيها إلى حد الضرر. فإن التحليل هنا يكاد يكون عقيما، ولكن التأليف مفيد؛ فإننا مثلا نهيئ له جوا اجتماعيا يحرمه الانفراد الذي يتيح فرصة الممارسة لهذه العادة، وأيضا نساعده في دروسه حتى يسر بالنجاح؛ فإن العادة السرية كثيرا ما تنشأ من الاغتمام للتخلف أو الفشل في الدروس، والشاب يلجأ إليها كي يرفه عن نفسه ويسري عنها هذا الاغتمام. فإذا أتحنا له النجاح بمعلم خاص فإن إلحاح هذه العادة عليه يخف، أو نحمله على الرياضة في ناد يجد فيه الأقران والحديث والمباراة والتعاون؛ أي إننا نوجهه وجهة اجتماعية بدلا من الوجهة الانفرادية الانعزالية التي انغمس فيها وأصبحت جوا مهيئا للعادة السرية، بل كذلك الرقص يؤلف شخصيته من جديد ويحمله على التفكير الاجتماعي الحسن، ونحن بهذا كله نربي عواطفه ونكسبه أسلوبا جديدا للسلوك ينتقل به من الانفرادية إلى الاجتماعية ومن المرض الجنسي إلى الصحة النفسية، وهذا هو ما نعني به من عبارة التأليف النفسي الذي يجب أن يأخذ في كثير من الأحوال، مكان التحليل النفسي.
وأرجو القارئ ألا يفهم أني أستصغر قيمة التحليل النفسي، ولكني أجد من ناحية أنه شاق جدا، إلا في حالات تكاد تكون استثنائية حين يهبط المحلل مصادفة على حلم في النوم أو اليقظة يكشف فجأة عن العقدة؛ أي: المركب الذي أدى إلى المرض أو الشذوذ أو القلق، وكثيرا ما يسأم المريض من طول المدة التي يحتاج إليها التحليل، وقد يبعثه السأم على تركه، ومن ناحية أخرى أجد أن هناك اقتناعا بأن التحليل هو الألف والياء مع أنه ليس كذلك؛ لأن المريض في كثير من الحالات بعد أن يعرف العقدة السيئة التي انتهت به إلى حالته لا يستطيع أن يبرأ من هذه الحالة؛ لأنه قد تعود منها عادات عاطفية نفسية يجد هو نفسه فيها قسرا لا فكاك منه؛ لأن للعادة قوة كبيرة، ثم هناك شيء آخر يجعل فائدة التحليل مقصورة، هو أن المريض الذي ينتفع من التحليل يجب أن يكون مستنيرا قادرا على التعمق، بل قادرا على أن يفلسف، وهذا المريض نادر بالطبع.
وكثيرا ما أحس عندما أجد هوة العمق التي يحاول أن يتعمقها المحللون أني أحب أن أقول تلك الكلمة التي قالها إسحق الموصلي - على ما أظن. فقد وجد شاعرا يتعمق المعاني ويعقدها ويشدها كأنه يصنع منها شبكة أو تيها فقال له: «الشعر أيسر من هذا.»
أجل، إن النفس البشرية أيسر من هذا ولا تحتاج إلى كل هذا التعمق، وحسبنا منها أن نوجه ونؤلف ونعين الخطط لبناء الشخصية المفككة، ونحن بهذا نجد السرعة التي تحتاج إليها كما نجد الاستبشار والحماسة من المريض.
الزيغ الجنسي
شيوع الأمراض النفسية في الأفراد هو برهان على أن المجتمع نفسه سيئ؛ لأن هذا الشيوع يدل على كظوم كثيرة لا يطيقها الأفراد، ولذلك يقعون ضحايا لها بالشذوذ، ثم النيوروز، ثم السيكوز.
والنزوع الجنسي هو كل شيء عند فرويد - مؤسس التحليل النفسي - أي إنه يعتقد أن كل نوازعنا وأمراضنا تقريبا تعود إليه، وإلى ما أحدث من مركبات جنسية بين الطفل وأمه، وهو يرى أن الاشتهاء الجنسي يغمر الطفل حتى وهو يرضع، ولكن هذا الاشتهاء عنده ليس مركزا في بؤرة كما هي الحال عند الكبار؛ إذ هو معمم مبهم يشيع في أنحاء جسم الطفل، فهو يرضع مثلا فيما يشبه اللذة الجنسية كما أنه يلتذ الاحتكاك.
وتبدأ الشهوة الجنسية تتجمع عنده في بؤرة هي الأعضاء التناسلية حوالي سن الثامنة، فتتنبه الأعضاء، وأحيانا يسوء حظ الطفل فيقع مثلا في يد خادمة تزيد تنبهه بالعبث بهذه الأعضاء، وهذا التنبه يؤذيه عندما يبلغ الرابعة عشرة أو قبيل ذلك حين تعود نفسه إلى هذه الذكرى التي تركتها له الخادمة بالعبث فيقع في العادة السرية التي تبدأ عبثا.
وفيما بين الثامنة والثالثة عشرة تقريبا يعيش الصبي حياة غير جنسية، ثم يبدأ في المراهقة، والتنبه الجنسي يغمره بقوة وبطش، حتى لا يعرف كيف يتصرف، وهو لا يجد النصيحة أو الإرشاد؛ ولذلك يحار ويأخذ في مباشرة تجارب جنسية شاذة، فيقع في الشذوذ في هذه السن لطغيان العاطفة الجنسية، وللحرمان الذي يلاقيه في الوقت نفسه للجنس الآخر، والفصل بين الجنسين في مجتمعنا، بل في كل مجتمع آخر تقريبا، هو السبب لهذا الشذوذ؛ ولذلك قد يقع المراهق في العادة السرية، أو يتعرف إلى الصبيان الذين في سنه أو أصغر منه تعرفا جنسيا شاذا.
وهذا التعرف الشاذ هو - كما قلنا - ثمرة الحرمان، حتى إن كثيرا من الحيوانات، وخاصة القردة، تعرفه وتمارسه، ولكن هذا الشذوذ يزداد إذا ازداد الحرمان، كما هو المشاهد في الأمم الشرقية، حيث الفصل بين الجنسين من التقاليد المرعية ، والأدب العربي مليء بالتغزل بالصبيان لهذا السبب.
ولننظر أولا إلى العادة السرية؛ فإنها تفشو بين 95 في المائة من الشبان أو أكثر، وهي تبدأ في المراهقة حوالي سن 13 و14، وأولئك الذين تنبهت عندهم العاطفة الجنسية حوالي سن 8 أو 9 يقعون فيها بسهولة أكثر من غيرهم أيام المراهقة، ونعني بكلمة التنبه هنا أن الخادمة مثلا قد لعبت بالطفل في هذه السن المبكرة فدربته على التحسس والعبث، وتركت في نفسه ذكرى هذه اللذة فيعود إليها في المراهقة، والشاب الانطوائي يقع في هذه العادة أكثر من الشاب الانبساطي؛ لأن الأول يؤثر الاعتزال أو الاعتكاف، وكلاهما يساعده على ممارسة هذه العادة، كما أنه يستسلم لخواطر اليقظة وهي تنبه العاطفة الجنسية، وكثير من الشبان يعيش فيما بين 13 و16 كما لو كان في شيزوفرينيا خفيفة له عالم آخر مؤلف من أحلام اليقظة التي يلتذها ويعيش فيها وهو بعيد عن الواقع.
وإذا كان الشاب يمارس العادة السرية في اعتدال فلا خطر منها، ونعني بكلمة اعتدال أنها لا تزيد عن ثلاث أو أربع مرات مثلا في الشهر، أما إذا زادت فإننا يجب أن نعالجها بالوسائل التالية: (1)
أن نكسب ثقة الشاب المتهالك على هذه العادة بحيث يأتمننا ويصرح بكل ما يعمل. (2)
ألا نبالغ في ضرر هذه العادة حتى لا يشيع الخوف عنده فيزداد قلقه؛ لأنه قد يبرأ من العادة ثم يقع في القلق وتتكاثر عليه الأوهام والوساوس بشأن صحته الجسمية وسلامته العقلية. (3)
أن نحمله على اهتمامات وهوايات كثيرة تشغل فراغه، وأن نسخو له بالمال كي يشتري الكتب ليقرأ، ويقصد إلى السينما توغراف، ويتعلم الموسيقا أو الرقص أو الألعاب الرياضية، ويقضي إجازة أسبوع أو شهر في بلدة أخرى ونحو ذلك. (4)
أن نخلق له نشاطا اجتماعيا لذيذا، بحيث يقضي معظم وقته وهو مع غيره، فلا يجد الفرصة للانفراد إلا قليلا؛ لأن الانفراد يهيئ له الخواطر الجنسية التي تدفعه إلى ممارسة هذه العادة. (5)
الرقص مفيد في هذه الحالات، إذا كانت الظروف الاجتماعية تسمح به؛ لأنه يعيد الشاب إلى الواقع، ويمنع الاسترسال في الأخيلة الجنسية، وقد وجدت أنا أن الشاب عقب الرقص يترك هذه العادة لما يحس فيها من خسة ودناءة، وما يجد في الرقص من شهامة ورجولة. (6)
يجب أن نذكر أن هذه العادة تتفاقم عند الشاب وقت الاغتمام والهزيمة كالخيبة مثلا في الامتحان، وهي تضعف وقت النجاح والسرور؛ لأنها لذة عابرة تخفف من الغم والانحطاط أو الكرب النفسي؛ ولذلك يجب أن نساعد الشاب على النجاح ونملؤه استبشارا بالمستقبل.
وحوالي سن السابعة عشرة يخف إرهاق العاطفة الجنسية، بل هي قد تتشعب إلى استطلاع جنسي سليم، أو إلى استطلاع ثقافي أو اجتماعي أو علمي، وهذا حسن.
وهنك شذوذان آخران يقع فيهما الشبان:
أحدهما:
الالتفات إلى الصبيان، وثد تثبت هذه العادة وتبقى إلى ما بعد الزواج، فتحدث أذى فادحا في العلاقات الزوجية، كما أن العادة السرية قد تفدح أيضا وتبقى إلى ما بعد الزواج، ولكن الأغلب أن الزواج يمحو هذه العادة، أما الاتصال بالصبيان فكثيرا ما يعجز الزواج عن محوه من النفس، وقد يكون لهذا الشذوذ أصل عضوي؛ أي إن مرجعه ليس نفسيا فقط.
والشذوذ الآخر:
هو التعرف إلى البغايا؛ فإن البغي التي تشترى منها اللذة بالنقود تعامل بغير حب أو صداقة أو احترام؛ ولذلك سرعان ما يتركها الشاب وهو مشمئز، والعادات الجنسية تثبت في النفس؛ ولذلك عندما يتزوج هذا الشاب يعامل زوجته بالسرعة والهرولة التي كان يعامل بها البغي، فتسوء العلاقة بين الزوجين؛ لأن الزوجة تغدو محرومة.
وعبارة «تثبت في النفس» يجب أن نقف عندها قليلا في حديثنا عن الزيغ الجنسي، فقد يتعود الشاب مع الفتاة - التي يخشى على عذريتها - عادات الاحتكاك الخارجي، ويصل كلاهما إلى ذروة الشهوة الجنسية بالاحتكاك فقط، فتثبت هذه العادة فيهما، والفتيات يقعن في هذا «التثبيت» أكثر من الشبان؛ لأنهن يخشين الحمل، فيتعودن الاحتكاك الخارجي، وقد يكرهن بل يشمئززن من الاتصال الجنسي التام، وهذا زيغ له عواقبه السيئة الفادحة في الزواج، بل قد تقع الفتاة في «تثبيت» آخر هو أنها تجد اللذة والمتعة في المغازلة بالحديث والتقبيل والتجميش وتقف هنا، ولا تتنقل إلى مرحلة أخرى، بل ترفض في اشمئزاز هذه المرحلة الأخرى، وقد زادت القصص السينمائية هذا الاتجاه في الفتيات؛ لأن القصة تنتهي على الشاشة، بعد جهاد المحبين إلى القبلة، كأن القبلة هي المرحلة الأخيرة. مع أنها - في النظام النفسي الجنسي - ليست سوى إحدى الدرجات؛ وبذلك تعود المغازلة عند الفتاة كل شيء أو أكبر الأشياء؛ أي إنه يحدث «تثبيت» في القبلة.
وأفدح الأمراض الجنسية هي العنة؛ أي: العجز عن التعارف الجنسي، والعنة في المرأة جمود لا أكثر؛ أي إنها تقف الموقف السلبي في التعارف الجنسي، ولكنها قد لا تمانع، أما في الرجل فإن العنة تعني العجز عن إتمام التعارف الجنسي، ولهذه الحال أسباب كثيرة: (1)
نذكر في أولها اعتياد العادة السرية مدة طويلة؛ لأن هذه العادة تجعل معتادها يألف الأخيلة والخواطر الجنسية، حتى ينتهي إلى النفور من الواقع، ولكن ليست هذه الحال خطرة؛ لأنه سرعان ما ينسى هذه العادة عقب الزواج. (2)
وكذلك اشتهاء الصبيان قد يحمل صاحبه على العجز عن التعارف الجنسي مع زوجته، وهذه العادة أثبت من العادة السرية، وأحيانا لا يشفى صاحبها إذا كان السبب عضويا وليس نفسيا، ولكن هذا الذي يتعسر شفاؤه لا يبلغ واحدا في المائة من هؤلاء الزائغين النفسيين. (3)
قد تحدث العنة لأن الحب يتغلب على الشهوة، وهذا الكلام غريب على القارئ، ولكن قليلا من التأمل يوضحه، فإن العروس قد تكون فائقة في الجمال، وعندئذ يحس العريس كأنه يعبدها، وهو عندئذ يرفعها فوق هذا الرجس؛ أي: الاتصال الجنسي؛ فإننا نشأنا على أن التعارف الجنسي نجاسة، وأن الطهارة تقتضي تجنبه؛ ولذلك عندما يشتد الحب يضعف الاشتهاء، وقد تحدث العنة لذلك، والعلاج سهل جدا، وقليل من الإرشاد من أحد السيكلوجيين يزيل هذه العنة، ويحسن أن يكون هذا قبل الزواج. (4)
ويحدث كثيرا أن تردد العريس قبيل الزواج وحيرته في اختيار الزوجة، هذه أو ذاك، يحدثان عنة تدوم ما دامت هذه الحيرة، وهي تزول بزوالها؛ أي: عندما يستقر على رأي. (5)
يحدث للمتزوج عقب الزواج بسنة أو بعشر سنوات أو أقل أو أكثر، أن يصاب أيضا بالعنة، وهذه الحال تعود إلى كراهة قد استقرت في الكامنة، كأن النفس تحتج على هذا الزواج المكروه، أو تعتل بالعنة لتجنب الزوجة وإهانتها، وكثيرا ما تكون الزوجة، بتصرفها السيئ، مسئولة عن هذه الحال.
هذه هي أهم الأسباب لهذه الحال التي يعدها العريس أو الزوج خطيرة، وهي في أغلب الأحيان في غاية البساطة والسهولة.
لا تزال هناك بعض ملحوظات بشأن هذا الموضوع نلقيها للقارئ بلا ترتيب، منها: الرجل أقدر من المرأة على الحرمان الجنسي؛ لأن اهتماماته الكثيرة تشغله، ولكن التزام المرأة لبيتها يحملها على اجترار الخواطر الجنسية في أحلام اليقظة، وفراغها كثير، ولذلك أحلامها هذه كثيرة، ثم إن الجنس اشتهاء وحب وأمومة عند المرأة، وهو أقل بالطبع من ذلك كثيرا عند الرجل، والتغير الكبير الذي يعقب انقطاع الحيض عند المرأة يدلنا على أن للجنس قيمة فسيولوجية لها أكبر من قيمته عند الرجل.
يحمل مجتمعنا المرأة على أن تتجنب التفريج الجنسي، وهذا شأن كل مجتمع متمدن، مع أن الحال ليست كذلك في الرجل، ولهذا المنع أثر سيكلوجي آخر؛ لأنه ينتقل من التخصيص إلى التعميم، فكما أننا قد رأينا أن الحيرة في اختيار الزوجة تحدث عنة قبل الزواج عند الشاب، كذلك يؤدي هذا المنع عند المرأة إلى انكفافها في النشاط مهما يكن نوعه وإلى تخلفها الاجتماعي.
الحرمان الجنسي مجهود كبير جدا، وهو يشبه مجهود الصائم الذي يفكر في الطعام ما دام جائعا؛ فالمحروم يجتر الأحيلة الجنسية أكثر من المتزوج، وقد يقال: إنه سينسى بعد مدة طويلة هذا الاجترار الجنسي، ولكن إذا صح هذا فقد تأكد الضرر؛ لأن الحال الطبيعية السليمة أن الرجل لا يصح أن ينسى المرأة إلى حد الاستغناء التام، ويجب لهذا السبب أن ينظم المجتمع بحيث لا يطول هذا الحرمان.
الحرمان يضر النيوروزي أكثر مما يضر السليم.
وهناك بالطبع شذوذات جنسية أخرى أقرب إلى الإجرام منها إلى الشذوذ، كالرجل يضرب المرأة ويقسو عليها إلى حد الموت تقريبا كي يؤدي الاتصال الجنسي، وقد يقتلها في هذا الاتصال، وعندما نتأمل الاتصال الجنسي عامة نجد أن فيه شيئا من القسوة؛ لأنه في صميمه عدوان، والمريض النفسي يبالغ في هذا الاتجاه، حتى تصير قسوته قتلا أو تعذيبا بدلا من أن تتخذ الصيغة المألوفة كالعض أو الإيلام الخفيف، وهذه القسوة تسمى «سادية» وأحيانا تنعكس الصيغة فيكون الشذوذ رغبة في التألم، وهذا ما يسمى «المازوكية» كأن يطلب الرجل أن يضرب قبل الاتصال الجنسي، وهذا الميدان الجنسي يخصب للشذوذات الكثيرة، كالمجنون الذي يفتح القبر كي يفسق بفتاة ميتة، إلخ، وهؤلاء الشاذون يسمون «سيكوبائيين» أي إنهم سويون عقلاء في الحياة العامة، ولكنهم شاذون في هذه النقطة أو تلك (انظر فصل الشخصية السيكوبائية).
النظر السيكلوجي للإجرام
النيوروز هو كظم لا ينفرج يضيق به الإنسان كالغيرة أو الخوف أو القلق أو الشك؛ أي إنه جنون العاطفة.
والسيكوز هو تفريج مخطئ زائف للكظم السابق الذي تفاقم حتى صار نيوروزا لا يستطاع تحمله، ذلك أن السيكوزي يخترع أسطورة يسكن إليها، أو خيالات يرتاح إليها، فتذهب عنه الكظوم التي لم يكن يطيقها، كالأم التي تركها ابنها، فهي بين الشكوك التي لا تطاق، هل هو عائد أم لا؟ وحي أم ميت؟ فعاطفتها في عذاب وتمزيق لا يطاقان، وهذا هو النيوروز، وفي ذات صباح تجد أنها قد استيقظت وهي مرتاحة ساكنة إلى خيالات جديدة وأساطير لذيذة؛ بأن ابنها قد عاد وقابلها يوم أمس وتحدث إليها، وأنه سيحضر هذا المساء، وعندئذ يعد السيكوز جنون العقل الذي حل محل النيوروز؛ أي: توتر العاطفة وجنونها.
والإجرام يعد - من الناحية السيكلوجية - تفريجا لكظم سابق؛ أي إن المجرم نيوروزي ضائق مثلا بفقره، أو - بالأحرى - بعوزه، يجد أن حاجاته أكثر من مقتنياته، فهو كاظم قد احتقنت في نفسه أحقاد أو توترات مختلفة تطالبه بالتفريج، وغير المجرم يلجأ إلى الخمر مثلا فيفترج، وغيره يلجأ إلى أحلام اليقظة فيفترج أيضا، ولكنه هو يلجأ إلى الجريمة، ومن هنا خطره على المجتمع، والإجرام - بهذا الاعتبار - يعد سيكوزا أو نيوروزا ، ويجب لذلك أن يجد المعالجة السيكلوجية، ولكنا ما زلنا نعالج المجرمين بقانون العقوبات، وهو قانون عاطفي وليس وجدانيا؛ لأننا - حين ننفذه - ننتقم ولا نتعقل.
والمشاهد أن الذكاء في المجرمين أقل قليلا من المتوسط العام؛ أي: أقل من مائة، ولكن الإجرام لا يعود إلى نقص الذكاء؛ لأن هناك آلافا من الأفراد دون المائة؛ أي: دون المتوسط، ومع ذلك يعيشون العيشة السوية في المجتمع، ولكن سبب الجريمة هو الكظم الذي لا يجد منفرجا إلا بهذا الانفجار الإجرامي، وقد سبق أن قلنا: إن المجتمع الحسن هو ذلك الذي تقل فيه الكظوم، ولا تتفاقم حتى لا تؤدي إلى الجنون أو إلى الإجرام؛ ومن هنا نفهم أنه حيث يكون الحرمان المالي أو الاقتصادي أو الجنسي أو الترفيهي نجد الإجرام، وعلى قدر هذا الحرمان يكون الإجرام.
وقد سبق أن قلنا: إن ضمير الإنسان في مجتمعنا مؤلف من ثلاث ذوات: (1)
الذات البيولوجية الغريزية التي نشتهي بها الطعام والأنثى والسيطرة، إلخ. (2)
الذات الاجتماعية المؤلفة من التقاليد والعادات الاجتماعية. (3)
الذات العليا التي تنتقد وتتبصر وتتألف من الدين والأخلاق والمثليات.
وواضح أن الذات الأولى هي أرسخ وألح الذوات في ضميرنا؛ لأنها هي الذات الفطرية الأولى؛ أي: الذات الحيوانية الكامنة، وهي لا تكاد تقبل تعليما أو تعديلا؛ ولذلك يؤدي حرماننا من الطعام أو الأنثى أو السيطرة إلى الإجرام، وكلمة السيطرة هنا تعني أشياء كثيرة، كالحصول على المال والمقام والوجاهة، والشعور بالرغبة في الانتقام عندما نجد الإهانة أو الحط من مكانتنا، إلخ، وعندما نكون تحت سلطان الخمر أو أي مخدر آخر تسفر الذات البيولوجية وتخمد الذات الاجتماعية والذات العليا، وكلنا يعرف مثلا أن المجرم يلجأ أحيانا إلى الخمر كي يخمد أو يميت هاتين الذاتين الأخيرتين، وهو ينجح في ذلك، فيعود عقب الشراب وليس به سوى الذات البيولوجية فيسلك سلوك الحيوان.
وكي نتقي الجريمة يجب أن: (1)
نعمل على توفير الحاجات للذات البيولوجية، بإيجاد نظام التكفل الاجتماعي، فلا يجوع أحد لأنه متعطل، بل ينظم المجتمع بحيث لا يكون به تعطل بتاتا، وإذا وجد - وهذا نفسه مرض - فإنه يحب أن يؤدى تعويض للمتعطل على تعطله حتى يجد العمل، وكذلك ينظم الزواج بحيث يكون مستطاعا حوالي العشرين من العمر، وليس هذا شاقا إذا عممنا تعليم الفتاة حتى تعمل إلى جانب زوجها عملا كاسبا، وإذا عممنا وسائل منع الحمل حتى لا يرهق الزوجان في سن مبكرة بكثرة الأولاد، وليس في العالم أمة متمدنة تهمل في أيامنا التكفل الاجتماعي، فإن الدولة تعنى بالصحة والتعليم وتغذية التلميذ في المدرسة، وهي تئوي المريض في المستشفى وتؤدي تعويضا عن التعطل وتمنح الحامل أجرة كاملة في الأسابيع الأخيرة للحمل وعقب الوضع، كما أنها تمنح المسنين معاشا إلخ.
وهذا التكفل الاجتماعي يشبع الذات البيولوجية ويبعث الطمأنينة والرضى فتقل الجرائم، وإلى الآن لا تعرف مصر هذا التكفل، ومن ينصح به ينبز بالشيوعية من المستغرضين أو من البله والمغفلين. (2)
يجب أن يقل التفاوت الاجتماعي (الاقتصادي) بين السكان حتى يقل الكظم، فلا يعيش إنسان بثلاثة قروش في اليوم ويعيش آخر بثمانمائة جنيه في اليوم، كما هي الحال في مصر، وإني أذكر هنا أجور الكناسين الموظفين في المجالس البلدية في بعض مدن أوروبا إلى جنب أجور الوزراء، فهي في السنة (من إحصاء 1930):
في لندن
الكناس 145 جنيها
والوزير 5000 جنيه
في برن (بسويسرا)
الكناس 223 جنيها
والوزير 1600 جنيه
في كوبنهاجن (دنمركا) [الكناس] 150 جنيها
والوزير 900 جنيه
في ستوكهلم (سويد) [الكناس] 210 جنيهات
والوزير 1300 جنيه
وواضح أن قلة التفاوت هنا تؤدي إلى الرضا، في حين أن عظم التفاوت عندنا بين مرتب الوزير وأجرة الكناس في المجلس البلدي يؤدي إلى السخط؛ أي: الكظم فالإجرام، والمقارنة هنا رمزية؛ لأننا نقصد منها إلى أن هناك آلاف الأفراد الذين يحصلون على مرتب رئيس الوزارة وملايين الأفراد الذين يحصلون على أجرة الكناس، والإجرام يقع من الأفراد الساخطين الكاظمين بين هؤلاء الملايين، ولا يقع من أولئك المرفهين الراضين الذين يحصل كل منهم على نحو عشرة جنيهات في اليوم. (3)
ويجب أن تتوافر الاهتمامات للشبان والفتيان، وعندي أن الفرق في أغلب الحالات بين الشخص الطيب الذي لا يأكل نفسه بالحقد والكظم وبين الشخص السيئ الذي يتحرى الإيذاء هو أن الأول كثير الاهتمامات اللذيذة التي تملأ نفسه وتشغل ذهنه فتتبدد أحقاده وتتشتت كظومه، أما الثاني فمكظوم لم تنفرج كظومه، فهو يحمل هموما ولا يشتغل باهتمامات، وقد تكون هذه الاهتمامات مسليات سخيفة عند البعض، وهي تضر هذا الشخص الذي يمارسها لأنها تبعثر ذكاءه ومواهبه وإن كانت تمنعه من الأذى، والمجتمع الحسن هو الذي يهيئ لأفراده الاهتمامات العالية النافعة كالثقافة بالكتاب والجريدة، وكالأندية والألعاب الرياضية، والتنزه على الشواطئ والسياحة، إلخ؛ أي: يجب على المجتمع الحسن أن يساعد الذات الاجتماعية والذات العليا على أن تتوافر لهما وسائل الحياة والقوة. (4)
وواضح أننا لا نستطيع أن نهمل القدوة والإرشاد مدة الطفولة؛ لأن الإجرام قد يكون في النهاية أسلوبا عاطفيا تعلمه الطفل من أبويه ولا يستطيع الإقلاع عنه، وقد صارت كمالا - الفتاة الهندية التي أرضعتها ذئبة فنشأت معها وأخذت بأسلوبها - ذئبة في كل شيء إلا هيئة الوجه، ونسيت إنسانيتها الفطرية حتى القوام تغير فصارت تجري على أربع كالذئبة، وأذكر هنا الطفل المدلل الذي لا يطيق المعارضة من أحد ويأبى إلا أن يتسلط على غيره وتكون له الكلمة الأولى، وما يؤدي هذا إلى عناد فانتقام، وأذكر الطفل المضطهد وألوان الخبث التي تعلمها في طفولته كي يتقي بها هذا الاضطهاد، وهذا الأسلوب الذي تعلمه كل منهما يعيش معه سائر حياته ويؤذيه كما يؤذي المجتمع، وهنا يجب أن نذكر أن بعض الولايات المتحدة تعد «العود» في الجريمة في عائلة المجرم وليس في شخص المجرم وحده؛ وذلك لأنها تجد أن عائلة المجرم مسئولة عن إجرامه، وأنه أخذ بأسلوب الجريمة منها.
والخلاصة أننا يجب في معالجة الجريمة أن نستبدل الطبيب السيكلوجي الاجتماعي بالقاضي الجنائي، ويجب أن ندرك أن المجرم ثائر بلا ثورة معينة، متوتر النفس في غير حق أو بحق، لا يعترف به مجتمعه (انظر فصل الشخصية السيكوبائية). (5)
كي نتقي الجريمة يجب أن نتجنب في تربية الطفل تدليله أو اضطهاده، ويجب ألا نسأم من تكرار ذلك.
الشخصية السيكوبائية
حين نتحدث عن الانحرافات الجنسية أو عن الإجرام نيوروزا أو سيكوزا نجد أننا نتمحل وأننا نعجز عن أن نصوغ كثيرا من الانحرافات الأخلاقية في قالبي النيوروز أو السيكوز.
ذلك أننا نلتقي بناس كثيرين يعيشون في المجتمع ويستمتعون بالكرامة والوجاهة أو الثراء والمركز، نحادثهم فنجد العقل المتزن والاهتمامات السياسية أو الاجتماعية، لهم عائلات يعولونها وأولاد يهتمون بمستقبلهم، وغير ذلك مما يدل على الحياة السوية الخالية من الشذوذ، ثم نفاجأ يوما بأن هذا الوجيه الذي كنا نعرف فيه أخلاقا سوية واتزانا نفسيا، بل وروحا كريمة قد ضبط في جريمة الشذوذ الجنسي مع صبي قاصر، ثم تثبت التحقيقات أنه عريق في هذه الجريمة التي مارسها منذ عشرين أو ثلاثين سنة، وأن له عادات بشعة في الشذوذ الجنسي مع الصبيان، وقد استطاع طوال هذه السنين أن يخفي جرائمه؛ لأنه لا يزال متمتعا باتزانه، يستطيع التفكير الحسن.
ثم نجد لغيره شذوذا آخر مع البغايا، كأن يضربهن ويؤلمهن بما يسمى السادية، أو يطلب هو أن يضربنه ويؤلمنه بما يسمى المازوكية.
ونجد غيره ينهم إلى الجنس الآخر، ويتكلف التكاليف الباهظة كي يصل إلى غايته، حتى ولو اقتضت هذه الغاية خيانة أصدقائه وتعرض عائلاتهم للتشتت عندما تنفضح علاقاته الجنسية، وهو يجري وراء غايته كأنه في حمى.
وأحيانا نجد رجلا ثريا ليس في حاجة إلى المال، ولكنه مع ذلك يتعب ويعرق كي يسرق أفراد عائلته: إخوته أو أقربائه الذين يشتركون معه في تجارة أو زراعة، وكي يصل إلى غايته يرتكب التزوير والنصب، وإلى هذه الأخلاق لا يتورع من الذهاب إلى المسجد أو الكنيسة للصلاة ولا يعد نفسه مجرما.
وأحيانا نجد سيدة وقورة لها زوج وأولاد، وهي تدير بيتها على خير ما يطلب منها، ثم يمر على مسكنها بائع الطماطم فتشتري منه رطلين، وقد لا يزيد ثمن الرطل على نصف قرش، ولكنها مع ذلك تغافل البائع وتسرق طماطمه، ثم قد تذهب إلى مخزن تجاري كبير وتشتري من الأقمشة ما تبلغ قيمته عشرين جنيها، ومع ذلك تمد يدها إلى منديل لا يزيد ثمنه على عشرة قروش فتسرقه، وهذا هو ما يسمى «كليبتومانيا».
وأحيانا تجد رجلا أنيسا يحب الكتب ويقتنيها ويبحث موضوعاتها في ذكاء وخبرة، ولكنه مع ذلك متعطل، لا يثبت على عمل، ولا يثابر على إنجاز مهمة، وهو يتنقل في سهولة من عمل إلى آخر كأنه متشرد، ولا يبالي أن يكسب له غيره ويتعب، بينما هو يحصل على الثمرة، ويقضي وقته على القهوة ينفق ما حصل عليه؛ فإذا قصر هذا الذي يتعب له سبه، وقد يتعدى عليه بالضرب، كأن له حقا عليه في أن يعوله.
فهؤلاء جميعا وأمثالهم، يسلكون سلوكا عاديا ليس فيه ما يلفت النظر، عواطفهم عادية ليس بها كرب أو ضيق، وتفكيرهم سليم ليس فيه خيالات جنونية، ولكنهم في ناحية معينة، يخفونها عنا أو لا يخفونها، يسلكون سلوكا غير اجتماعي يؤذي الناس أذى عظيما، ومن الإسراف أو التسامح أن نقول: إن بهم نيوروزا أو سيكوزا.
ولهذا السبب أطلق على هؤلاء اسم السيكوبائيين؛ أي: أولئك الذين يتسمون بجنون أخلاقي، حتى ليكاد أحدهم يحترف الكذب أو التزوير أو الوقيعة، فيكون بلاء علينا جميعا، ولكنا لا نستطيع أن نزجه في مارستان أو سجن؛ لأنه - بذكائه - يحرص على ألا يقع في مخالفة خطيرة، وإذا وقع فيها حرص على أن يتستر، وقد روى الدكتور صبري جرجس في كتابه عن السيكوبائية أمثلة كثيرة من هؤلاء الشاذين.
وأول ما نجد من الصفات عند هؤلاء الشاذين مما يفتح بصيرتنا إلى تفهم حالتهم؛ أنهم مارقون في ذاتية مسرفة، فشعارهم: أنا، أنا، أنا، يبغون النجاح وأحيانا يتفوقون، وليس للغير أية مكانة في حسابهم، وهم على استعداد لأن يدسوه، وصفة أخرى تلازمهم هي الاندفاع وجحد العقل، وصفة ثالثة هي نقص الاتزان الأخلاقي الاجتماعي؛ فالقيم والأوزان الاجتماعية لا تحتل مكانها في نفوسهم، فلا يبالي الرئيس السيكوبائي أن يفصل الفراش من وظيفته؛ لأنه أهمل إهمالا بسيطا، وأولاد هذا الفراش وزوجته ليس لهم مكان في نفس هذا الرئيس، وصفة أخرى هي أن هؤلاء السيكوبائيين لا يعرفون هدفا للحياة، فهم يعيشون جزافا، وحاضرهم يغمر كل شيء، ليس للمستقبل عندهم قيمة كبيرة.
والآن اعتبر أيها القارئ هذه الصفات كلها: ذاتية مسرفة تقول في كل شيء: أنا ، واندفاع بلا تعقل، ونقص في الاتزان الأخلاقي الاجتماعي، وانعدام الهدف للحياة، وإيثار الحاضر على المستقبل.
اعتبر كل هذه الصفات ثم تأملها، ألست تجد أنها جميعا صفات الطفل المدلل الذي نشأ على أن يقول: أنا، في كل شيء، ولا يعرف المسئولية ولا يبالي الغير ولا يفكر في المستقبل؟
ولكن الطفل المضطهد أيضا، بل ربما أكثر، ينتهي إلى الشخصية السيكوبائية؛ لأنه في طفولته أهين وضرب وطرد وحرم، فاضطر إلى اتخاذ أسلوب من المكر والخبث والسرقة والوقيعة والغش كي يحمي نفسه إزاء الاضطهاد، ثم بقي معه هذا الأسلوب ورسخ فهو يعامل المجتمع به ويعود مجرما يعامل هذا المجتمع بالإجرام الخفي كما كان يعامل زوجة أبيه.
هذا التعليل يفتح بصيرتنا للفهم في مشكلة الشخصية السيكوبائية، ولكنه لا يوضح لنا كل شيء فيها.
ومع ذلك هذه الشخصية السيكوبائية قد لا تكون كلها سوءا؛ إذ هناك من السيكلوجيين من يفرض أن العبقرية قد تكون هي أيضا سيكوبائية؛ لأن العبقري كثيرا ما يتسم بسماتها، فلا يبالي المجتمع وقواعده، واستهتار الكثيرين من الأدباء والفنانين مشهور، ثم يتسم العبقري بالإسراف ويبيح لنفسه من الحرية والتفكير ما لا يبيحه لأنفسهم أفراد الجمهور، وهو أيضا مقلقل، وهذه القلقلة تحمله على غزوات فكرية مختلفة، والعبقري والسيكوبائي يتفقان في أن قالب المجتمع لا يصوغهما كما يصوغ الأفراد العاديين، وهذا فرض يستحق التفكير، ولنتوسع قليلا في الشرح: (1)
الطفل المدلل قد تعود الأنانية وكراهة التحمل للمسئوليات، والمجتمع يصدمه من وقت لآخر صدمات مؤلمة، فهو يثور عليه ويتخذ أساليب سرية في هذه الثورة عليه، والإجرام بعض هذه الثورة. (2)
الطفل المضطهد أكثر ثورة من الطفل المدلل، وأكثر مكرا أو ميلا إلى الأساليب السرية، فقد اضطهدته زوجة أبيه مثلا، فتعود - كي يعيش في بيت يكرهه - أن يحتال ويسرق ويغش ويمشي بالوقيعة؛ فإذا كبر بقيت فيه هذه الأساليب ضد المجتمع كما كانت ضد زوجة أبيه، فهو ثائر على المجتمع يقدم على الجريمة بلا مبالاة؛ لأنه - في أعماق كامنته - ينتقم من المجتمع الذي يمثل زوجة أبيه. (3)
كأننا نقول في هذين المثالين السابقين: إن التدليل والاضطهاد يحدثان ثمرة مرة في النفس تشبه الثمرة التي يحدثها مركب النقص، فنحن هنا إزاء حقد محتقن على المجتمع زرعت بذوره في الطفولة، ولكن مركب النقص يحدث ضررا فادحا واتجاها سيئا في أكثر من 90 في المائة من الحالات، ويحدث أقل من 10 في المائة من الأثر الحسن، كذلك التدليل والاضطهاد يؤديان إلى الضرر والسوء في نحو 90 في المائة من الحالات؛ أي: يؤديان إلى الشخصية السيكوبائية: شخصية الإجرام الخفي أو الجنون الخفي، ولكن في 10 في المائة قد يؤدي التدليل والاضطهاد إلى الشخصية العبقرية؛ لأن الذكاء قد يسعفه هنا فلا تكون الثورة على أوضاع المجتمع تنتقد في تعقل وتبرز عيوبها في إيضاح.
إحدى الشخصيات السيكوبائية
هؤلاء المجرمون يعيشون بيننا ويقلقوننا، وجرائمهم خفية لا يستطاع الكشف عنها وفضحها، وهم في ظاهرهم عاديون سويون لا يبدو عليهم أي شذوذ، بل هم قد يحصلون على براعة فنية، يكسبون بها وينالون بها الاحترام؛ ومن هنا العجز؛ أي: عجز المجتمع عن منع شرورهم.
ولد منذ اثنتين وستين سنة في عائلة متوسطة من عائلات الصعيد، وجاء مولده بعد خمس بنات، وأبواه على شوق لأن ينجبا بغلام، ثم عاملاه بتدليل مسرف بحيث لم يكن يطلب أي شيء مهما كان باعثه من النزق إلا ويجده حاضرا أمامه، وكان له خادم خاص يقضي به النهار كله، وهو يتنزه على حمار خاص.
وهو - أي هذا الغلام - كان مزودا بالنقود التي يبعثه نزقه على أن يشتري بها كل ما يرغب فيه، لا يجد معارضا أو مناقضا، ومعنى هذا أنه عاش في السنين الخمس الأولى وهو يتمتع بسلطان مستبد، ثم نشأ بعد ذلك على أن يعامل كل الناس بسلطان مستبد يطلب الطاعة؛ فإذا لم يجدها بطش وضرب وعربد.
لم يعرف قط كيف يتعاون مع الناس، بل عرف فقط كيف يعاند ويبطش، ويذكر عنه أنه حين كان في السابعة أو الثامنة من عمره كان يخرج إلى الشارع ثم يعاكس المارة من نساء أو رجال، من الخلف، بأسلوب جنسي فاضح، ثم يسترضي أبواه ضحيته ويعتذران إليه، دون أن يعاقبا ابنهما حتى يكف عن هذه العادة، وكان له كلب ضخم يطلقه على المارة فيعقرهم أو ينبحهم ويفزعهم، ثم يأتي أبواه فيسترضيان هذا الشخص، ونشأ بعد هذه التربية السيئة على ان يعتقد أو يحس أن أفراد الجمهور إنما خلقوا كي يكونوا موضع لهوه وضحكه، يضربهم ويضحك ويشتمهم ويضحك ويطلق كلبه عليهم ويضحك، ثم يحس أيضا أن له الحق في أن يطلب كل ما يدفعه النزق إلى طلبه؛ وبذلك تكون له أسلوب هو أسلوب حياته الذي لا يزال ملازما له إلى الآن في 1947 وهو في الثانية والستين من عمره، فقد أدى هذا التدليل المسرف إلى أنه كان يضرب أخاه الصغير، بل كان يضرب أمه بالعصا حتى كان يجرحها، ذلك أنه تعود ألا يقول له أحد: لا، فلما بلغ السابعة عشرة أو الثامنة عشرة لم تعد أمه قادرة على أن تلبي كل طلباته فكان يضربها باستمرار، وكانت تلمذته في المدرسة هي التربية الوحيدة التي انتفع بها قليلا؛ لأن زملاءه من التلاميذ أجبروه على أن يسلك في معاملتهم بشيء من اللياقة المتمدنة، ولكن هذا السلوك لم يستطع أن يتغلب على أسلوب الطفولة الذي تعلمه، فكان إذا خرج من المدرسة وعاد إلى البيت أثار حربا على أمه وإخوته يشتم ويضرب ويؤذي ويحطم، ثم تزوج بعد ذلك فلم يمض شهر على زواجه حتى كان يضرب زوجته بمثل ما كان يضرب أمه في استهتار عجيب، وهذا إلى تعاطي الخمور إلى حد الإدمان، واصطدم ذات مرة بوالد زوجته فضربه أيضا، وبقي بعد ذلك نحو أربعين سنة وهو يذكر هذه القصة ويشرح تفاصيلها، سواء أكان في صحوه أم سكره، ويضحك مبتهجا بأنه ظفر بخصمه وتغلب عليه.
وأغرى أخاه الأصغر على أن يكتب خطابات بذيئة إلى أقاربه، وهو يوهمه أنه يؤدي عملا حسنا بها، وكان أخوه دون السن التي يستطيع فيها التقدير فكتب هذه الخطابات، ثم عرف بعد ذلك أن ذلك الشقيق الذي أغراه بكتابتها بعث يعتذر في اليوم نفسه إلى جميع من كتب إليهم ويلعن أخاه لأنه كتبها، وكان في كل هذا يسلك في أسلوب سيكوبائي عجيب!
وحانت له فرصة فسرق مصوغات والدته وباعها، ولم يستطع أحد من إخوته أن يحمله على رد هذه المصوغات أو أن يعرضه للعقوبة، ذلك أن إخوته كانوا حسني التربية اجتماعيين، يحب بعضهم بعضا؛ لأنهم لم يعرفوا التدليل مثله.
بل الحق أن من يتأمل هذا الشخص يجد أنه ارتكب السرقة أكثر من عشرين مرة، فسرق أمه وسرق إخوته، بل كان يسرق المزارعين، ثم مع ذلك كان يفخر بهذه السرقات، وكانت له أخت فقيرة لم يتورع من أن يسرق منها نحو ثلاثين جنيها مما يشبه خيانة الأمانة، وهذا في الوقت الذي كان أحد إخوته الآخرين يتبرع لها من ماله الخاص بنحو ستين أو سبعين جنيها.
وكان يمارس شذوذا جنسيا خطرا، ولكنه - مثل جميع السيكوبائيين - كان قادرا على ستر جرائمه فلم يفتضح، وكان بعد ذلك بسنوات يقص جرائمه هذه وهو يضحك ثم يضحك ثم يضحك. ذلك أن أسلوب الطفولة الذي تعلمه حين كان يدلله أبواه في السنين الأربع الأولى من عمره قد لازمه وما زال يلازمه إلى الآن.
ولكن مع هذا الذي ذكرنا، هناك أفظع وأبشع، ففي ذات مساء كانت أم زوجته في بيته تزور ابنتها، وباتت ليلتها في بيته فرأى الفرصة سانحة لأن يضحك أضخم ضحكة في حياته، فشرب حتى سكر - كما يفعل المجرمون العتاة كي يخفوا جرائمهم - ثم فسق بحماته اغتصابا، وهو إلى الآن يقص هذه القصة ثم يضحك ويضحك ويضحك، ولا يبالي أن يشرح كيف كانت زوجته المسكينة تقاوم وتحاول حماية أمها، بل إن هذا الأسلوب نفسه، أسلوب النزق إلى حد الإجرام قد عامل أولاده به، فقد كان له أربعة صبيان حاول أن يمنعهم من أن يتعلموا؛ وذلك لأنه وقف منهم موقف العناد كما لو كان طفلا يعاند أطفالا، فقد اضطر أحدهم إلى الانقطاع عن الجامعة؛ لأنه رفض أن يجدد له تذكرة الاشتراك في الأتوبوس، أو يعطيه نفقات الانتقال اليومي من البيت للجامعة، وبلغ من استهتاره أن حرم ابنا آخر له من نفقات تعلمه في إيطاليا، حتى اضطره أن يجوع ويقطع خمسين كيلو مترا على قدميه لأنه لا يجد أجرة القطار.
وكان شقيقه يبصر بحالته ويفطن إلى حد ما للبواعث التي حملته على هذا السلوك، أي: هذه الجرائم، وكان هذا الشقيق يرفق به ويستصلحه ويبدي له العطف، ومع ذلك جاء آخر أيامه يحاول أن يسرقه ويدبر له المعاكسات في الخفاء.
عاش اثنتين وستين سنة وهو سلسلة متصلة من الجرائم البشعة، ولكن يد القانون لم تمتد إليه قط؛ لأنه بما وصل إليه من تعليم - إذ كان مهندسا - استطاع أن يخفي جميع جرائمه، وصحيح أن أفراد عائلته - بل أقاربه - قد قاطعوه حتى بات منعزلا في أواخر أيامه، ولكن هل هذا الجزاء يكفي مثل هذه الحياة الإجرامية؟
ومع كل هذا الذي ارتكبه هو معذور؛ لأنه دلل، وأسرف أبواه في تدليله، حتى أصبح سيكوبائيا لا يحس أية مسئولية اجتماعية، ولا يبالي أي أذى ينزله بالناس. لا، بل حتى بأمه وإخوته وزوجته وأولاده، فضلا عن الغرباء، ولا يعرف معنى للبر أو الشرف، فالمسئولية على أبويه وليست عليه.
ونحن مضطرون إلى أن نعيش مع هؤلاء السيكوبائيين عاجزين عن أن نعين جريمتهم أو جنونهم، ومرجع هذا تدليل وجده هؤلاء المساكين في الطفولة عين أسلوبا في التصرف ثم تحجر هذا الأسلوب حتى بقي إلى شيخوختهم لا يعرفون كيف يغيرونه.
وليس في هذا الشخص ما يدعو إلى الشبهة في نقص أو خلل وراثي، أولا: لأنه أثبت أن كفايته الذهنية غير ناقصة؛ إذ حصل على دبلوم الهندسة العليا، وثانيا: أنه ليس بين إخوته واحد يشبهه في هذه الأخلاق؛ إذ كلهم سويون اجتماعيون، ولكن مما يستحق الذكر هنا، أنه على الرغم من حصوله على شهادة الهندسة العليا لم يشتغل قط بالهندسة؛ إذ قنع بإيراده من أرضه الموروثة، وهذا يدلنا على أنه لو لم يكن وارثا يعيش بتراث من أبيه لارتكب جرائم أخرى في سبيل العيش.
النيوروز
النيوروز كلمة عامة للكرب العاطفي الذي نضيق به ونتألم منه، فنعجز عن أداء عملنا ونأرق في الليل، ونجتر الهموم في النهار، ونبقى في خوف أو شك، ولكن العقل في كل هذا سليم ليست به خيالات جنونية، وربما عندما تتقدم السيكلوجية تترك هذه الكلمة العامة أي: «نيوروز» وتعين التوترات النفسية كل منها باسم خاص.
وللنيوروز عامة علامات عشر وضعها السيكلوجي أدلر يصف النيوروزيين وهي: (1)
أن النيوروزي يجهل معنى الحياة ولا يعرف أية قيمة للتعاون الاجتماعي، فهو مثلا مخاصم أكثر مما هو مصالح. (2)
هو أناني لا يخدم غيره، ولكلمة «أنا» عنده الأولوية. (3)
هو في خوف دائم أو متردد «والهم والقلق خوف متردد». (4)
يحاول أن يحدث لنفسه إحساسا ذاتيا «غير موضوعي» كي يشعر بالقوة، كأن يشرب الخمر أو أي مخدر آخر، أو يستسلم لخواطر اليقظة. (5)
يقول: «لا أقدر» وفي صميم قلبه يقول: «لا أريد.» (6)
يعيش بهدف نيوروزي قد تكون له في الطفولة؛ لأنه كان مدللا أو مضطهدا، ففي الحالة الأولى يحاول استبقاء ما كان يتمتع به من التدليل، مع أن الظروف لا تؤاتيه، وفي الحال الثانية يحاول أن يعيش فيما اخترعه لنفسه من أهداف كي يزوغ من الاضطهاد. (7)
يعلل فشله أو خيبته بأنه يحمل شخصا آخر أو شيئا آخر تبعة هذا الفشل أو هذه الخيبة كأن يقول إنه مريض، أو إنه لم يتعلم، أو إنه لم يرث، إلخ. (8)
يبذل مجهودا زائفا كي يبدو أمام الناس أنه غير مسئول عن فشله. (9)
تتسم حياته بأنها عقيمة، وأنه غير مفيد للمجتمع. (10)
يؤثر الاعتزال على الاجتماع.
هذه هي العلامات التي نعرفها في النيوروزي، ونتيجتها أننا نجده عاجزا عن ممارسة العمل الكاسب، وعن إيجاد علاقة اجتماعية حسنة، بل هو أحيانا يعجز عن إيجاد علاقات جنسية حسنة.
ويتبسط أدلر في شرح النيوروز فيقول: إنه يرجع في بعض الأحيان إلى صدمة ما، فيستغل النيوروزي هذه الصدمة كي يفر من مسئوليات الحياة، فلا يعمل ولا يتعب، انظر إلى رجل أهانته زوجته ودأبت في الإهانات فيما يقارب الفضيحة ، وعجز هو عن الانتقام، فبقيت التوترات، فهو يفتأ يذكر هذه الإهانة يقصها عليك وعلي كأنها أفسدت حياته، وأنه لولاها، إلخ. إلخ، والنتيجة أنه يعيش عاطلا عقيما.
وقد لا يعود النيوروز إلى صدمة معينة مذكورة، ولكن إلى أسلوب التدليل أو الاضطهاد الذي كابده الطفل في طفولته، ثم وجد بعد أن بلغ الشباب أن هذا الأسلوب قد باعد - بل فصل - بينه وبين المجتمع.
ويقول أدلر: إن النيوروزي يكاد يتضرع إلينا: «اعذروني يا ناس، أنا وقعت بي هذه المصيبة، أنا عاجز عن العمل لأني دميم الوجه (= مركب نقص) والناس يضحكون مني، كيف أتزوج بهذا الوجه؟»
ويرد أدلر في حكمة عالية: «لنفرض ذلك، وأنه قد وقعت بك مصيبة كما يقع المرض بالإنسان، ولكن لسنا في حاجة لأن تصف لنا ما فعله بك المرض وأن تبكي على هذا، بل أخبرنا ماذا فعلت أنت بالمرض؟»
أجل، لو شرع هذا النيوروزي في أن يفعل شيئا بهذا المرض إذن لشرع في علاج نفسه.
وعندما يضرب النيوروزي عن العمل والكسب والاجتماع والزواج يقول: «ماذا عندي من كفايات؟» ويقعد متعطلا عقيما، يجب أن نقول له نحن: «ماذا فعلت بالقليل الذي عندك من الكفايات مهما قلت ومهما صغرت؟ ماذا فعلت بها؟»
لأن النيوروزي عندما يشرع في عمل ما بأقل كفاياته، عندئذ يشرع في أن يكون سويا كسائر الناس.
وإذا أردت أن تعرف أيها القارئ هل أنت سوي أم نيوروزي فاسأل نفسك: ما هو موقفي في العمل والحب والاجتماع والفراغ؟ وعلى قدر نجاحك في هذه الأربعة تكون سويا، وعلى فشلك فيها أو في أحدهما تكون نيوروزيا.
وأخيرا ينصح أدلر باتخاذ هذه الحكمة: كن خدوما، اخدم الناس، أعط بسخاء، ولا تكف عن العطاء، أعط نقودك وذهنك وتعبك لخدمة غيرك، اكسب المال كي لا تكون عبئا على غيرك، وأحبب وتزوج وعل عائلة، آنس الناس واجتمع بهم وتعاون معهم، واملأ فراغك بما يفيدك ويفيد غيرك.
وكان أدلر اشتراكيا؛ لأنه وجد أن المباراة تحدث التوترات النفسية التي يجب أن نتجنبها، وأن الاشتراكية تعاون وخدمة وحب.
يحدث النيوروز - بل يكثر - إذا كان الوسط يطالبنا بمجهود شاق ونحن - لسبب ما - نعجز عن القيام به ، وهو أكثر حدوثا من المتاعب الصغيرة المتكررة كل يوم من الصدمة العنيفة تقع مرة في حياتنا؛ ولذلك نحن نعجز عن تحمل التوبيخات والإهانات والتهديدات، كل يوم، من الرئيس أو الحماة، ولكنا نتحمل الإفلاس يقع مدة ويقضي على أموالنا ولكنه لا يتكرر كل يوم.
وكالطفل يكون متعبا أو كارها للدرس ثم نحمله على الدرس بدلا من أن يلعب، وكالمراهق ترهقه الغريزة الجنسية ثم نحرمه ونطالبه بواجباته اليومية.
وكالجندي في المعركة يحيط به الخوف من كل جانب ونطالبه بالشجاعة.
وفي هذه الحالات الثلاث نجد كظما؛ أي: توترا لا ينفرج؛ أي نجد صراعا بين الوسط وبين الشخص انتهى بعجز الشخص.
وسلامة الشخصية تقاس بالانتصار في الجهات الأربع للحياة: العمل، والاجتماع، والحب، والفراغ، ونعني النجاح فيها كلها، أما إذا اقتصر النجاح على واحدة منها، والأغلب عندئذ أن يكون النجاح عظيما؛ فإن هذا الناجح نيوروزي، كذلك الذي يرصد كل قوته للنجاح فينجح فيه، ثم يفشل في عائلته أو مجتمعه وفراغه.
وانظر إلى خاصة التشعع في النيوروز حين ينتقل من بؤرة محلية فيشمل الحياة كلها:
شاب اعتاد العادة السرية، أو أغواه آخر أن يفسق به فاشمأز؛ فالاشمئزاز هنا يتشعع، وعندئذ يشمئز من البصاق والمخاط والعرق ومصافحة الناس، بل يشمئز من الخبز؛ لأن بائعه يحمله بيده ويلامسه، ثم يشمئز من الطعام الذي طبخته الخادمة؛ لأنها تدخل الكنيف، ثم يشمئز من الماء لأنه يوضع في كوب قد شرب منه غيره، إلخ.
وانظر إلى الطيار قد استولى عليه الخوف وهو طائر، فهو يخاف أزيز موطرها، مع أنه على الأرض الراسخة بين أهله، ثم يفزع من إقفال الباب، ثم يخاف البلكون ويعتقد أنه سيقع به، ويخاف الظلام، ويخاف الفضاء، ويخاف المستقبل.
أو انظر إلى شاب يشك في أمانة خادمه ويخشى سرقة أوراقه أو نقوده من درج المكتب، فهو يعود كي يستوثق أنه أقفله، ثم يتشعع الشك فهو يشك في أمانة زوجته أو إخوانه، ويشك في النيات التي ينطوي عليها رئيسه نحوه ويشك في المستقبل، إلخ.
والنفس البشرية بطبيعتها انبعاثية موطرية لا تقف الموقف السلبي ولا تركد، وما هو أن تجد الحافز حتى تتحرك؛ ولذلك فإن الشك أو الخوف أو الاشمئزاز يبدأ في جزء منها ثم يتفشى في أنحائها.
ومحال على مثل هذا النيوروزي أن يؤدي عمله كما ينبغي، وهو في أغلب الحالات يحيل ويتبرم ويرضى بالخيبة والفشل؛ لأنهما أروح إلى نفسه، وهو يبررهما بالحال التي هو فيها، والنجاح يحتاج إلى جهد ليس في مستطاعه.
انظر إلى نيوروزي آخر: رجل فشل في كل ما يعمل.
ابحث أحلام اليقظة وأحلام النوم عنده تجد أنه يحلم بالانتحار، ويمارس الانتحار في لذة وليس في خوف في هذه الأحلام، وقد يرغب في الفشل لأنه يكره زوجته أو عائلته كلها، وفي أعماق كامنته (عقله الكامن) أن فشله يعود عليهم بالضرر، فهو ينتقم منه به، كما ينتقم الصبي من أبويه حين يرفض مذاكرة دروسه؛ لأنه يرى منهما غيرة عليه ورغبة في أن ينجح، وهما يفرحان بنجاحه وهو لا يريد لهما فرحا.
وعندما تتحدث إلى هذا الفاشل يقول لك: إن عنده رغبة في النجاح ولكن الظروف معاكسة، ولكن الرغبة لا تكفي، وكلنا نرغب بعواطفنا في أن نكون أثرياء، ولكنا لا نحيل رغبة العاطفة إلى إرادة الوجدان، ولو صارت الرغبة إرادة لجهدنا وعملنا على تحقيق النجاح وتخلصنا من جميع العقبات القائمة، وعندئذ نربط الأمنية بالواقع ونشرع في التنفيذ.
والنيوروز أي: جنون العاطفة، نبسطها على الشخصية، هو الطريق إلى السيكوز؛ أي: جنون العقل بإيجاد خيالات واختراع قصص ترتاح إليها الشخصية، ولكن يجب ألا ننسى أنه لا يصل إلى السيكوز سوى واحد في الألف أو أقل وإننا كلنا؛ أي: المائة، نصاب في وقت ما بالنيوروز، وهو يزول عنا دون أن نبالي به كالرشح أو غيره من الوعكات الخفيفة في الجسم.
النيوروزي عاطفي انفعالي، وكي نعالجه يجب أن ننقله إلى الوجدان بالنظر الموضوعي؛ أي: يجب أن نقول له: لا تنفعل، تعقل، ونحلل شخصيته ونفلسف له، ونشعره أنه إنسان متمدن، ونغير القيم الأخلاقية التي يعتمد عليها - وهي في الأغلب زائفة - إلى قيم صحيحة يرتاح إليها الرجل الحكيم، أجل. يجب أن نحيله حكيما.
وإذا تفاقم النيوروز انقلب أحيانا إلى هستيريا؛ أي إن عاطفة الخوف مثلا عند الطيار «اختمرت» في الكامنة ثم انبجست عن شلل في ذراعه، أو عاطفة الكراهة للزوجة قد اختمرت في الكامنة ثم انبجست في الزوج عن عمى فلا يرى الدنيا.
الشلل والعمى كاذبان، وهما مجهودا النفس كي تتخلص في الحالة الأولى من خطر الطيران وفي الحال الثانية من رؤية الزوجة، وليس هنا سيكوز؛ لأن العقل لا يزال سليما، ولكنا نفهم من هذه الهستيريا أن النيوروز قد تفاقم؛ أي إن الشهوات والرغبات والعواطف الكامنة قد ثارت وانفجرت لأنها لم تطق الاحتباس.
والنيوروزي يعالج بالصبر والفطنة والحب؛ أي إننا نحلل نفسه ونضيف إلى التحليل شيئا من الإيحاء - بل الهبنوتية إذا كانت حاله متفاقمة - ونحاول أن نسبر أعماقه ونحمله على الثقة حتى نرده إلى الوجدان، ثم نرسم له - في ضوء ظروفه - خطة بنائية تملأ نفسه استبشارا وتشغل فراغه وتؤلف شخصيته المزعومة من جديد.
السيكوز
الفصول السابقة هي للتنوير والإرشاد، ولكن هذا الفصل للتنوير فقط؛ فإن السيكوز هو أخطر الأمراض النفسية، ولذلك يحتاج إلى المتخصص كما تجب المبادرة في علاجه، ولا يجوز للمؤلف أن يتقدم بنصيحة أو إرشاد فيه، وإنما يقتصر على التنوير.
وقد تكون هناك أسباب جسمية أو مادية نجهلها في أصل السيكوز، بل قد يكون هذا أيضا في أصل النيوروز، وفرويد نفسه لم يستبعد هذا الأصل، ولكن إلى الآن نجهل أي شيء يتصل بأصول جسمية سواء للنيوروز أو السيكوز.
وقصارى ما نعرف الآن أن النيوروز والسيكوز كلاهما يعود إلى احتباس العواطف والشهوات، وأن الأول هو اختلال عاطفي أحدث كربا وضيقا ولكنه لم يبلغ العقل، ولكن الاختلال في الثاني قد بلغ العقل فأحدث الهذيان والخيالات.
في النيوروز نجد الضيق والكرب والحزن والعواطف محتدمة لا تطاق، ولكن العقل سليم، كالأم تفقد ابنها لأنه ضل أو تركها، فهي في شك هل هو حي أو ميت، وهذا الشك لا تطيقه، ونحن نراها لا تكاد تأكل ولا تشرب ، بل لا تكاد تقعد أو تنام، وهذه حال لا تطاق، ثم تفجأنا ذات صباح بأن ابنها قد عاد وأنه سيحضر في المساء، وعندئذ نجد أن هذه الأسطورة قد أراحت نفسها فهدأت العواطف، ولكن العقل اختل.
وحقيقة ما حدث أن الكامنة التي احتبس فيها حبها لابنها قد طغت بالوجدان وتغلبت عليه، وكما أننا نحلم بالخبز عندما ننام على جوع، كذلك الأم التي فقدت ابنها برؤيته في النوم؛ أي إن الكامنة (العقل الكامن) بعد أن تخلصت من رقابة الوجدان ثارت وانفجرت في النوم، واختلقت هذا الخيال اللذيذ لابنها حتى ترتاح العواطف، والأحلام كلها سيكوز؛ أي: اختلال عقلي وقتي يفرج عن العواطف المحتبسة في الكامنة.
ولكن إذا كانت العواطف متأججة، والاحتباس لا يطاق، فإن الأحلام تنتقل من النوم إلى اليقظة، والسيكوزي في هذه الحال يطلق الدنيا والواقع والوجدان، وينتهي بأن يعيش في حلم يرتاح إليه.
رجل كان ثريا وأفلس، لا يطيق هذا الهوان وهو ضائق بإفلاسه لا يعرف كيف ينظر النظر الموضوعي الوجداني؛ لأنه عاجز عن ترميم ما تحطم من كيانه المالي، وكل هذا نيوروز لا يطاق، وقد يحلم بأنه ثري وقد استرد ثروته، ولكن راحة الحلم تقتصر على النوم، فهو يلجأ، أي إن كامنته تلجأ إلى التسلط على وجدانه فتلغيه، وتجعله كأنه يعيش في حلم؛ ولذلك يفجأنا ذات صباح بقوله: إنه قد استرد ثروته في البورصة، وأنه ثري الآن لا يخشى الفقر، ويستقر على هذه العقيدة ويعيش سائر حياته في هذا الحلم الذي ينقذه مما كان يقاسي من كرب العواطف وضيقها.
وهو إذا كان في الأيام الأولى من هذا السيكوز فقد يكون من المستطاع أن نجذبه مرة أخرى إلى الواقع ونحمله على التعقل الوجداني، أما إذا مضت عليه مدة وهو يستمرئ هذه الخيالات التي قطعت ما بينه وبين الواقع فإن من الشاق - بل من المحال تقريبا - أن نرده إلى الوجدان، وإذا مضت عليه سنوات وهو في السيكوز فإن من المحال قطعا أن نعيده إلى الدنيا الواقعة - دنيا الحقائق - بدلا من دنيا الخيالات التي يعيش فيها.
وربما كانت البارانويا أبسط أنواع السيكوز؛ فإن السيكوزي هنا ينظر النظر الوجداني الموضوعي لكل شيء إلا في نقطة واحدة يختل فيها وجدانه، فقد كانت الكاتبة مي تعتقد أن هناك عصابة تنوي خطفها من مصر وحملها إلى سورية، وقد عينت لي المكان الذي كانت تقعد فيه هذه العصابة، وكان روسو يعتقد أن بعض الناس يتجسسون عليه كي يسموه، وقد فسدت علاقته مع كثير من أصدقائه بسبب هذه العقيدة، وكان هتلر يعتقد أن ألمانيا ستتغلب على هذا الكوكب كله، وعرفت في مصر شخصا يعتقد أن هتلر يرسل إلينا تيارات كهربائية (راديوئية) سوف تقضي علينا، وأحيانا نجد أحد الزوجين يسرد قصة لا تتغير عن خيانة الآخر، وأحيانا نجد شابا متعلما يقضي وقته وماله كي يبرهن أن الأرض غير كروية، إلخ. وفي كل هذه الحالات نجد التصرف وجدانيا، إلا في هذه النقطة التي تنبني على عقيدة عاطفية لا يعرف العقل؛ أي: الوجدان كيف يتصرف بها، كأن هذه البارانويا كابوس أو حلم قد انتقل من النوم إلى اليقظة.
والحالات الخفيفة من البارانويا كثيرة، ولكننا لا نلتفت إليها لأنها خفيفة؛ فإن أحد الناس يؤمن إيمانا راسخا بشيء ما أو بعقيدة معينة، ولكن لأن هذا الشيء أو العقيدة بعيدان عن علاقاتنا به؛ فإننا لا نكاد نعرفهما إلا مصادفة أو لا نعرفهما بتاتا، وإذا عرفنا شيئا منهما قلنا: إن هذا هوس خاص به فلا نباليه.
أما السيكوز المسمى مانيا فأخطر من البارانويا كثيرا؛ لأن المانيا تغمر الشخصية ولا تترك للوجدان فسحة، وهي تصيب في الأغلب الشخصية الانبساطية، أو هي مبالغة في صفاتها، ولكن المصاب يميل إلى الحزن ويسرف في البكاء أكثر مما يميل إلى طرب السرور، وإن كان هذا يحدث أحيانا. والمنظر المألوف أنك تجد سيدة تبكي وتنوح وصرختها المتكررة هي مثلا: «يا خراب بيتنا»، وقد يلجأ المصاب إلى الانتحار.
والماني؛ أي: المصاب بالمانيا قد يتناوبه الطرب: ابتهاج في ساعة من الضحك والمرح واغتمام في ساعة أخرى مع البكاء والأسى، ولكن في أغلب الأحيان يتغلب أحد الطرفين؛ فهناك مثلا ذلك المؤمن الذي غرق في الإيمان يعتقد أن ذنوبه كثيرة فلا ينقطع عن البكاء؛ لأنه هالك مقضي عليه لكثرة هذه الذنوب، وقد يبعثه الحزن على الجمود والتبلد، وأحيانا ينقلب غضبا فيهيج، وبدهي أنه إذا مضت على الماني مدة طويلة وهو في هذا المرض بعد عن الواقع؛ وبذلك يفسد وجدانه ومنطقه فيختل نظره لشئون الدنيا ويقطع الرجاء من شفائه.
ونوبات الاغتمام في المانيا أكثر من الابتهاج، والماني وقت النوبة الاغتمامية يعتقد أنه غير جدير بالحياة، ويرغب في الانتحار لهذا السبب، وهو يخترع القصص لتبرير هذا الاغتمام، وقد يصمت ويسكن أو يحرك ذراعيه ويترنح في ذهاب وإياب، وأحلامه هي أحلام الاغتمام، وقد تلازمه هذه النوبة سنة أو أكثر، وكثيرا ما يشفى وحده، وبوادر شفائه أحلام حسنة تنبئ بالتفاؤل.
ونوبات الابتهاج تتخذ أسلوبا آخر في الحركة والكلام الكثيرين مع المرح العظيم، حتى إن زائر المريض يضحك معه. ولكنه في تفكيره متفكك يبدأ بموضوع وينتقل منه إلى غيره بلا ارتباط، وهو يبدي رغباته وشهواته أحيانا سافرة في قحة الحركة والكلمة، وهو لا يطيق النقد أو المعارضة، وقد يحمله هذا على البطش بمن ينتقده أو يعارضه. والماني يزعم في العادة أنه ملك أو مخترع القنبلة الذرية أو محافظ القاهرة، إلخ، وبالثناء والتملق نستطيع مصالحته.
والشيزوفرينيا هي جنون الانطوائيين، وهي مبالغة في المزاج الانطوائي الذي نجد صاحبه في الصحة يؤثر العزلة على الاختلاط، ويتجاهل الواقع ويستسلم لخواطره، ويقصد إلى أهداف خيالية. وهو في المرض يلتزم غرفته لا يبرحها، ولا يبالي حتى الجوع أو العطش؛ فإذا ترك لم يطلب الطعام أو الماء، وهو يقسر على تناول الطعام بأنبوبة توضع في أنفه فيسلك منها الطعام إلى معدته، وأحيانا يبقى جامدا في وضع معين قد رفعت ذراعه أو ساقه، أو هو ينحني حتى تكاد تمس يداه الأرض، ويبقى ساعات على هذا الوضع لأنه يستسلم لخيالات تفصل بينه وبين الواقع كما تحول بينه وبين الإحساس بالألم أو التعب.
وفي جميع حالات السيكوز نجد كظما سابقا قد اختزنته الكامنة، ثم انفجر بجنون معين يلتئم مع شخصية المريض في الأغلب؛ أي: المانيا مع الانبساطي والشيزوفرينيا مع الانطوائي، ولكن ليس هذا قاطعا؛ لأننا أحيانا «قليلة» نجد الانبساطي الشيزوفريني كما نجد الانطوائي الماني.
وكما سبق أن قلنا: من المستطاع العلاج إذا كانت الإصابة في بدايتها، ولم يرسخ المرض في المريض ويقطع ما بينه وبين الواقع، أما إذا تقادم - وخاصة إذا كان هذا المرض شيزوفرينيا - فإن الأمل في الشفاء بعيد.
في النيوروز والسيكوز يحتاج المريض قبل كل شيء إلى الابتعاد عن الوسط الذي أحدث له الكظم، سواء أكان عائليا أم حرفيا؛ لأن الابتعاد الجغرافي يؤدي إلى ابتعاد نفسي.
وهناك أمراض تقف بين النيوروز والسيكوز؛ أي إن المريض يبصر بحالته ولا يحتفظ بوجدانه في كثير من تصرفه، أو أن هذا الوجدان يعود إليه في فترات فيستطيع أن يتعقل وينظر إلى نفسه النظرة الموضوعية. وقد رأينا في البارانويا المريض يحسن التفكير في عامة الأشياء إلا في نقطة معينة، فيخبرك مثلا أن القيامة قد عين لها ميعاد هو سنة 1950 ويتعب نفسه في إقناعك بهذه الفكرة، فهنا سيكوز يتحيز جزءا من تفكيره، ولكنه في سائر تفكيره حسن سوي.
وهناك النورستينيا، وهي توتر عاطفي يشتد فيؤثر أثرا خفيفا في الجسم، ففي فترات يحس المريض أن قلبه يوشك أن يطير منه، ويسيل العرق على وجهه كأنه يغتسل به، وفي يده رعشة وفي أنحاء جسمه قشعريرة أو اختلاجات، ثم هو يخاف ويتشاءم، وهذه الحال تعطله عن عمله الذي يرزق منه.
وقد رأيت أن هذه الحال تصيب كثيرا من الموظفين الذين يجدون من رؤسائهم معاكسات ومناكدات كل يوم، ويجب أن نذكر أن المعاكسات الصغيرة التي تبعث التوتر العاطفي، إذا تكررت كل يوم مثلا، تحدث في النفس أضرارا وأخطارا أكثر من الكارثة العظيمة تحدث مرة واحدة؛ فقد يستطيع أحدنا أن يتغلب على كارثة الإفلاس التام أو وفاة ابنه الوحيد أو قطع ساقه، وهو يترنح بالصدمة ولكنه يفيق، أما المناكدة اليومية من الزوجة أو الحماة، والمعاكسة من الرئيس بالتهديدات المتكررة كل يوم، فإن النفس لا تتحملها، وكثيرا ما تنحدر في مثل هذه الأحوال من النيوروز المرهق إلى السيكوز الذي يعيش فيه المريض مرتاحا بأحلامه وخيالاته، والمرأة التي تلجأ إلى الزار إنما تفعل ذلك لمناكدات يومية لا تطيقها من حماتها أو ضرتها أو زوجها.
وهناك الهستيريا - وهي بين النيوروز والسيكوز - وعلامتها التأثير في أحد أعضاء الجسم بالشلل مثلا، أو بحركة معينة لها معنى رمزي، كالاشتهاء الجنسي في المرأة المحرومة يؤدي إلى فالج أو حركات غير واضحة، وكالضابط في الجيش لا يطيق المعركة فيشل ويحمل إلى المستشفى. وأحيانا تعمد الفتاة أو السيدة وهي في الهستيريا إلى تحطيم الأطباق أو الأثاث وهي غائبة الذهن؛ فإذا كان الصباح نسيت كل شيء فيعزى التحطيم إلى العفاريت، والأغلب أن هناك كظما جنسيا هو الذي دفعها إلى هذا التصرف، وأثار عقلها الكامن إلى هذه العربدة، وهي في غير وجدانها، تنفيسا عن الشهوة الجنسية المكظومة.
الجنون الذي يطفئ نور العقل!
كثر الحديث عن الملك طلال الذي قيل: إنه يعاني هذا المرض النفسي الوبيل الذي يسمى شيزوفرينيا.
وهذا المرض يعرفه الغربيون باسم «إسكيزوفرينيا». ولكننا في مصر وجدنا أن كلمة شيزوفرينيا أجرى على اللسان وأسهل.
وعلى جميع الآباء أن يدرسوا هذا المرض، وأن يعرفوا أعراضه الأولى التي يمكن أن تعالج، أما إذا جهلوا هذه الأعراض أو استهانوا بها، ثم تفاقم المرض فإن العلاج عندئذ يغدو شاقا، بل ربما مستحيلا، وعندئذ يجد الأبوان ابنهما وقد استحال إلى كتلة حيوانية، قد زالت عنها جميع الملامح الإنسانية، وانطفأ فيها نور العقل، فلا عقل ولا إحساس.
وأسوأ ما في الشيزوفرينيا أنها تصيب الشبان من الجنسين، من السابعة عشرة إلى نحو الثلاثين، وليس هذا التحديد مؤكدا، ولكنه تقريبي؛ ولذلك كان يسمى قبلا «جنون المراهقة»، ومعظم من يقعون فيه يكونون عادة من النحاف الطوال ذوي الوجوه الطويلة، وهم عادة لا يصلعون.
ويمكن أن تتلخص الأسباب لهذا المرض بهذه الجملة: «أنا لا أطيق العيش.»
اعتبر أيها القارئ، أيها الأب، أيتها الأم، شابا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة قد أرهقته الدروس، وقد حرمه أبواه ضروب التسلية، مثل قراءة القصص أو ارتياد الدور السينمائية، أو هو الكظم الجنسي أو القلق الذي لا يبرحه لخوفه من الفشل في الامتحانات، أو تعيير أبويه له بأنه متخلف.
اعتبر كل هذه الأشياء تقع لأحد الشبان، كلها أو بعضها، بحيث يجد أن الدنيا كئيبة لا تطاق، وأنه يعيش فيها كما لو كان محبوسا قد حظر عليه هذا وذاك من ألوان التفريج، فهو يعتزلها - أي يعتزل الدنيا - ويحب الخلوة وقد يسري عن نفسه في هذه الخلوة بعض هذا الكرب النفسي بوسائل تزيد في فساد جسمه وذهنه من سيئ إلى أسوأ.
أو هو يسري عن نفسه بعض هذا الكرب، هذا الضيق، هذا الإرهاق، بالهروب بذهنه من هذه الدنيا الشاقة، بأن يتخيل الخيالات التي تعوضه من الواقع المؤلم أحلاما لذيذة، ثم يمعن في هذه الخيالات، حتى ليكاد ينسى الواقع، ثم يمعن أكثر فأكثر، حتى يختلط عليه الخيال بالواقع فلا يميز بينهما، بل هو ينسى الواقع الكريه ويذكر الخيال اللذيذ.
وكل هذا يمكن الشاب أن يتحمله، ويمكن أن يشفى منه، ولكن يحدث حادث قد يكون صغيرا في نفسه، ولكنه يعد كبيرا خطيرا في منطقة المزعزع، فيكون بمثابة الثقاب الذي يلتهب ويشعل المبنى العظيم ويحرقه ويحطمه.
عرفت شابا كان في هذه الزعزعة الأولى التي لم يتعرفها أبواه لجهلهما؛ فإن الضغط كان ثقيلا عليه، فكره الدنيا، وصار يختلي، واستسلم للفساد الجنسي الانفرادي يرفه به عن ضيقه، وكان يحلم ويتخيل كي يتعوض برفاهية الخيال والحلم من مشاق الحياة الواقعة.
ولو عرف أبواه هذه الأعراض الأولى، ولو أنه عولج بالترفيه والتفريج لنجا، ولاستطاع أن يواجه مشاق الدنيا، ولكنهما جهلا ذلك.
ثم جاء التهاب الثقاب الذي يشعل البيت كله ويحطمه، ذلك أن هذا الشاب وهو في هذه الزعزعة الابتدائية، رأى أبويه وهما في وضع الزوجين، فرعب رعبا عظيما، وطلق الدنيا، قاطعها، وانطوى على نفسه؛ فإذا وقفت أمامه لم يحس بك، وإذا كلمته لم يسمعك.
إنه قد عالج نفسه من هذه الدنيا البغيضة، من هذا الإرهاق بالدروس، والقلق خوفا من الرسوب في الامتحانات، ومن هذا الكظم الذي لا يطيقه، ومن هذه الأسوار التي توضع حوله حتى لا يتمتع بالاختلاط والمسرات والنزهات والمجلات؛ عالج نفسه أولا بمقاطعة هذه الدنيا بالاختلاء، ثم رأى منظرا أرعبه فانتهى إلى هذا القرار الحاسم، وهو أن دنياه الداخلية - دنيا الخيالات والأحلام - نضرة جميلة، فهو يلجأ إليها ويحيا فيها، ويتجاهل هذه الدنيا المادية الواقعية تجاهلا تاما، تضع أمامه الطعام فلا يأكل ولا يشرب، بل هو قد لا يرى الطعام أو الشراب، ولذلك يوضعان له في أنبوبة تسلك من أنفه إلى معدته، وهو لا يحس جوعا أو شبعا.
لقد رأيته، وقص علي أبوه ألوان الضيق والإرهاق والكرب والحرمان التي عاناها هذا الشاب من قبل؛ لا مجلة يقرؤها، ولا فسحة يتنزه فيها، ولا زيارة لحديقة الحيوان، ولا نقود ينفقها، ولا هواية يحبها ويقضي فيها بعض وقته، ولا سينما، ولا ... ولا ... دروس، دروس، دروس فقط، دنيا ملعونة، وحياة محرومة، كرههما هذا الشاب، فاختلى وصار يرفه عن نفسه بالفساد الجنسي الانفرادي.
وإلى هنا كان سليما، ولكنه كان مزعزعا، وفي أثناء هذه الزعزعة رأى أبويه زوجين، فطلق الدنيا وخيم الظلام فأطفأ نور عقله.
ولو أنه كان سليما لم يتزعزع لاستطاع أن يتحمل هذا المنظر الشاذ الذي أشرت إليه، ولو أنه كان يختلط بالجنس الآخر لاستضاء عقله، وكان يمكنه أن يتحمل أكثر، ولو أنه كان قد ثقف شيئا من الثقافة الجنسية وعرف كيف يولد الأطفال لما أنكر ما فعله أبواه.
ومكانة الأم كبيرة جدا في قلوب الأبناء، هي طاهرة، وابنها هذا لا يطيق رؤيتها وهي ساقطة في هذه النجاسة، ساقطة، امرأة ساقطة، الأمومة طاهرة يجب أن تنأى عن النجاسة، عن العورة، ولكلماتها العربية أثر سيئ في كل ذلك. •••
اعتبر هذه الحادثة التالية:
لقد رأيتها أيضا، كانت فتاة في العشرين، جميلة فوق المستوى، وجه صبيح وشعر ذهبي وابتسامة مشرقة، وكانت إيماءة الدلال التي تعلمتها - لأن والديها دللاها - لا تقاوم.
وكان أبوها مفتونا بها، كان يعاملها وهي في العشرين كما لو كانت طفلة في الخامسة أو السادسة، يشتري لها طرف الطعام وتحف اللباس، ولم يكن عاقلا في ذلك؛ إذ كان يجب عليه أن يسعى لزواجها قبل موته، ولكنه لم يفعل. ومات الأب، وتحملت الفتاة هذه الصدمة؛ لأن أمها كانت لا تزال حية.
ولكن بعد شهور ماتت الأم، واكفهرت الدنيا بعد ابتسام، وجاءت الصحوة المؤلمة بعد النشوة اللذيذة.
كانت مع أبويها في أحلام واقعية؛ إعجاب ودلال، وهدايا لا تنقطع كأنها ملكة، ثم يزول كل هذا فجأة بلا أي استعداد لمواجهة دنيا الحقائق، وبلا استعداد أيضا للزواج.
وكان من هذا كله انهيار، فحاولت الانتحار السيكلوجي: الشيزوفرينيا، الظلام بدلا من النور.
ولم أستطع الاهتداء إلى الثقاب الذي أشعل وأحرق هذه الشخصية الجميلة. •••
واعتقادي أن الشيزوفرينيا تزيد حالتها في مصر على حالتها في أوروبا؛ لأننا نحرم كثيرا من المتع التي لا يحرمها الشبان والفتيات في أوروبا؛ عندنا كظم وعندهم تفريج.
وفي أوروبا تعمل الفتاة خارج البيت قبل أن تتزوج فتكسب وتفرح؛ فإذا تزوجت لم تخش ضرة ولم تخش طلاقا، كما أنها لا تعيش مع حماتها، فهي مطمئنة، أما في مصر فإن سهولة الطلاق ووجود الضرة والحماة، كل هذا يزعزع الزوجة، وقد ينتهي بانهيارها.
والفتاة في مصر لا تعمل خارج البيت قبل الزواج؛ إذ هي تلزم البيت وتجتر خواطرها وتأكل عواطفها، وفي كل زعزعة نفسية.
وأخيرا نجد في مصر كربا اقتصاديا ليس له شبيه في أوروبا؛ فإن خريجي الجامعات عندنا لا يمكن أن تستوعبهم وظائف الحكومة، كما أنه ليس عندنا من الأعمال الحرة، في المصانع والمتاجر، ما يكفي لاستيعابهم، وهم لذلك يبقون في عطل يهين كرامتهم ويملأ نفوسهم حسرة، ثم يزعزع كيانهم النفسي.
وبكلمة أخرى نقول: كي نتوقى الشيزوفرينيا يجب أن نجعل العيش مطاقا غير مستحيل؛ أي: نتيح اللعب للتلميذ والطالب، ونتيح الاختلاط بين الجنسين، ونتيح العمل للشبان عقب خروجهم من الجامعة، ونتيح العمل للفتاة قبل الزواج، ونجعل الزوجة في أمن وطمأنينة على حياتها الزوجية بحيث لا تخشى الطلاق، وكذلك نمنع عنها هذه المباراة المرهقة بينها وبين ضرتها أو بينها وبين حماتها.
اجعلوا العيش هنيئا لأبنائنا وبناتنا، ولا تجعلوه مرهقا يؤدي إلى الجنون.
إن مجتمعا يعين من القيود ويقيم من السياجات ما يؤدي إلى جنون أبنائه وبناته لهو مجتمع مجنون.
صفحه نامشخص