كان التنويم النفسي الذي فشا بين الجمهور باسم «التنويم المغنطيسي» من الأسباب الأولى لدراسة السيكلوجية الحديثة، وكان بابا ينفتح على ميادين رحبة وآفاق واسعة جعلتنا نملك من هذا العلم معارف جديدة زادتنا فهما للطبيعة البشرية.
والتنويم النفسي (الهبنوتية) على الرغم من الادعاءات التي نسبها إليه الدجالون، هو في نهايته «الإيحاء» لا أقل ولا أكثر، ولكنهم استطاعوا أن يثيروا استطلاع الجمهور؛ لأنهم أطلقوا عليه اسم «التنويم المغنطيسي» مع أنه ليس فيه أي مغنطيس، وكل ما في الأمر أن هناك أشخاصا أكثر تأثرا من غيرهم بالإيحاء، بحيث إذا أوحينا إليهم أنهم في حر لا يطيقونه سال العرق من وجوههم، وإذا أوحينا للأم أن طفلها مريض بكت؛ فالوجدان يزول وتعود النفس وكأنها لوحة مسحاء نكتب عليها ما شئنا، والنائم يصدق كل ما نقوله ويستسلم لكل عقيدة نغرسها فيه، ولا يعارض إلا قليلا جدا؛ أي: يزول منه الوجدان إلا أقله، وطريقة التنويم النفسي أن نجعل الشخص يقعد، أو بالأحرى ينطرح منسطحا في استرخاء، ويجمع نظره في شيء لامع لا يتحول عنه ولا يفكر في غيره، ثم نتدرج به في الإيحاء بالإيهام: أنت ستنام الآن، أنت بدأت تنام، جفونك تسترخي، ستتثاءب، أوشكت أن تنام، لقد نمت ولكنك ستسمع كل ما أقوله لك، إلخ.
وبمثل هذه الكلمات المكررة ينام ويسمع ويصدق كل ما يقال له، بل هو ينفذ ما يقال له، حتى بعد أن يستيقظ دون أن يدري البواعث التي تحمله على تنفيذه، كأن نقول له: غدا في الساعة الخامسة ستذهب لزيارة فلان صديقك، فهو ينفذ هذه الزيارة دون أن يعرف أنه قد أوحي إليه بها في اليوم السابق.
والمعنى الذي نستنتجه من ظاهرة التنويم النفسي أن قوة الإيحاء كبيرة الأثر في حياتنا الاجتماعية، وأن العقائد التي نغرسها في العقل الكامن (الكامنة) تبقى حية توجهنا وتعين لنا أهدافا نسير نحوها دون أن نعرف مأتاها، وقد سبق أن قلنا: إننا لا نسلك ونتصرف بالوجدان إلا قليلا جدا، وإن 99 في المائة من أخطاء التفكير يعود إلى أننا ننظر النظر الذاتي العاطفي دون النظر الموضوعي الوجداني.
وبتعبير آخر: نحن نعيش بعواطفنا في الأكثر الأعم، وبوجداننا في الأقل الأخص؛ أي إن مرجع سلوكنا هو الثلاموس وليس المخ، ونحن والحيوان سواء في هذا، والإيحاء لهذا السبب أسهل في بعض الحيوان مما هو في الإنسان.
انظر إلى سرب من البط رأت واحدة منهن شيئا يخيفها فصاحت وطارت، فما هو أن تفعل هذا حتى تطير نحو مائة أو ألف بطة خلفها، فقد تحركت عاطفة الخوف بإيحاء البطة الأولى، ولم يكن هناك وجدان للتساؤل والبحث، وطرن جميعهن وكن في ما يشبه التنويم النفسي عندنا.
وكثير من ظواهر النشاط البشري يشبه هذه الحركة البطية، اذكر جنكيز خان وهتلر ونابليون؛ آلاف البط الآدمي يخرج من آسيا إلى أوروبا، أو من أوروبا إلى أفريقيا، للقتل والتدمير بقوة الكلمات الإيحائية التي تشبه صيحة البطة دون أن يقف واحد كي يتساءل: ما القيمة من هذه الكلمات وهذا القتل والتدمير؟
ومن هنا قوة العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية في توجيه الجماهير؛ فإن جميع العقائد عاطفية، وهي تنحدر إلى العقل الكامن وتحركنا إلى النشاط بإيحائها، وقد تكون هذه العقائد كلمات لا أكثر. مثل وطنية وإمبراطورية (عند الإنجليز) وشرق وغرب وتاريخ ومجد، والدم والأرض عند هتلر؛ فإن هذه الكلمات وأمثالها تحيل الأمة إلى ما يشبه النوم النفسي، فتصغي خاضعة لكل ما تتطلبه منها من مجهود.
والإيحاء يصدمنا بأنواعه المختلفة؛ فإن للكلمات العاطفية في اللغة أثرا لا ينقطع للخير أو للشر، فللكلمات: شرف وإخاء وإنسانية ورحمة إيحاء للخير، وللكلمات: نجاسة وشماتة وكفر وانتقام إيحاء للشر، وللقصة التي نقرأها في المجلة والصورة التي نراها على الحائط أو في الجريدة إيحاء يوجهنا ويكون مزاجنا ويؤثر في سيرتنا الشخصية أو الزوجية أو الاجتماعية، وإيحاء الإعلانات في الذين يشترون الأدوية المسجلة واضح؛ فإنهم يدفعون عشرين قرشا فيما لا يزيد ثمنه على خمسة مليمات للإيحاء الذي بعثه الإعلان في نفوسهم من الفائدة المزعومة لهذه الأدوية بإثارة مخاوف وآمال عن صحتهم.
وأغاني المذياع وأغانيجه توحي إلى الفتيات والشبان بالكلمة والنغمة سلوكا جنسيا قد يصل أحيانا إلى الدعارة في الإحساس، وفي بعض المعابد يتخذ الكاهن من الألحان والتراتيل في الجو المعتم للمعبد مع البخور ما يزيد التقبل للإيحاء فتثبت العقائد، ومثل هذا الجو السيكلوجي تحدثه الفائدة لحفل الزار وتسرف فيه حتى ينقلب الإيحاء إلى تنويم نفسي تام فيغيض الوجدان وتبرز الكامنة (العقل الكامن) فنجد أن المرأة ترقص وتترنح بحركات جنسية سافرة، أو هي تطلب التسلط بأن تركب خروفا أو نحو ذلك.
صفحه نامشخص