ولم يعرض له في ولايته الثانية حادث ذو بال بعد هذا الحادث، فقد هدأت مصر واجتمع الناس على مبايعة معاوية في سنة إحدى وأربعين للهجرة، فسميت «عام الجماعة» ... وحكمت الشيخوخة حكمها، فوهن جسمه وتتابع سقمه ودانت له الدنيا، وهو يقول إذا سئل عن حاله: «إنه حال من يذوب ولا يثوب!»
وإنه على هذا لمجدود مسعود.
فمن آية الجد أن ينتفع الإنسان بما يضير الناس، وقد انتفع عمرو بوهنه مرتين: مرة حين نجا من الموت لاشتكاء بطنه، ومرة حين سلمت له الولاية ببركة هذا الوهن الذي لا محيص عنه، فلولاه لما طابت نفس معاوية له بولاية يملك فيها الأموال والرجال، ولعله يعيش بعده فيغلب أعقابه على الخلافة، وأهون شيء أن ينتزع ابن العاص في شبابه أو كهولته خلافة من يزيد.
على أن هذا الفؤاد المتوهج بنوازع الحياة لم يسأم العيش يوما، وقد جاوز الثمانين، أو قارب المائة في قول آخرين، فبكى وهو يجود بنفسه أسفا على الحياة، وقال لأبنائه: «إذا واريتموني فاقعدوا عند قبري قدر نحر جزور وتفصيلها،
3
أستأنس بكم حتى أعلم ما أراجع به رسل ربي.»
ورحمه الله ... إنه لم يدع الأحوط من الأمرين حيث يدع الحي نفسه، فكان يقول وهو على سرير الموت: «لو كان ينفعني أن أطلب لطلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت.» وربما نظر إلى أمواله فقال: «من يأخذها بأوزارها؟» وقبل ذلك بعام أو عامين كان يسأله معاوية عما بقي له من لذات العيش فيقول: «مال أغرسه وخبر من ضيعتي!» •••
وكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين للهجرة، فدفن بجوار المقطم عند ضريح الإمام الشافعي القائم الآن، وضم معاوية خزائنه إلى بيت المال، وولاية مصر إلى أخيه عتبة بن أبي سفيان.
وكذلك انقضت حياة حافلة، حياة عاملة، وحياة طائلة، وصح فيه على تباين الآراء والأقوال أنه رجل من عظماء الرجال، فمهما يختلف المختلفون في نياته وحسناته أو سيئاته، فالذي لا خلاف فيه أنه كسب للإسلام قطرين كبيرين: هما فلسطين ومصر، وأن له سهما وافرا في كل ما نحسبه للدولة الأموية من العظائم والمآثر في تاريخ الأمة العربية والأمم الإسلامية.
الفصل العاشر
صفحه نامشخص