1 - نشأة عمرو بن العاص
2 - التعريف بعمرو بن العاص
3 - من التجارة إلى الإمارة
4 - فتح مصر
5 - البلاد والسكان
6 - المقوقس
7 - الحالة الدينية
8 - الحالة الإدارية والسياسية
9 - بين الإمارتين
10 - من كلامه
صفحه نامشخص
11 - خاتمة مفسرة
1 - نشأة عمرو بن العاص
2 - التعريف بعمرو بن العاص
3 - من التجارة إلى الإمارة
4 - فتح مصر
5 - البلاد والسكان
6 - المقوقس
7 - الحالة الدينية
8 - الحالة الإدارية والسياسية
9 - بين الإمارتين
صفحه نامشخص
10 - من كلامه
11 - خاتمة مفسرة
عمرو بن العاص
عمرو بن العاص
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
نشأة عمرو بن العاص
نشأ عمرو بن العاص في بطن من البطون القرشية المشهورة، وهم بنو سهم.
والبطون القرشية كثيرة، تتفاوت في الضعف والقوة، والقلة والكثرة، ولكن البطون التي انتهى إليها الشرف - كما قال النسابة الكلبي - عشرة، اتصل شرفها في الجاهلية والإسلام، وهم: هاشم، وأمية، وعبد الدار، وأسد، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم.
صفحه نامشخص
والظاهر من بعض أنباء «سهم» أنهم كانوا على كثرة في العدد، وإن لم يحسبوا من ذوي الصدارة في قريش، إلى جانب بني هاشم أو بني أمية أو بني عبد الدار.
فلما انقسمت قريش إلى حزبين، في أحدهما بنو عبد مناف، وفي الآخر بنو عبد الدار، عبئ بنو سهم لبني عبد مناف، وهم أكبر هؤلاء الأحلاف، كأنهم ند لهم كثرة وقوة في الصلح والخلاف.
وتفاخر بنو سهم وبنو عبد مناف مرة، فقال كل حي منهما: «نحن أكثر سيدا، وأعظم رجالا، وأكثر قائدا ...» فكثر بنو عبد مناف بني سهم بعدد الأحياء، ثم تكاثروا بالأموات، فجعلوا يشيرون إلى القبر فيقولون: أفيكم مثل هذا؟ أفيكم مثل هذا؟ ويذكر كل منهم أنه أكثر مالا وأعز نفرا، كما جاء في القرآن الكريم، ونزلت في ذلك الآية:
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر
على إحدى الروايات.
فعمرو بن العاص ينتمي - على هذا - إلى بطن يعد من أكبر بطون قريش، ويطمح إلى مساواة بني عبد مناف بوفرة الرجال والأموال وكثرة السادة والقادة، ويوصل شرفه في الجاهلية بشرفه في الإسلام.
أما حصتهم من شرف الجاهلية؛ فقد كانت إليهم الحكومة، والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم، وهي أموال حبسوها على الأرباب والمعابد وخيراتها، كأنها الأوقاف في العصور الإسلامية، وكان الرؤساء من بني سهم طائفة من نظار الأوقاف يعرفون بحسناتهم أو سيئاتهم التي اتصف بها نظار الأوقاف في جميع الأزمان.
ولا نعلم على التحقيق ما هي تلك الحكومة التي وكلت إلى بني سهم في الجاهلية، كما وكلت الشورى والرفادة والسقاية وغيرها من مهام الحجاز إلى البطون القرشية الأخرى.
ولكننا نستطيع أن نقيسها إلى بعض ما ندب له ابن العاص في الإسلام، على حكم العادة الموروثة التي قلما تتغير في مأثورات القبائل المحفوظة، ويؤخذ من هذه المهام أن المرجع في حكومة بني سهم إلى اللباقة في تناول الأمور، والتلطف في حسم الشقاق، والتغلب على حرج النفوس في الشئون الدقيقة التي تتصل بالمصاهرة ومعاذير الراغبين فيها أو الراغبين عنها من الرجال والنساء، كما تتصل بالإقناع فيما يمس المروءة والعقيدة، أو يرد الإقناع فيه على النفس من طريق التهوين والتسويغ على سنن الدهاة من الساسة بين سائر الأمم وفي سائر العصور.
وجماع ذلك كله أن الحكم على هذه الطريقة هو الرجل «الأريب» الذي يعرف «من أين تؤكل الكتف» ويترفق بعلاج النفوس وتناول الأمور.
صفحه نامشخص
خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب، فأجمع على تزويجه، فشق ذلك على عبد الله بن عمر، وشكاه إلى عمرو بن العاص ... فها هنا مسألة دقيقة بين أب وابنه في تزويج رجل لا تحسن الإساءة إليه بعد وعده، ولا بد للحكم فيها من رفق وإربة، حتى يرضى الأب والابن والخطيب وما منهم من يسخط على زميله، قال عمرو لعبد الله بن عمر: علي أن أرده عنك راضيا، وأتى سلمان فضرب بين كتفيه بيده، ثم قال: هنيئا لك أبا عبد الله! هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك ...! فالتفت سلمان مغضبا وقال: أبي يتواضع؟ والله لا تزوجتها أبدا.
وخطب عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت أبي بكر إلى أختها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقالت له: الأمر إليك! ثم سألت أختها فأبته وهي تقول: لا حاجة بي إليه، فزجرتها قائلة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت : نعم، إنه خشن العيش، شديد على النساء ...!
وهنا مسألة دقيقة من قبيل ما تقدم: أمير المؤمنين ترفضه أم المؤمنين.
ولا ينبغي أن يواجه بالرفض، وإن كان لا سبيل إلى إكراه أم كلثوم على قبوله.
فلجأت السيدة عائشة إلى عمرو بن العاص ليحتال في الأمر برفقه ودهائه، فجاء عمر وفاجأه قائلا: بلغني خبر أعيذك بالله منه، قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر؟ قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني! قال: لا واحدة، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟ كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك!
ولا شك أن عمر قد فطن إلى ما وراء هذه الوساطة، وفهم أن ابن العاص لا يقدم عليها من عند نفسه، فسأله كأنه يستطلع ما وراءه: كيف بعائشة وقد كلمتها؟
قال: أنا لك بها، وأدلك على خير منها: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بنسب رسول الله.
فهي إذن حكومة الإرضاء والتناول الرفيق لكل شائك محرج من العلاقات التي يصعب الحكم فيها بغير هوادة وحنكة ...!
وشبيه بهذا - وإن لم يكن من شئون المصاهرة - إيفاد عمرو إلى نجاشي الحبشة لإقناعه بتسليم من قبله من المسلمين إلى مشركي قريش، وهو أمر فيه من المساس بأصول الضيافة ما تصعب المفاتحة فيه فضلا عن الإقناع به، إلا أن تكون لباقة ورفق مدخل وقدرة على التخلص السريع.
وشبيه بهذا أيضا إيفاد عمرو إلى أخوال أبيه في عهد الإسلام لإقناعهم بالخروج من دينهم والدخول في الدين الجديد.
صفحه نامشخص
ويتفق مع هذا وذاك أن تكون الوساطة على النحو المعهود بين طلاب الوساطات في جميع قضايا الخلاف، فيتخاصم الرجلان على ضيعة أو حق مغصوب، ويرجعان إلى حكومة الحكم المختار لعلمهما بقدرته على فض الخصومات واستلال الأضغان.
ومن ذلك حكومة عمرو بين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام حين اختلفا على واد يدعيان ملكه بالمدينة، فقال عمرو لهما:
أنتما في فضلكما وقديم سوابقكما ونعمة الله عليكما تختلفان! لقد سمعتما من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مثل ما سمعت، وحضرتما من قوله مثل ما حضرت - فيمن اقتطع شبرا من أرض أخيه بغير حق إنه يطوقه من سبع أرضين! والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه؛ وذلك لأن الحكم إذا جار رزئ دينه، والمحكوم عليه إذا جير عليه رزئ عرض الدنيا، إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما.
فاصطلحا وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا.
فهذه حكومة معهودة في قضية من القضايا الشائعة التي لا تمس المحرجات النفسية ولا تشوك اليدين في تناول الدعوى بين الطرفين وما هما بعد بخصمين، ولكننا نتأمل هذه الحكومة أيضا فنلمح فيها حب الاستعانة باللباقة والكيس قبل الاستعانة بالعدل والإنصاف، كأنما كان الخصمان يريدان الوفاق بغير غضاضة على أحد منهما، فاختارا الحكم الذي يمنع هذه الغضاضة وييسر لهما سبيل الوفاق.
وقد جاء في الأثر أن النبي - عليه السلام - أمر عمرا بالفصل بين رجلين اختصما إليه، فكأنه عرف بهذه المقدرة وبقيت له شهرتها في حضرة النبي - عليه السلام. •••
وليست حكومة القهر والإكراه على أية حال بالحكومة التي كان العرب يرتضونها ويسعون إليها، فهم إذا لجئوا إلى الحكم لم يلجئوا إليه لأنهم ينتظرون منه أن يقهرهم على سماع حكمه، ويلزمهم أن يتبعوه في قوله وفعله، بل لعلهم يتعمدون أن يختاروا لحكومتهم رجلا لا يخشى ولا يهاب، ولا يقع العار على من يخضع له بالخوف والإذعان، فإذا أطاعوه قيل: إنهم يطيعون كلمتهم وينزلون باختيارهم على الحكم الذي ارتضوه، ولم يقل قائل: إنهم مطيعون عن ذلة، ومستمعون لأمره مسوقون إلى استماعه.
فالحكم الذي يختارونه - على هذا - إنما يكون على خصلة من خصلتين: رجل يأنسون إلى عدله وإنصافه، أو رجل يأنسون إلى لباقته وحيلته وحسن بصره بمواقع الأهواء وذرائع الإرضاء. والثاني ببني سهم أشبه وأمثل؛ لأنهم لم يشتهروا بالعدل والإنصاف، بل كان من زعمائهم من يمطل أصحاب الحقوق، ويلوي الضعيف بديونه ويلج في ذلك لجاجة حملت السادة من قريش على التحالف فيما بينهم ليردن المظالم ويأخذن للضعيف حقه حيث كان، وسموه حلف الفضول المشهور، وهو الحلف الذي قال عنه النبي - عليه السلام: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول: ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي إليه في الإسلام لأجبت!»
صفحه نامشخص
وسبب هذا الحلف غير بعيد عن عمرو بن العاص نفسه؛ لأن الذي مطل الدين أبوه العاص بن وائل من أغنى السهميين وأشهرهم بالعزة والعصبية، وكان رجل من بني زبيد في اليمن قد وفد إلى مكة معتمرا، ومعه بضاعة طيبة، فاشتراها العاص ولواه بحقه ولم يجبه إلى رجائه حين سأله ماله أو متاعه، فقام الرجل في الحجر ينشد:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض عمرته
بين المقام وبين الحجر والحجر
أقائم في بني سهم بذمتهم
أو ذاهب في ضلال مال معتمر
فخف لنجدته أقطاب قريش، وكان ذلك من أسباب حلف الفضول. •••
تلك جملة المعروف في شأن بني سهم الذين نبت فيهم عمرو بن العاص من بطون قريش.
أما أسرته القريبة فأبوه هو العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، يرتفع بنسبه إلى الذؤابة القرشية.
صفحه نامشخص
ويقال في متواتر الروايات: إنه كان من ذوي اليسار، وكان يتجر بين الشام واليمن، ويحتشد لرحلة الصيف ورحلة الشتاء.
وقد كان عمرو بأبيه جد فخور، حتى لقد كان يفخر به على الخلفاء كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان.
فلما أرسل إليه عمر بن الخطاب من يحاسبه ويشاطره ماله، غضب وقال للرسول: «قبح الله زمانا عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها! وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه! والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزررا بالذهب ...» ثم خشي العاقبة، فاستحلف الرسول ليكتمن عليه ما قال بأمانة الله.
ولما عزله عثمان من ولاية مصر، دعاه فأنبه ... وقال له: استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك، فقال عمرو: قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض. واحتدم الجدل بينهما، فهم عمرو بالخروج مغضبا وهو يقول: قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك ... فوالله للعاص كان أشرف من عفان، فما زاد عثمان على أن قال: ما لنا ولذكر الجاهلية!
وقد أدرك العاص الدعوة المحمدية، ومات بعد الهجرة بقليل وهو في الخامسة والثمانين، ولكنه - في أشهر الروايات - لم يسلم، ولم يزل يناصب النبي وأصحابه العداء، ويكيد لهم في الجهر والخفاء، وهو الذي قال عن النبي - عليه السلام - حين مات ابناه القاسم وعبد الله: إن صاحبكم هذا لأبتر، فنزلت فيه الآية:
إن شانئك هو الأبتر
وكأنما كان التكاثر بالذرية والاعتزاز بالعصبية شنشنة غالبة على هؤلاء السهميين! •••
وعلى قدر ذلك الفخر بأبيه كان خجله من نسبه إلى أمه، واجتراء الناس عليه بمسبتها كلما تعمدوا الغض منه والإساءة إليه.
فكان حساده والنافسون عليه يلاحقونه بذكرها وهو على دست الإمارة ومنبر الخطبة، وخاطر بعضهم رجلا أن يقوم إليه وهو على المنبر فيسأله: من أم الأمير؟ ... فأمسك من غضبه وقال: النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان، ووهبها للعاص بن وائل فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه!
ويؤخذ من بعض هذه المعايرات أنها كانت تؤجر للغناء بمكة، فإن عمرا شتم أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بمجلس معاوية، فانتهرته قائلة: «وأنت يا بن النابغة تتكلم، وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لأجرة؟
صفحه نامشخص
اربع على ظلعك واعن بشأن نفسك، فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك، فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به!»
ومن كلامه عنها في بعض ما نقل عنه: «أنها سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عنزة ، ثم أحد بني جلان، أصابها رماح العرب، فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل.»
ويروى أنها كانت على صلة بالعاص وأبي لهب وأمية بن خلف وأبي سفيان، فولدت عمرا فألحقته بالعاص، وسئلت في ذلك فقالت: إنه كان ينفق على بناتي.
وأيا كان شأن المبالغة في لغة الثلب والتعبير، فالمتفق عليه أنها كانت سبية مغلوبة على أمرها، فلم تقارف البغاء سقوطا منها وابتذالا لعرضها، ومثل هذه لا تحسب عليها زلاتها كما تحسب على المرأة التي تزل ولها مندوحة عن الزلل، وتهوي وهي في موضع الصون والكرامة، وإنجاب هذه ومثيلاتها للنوابغ من البنين ليس مما يخالف المألوف من سنن النسب والوراثة. •••
ولا يظهر من أخبار عمرو أنه تلقى مالا كثيرا من أبيه، فقد كان يحترف الجزارة ويعمل بمال غير وافر في تجارة الأدم والعطر بين اليمن والشام ومصر، على ما جاء في إحدى الروايات.
إلا أن القصة التي روت لنا خبر سفرته إلى مصر تروي لنا كذلك أنه خرج في تلك السفرة إلى بيت المقدس، وقصارى ما يرجوه أن يصيب ما يشتري به بعيرا فتكون له ثلاثة أبعرة.
وقد حاسبه عمر - رضي الله عنه - فقال له في كتابه إليه: «... فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك ألا مال لك!» فلم ينكر عمرو أنه لم يكن له مال، بل قال: «... أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك لا مال لي وإني أعلم أمير المؤمنين أني بأرض السعر فيه رخيص وأني أعالج من الحرفة والزراعة ما يعالج أهله، وفي رزق أمير المؤمنين سعة.»
فإذا صدقت الرواية عن ثروة العاص بن وائل، فمن العجيب ألا يبقى لعمرو من هذه الثروة نصيب موفور وهو أكبر ولديه، وليس لأبيه ذرية كثيرة من الذكور فيقال: إن الثروة الكبيرة تبددت بالتوزيع والتقسيم، وقد أسلم عمرو بعد موت أبيه فلا يقال: إنه حرمه الميراث لإسلامه غضبا عليه.
نعم، إن هشاما - أخاه الأصغر - كان أحب إلى أبيه، وكانت أمه بنت هشام بن المغيرة من كرائم قريش وليست سبية مشتراة كأم عمرو، وكانت إلى هذا محببة إلى زوجها، وباسم أبيها سمى ولده على غير الشائع المألوف في تسمية الأبناء بين القبائل العربية، ولكننا لم نعرف من أخبار العاص ولا من أخبار ولديه أن هشاما استأثر بالميراث دون أخيه، والأشبه إذا كان أحدهما قد حرم ميراثه أن يكون هو هشاما؛ لأنه أسلم في حياة أبيه.
ولا تفهم قلة المال عند عمرو - مع ما اشتهر به أبوه من الثراء - إلا على فروض كثيرة يصح الأخذ بها جميعا؛ لأن الاكتفاء بواحد منها غير معقول، وهي أن ثروة العاص كانت أقل من شهرتها، وأنه كان ينفق ولا يمسك، وأنه أصيب في تجارته قبل موته، ولا سيما بعد قيام المسلمين على طريق الشام، وأن عمرا كان كأبيه من المنفقين ولم يكن من المقترين، وقد يؤخذ هذا من ظهور شكواه بعد عزله من ولاية مصر بأقل من عام، فقال له عثمان وقد سبه لما بلغه من تحريضه عليه: «ما أكثر ما قمل جربان جبتك - أي طوق جبتك - وإنما عهدك بالعمل عاما أول!»
صفحه نامشخص
فلا يبعد أنه أصاب شيئا من الميراث فأنفق منه ما أنفق بعد يأسه من تجارة الحبشة والشام، ولم يبق له عند ولايته على مصر إلا اليسير. •••
والاهتمام بنسب المترجم لهم واجب لازم في كل سيرة من السير، وهو في سيرة عمرو أوجب وألزم؛ لأن أثر الوراثة فيه أقوى من المعهود الشائع في العظماء عامة، وليس الأثر الذي استفاده من تلقين البيئة وفعل الرياضة النفسية بأقل من أثر الوراثة التي لا اختيار له فيها.
فمن أثر الوراثة مشابهة عمرو لأبيه في الخلقة والخليقة، ولولا قوة الشبه في الخلقة لما عرفت نسبته إلى أبيه وهو وليد.
ومن المشابهة في الخليقة حبه للمال والسيادة، واعتداده بالعصبية ونخوة القبيلة.
إلا أن المغمز الذي كان يؤلمه من نسبه إلى أمه قد كان له من قوة الأثر في تكوين فكره وتوجيه نفسه ما يعدل الوراثة، أو يزيد.
فاحتياجه إلى مداراة هذا المغمز، والغلبة على من يفاخرونه بكرم الأمومة، هو الذي أغراه فبالغ في إغرائه بالمال والرئاسة.
وشعوره بهذا المغمز هو الذي أعز أباه عنده، وعلقه بفخره وألهجه باسمه وسمعة ثرائه.
وكان لاعتداده بأبيه دخل في تعويق إسلامه وتأخير شهادته للدين الجديد إلى ما بعد موته، وقد كان يعلم ذلك من نفسه ويجهر به إذا فوتح فيه، فسأله رجل: «ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟!» فقال: «إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم، وكانوا ممن يوازي حلومهم الجبال، فلما بعث النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأنكروا عليه فلذنا بهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين، فوقع في قلبي الإسلام!»
بل أصبح اعتداده بأبيه اعتدادا للعصبية بالقبائل الأولى، كمن فيه من أيام جاهليته إلى ما بعد إسلامه، وعالجه أحيانا فلم يستطع أن يجتثه من أصوله.
صفحه نامشخص
وقع بينه وبين المغيرة بن شعبة كلام فسبه المغيرة، فقال: يا آل هصيص! أيسبني ابن شعبة؟ وكان ابنه عبد الله حاضرا، وهو من أتقى المسلمين وقد أسلم قبل أبيه، فقال: إنا لله! دعوت بدعوى القبائل وقد نهي عنها! فأعتق عمرو ثلاثين رقبة.
وسمع معاوية مرة يأذن للأنصار، فأحب أن يأذن للناس بأسماء قبائلهم ويردهم إلى أنسابهم.
وكان من إعزازه لأبيه وحضور العصبية في ذهنه أنه فكر في الانتقام من عمارة بن الوليد المخزومي لاجترائه على تقبيل زوجته أمامه، فلم يقدم على الانتقام منه - وهما في طريق الحبشة - حتى بعث إلى أبيه أن يخلعه لكيلا تحيق به أو بأحد من أهله ترات العصبية التي تدين بها القبائل فيما بينها.
وعصبيته هذه هي التي أنسته أن الإسلام ينهى عن كراهة الذرية من البنات، فأنف أنفة الجاهلية حين رأى معاوية يقبل ابنته عائشة، قال: من هذه؟ قال معاوية: هذه تفاحة القلب! فقال له: «انبذها عنك، فوالله إنهن ليلدن الأعداء ويقربن البعداء ويورثن الضغائن!»
ولا شك أن الألم من ذلك المغمز في نسبته إلى أمه كان من أشد الحوافز النفسية تغلغلا في سريرته، وأصلحها لتفسير ميوله وبدواته ومنها الحسن والمفيد.
فقد كان خوفه من التعيير به عقل لسانه عن فحش القول، ويلزمه سمت الجد والتوقر في مخاطبة الناس.
ولم يبالغ حين اعتذر لمسلمة بن مخلد، وقد ناله بلسانه في ساعة حدة، فقال له يسترضيه: «ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات، مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا ندمت وما استحييت من واحدة منهن أشد ما استحييت مما قلت، ووالله إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة.»
كذلك كان يتحرج من إسقاط هيبته ونسيانه سمته، حتى قال عمر بن الخطاب وقد نظر إليه وهو يمشي: «ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا!»
فهي بلوى في طيها نعمة كما قال أبو تمام:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
صفحه نامشخص
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
ولم يجزم المؤرخون بتاريخ مولد عمرو ولا قاربوا الجزم فيه، فهو عند بعضهم عاش سبعين سنة، وعند بعضهم بلغ المائة.
وإذا صح أنه كان يذكر الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب، وأنه كان له يومئذ من العمر سبع سنين فالأرجح أنه ولد قبل الهجرة بنحو أربع وأربعين سنة، حوالي سنة 580 للميلاد.
على أن المؤرخين مختلفون في سن عمر بن الخطاب يوم وفاته، فبعضهم يؤكد أنه قتل وله من العمر خمس وخمسون سنة، وبعضهم يؤكد أنه كان يومئذ في الثالثة والستين، ونحن نميل إلى الاقتراب من التاريخ الثاني؛ لأن عمر - رضي الله عنه - كان يشكو الكبر في سنة وفاته، ويسأل الله أن يقبضه إليه؛ لأنه شاخ وانتشرت رعيته، والمرء في بنية عمر وقوته لا يشكو الهرم في الرابعة والخمسين أو الخامسة والخمسين، فذلك بما بعد الستين أوفق وأقرب إلى القبول.
وعلى هذا تكون السنة التي رجحنا ولادة عمرو فيها هي أقرب التواريخ إلى المعقول، ويكون عمرو قد جاوز الثمانين بسنوات ولم يرتفع إلى المائة؛ لأنه عاش بعد عمر عشرين سنة، وولد قبله بسبع سنين، فإذا كانت سن عمر عند وفاته حوالي الستين فقد عاش عمرو بن العاص إلى قريب من السابعة والثمانين.
وإذا شككنا في سن عمرو يوم مولد عمر، وحسبناها دون السابعة فهو إذن قد جاوز الثمانين بقليل.
ويدعونا إلى الشك في هذه السن أن اعتذار عمرو من تأخر إسلامه باتباع كبار قومه لا يقبل من رجل في نحو الخمسين، وهي سنه عند إسلامه وإن كان مع ذلك ليستغرب حتى ممن بلغ الأربعين.
وليس في نشأة عمرو من تاريخ يستوقف المترجم له بعد سنة ميلاده غير سنة زواجه، ويظهر أنه كان من المبكرين بالزواج؛ لأن ابن قتيبة يقول: «إن الفارق في المولد بينه وبين ابنه عبد الله اثنتا عشرة سنة.» وهو فارق غير معقول، ولكنه يدل على صغر سنه حين بنى بأم عبد الله، وهي فتاة من قبيلته اسمها ريطة بنت منبه بن الحجاج.
الفصل الثاني
التعريف بعمرو بن العاص
صفحه نامشخص
التعريف بنشأة عمرو بن العاص، تمهيد لازم للتعريف بصفاته وطباعه، والتعريف بهذه الصفات والطباع تمهيد لازم للتعريف بأعماله ومساعيه؛ لأن الأعمال والمساعي لن تفهم على حقيقتها إلا بفهم الطباع التي توحيها والنيات التي تسبقها والغايات التي ترمي إليها، وقد تتشابه الأعمال والمساعي في ظاهر الأمر وهي في الحقيقة مختلفة أشد اختلاف، مفترقة كما يفترق الخير والشر أو تفترق الرفعة والضعة، وإنما مناط ذلك كله بالفرق بين باعث وباعث، والاختلاف بين نية ونية.
وأدنى إلى القصد في هذه السبيل أن نلم بالصفات والطباع، ثم نتتبع الأعمال الصادرة عنها مفهومة واضحة البواعث والأغراض، من أن نلم بالأعمال مبهمة متشابهة، ثم نعود إلى تفسيرها بما نستخلصه من طباع صاحبها ونياته.
لهذا بدأنا قبل سرد الأعمال بهذا التعريف الذي يسبغ الدلالة على تلك الأعمال. •••
والمحفوظ لنا من صفات عمرو الجسدية قليل، ولكنه كاف إذا لم يكن بد من الاكتفاء منها بقسط له دلالة.
فهو كما يؤخذ من جملة الأقوال التي وصف بها: «أدعج، أبلج وافر الهامة، ربعة، أقرب إلى قصر القامة، يخضب بالسواد» عليه مهابة وشمائل نباهة وسيادة، كما يدل عليه ما تقدم من قول عمر فيه «ما ينبغي أن يمشي أبو عبد الله إلا أميرا ...»
وإذا جاز أن يكون لهذا التكوين الجسدي أثر في أخلاقه ودخائل طبعه، فذلك أثر آخر يعين أثر النسب المغموز من جانب أمه، وهو التماس «التعويض» بكل ما في النفس من حول وحيلة، وحفز الهمة إلى مكان يسطع فيه المرء سطوعا يداري المغمز في النسب والنقص في المظهر، فيروع القلب بالسطوة والشارة إذا اجترأت عليه العيون أول نظرة، أو اجترأت عليه الألسنة بالثلب والمهانة: رجل متهم النسب قصير، ولكنه لا يضار بذلك في مقام الفخر بين ذوي الحسب والبسطة من عظماء الرجال.
وإذا اعتزم الرجل هذه العزمة، وكان من أصحاب الهمة والشهامة، أو ما نسميه اليوم بالقوة الحيوية، فأخلق به أن يبلغ ما يصبو إليه وأن يذهب بعيدا في مسعاه الذي توفر عليه!
أما أن عمرا كان من أصحاب «القوة الحيوية» فذلك ظاهر من احتفاظه بحضور ذهنه ومضاء عزمه، إلى تلك السن العالية التي تجاوز بها قوم التسعين، ولم يهبط بها أحد إلى ما دون السبعين، فإنه ليجيش به هذا الطبع وقد أناف على الخامسة والأربعين إلى فتح البلاد وتقليب الدول، وافتتاح المساعي إلى المجد والرئاسة، كأنه ناشئ لما يزل في بادرة الشباب ومستهل المغامرات والمجازفات في سبيل الشهرة والسلطان!
وقد وصفت لنا شارة عمرو هنا وهناك، فإذا هو في كل صفة من هذا القبيل عظيم العناية بما يروع الناس من هيبته وفخامة مرآه، وليست مشيته التي أشار إليها الفاروق بأقل ما احتفل به لتلك الشارة والفخامة.
قال أبو مخنف: «حج عمرو بن العاص فمر بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم، فقال له: يا بن عباس! مالك إذا رأيتني وليتني القصرة، وكأن بين عينيك دبرة!» (أي: أعرضت وازوررت عني) ... فأجابه ابن عباس جوابا مقذعا فيه من الجرأة مثل ما فيه من الدهاء، وانتهى منه قائلا: «حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطع بحلمه وتسمو بكرمه .»
صفحه نامشخص
ولم يشأ عمرو - وقد ذهب دور المفاجأة - أن يبزه ابن عباس في الدهاء، فعاد يقول: «أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟»
قال ابن عباس: «حيث مال الحق ملنا وحيث سلك قصدنا!»
ووصفه بحير بن ذاخر المعافري وهو مقبل إلى المسجد يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: «... فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يزجرون الناس، فذعرت ... فقام عمرو بن العاص على المنبر ... وعليه ثياب موشية، كأن به العقيان يأتلق، عليه حلة وعمامة وجبة ...»
فهذه الأبهة المقصودة - ولا سيما قبل استقرار السلطان له - هي أثر من آثار ذلك النسب المغموز وتلك القامة المحدودة. •••
أما صفاته النفسية فنبدؤها بما وصف به نفسه، أو يقول الرواة الذين وصفوه هذا الوصف، وهم يدعون من المعرفة به ما يقوله الرجل حين يصف نفسه بلسانه.
روى هشام بن الكلبي أن أناسا لاموا معاوية على تقديمه عمرا فبلغته ملامتهم، فقال بعد استشهاد: «... قد علمتم أنني الكرار في الحرب، وأنني الصبور على غير الدهر، لا أنام عن طلب كأنما أنا الأفعى عند أصل الشجرة ... ولعمري لست بالواني أو الضعيف، بل أنا مثل الحية الصماء لا شفاء لمن عضته، ولا يرقد من لسعته، وإني ما ضربت إلا فريت ولا يخبو ما شببت، عرفني أصحاب يوم الهرير (بحرب صفين) أنني أشدهم قلبا وأثبتهم يدا، أحمي اللواء وأذود عن الحمى، فكأنني وشانئي عند قول القائل:
وهل عجب إن كان فرعي عسجدا
إذا كنت لا أرضى مفاخرة العشب»
وهذا وصف صادق، إذا أغضينا عن جانب الفخر فيه، طابق صفاته النفسية التي تشهد بها أقواله وأعماله ومساعيه، وهي مجموعة محكمة من الصفات القوية، لكنها على قوتها بسيطة متناسبة، يأخذ بعضها ببعض على نحو مألوف غير مستغرب في أمثال هذه النفس الفطرية، وأعمقها جدا هو أظهرها جدا ...! أو هو الذي تعمق حتى بلغ من عمقه أن ينضح على قسمات وجهه وحركات جسده، وهو الطموح إلى الهيبة والثراء، وطلب البسطة في الجاه والمال، ما نخاله وقف في الطموح عند حد، ولا قعد عن الخلافة وهو مختار، بل هو قد طمح إليها وأعد عدته لإقصاء بني أمية عنها، فلما أيأسه مغمز النسب ورجحان بني أمية على بني سهم في العصبية القرشية، طوى الصدر على كظم وقعد عنها وهو كاره يعزي نفسه بقوله المأثور عنه: «إن ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة.»
وكان سعيه إلى الرئاسة والمال باديا منه في الإسلام كما بدا منه في الجاهلية، فلم يعرف له موقف قط نزل فيه عن الرئاسة باختياره.
صفحه نامشخص
فلما بعث به النبي - عليه السلام - إلى غزوة ذات السلاسل، أرسل في طلب المدد فجأءه المدد من المهاجرين، وفيهم أبو بكر وعمر وعليهم أبو عبيدة بن الجراح أمير، فقال عمرو: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله أستمده بكم، فأنف المهاجرون أن يؤمروه وفيهم من فيهم من جلة الصحابة، وقالوا: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أميرنا ... قال عمرو: إنما أنتم مدد أمددت بكم ...
وأشفق أبو عبيدة أن يتخاذلوا وهم على أهبة الحرب، فقال له: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلى رسول الله أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا.» وإنك إن عصيتني لأطيعنك، قال عمرو: إذن أنا أعصيك، قال أبو عبيدة: وأنا أطيعك.
وعاد إلى منازعة أبي عبيدة الرئاسة والإمارة يوم أقدم أبو بكر - رضي الله عنه - على فتح الشام، فسعى عند عمر ليقنع الخليفة بتأميره على الألوية جميعا، وكان يوشك أن يفلح في مسعاه لولا إكبار عمر لأبي عبيدة، حتى لقد هم بمبايعته بعد النبي - عليه السلام - قال: إنه ليستخلفنه بعده لو عاش.
وقد كان حب المال يملؤه ويتمكن منه حتى لم يبال أن يخفيه، ولم يزل يتكلم - كلما دعاه داعي الكلام - بما يكشفه وينم عليه.
سأله معاوية وقد شاخا وبطلت لذات الشباب عندهما: ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟ قال: محادثة أهل العلم وخبر صالح يأتيني من ضيعتي.
وفي حديث آخر أنه دخل يوما على معاوية، وقد كبر ودق ومعه مولاه وردان، فتذاكرا الأيام واستطرد عمرو سائلا: يا أمير المؤمنين ما بقي مما تستلذه؟ قال معاوية : «أما النساء فلا أرب لي فيهن، وأما الثياب فقد لبست منها حتى وهى بها جلدي، فما أدري أيها ألين، وأما الطعام فقد أكلت من لبنه وطيبه حتى ما أدري أيه ألذ وأطيب، وأما الطيب فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري أيه أطيب ... فما شيء ألذ عندي من شراب بارد في يوم صائف، ومن أن أنظر إلى بني وبني بني يدورون حولي ... فما بقي منك يا عمرو؟!» فقال: «مال أغرسه فأصيب من ثمرته وغلته!»
وقد اشتهر منه هذا الحب للمال حتى عرضه لظنون الخلفاء واحدا بعد واحد؛ فقاسمه عمر ماله، وعزله عثمان من ولاية مصر وهو يحسب أنه قد استأثر بخراجها دون بيت المال، وقال له معاوية يوما وهو يذكر له الحساب والعقاب والأوزار التي يثقل بها ميزان السيئات: هل رأيت بينها شيئا من دنانير مصر؟
ومن ثم تسابق الرواة في تقويم ثروته يوم وفاته، فاعتدل صاحب «مروج الذهب» في وصفها بعض الاعتدال، وبالغ صاحب «حياة الحيوان» فقال: إنه خلف «سبعين بهارا دنانير» والبهار من جلد الثيران، قيل: إنه يسع أردبين!
ولقد كان النبي - عليه السلام - أدرى الناس بهذه الصفة في عمرو بن العاص قبل أن يعرفه المسلمون أو المشركون بطول المراس وتعاقب الأعمال والمساعي وتفتق المطامع والآمال، فولاه الإمارة في غزوة ذات السلاسل، وقال له وهو يعرضها عليه: «إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال زعبة صالحة.»
1
صفحه نامشخص
فأجابه عمرو، وهو يشفق أن يظن النبي بإسلامه الظنون: «يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإسلام.» فهون عليه النبي ما خامره من الظن ودفع عنه وهمه وهو يقول: «يا عمرو ... نعما المال الصالح للمرء الصالح.»
ثم عهد إليه في ولاية الصدقة بعمان، فبقيت له إلى أن تولى أبو بكر الخلافة فرغبه فيما هو خير منها.
وظل الرجل يسائل نفسه عن حفاوة النبي به إلى آخر حياته، فروى الحسن البصري أن بعضهم قال له - أي عمرو - أرأيت رجلا مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو يحبه أليس رجلا صالحا؟ قال: بلى، فقال محدثه: قد مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو يحبك، وقد استعملك، قال: «بلى ... فوالله ما أدري أحبا كان لي منه أو استعانة بي.» •••
ومن خصائص هذا الطموح الذي لزمه من صباه إلى ختام حياته أنه كان كما رأينا طموحا قائما على مطالب الواقع في بواعثه ومراميه، فكانت نظرته إلى الدنيا نظرة معروفة الموارد والمصادر، ولم تكن تلك النظرية الخيالية التي يتسم بها أصحاب الحماسة والأحلام من ذوي الطموح.
ومناط الرجحان في تلك النظرة العملية إنما هو للأخذ بالأحوط والأنفع في كل أمر من الأمور ما كبر وما صغر، حتى ليكاد الأحوط والأنفع أن يكون عنده مقياسا للحق أو لصحة الأشياء على نحو يشبه مقياس القائلين بفلسفة الذرائع
في عصرنا الحديث.
صفحه نامشخص
فلم نعرف قط حكما من أحكامه في أجل الأشياء فارقته تلك النظرة العملية، أو ذلك المقياس الموكل بالأحوط والأنفع في ترجيح جانب على جانب وطريقة على طريقة.
وحسبك من جلائل الأحكام في أعظم مطالب الحياة حكمه في مسألة العقيدة الإسلامية وحكمه في مسألة الخلافة، وهما أعظم ما عرض له من المشكلات التي تتطلب الترجيح والتفضيل، وكلاهما قد حكم فيه على سنة الأحوط والأنفع بين مختلف الوجوه.
فلما استراب المشركون في ميله إلى الإسلام أوفدوا إليه من يسأله في ذلك، فلم يكاشفه بالحقيقة لأول وهلة، بل واعده إلى مكان منفرد وقال له: أنشدك الله الذي هو ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال صاحبه: اللهم بل نحن، فسأله: أفنحن أطيب معاشا وأوسع ملكا أم فارس والروم؟ قال صاحبه: بل فارس والروم، فقال عمرو: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم أكثر فيها أمرا، ثم عاد فقال: قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق؛ ليجزى المحسن في الآخرة بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يا بن أخي الذي وقع في نفسي ولا خير في التمادي في الباطل.
وخلاصة هذا البرهان العملي أن الإسلام أنفع للعرب وأصلح للدنيا والآخرة، فهو أحق بالتصديق وأجدر بالاتباع.
ولبث في مشتجر الخلافة لا يميل إلى طرف من أطرافها، حتى انحسر الخلاف كله عن حزبين اثنين لا ثالث لهما، فوجب عليه أن يخرج من عزلته لينصر أيهما، وهما حزب علي وحزب معاوية.
فدعا بولديه عبد الله ومحمد فقال لهما: إني قد رأيت رأيا ولستما باللذين ترداني عن رأيي لكن أشيرا علي، إني رأيت العرب قد صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟ قال له عبد الله وقد علمنا تقواه: إن كنت لا بد فاعلا فإلى علي، قال: إني إن أتيت عليا يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره.
وعلى هذا الأساس في التفضيل بين الطرق سلك أحب الطريقين إليه وأجدرهما عنده بالاتباع. •••
وأعانه على هذه النظرة العملية أنه كان مالكا لزمام شعوره، آمنا أن تضله الحماسة من ناحيتها أو يضله الحنان من ناحيته، قابضا بعقله على جمحات العاطفة كما نسميها اليوم، أو كما قال هو: «أبلغ الناس من كان رأيه رادا لهواه، وأشجع الناس من رد جهله بحلمه.»
فليس في جوامح الشعور ما هو أشد جماحا ولا أقرب أن ينفلت من قبضة العقل من غضبة الغيور على عرضه، أو حنان الواقف على جثة أخيه، أو نخوة المتصدي للقتال بين معسكرين، فهي هي الجوامح التي قل أن تراض وأن تثوب على المشيئة إلى قوام.
ولكنه عمرا قد راضها كلها على ما أراده في حينها وبعد حينها، وكانت رياضته لها وهو في عنفوان الصبا كرياضته لها وهو في أوج الكهولة قد أناف على الأربعين.
صفحه نامشخص
خرج مع عمارة بن الوليد المخزومي إلى أرض الحبشة تاجرين، وكان عمارة مولعا بالخمر والنساء فشرب وهما في السفينة فانتشى، ونظر إلى امرأة عمرو نظرة اشتهاء ثم هم بتقبيلها، بل أومأ إليها أن تقبله في قول صريح، فقال لها عمرو - متقيا ما يكون من رجل سكران بين الماء والسماء: قبلي ابن عمك! فقبلته، فلم يزد ذلك عمارة إلا إغراء بالمراودة وجرأة على القحة، ولمح عمرا على حافة السفينة - وهو في سكرة من سكراته - فدفع به إلى الماء يظنه غير قادر على السباحة، كما يغلب بين أبناء البادية، فسبح عمرو حتى نجا وسمع عمارة وهو يقول له غير آبه بحقده عليه: أما والله لو علمت يا عمرو أنك تحسن السباحة ما فعلت! فإذا هو قد جمع سوء النية بحياته إلى سوء النية بعرضه ومع هذا كله كظم عمرو ما بنفسه، وظل يصانعه حتى تمكن من الكيد له عند النجاشي، فأرسله في العراء مخبولا يعيش في الغربة عيش الأوابد حتى مات ...!
واشترك عمرو وأخوه هشام في حرب الشام، وأخوه هذا من علم الناس في الصلاح وصدق البلاء، فإذا ثلمة في الطريق يتخطف المدافعون من يهجم عليها بالسيوف، فهابها العرب وأحجموا عنها وطال ترددهم لديها، فإذا هشام يقدم عليها وهو ينادي في الجيش: يا معشر المسلمين إلي إلي! أنا هشام بن العاص! أمن الجنة تفرون؟ وما زال يتقدم حتى خر قتيلا متعرضا في تلك الثلمة المرهوبة، فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يدوسوه كرامة له ولأخيه، فكان عمرو أول من تقدم فداسه وهو يصيح بجنده: أيها الناس إن الله قد استشهده ورفع روحه، وإنما هي جثة ثم أوطأه وتبعه الناس، حتى تقطع وهو مشغول عنه بما هو أجدى وأعظم، فلما انتهت الهزيمة عاد إليه وجعل يجمع لحمه وأعضاءه وعظامه بيديه ثم حمله في نطع فواراه ...!
وبرز علي بن أبي طالب يوما في حومة صفين وقد طال أمد القتال، فقال: يا معاوية! علام يقتتل الناس؟! ابرز إلي أو أبرز إليك، فيكون الأمر لمن غلب، وجاء في روايات شائعة أن عمرا قال لمعاوية يومئذ: والله لقد أنصفك الرجل ...! فظن معاوية أنه يغرر به ويدفع به إلى هلاكه طمعا في دولته؛ فأقسم عليه ليخرجن للمبارزة التي أغراه بها، فلما غشيه علي بالسيف رمى بنفسه إلى الأرض وأبدى له سوءته، فضرب على وجه فرسه وانصرف عنه.
وكل هذه أخبار متوافقة يخيل إليك أنك ترى ابن العاص وهو يفعلها ويروض وقائعها رياضة الرجل الذي يعتز بقدرته على هواه، وكأنه يأنف لدهائه أن يغتر بنزوات الساعة كما يغتر بها سائر الناس، وكلها تعبر عن خليقة لا شك في صدقها عند ابن العاص، وإن تمارى الناس في صدق الروايات، ونعني بها خليقة النظرة العملية وغلبة العقل على الشعور.
ولا شك أن استحضار هذا «الخلق العملي» لازم جدا للمؤرخ في كل خطوة يخطوها مع عمرو بن العاص في أحواله الفردية أو أحواله العامة؛ لأنه سرى من مزاجه إلى سياسته وطريقة التفاهم بينه وبين الناس، سواء كانوا من الزملاء أو الرعية أو الأعداء، وقلما تظهر الطريقة التي يقتنع بها الرجل من شيء كما تظهر من الطريقة التي يقنع بها الآخرين.
انظر مثلا إلى الفرق بينه وبين عبادة بن الصامت في إقناع عظماء القبط ببقاء العرب في مصر، وأنهم لن يتركوها وقد دخلوها، ولن يرجعوا عن فتحها جميعا لا لرغبة في رشوة ولا لرهبة من قوة.
فإن عبادة بن الصامت لم يزد على أن احتقر الدنيا حين خوف المقوقس عاقبة الإيغال في بلده، فكان توكيد حب الآخرة هو فحوى كلامه حين قال: إن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده؛ إنما النعيم والرخاء في الآخرة وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه.
أما عمرو فإنه وقف مثل هذا الموقف فلجأ إلى الطعام؛ ليقنع عظماء القبط بأن العرب غير تاركي مصر وقد دخلوها. «أمر - كما جاء في الطبري - بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا: انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، ثم بعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر فرأوا شيئا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا وقالوا: كدنا، وبعث إليهم - أي إلى أمراء الجنود - أن تسلحوا للعرض غدا وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم افتقار العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم ثم حالهم في الحرب فظفروا بكم، وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجع إلى عيش اليوم الأول ...»
وإن هذا الضرب من البراهين لقائم عنده أبدا لا يأتي عرضا في حادث من الحوادث ثم ينقضي بانقضائه، وكثيرا ما ذكر الطعام وهو يلجأ إلى الإقناع، فكان من كلامه: «أكثروا الطعام، فوالله ما بطن قوم قط إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضيت عزمة رجل بات بطينا!»
بل هو يقوم الأخلاق والفضائل بقيمتها العملية وفائدتها الملموسة، فالعدل مثلا فضيلة جميلة محبوبة، ولكنها عند عمرو محبوبة؛ لأنها سياسة حسنة لتوفير المال كما قال: «لا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.»
صفحه نامشخص
وإن ذلك لشأنه في تقويم كل قيمة، وتفضيل كل فضيلة. •••
وفي أخلاق عمرو «عقدة نفسية» لا تفتأ تصادفنا عند المقابلة بين نقائضه، كما تصادفنا في جميع العظماء من أمثاله وأشباههم في الطبيعة والملكة، ونعني بهم أولئك الذين يلتقي فيهم الطموح والحركة وضبط النفس في سبيل المطالب التي يطمحون إليها، فما منهم أحد إلا وجدت له نقائض من الحذر الشديد والاندفاع الشديد، أو من ضبط النفس كأنه لا يعرف جمحات الشعور، ومن المجازفة كأنه لا يعرف الروية، وهي نقائض في الظاهر وليست بنقائض في الحقيقة؛ لأن قوة الطموح تفسر لنا النقيضين، فإذا هما مستمدان من ينبوع واحد وهو قوة الطموح؛ إذ إن هذه القوة الطامحة لا تزال محضرة له الأمل شاخصا باهرا نصب عينيه، فيهون عليه أن يكبح شعوره الجامح في سبيل الوصول إلى أمله العظيم، أو في سبيل المحافظة عليه بعد الوصول إليه.
ثم يثقل الكبح على هذا الطماح لقوته فيلتمس الروح منه والمنفس من قيده بالمجازفة، كما يتوق الصائم إلى العيد، والفرس الملجم إلى المراح.
فساعة المجازفة وهي ساعة التسريح من القيد، وهي ألزم له من حالة التوسط التي لا قيد فيها ولا انطلاق.
وقد كان الذين يعرفون عمرا بالدهاء وكبح الهوى، يعرفونه كذلك بالاندفاع والهجوم على المهالك، فقال عثمان يحذر منه الفاروق - رضي الله عنهما: «إن عمرا لجريء الجنان، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة فيعرض المسلمين للهلكة!»
وشاعت عنه روايات في المجازفة، يخيل إليك أنها من أطوار الحماسيين أصحاب الخيال، لولا أن العقال يغري بالانفلات من ربقته، فيقدم الرجل الحذور على شطحات قد يحجم عندها صاحب الخيال المشبوب!
قيل: إنه تعرض للموت مرات، لاقتحامه الحصون على أعدائه في هيئة رسول أو محارب من عامة الجند في جيش المسلمين؛ فلما طلب والي قيسارية رسولا من العرب يكلمه ذهب عمرو إليه، فأعجب الرجل بحديثه وعقله وخطر له أنه قد يكون أمير العرب فيستريح منهم جميعا بقتله، فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، قالوا: وتنبه عمرو، أو نبهه أحد إلى المكيدة فرجع إلى الوالي يقول: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد، فقال: صدقت! عجل بهم، وبعث إلى البواب أن خل سبيله.
ورووا عنه في الإسكندرية قصة تماثل هذه القصة، وهي أنه اقتحم بعض حصونها مع فريق من الجند، ثم ارتدوا وبقي هو وثلاثة من صحبه، فعرض عليهم الروم أن يخرجوا إليهم ليبارزوهم واحدا لواحد، فتصدى هو للمبارزة، لولا أن منعه صاحبه مسلمة بن مخلد، ووقف دونه وهو يقول له: «ما هذا؟ تخطئ مرتين فتشذ عنك أصحابك وأنت أمير، وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك، لا يدرون ما أمرك حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك، مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله.»
قالوا: ومثل بين يدي البطريق فعجب هذا من أنفته وقوة جوابه، فالتفت إلى من في مجلسه وقال لهم باليونانية: «يظهر من أنفة هذا الرجل وكبر نفسه أنه من وجوه العرب، وربما كان من كبار قوادهم فلا ينبغي أن نتخلى عن قتله.» وكان مولاه وردان يفهم اليونانية، فأحب أن يريهم خطأهم، وبين لهم أن الذي يكلمهم إنما هو رجل من عامة الجند، فأسرع إليه فلطمه صائحا به: ما أنت ولهذا يا لكع! دع هذا المقال لمن هو أولى منك بالكلام عن قومه! فكانت هذه اللطمة سبب نجاته.
ورويت عنه روايات أخرى من هذا القبيل إن صحت كلها أو صح بعضها، أو كانت كلها اختراعا من تلفيق الرواة، فالدلالة التي لا شك فيها على كل حالة من هذه الحالات أن الرجل كانت له شهرة بالمجازفة تقبل فيها أمثال هذه الروايات، وتدعو إلى تلفيقها بما يشبه الواقع المعهود من أخلاقه.
صفحه نامشخص
وهو نفسه كان يقول ما ينم على هذا الخلق فيه، فهو القائل: «عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة.»
ولعله لم يفصح بكلمة من كلماته عن ضيقه بقيود الحكمة والسمت وكبح الهوى، كما أفصح عنه بقوله وقد سئل عن أمتع اللذات، إذ قال: «إسقاط المروءة!»
فهي كلمة الرجل الذي تقيد بالوقار، حتى أصبح طرح الوقار عنده غاية ما يبتغيه من اللذة ويشتاق إليه، وتقيد بكبح الهوى حتى أصبحت المجازفة في المزالق المهلكة هي فرجة نفسه من ذلك الحجر الذي ضربه عليها.
أفنقول إذن: إنه شجاع مقدام، أم نقول: إنه جبان حذور؟
بل نقول: إنه شجاع كما قال معاصروه وقد شهدوه في مواقف الاستبسال ومآزق الحرب والفزع، ولكننا نعود فنقول: إن شجاعته وكل فضيلة فيه إنما كانت في خدمة طموحه إلى المجد الذي كان يسعى إليه، فهو يضن بشجاعته أن يبذلها في غير طائل، ويتخذها وسيلة إلى غاية ولا يجعلها هي الغاية التي تنقطع دونها الوسائل.
وقد سأل هو صاحبه معاوية يوما: «والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان؟» فقال معاوية:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة
وإن لم تكن لي فرصة فجبان
وبمثل هذا الجواب يستطيع عمرو أن يجيب من يسأله مثل ذلك السؤال، إلا أنه كان أحوج إلى الوثوب والمجازفة من معاوية، فقد كان نسب معاوية ومكانته في بني أمية مع طول استعداده للملك مغنيا له عن عجلة الوثوب والمجازفة من حيث لا يستغني عنه عمرو وهو مغموز النسب، مخذول العصبية، مضطر إلى إدراك مطلبه قبل أن يفوته، فلا تسنح لإدراكه سانحة أخرى.
ومن ثم اختلف دهاؤه ودهاء معاوية - كما قال مرة وهما يتساءلان عن العقل - قال معاوية: ما بلغ من عقلك؟ قال: ما دخلت في شيء قط إلا خرجت منه، فقال معاوية: لكنني ما دخلت في شيء قط وأردت الخروج منه.
صفحه نامشخص