Amlineau : أما الفوفيوس هذا الأسقف المزعوم، فقد ترك الحقد يوغر في صدره إلى أن وصل إلى مدينة الفيوم ... ولما أدرك الأب صمويل أنه سيفارق الحياة، قال له - أي للفوفيوس: أنت أيضا أيها الكلسيدوني المخادع ...
إلى أن قال في الصفحة الخامسة والأربعين:
ونميل إلى الاعتقاد دون أن نجزم قطعيا بأن المقوقس الذي فاوض في تسليم بابليون، هو شخص آخر غير البطريرك فيرس الذي أبرم صلح الإسكندرية، بل إنه حاكم قبطي وأمسك المؤرخون العرب عن التثبت من شخصية هذا الحاكم ... على أن المؤرخ الكاثوليكي «ابن بطريق» يشير إلى المقوقس على أنه يعقوبي مبغض للروم، ولم يكن يتهيأ له أن يظهر مقالة اليعقوبيين لئلا يقتلوه، ويتهمه ابن بطريق إلى جانب ذلك بأنه قد اقتطع أموال مصر من وقت حصار كسرى للقسطنطينية، فكان يخاف أن يقع في يد هرقل الملك فيقتله ... والذي يحملنا أيضا على الاعتقاد بأن حاكم بابليون أيام الحملة كان قبطيا، هو الفرق الواضح بين اتفاقيتي القاهرة والإسكندرية: فبينما تعنى اتفاقية الإسكندرية صراحة بمصير اليونانيين، لم تهتم اتفاقية بابليون إلا بمصير الأهلين، وأبى ابن الحكم أن يترك شكا في هذا الموضوع: فأضاف بعد ذكر الاتفاقية الموقع عليها في بابليون ما يأتي: (هذا كله على القبط خاصة .) ومن جهة أخرى أراد المقوقس أن يخطر عمرا قبل دخول الاتفاقية في دور التنفيذ فقال له: إنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض، وأما الروم فإني بريء منهم وليس ديني دينهم ولا مقالتي مقالتهم: إنما كنت أخاف منهم القتل، فلذلك كنت أستر ديني ومقالتي ... وأكتم ذلك.
أما الأوراق الأثرية التي استند إليها هؤلاء المؤرخون وغيرهم فليس فيها ترجيح لقول من أقوالهم، وقد يكون فيها ترجيح لما يخالفها، وهذه أمثلة منها أهمها الأوراق التي عثر عليها سليمان الشرقاوي مكتوبة بالقبطية الصعيدية، وأهداها في شهر يونيو سنة 1982 إلى «القمص فيلوتاءوس»، وفي أول إحداها حكاية عن زيارة المقوقس لبعض الأديرة وحواره مع رهبانه: ... فقال رئيس الدير: لا أعرف لأي سبب بارحوا ... حينئذ أمر بضرب رئيس الدير حتى يخبره بكل ما حصل، فأجابه الرئيس بقوله: لا تضربني وأنا أخبرك الحقيقة ... هذا الرجل، صمويل الناسك، عمل للرهبان موعظة طويلة لامك فيها، ودعاك مجدفا ويهوديا خلقيدونيا، وكافرا غير مستحق أن تقدس بطريركا، وغير مستحق لشركتك بأي نوع؛ ولهذا السبب أصغى الرهبان لكلامه وذهبوا ... فلما سمع الكافر هذا الكلام غضب غضبا شديدا، وصار يعض شفتيه من شدة غضبه، ثم ابتدأ يلعن رئيس الدير والدير والرهبان ... وعقب ذلك رجع من سكة أخرى، ولم يحضر للجبل لهذا اليوم. وبعد هذه الحادثة رجع الإخوة بسلام إلى الدير.
أما من جهة المقوقس، البطريرك الكاذب، فإنه صار حاقدا لحين وصوله لمدينة الفيوم، ففي الحال حضر خدام ورجال - عارفين البلد - لكي يأتوا له بالقديس أنبا صمويل مغلول اليدين وراء ظهره وفي عنقه طوق حديد، ويدفعوه أمامهم مثل لص، فوصلوا إلى الدير وأخذوه. أما هو فكان يمشي متهللا بالرب قائلا: لعل الله - سبحانه وتعالى - يجعل دمي يسفك اليوم من أجل اسم المسيح! ولهذا السبب ابتدأ يشتم المقوقس بحرية قائلا: بدون شك أنه سيفعل ما وعد به منذ قليل، فلما أحضره العسكر أمام المقوقس ورأى الكافر رجل الله، امتلأ غضبا وأمر العسكر أن يضربوه حتى يسيل دمه مثل الماء، ثم بعد ذلك قال له: أنت يا صمويل الناسك الكافر، قل لي: من رسمك إيفومانسا على هذا الدير؟ ومن أمرك أن تغري الرهبان على لعني ولعن إيماني؟ فأجابه القديس أنبا صموئيل قائلا: تصلح الإطاعة لله ولقديسه البطريرك أنبا بنيامين أولى من الإطاعة لك ولتعليمك الشيطاني يا بن إبليس المسيح الدجال، حينئذ أمر بضرب القديس أنبا صموئيل على فمه قائلا: إن المجد الذي يعطيه لك الناس بصفة ناسك ينفخك، لكن أنا الذي سوف أعلمك وأرشدك للتكلم بالباطل؛ لأنك لم تكرمني بصفة كوني بطريركا، ولم تراعني أيضا أنا وقدرتي بصفة كوني عاملا على خراج بر مصر، فأجابه القديس أنبا صموئيل قائلا: إن الشيطان كان أيضا بوظيفة عامل وله سلطة على الملائكة، لكن تكبره وعدم أمانته إنما هما اللذان جعلاه غريبا عن مجد الله وملائكته، وأنت أيضا أيها الخلقيدوني الغاش، إيمانك نجس، وأنت ملعون أكثر من الشيطان وجنوده، فلما سمع المقوقس ذلك امتلأ رجزا ضد القديس، وأشار إلى العسكر أن يجلدوه لحد الموت
2 ...
ويبدو لنا أن هذا الحوار مفهوم إذا كان المقوقس مصريا يحتاج إلى التذكير بصفته الحكومية، وكان منتميا إلى مذهب غير المذهب الذي ينتمي إليه أكثر قومه، ولكنه غريب في خطاب يدور بين ناسك مصري ورئيس روماني يدين بمذهب المجمع الخلقيدوني، ولا ينتظر أن ينتمي إلى غيره بحكم مولده ومنصبه وانتمائه إلى النحلة الملكية، وكذلك المقابلة بين البطرق بنيامين والمقوقس مفهومة إذا كان كلاهما مصريا، وكان الاختلاف بينهما في المذهب، أما أن يكون أحدهما رومانيا ملكي المذهب وأن يكون الآخر مصريا يعقوبي المذهب، فلا وجه للموازنة بينهما في كفتين متعادلتين. •••
ومن المراجع التي جاء فيها ذكر المقوقس كتاب «سير البطاركة» لمؤلفه ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين، الذي جمع تاريخه من أوراق الأديرة، وقال عن البطرق بنيامين:
خرج من الديارات بوادي هبيب - النطرون - ومضى إلى الصعيد، وأقام مختفيا في دير صغير في البرية إلى كمال العشر سنين، كما قال له ملك الرب، وهي السنون التي كان فيها هرقل والمقوقز متسلطين على ديار مصر ... ثم إن هرقل أقام أساقفة في بلاد مصر كلها إلى أنصنا ... فلما تمت عشر سنين من مملكة هرقل والمقوقز، وهو يطلب بنيامين البطريرك وهو هارب منه من مكان إلى آخر مختفيا في البيع الحصينة، أنفذ ملك المسلمين الخليفة سرية مع أمير من أصحابه يسمى عمرو بن العاص في سنة ثلاثمائة وسبع وخمسين لديقلاديانوس قاتل الشهداء، فنزل عسكر الإسلام بقوة عظيمة في اليوم الثاني عشر من بئونة، وهو الرابع من دنكطس من شهور الروم، وكان الأمير عمرو قد هدم الحصن وأحرق المراكب بالنار، وأذل الروم وملك بعض البلاد، وكان مجيئه من البرية، فأخذ الجبل حتى وصلوا إلى قصر مبني بالحجارة بين الصعيد والريف يسمى بابليون، فضربوا جميعهم خيامهم هناك حتى ترتبوا لمقاتلة الروم ومحاربتهم، ثم إنهم أسموا ذلك الموضع بلغتهم الفسطاط، وهو اسمه إلى الآن، وبعد قتالهم ثلاث دفعات غلب المسلمون، فلما رأى رؤساء المدينة هذه الأمور، مضوا إلى عمرو وأخذوا منه أمانا على المدينة لئلا تنهب، وأهلكوا جنس الروم وبطريركهم المسمى أريانوس، ومن سلم منهم هرب إلى الإسكندرية وأغلقوا أبوابها عليهم وتحصنوا فيها ... فلما ملك عمرو المدينة ورتب أمورها، خاف الكافر والي الإسكندرية، وهو كان واليها وبطركها من قبل الروم، أن يقتله عمرو، فمص خاتما مسموما فمات لوقته، فأما سانوتيوس التكس - أي الدوق المؤمن - فإنه عرف عمرا بسبب اختفاء الأب بنيامين البطريرك، وأنه هارب من الروم خوفا منهم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمال مصر كتابا يقول فيه هكذا: (إن الموضع الذي يكون فيه بنيامين البطريرك الذي للنصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمنا مطمئنا ويدبر حال بيعه وسياسة طائفته.) فلما سمع القديس بنيامين هذا عاد إلى مدينة الإسكندرية بفرح عظيم، بعد غيبته ثلاث عشرة سنة، منها عشر سنين لهرقل الرومي الكافر، وثلاث سنين قبل أن يفتح المسلمون الإسكندرية، لابسا إكليل الصبر وشدة الجهاد.
وهذا التاريخ الذي كتبه المؤرخ القبطي في عصر الفاطميين، يخرج لنا المقوقس في صورة تناقض جميع الصور التي يظهر فيها خائنا متواطئا مع العرب، فإنه بخع نفسه خوفا منهم أن يدمروا عليه الإسكندرية، وكان الفرح بهم من جانب الحزب المصري في الكنيسة برئاسة البطرق بنيامين الذي عاد إلى كرسيه آمنا بعد موت المقوقس وخروج الروم منها.
صفحه نامشخص