من أكبر المؤرخين لعصر الفتح الإسلامي الدكتور ألفريد بتلر الذي أقام في مصر زمنا قبل الاحتلال البريطاني وبعده، واجتهد اجتهاده العلمي في تمحيص الوثائق التي عثر بها في القصور الخديوية وفي المكتبات العامة والخاصة، ولكنك تلمح من ثنايا كلامه كأنه يكتب عن خروج مصر من الدولة الرومانية، وهو يتصورها خارجة من الدولة البريطانية في العصر الحديث، ويحسب أن تدبير هذا الخروج «عمل خائن» يحاط بالشبهات، ويدان بأحكام العلاقات الدولية في هذه الأيام.
فبعد أن أورد الأقوال المتضاربة ليضعفها ويفندها، اختار منها قولا واحدا لا فضل له على سائرها، غير أنه القول الذي يدين المقوقس ويسفه رأيه!
قال: «إلى هنا قد بينا ما هنالك من أدلة بينها اتفاق عجيب في بعض الأحايين واختلاف واسع في أحايين أخرى، وقد استمددنا تلك الأدلة من وثائقها الأصلية، ومنها ما تخلف عن العصر الذي نصفه وهي من أصول متباينة: منها اليوناني والقبطي والسرياني والعربي، وكلها تدل على أن المقوقس إنما هو «فيرس» بطريق إسكندرية والعامل على الخراج، والحاكم العام على مصر في وقت الفتح، وليس ينقض هذا الرأي أن يقول: إن مؤرخي العرب قد يطلقون لقب المقوقس أحيانا على شخص يسمونه ليس هو فيرس، ولسنا ننكر أن الأمر كذلك، ولكننا ننكر كل الإنكار تلك النتيجة التي يذهب إليها أصحاب ذلك القول، وهو أن لقب المقوقس لم يكن علما على شخص معين واحد، وحجتهم في ذلك أنه قد أطلق خطأ في بعض الأحوال على أشخاص متعددين، ويلوح لنا أن العلامة كاتياني من بين من يذهبون هذا المذهب، وأما الحقيقة التي نراها فهي أن المؤرخين العرب إنما كتب أكثرهم وليس عنده من المقوقس أكثر من صورة ضئيلة مبهمة وأنه كان حاكما على مصر، فليس من العجيب أن نجدهم يصورونه أحيانا مشتركا في أعمال أو حوادث لم يكن مشتركا فيها بنفسه؛ ولذلك فهم يخطئون فيها، ولكن المسألة التي نحن بصددها باقية، وهي أن نكشف خلافهم عن حقيقة شخصية المقوقس، وأن نعرف من كان بين الناس، ولم يذكر مؤرخ عربي - وما كان له أن يذكر - أن ذلك اللقب قد أطلق على ثلاثة أشخاص كلهم حق له أن يلقب به، وليس في طاقة المنطق أن يبيح لقائل أن يقول: إن وجود الخلاف يجعل ذلك اللغز متعسرا على العقول لا تستطيع حله، بل إن واجب النقد التاريخي أن يصفي ما هناك من خلاف، وأن يزيح ما تراكم منه على الحقيقة فيكشفها ويجلوها، ولعلنا يحق لنا أن نعتقد أنه إذا عرضت الأدلة عرضا لا ميل فيه ولا تحيز أمكن أن نصل إلى نتيجة مؤكدة ليس فيها شك، وهي أن المقوقس لم يكن سوى فيرس، وأنه لا ينبغي لذلك اللقب أن يطلق على سواه من الناس.»
1 •••
وأشد من بتلر «بريطانية» في تصوير التاريخ تلك السيدة الإنجليزية «أ.ل. بتشر» التي كتبت الأمة القبطية لتأسف أولا على أنها انفصلت من الكنائس الغربية، وتثبت ثانيا أن خروج مصر من حكم الرومان كان خيانة مصرية لا تضارعها خيانة وتمثلت صاحب هذه الخيانة كأنه عائش في زمانها، فهالت عليه من السباب المقذع ما يستحقه عندها الخارجون على سلطان بريطانيا العظمى، وهي - أي السيدة بتشر - على خلاف رأي بتلر في تحقيق شخصية المقوقس؛ لأنها تقول: إنه هو جورج أو جرجس المصري وتتوجع لما حدث، كأنه لو لم يحدث كانت سلمت الدولة الرومانية مما أصابها، وبقيت مصر في حوزتها!
قالت: «لما طرد هرقل الفرس سنة 630 وأعاد حامياته في مصر كان أعلم باضطراب الموقف، وتخلخل قبضته على البلاد من أن يندفع متهجما، وجعل ينتظر ريثما تبلغ مقترحاته الدينية مبلغها عند الجانب المصري، وكان حكام الأقاليم - ومنهم مصريون وطنيون - يعلمون أن وقت الحساب غير بعيد لا يقبل التسويف الطويل، وكثير منهم كانت له أسبابه الخاصة وأسبابه السياسية التي تخيفه من عاقبة استقرار السيطرة البيزنطية.
ولو أن مقترح التوفيق الذي عرف بالأوطاخي، لقي القبول عند البطرق بنيامين لأصبح هؤلاء الحكام عزلا من السلطان، ولكن هرقل من طريق نائبه فيرس الذي اختاره بطرقا للكنيسة البيزنطية أو كنيسة الدولة، كان قد أخطأ فهون من شأن البطرق المصري، فلما بدا لفيرس أن جمهرة الأمة المصرية رحبت بمقترحه لم يتردد في اضطهاد البطرق المصري ونفيه لرفضه وإبائه، فما كان من أثر ذلك إلا أن الرفض والإباء كمنا في طوايا الأمة المصرية جمعاء، وأصبح المقترح محتوم الزوال بعد حين، ومهما يكن من أخطاء الأمة المصرية، فلقد كان من دأبها أنها لم تخذل قط بطرقها، ولعل مقترح الإمبراطور كان يبدو كأنه غاية ما ترومه لولا أن البطرق لم يقره، فليس من حق المصري الصادق أن يباليه ويلتفت إليه، وشيئا فشيئا تحولت جمهرة الشعب من جانب الإمبراطور، وأخذ فيرس يدرك أنه أخفق وخاب في مسعاه فتنفس الموظفون الخونة الصعداء، ولاح لهم يوم الحساب غير قريب.
من هؤلاء الموظفين والوكلاء واحد ينفرد بارزا بالمكانة الشائنة، وقد سمع أكثر الناس بالمقوقس الذي تمارى الكثيرون في اسمه ووظيفته، بل تماروا في وجوده، وتناقشوا طويلا في أمره، ولكن مجموعة الورق البردي التي في حوزة الأرشيدوق رينر وترجمت أخيرا، قد يسرت لنا ولو بعض التيسير أن نزيل بعض المصاعب التي تحف بهذه المسألة.
ومعظم المؤرخين متفقون منذ زمن بعيد على أن المقوقس لم يكن اسم علم، ولكنهم حاروا في الجزم بحقيقته بين أن يكون لقبا أو عنوان منصب من مناصب الدولة، أما الواقع فيظهر أنه لم يكن هذا ولا ذاك، وإنما كان الرجل صاحب عنوان يمكن أن يسمى بالعمدة، ويخطئ بعض المؤرخين فيسمونه نائب الملك، واسمه الأصيل جرجس بن مينا بركيوبس، وقد كان اسم مينا في مصر عاما شائعا يحتاج إلى لقب يوناني لتمييزه، وليس العمدة أو المدير في الأقاليم إلا الحاكم المصري الذي يشرف على جميع أعماله الإدارية كحفظ الأمن، وجمع الضرائب وتسليمها، وتدبير شئون الطرق والجداول والسدود والقناطر، وكل ما يلحق بالنظام الإداري، حتى سك العملة وتقدير المقاييس والأوزان، ولا يخرج من سلطانه غير الجيش، وتمثله في كل إقليم حامية صغيرة والقساوسة، وهم الاستثناء الأهم من استثناء الحامية، وقد كان عدد الموظفين الذين لا يعرفون أحدا أكبر من العمدة عظيما جدا، ومن الكشوف الحديثة نعرف أسماء الأقسام الثلاثة التي تولاها العمدة أو المديرون في عهد الغزوة العربية.
لقد كانت اليونانية لغة البلاد الرسمية، وكان لقب التمجيد الذي يمنحه المديرون كلمة تقابل عندنا في الإنجليزية كلمة الفخم أو المجيد كما تعودنا في تقديم سفرائنا بألقاب ذوي السعادة، ولكن العرب حسبوا هذه الكلمة اسما شخصيا للعمدة الخائن الذي فاوض عمرا على تسليم البلاد، وقد أصبح جرجس الخائن من ثم مشهورا خلال القرون بوصف ما أقل انطباقه عليه، وهو وصف المقوقس أو الفخم المجيد.
صفحه نامشخص